شرح مائة المعاني والبيان

أحمد بن عمر الحازمي

1

عناصر الدرس * نبذة عن الناظم وكتابه. * منهجية في دراسة علم البلاغة. * شرح مقدمة الناظم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: نشرع هذه الليلة بإذن الله تعالى وتوفيقه في منظومة: ((مائة المعاني والبيان)) لابن الشَّحْنَة الحنفيِّ، وهي كما هو مقرر في فن البيان. والبيان هنا بمعنى علوم البلاغة الثلاثة، البيان يطلق ويراد به: علم البيان الخاص. وعلم المعاني. وعلم البديع. ويأتي أهمية هذا العلم في كونه داخلاً في مفهوم علوم اللغة، وعلوم اللغة كما مرَّ معنى مرارًا هي مفتاح لفهم الشريعة، هي شرط لاتفاقها للأصول في صحة الاجتهاد، ولا يصح لمجتهد أن يجتهد إلا إذا تحقق بعلوم اللغة، وأهم علوم اللغة على جهة الترتيب النحو، ثم الصرف، ثم البيان. وعلم البلاغة يتعلق بالمعنى، وعلم النحو يتعلق بالإعراب، وعلم الصرف يتعلق بالأبنية والصيغ، فحينئذٍ تقاسمت العلوم الثلاثة الكلمات وكذلك الجمل، علم النحو يتعلق بآخر الكلمة على جهة الإعراب والبناء وهو علم بأصول يعرف [به أو $ 1.35] بها أحوال أواخر الكلم إعرابًا وبناءً، الإعراب والبناء إنما يكون بعد إدخال الكلمة في جملة مفيدة، فحينئذٍ يأتي السؤال هل هذه الكلمة معربة أم مبنية؟ أما قبل ذلك فلا توصف الكلمة بكونها معربة ولا مبنية، إذًا هي موقوفة فيها كما هو الصحيح من أقوال النحاة من أقوال ثلاث $ 1.59 في هذه المسألة. وأما علم الصرف إنما يتعلق بالبنية فقط على الوزن كما مرَّ معنا، وعلم المعاني يتعلق بـ أو علم البلاغة يتعلق بكذلك المفردات من حيث كونها فصيحة أم لا، ويتعلق بالمتكلم، ويتعلق بالكلام، كما سيأتي بحث في الفرق بين الفصاحة والبلاغة. فعلم المعاني علم مهم جدًا، إذ هو يعرف به الإعجاز القرآني من حيث التحدي الذي حصل من الرب جل وعلا للمشركين في أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا في تراكيبه ولا في مفرداته ولا في مدلولاته، بل كما قال بعضهم: لو أخذ شخص ما كلمة من آية ووضع محلها ما وضع لما استطاع أن يأتي بمثل بما كانت عليه من التركيب. ووصف بعضهم بأن علم البيان يعتبر كالروح للإعراب كما قال الأخضري في ((الجوهر)): لأنه كالروح للإعراب ... وهو لعلم النحو كاللباب يعني: علم البيان يعتبر كالروح للإعراب يعني: الكلمة المعربة، يعني: كأنه شبه الكلمة المعربة بالجسد وعلم البيان بالروح، فحينئذٍ إذا فقدت الروح من الجسد فهو عدم، كذلك الكلام المعرب إذا فُقِد من علم البيان البلاغة فهو موات فحينئذٍ لا فائدة منه. هذا وإن درر البيان ... وغرر البديع والمعاني تهدي إلى موارد شريفه ... ونبذ بديعة لطيفه من علم أسرار اللسان العربي ... ودرك ما خص به من عجم لأنه كالروح للإعراب ... وهو لعلم النحو كاللباب

والنحو أشبه ما يكون بالقشور، إذًا هذه العلوم الثلاثة متلازمة النحو، والصرف، والبيان، على خلاف من شاع عند المشتغلين بالعلم الشرعي أنه لا بد أن يركز على النحو ثم يترك ما سواه، نعم النحو أهمها ويأتي بعدها في المرتبة الصرف، ويأتي في المرتبة الثالثة علم البيان، لكنها متلازمة من حيث الدلالات، لا يمكن أن يفهم النحو على وجهه إلا بفهم الصرف والبيان، ولا يمكن أن يفهم الصرف على وجهه به إلا بفهم النحو والبيان، كذلك البيان هذا ثمرة علم النحو، [كالعلم بالنسبة لـ أو] (¬1) كالعمل بالنسبة للعلم، حينئذٍ إذا وجد العلم بلا عمل حينئذٍ كالشجر بلا ثمر فلا فائدة فيه، وكذلك علم البيان ثمرة النحو، فحينئذٍ إذا لم يكن ثمرة حينئذٍ لا فائدة من النحو وإنما يكون علمًا جافًا ظاهريًّا، وأما الغوص فيه فهذا يكون لأهله. قال الثَّعَالَبِيُّ في كتابه ((الإعجاز والإيجاز)): " من أراد أن يعرف جوامع الكلم ويتنبه على فضل الإعجاز والاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء ويفطن لكفاية الإيجاز، فليتدبر القرآن وليتأمل علوه على سائر الكلام ". وهذا يدل على أن الأصل في فهم بلاغة العرب إنما هو القرآن، ولذلك نقول دائمًا: من أراد أن يُحِيطَ بفن البلاغة فليأخذ مختصرًا مما يُرشد بيان مصطلحات أهل العلم ثم ليعتكف على تفاسير أهل العلم خاصة مما يعتني بلسان العرب في تفسير القرآن مع المأثور، ولا شك في أنه أصل لكن يجمع بين المأثور وغيره بأن يجعل نصيبًا وحظًا وافرًا للكتب التي تعتني بالإعراب وبيان وجوه الصرف وكذلك البلاغة، فمن أراد بيان جوامع الكلم حينئذٍ فليعتكف على القرآن بعد أن يأخذ نصيبًا وافرًا من فهم مصطلحات أهل الفن على خلاف ما شاع عند البعض من أنه يجعل الدواوين ولسان العرب والأشعار والمنثورات مما أُثِرَ عن العرب أنه أصل في فهم بلاغة العرب، والعكس هو الصحيح، نعم قد يخفى بعض مدلولات القرآن لأنه نزل بلسان عربي مبين فحينئذٍ ترجع إلى لسان العرب من حيث النقل يعني: ما نقل عنهم في المنظوم والمنثور، وتنظر ماذا استخدموا في هذه الكلمة، وماذا عنوا بها، لكن لا يكون هو الأصل، ولا يكون طالب العلم معتكفًا على المعلقات وعلى الدواوين ويجعله أصلاً، ثم تشغله وتأخذ عمره عن الاشتغال بالقرآن، بل من كان في صدره القرآن ولو جزءًا منه فحينئذٍ يكون قد جمع في صدره مفردات وتراكيب لا نظير لها في لسان العرب البتة، لا بد أن يكون على يقين من هذا، فتراكيب القرآن أعلى درجات التركيب، وكلمات القرآن الموجودة في أعلى درجات الفصاحة من حيث الإفراد ومن حيث التركيب، خير الكلام ما طَرُفَتْ معانيه وشَرُفَتْ مبانيه والتَّذَّهُ أذان السامعين، وهذا أعلى ما يصدق على القرآن. هذه المنظومة مختصرة ولم تكن شائعة عند بني أبناء الزمان لكن طلبًا للاختصار وإطالة للجوهر المكنون وقد أراد كثير من الطلاب أن تكون بدلاً عنه سيأتي تفصيل إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) سبق.

أولاً: ما يتعلق بمؤلف هذه المنظومة فهو: أبو الوليد مُحِبُّ الدين محمد بن محمد بن الشِّحْنَة بكسر فسكون الحلبيّ، ولد سنة تسع وأربعين وسبعمائة هجريًّا فهو متأخر، من فقهاء الحنفية الكبار له اشتغال بالأدب والتاريخ، من علماء حلب ولي قضاءها مرات واسْتُقْضِيَ في دمشق يعني ليكون قاضيًا وكذلك في القاهرة، له مصنفات منها هذه المنظومة هي المعنية، توفي سنة خمسة عشر بعد المائة الثامنة من الهجرة. اسمها ((مائة المعاني والبيان))، اسم هذه المنظومة ((مائة المعاني والبيان))، مائة لأنها عدد عددها لم يزد على المائة، والمعاني والبيان اشتمل على الفنون الثلاثة: علم البيان علم المعاني أولاً. ثم علم البيان. ثم علم البديع. وإنما لم يشتهر ذكر البديع في ضمن هذه الأسماء، أو ضمن هذين الاسمين لكون البديع يدخل في استعمال بعض البيانيين في مسمى البيان، فالبيان يطلق ويراد به البيان الخاص، ويطلق ويراد به ما يشمل البديع، بل يطلق البيان ويراد به المعاني العلوم الثلاثة، لأن فن البلاغة مؤلف من ثلاثة علوم: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع. كلها تسمى علم البيان، وقد يختص الثاني والثالث بالبيان، وقد يُخرج البديع فيسمى بديعًا، إذًا ((مائة المعاني والبيان))، وسُمِّيَتْ في بعض الشروح - وقفت عليها مخطوطة - كـ ((دفع المحنة)) و ((درر الفرائد))، و ((نور الأفنان))، ((مائة المعاني والبيان والبديع)) يعني: نص على البديع، والخلاف لفظي لأنه داخل في البيان. ثالثًا: عدد أبياتها مائة بيت فقط، فهي مختصرة كما قال رحمه الله تعالى: (أَبْيَاتُهَا عَنْ مِائَة لَمْ تَزِدِ)، (أَبْيَاتُهَا) أي: هذه المنظومة الأرجوزة ... (عَنْ مِائَة لَمْ تَزِدِ) لم تزد عن مائة فهي مائة بيت اشتملت على علوم ثلاثة. ضمن منظومته الفنون الثلاثة المشهورة في فن البلاغة وهي: المعاني، والبيان، والبديع. مع مقدمة وخاتمة مع الإيجاز، إيجاز قد يكون إيجازًا مخلاً في بعض المواضع لأن كل من أراد الإيجاز - وخاصة فيما اشتمل على علوم ثلاثة - لا بد أن يقع فيه خلل ويقع فيه شيء من النقص. ومقدمة الكتاب في أربعة أبيات، ومقدمة العلم ست أبيات أو ستة أبيات لأن مقدمة الكتاب المراد بها البسملة والحمدلة ونحو ذلك. وقوله: (فَصَاحَةُ المُفْرَدِ فِي سَلاَمَتِهْ) هذا يسمى مقدمة العلم لأنهم اعتادوا أن يجعلوا في مقدمة الفنون الثلاثة الحديث عن الفصاحة والبلاغة والفرق بين اللفظين، حينئذٍ المقدمة مقدمة الكتاب في أربعة أبيات، ومقدمة العلم في ستة أبيات والمجموع عشرة. ثم شرع في الفن الأول وهو علم المعاني وأخذ أربع وستين بيتًا، علم المعاني نظمه في أربع وستين بيتًا، ثم علم البيان في خمسة عشر بيتًا وهذا خلل كبير جدًا، ثم علم البديع في ستة أبيات وهذا كذلك خلل، والخاتمة جعلها بالسلقة الشعرية وهي خمس أبيات والمجموعة مائة بيت.

شروحها كلها مخطوطة إلا واحدة، وهو الموجود المصور بين أيديكم ... ((نَوْرُ الأفنان)) نَوْرُ وليس نُور، وإنما نَوْرُ بفتح فسكون ((نَوْرُ الأفنان على مائة المعاني والبيان)) لمحمد المحفوظ الشنقيطي أحد الشناقطة المعاصرين، وهو شرح مختصر وجيز جدًا، كما قال هو في مقدمته: وهذا شرح وجيز ... إلى آخر كلامه. هناك شروح مخطوط اسمه ((دفع المحنة عن قارئ منظومة ابن الشحنة)) للأهدل سيد بن محمد الأهدل جيد، وقد نص في شرحه أنه لم يجد شرحًا قبله يعني كأنه يشير إلى أنه أول من شرح هذه المنظومة، وليس ببعيد. وكذلك شرح آخر مخطوط اسمه ((درر الفرائض المستحسنة في شرح منظومة ابن شحنة)) شمس الدين محمد بن نور الدين العُمري الشافعي، كذلك المخطوط موجود وهو جيد كذلك، وسَمَّى في شرحه أنه وقف على شرح للقاضي محب الدين بن تقي الدين الحموي، وانتقص شرحه. فهذه ثلاث شروحات مخطوطة اثنان موجدان، والرابع لم أقف عليه شرح الحموي، وأما ((نَوْرُ الأفنان)) فهو موجود. هل هذا النظم يعتبر نظمًا للتخليص؟ معلوم عند البيانيين أن العمدة عند المتأخرين إنما هو في ((التلخيص))، تلخيص ((المفتاح)) للسكاكي، ((المفتاح)) للسكاكي ضمنه ثلاث فنون أو عدة فنون من علوم العربية، وأدخل فيه الثلاثة فنون المشهورة النحو والصرف والبيان. ابن الحاجب أخذ من المفتاح النحو فلخصه في ((الكافية)) المشهورة، وأخذ [من الصرف] ($ 13.48 هل منه] ولخصه في ((الشافية)) المشهورة، والخطيب القزويني أخذ البيان فلخصه في كتابه المشهور ... ((التلخيص)) الذي طار به ذكره عند أهل العلم، وعليه الشروحات والحواشي وشرح التفتازاني المختصر، والشرح المطول، وابن يعقوب، والمغربي، وكذلك ((عروس الأفراح)) على كلٍّ خُدِمَ خدمة لم يعد لها نظير، ونُظِم نظمه الجوهري الأخضري في ((الجوهر المكنون)) ونظمه السيوطي في ((عقود الجمان)). هل هذه المنظومة تعتبر نظمًا للتخليص أم لا؟ الظاهر أنها لا تُعتبر نظمًا للتخليص ولا تُعَدُّ من منظوماته، والمعاصرون الباحثون يحاولون أن يجعلوا بين كلِّ كتاب متأخر مع سلفه يجعلون بينهما علاقة، لأن له تلخيص له وتهذيبه له أو أنه أخذه برمته أو نحو ذلك، ولا بد من النظر والموازنة والمقارنة، ثم بعد ذلك يقال بأن هذا الكتاب نظم لكذا، وقفت على أن بعضهم يرى أن هذا النظم يعتبر نظمًا للتخليص وهذا فيه بُعد لماذا؟ أولاً: لأن الناظم لم يُنص على ذلك في مقدمة كتابه كما نصَّ الأخضري ونصَّ السيوطي في ((عقود الجمان))، وعادة أهل العلم على ذلك، فالسيوطي في المصطلح والعراقي في ألفيته إنما يذكرون إن هذا الكتاب إنما هو نظم للمنثور كذا وكذا وهذا لم ينص، والأصل في نسبة كل كتاب إنما يكون لمؤلفه يعني: أنه ابتدأه ابتداءً ولا يكون مقلدًا لغيره حتى يقوم الدليل الواضح البَيّن الكافي أن هذا الكتاب يعتبر نظمًا لغيره. الثاني: قوله في المقدمة: ................... ... وَبَعْدُ قَدْ أَحْبَبْتُ أَنِّي أَنْظِمَا فِي عِلْمَيِ الْبَيَانِ وَالمَعَانِي ... .............................

هذا ظاهر في أنه مستقل بذاته، وأن المادة مادة النظم إنما اعتبرها من جهة نفسه، أو أنه اقتطفها من مجموعة كتب، ولا يعتبر أن ذلك أخذه من ... ((التلخيص)) على جهة الخصوص. ثالثًا: يقال بأن الموافقة في المنهج لأن منهج المصنف كمنهج صاحب ... ((التلخيص))، يعني: بدأ بالفصاحة فصاحة المفرد، والبلاغة، ثم قدَّم المعاني، ثم ترتيب مسائل المعاني بالفصول الثمانية، ثم البيان، ثم البديع. هذا الترتيب هو ترتيب صاحب ((التلخيص)). نقول: هذا لا يلزم منه أن يكون نظمًا له، لماذا؟ لأن ثَمَّ منهجًا عامًا يعتبر في التصنيف عند أرباب التصنيف سواء كان في علم النحو أو في علم الصرف أو في علم البيان، استقرت العلوم على ترتيب معين فلا يقال بأنه إذا وافق المنهج الْمَنْهَج أنه أخذه منه، واتفق المتأخرون على أن العمدة الذي صار عمدة عندهم هو ((التلخيص))، حينئذٍ كما هو الشأن في أرباب التصنيف وأرباب المتون أنهم إذا اعتمدوا كتابًا ما حينئذٍ نحو منحاه في كل صغيرة وكبيرة، حينئذٍ إذا وافق صاحب ((التلخيص)) في كونه بدأ بتعريف الفصاحة أو البلاغة أو بدأ بعلم المعاني، ثم الثمانية الأبواب لا يلزم من ذلك أن تكون الموافقة في المنهج موافقة له في كل المسائل، وهذا القول به فيه شيء من التكلف والبعد، كما أن النحاة يبدؤون بتعريف الكلمة وبعضهم بتعريف الكلام، ثم يذكرون أقسام الكلمة والكلام، ثم يذكرون المرفوعات، ثم المنصوبات، ثم المخفوضات، ثم يقدمون الفاعل على المبتدأ - أكثرهم -، ثم المفاعيل يبدؤون بالمفعول به .. إلى آخره. نقول: هذا منهج صعب فمن أَلَّف على هذا المنهج لا يقال بأنه اقتفى أثر فلان لأنه صار شائعًا بمعنى ليس خاصًا بأحد دون أحد، وهذا العلم شائع أو المشاع بين أهل العلم. إذًا الموافقة في المنهج والترتيب نقول: هذه - الذي قد سار عليه الناظم وأنه موافق في الجملة لكتاب ((التلخيص)) للقزويني - لا يلزم منه أن يكون ناظمًا له، هذا الذي ينبغي اعتماده؛ لأن العلم كما شاع عند أهله واستقر وثبت على ترتيب القزويني وكل من جاء بعده سار على خطاه، فاستقر العلم على هذا المنهج فحينئذٍ التأليف أو النظم على هذا المنهج لا يقال بأنه نظم ((التلخيص)). فمنهج التعريف عند العلماء وترتيب الأبواب والفصول والمسائل في مواضعها التي اشتهرت المصنفات موافقة ذلك لا يُعَدُّ أن الناظم وافق ... ((التلخيص)) في ذلك لأنه شائع وليس خاصًا بالقزويني. والكلام في سائر العلوم على ما ذكرنا. فكون الناظم هنا قد رتب منظومته على ترتيب القزويني وأنه عَبَّر عن المصطلحات بما استقر عند علماء الفن لا يلزم منه أن نحكم بأن هذه المنظومة تعتبر من المنظومات التي تُسْلَكُ في سلك منظومات ((التلخيص)) وأن القول به فيه شيء من التكلف.

رابعًا: أن المسائل المذكورة في النظم إنما هي من مُسلمات الفن يعني: ثَمَّ اصطلاحات وأحكام في كل الفنون منها ما هو متفق عليه، وإذا كان متفقًا عليه لا يستقل به فرض عن فرض آخر، فالفاعل مرفوع، والمفعول به منصوب، والفاعل يتأخر عن عامله، هذه أقوال ليست مخصوصة لزيد من النحاة دون غيره، فإذا نظمت لا يقال بأنه وافق غيره في هذا، بل هذا يُسَمَّى من المسائل المشاعة التي لا يَخْتَصُ بها أحد عن أحد، ولذلك إذا ذكر النحوي بأن الفاعل مرفوع لا يقول: كما قال سيبويه ونص عليه ابن هشام. لأن هذا مُسَلَّم عند الجميع، وإنما تذكر النسبة فيما إذا استنبطه العالم يعني: لم يسبق له عالم بأن نظر في هذه المسألة من هذه الجهة فاستنبط مسألة ما أو حكمًا ما، هذا الذي يُنْسَب إلى أصحابه، وليس كما شاع الآن في التصنيف أن كل كلمة يأتي يقول: انظر كذا وانظر كذا. إنما هم مقلدون لغيرهم ويسمونه توثيق المعلومات، ليس كل معلومة توثق، وإنما يوثق الذي يختص به عالم عن غيره، وأما ما شاع في الفنون فلا يقال بأنه لا بد من توثيقه. إذًا هذه المسائل المذكورة في هذا النظم - وهي مائة بيت - اشتملت على مشهورات المسائل وهي من المسلمات عند أهل الفن، نقول: لم ينفرد بها صاحب ((التلخيص))، وإنما وافقه في الترتيب والتقديم والتأخير، ومثل هذه المسائل مشاعة في الفن لا يختص بها كتاب دون كتاب، فكون المصنف هنا ابن الشِّحْنَة ذكرها كونه ذكرها هنا فلمناسبة نظمه لهذا الْعِلْم لأنه أراد أن يكون النظم في فن البلاغة، إذ هو مائة بيت يعني هو مختصر جدًا وأراد ثلاثة فنون وليست بالقليلة ولذلك يعد من يتكلم في تصنيف الفنون يَعُدّ علم المعاني علمًا مستقلاً بذاته، له كتبه ومصنفاته، وعلم البيان كذلك مستقلاً بذات له مؤلفاته، كذلك علم البديع، ولذلك بعضهم يؤلف في المعاني دون البيان والبديع، أو يؤلف في البيان دون المعاني والبديع، أو في البديع دون المعاني والبيان، لأن كل علم يُعتبر مستقلاً عن غيره. هذا النظم وجيز جدًا، ولذلك لم يذكر فيه الخلاف ولم يذكر فيه شيئًا من الترجيح، بل حتى الأمثلة لم يذكر إلا الشيء اليسير جدًا الذي لا يكاد يُذكر، وإنما هو سُلَّم للمبتدئ ليصل به إلى المطولات وليضبط بعض المصطلحات المشهورات عند أرباب هذا الفن. فمقصودي أن المسائل التي شاعت في كل فن هذه كاسمها مشاعة ليست خاصة بكتاب دون كتاب. خامسًا: منظومة ((مائة المعاني)) أو ((الجوهر المكنون)) - وهذا محط الفائدة هنا - هل هذا أو ذاك؟ [أيُّ أو $ 22.01 هل للتخيير] أيَّ النظميين يحفظ الطالب ((مائة المعاني)) أو ((الجوهر المكنون))؟ نقول: ((الجوهر المكنون)). هذا النظم كما ذكرنا عدد أبياته مائة بيت يعني: إذا أخرجنا المقدمة حينئذٍ صار كم؟

مقدمة أربعة أبيات وهذه لا تختص بالعلم صار ستًا وتسعين، إذًا ستٌ وتسعون بيتًا، عدد أبيات ((الجوهر المكنون)) مائتان وواحد [وستون] (¬1) بيتًا، هذا النمط العام للنظمَيْنِ، هذا مائة بيت وهذا مائتان وواحد وتسعون بيتًا والفرق واسعٌ كما ترى، إذ يزيد ((الجوهر)) بمائة وواحد وتسعين بيتًا وهذه كلها مشتملة على مسائل تركها صاحبنا ابن الشحنة حينئذٍ يكون قد ترك الكثير وليس بالقليل، هذا على جهة الإجمال. وأما على جهة التفصيل فعلم المعاني في ((الجوهر)) مائة وست عشر بيتًا، وذكرنا أنه هنا كم؟ أربع وستون بيتًا، ففرق بينهما واضح فـ ((الجوهر)) يزيد باثنين وخمسين بيتًا، وعلم البيان في ((الجوهر)) أربع وستون بيتًا بعدد علم المعاني، وفي ((مائة المعاني)) خمسة عشر قليل جدًا، المجاز والتشبيه والكناية قليل جدًا أجحفه خمسة عشر بيتًا طيب ((الجوهر)) أربع وستون بيتًا، والفرق واضح إذ يزيد ((الجوهر)) بتسع وأربعين بيتًا، علم البديع في ((الجوهر)) - الفن الثالث - خمسة وسبعون بيتًا يعني: يعتبر عن ثلثي هذه المنظومة وفي ((مائة المعاني)) ستة أبيات، انظر الفرق خمسة وسبعون بيتًا وهذا ستة أبيات، وإذا أدخلنا الخاتمة في السلقيات الشعرية يعني مختلف في الخاتمة هل هي خاتمة للكتاب أو للعلوم كلها أو لعلم البديع وداخلة فيه على خلاف، إذا أدخلنا الخاتمة التي هي السلقات الشعرية هي خمسة أبيات صار كم خمس وست أحد عشر، إذًا علم البديع أحد عشر بيتًا والفرق واضح إذ يزيد ((الجوهر)) بنحو أربع وستين بيتًا. هذه الفروق بين المنظومتين من حيث عدد الأبيات لكل من المنظومتين إجمالاً وتفصيلاً، ومن حيث الكم فلا مقارنة أصلاً، ومن حيث الكيف يعني المسائل المذكورات المادة كذلك لا مقارنة، فيزاد على ذلك من حيث العدد أن الأخضري حاول أن ينظم مشهورات المسائل التي حواها ((التلخيص)) يعني: نظم ((التلخيص)) ولذلك عده من يتكلم في المصنفات أن ... ((الجوهر المكنون)) يعتبر ماذا؟ يعتبر من منظومات ((التلخيص)) ولذلك قال: فجئته برجز مفيد ... مهذبٍ منقحٍ سديد مُلْتَقطًا من درر التلخيص ... جواهرًا بديعة التخليص مُلْتَقَطًا وَمُلْتَقِطًا يجوز فيه الوجهان، إذًا مُلْتَقَطًا إذًا هو التقط كثير من مسائل ((التلخيص)) ونظمها وجاء بهذا العدد، ولذلك قال: سَلَكْتُ مَا أَبْدَى مِنَ التَّرْتِيبِ ... وَمَا أَلَوْتُ الْجُهْدَ في التَّهْذِيب يعني: هَذَّبَ. إذًا مشهورات المسائل والزيادة وهذَّبه وسلك ما أبدى من الترتيب، يعني: لم أخالفه في الترتيب، إذًا عندنا أمران نص عليهما الأخضري: أولاً: نظم ((التلخيص)). وثانيًا: الترتيب. ولذلك قال: سلكت ما أبدى. يعني: ما أظهره. من الترتيب يعني: ترتيب الفن. صاحبنا ابن الشحنة وافق في الثاني وهو أنه وافقت صاحب ((التلخيص)) في الترتيب لكنه لم ينظم ((التلخيص))، إذًا ((الجوهر)) يعتبر زيادة على كثرة الأبيات أو الزيادة من حيث الكم والكيف هو كذلك يعتبر نظمًا لأهم كتاب عند المتأخرين وهو: ((التلخيص)). ¬

_ (¬1) سبق استدركه الشيخ بعدها وصوابه تسعون.

وإذا كان كذلك حينئذٍ نقول: من أراد أن يحفظ ((الجوهر)) أو قد حفظه فلا يشتغل بهذا المتن يعني: ((مائة المعاني)) إنما تكون لمن لم يحفظ أو يكن قاصدًا أو في برنامجه أن يحفظ ((الجوهر المكنون))، وإما إن كان ... ((الجوهر)) فحينئذٍ يكون مغنيًا عن هذا الكتاب برمته جملاً وتفصيلاً، وأما من لم يكن في جدوله أو برنامجه أن يحفظ ((الجوهر المكنون)) وإنما أراد ((التلخيص)) أو ((عقود الجمان)) حينئذٍ يجعل هذا الكتاب سُلَّمًا لكن بشرط أن يكون الشرح متوسطًا، أما فك العبارات فهذا لا يكفي، إنما يدرسه دراسة إما على مرحلتين: مرحلة الأولى فك العبارة. ثم المرحلة الثانية وهي فك البسط. ثم بعد ذلك ينتقل إلى ((التلخيص)) ويتجاوز ((الجوهر المكنون))، وأما أن يجمع بينهما ((مائة المعاني))، ثم ((الجوهر المكنون))، ثم ... ((التلخيص))، ثم ((عقود الجمان)) نقول: هذا من ضياع الأوقات، لأن المصطلحات هيَ هي والخلاف بينهم خلاف بين آراء رجال، يعني: هذا رأيه كذا وهذا رأيه كذا، وهذه مما لا يشتغل بها طالب علم في كل فن من الفنون، وإنما يأخذ ما شاع وما ذاع من العلم. نعم إن كان للشخص مصطلحًا خاصًا فيفهمه من أجل قراءة هذا الكتاب المعين أو التفسير المعين أو نحو ذلك، فإذا أطلق لفظًا ما وأراد به مصطلحًا غير المصطلح المشهور أو أنه أعم أو أنه أخص فتقف على هذا المصطلح من أجل ألا تلتبس عليك الأمثلة أو تلتبس عليك المعاني، تعرف أن مصطلح زيد من الناس في الكناية كذا ومصطلح السكاكي على الخلاف المشهور عندهم في هذه المسائل، وأما أن يحفظ هذا وذاك وذَاك نقول: هذا يعتبر من ضياع الأوقات، والأولى الاعتماد إن اختار ((الجوهر)) أو ((مائة المعاني)) أن يذهب إلى ((عقود الجمان)). ((عقود الجمان)) هذه من استطاع أن يستوفيها حقها من الحفظ والفهم فحينئذٍ يكون قد جمع الشيء الكثير من مصطلحات الفن. و ((عقود الجمان)) يعتبر كذلك نظمًا للتلخيص لهذا قال: وهذه أرجوزة مثل الجمان ... ضمنتها علم المعاني والبيان لخصت فيها ما حوى التلخيص ... مع ضم زيادة كأمثال اللمع إذًا زاد على ما ذكره صاحب ((التلخيص))، بل كما فعل في ... ((الكوكب الساطع)) بأنه صَلَّحَ وأصلح [بين أو $ 29.02 هل للشك] ما قد انتقد على صاحب ((التلخيص))، هناك أصلح ما انتُقد على صاحب ((جمع الجوامع)) هنا كذلك. مَا بَيْنَ إِصْلاحٍ لِمَا يُنْتَقَدُ ... وَذِكْرُ أَشْيَاءَ لَهَا يُعْتَمَدُ وَضَمّ مَا فَرَّقَهُ لِلْمُشْبِهِ ... واللهَ رَبِّي أَسْأَلُ النَّفْعَ بِهِ

هذه ((عقود الجمان)) يعتبر القمة في فن البيان، فمن استطاع أن يهضمه مع شرحه للسيوطي رحمه الله تعالى أو المرشدي فحينئذٍ لن يكونَ بليغًا ولم يشم رائحة البلاغة إذا حفظ ((عقود الجمان)) لماذا؟ لأنه قد وقف على المصطلحات لأن البلاغة كما سيأتي مَلَكَةٌ، إذًا هيئة راسخة في النفس يقتدر بها على إنشاء كلام بليغ أو كلام فصيح، حينئذٍ هذه الملكة لا تكون بحفظ المصطلحات وإنما تكون بممارسة هذا الفن، يعني: يكون لصيقًا. لما اختاره، إن اختار القرآن فأنعم وأكرم يقف مع الجمل ويتفقه فيها وما قاله أرباب المعاني من الحذف والإيجاز، وعود الضمير، والتقديم والتأخير، والقصر، والفصل، وعطف الجمل، يقف لم كذا ولم .. إلى آخره، حينئذٍ إذا طَبَّقَ ومارس الفن بهذه الصورة حينئذٍ يكون بليغًا لأنه سينطبع في نفسه ما قد طَبَّقَ عليه حينئذٍ يستطيع أن ينشئ الكلام البليغ، وأما مجرد حفظ هذه المصطلحات فلا يسمن ولا يغني من جوع، وإنما هو عبث وتضيع أوقات كما هو الشأن في علم النحو، لو حفظ ألفية ابن مالك ولم يحسن الإعراب هل هو نحوي؟ ما شم رائحة النحو، ولذلك العلم يجمع بين أمرين: بين العلم الذي هو الحفظ والفهم، وأما الفهم دون الحفظ كما نقرر مرارًا لا علم إلا بحفظ لا بد أن يكون معه شيء من المحفوظ وإن قل، يعني: هو الذي يبقى معه، وأما المفهومات هذه تزول وتذهب، إذًا لا علم إلا بحفظ، وكذلك العكس أما أنه يعتمد على المحفوظات ويحفظ وَيحفظ ثم لا يهتم بممارسة الفنون فهذا يعتبر مُضيعًا لوقته ولو سَبَّحَ وشغل وقته بالطاعات لكان أولى له. نعم لأن هذا الذي يصدق على أنه نسخة مكررة لو حفظ الزاد ولم يفقه معانيه نسخة مكررة، لو حفظ الألفية ألفية ابن مالك ولم يضبط الإعراب نسخة مكررة، عبث لماذا؟ لأنه لم يكن نحويًا، هو أراد من هذ الفن أن يكون نحويًا بأن يكون ممارسًا لفن النحو، بأن تكون عنده ملكة في الإعراب والتعبير والكلام الصحيح موافق لسَنَنِ وقواعد اللغة العربية، وإذا كان يحفظ ولا يعرب ويحفظ ولا يحسن أن يطبق لا يميز بين الحال والتمييز، ولا يميز بين الفاعل والمفعول، وَالمفعول المطلق .. إلى آخره وأنواعه نقول: هذا يعتبر عبثًا. إذًا نقول: الأصل في تَعَلُّم والسُّلَّم في تَعَلُّم فن البلاغة لأن هذا الفن الآن في خبر كان يعني: غير موجود، علوم اللغة في الجملة غير موجودة، وعلوم الآلة في الجملة غير موجودة، وإن وجد نسخ من علم النحو وهذا على جهة القلة في بعض البقاع دون بعض، والآجرومية ولا يتجاوزوها إلا أن يشاء الله. وأما علم الصرف والبيان فهذا في خبر كان يعني ذهب أهله، وذهب أصحابه، وذهب من يَتَعَلَّمَهُ ويُعَلِّمَهُ، لأن الطلاب عندهم موازنة يعني يأخذون العلوم ما اشتهوا، مثل الطعام الذي يكون مفروشًا على السفرة يريد أن يتخير من العلوم ما يحبه هو، ويألفه الطبع عنده، وما يسهل عليه، وما صَعُبَ عليه هذا تركه، يعني: مثل الذي يقول: هذا لا أطعمه وهذا أحبه، هذا أشتهيه من المأكولات وهذا لا ليس الأمر إليه.

إذا أردت العلم الشرعي لا بد من ميزان شرعي، وهو الذي وضعه أهل العلم من معرفة السَّنَنِ الذي يسلكه طالب العلم إن أراد أن يستنبط من الشرع، أو يفهم مدلولات الشارع. فحينئذٍ ليس الأمر إليك بل أنت محكوم مما ذكره أهل العلم فحينئذٍ لا بد يجب عليك وجوبًا شرعيًا ليس صناعيًّا، إذا أردت أن تفهم بنفسك دون أن تقلد، وأن تكون مُتَّبِعًا دون تقليد لأحد ما فحينئذٍ يجب عليك تَعَلُّم لسان العرب بأنواع الثلاث: النحو، والصرف، والبيان. وأما إذا سَهُلَ علي النحو وصعب علي الصرف تركته، ثم انكب على مدلولات الكتاب والسنة وأرجح وأقدم وأؤخر نقول: هذا ليس إليك البتة. إذًا نقول: السُّلَّم أن يدرس ((مائة المعاني)) لكن بشرح متوسط أو موسع، ثم يشرع في ((عقود الجمان)) إن أراد أن يحفظ ألفية، وإن لم يرد حينئذٍ يعتكف على ((التلخيص)) ويأخذ شرحًا أو شرحين، وثَمَّ ما يسمى بشروحات ((التلخيص)) مطبوعة مع بعضها البعض التفتازاني المختصر والمطول. هذه - مع احترامي لأهل العلم وتقديرنا لهم - هذه ليست بلاغة العرب، وإنما هي بلاغة العجم لماذا؟ لأنهم أرادوا أن يشرحوا البلاغة التي تكون مفتاحًا لفهم القرآن وتدبر القرآن، فإذا بهم قد دمجوا علم البلاغة دمجًا لا يكاد يكون له نظير إلا في علم الأصول بالمنطق والكلام، فخرج العلم من حيز أو من جهة أن يكون علمًا موروثًا عن العرب يُفْهَم به دلالات النصوص الوحيين إلى كونه مُسَلَّمَات ومقدمات يقينية ونظرية، وشكل أول، وشكل ثاني، فصارت هذه الشروحات كلها [تَعني أو $] تُعنى بهذا. لكن ((التلخيص)) مع الإيضاح للقزويني نفسه لأنه لَمَّ ألف ... ((التلخيص)) قيل له غَمُضَ الكتاب يعني فيه اختصار نحتاج إلى إيضاح، فَأَلَّفَ الكتاب الذي هو ((الإيضاح)) فجعله كالشرح، وهذا أنفس شرح للتلخيص، وإن لم يكن مشروحًا له حاشية وعليه حاشية الدسوقي لكنها حاشية إذا أردت أن تطبق وتمارس علم المنطق فعليك بهذه الحاشية، يعني: درستم معي فيما سبق المنطق والشكل الأول والثاني صورهما موجبة .. أن ترى كلية كبرى .. إلى آخره تطبقها في حاشية الدسوقي على الإيضاح، وكذلك تجد في المطول وغيره لكن في الدسوقي هذا على جهة التعين، وهي ليست ببلاغة العرب، بل يكاد أن يكون الكلام خرج على كونه لسان العرب وإنما هو لسان الأعجمي ولكنة وكلام فيه شيء من الصعوبة، لكن الإيضاح على ((التلخيص)) مفيد جدًا، ثم تنكب انكبابًا تامًا على كتب التفسير، وكتب التفسير هذا التَّفسير من العلوم التي طبخت ولم تحترق بعد، يعني: علم ينتهي بعد، وكتب التفسير مشهورة. إذًا السُّلَّم هو ((مائة المعاني)) ثم ((عقود الجمان)) إن أردت حفظ ((الألفية)) ثم تنكب على كتب التفسير، وإن لم ترد ((مائة المعاني)) فحينئذٍ نقول: ((الجوهر المكنون)) وعليه حلية ((اللب المصون)) شرحناه وانتهينا منه فيما مضى، وبعد ذلك تدخل في ((عقود الجمان)).

يعني: يكفيك متنان في هذا الفن كله، إما ((الجوهر)) مع ((العقود))، أو ((التلخيص)) مع ((الإيضاح))، وإما ((مائة المعاني)) مع ((العقود)) أو ((التلخيص)) مع ((الإيضاح))، ثم بعد ذلك تنتهي، وما عدا ذلك كله خلاف وآراء الرجال يعني الذي صعب الفن أو استصعبه طلاب العلم في الفنون التي هي علوم الآلة هو أنهم ينظرون إلى أن كثرت الكتب هذه معناها أنك لن تحيط بالعلم إلا إذا وقفت على جميع المصنفات، هذا غلط، لا في النحو، ولا في الصرف، ولا في البيان يمكن اختصارها في بضع كتب، هذا من جهة ضبط الفن، نعم التأليف لا بد من النظر في كثير من المصنفات من أجل التوثيق فحسب، وأما من أجل إدراك العلم فهذا يكفيك في كل فن مختصر ومطول، ثم بعد ذلك إذا دخلت في صميم المقصود من هذه العلوم لأن هذه علوم آلة يعني: لا ينبغي لطالب العلم أن يعتكف عليها أكثر من وقتها، لها وقت معين فيتجاوزها وتبقه معه، يعني: ليس المراد يتجاوزها ويتركها وإنما يتجاوزها وتبقى معه، فإن أَشْكَلَ عليه شيء ما حينئذٍ رجع إلى كتب كل فن، النحاة في كتبهم، والصرفيين في كتبهم، وكذلك البيانيين، لأنه لا بد أن يقع لك إشكال ما في تفسير آية مثلاً، الكناية توجيها استعارة مصرحة مرشحة .. إلى آخره، قد يشكل عليك بعض الشيء فترجع تبحث، وأما أنك تأخذ كل كبير وصغير عند دراسة الفن فليس الأمر كذلك، لأنك لو بقيت عمرك كله ما انتهيت، لو أردت أن تأخذ في علم البيان كل صغير وكبير جميع المصطلحات العامة في الفن والخاصة لكل عالم، وما يرد عليه وما يعترض، إذًا ستبقى عشر سنين في علم البيان، وستبقى عشر سنين في علم النحو، وعشر سنين في علم الصرف، ثم إلى القبر، ما دخلت علم المقاصد هذا لا يصلح وإنما تبقى معك إلى ما شاء الله تعالى. نشرع في النظم والطريقة كما ذكرت أنني لم أشرحها فيما سبق ولذلك سأشرحها شرحًا متوسطًا، سيكون الدرس إن شاء الله تعالى بعد المغرب وبعد العشاء هذا الأسبوع سنتجاوز أكثر من النصف، يبقى معنا قليل نكمله الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى، يعني إن شاء الله نحاول ألا يتجاوز العشرة أيام بعد المغرب والعشاء لكن نحاول أن نقف مع المتن وقفة جيدة بحيث من أراد أن ينطلق - ولمن لم يدرس ((الجوهر)) إذا درسه بما يكون معنا يستطيع أن يقرأ في ((التلخيص)) مباشرةً، وأما الذي درس ((الجوهر)) فيما مضى إنما يكون مراجعة له ولا يحفظ لمتن، لا يحفظ المتن وإنما يحفظه من لم يحفظ ((الجوهر))، ولذلك كما ذكرت أن سنشرحه شرحًا متوسطًا. قال الناظم رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم). الْحَمْدُ لِلّهِ وَصَلَّى اللهُ ... عَلَى رَسُولهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَا ... ..........................

قال الناظم رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم). وهذه ذكرها بعض الشراح وشرحها كأنها من النظم (بسم الله الرحمن الرحيم) أي: أُؤلف أو أنظم يعني: نقدر أن الباء هنا أصلية، فحينئذٍ لا بد لها من متعلق تتعلق به، وتقديره يكون فعلاً مؤخرًا خاصًا، فعلاً لأن الأصل في العمل للأفعال، ومؤخرًا للاهتمام وإفادة القصر والحصر، (بسم الله) لا بسم غيره كما هو الشأن في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، ... {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي: لا نعبد إلا أنت، إلا الله وهي معنى لا إله إلا الله، ... (بسم الله) أنظم أي: لا باسم غيره ففيه الحصر والقصر، وسيأتي الباب الخاص به في محله إن شاء الله تعالى، والاهتمام أنه لم يقدم على اسم الله تعالى شيئًا البتة، وإنما بدأ به، وكونه خاصًا يعني: لا عامًا. (بسم الله الرحمن الرحيم) أؤلف وهذا خاص، ما قال: أبدأ. لو قال: أبدأ. هذا عام، تبدأ ماذا؟ التأليف الأكل الشرب .. إلى آخره، نقول: كونه خاصًا لأنه أدل على المقصود، لأن كل من بسمل إنما جعل البسملة لِمَا ابتدأ به وشرع فيه، فالذي يأكل يقول: بسم الله الرحمن الرحيم آكل، والذي يشرب بسم الله الرحمن الرحيم أشرب، والذي ينام أنام .. وهكذا .. فكل فعل يدل على المقصود، أي: أؤلف أو أنظم حال كوني مستعينًا يعني: الباء هنا بمعنى الاستعانة وهي كما ذكرنا أنها أصلية، وإذا كانت أصلية حينئذٍ لا تكون زائدة، وإذا كانت أصلية حينئذٍ لا بد لها من متعلق تتعلق به. لا بُدَّ لِلجَارِّ مِنَ التَّعلُّقِ ... بِفِعْلٍ اوْ مَعْنَاهُ نَحْوُ مُرتَقِي وهذا هو الأصل، مستعينًا (بسم الله)، (بسم الله) والاسم مشتق من السمو، والسمو هو العلو على الصحيح، فيكون وزنه افْعٌ، والاسم في اللغة ما دلَّ على مسماه، وعرفًا ما دلَّ على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، قلنا مشتق من السمو وهو مذهب البصريين وهو العلو لأن الاسم علا على مسماه لذلك اشتق منه، والاسم مضاف ولفظ الجلالة مضاف إليه، والإضافة هنا أفادت العموم (بسم الله) يعني: بسم هو لله أي: بكل اسم هو الله، يعني مستعين هنا استعان بماذا في فعله؟ استعان بكل أسماء الله تعالى، ولذلك أقول: لو لم يستفد دارس هذه الكلمة العظيمة (بسم الله الرحمن الرحيم) لو لم يستفد إلا هذه الفائدة لكفاه، أنه يستحضر بقلبه - هنا يأتي العمل، الذهن والمعلومات ما تكفي - إذا أراد أن يفعل فعلاً ما قال: بسم الله الرحمن الرحيم. استشعر بقلبه أنه يستعين بكل أسماء الله تعالى فهذا يشعره بشيء آخر. إذًا اسم مضاف ولفظ الجلالة مضاف إليه أي: مستعينًا بكل اسم هو لله جل وعلا، الإضافة أفادت العموم، والله هذا على الذات وهو مشتق على الصحيح بمعنى أنه دالٌ على ذات وصفة، خلافًا لمن قال بأنه جامد يعني: لا يدل على صفة بل يدل على الذات فقط، وهذا قول باطل فاسد، ولذلك جاء قوله تعالى: {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأنعام: 3]. {فِي السَّمَاوَاتِ} إيش إعرابه؟ .. نعم. . جار ومجرور، إيش فيه؟ جار ومجرور هذا نوعه، إعرابه متعلق بأي شيء؟ .. الله أي متعلق بـ الله، ومر معنا قبل قليل. ولا بد للجر من التعلقِ ... بفعل أو معناه .........

إذًا الجار والمجرور لا يتعلق إلا بالفعل أو ما فيه معنى الفعل وهو الوصف، وهذا لا يكون إلا إذا كان مشتقًا، إذًا (الله) تعلق به في السماوات، وهذا يدل على أنه مشتق، إذًا هو دال على ذات موصوفة بصفة إلهية، الأصل هو الإله، وهو الإله، الإِله يعني المعبود المطاع، وهو مشتق - كما ذكرنا - على الصحيح. (الرحمن الرحيم) اسمان كريمان من أسماء الله تعالى الحسنى، والرحمن دال على الصفة القائمة بالذات، والرحيم دال على تعلقها بالفعل كما نص على ذلك ابن القيم وهو وجه حسن أنه إذا اجتمع الاسمان الكريمان الرحمن الرحيم، صار الرحمن دالاً على الصفة الذاتية، والرحيم دالاً على الصفة الفعلية، إذ الرحمة لها جهتان من جهة تعلقها بالذات فهي صفة ذاتية ومن جهة تعلقها بالمرحوم - يعني: الذي هو محل للرحمة - فهي صفة فعلية. قال ابن القيم رحمه الله: ولهذا لم يجئ بسم الرحمن متعديًا في القرآن قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب: 43]. جاء التعدِّي الرحيم ولم يأت تعدِّي الرحمن يعني: ولم يقل رحمانًا {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} رحيمًا بالمؤمنين {بِالْمُؤْمِنِينَ} هذا جار ومجرور متعلق بقوله: {رَحِيماً}. هذا القول وإن لم يكن شائعًا إلا أنه الأنسب بأنه يفسر الرحمن الرحيم بهذين المعنيين الذي هو الدال على صفة القائمة بالذات أو الرحمن، والدال على تعلقها بالمرحوم وهو الرحيم، وإن كان شاع بأن الأول الرحمن فعلان دال على الامتلاء بأنه يعم الكافر والمؤمن، والرحيم دال على تعلقها بالمؤمنين فهو خاص، نقول: نعم الرحمن هذا فيه زيادة مبنى فيدل على زيادة المعنى، وأما الرحيم فهو أقل منه حروفًا، وإذا كان كذلك حينئذٍ نقول: الرحمن من حيث المتعلق كذلك هو متعلق بالمؤمنين والكافر فهي رحمة عامة، وأما الرحيم فهي رحمة خاصة، ولذلك يقولون: عام المعنى خاص اللفظ، الرحمن عام المعنى لأنه واسع مدلوله يدل على الامتلاء وهو يتعلق بالمؤمن والكافر، بل حتى البهائم، وخاص اللفظ لأنه لا يطلق على غير الله إجماعًا، لا يطلق لفظ الرحمن على غير الله تعالى إجماعًا، أما الرحيم فهو خاص المعنى عام اللفظ، خاص المعنى لأنه متعلق بالمؤمن دون غيره، وأما كونه عام اللفظ فلأنه يُطلق على غير الله تعالى من حيث اللفظ تقول: جاء زيد الرحيم. {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب: 37] جاء في الموضع المراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - فيُطلق رحيم على المخلوق، لكن الرحمن هذا خاص بالرب جل وعلا. وابتدأ البسملة المصنف اقتداءً بالكتاب العزيز والإجماع العملي من أرباب التصنيف على أنهم إذ أرادوا التأليف بدأوا ببسم الله الرحمن الرحيم.

(الْحَمْدُ لِلّهِ وَصَلَّى اللهُ)، (الْحَمْدُ) اشتهر أن الحمد لغةً الثناء بالجميل على الجميل الاختياري على جهة التعظيم، يعني: سواء كان في مقابلة نعمة أم لا، الثناء إنما يكون باللسان وهل هو خاص بالخير أم أنه يعم الشر؟ محل نزاع والجمهور على أن الثناء لا يكون إلا بالخير، ... وذهب بعضهم إلا أنه يكون في الخير كثيرًا وفي الشر قليل، ولذلك استدل بالصحابة رضي الله تعالى عنهم لما مر بجنازة أثنوا عليها خيرًا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وجبت». ومُرُّ بجنازة فأثنوا عليها شرًا، هذا محل الشاهد إذًا الثناء متعلقه الشر، والصحابة حجة، في اللغة حجة، يعني يحتج بأقوالهم، وإنما الخلاف في أقوالهم اللغوية يعني فهمهم اللغوي الصحابي حجة، وأما في مسألة الحكم الشرعي فهذه التي وقع فيها نزاع، إذًا الثناء الأصل فيه أن يكون بالخير وقد يكون في الشر كما مر في قول الصحابة. الثناء بالجميل على جميل الاختيار على جهة التعظيم، وعرفًا فعل يُنْبِئُ يعني: يشير. عن تعظيم الْمُنْعِم من حيث إِنَّهُ مُنْعِمٌ على الحامد أو غيره، وهذا تعريف شائع جدًا عند أرباب التصنيف لكن فيه، لأنه نظر؛ لأنهم خصوا الحمد بكونه في مقابلة الصفات المتعدية، الله عز وجل صفاته على نوعين: منها ما هو لازم لا يتعدَّى أثره، كالكبرياء والعظمة. ومنه ما يتعدَّى يكون ارتباطه بالمخلوق، كالرحمة مثلاً الرحمن، هذه صفة متضمن لصفة وهي الرحمة، وهذه متعدِّيَة للمخلوق، حينئذٍ إذا حصر الحمد في كونه يكون في مقابلة النعم حينئذٍ اختص بالصفات المتعدِّية وليس الأمر كذلك، بل يحمد الله تعالى على جميع صفاته حتى على استوائه على العرش وكونه عاليًا على العرش بذاته جل وعلا يحمد عليه. إذًا هذا الحد فيه شيء من النظر، فعلٌ ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم، إذًا لا من حيث إنه ليس منعم، نقول: هذا أخرج الصفات اللازمة وليس الأمر كذلك. منعم على الحامد أو غيره سواء كان باللسان أم بالجنان أم بالأركان، وهذا هو الشكر اللغوي، والشكر العرفي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في بيان الحمد وهو أجود مما ذكره غير واحد: أن الحمد هو ذكر محاسن المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله. ذكر محاسن، والذكر يكون باللسان ويكون بغيره، ومحاسن جمع مَحْسَن فحينئذٍ يكون شامل للصفات الذاتية والصفات اللازمة والصفات المتعدية، وليس خاصًا بنوع دون نوع مع حبه وتعظيمه وإجلاله أخرج المدح إذ يكون فيه ذكر محاسن المحمود لكن لا مع المحبة والتعظيم وهذا هو الفرق بين الحمد والمدح، كلاهما ثناء إلا أن الثناء في الحمد يكون مع المحبة، لأن ليس كل من أثنى أحبك؟ قد يُثني عليك صباحًا مساءً يطريك بالشعر لكنك من أبغض الناس إليه، هذا لا يُسمى حمدًا، إنما يسمى مدحًا هو كذاب لكن لا يُسمى ماذا؟ يسمى مَدْحًا، إذًا فرق بينهما ذكر محاسن المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله، و (أل) في الحمد للاستغراق، وهو قول الجمهور، وقيل للجنس وهو اختيار الزمخشري.

(لِلّهِ) أي: اختصاصًا واستحقاقًا، فاللام صالحة للمعنيين، تكون بمعنى الاستحقاق، وتكون بمعنى الاختصاص، فهي صالحة للمعنين سواء جعلت (أل) للاستغراق حينئذٍ يكون المعنى أنواع الحمد، انظر المعاني هنا تختلف طالب العلم إذا قرأ {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} في الصلاة واستحضر أن (أل) هنا للاستغراق، ما معنى الاستغراق؟ يعني: استغراق جميع الأفراد، واستحضر هو يقرأ {الْحَمْدُ للهِ} يعني: كل جميع أنواع الحمد التي تكون على ألسنة الخلق وما أثنى الله تعالى به على نفسه لله تعالى كائنة لله استحقاقًا واختصاصًا، أي: أنواع الحمد كلها ثابتة لله، أو للجنس وعليه حينئذٍ يكون جنس الحمد ثابتٌ لله، وإذا ثبت الجنس لله ثبت الأفراد لأنه يلزم من اختصاص الجنس اختصاص الأفراد، كما مر معنا مرارًا، إذًا على المعنيين الاستغراق أو الجنس لا يُصرف فردٌ من أفراد الحمد لغير الله، فكل أنواع الحمد ثابتة ومختصة بالله عز وجل دون ما سواه. (الْحَمْدُ لِلّهِ) بدأ بالحمدلة هنا، ثانيًا بعد الابتداء بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز لأنه أول ما افتتح الله تعالى القرآن قال: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. [الفاتحة: 1، 2] اقتداءً بالكتاب من ألف كتابًا من البشر حينئذٍ يبدأ بالبسملة ثم يثني بالحمدلة، واختار الجملة الاسمية (الْحَمْدُ لِلّهِ) وهذا يأتينا بحثه في المعاني على الفعلية اقتداءً كذلك بالنص الآية لأن الله تعالى قال: {الْحَمْدُ للهِ}. ولدلالتها على الثبات والدوام، لأنه - كما سيأتي معنا - أن الخبر يكون جملة اسمية، ويكون جملة فعلية، متى تختار الجملة الاسمية على الفعلية، ومتى تختار الجملة الفعلية على الاسمية؟ بناءً على المعنى، وهنا (الْحَمْدُ) لما كان في مقابلة الذات الموصوفة بالإلهية وهي دائمةٌ باقيةٌ مستمرة ناسب أن يأتي بلفظٍ يدل على الثبات والدوام لا على الاستمرار والتجدد إنما هو خاصٌ بالفعلية، إذًا اختار الجملة الاسمية هنا لمعنى وهو كذلك في الآية يقال هنا ويقال في قوله تعالى: ... {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. لماذا جاء بالجملة الاسمية دون الفعلية؟ نقول: لأن الجملة الاسمية تدل على الثبات والدوام، وهنا عَلَّقَ الحمد بماذا (الْحَمْدُ لِلّهِ)، (لِلّهِ) أي: دالٌ على ذاتٍ متصفة بالإلهية، والذات هذا الوصف كذلك باقٍ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ... [الرحمن: 26، 27]، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، إذًا لما كانت الذات باقيةً مستمرةً أبد الآباد لا يلحقها عدمٌ ولا فناء البتة ناسب أن يأتي بجملةٍ دالة على ذلك المعنى، وهذه تختص بها الجملة الاسمية دون الجملة الفعلية، واضحٌ هذا؟ لذلك جاء بالجملة الاسمية، وقَدَّمَ الحمد على لفظ الجلالة (الْحَمْدُ لِلّهِ) لأنه الأصل، لأنه مبتدأ، وأصل المبتدأ أن يتقدم على الخبر.

ثانيًا: لداعية المقام، وهذا سيأتي بحثه في علم المعاني، وإن كان لفظ الجلالة أهم بالتقديم لذاته لأن لو نظرنا عندنا (الْحَمْدُ) وعندنا متعلق الحمد، وهو الله عز وجل أيهما أهم بالتقديم؟ لا شك أنه الثاني، لكنه ما رعى هذا، وإنما قدم الحمد على لفظ الجلالة، هل لكون الحمد أفضل وأهم؟ الجواب: لا. لكن لمطابقة ورعاية المقام، لأن المقام هنا مقام ثناءٍ وذكر، فيذكر اللفظ ويؤخر المحمود أو الْمُثْنَى عليه، وهذا مطابقةً لرعاية المقام، فرعاية المقام هنا أنسب للبلاغة كما سيأتي في حد البلاغة إذ هي مطابقة الكلام لمقتضى المقام. وضد الحمد الذم كما أن ضد الشكر الكفران. ثم لما أثنى على الخالق جل وعلا ثنَّى بالثناء على أفضل الخلق على الإطلاق. أفضل الخلق على الإطلاق ... نبينا فمل عن الشقاق فقال: (وَصَلَّى اللهُ عَلَى رَسُولهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ)، (وَصَلَّى اللهُ) هذه جملةٌ خبريةٌ لفظًا إنشائيةٌ معنى، لأن المراد بها الدعاء، مراد بها الدعاء، ومعنى (وَصَلَّى اللهُ) أي: أثنى الله على عبده في الملأ الأعلى - على أصح ما تفسر به الصلاة -،حينئذٍ إذا صلَّى الله على العبد بمعنى أنه أثنى عليه في الملأ الأعلى - وكما ذكرنا هي جملةٌ خبرية من حيث اللفظ إنشائيةٌ من حيث المعنى - معناها الدعاء، والصلاة فعالٌ من صَلَّى إذا دعا. (عَلَى رَسُولهِ) الضمير يعود على الله عز وجل، والجار مجرور متعلق بقوله: (صَلَّى) لأنه فعلٌ، (عَلَى رَسُولهِ) وفي نسخة: على نبيه ولا إشكال، وعليه لفظ الأفراح، والرسول من البشر إنسانٌ أوحي إليه بشرعٍ وأمر بتبليغه - على ما اشتهر عند أرباب التصنيف - النبي إنسانٌ أوحي إليه بشرعٍ فهو أعم من الرسول على المشهور كل رسول نبي ولا عكس، رسول فعول بمعنى مفعل (عَلَى رَسُولهِ) رسول فعول بمعنى مفعل أي: المرسل وحذف المتعلق هنا (عَلَى رَسُولهِ) إلى من حذف المتعلق ما قال إلى الجن ولم يقل إلى الإنس ولم يقل إلى الملائكة، وإنما حذف المتعلق لإفادة العموم لأن من صيغ العموم حذف المتعلق إذًا (عَلَى رَسُولهِ) رسول فعول، وفعول من متعلقات الجار والمجرور الظرف، حينئذٍ نقول: حذف المتعلق للدلالة على العموم، إذ هو مرسل لجميع الخلق على خلافٍ في الملائكة، أما الجن والأنس فهو محل إجماعٍ.

(الَّذِي اصْطَفَاهُ)، (الَّذِي) هذا نعتٌ لرسول وهو في محل جر (عَلَى رَسُولهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ)، الضمير في (رَسُولهِ) و (اصْطَفَاهُ) يعود إلى الله عز وجل، (اصْطَفَاهُ) الضمير البارز يعود إلى رسوله، (اصْطَفَاهُ) فيه ضميران: ضميرٌ مستتر. وضميرٌ بارز. ضمير مستتر: هو الفاعل وهو يعود إلى الله عز وجل، هو الذي اصطفى، والضمير البارز: في محل نص مفعولٌ به، ما هو يعود إلى الرسول، إذًا النبي - صلى الله عليه وسلم - مُصطفى، (الَّذِي اصْطَفَاهُ) أي: اختاره أي: المصطفى، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - مختار ولذلك يذكر أهل البيان أن الموصول مع صلته في قوة المشتق، الموصول (الَّذِي) مع صلته (اصْطَفَاهُ) لأن جملة (اصْطَفَاهُ) لا محل لها من الإعراب صلة الموصول، الموصول الذي هو الذي هنا مع صلته جملة الصلة التي هي اصطفاه في قوة المشتق يعني: تحذفها وتأتي بمحلها بلفظٍ مشتق من اسم فاعل أو اسم مفعول، (الَّذِي اصْطَفَاهُ) (عَلَى رَسُولهِ) ماذا نقول؟ المصطفى أي: المختار، فهو المختار من سائر المخلوقات، وهو أفضلهم على الإطلاق - كما ذكرنا -، وهذه إشارة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله اصطفى كنانةً من ولدي إسماعيل واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيارٌ من خيار من خيار». و (الَّذِي) نعتٌ لرسول (مُحَمَّدٍ) بالجر إيش إعرابه؟ بدل من (رَسُولهِ) أو أو عطف بيان (رَسُولهِ) بدل أو عطف بيان، هل يصح أن يكون نعتًا؟ لا يصح، لماذا؟ لكونه جامدًا، لكونه علمًا، فالأعلام تنعت ولا ينعت بها، إلا على من يرى أن أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات معانٍ، لا شك أن أعلام الرب جل وعلا دالةٌ على الذات وهي أعلامٌ وأوصاف، ولذلك تُنعت ويُنعت بها، ونحن تداركناه اختصارًا بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن هذا نعت للفظ الجلالة، مَنْ رَأَى أنه عَلَم لا يُعربه نعت، ونص على ذلك ابن هشام وغيره لماذا؟ لكونه عَلَمًا، والعلم لا يُنعت به، والصحيح أنه نعتٌ وأنه علمٌ وينعت به في هذا الموضع لكن لا باعتبار العلمية وإنما باعتبار الوصفية، ... لأن أعلام الله تعالى أعلامٌ وصفات، فهي من حيث كونها دالةٌ على الذات تُنْعَت، ومن حيث كونها دالةٌ على الصفات يُنْعَتُ بها، هل أعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك؟ محل نزاعٍ، ورجح ابن القيم أنه كذلك، فإذا كان كذلك حينئذٍ صح النعت بها، وكذلك أعلام الملائكة. إذًا (مُحَمَّدٍ) على رأي الجمهور أنه لا يُعرب نعتًا لأنه جامد، وعلى ما اختاره ابن القيم رحمه الله تعالى حينئذٍ يصح أن يكون نعتًا، وهل يجوز رفعه؟ محمدٌ، يجوز؟

نعم يجوز رفعه محمدٌ، أي: هو محمدٌ خبرٌ لمبتدأٍ محذوف، إذًا (مُحَمَّدٍ) بالجر قلنا عطف بيان أو بدل من (رَسُولهِ)، ولا يجوز الرفع على أنه خبر لمحذوف أي: هو محمدٌ، والأول أولى يعني: الجر أولى، لأنه يجعل الكلام متصلاً بعضه ببعض، والقطع يجعله جملةً منفكة عن سابقه، والوصل مقدمٌ على القطع، محمدٌ علمٌ منقول من اسم مفعول المضعّف سُمِّيَ به لكثرة خصاله المرضية، (وَآلِهِ) بالجر عطفًا على (رَسُولهِ) وآل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مقام الدعاء، هنا مراد به أتباعه على دينه، فحينئذٍ يشمل كل متبعٍ، دخلت الأمة كلها التقي وغيره، ولم يذكر الصحب هنا إما اختصارًا أو اقتصارًا، اختصارًا بمعنى أنه تركه لأجل النظم أو الاختصار، واقتصارًا لكونه اقتصر على دخولهم في آل، إذا قلنا (وَآلِهِ) أتباعه على دينه دخل في أول من يدخل من؟ الصحابة، إذًا ذكر الصحابة، فلا نقول لهم لم يذكروا، ولكن تركه يعتبر اقتصارًا، وأما إذا لم نجعل الآل بمعنى الإتباع على الدين خصصناه بأقارب النبي - صلى الله عليه وسلم -، حينئذٍ لا يحمل كل الصحابة، إنما يشمل بعضهم دون بعضٍ. (مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَا) فعلٌ ماضٍ، فاعله ضمير مستتر يعود على الله تعالى سَلَّمَ لأن الذي صلَّى هو الله عز وجل، والذي سَلَّمَ هو الله عز وجل، إذًا فعلٌ ماضي كصلَّى وهو جملةٌ خبريةٌ لفظة إنشائيةٌ معنى، والألف فيه للإطلاق (سَلَّمَا)، وحذف متعلقه لدلالة ما سبق عليه، (وَسَلَّمَا) على رسوله (صَلَّى اللهُ) على رسوله، قال: (وَسَلَّمَا) على من؟ على رسوله، وحينئذٍ لا يكون من باب التنازع لأن الأول صلَّى (عَلَى رَسُولهِ) استوف متعلقه (وَسَلَّمَا) نقول: حُذِفَ المتعلق لماذا؟ لدلالة ما قبله عليه، إذًا سلَّمَ على من؟ (عَلَى رَسُولهِ)، ومعناه السلامة يعني: التحية، سَلَّمَ مَأْخُوذٌ من السلامة والمراد به التحية، وهنا أردف الصلاة بالسلام جمعًا بينهما امتثالاً لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} [الأحزاب: 56] فجمع بينهما امتثالاً للآية، وهو أعلى درجات الامتثال، لكن لو اقتصر على الصلاة دون السلام، أو على السلام دون الصلاة، لا إشكال فيه، وإن لم يكن ممتثلاً بمعنى أنه لم يكن كامل الامتثال، وإلا كان ممتثلاً، لأن دلالة الاقتران هنا غير معتبرة، بمعنى أن المطلوب ليس هو الجمع، المطلوب إحداث الصلاة، وإحداث السلام، ثم قد يكونان على جهة الجمع، وقد يكونان على جهة الإفراد، وليس في الآية ما يدل على أن المراد به الجمع، وإن كانت الواو لمطلق الجمع، لكن لو فعل أحد نوعي الصلاة دون السلام أو بالعكس لا نقول أنه وقع في كراهةٍ، وإن كان يعلل هنا أنه جمع بينهما هروبًا من كراهة تركهما أو الاقتصار على أحدهما - كما هو مشهور عند كثير من الفقهاء - لكن الصحيح أنه لا يكره إفراد الصلاة عن السلام، ولا إفراد السلام عن الصلاة لماذا؟ لعدم الدليل. وأما الاستدلال بهذه الآية نقول: استدلالٌ بدلالة الاقتران وهي ضعيفةٌ عند جماهير الأصوليين.

مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَا ... وَبَعْدُ قَدْ أَحْبَبْتُ أَنِّي أَنْظِمَا (وَبَعْدُ) [هذا كلمة، أو] (¬1) هذه كلمةٌ يؤتي بها للانتقال من أسلوبٍ إلى أسلوبٍ آخر، يعني: انتقال من أسلوب المقدمة إلى الشروع في المقصود الذي عناه بنظمه، (وَبَعْدُ) هذا ظرف زمان مبنيٌ على الضم لقطعه عن الإضافة ونية معنى المضاف إليه على المشهور، أي: بعد الحمدلة والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (قَدْ أَحْبَبْتُ) هنا حذف الفاء، لأن الفاء هنا واجبة تتصل بجواب لأن الواو هذه نائبةٌ مناب أمَّا، وأما نائبةٌ مناب مهما، إذًا عندنا شرط وعندنا فعل شرط وجواب الشرط، هنا يجب اتصال الفاء بجواب الشرط، والأصل أما بعد فكذا، فحينئذٍ الفاء داخلةٌ أين هي؟ نقول: حذفها من أجل ضرورة النظم الوزن. (قَدْ أَحْبَبْتُ) أي: فقد، حذف الفاء من الجواب لضرورة النظم، وأصله فقد أحببت أي: ملت وقصدت، والمحبة هنا على بابها النيل والقصد، (أَنِّي أَنْظِمَا) أي: أؤلف هذا على النسخة الموجودة عندكم، أي: أؤلف كلامي منظومًا، والنظم اسم لكلامٍ مقفى موزون، اسمٌ لكلامٍ لأن الشعر كلام، كما أن النثر كلام، لكنه مقفى، يعني: ذا قافيةٍ، موزون على أوزانٍ معلومة، وهي التفعيلات المشهورة عند أرباب الفن، ويُعَرِّفَهُ البعض بأن الكلام الموزون قصدًا لا بد أن يكون مقصودًا، فلو وافق الكلام تفعيلات بحرٍ ما لا يقال بأنه شعر لماذا؟ لأنه لم يقصد، لانتفاء القصد، فيشترط في الشعر أن يكون مقصودًا، وأما موافقة التفعيلات هذه هي مادة الشعر، حقيقة الشعر، ثم قد يتفقان في التفعيلات لأن التفعيلات عبارة عن حركات وسكنات، قد يتفق المنثور مع الشعر، فإن كان مقصودًا سُمِّيَ شعرًا وإلا فلا، مع اشتراط القافية، يقال إذًا (أَنِّي أَنْظِمَا) يقال: نَظَمَ اللؤلؤ جمعه في السلك وبابه ضَرَبَ، نَظَمَ أَنْظِمُ من باب أَضْرِبُ، إذًا بابه ضَرَبَ، وَنَظَّمَهُ تَنْظِيمًا مثله، ومنه نظم الشعر ونظَّمَهُ، إذًا يقال نَظَمَ الشعر ويقال نَظَّمَ الشعر، هذه النسخة الموجود المشهور (أَنِّي أَنْظِمَا) هذا فيها إشكال، لأن (أَنِّي) هذه الناصبه والياء اسمها و (أَنْظِمَا) هذا الألف للإطلاق، و (أَنْظِمَا) هذا فعل مضارع مبدوءٌ بهمزة المتكلم، وهو هنا منصوب، (أَنْظِمَا) بفتح الميم وأين الناصب؟ هذا محل إشكال ليس عندنا ناصب فكيف نُصِب؟ نقول: في بعض النسخ (أَنْ أُنَظِّمَ) نسخة من النسخ التي شرحت مخطوطات (أَنْ أُنَظِّمَا) وهي أسلم للاعتراض الذي في النسخة الموجودة المشهورة هذه، (أَنِّي أَنْظِمَا)، (أَنْظِمَا) فعل مضارع منصوب أين الناصب؟ ليس في النظم ما يدل على أنه منصوب، حينئذٍ بقي إشكال، ... (أَنْ أُنَظِّمَا) زال الإشكال؟ لأن نَظَّمَ أُنَظِّم لا إشكال عندنا الثلاثي نَظَّمَ أُنُظّم من باب كَرُمَ أَكْرَمَ، إذًا أُكْرِم أُنَظِّم أُنَظِّمَا فعل مضارع منصوبٌ بأن والألف هذه للإطلاق، إذًا اتحدا وهو أولى، أَنْ أَنْظِمَا (أَنِّي أَنْظِمَا) أَنْ أُنَظِّمَ. فِي عِلْمَيِ الْبَيَانِ وَالمَعَانِي ... أَرْجُوزَةً لَطِيفَةَ المَعَانِي ¬

_ (¬1) سبق.

(فِي عِلْمَيِ) هذا متعلق بقوله: (أَرْجُوزَةً) أن أنظم ماذا؟ (أَرْجُوزَةً) التي في الشطر المصراع الثاني، البيت الثاني مفعولٌ به، والعامل في (أَنْظِمَا)، أنَظِّمُ ماذا؟ (أَرْجُوزَةً) (فِي عِلْمَيِ) إذًا في علمي هذا جار مجرور متعلق بقوله: (أَرْجُوزَةً)، (أَرْجُوزَةً) (فِي عِلْمَيِ)، (فِي عِلْمَيِ) متعلق بقوله: (أَرْجُوزَةً). الآتي مثنى علمٍ حذفت نونه للإضافة لما بعده (عِلْمَيِ الْبَيَانِ وَالمَعَانِي)، الأصل المعاني والبيان، المعاني هو المتقدم والبيان لاحق، لأن البيان لا يتحقق إلا بدرك المعاني، فهو جزءٌ فيه في حقيقته - كما سيأتي - ولكن هنا قدم البيان على المعاني وإن كان هو متأخرًا على المعاني لأجل الوزن لا لكونه متقدمًا عليه في الوجود، لا، المتقدم في الوجود أولاً هو المعاني، ثم يأتي بعد ذلك علم البيان، وقوله: (الْبَيَانِ). يعني: الآتي تعريفه فما سيأتي، (وَالمَعَانِي) الآتي تعريفه، (أَرْجُوزَةً) هذا مفعول ... (أَنْظِمَا) أفعولة يعني: وزنها أفعولة من الرجز تحريك البحر المشهور وهو مبنيٌ في الدائرة من مستفعلٍ ست مرات، قال الخليل: سُمِّيَ رجزًا لاضطرابه، والعرب تسمي الناقة التي يرتعش فخذاها رَجْزًا. لأنه فيه نوعٌ من الاضطراب، من التَّرجز يسمى رَجَزًا، لذلك (الْحَمْدُ لِلّهِ وَصَلَّى اللهُ) فيه رجز، ووصف الأرجوزة بقوله: (لَطِيفَةَ المَعَانِي). أي: دقيقة المعاني، (لَطِيفَةَ) يقال لَطُفَ الشيء من باب ظَرُفَ أي: صَغُرَ فهو لطيفٌ لطفًا ولطافة # 1.13.16 ... هذا في الأصل واللطيف من الكلام الدقيق المعنى، (أَرْجُوزَةً لَطِيفَةَ المَعَانِي) أي: دقيقة المعاني فمعانيها دقيقة حينئذٍ يكون من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي المعاني الدقيقة دقيقة المعاني المعاني الدقيقة، فقوله: (لَطِيفَةَ المَعَانِي) بالنصب على أنه نعت لـ (أَرْجُوزَةً)، وهو مضاف (وَالمَعَانِي) مضافٌ إليه، لوجازة لفظها وكثرة معناها، لأن هذا اللطيف من الشيء إنما يكون لدقة المعنى متى؟ إذا قلت الحروف والكلمات، ولذلك يُعَبّر عن المختصر بأنه ما قل لفظه وكثر معناه، وهذا مثله، والمعاني جمع معنى وهو ما يقصد من اللفظ، ما يُعنى من اللفظ، يعني: مدلول اللفظ ما يُقصد من اللفظ يُسَمَّى معنى، زيد هذا لفظٌ، مفهومه ومدلوله ومسماه ذاته، ذاته هو المقصود من اللفظ، يُسمى معنًى، ثم هذا المقصود قد يكون حسيًا وقد يكون معنويًا، وهذا يفيدك في التشبه الحسيّ والمعنويّ .. إلى آخره، فقد يكون حسيًّا مثل زيد، زيدٌ لفظٌ مدلوله ماذا؟ ذات، إذًا شيءٌ مشاهد محسوس في الخارج، عِلْم هذا ليس مدلوله أو مفهومه اللفظ أو شيءٌ حسي، ليس مدلوله شيءٌ حسي وإنما هو شيءٌ معنوي. وقوله هنا: (عِلْمَيِ الْبَيَانِ وَالمَعَانِي) علميِ المعاني والبيان، قَدَّمَ وأخَّر لِمَا ذكرنا. لم يذكر البديع، وهي أرجوزة - كما ذكرناه - ذكر الثلاثة الفنون، ترى أحد عشر بيتًا في علم البديع مع كونه خص هنا في المقدمة بأنها خاصةٌ بعلمي المعاني والبيان، فأين البديع؟

قيل: لكون المقصود بالذات في هذا العلم هو العلمان المذكوران المعاني والبيان، هما المقصودان لا شك لأن هذا الأصل هذا هو الأصل، وعلم البديع كالتتمة لكونه لا مدخل له في البلاغة، إذًا لم يذكره لعدم أهميته، لأن الأساس هو علم المعاني والبيان، الذي يقوم به البنيان مثلاً، وعلم البديع كالتشطيب إن صح التعبير، فحينئذٍ نقول هذا كالتتمة، والأصح أن يقال هنا: لم يذكر البديع بناءً على ما ذكره صاحب ((الإيضاح)) القزويني رحمه الله تعالى في إيضاحه حيث قال: " وكثيرٌ من الناس يُسمي الجميع علم البيان، وبعضهم يُسمى الأول علم المعاني، والثاني والثالث علم البيان، والثلاثة علم البديع ". ولذلك ابن المعتز من أوائل من صنف، صنَّف كتابًا أسماه ((البديع)) يشمل الثلاثة الفنون: المعاني، والبيان، والبديع، الذي هو الخاص وليس المراد كتاب ابن معتز ((البديع)) البديع الخاص العلم الخاص الذي هو مقابل المعاني والبيان، لا، إنما أراد به الثلاثة الفنون. فالظاهر أن الناظم هنا مشى على القول بأن البيان يُطلق على الثاني والثالث. وقوله: (عِلْمَيِ الْبَيَانِ وَالمَعَانِي) يُشير لذلك لماذا؟ لأن تخريجه على قول (عِلْمَيِ الْبَيَانِ وَالمَعَانِي) ونقدر علم المعاني، حينئذٍ ذكر ثلاثة أو لا؟ لو قلت هكذا: علميِ البيان وعلم المعاني، هل دخل البديع؟ دخل البديع، لأن البيان يشمل البيان الخاص والبديع، فإذا قلت: ... (عِلْمَيِ الْبَيَانِ) المراد به البيان الخاص، والبديع، (وَالمَعَانِي) أي: علم المعاني حينئذٍ يكون نص على الثلاثة وأشار إليه بهذا، [فالمراد $]، وقوله (عِلْمَيِ الْبَيَانِ وَالمَعَانِي) يُشير إلى ذلك لأنه ثنى العلم فكأنه قال: علمي البيان الذين هما البيان والبديع، وعلم المعاني، فالمراد بالبيان ما يعم البديع تغليبًا للثاني على الثالث، وهو كثيرٌ في كلام الزمخشري في كشافه كما ذكره المرشدي عنه. وفي قول الناظم (لَطِيفَةَ المَعَانِي) مع ما قبله و (المَعَانِي) الجناس التام يعني: نوعٌ من أنواع البديع لأنه قال ماذا؟ فِي عِلْمَيِ الْبَيَانِ وَالمَعَانِي ... أَرْجُوزَةً لَطِيفَةَ المَعَانِي المعاني المعاني مصراع على الأول ومصراع على الثاني، هل هما متحدان؟ في اللفظ نعم، وفي المعنى لا، لأن المراد بالأولى المعاني المراد بها العلم الخاص، والمعاني الثانية جمع، فالأولى مفرد والثانية جمع، ومراد الناظم إلى الأولى غير مراده من الثانية، إذًا اتحدا في اللفظ واختلفا في المدلول والمعنى، وحينئذٍ نقول: هذا يسمى جناسًا تامًا. فالمراد هنا حينئذٍ على ما ذكرنا لا يَرِد اعتراض من اعترض بأنه لم يذكر البديع.

ثم قال الناظم: (أَبْيَاتُهَا). أي: الأرجوزة، أي عدد أبياتها جمع بيتٍ (عَنْ مِائَه) أي: مائة بيتٍ، التنوين هنا عوضٌ عن المضاف إليه، فالتنوين عوضٌ عن مضاف (لَمْ تَزِدِ) وهذا على القول بأن البيت اسمٌ للمصراعين، وهذا هو الصحيح، وأنها من كامل الرجز لا من مشطوره. (أَبْيَاتُهَا) أي: أبيات الأرجوزة (لَمْ تَزِدِ) عن مائة، وقوله: (أَبْيَاتُهَا) مبتدأٌ على حذف مضاف أي عدد أبياتها، لأن (مِائَه) هذا شيءٌ معدود، فحينئذٍ لا بد من التقدير، لكن هذا التقدير ليس من أجل الإعراب، وإنما من أجل المعنى، قد يكون المقدر يقدر لأجل صحة الإعراب، كقولك الحمد لله، لله لا يصح أن يكون خبرًا فلا بد أن يكون ثَمَّ محذوفًا، لله ثابتٌ لله، إذًا التقدير هنا من أجل صحة الإعراب، وقد يكون التقدير من أجل صحة المعنى، وهذا لا مدخل له في الإعراب وإنما مدخله في حل البيت. إذًا (أَبْيَاتُهَا) مبتدأٌ والضمير هنا عاد إلى (أَرْجُوزَةً)، وهو مبتدأٌ على حذف مضاف و (عَنْ مائةٍ) متعلق بقوله: (تَزِدِ). وجملة (لَمْ تَزِدِ) بتحريك الدال من أجل الوزن، فعل مضارع مجزومٌ بـ (لَمْ) وجزمه سكون مقدرٌ على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة الروي، (لَمْ تَزِدِ) هي أي: الأبيات ولذا أنث الفعل لأنه جمعٌ، والجمع كل جمعٍ مؤنث كما قال الزمخشري، والجملة خبر المبتدأ. (فَقُلْتُ غَيْرَ آمِنٍ مِنْ حَسَدِ) (فَقُلْتُ) الفاء هذه فصيحة فاء فصحية، كأنه قيل له ماذا نظمت في علمي البيان والمعاني؟ ما هي هذه الأرجوزة؟ قال: (فَقُلْتُ) حال كوني (فَقُلْتُ) هذا النظم المذكور حال كوني (غَيْرَ آمِنٍ) اسم فاعل من أَمِنَ كعَالِم من عَلِمَ وهو من باب فَعِلَ، والأمن ضد الخوف (غَيْرَ آمِنٍ) أي: خائف (مِنْ حَسَدِ) حاسدٍ، والحسد تمني زوال النعمة عن المحسود، لماذا خشي على نفسه من الحسد؟ لأنه نظم أهم المسائل في هذا الفن في مئة بيت، وهذا فيه تحدٍ لغيره؟ لأنه نظم في مئة بيتٍ فهو مع قلة عدد أبياته إلا أنه استوفى أهم مسائل علمي المعاني والبيان، فهو خائفٌ من أن يَحْسُدُه حاسدٌ على هذا العمل الذي قَلَّ فيه نظراءه، والله أعلم. وصلًّ الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

2

عناصر الدرس * الفصاحة وموصوفاتها. هذا يقول: الذي لم يدرس البلاغة قطعًا الذي يحفظه، إن كان عنده همة على ((الجوهر المكنون)) فبه يبدأ، لماذا؟ لأنه قد يقول: أحفظ ((مائة المعاني)) وأحفظ ((عقود الجمان))، قد يموت وما حفظ ((عقود الجمان)) سويت، وقد لا يجد من يشرحها له، فهناك عوائق يعني لأن كونه يجعل ((عقود الجمان)) من محفوظاته هذا شيء موهوم متخيل في الذهن، قد لا يكون شاهد له واقع، فَيُفَوِّت على نفسه الخير الكثير، لكن لو يحفظ الجوهر ثم أن تسنى له أن يحفظ ((العقود الجمان)) جيد، وأما أن يسوف ويحفظ النظم هذا، هذا ما يسمن، لا يكفي، لا يكفي على الأقل # 0.50 ... سائله من ((الآجرومية)) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال الناظم رحمه الله تعالى: ................... ... فَقُلْتُ غَيْرَ آمِنٍ مِنْ حَسَدِ فَصَاحَةُ المُفْرَدِ فِي سَلاَمَتِهْ ... مِنْ نُفْرَةٍ فِيهِ وَمِنْ غَرَابَتِهْ وَكَونُهُ مُخَالف الْقِيَاسِ ... ثُمَّ الفَصِيحُ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ مَا كَانَ مِنْ تَنَافُرٍ سَلِيمَا ... وَلَمْ يَكُنْ تَألِيفُهُ سَقِيمَا وَهْوَ مِنَ التَعْقِيدِ أَيْضاً خالِي ... وَإِنْ يَكُنْ مُطَابِقاً لِلْحَالِ فَهْوَ الْبَلِيغُ وَالَّذِي يُؤَلِّفُهْ ... وَبِالْفَصِيح مَنْ يُعَبِّرْ تَصِفُهْ وَالصِّدْقُ أَنْ يُطَابِقَ الْوَاقِعَ مَا ... يَقُولُهُ وَالْكذْبُ إِنْ ذَا يُعْدَمَا (وَالْكذْبُ ذا إن عدما - في نسخةٍ أخرى). اعلم أنه لما كانت معرفة البلاغة متوقفةً على معرفة الفصاحة، إذًا ثَمَّ أمران: بلاغة وفصاحة. أيهما متوقفٌ على الآخر؟ البلاغة متوقفةٌ على معرفة الفصاحة. إذًا لما كانت معرفة البلاغة متوقفةً على الفصاحة لكون الفصاحة مأخوذةً في تعريف البلاغة وجب تقديم تعريف الفصاحة على تعريف البلاغة. إذًا لا نبدأ بالحديث عن البلاغة أولاً، وإنما نتحدث أولاً عن الفصاحة. ثم هذه الكلمة فصاحة وما اشتق منها موصوفاتها ثلاثة، يعني: ثلاثة أشياء: مفرد وكلامٌ ومتكلم. يقال: مفردٌ فَصِيح، أو كلمةٌ فَصِيحَة، مفرد بمعنى الكلمة، ومتكلمٌ فصيح، وكلامٌ فصيح، فالموصوف بهذه اللفظة ثلاثة أشياء، ولا شك أن ثَمَّ فرقًا بين الكلمة الواحدة الموصوفة بكونها فصيحة وبين المتكلم أنه ذات الشخص وبين الكلام نَفْسِه، فثَمَّ فروقٌ بينها وكل واحدٍ من هذه الثلاث يحتاج إلى وقفةٍ من حيث الشروط. لما كانت معرفة فصاحة الكلام والمتكلم وهي المقصودة متوقفةً على معرفة فصاحة المفرد، لأن من هو المتكلم الفصيح؟ هو الذي عنده مَلَكَة يقتدر بها على إنشاء كلامٍ فصيح، إذًا لا بد من معرفة أول المفرد الفصيح أو الكلمة الفصيحة، وكذلك الكلام ما هو الكلام الفصيح؟ المشتمل على كلماتٍ فصيحة، فحينئذٍ وجب تقديم معرفة فصاحة الكلمة أو المفرد على معرفة فصاحة المتكلم والكلام. فقال الناظم:

(فَصَاحَةُ المُفْرَدِ) بعضهم جعله (فَصَاحَةُ المُفْرَدِ) مقول القول فقلت: (فَصَاحَةُ المُفْرَدِ) قلت: هذا النظم .. إلى آخره. (فَصَاحَةُ المُفْرَدِ) أي: فصاحة اللفظ المفرد، (فَصَاحَةُ) هي في الأصل صفة اللبن الذي أخذت رغوته، اللبن له رغوة تعرفونها؟ له رغوة إذا أخذت الرغوة قيل: هذا لبنٌ فصيح، والفصيح هو هذا اللبن وفَصُحَ إذا أُخِذَت رغوته هذا معنًى أول، والإبانة فصاح الإبانة، يقال أفصح الفصيح إذا ظهر، قال تعالى حكايةً عن موسى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} [القصص: 34]. يعني: أبين مني قولاً، إذًا الفصاحة تأتي في اللغة بمعنى الإبانة، فالفصاحة فَعَالَة من فَصُحَ لأن فَعُلَ له وزنان منهما فَعَالةٌ لفَعُلَ، فهي في اللغة تنبئ عن الظهور والإبانة، يقال فصح الأعجمي وأفصح إذا انطلق لسانه وخلصت لغته من اللُُّكْنَة، وقيل: الفصاحة لغةً الإيضاح، يقال: أفصح عن مراده إذا أوضحه، إذًا المشهور أن الفصاحة وهي فعَالة مصدر لفَعُلَ فَصُحَ مشهور أنها بمعنى الإبانة والظهور، تنبئ عن معنى الظهور والإبانة، والذي يوصف كما مرَّ معنا في الفصحة ثلاثة أشياء. أولاً: المفرد، فقدمه لكونه لا يُعرف فصاحة المتكلم ولا الكلام إلا بمعرفة فصاحة المفرد، فقال: (فَصَاحَةُ المُفْرَدِ). أي فصاحة اللفظ المفرد، فالمفرد وصفٌ لموصوفٍ محذوف أي اللفظ المفرد، والمراد بالمفرد هنا الكلمة الواحدة، فيقال: كلمةٌ فصحية ومرّ معنا أن تعريف المفرد بمال لا يدل جزءه على جزء معناه في النحو غلط وإن اشتهر عند ابن هشام وغيره والسيوطي كذلك والأشموني، هذا غلط من تداخل الاصطلاحات تداخل الفنون، فالمفرد الذي لا يدل جزءه على جزء معناه هو المفرد عند المناطقة، وأما المفرد هنا فهو الكلمة الواحدة، أو إن شئت قل: اللفظة الواحدة، أو التلفظ بلفظٍ واحدٍ عُرفًا، قل هذا أو ذاك، لكن المراد به هو الكلمة الواحدة، تُسمى ماذا؟ وأنواع الكلمة ثلاثة: اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ. ثم قد يألف بين اسمين فيقال: عبد الله هذا لا يسمى مفردًا عند النحاة، وإنما يسمى مفردًا علمًا عبد الله علمًا، يُسمى مفردًا عند المناطقة، وهنا محل النزاع ولذلك سلم الأشموني بأنه كلمة واحدة، وكذلك السيوطي كلمة واحدة، ولكنه في تقدير كلمتان يعني باعتبار كونه مضافًا ومضافًا إليه قبل جعله علمًا وهو مركب إضافي من كلمتين، وبعد ذلك فلا، وهذا غلط لا يُسَلَّمُ لهما ولا لهم البتة، وقد نص على ذلك غير واحد. إذًا المراد بالمفرد هنا نفسره بما هو في لسان العرب، المفرد أي: الكلمة الواحدة، فيقال: كلمةٌ فصيحة ومفردٌ فصيح. متى نحكم على المفرد أو الكلمة بأنه فصيحٌ أو فصيحًا؟ قال: إذا سَلِمَ من ثلاثة أشياء، أن يخلص ويسلم ويتبرأ من ثلاثة عيوب، ما هي هذه العيوب؟ الأول: قال: (مِنْ نُفْرَةٍ فِيهِ). الثاني: (وَمِنْ غَرَابَتِهْ). الثالث: (وَكَونُهُ مُخَالف الْقِيَاسِ).

إذا انتفت هذه كلها حينئذٍ نقول: هذه المفردة وهذه الكلمة فصيحة، ألا يكون بين حروفها تنافر، ألا تكون الكلمة غريبة، ألا تكون الكلمة مخالفةً للقياس، واضح؟ ثلاثة شروط كلها باجتماعها حينئذٍ نحكم على اللفظ بأنه فصيح وعلى الكلمة بأنها فصيحة. (فَصَاحَةُ المُفْرَدِ) قال: (فِي سَلاَمَتِهْ) يقال: سَلِمَ من الآفات ونحوها سلامًا وسلامةً بَرِئَ في سلامةِ يعني: في بَرَاءته من العيوب والآفات المذكورة، وله كذا خلصًا فهو سالمٌ وسليم من هذه الأمور الثلاثة. إذًا (فَصَاحَةُ المُفْرَدِ) عرفنا المفرد المراد به هنا الكلمة الواحدة، (فَصَاحَةُ المُفْرَدِ) عند البيانيين اصطلاحًا: (سَلاَمَتِهْ) في ثلاثة أشياء، (فَصَاحَةُ المُفْرَدِ) (سَلاَمَتِهْ) في ثلاثة أشياء فمتى وجد في المفرد في الكلمة الواحدة شيءٌ من هذه الثلاثة لا تكون الكلمة فصيحة ولا يكون المفرد فصيحًا، لو سَلِمَ من الغرابة ومن مخالفة القياس لكنه لم يسلم من النُّفْرَة فالكلمة غير فصيحة، لو سَلِمَ من التنافر أو النُّفرة فيه ومن الغرابة لكنه مخالفٌ للقياس فالكلمة غير فصيحة. إذًا تحصيل المفرد الفصيح هو باجتماع هذه الثلاث بأن تنتفي كلها. (فَصَاحَةُ المُفْرَدِ فِي سَلاَمَتِهْ) أي: من ثلاثة أشياء أولها ما أشار إليها بقوله: (مِنْ نُفْرَةٍ فِيهِ)، (نُفْرَةٍ) فُعْلة على وزن فُعْلة، (مِنْ نُفْرَةٍ فِيهِ) هذا متعلق بقوله: (سَلاَمَتِهْ)، (فِي سَلاَمَتِهْ) سلامة قلنا: هذا مصدر بمعنى البراءة من العيوب، (مِنْ نُفْرَةٍ)، (سَلاَمَتِهْ) (مِنْ نُفْرَةٍ) أو (مِنْ نُفْرَةٍ) فقوله: (مِنْ نُفْرَةٍ) متعلقٌ بقوله: (سَلاَمَته) والضمير في (فِيهِ) يعود إلى المفرد، (مِنْ نُفْرَةٍ فِيهِ) يعني: في المفرد، والمراد هنا (سَلاَمَته) أي: خلوصه من نفرةٍ في مادته التي تركب منها المفرد، يعني ألا يكون بين حروفه (نُفْرَةٍ)، والمراد بالنُّفرة التنافر، يعني: ألا يكون بين حروف اللفظ الواحد منافرةً، بأن يكون أحدهما من مخرجٍ والثاني تاليه من مخرجٍ يبعد عن ذلك المخرج أو يكون قريبًا ويكون النطق بالحرفين فيه ثقلٌ وعسرٌ، والمراد هنا خلوصه من نفرةٍ في مادته المتركب هو من حروف، أي: لا تتنافى حروفه فَتَتَنَافَر، فالتنافر وصف في الكلمة أو المفرد، التنافر هنا في الحروف يعني الكلمة الواحدة أن يكون بين حروفها تنافٍ وتنافر، وهذا عندهم على قسمين: أعلى وأدنى. لا بد من ذكره هذا الموضع أعلى وأدنى.

الأول: ما تكون الكلمة به في غاية الثِّقَل على اللسان، يعني بلغت من النفرة بين الحروف ما ثَقُلَ على اللسان النطق بها، مثل ما رُوِيَ عن أعرابي وهذا مثالٌ مشهور - وأنا أعتمد الأمثلة المشهورة عند البيانيين بحيث لو فتحت ((التلخيص)) أو شروح ((التلخيص))، أو ((الإيضاح))، أو ((عقود الجمان)) تجد المثال هُوَ هُوَ، ولا نأتي بأمثلة عصرية مؤلفة لأنها لا تنفع، وهي تضر أكثر مما تنفع - ما رُوِيَ عن أعرابي أنه سُئِلَ عن ناقته أين هي؟ فقال: تركتُها ترعى الهعخع. هُعْخع أي بين الحروف تنافي وتنافر، هعخع اجتمعت الهاء مع العين والأول مضموم والثاني ساكن فحصل تنافي بين الحروف يعني: ثِقَل في النطق، فإذا حصل ثِقَلٌ في النطق وعسرٌ في النطق حينئذٍ حكمنا على الكلمة بأنها غير فصيحة، وقيل في ضبطه هِعْخَع بكسر الهاء وإسكان العين وهو نبت يُتداوى به وقيل غير ذلك، ليس المراد المعنى، لأنه قيل: لا وجود له. لكن هذا المثال مذكور عندهم، فالهعخع قالوا: حصل تنافر بين الحروف مما أدّى إلى ثقل على اللسان بل غاية في الثقل على اللسان، حينئذٍ نحكم على هذه الكلمة وإن سُمِعَتْ من أَعْرابي إن صح فحينئذٍ نحكم عليها بكونها غير فصيحة. ما السبب هنا في التنافر؟ قالوا: سبب التنافر في هذه الكلمة ثِقَلُها باجتماع الحروف المتقاربة المخرج لاسيما الهاء والعين، فإنه لا يكاد واحدٌ منهما يأتلف مع الآخر من غير فصل، الهاء والعين من مخرج واحد تقاربا، في لسان العرب أنه لا يكاد يوجد الهاء والعين إلا بينها فاصل، هع جاءت متتالية فحينئذٍ نقول: هذه التوالي والتتابع سببا ثِقَلاً في اللسان. الثاني: من نوعي التنافر ما هو دون ذلك، أقل، لم يصل لدرجة الهعخع وإنما هو أقل من ذلك، كلفظ مُسْتَشْزِرَات هذا فيه ثِقَل، لا بد من كسرها حتى تنطق به مُسْتَشْزِرَات، الواقع في قول امرئ القيس: غدائره مستشزراتٌ إلى العلا. أي: مرتفعات. قالوا: سبب التَّنافر هنا توسط الشين وهي مهموسةٌ رِخْوة بين التاء وهي مهموسةٌ شديدة والزاي وهي مجهورة، إذًا ... [لكونها لوقوع الحروف هنا بين أو] (¬1) لوقوع التنافي والتنافر بين الحروف حكمنا عليها بكونها غير فصيحة. هذا هو المشهور عند البيانيين أن النظر في المخرج وفي صفات الحرف، والمرجح أن النظر هنا إلى الذوق السليم، فقد يحكم على الكلمة بكونها غير فصيحة لتقارب المخارج، وقد يحكم على كلمة بأنها غير فصيحة لماذا؟ لتباعد المخارج، نحكم كونها غير فصيحة لوجود التنافر أو لغير ذلك، فالحق أن التنافر بين الحروف في الكلمة الواحدة مرده إلى الذوق لا إلى مخرج الحرف - كما اشتهر عند كثير من المتأخرين -، فكل ما عده الذوق السليم الصحيح ثقيلاً متعسرًا يعني: متعسرًا النطق فهو متناقر سواءٌ كان من قُرب المخارج أو بعدها أو غير ذلك، هذا الأول. إذًا (من نفرةٍ فيه) يعني: من تنافرٍ فيه يعني في المفرد بأن تكون حروفه متنافرة أي: متباعدة، وهذا إنما يكون على مرتبتين: غاية في التنافر، ما هو دونه، وبناء هذا التنافر على المخارج بُعْدًا وقُرْبًا، والصحيح أن مرده إلى الذوق السليم. ¬

_ (¬1) سبق.

وأشار إلى الثاني مما يسلم فيه أو منه المفرد بقوله: (وَمِنْ غَرَابَتِهْ) هذا الشيء الثاني الذي يُشترط في الحكم على فصاحة المفرد بكونه فصيحًا السلامة من الغرابة، أي: سلامته أي: المفرد من الغرابة، وهي أن تكون الكلمة مستعملة وحشية غير ظاهرة المعنى ولا مهموسة الاستعمال، الحيوان الوحشي يعني: غير مألوف، إذا كانت الكلمة غير مأنوسة غير مستعملة لا يستعملها العرب بل هي مهجورة تُسمى ماذا؟ تسمى غريبة. واستعمال هذا النوع يُخِلّ بالفصاحة، على خلاف ما انتكست المفاهيم الآن، الذي يستعمل الغريب من الألفاظ يُعَدُّ بليغًا، وهذا غلط بمعنى أنك إذا سمعت كلامًا ما واحتجت إلى القاموس بجوارك فهذا ليس ببليغ لماذا؟ لأنه استعمل كلمةٍ تحتاج إلى الرجوع إلى القواميس والمعاجم، إذًا (وَمِنْ غَرَابَتِهْ) أي: سلامته من الغرابة وهي أن تكون الكلمة وحشية غير ظاهرة المعنى ولا مأنوسة الاستعمال أي: بالنسبة إلى العرب العربان، يعني: لا بالنسبة إلى استعمال الناس، فيحتاج حينئذٍ إلى معرفة هذه الكلمة ومعناها يحتاج إلى أن يُنَقَّرَ عنها في كتب اللغة المبسوطة كما رُوِيَ مثالٌ غريب عن عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حمارٍ فاجتمع عليه الناس فقال ماذا؟ ما لكم تكأكأتم علي تكأكأكم على ذي جنة افرنقعوا. افرنقعوا مستعملة هذه؟! يعني اجتمعتم عليّ فتنحو، تكأكأتم يعني: اجتمعتم، هذه لو سَمِعْتَ تكأكأتم من خطيب تحتاج إلى قاموس يكون بجوارك القاموس، إذًا لما كانت هذه الكلمة غير مستعملة غير مأنوسة حكمنا عليها بأنها وحشية، وإذا كانت وحشية فهي غريبة، وإذا كانت غريبة فهي غير فصيحة، لأن من شرط فصاحة المفرد أن يسلم ويَخْلُصَ من الغرابة، وهذه الكلمة غريبة، يعني المراد بالغرابة وكون الكلمة غريبة أنك تحتاج إلى أن تنقر في كتب المعاجم من أجل أن تعرف ما معنى هذه تلك الكلمة. ما لكم تكأكأتم علي تكأكأكم على ذي جنة، الذي يسمعك يظن أنك تتكلم انكليزي ولا فرنسي، ما يدري أن هذه تكأكأتم هذه كلمة عربية، إذًا يحتاج إلى البحث هذا ماذا؟ افرنقعوا عني. أي اجتمعتم وتنحو عني.

أو يكون معنى الغرابة - وهذا هو الأصل فيها - أن يكون معنى الغرابة أن يُخَرَّجَ لها وجهٌ بعيد، يعني: يُطْلِقُ لفظ ويريد به معنًى ولا يتضح معناه، يعني غير ظاهرة الْمَعْلَم مع كون الكلمة مستعملة لكنه لكونه أوردها في تركيبٍ ما احتاج إلى أن يُنَقَّر وأن يُبْحث وأن يتأمل ماذا أراد بهذا اللفظ، كما في قول العجاج: وفاحمًا ومرسنًا مُسَرًّجًا. مُسَرًّجًا كلمة ليست مثل في تكأكأتم ها ولا هُعْخع وإنما هي مستعملةٌ في موضعٍ بالتركيب قد أدى إلى لبسٍ في فهم المراد، فهي غير ظاهرة لماذا؟ ولذلك لم يعرف ما أراد بقوله مُسَرًّجًا كما نص القزويني على ذلك حتى اخْتُلف في تخريجه على أقوال: ماذا أراد مُسَرًّجًا؟ فقيل: هو من قولهم للسروج سُرَيْجِيَّة منسوبةً إلى قيمٍ حداد يقال له سُرَيْج، وفاحمًا ومرسنًا مُسَرًّجًا. يعني: السيوف مُسَرَّجَة يريد أنه في الاستواء والدقة كالسيف السُّريجي، وقيل: لا، بل هو من السِّراج يريد أنه في البريق كالسراج وهذا يقرب من قولهم: سَرِجَ وجْهُهُ، أي حَسُنَ، وسرَّج الله وجهه أي بهجه وسنه. إذًا لما احتملت معنيين، واختلف في المراد بالمعنى من الكلمة لم يتضح المراد، قالوا: هذه نوع غرابة فتجعل الكلمة غير فصيحة لكونها غريبة. إذًا الغرابة المراد به نوعان: غرابةٌ لا يُدرى ما المعنى حتى يُرجع إلى المعاجم. غرابةٌ بأن تكون الكلمة مستعملة ومأنوسة إلا أنه خَرَّجَهَا على معنًى بعيد، أو أنه لما أطلقها في تركيب ما احتملت وجهين فأكثر. وأشار إلى الثالث في قوله: (وكونه مخالف القياس) كونه بالجر عطفًا على قوله: (مِنْ نُفْرَةٍ) من (كونه مخالف القياس) عطف على قوله ... (نُفْرَةٍ)، (وَكَونُهُ) أي المفرد، (مُخَالف)، (مُخَالف) اسم فاعل أو مفعول؟ خَالَفَ يُخَالِفُ فهو مُخَالِف إذًا اسم فاعل من خَالَفَ عن الأمر خَرَجَ، إذًا (مُخَالف) بكونه مخالفًا، (مُخَالف) هذا خبر كون، ... (مُخَالف) أي خارجًا عن القياس، والمراد بالقياس هنا قياس الصرفي، يعني لم يأت هذا اللفظ المفرد على سنن قواعد الصرفيين بأن يكون مخالفًا لها، ولو عبَّر بالقانون لكن أحسن، أي لقاعدة من قواعد عربية وذلك بأن تكون الكلمة على خلاف القانون المستنبط من تتبع لغة العرب أعني مفردات ألفاظهم الموضوعة، وما هو في حكمها كوجوب الإعلال في نحو قَامَ، قَامَ أصله قَوَمَ لو استعمل قال: قَوَمَ زيد. لو تكلم متكلم قال: أنا ما أريد أن أُعِلّ، ما دام أن أصل الألف هذه اتفاقًا أصلها واو، وأصله باب فَعَلَ والكلّ اتفقوا على أن الأصل قَوَمَ، قال: قَوَمَ زيدٌ، ما حكمه؟ نقول: خالف القياس هنا، القياس الصرفي، حينئذ قَوَمَ استعمالها ليس فصيحًا، فهذا اللفظ انتفى عنه وصف الفصاحة لكونه مخالف القياس، إذًا كوجوب الإعلال في نحو قَامَ، والإدغام في مَدّ، نقول: هذا استعمال لِمَا هو على القياس، لو فَكّ الإدغام واستعمله مَدَدَ حينئذ نقول: هذا خالف القياس. وغير ذلك مما اشتمل عليه علم الصرف، والتعبير بالقياس يَرِدُ عليه أن نحو أَبَى يَأْبَى هذا مخالف للقياس، وهل هو فصيح أم لا؟

قطعًا فصيح لأنه جاء في التنزيل {وَيَأْبَى اللهُ} [التوبة: 32] إذا هو مخالف للقياس، هل قوله: (وَكَونه مُخَالف الْقِيَاسِ) أن كل ما خالف القواعد الصرفية وحُكم عليه بأنه شاذَّ فاستعمال هذا الشاذّ يكون ليس فصيحًا؟ لا، ليس هذا المراد، وإنما المراد ما نطقت به العرب سواء وافق القياس الصرفي أم لا؟ فحينئذ ما وافق القياس وما خالف القياس الصرفي - القواعد العامة - كله يُسمى فصيحًا، لكن لَمَّا قال: (وَكَونه مُخَالف الْقِيَاسِ) أَوْهَمَ بأن ما خالف القياس ليس فصيحًا فلا بد من التعبير الدقيق أن يقال ما خالف القانون، قانون الوضع العربي، وقد وضعت العرب بعض الألفاظ موافقةً للقياس الصرفي مصطنع عليه وبعضها مخالف، إذًا كلا النوعين - المسموع الذي يُعَبَّرُ عنه بكونه مسموعًا والقياسي - كلا النوعين نقول: استعماله يكون فصيحًا. إذًا التعبير بالقياس يَرِدُ عليه أن نحو أَبَى يَأْبَى، وعَوِرَ، واسْتَحْوَذَ، وما أشبه ذلك من الشواذ الذي عنون له الصرفيون بالشاذّ الثابتة في اللغة هي من المخالفة للقياس فلا توصف بالفصاحة، لو وقفنا مع كلمة القياس وليس الأمر كذلك، ليس الأمر كذلك، بل ليست من المخالفة في شيء لأنه كذلك ثبتت عن الواضع في حكم المستثنات. ولو عبر بالقانون لشمل النوعين. إذًا عندنا سماعي وعندنا قياسي، أليس كذلك؟ كلا النوعين موافقته والنطق به يكون ماذا؟ موافقًا للفصاحة. فقول الناظم كغيره من أرباب فن (مخالف القياس) أوهم أن ما خالف القياس صار في القواعد العامة وسُمِّي بالشاذّ أنه ليس بفصيح، وليس الأمر كذلك، فالمخالفة ما لا يكون على وفق ما ثبت عن الواضع، هذا المراد بـ (مُخَالف الْقِيَاسِ) ما لا يكون على وفق ما ثبت عن الواضع نحو ماذا؟ مَثَّلُوا له بـ (الأجلل) يعني ما خالف قانون العربية كقول الشاعر: الحمد لله العلي الأجْلَلِ الأجلل الأصل الأجلّ بالإدغام، هل سُمِعَ الأجلل؟ لا، ما سمع، إذًا الأجلّ فكّه من أجل الوزن، أَجْلَلِ نقول: هذا لم يستعمله العرب هكذا، وإنما فكّ الإدغام. هل نطقت العرب بهذا اللفظ؟ الجواب: لا. إذًا هذا اللفظ نقول غير فصيح لكونه مخالفًا لِمَا وضعه الواضع الذي تكلم بهذه الألفاظ، فإن القياس الأجلّ بالإدغام، إذًا فصاحة المفرد خلوصه من ثلاثة أشياء: (من نفرة فيه) أي المفرد، (وَمِنْ غَرَابَتِهْ) يعني غرابته من حيث المعني، النفرة تعود إلى الحروف اللفظ، والغرابة تعود إلى المعنى، (وَكَونُهُ مُخَالف الْقِيَاسِ) تعود إلى الوضع العام، يعني ما نطقت به العرب سواء ما سُمِّي سماعيًا عند الصرفيين أو سمي قاسيًا فكلا النوعين يكون موافقته موافقة للقياس، فهذه الثلاثة لا بد من اعتبارها عند الحكم على اللفظ بكونه فصيحًا. علامة كون الكلمة فصيحة أن يكون استعمال العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرًا - وهذا هو الميزان - وليست الفصاحة أن يأتي بألفاظ لا يعرفها السامع - ليقال بليغ ونحو ذلك هذا غلط هذا جاهل، فحينئذ نقول: ما كثر استعماله في لسان العرب هو الذي يستعمله الفصيح والبليغ، فنحكم على الكلمة بكونها فصيحة إذا كثر استعمالها في لسان العرب أو أكثروا من استعمالها أو أكثروا من استعمالها ما بمعناها.

ثم أشار إلى الثاني مما يوصى بالفصاحة وهو الكلام فقال: ................... ... ثُمَّ الفَصِيحُ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ مَا كَانَ مِنْ تَنَافُرٍ سَلِيمَا ... وَلَمْ يَكُنْ تَألِيفُهُ سَقِيمَا وَهْوَ مِنَ التَعْقِيدِ أَيْضاً خالِي ... ............................. يقال كلام فصيح، ومتى يعتبر الكلام فصيحًا؟ الأول كلامه في ماذا؟ في المفردات فنحكم على اللفظ كونه فصيح مفرد، الكلمة الواحد نحكم عليه بكونها فصيحة إذا اجتمع فيها السلامة من الثلاثة الأمور السابقة، الآن في الكلام الجملة المفيدة سواء كانت اسمية أو فعلية مع متعلقاتها، متى نقول هذا كلام فصيح؟ ومتى نقول هذا الكلام غير فصيح؟ لا بد من أن يشتمل على سلامته من ثلاثة أشياء، يعني وافق فصاحة المفرد في كونه لا بد أن يسلم من ثلاثة أشياء: الأول: (مِنْ تَنَافُرٍ). ثاني: (لَمْ يَكُنْ تَألِيفُهُ) ضعيفًا. الثالث: (مِنَ التَعْقِيدِ خالِي). ليخلو من التعقيد. إذا أشار إلى ثاني مما يوصف بالفصاحة وهو الكلام، فقال: (ثُمَّ) هذا للترتيب الذكري، (الفَصِيحُ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ) أي الكلام الفصيح، فمن هنا بيانية، (الفَصِيحُ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ) فالكلام يوصف أيضًا بالفصاحة وهي خلوصه من ثلاثة أشياء، أشار إلى الأول منها بقوله: (مَا كَانَ مِنْ تَنَافُرٍ سَلِيمَا)، (مَا) اسم موصول، والمراد به هنا الكلام، اسم موصول يقع على الكلام، أي الكلام الذي (كَانَ) هو اسم كان ضمير مستتر يعود إلى ما، (سَلِيمَا) (مِنْ تَنَافُرٍ)، (سَلِيمَا) هذا خبر كان أي سالِمًا، ... (سَلِيمَا) أي سالِمًا (مِنْ تَنَافُرٍ) هذا متعلق بقوله (سَلِيمَا) واضح؟ فاسم (كَانَ) ضمير (مَا)، و (سَلِيمَا) بمعنى سالِمًا خبر (كَانَ)، و (مِنْ تَنَافُرٍ) متعلق به يعني بالخبر، والتنوين هنا (تَنَافُرٍ) عوض عن المضاف إليه، أي من تنافر الكلمات، التنوين عوض عن المضاف إليه، والمراد هنا بهذا القيد والشرط أن يقع التنافر بين الكلمات اثنين فأكثر، أي منافرة كل واحدة بالأخرى، فإذا وقع الكلام متنافرًا بأن وقع تنافر بين كلمة وكلمة أخرى مع كون كل كلمة على حدة فصيحة - مفرد فصيح - حكمنا على الكلام بكونه غير فصيح. (مِنْ تَنَافُرٍ) (سَلِيمَا) يعني سَلِمَ من التنافر أي تنافر الكلمات، فالمراد هنا بالتنافر تنافر الكلمات أن يَقَعَ التنافر بين الكلمات يعني اثنين فأكثر، أو اثنتين فأكثر، أي منافرة كل واحدة للأخرى لا منافرة أجزاء الكلمة بعضها لبعض، لأنه لو ثبتت المنافرة بين أجزاء الحروف نَعُدّ اللفظ والكلمة غير فصيحة. إذًا الكلام هنا ليس بالكلمة ذاتها، التنافر نوعان: تنافر في ذات الكلمة مثل الهعخع، الهاء مع العين، لكن هنا عندنا التنافر بين كلمة وكلمة، وكل كلمة على حدة لو فككناها عن الجملة فهي فصيحة، لكن لكونها قربت من هذه الكلمة وَلَّدَتْ ثِقَل في اللسان، فالتنافر هنا باعتبار ضم كلمة إلى أخرى، لأننا تكلم في الكلام، والكلام فيه إسناد مُسْنَد ومُسْنَد إليه، فإذا ضم هذه الكلمة إلى تلك الكلمة وحصل تنافر نقول: وجد تنافر بين الكلمات، أي منافرة كل واحدة للأخرى لا منافرة أجزاء الكلمة الواحدة بين ذلك من الفصاحة الكلمة.

فالمتنافر من كلامٍ أن تكون كلماته ثقيلة على اللسان، وإن كان كل منها فصيحة بإنفرادها، فمنهم ما هو أعلى ومنه ما هو دون، يعني كالتنافر في المفرد، يعني منه ما بلغ الغاية في التنافر ومنه ما هو دون ذلك. الأول: مَثَّلُوا له بمثال مشهور بقوله: ((وليس قرب قبر حرب قبر)). وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر قرب لوحدها فصيحة، وقبر فصيحة، لكن لَمَّا ضُمّ بعض الكلمات إلى بعض في هذا الموضع صار فيها ثقل على اللسان، وليس قرب قبر حبر قبر، هنا القافات متتالية ثم الراءات فصار هناك ثِقَل في اللسان، قالوا: هذا تنافر بين الكلمات، فكل كلمة على حدة هي فصيحة، قرب فصيحة، قبر فصيحة لكن لَمَّا جمع بينهما في سياق واحد وفي مصراع واحد، والشاهد في المصراع الثاني، قالوا: هذا تنافر بين الكلمات. قال الرماني في هذا البيت: ذكروا أنه من شعر الجن. يعني هذا البيت وأنه لا يتهيأ لأحد أن يُنْشِدَهُ ثلاث مرات فلا يَتَتَعْتَع، [ها من ينشده ثلاث مرات وله جائزة] ((وليس قرب قبر حرب قبر))، قالوا: لا يستطيع أن يأتي به ثلاثة مرات، سَهْل جئت به كم مرة، إذًا قالوا: هنا حصل تنافر بين الكلمات، وهذا النوع أعلى مراتب التنافر، وهو من تنافر الكلمات لأن كل كلمة على انفراده لا تنافر فيها. الثاني: نحو قول أبي تمام: كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي وإذا ما لُمْتُه لُمْتُهُ وحدي قالوا: أمدحه لوحدها لا تنافر فيها، لوجوده في القرآن {فَسَبِّحْهُ} ... [الطور: 49] لَمَّا كُرِّرَتِ الكلمة صار فيه نوع ثِقَل أَمْدَحُهُ أَمْدَحُهُ إذا حصل فيه نوع ثقل والحكم بالثقل هنا كما سبق إنما يكون المرد فيه إلى الذوق السليم، الإنسان من نفسه يقول: ما فيه بأس. نقول: لا، غيرك من أهل البيان يراه أن به بأس. إذًا التكرار هنا ليس كالتكرار السابق، فالتنافر بين أجزاء أمدحه وأمدحه ليس كالتنافر بين ((ليس قرب قبر حرب قبر))، فهذا أخفّ من الأول، فإن قوله: أمدحه ثِقَلاً ما لكنه أقل من السابق لِمَا بين الحاء والهاء من تنافر لتقارب المخرجين، هكذا علل كثير، وقيل: سبب التنافر ليس هو تقارب الحرفين لأنه موجود في القرآن {فَسَبِّحْهُ} لو حكمنا على ذلك لقلنا التنافر بين حرفين يُخرج الكلمة عن كونها فصيحة، وهذا لا وجود له في القرآن البتة، الفصيح القرآن كلماته ومفرداته وتراكيبه كلها في أعلى درجات الفصاحة، ليس فصيح بحسب، فحينئذ {فَسَبِّحْهُ} الحاء والهاء جاءا في القرآن، إذًا الجمع بين الحاء والهاء في كلمة واحدة لا يُعَدّ تنافرًا لماذا؟ لوجوده في القرآن، ولذلك ما قلنا مرارًا في دروس اللغة أننا نستدل على إثبات القواعد بالقرآن، ولا نأتي نقعد قواعد من كلام أهل الجاهلية ثم نأتي نقول: القرآن خالف القاعدة هذا خلل، وإنما العكس هو الصحيح، أن نقعد من القرآن وما جاء به القرآن فهو أعلى درجات الفصاحة، وما جاز في القرآن فهو قاعدة بذاتها، نعم قد تقل قد تكثر، هذا يختلف باختلاف المواضع.

إذًا أمدح قيل سبب التنافر تكرار أمدحه خاصة بما فيه من الثقل بين الحاء والهاء، يعني النظر هنا لا لذات اللفظ وإنما إلى التكرار، فمنشأ الثقل في الأول السابق نفس اجتماع الكلمات، وبالثاني تكرير أمدحه دون مجرد الجمع بين الهاء والحاء لوقوعه في القرآن في قوله: {فَسَبِّحْهُ}. إذًا هذا هو الأول وهو (ثُمَّ الفَصِيحُ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ مَا) أي كلام كان، أي هذا الكلام (سليمَا) من تنافر، أي سلم من تنافر الكلمات بعضها مع بعض، وهذا على نوعين: أعلى، ودون. ثم أشار إلى الثاني مما يشترط في الكلام الفصيح أن يسلم منه وقوله (وَلَمْ يَكُنْ تَألِيفُهُ سَقِيمَا)، والمشهور عند البيانيين ضعيفًا، ضعف التأليف، هذه وزنها ولكنه لم يرد عندهم [سليمًا] ضعيفًا هو المراد [بالسليم] الضعيف، (وَلَمْ يَكُنْ تَألِيفُهُ)، (وَلَمْ يَكُنْ تَألِيفُهُ) أي تأليف الكلام الضمير في تأليف هنا يعود إلى الكلام وهو اسم (يَكُنْ)، تأليف اسم (يَكُنْ) لذلك رفع، و (سَقِيمَا) خبره، خبر (يَكُنْ) أي الذي سَلِمَ من الكلمات من التنافر تأليفه أي الذي سَلِمَ من الكلمات من التنافر (سَقِيمَا) أي ضعيف التأليف، لم يكن تأليفه [سليمًا]، لم يكن تأليفه (سَقِيمَا) ليس سليمًا (¬1)، لم يكن تأليفه (سَقِيمَا) أي الأصل في السقم هو المرض، لكنه أراد هنا ماذا؟ ¬

_ (¬1) الألفاظ سليمًا التي وضعناها بين معكوفتين بَيَّن الشيخ هنا أنها سبق.

الضعيف، يقال: فهمٌ سقيم أي ضعيف، ولم يكن تأليف الكلام ضعيفًا بين كلماته، وذلك بألا يجري على المطرد من قواعد العربية عند الجمهور، يعني تأليف الكلام ترتيب الكلام قد يجري على السنن المشهور عند النحاة في قواعدهم، وقواعد النحاة - وخاصة البصريين - إنما يقعدون على ما اشتهر في لسان العرب، ولا ينظروا إلى القليل والنادر، ولا يقعدون .. ، وهذا من من أهم الفوارق بين مدرسة الكوفيين والبصريين، الكوفيون أدنى ما يمكن أن يتمسك به ويكون منقولاً جعلوه مستثنى مطرد أو جعلوه قاعدة، أما البصريون فلا، وإنما يجعلون القاعدة هو الشائع ثم ما ورد من البيت والبيتين والثلاثة، بل وأحيانًا العشر يجعلونه شاذًّا أو نادرًا أو .. أو .. إلى آخره، ولا يجعلون ناقضًا للقاعدة، حينئذ ما جاء على وفق المشهور في لسان العرب نقول: هذا فصيح، وما جاء مخالف نقول ضعف تأليفه، يعني تركيبه بعض على بعض نقول: هذا لم يأت على سنن العرب، حينئذ ينتفي عنه وصف الفصاحة، بالمثال يأتيك، أي لا يجري على المطرد من القواعد العربية عند الجمهور من النحاة بأن يكون التأليف مخالفًا للقياس الصحيح من الأقيسة النحوية المشهورة عند جمهور النحاة، كإلحاق علامة التثنية بالفعل إذا أُسند الفعل إلى فاعل ظاهر. قاما الزيدان عند الجمهور النحاة هذا شاذٌّ يحفظ ولا يقاس عليه، ((أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث)) هذه لغة ضعيفة، فإذا جاء يتكلم وتكلم قال: قاما الزيدان وقصد بالألف [أنها فاعل] (¬1) أنها حرف ليست فاعل، لو كان فاعلاً صح لا إشكال فيه، قصد بأن هذه الألف حرفًا، تدل على أن الفاعل مثنى كما أن التاء من قامت هند حرف تدل على أن الفاعل مؤنث، قامت هند: هند فاعل وهو مؤنث، ما الذي دلنا؟ التاء قاما الزيدان، الزيدان مثنى، ما الذي دلنا؟ بلفظه والألف، فالألف هنا دالة على التثنية كما أن التاء من قامت دالة على التأنيث، نقول: هذا سُمِعَ من كلام العرب، وهو لغة ((أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث)) أبا الحارث يسمونها، لكنه ضعيف، ولذلك نقول: لا يُخَرَّج القرآن عليها البتة وإن جوزها البعض فيها خلاف لكن هذا المشهور عند النحاة وهو الصحيح أن القرآن لا يُخَرَّج على لغة ((أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث)) البتة، {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} ... [الأنبياء: 3] قالوا: هذه هيئته ظاهره على هذه اللغة، لكن لا بد من القول بالتقديم والتأخير، فإذا تكلم متكلم بهذه اللغة نقول: لم يجر على المطرد من لسان العرب، حينئذ نقول: هذا الكلام ليس فصيحًا. ¬

_ (¬1) سبق صوبه الشيخ بعدها.

قاما الزيدان، قاموا الزيدون، ماذا فعل؟ ألحق بالفعل علامة يعني حرفًا يدل على أن الفاعل الظاهر جمع، نقول: هذا شاذّ. حينئذٍ التركيب كله الكلام نقول: ليس فصيحًا. ليس الحرف فقط ليس فصيحًا، لا، تركيب كله هذه الجملة الفعلية قاموا الزيدون نقول: هذا الكلام ليس فصيحًا، لماذا؟ لضُعْف تأليفه، لأنه أُلِّفَ ورُكِّبَ على غير سنن العرب، قاما الزيدان نقول: هذا التركيب كله الجملة الفعلية ليست فصيحة، فالكلام ليس فصيحًا لماذا؟ لفقد شرط لكونه أُلِّفَ على غير ما اشتهر من كلام العرب. إذًا بأن يكون التأليف مخالفًا للقياس الصحيح من الأقيسة النحوية المشهورة عند جمهور النحاة، كإلحاق علامتي التثنية والجمع بالفعل المسند للفاعل الظاهر نحو: ((أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث)). وهي غير فصيحة، كذلك عود الضمير على متأخر لفظًا ورتبة وحكمًا، ضرب غلامه زيدًا، ضرب غلامه زيدًا قالوا: هذا كلام غير فصيح، لماذا؟ لأن سند العرب إذا استعملت الضمير إنما ترده إلى متقدم، إما في اللفظ وهو الرتبة، إما في الرتبة دون اللفظ. وهنا قد رجع إلى متأخر في اللفظ والرتبة معًا، لأن ضرب غلامُهُ زيدًا، الضمير يعود إلى ماذا؟ إلى زيد وهو مفعول به، إذًا عاد عليه في اللفظ والرتبة، اللفظ يعني: النطق، وهنا نُطِقَ بزيد متأخرًا في محله، والرتبة التي هي المكانة المنزلة، وهي كون المفعول به يتلو الفاعل، لو قال ضرب زيدًا غلامُهُ فصيح؟ نقول: نعم فصيح لماذا؟ لأن هنا عاد على متأخر في الرتبة دون اللفظ لأن غلامه، ضرب زيدًا غلامه الضمير هنا يعود على ... ماذا؟ على متقدم في اللفظ لكنه متأخر في الرتبة فانفكت الجهة، حينئذ نقول: عاد على متأخر في اللفظ والرتبة معًا فهو شاذٌّ، وأما إذا عاد على متأخر في الرتبة دون اللفظ كالمثال الذي معنا نقول: هذا ليس بشاذٍّ، ... {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} [البقرة: 124] عاد على متأخر في الرتبة دون اللفظ لأن تكلم به متقدمًا. إذًا إذا عاد الضمير على متأخر في اللفظ والرتبة نقول: هذا ضُعْف تأليف وهذا الكلام لا يُسَمَّى فصيحًا كالمثال الذي ذكرناه: ضَرَبَ غُلامُهُ زيدًا. وهنا عاد الضمير على متأخر في اللفظ والرتبة وهو ضعيف على الصحيح عند الجماهير. إذًا هذا الشرط الثاني (وَلَمْ يَكُنْ) يعني: الكلام تأليفه يعني تركيبه أي الكلام سقيمًا يعني: ضعيفًا، ومتى يكون تأليف الكلام سقيمًا ضعيفًا إذا خالف السنن لغة العرب، وهو ما كان عليه جمهور النحاة من القواعد العامة عندهم.

وأشار إلى الثالث في قوله: (وَهْوَ مِنَ التَعْقِيدِ أَيْضاً خالِي) أشار إلى الثالث مما يُشترط في فصاحة الكلام خلوصه من التعقيب، والتعقيب تَفْعِيل من {عَقَّدَ فَعَّل الثلاثي] (¬1) عَقَّدَ ليس فَعَّلَ، الثلاثي المزيد بحرف نعم مزيد بحرف. يقال: تَعَقَّدَ الكلام أعيا فهمه بسوء تركيبه أو خفاء معناه، إذا قيل كلام مُعَقَّد يعني غير مفهوم بسب ما وهو الآتي، وهو عند البيانين هنا تأليف الكلام على وجهٍ يَعْسُرُ فَهْمُهُ لسوء ترتيبه ويكون لفظيًّا ومعنويًّا، (وَهْوَ مِنَ التَعْقِيدِ أَيْضاً خالِي) أيضًا مصدر أَضَ يَئِيضُ هذا مفعول مطلق يعني: رجعنا رجوعًا لذكر ما يَخْلُصُ منه الكلام كما ذكرنا ما يَخْلُصُ منه المفرد على ما سبق، (خالِي) بإثبات الياء مع حذف التنوين، والأصل خَالٍ يجب تنوينه لأنه ناقص غير محل بأل، وهنا إما أن يقال بأنه رجعت الياء لحذفه السبب الموجب لحذف الياء وهو التنوين، أو يقال بأن الياء هنا للإشباع، خالي إشباع كسرة وليس هي الياء التي حذفت للتنوين، (خالِي) اسم فاعل خلا، يقال خلا المكان والإناء وغيرهما خُلُوًّا وخلاء فَرِغَ مما به، وفلان من العيب بَرِئَ منه، إذا (خالِي) يعني: بَرِئَ من العيب، هذا الشرط الثالث مما يُشترط في الكلام خلوصه من التعقيد، (وَهْوَ مِنَ التَعْقِيدِ أَيْضاً خالِي)، ومن التعقيد وهو خال (مِنَ التَعْقِيدِ أَيْضاً خالِي)، هو مبتدأ قوله: (خالِي) هذا خبر، ومن التعقيد متعلق بخالٍ، إذًا وهو أي الكلام خالٍ أي فارغ ... (مِنَ التَعْقِيدِ) وأطلق أل هنا وحينئذ يشمل التعقيد اللفظي والتعقيد المعنوي إذ هما نوعان، والمراد به (التَعْقِيدِ) هنا خفاء قصد المتكلم بكلامه، بألا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المعنى، ما تدري ما الذي يريده من الكلام، وله سببان: أحدهما: ما يرجع إلى اللفظي وهو التعقيد اللفظي. والثاني: ما يرجع إلى المعنى وهو تعقيد المعنى. إذًا السبب هنا المراد به القسمة الثنائية، فالتعقيد عند البيانين نوعان: - تعقيد لفظي. - وتعقيد معنوي. ¬

_ (¬1) سبق استدركه الشيخ مباشرة.

وبالنسبة تعرف السبب ما الذي سَبَّبَ سوء الفهم وعدم الفهم أو خفاء قصد المتكلم بكلام اللفظ، ما الذي سَبَّبَ عدم فهم مقصود المتكلم من كلام أو خفاؤه هو المعنى، فحينئذ يكون إلى 45.42# أحدهما ما يرجع إلى اللفظ وهو أن يختل نظم الكلام ولا يدري السامع كيف يتوصل منه إلى معناه، ما يدري السامع! يسمع كلام فيه تقديم وتأخير .. إلى آخره، ما يدري كيف يصل إلى المعنى، قدم المبتدأ ويؤخر عن الخبر، ويقدم المستثنى على المستثنى كلام ركيك، لا يفهم منه خرج زيد بدر مسجد درس رَكِّب كلمات متقاطعة [ها ها] هذا يُسمى ماذا؟ سببه اللفظ بسبب التقديم والتأخير، ولا يدري السامع كيف يُتَوصل منه إلى معناه بألا يكون ترتيب الألفاظ على وفق ترتيب المعاني بسبب تقديم أو تأخير أو حذف أو إضمار أو غير ذلك مما يوجب صعوبة فهم المراد وإن كان ثابتًا في الكلام جاريًا على القوانين، يعني: ذكر الفعل والفاعل وذكر المنصوب مع صفته لكنه قدم وأخر وحذف وأضمر فالتبس الكلام، كقول الفرزدق - كونوا معي - يمدح إبراهيم بنِ هشام أو بنَ هشام خال هشام بن عبد الملك بن مروان، وما مثله في الناس إلا مُمَلَّكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه هذا الكلام ركيك جدًا وهو للفرزدق: وما مثله في الناس إلا مُمَلَّكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه اكتبوها حتى تفهموها، لا بد من لوح وإلا ما يفهم وما مثله في الناس إلا مُمَلَّكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه إذا عرفت الإعراب تعرف المعركة أين حصلت، مثله هذا مبتدأ، حيٌّ هذا خبر، في الناس إلا مُمَلَّكًا إلا أداة استثناء مُمَلَّكًا هذا مُستثنى، أين المستثنى منه؟ حَيٌّ مؤخر، ولذلك نصبه تعين النصب وإلا كان يجوز فيه البدل، أبو أمه هذا مبتدأ ثانٍ، أَبُوهُ هذا خبر، حَيٌّ يُقَارِبُهُ موصوف وصفته، إذًا ماذا حصل هنا؟ قَدَّم المستثنى على المستثنى منه، وثانيًا فصل بين أبو أمه وأبوه المبتدأ والخبر بحي وهو أجنبي، وفصل بين الموصوف وهو حي وصفته وهو يُقَارِبُهُ بالخبر وهو أبوه، إذا فصل بين الموصوف والصفة بالخبر، وفصل بين المبتدأ والخبر بأجنبي وهو حَيٌّ، فركَّ المعنى، فالمعنى: وما مثلُ الممدوح وما مثلُهُ الضمير يعود إلى الممدوح وهو إبراهيم بن هشام، في الناس حَيٌّ يُقَارِبُهُ إلا مُمَلَّكًا هذا واضح، وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مُمَلَّكًا أبو أمه أبوه، أبو أمه أبوه يعني أبو الممدوح فهو ابن أخته، وهو ابن أخته، أي لا يماثله في الناس حي إلا ابن أخته كان حقه أن يقول كما قال في ... ((الإيضاح)): وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مُمَلَّكًا أو أبو أمه أبوه فإنه مدح إبراهيم بن هشام خال هشام بن عبد الملك بن مروان فقال: وما مثله [يعني إبراهيمُ الممدوح أو] (¬1) يعني إبراهيمَ الممدوح، في الناس حي يقاربه أي أحد يشبهه في الفضائل إلا مُمَلَّكًا يعني هشامًا، أبو أمه أي أبو أم هشام أبوه أي أبو الممدوح لأنه [خالَه] (¬2) ¬

_ (¬1) سبق استدركه الشيخ مباشرة. (¬2) سبق استدركه الشيخ مباشرة.

خَالُه، عندنا خال وابن أخته، ما علاقة أبو أم ابن الأخت بالخال من حيث الأبوة؟ يقول: أبو أمه أبوه، أبو أم الممدوح الذي هو ماذا؟ الخال، أبوه أليس كذلك؟ ما العلاقة بين الخال وابن الأخت؟ أبو أمه يعني أبو من الممدوح الذي هو إبراهيم بن هشام أبوه، إذا يكون ماذا؟ يكون من جهة الأبوة اجتمعا في الأبوة، لكن هذا نزل بدرجة لكونه ابن أخته، قال هنا: أي أحد يشبهه في الفضائل إلا مُمَلَّكًا يعني هشام أبو أمه، أي أبو أم هشام أبوه، أي أبو الممدوح، فالضمير في أمه للمُمَلَّك الذي هو هشام بن عبد الملك، وفي أبوه للممدوح، فوصل بين أبو وأمه وهو مبتدأ، وأبوه وهو خبره بحيٍّ وهو أجنبي، وكذا فصل بين حَيٍّ ويقاربُهُ وهو نعت حي بأبوه وهو أجنبي، وقدم المستثنى على المستثنى منه، إذًا صَعُبَ فهم المراد لكونه قَدَّمَ وأَخَّر لم يلتزم الترتيب الذي هو معهود عند النحاة بأن يجمع بين المبتدأ والخبر وبين النعت الموصوف وصفته، بل فرَّق بين النعت ومنعوته بأجنبي وهذا يؤدي إلى صعوبة الفهم، فهو في غاية التعقيد كما ترى؟ فالكلام الخالي من التعقيد اللفظي ما سَلِمَ نظمه من الخلل، فلم يكن فيه ما يخالف الأصل من تقديم أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك إلا بقرينة، إن وجدت القرينة جاز التقديم والتأخر، إن وجدت القرينة جاز الإضمار وعدمه، إلا وقد قامت عليه قرينة ظاهرة لفظية أو معنوية - كما سيأتي في محله -. السبب الثاني: ما يرجع إلى المعنى. وهو ألا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني ظاهرًا، يعني يكون للفظ معنيان، أحدهما ظاهر والثاني غير ظاهر، يكون مراد الناظم أو المتكلم غير الظاهر، لكنه لم يجعل لعله قرينة تجعل الذهن ينتقل من الظاهر إلى غير الظاهر فحينئذ يكون وقع في إبهامٍ، كقول العباس بن الأحنف: سأطلب بُعْدَ الدَّارِ عَنْكُمْ لِتَقْرُبُوا ... وتَسْكُبُ عَيْنَايّ الدُّمُوعَ لِتَجْمُلَ (تسكب عيناي) كنى بسكب الدموع عما يوجبه الفراق من الحزن، وأصاب أليس كذلك؟ فراق ثم الدمع كنى بسكب الدموع عن الفراق، أصاب أم لا؟ أصاب لأن الفراق سبب لهطول الدموع، ثم طرد ذلك في نقيده وهو المسرة، المسرة يلزم منها عدم الدموع ليس فيه بكاء لأنه فرح يحصل باللُّقِيّ لكنه أطلق الجمود على عدم الدمع عند المسرة، وهنا أخطأ لماذا؟ لأنه ظن أن الجمود هو عدم الدمع مطلقًا وليس كذلك، بل الجمود إنما توصف به العين عند عدم الدمع إذا أراد البكاء، يعني: إذا أراد أن يبكي فلم يبك، وجمدت عينه، وأمَّا إذا لم يطلب البكاء فلم يبك لا يقال بأن العين جامدة، إذًا الجمود لا يوصف به إمساك الدمع إلا إذا طَلَبَ، وإمَّا إذا لم يطلب فلا، ثم طرد ذلك في نقيده فأراد أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود لظنه أن الجمود خلو العين من البكاء مطلقًا من غير اعتبار شيء آخر، وأخطأ، لأن الجمود خلو العين من البكاء في حال إرادة البكاء منها، فلا يكون كناية عن المسرة، وإنما يكون كناية عن البخل، فالكلام الخالي من التعقيد المعنوي ما كان الانتقال من معناه الأول إلى معناه الثاني الذي هو المراد به ظاهرًا حتى يُخَيّل إلى السامع أنه فهمه من حاق اللفظ، يعني من جانب اللفظ.

إذًا شرط الثالث: (وَهْوَ مِنَ التَعْقِيدِ أَيْضاً خالِي) أن يكون خاليًا من التعقيد بنوعيه اللفظي والمعنوي، والمراد بالتعقيد اللفظي ألا يلتزم الترتيب المعهود عند أهل العربية فيقدم ويؤخر دون قرينة أو أن يضمر بدون قرينة، والنوع الثاني: التعقيد المعنوي: أن يستعمل لفظًا ويريد به معنى بعيد دون إقامة قرينة تدل على ذلك، فالانتقال من المعنى الظاهر كالجمود هنا إلى عدم البكاء مطلقًا وهو المسرة هذا فيه بُعْدٌ. ثم شرع فيما يتعلق بالكلمة الثانية وهي البلاغة وبقي عليه فصاحة المتكلم ذكرها فيما بعد: .................... ... وَإِنْ يَكُنْ مُطَابِقاً لِلْحَالِ فَهْوَ الْبَلِيغُ وَالَّذِي يُؤَلِّفُهْ ... وَبِالْفَصِيح مَنْ يُعَبِّرْ تَصِفُهْ وهذا يأتي معنى غدا إن شاء الله تعالى، والله أعلم. وصلَّ الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أسئلة: - هذا يقول: ما اسم الشرح الذي نقرأه للرجوع إليه والاستفادة منه؟ : إن كان جديد على العلم نَوْر الشنقيطي هذا الكتاب طيب، ولو رجعت إلى ((الإيضاح)) الأصل طيب. - كيف يكون التركيب غير فصيح في اللغة، وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: «يتعقبون فيكم ملائكة». : هذا ما أثبتَهُ أنت الذي يجري عليك. - كيف نوجهه تأليف أهل العلم كتبًا في غريب الحديث؟ ما حكمنا أنها ليست فصيحة، غريب الحديث يعني الكلمات الذي التي تحتاج إلى شيء من فهم، وهذا قد يكون في استعمال الناس، لا باستعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الصحابة، لأنه خاطب الصحابة وفهموا عنه، ثم صارت غريبة باعتبارنا نحن، أما الصحابة لا، عندما تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظٍ حكمنا عليه بأنه غريب حتى على الصحابة؟! ما أحد يقول بهذا. وصلَّ الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

3

عناصر الدرس * البلاغة وموصوفاتها. * الصدق والكذب. * الفن الأول: علم المعاني. * تعريف علم المعاني وحصر أبوابه. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: ذكرنا أن الناظم رحمه الله تعالى قَدَّم مقدمة هذه العلوم الثلاث، وما يتعلق بالحديث عن الفصاحة والبلاغة. وحيث كان الموصوف بالفصاحة متعدِّدًا: إما أن يكون مفردًا. وإما أن يكون متكلمًا. وإما أن يكون كلامًا. حينئذٍ تعذر أن يُعَرَّفَ أو تُعَرَّف الفصاحة بتعريف واحد، لأن الفصاحة في المفرد مغايرة للفصاحة في الكلام، والفصاحة في الكلام مغايرة للفصاحة في المتكلم، فهي متباينة، فإذا كان كذلك فحينئذٍ يتعذر أن نجمعها في تعريف واحد، فذكر فصاحة المفرد، ثم المتكلم، ثم الكلام. كذلك الشأن في البلاغة فإنها تختلف، فالذي يوصف بها أمران: إما الكلام. وإما المتكلم. وكلاهما متغايران، فحينئذٍ يمتنع أن تُجْمَعَ في تعريف واحد فكان الأنسب أن يُفرد كل حديث أو كل موصوف من هذه الموصوفات بحديث عنه يبين ما الذي يُشترط فيه وما الذي لا يُشترط فقال: فَصَاحَةُ المُفْرَدِ فِي سَلاَمَتِهْ ... مِنْ نُفْرَةٍ فِيهِ وَمِنْ غَرَابَتِهْ وَكَونُهُ مُخَالف الْقِيَاسِ ... .......................... يعني: فصاحة المفرد لا تحقق إلا إذا سلم اللفظ المفرد وهو الكلمة الواحدة من هذه الثلاثة الأشياء كلها، فإذا وُجِدَ فيها واحد منها حينئذٍ حكمنا على اللفظ أو الكلمة الواحدة بأنها ليست فصيحة، وعرفنا المراد بالنُّفرة التنافر بين الحروف وله درجتان: أعلى، وأدنى. كذلك الغرابة والمراد بها متعلقة بالمعنى ولها درجتان كذلك: أعلى، وأدنى. (وَكَونُهُ مُخَالف الْقِيَاسِ) قلنا: المراد بالقياس هنا القانون العربي يعني: ما وضعته العرب سواء كان موافقًا للقياس الاصطلاحي عند الصرفيين، أو كان مخالفًا لهم، فيشمل حينئذٍ ما كان قياسيًّا وما كان سماعيًّا. ثم انتقل إلى موصوف آخر وهو الكلام. قال: (ثُمَّ الفَصِيحُ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ). يعني: الكلام الفصيح لا يُحْكَم عليه بكونه فصيحًا إلا إذا سَلِمَ من ثلاثة أشياء، فإن وُجِدَ فيها واحد منها حكمنا على الكلام بكونه ليس فصيحًا، وهنا الناظم ترك شرطًا مهمًا يذكره البيانيون وهو (ثُمَّ الفَصِيحُ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ) مع اشتماله على فصاحة الكلمات بمعنى أنه لا يمكن أن يكون الكلام فصيحًا وهو قد سَلِمَ من هذه الأمور الثلاث وهو مشتمل على كلمة ليست فصيحة، فحينئذٍ يكون خارجًا عن مُسِمَّى الفصاحة، وإنما لم يذكره الناظم قد يقال بأنه ترك هذا القيد بناءً على أن هذا القيد متفق عليه، وإذا كان متفق عليه فحينئذٍ صار مشهورًا عند البيانيين فلا يحتاج إلى اشتراطه. وفصاحة الكلام هي سلامته من ثلاثة أشياء: (مَا كَانَ مِنْ تَنَافُرٍ سَلِيمَا) [ما كان سليمًا ما كان الكلام الفصيح] (¬1) ما كان الكلام سليمًا من تنافر الكلمات، التنافر هنا ليس بين الحروف وإنما بين الكلمات بعضها بجوار بعض، وأما الكلمة بذاتها بنفسها فهي فصيحة، (أَمْدَحُهُ أَمْدَحُه) هذا حصل بينهم تنافر، لكن ليس لذات أَمْدَحُهُ لوحدها وإنما لكونها كُرِّرَت. ¬

_ (¬1) سبق.

(وَلَمْ يَكُنْ تَألِيفُهُ سَقِيمَا) يعني: ضعيفًا، وذلك فيما إذا كان مخالفًا لما كان عليه السنن العربية، وهي القواعد التي وضعها النحاة كإلحاق الفعل علامة تدل على أن الفاعل الظاهر مثنى أو مجموعًا أو نحو ذلك. الثالث (وَهْوَ مِنَ التَعْقِيدِ أَيْضًا خالِي) يعني التعقيد يعني كون الكلام معقدًا وعرفنا أن له سببين: السبب الأول: ما يرجع إلى اللفظ كالتقديم والتأخير، والحذف دون قرينة، ونحو ذلك. والسبب الثاني: ما يرجع إلى المعنى بأن يستعمل لفظًا يكون الانتقال فيه من الظاهر إلى المعنى المراد فيه بُعْد لا جمود كما ذكرنا في المثال السابق. هذا ما يتعلق بما مضى. ثم انتقل الناظم رحمه الله تعالى مبينًا الكلمة الأخرى وهي البلاغة فقال: (وَإِنْ يَكُنْ مُطَابِقًا لِلْحَالِ فَهْوَ الْبَلِيغُ). (وَإِنْ يَكُنْ) أي: الكلام الفصيح. (مُطَابِقًا لِلْحَال فَهْوَ الْبَلِيغُ) إذًا البلاغة تقابل الفصاحة وبينهما قدر مشترك، وذهب بعض البيانيين إلى أن البلاغة والفصاحة بمعنى واحد يعني: مترادفان. هما يجتمعان ويفترقان، ولذلك لا يكون الكلام بلغيًا إلا إذا كان فصيحًا، والعكس ليس كذلك قد يكون فصيحًا ولا يكون بليغًا، ولكن لا يكون بليغًا إلا إذا كان فصيحًا - كما سيأتي -. نقول: ثم شرع الناظم رحمه الله تعالى في بيان ما يتعلق باللفظة الأخرى وهي البلاغة، والبَلاغَة وزن فَعَالَة، فَصَاحَة بَلاغَة، من بَلُغَ يعني فَعُلَ، لأن فَعُل يأتي مصدر القياس منه على فَعَالَةٍ، وهي تُنْبِئ في اللغة عن الوصول والانتهاء يعني: إذا بلغ الشيء ولذلك نقول: بلوغ، يعني: وصل إلى الحدّ الذي يكون مكلفًا من جهة الشرع، ولذلك نقول: بلغت الثمرة. يعني: وصلت الحد الذي تكون صالحة للقطف ونحوها، إذ هي مأخوذةٌ من بَلُغَ بالضم إذا انتهى، حينئذٍ إذا وُصِفَ الكلام يقول: لا بد أن يكون فيه من المعنى اللغوي بمعنى أنه بلغ النهاية في الحسن، يقال: كلامٌ بَلِيغٌ وخطيب بليغٌ. الكلام في البلاغة الآن عرفنا الفصاحة يوصف بها ثلاثة أشياء: كلمة فصيحة، كلام فصيح، متكلم فصيح. ثلاثة أشياء. أما البلاغة فتشترك مع الفصاحة في الكلام والمتكلم، يقال: كلام بليغ، ومتكلم بليغ وليس عندنا كلمة بليغة إذا أريد بالكلمة اللفظة الواحدة، وأما إذا أريد بالكلمة التي هي الجمل المفيدة حينئذٍ صارت وصفًا للكلام، ألقى زيد من الناس كلمة بليغة، يقال: كلمة، لم يقل: يقول زيد، ووصفناها بالبلاغة، وإنما الكلمة المراد بها المعنى اللغوي وهي إطلاقها على الجمل المفيدة وعلى الجملة المفيدة، فحينئذٍ صح لكن لا بالاعتبار الذي يريده البيانيون إذًا يقال: كلام بليغ وخطيب بليغ، ولم يسمع كلمة بليغة إذا أريد بالكلمة اللفظة الواحدة، فبلاغة الكلام أشار إليها الناظم بقوله: (وَإِنْ يَكُنْ). أي: الكلام الفصيح (مُطَابِقًا) اسم فاعل من طَابَقَ يُطَابِقُ فهو مُطَابِق يعني: مُوَافِق. قولهم: طابق النَّعْلُ النَّعْلَ إذا توافق، كما سميت دلالة المطابقة لتطابقها يعني: مع المعنى، طابق اللفظ المعنى والمعنى اللفظ بحيث لم ينقص المعنى عن مدلول اللفظ ولم يزد اللفظ عن مدلول المعنى - كما مر معنا -.

إذًا (مُطَابِقًا) يعني: موافقًا (لِلْحَالِ) أي: لمقتضى الحال. و (يَكُنْ) هذا فعل الشرط، والجواب قوله: (فَهْوَ الْبَلِيغُ)، (إِنْ يَكُنْ) الكلام الفصيح لا بد من معرفة أن الكلام هنا لا بد أن يكون فصيحًا يعني: شرط الفصاحة، فصاحة الكلام مأخوذ في حدِّ البلاغة يعني: بلاغة الكلام، إذ لا يكون الكلام بليغًا إلا إذا كان فصيحًا، فيتفقان ويزيد الكلام البليغ على الكلام الفصيح بكونه مطابقًا للحال، إذًا الكلام البليغ ما اشتمل على أمرين: الأمر الأول: فصاحته. يعني: بأن سَلِمَ من الأمور الثلاثة التي ذُكِرَتْ في فصاحة الكلام، يزيد على فصاحة الكلام أو الكلام الفصيح بكونه مطابقًا للحال، وهو الذي يذكره البيانيون في هذا الموضع، والحال المراد بالحال هنا مطابقًا للحال هو: الأمر الداعي إلى التكلم على وجه مخصوص. يعني: الذي كان سببًا للمتكلم أن يزيد في اللفظ على أصل المعنى ما يطابق هذا الحال، يعني شيء منفك عن المتكلم أمر يكون باعتبار المخاطَب أو السامِع فيقتضي من المتكلم أن يزيد في كلامه ما يطابق حاله، حينئذٍ الحال هو الأمر يعني: الشأن والشيء الداعي الذي طلب إلى المتكلِم أو إلى التَّكَلُّم على وجه مخصوص، وذلك يعني وصفه بأن يعتبر مع الكلام الذي يؤدى به أصل المعنى خصوصية ما، الأصل في الكلام أنه يؤتى به لإفادة إثبات مضمون الخبر للمبتدأ، زَيْدٌ قَائِمٌ، هنا أصل المعنى ما هو؟ ثبوت القيام لزيد هذا الأصل مضمون الجملة مع الثبوت، واضح؟ زَيْدٌ قَائِمٌ أصل الكلام حصل بالمسند والمسند إليه، قد يكون المخاطب عنده شيء من الإنكار أو التردد لهذا الخبر، فحينئذٍ يقتضي هذا التردد من المخاطب يقتضي من المتكلم أن يزيد على اللفظ الذي حصل به تأدية أصل المعنى وهو زَيْدٌ قَائِمٌ بعض الألفاظ كالمؤكدات من أجل أن يطابق الحال الذي هو حال المنكِر أو المتردد، فكونه كون المخاطب مُتَرَدِّدًا في الحكم هذا يُسمَّى حال، هذا الحال اقتضى مني أنا المتكلِم أن أزيد في اللفظ الذي به يحصُل إفادة المعنى في أساسه أن أزيده شيئًا ما من أجل أن يطابق الحال، وهذا ما يسمى بالتأكيد، إذًا الأمر الدَّاعي إلى التَّكَلُّمِ على وجه مخصوص لأن التَّكَلُّمَ على مرتبتين: الأولى: ما يفيد أصل المعنى، وهذا يحصل بمجرد ماذا؟ بمجرد المبتدأ مع الخبر والفعل مع فاعله أو نائبه، هذا يحصل به ماذا؟ تأدية أصل المعنى، قد يُلْقَى الكلام ليس المراد به تأدية أصل المعنى فحسب وإنما زيادة أخرى، وهي التي يقتضيها الحال من حيث التأكيد وعدمه، وذلك بأن يعتبر مع الكلام الذي يُؤَدَّى به أصل المعنى خصوصية ما، وذلك هو مقتضى الحال.

مثلاً كون المخاطَب مُنْكِرًا للحكم هذا حال، كون المخاطَب الذي تكلمه مُنْكِرًا للحكم، إنكار المخاطب هذا يُسَمَّى حالاً يقتضي من المتكلم أن لا يُخْرِجَ الكلام هكذا مبتدأ وخبر، لأن المبتدأ والخبر يدل على أصل المعنى، ونحن نريد هنا أن يطابق مقتضى الحال بأن يزيده أو يخرجه عن كونه دالاً على أصل المعنى إلى اعتبار خصوصية ما، وهو ملاحظة حال المخاطب، حينئذٍ إذا حصل التوافق بين الكلام وبين الحال صار هذا هو عين البلاغة، لأنك لا يمكن أن يأتي إنسان مُنكر للحكم وتقول: زَيْدٌ قَائِمٌ. أو تأتي للإنسان خالي الذهن عن الحكم وتقول: وَاللهِ إِنَّ زَيْدًا لَقَائِم. ولماذا قلت: وَاللهِ إِنَّ زَيْدًا لَقَائِم. هذا لم يطابق، إنما يستخدم هذا الأسلوب متى؟ إذا كان المخاطب مُنكِرًا للحكم، كون المخاطَب مُنكِرًا للحكم حالٌ يقتضي تأكيده، والتأكيد مقتضاها، هذا مراده، ومعنى مطابقته له أن الحال إن اقتضى التأكيد كان الكلام مؤكدًا، وإن اقتضى الإطلاق يعني: عن القيد كان عاريًا عن التأكيد .. وهكذا، إن اقتضى الحال حذف الْمُسْنَدِ إليه حُذِفَ، وإن اقتضى الحال ذِكْرَ الْمُسْنَد إليه ذُكِرَ، إن اقتضى الحال أن يكون الْمُسْنَدُ إليه ضميرًا ذُكِرَ الضمير، أو موصولاً أو اسم إشارة أو محلى بـ أل أو غير ذلك، حينئذٍ نقول: هذه المراعاة لأحوال المخاطب إنما تكون في اللفظ في الكلام لكن لا باعتبار إفادة أصل المعنى، وإنما هي زيادة على ما يُفيد أصل المعنى لأن الكلام - اضبط هذه - الكلام يُؤَدَّى به أمران: الأمر الأول: أصل المعنى، وهو ما يقتضيه إثبات المسند للمسند إليه زيادة على ذلك وهي مخصوصة ما كما عبر البيانيون إنما تكون لمراعاة ... الحال. يعني: المخاطَب من حيث الذِّكْر والحذف، ومن حيث التأكيد وعدمه، وإن اقتضى ذِكْرَهُ ذُكِرَ إلى غير ذلك من التفاصيل المشتمل عليها علم المعاني. إذًا مطابقة الكلام لمقتضى الحال نقول: أي لمقتضى الحال أي الأمر الداعي من المخاطَب إن احتاج الأمر الدَّاعي إلى تأكيد الكلام أُكِّدَ، إن احتاج إلى ذكر الْمُسْنَد إليه ذُكِرَ، إن لم يحتج إلى ذكر المسند إليه حُذِفَ، نقول: هذه المراعاة تسمى مطابقةً للحال، ولا بد في ذلك أن يكون مقرونًا بالقصد يعني: إخراج الكلام مؤكدًا إذا كان المخاطب مُنكِرًا للحكم على وجهين: إما أن يكون مقصودًا أو لا. الأول: يُسمَّى بلاغة. والثاني: لا يُسمَّى بلاغةً. يعني: لو كان المخاطب منكرًا للحكم وكان المتكلِم لا يدري هذه المسألة من أصلها وقال: وَاللهِ إِنَّ زَيْدًا لَقَائِمُ. هل يوصف بكونه بليغًا الكلام؟ الجواب: لا، لماذا مع كونه وافق في الواقع كلام مؤكد والداعي يقتضي التأكيد نقول: هنا لا يُسمى بلاغة لماذا؟ لانتفاء القصد، فلا بد أن يكون مقصودًا فإن لم يكن مقصودًا حينئذٍ لا يكون بليغًا. إذًا لا بد في ذلك أن يكون مقرونًا بالقصد حتى لو اقتضى المقام شيئًا من ذلك وأورده المتكلم من غير قصدٍ، لم يكن ذلك الكلام بليغًا مطابقُ لمقتضى الحال، وهذا أحسن ما قيل في حدِّ البلاغة، وهي: مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته، لا بد من الزيادة حينئذٍ بلاغة الكلام مركبة من شيئين:

فصاحة الكلام بأن يكون الكلام فصيحًا. الثاني: أن يكون مطابقًا لمقتضى الحال. ولذلك نقول: الناظم هنا تَرَكَ (وَإِنْ يَكُنْ مُطَابِقًا لِلْحَالِ فَهْوَ الْبَلِيغُ) ترك الناظم قيدًا لا بد من اعتباره في حد الكلام البليغ أو صحته، حينئذٍ نقول: البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته، فالحال شيء منفك عن الكلام، المقتضى وصف للكلام، واضح؟ مقتضى وصف الكلام، فعندنا مُقْتَضِي وعندنا مُقْتَضَى، الْمُقْتَضِي هو الحال، مُقْتَضَى الحال التأكيد، مقتضي هو الحال يعني: الذي يقتضيه الحال من كونه مُنْكِرًا، المقتضى وصف للكلام فمن شروط بلاغة الكلام كونه فصيحًا بالمعنى الذي سبق بيانه، فإن البلاغة عندما تتحقق عند تحقق الأمرين المطابقة مع الفصاحة، ومقتضى الحال هذا مختلف يعني: يختلف باختلاف الأحوال، فإن مقامات الكلام متفاوتة، فمقام التنكير يباين مقام التعريف، لأن الكلام إما أن يكون على المسند إليه مثلاً أو المسنَد إما أن يكون نكرة وإما أن يكون معرفةً، هل المتكلم يأتي به هكذا مرة يعني: على مزاجه مرة يُعَرِّفُ ومرة يُنَكِّرُ؟ نقول: لا، إنما يكون باعتبار المخاطَب، إن كان المخاطَب يقتضي من حاله أن يُعَرَّفَ الْمُسْنَد عُرِّفَ، وإلا الأصل أن يكون نَكِرَة ويستعمل على أصله، وإن يقتضي حاله أن يُنَكَّر نُكِّرَ، واضح هذا؟ فمقام التعريف يباين مقام التنكير، يعني: متى تأتي باللفظ المبتدأ مثلاً أو الخبر متى تأتي به معرفة ومتى تأتي به نكرة بشرطهم في المبتدأ؟ نقول: باعتبار المخاطَب إن اقتضى حاله أن أورد المسند إليه معرفة أو نكرة بشرطها لأنها زيادة وصف، حينئذٍ أوردناه، والحال المقتضي نقول: مراعاته ومطابقة الكلام له هو الذي يسمى بلاغة، ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد، ومقام التقديم يباين مقام التأخير، ومقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام القصر يباين مقام خلافه، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة، وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي وهذه كلها أبواب ثمانية ستدرس في محلها، يعني متنوعة، يعني الفصل والوصل متى تفصل ومتى تصل؟ متى تعطف الجملة على سابقتها؟ متى تترك العطف؟ نقول: هذا كله يبحث في علم المعاني والذي يقتضيه هو الحال. وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام إلى غير ذلك مما سيأتي التفصيل في محله. فالفعل مثلاً إذا دخلت عليه (إن) ليس كالفعل إن دخلت عليه (إذا) أليس كذلك؟ إن قام زيد، إذا قام زيد، ما الفرق بينهما؟ قام زيد هي هِي، وإنما أدخلت على الفعل حرف شرط أو اسم شرط وكلاهما شرطيان (إن)، (إذا) قام زيد ما الفرق بينهما؟ . نعم، (إن) إذا أردت التشكيك في قيام زيد تقول: إن قام زيد، وإذا أردت التحقق والتحقيق تقول: إذا قام زيد، ففرق بينهما.

إذًا قام زيد جملة هي هِي بعينها لما صاحبت كلمة وهي (إن) أفادت معنى لم تفده هذه الجملة إذا صاحبت هذه الجملة لفظ (إذا) فافترقا بسبب ماذا؟ بسبب التركيب وهذا إنما يكون مطابقًا للحال، فإذا أردت تشكيك المخاطب تقول: إن قام زيد ولو كنت تعلم إنه متحقق، وإذا أردت إفادته بأن القيام متحقق تقول: إذا قام زيد. وارتفاع شأن الكلام في الْحُسْنِ والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب وانحطاطه بعدم مطابقته له، يعني متى يكون الكلام مرتفعًا، إذا وافق وطابق الحال، وكلما كَمُلَ في مطابقة الحال كَمُلَ في نفسه، وإذا لم يوافق فهو كلام منحط، يعني: نزل درجات عن الكلام البليغ. فمقتضى الحال هو الاعتبار المناسب أي: الأمر الذي اعْتُبر مناسبًا بحسب تتبع تراكيب البُلَغَاء فهو بليغ أو (فَهْوَ الْبَلِيغُ)، فهو الفاء هذه واقعة في جواب الشرط إن، وهو ضمير يعود إلى أي شيء؟ الكلام المطابق للحال، هو يعود إلى لكلام المطابق للحال مع فصاحته، لا بد من هذا القيد، البليغ يعني: الكلام البليغ الذي اتصف بالبلاغة، (فَهْوَ) أي: الكلام الفصيح المطابق للمقتضى الحال مع فصاحته، ومع فصاحته إذا وصفنا الكلام بكونه فصيحًا لا نحتاجه، إذا قلت: الكلام الفصيح انتهى، الكلام الفصيح المطابق لمقتضى الحال البليغ، عَرَّفَ الجزأين كأنه حصر البلاغة في هذا النوع وهو كذلك، (فَهْوَ الْبَلِيغُ) هذا يفيد الحصر يعني لا كلام يوصف بكونه بليغًا إلا المذكور، فحينئذٍ ينتفي الحكم الذي هو وصف البلاغة عن غير المذكور واضح هذا، إذا عُرِّفَ الجزءان المبتدأ والخبر هذا يُسمَّى من أساليب الحصر والقصر بمعنى إثبات الحكم بالمذكور ونفيه عن ما عداه، (فَهْوَ الْبَلِيغُ) عرف الجزأين، وقلنا: الفاء وقعت في جواب الشرط، هو أي: الكلام الفصيح المطابق للواقع البليغ لا سواه لا غيره، فغيره لو كان فصيحًا ولم يطابق لا يسمى بليغًا، لو كان مطابقًا للواقع ولم يكن فصيحًا لا يسمى بليغًا. إذًا تعريف الجزأين هنا أفاد الحصر. ثم ذكر بلاغة المتكلم فقال: (وَالَّذِي يُؤَلِّفُهْ) بليغ، حذف الخبر يعني: الذي أي: الشخص المتكلم بالكلام الفصيح المطابق للواقع - عرفنا أن الكلام هذا بليغ - فمن اتصف بالكلام البليغ فهو البليغ، وهذا ظاهر عبارته وفيها شيء من القصور، (وَالَّذِي) أي: الشخص المتكلم بما ذكر (يُؤَلِّفُهْ) أيضًا بليغ، أي: الذي يؤلف الكلام البليغ بليغٌ، أي: المتكلم، الضمير يعود إلى المتكلم، فالضمير يعود على الكلام البليغ، (الَّذِي يُؤَلِّفُهْ)، ... (يُؤَلِّفُهْ) عندنا ضميران:

الضمير الأول: مستتر وهو فاعل يؤلف يعود إلى الشخص المتكلم، ومرده في اللفظ هنا الذي لأنه المذكور، (يُؤَلِّفُهْ) الضمير البارز المفعول به يعود إلى الكلام البليغ، الكلام البليغ وليس فصيح، الكلام البليغ أو الكلام الفصيح باعتبار المطابقة لا إشكال، إذًا (وَالَّذِي يُؤَلِّفُهْ) أي: الذي يؤلف الكلام البليغ بليغٌ، فالضمير البارز يعود على الكلام البليغ، والضمير المستتر الفاعل يعود إلى المتكلِم، فبلاغة المتكلم على المشهور قد سبب خلل هنا من الاختصار قولهم: هي بلاغة المتكلم، هي مَلَكَة يُقْتَدَرُ بها على تأليف كلام بليغ. مَلَكَة لأن قوله: (وَالَّذِي يُؤَلِّفُهْ) لا يدل على الْمَلَكَة وهذا لا بد من اعتباره، فليس كلّ من تكلم بكلام بليغ يكون بليغًا، ليس كل من تكلم بكلام بليغ يكون بليغًا، بل لا بد أن تكون البلاغة صفة راسخة بمعنى أنه عنده مَلَكَة على إنشاء الكلام البليغ، بمعنى أنه يكون مطردًا في جميع أحواله سواء كان ناطقًا أم ساكتًا، يعني: هذا أو ذاك، ولو كان نائمًا [ها ها] فيوصف بكونه بليغًا، إذًا مَلَكَة لا بد من اعتبار الْمَلَكَة فقوله: (وَالَّذِي يُؤَلِّفُهْ) لا يفيد ذلك، والْمَلَكَة كيفية راسخة في النفس، ففيه إشارة إلى أن البلاغة من الهيئات الراسخة حتى لو تكلم بكلام بليغ وليس له مَلَكَة فغير بليغ، وليس كل من ركب كلامًا صار بليغًا، والْمَلَكَة إنما تحصل بالملازمة والممارسة، مَلَكَة العلوم كلها، في البيان، وفي النحو، والصرف، والْمَلَكَة الفقهية، هذه كلها لا تحصل إلا بالملازمة والممارسة، وأما المطالعات العشوائية هذه لا تنبت الْمَلَكَة البتة يعني: لا تكون عنده مَلَكَة البتة، لا بد أن يلازم الفن ملازمة تامة حتى تحصل عنده مَلَكَة، وإذا كان كذلك حينئذٍ يقال إنه بليغ، وأما ما عدا ذلك فلا، والله المستعان.

إذًا الْمَلَكَة تحصل بالملازمة والممارسة ولهذا قيل: مَلَكَة. ولم يقل صفة كما عَبَّر صاحب ((الإيضاح)) حتى لا يكون الْمُعَبِّر عن المقصود بلفظ بليغ بليغًا إلا إذا كان الصفة التي اقتدر بها عن التعبير عن المقصود بلفظ بليغ راسخة فيه، راسخة يعني صارت لازمة فيه، كما نقول: من صفات الإنسان النوم، فهي صفة راسخة فيه، وكذلك الضحك وكذلك الصفات الخاصة به، كذلك الْمَلَكَة على النطق أو الكلام البليغ تكون راسخةً، مَلَكَة أي: هيئة راسخة في النفس أو قل: صفة راسخة في النفس احترازًا عمَّا إذا تكلم بكلام بليغ ولم تكن له صفة راسخة فلا يُعَدُّ المتكلم بليغًا، وأما الكلام فيوصف، الكلام في المتكلم، يُقْتَدَرُ بها إشارة إلى مَلَكَة، ويقتدر عَبَّر بـ (يقتدر) إشارة إلى أن يُسَمَّى بليغًا حال النطق وعدمه، لأننا قلنا: البليغ هو المتكلم بالكلام البليغ، تكلم .. تَكلم .. تكلم كلامًا وهو بليغ، إذا سكت هل يوصف بالبلاغة أم لا؟ هل يوصف بكونه بليغًا أم لا؟ نقول: نعم، لأن المراد هنا لو أراد إنشاء كلام بليغ حينئذٍ صار بليغًا، حينئذٍ يوصف بالبلاغة بالفعل وبالقوة، بالفعل إذا كان يتكلم بكلام بليغ وكان له الْمَلَكَة، وإذا لم يكن مُتَكَلِّمًا بكلام بل كان ساكتًا حينئذٍ نقول: هذا بليغ. يوصف بكونه بليغًا لكن بالقوة، كما ذكرنا في الضاحك وفي غيره. إذًا إشارة إلى أنه يسمى بليغًا حال النطق وعدمه. والحاصل مما سبق، إذًا عرفنا أن المتكلم يُوصف بالبلاغة وأنها مَلَكَة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ، يتقرر من هذا من التعريفين السابقين أن الذي يوصف بالبلاغة أمران: الكلام وعرفنا حده بقوله: (وَإِنْ يَكُنْ مُطَابِقًا لِلْحَالِ فَهْوَ الْبَلِيغُ). والمتكلم وعرفنا حدَّه على ما ذكره الناظم (وَالَّذِي يُؤَلِّفُهْ) يعني: فهو بليغ (الَّذِي يُؤَلِّفُهْ) فهو بليغ، والتعبير هذا فيه شيء من القصور. ثم عاد وبقي له ثالث مما يوصف بالفصاحة، لأنه ذكر فصاحة المفرد، وفصاحة الكلام، وبقي عليه فصاحة المتكلم، فبقي عليه شيء ثالث ... مما يوصف بالفصاحة وهو المتكلم فقال: (وَبِالْفَصِيح مَنْ يُعَبِّرْ تَصِفُهْ ... [نَصِفُهْ]) نسختان (وَبِالْفَصِيح مَنْ يُعَبِّرْ [نَصِفُهْ] تَصِفُهْ) وهذا فصاحة المتكلم، يعني: يوصف المتكلم بكونه فصيحًا، (وَبِالْفَصِيح مَنْ يُعَبِّرْ)، (يُعَبِّرْ) هذا فعل مضارع مأخوذ من العبارة، والعبارة عند أرباب المعاجم هي الكلام الذي يبين ما في النفس من معانٍ، إذًا العبارة والجملة متقاربان، الكلام الذي يبين ما في النفس من معانٍ يقال هذا الكلام عبارة عن كذا، قوله: (وَبِالْفَصِيح). هذا متعلق بقوله: (يُعَبِّرْ) أو لا؟ [نَصِفُهْ] طيب يعبر بماذا؟ ..

بالكلام الفصيح، قال: (بِالْفَصِيح) يحتمل أنه صفة لموصوف محذوف يعني: بالكلام الفصيح فيكون متعلقًا بقوله: (يُعَبِّرْ). ويحتمل ألا يكون صفةً لموصوف محذوف فحينئذٍ يكون متعلقًا بـ (تَصِفُهْ)، ليس الإشكال في هذا يحتمل ذاك وذاك، لكن لا بد من تقييد كل منهما بالفصيح، من ... (يُعَبِّرْ) ليس مطلقًا ليس كل من عبر بأي كلام وإنما عبر بالكلام الفصيح، كما ذكرنا فيما سبق أن المتكلم الذي يوصف بالبلاغة هو الذي اشتمل على أمرين، أو البلاغة هي المشتملة على أمرين: أن يكون فصيحًا في نفسه، وأن يكون مطابقًا للحال. هنا إذا تكلم وعَبَّر متى نقول هو فصيح؟ مطلق التعبير أو تعبير مقييد؟ تعبير مقييد، إذًا لا بد من تقييده بقوله: (وَبِالْفَصِيح)، ثم نصفه بالفصيح يكون متعلقه محذوفًا لدلالة ما سبق عليه، فيحتمل هذا وذاك. (مَنْ) ما نوعها؟ . موصولة، و (يُعَبِّرْ) مجزوم بها؟ .. إذا قلتَ: موصولة كيف (يُعَبِّرْ)، لو قلتَ: شرطية لا إشكال، من أجل الوزن، نعم لو جعلناها موصولة فهو أحسن فحينئذٍ من (يُعَبِّرْ) يعني: الذي مبتدأ (يُعَبِّرْ) بالرفع بالفصيح، يعبر بالفصيح يعني: يتكلم بكلام فصيح، ([نَصِفُهْ]) الجملة خبر المبتدأ، خبر الذي ([نَصِفُهْ]) أي: نصف هذا المتكلم الذي (يُعَبِّرْ) لأن قوله: الذي (يُعَبِّرْ) في قوة المعبِّر لأن الموصوف مع صلته في قوة المشتق، حينئذٍ الذي (يُعَبِّرْ) في قوة المعبِّر، طيب ([نَصِفُهْ] تَصِفُهْ) الجملة خبر، تصف أنت، الفاعل أنت أيها المخاطَب، والمضير البارز يعود إلى (مَنْ)، لأن (مَنْ) اسم موصول بمعنى الشخص في قوة المعبِّر (تَصِفُهْ) أي: تصف هذا المتكلِم بالفصيح هل يجوز أن نجعل (مَنْ) هنا شرطية؟ (مَنْ يُعَبِّرْ) إنْ تعبِّر في قوة إن، إن تعبر بالفصيح هل يصح أو لا؟ (مَنْ) شرطية (يُعَبِّرْ) بالسكون هنا لا إشكال ليس عندنا ضرورة، أليس كذلك؟ (تَصِفُهْ) إيش الإشكال؟ لو جعلناها شرطية عندنا إشكال وهو أن تصف أو نصف وهذا فعل مضارع والأصل تَصِفْهُ نَصِفْهُ أليس كذلك؟ هذا الأصل لكن هذا يجوز على لغة ضعيفة، إذا كان جواب الشرط مضارعًا وفعل الشرط ماضيًا جاز في الجواب الرفع والجزم، إِنْ قَامَ زَيْدٌ أَقُمُ، إِنْ قَامَ زَيْدٌ أَقُومُ جاز فيه الوجهان، إذا كان فعل الشرط ماضيًا وكان الجواب مضارعًا جاز في المضارع وجهان: الجزم والرفع. وبعد ماضٍ رفع كالجزا حسن طيب، إذا كان فعل الشرط مضارعًا مع كون الجواب مضارعًا، الأصل وجوب الجزم، وأما جزمه$$ فهو ضعيف. $$ 34.50 ورفعه بعد مضارع وَهَنَ رفع الفعل المضارع بعد مضارع الذي هو فعل الشرط وهن يعني: ضعيف.

إذًا الأَوْلَى أن نجعل (مَنْ) هنا موصولة و (يُعَبِّرْ) نقول: سكنه للوزن. (وَبِالْفَصِيح مَنْ يُعَبِّرْ تَصِفُهْ) في نسخة ([نَصِفُهْ]) (بِالْفَصِيح) متعلق بقوله: (يُعَبِّرْ)، ويحتمل أنه متعلق بـ ([نَصِفُهْ]) أو (تَصِفُهْ) أي: الذي يعبر عن مقصوده بلفظ فصيح تصفه بالفصيح، فحذف المعمول الثاني بدلالة الأول عليه، وهذا إن جعلنا (مَنْ) موصولة فهي مبتدأ وجملة (تَصِفُهْ) خبر، فالفصاحة في المتكلم هي مَلَكَة يُقْتَدَرُ بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح، مَلَكَة يعني هيئة راسخة يعني: يُشترط في كل من الموصوف بالبلاغة أو الفصاحة وكان متكلِمًا لا بد أن تكون عنده مَلَكَة يعني: هيئة راسخة في النفس صفة راسخة، بمعنى أنه لا بد أن تكون عنده ممارسة للفن من أجل أن تحصل له تلك الْمَلَكَة، فقيل: مَلَكَة لما سبق فمن تكلم بلفظ فصيح وليست له مَلَكَة فغير فصيح، أليس كذلك؟ من تكلم بكلام فصيح وليست له مَلَكَة فليس بفصيح، يعني: لو تكلم بكلام سلم من تنافر الكلمات، ومن التعقيد المعنوي، ومن التعقيد اللفظي نقول: فصيح مباشرة؟ لا، مع كون الكلام قد وُجِدَ فيه السلامة من الأمور الثلاثة، لا نصف، الكلام هو نصفه بكونه فصيحًا، لكن لا نصف المتكلِم بكونه فصيحًا، فليس كل من ألقى كلامًا فصيحًا فهو فصيح، بل لا بد أن تكون عنده مَلَكَة من أجل إيقاع الوصف عليه، ويقتدر بها إشارة إلى أنه يسمى فصيحًا حالة النطق وعدمه، يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح، ليعم المفرد والمركب. إذًا أخر الناظم هنا تعريف المتكلم الفصيح أو الموصوف بالفصاحة وهو المتكلم كان الأَوْلَى أن يقدمه على حديثه عن البلاغة (وَبِالْفَصِيح مَنْ يُعَبِّرْ [تَصِفُهْ]) فعلم مما سبق من تعريف موصوفات الفصاحة وموصوفات البلاغة أن كل بليغٍ فصيحٍ مطلقًا سواء كان كلامًا أو متكلمًا؟ كلامًا أو متكلمًا لأننا قلنا: لا بد أن الكلام يكون فصيحًا مع مطابقة الواقع في البلاغة، أليس كذلك؟ وإذا تكلم المتكلم بكلام بليغ لا بد أن يكون الكلام البليغ مشتملاً على فصاحة، حينئذٍ كلُّ بليغٍ فصيحٌ، كُلُّ بليغٍ سواء كان متكلمًا أو كلامًا فهو فصيحٌ، لجعل الفصاحة شرطًا للبلاغة، وليس كلُّ فصيحٍ بليغًا، أليس كذلك؟ لأنه قد يأتي بالكلام الفصيح وقد سَلِمَ من الأمور الثلاثة لكنه لا يكون مطابقًا للواقع، بمعنى أنه لا يتكلم بما يناسب الحال، إن كان غبيًّا يأتي بألفاظ تناسب الغبي، وإن كان ذكيًّا فيختصر له الكلام ويأتي بما يناسب الذَّكي .. وهلم جرا. إذًا ليس كلُّ فصيحِ بليغًا كلامًا كان أو متكلمًا لأن الفصيح قد يَعْرَى عن المطابقة له، واضح هذا؟ ثم أن البلاغة في الكلام من أجل أن نعرف لماذا نوع البيانيون العلوم الثلاثة علم المعاني وعلم البيان وعلم البديغ؟ البلاغة في الكلام مرجعها إلى أمرين، يعني متى تتحقق البلاغة في الكلام وفي الشخص، مرجعه إلى أمرين اثنين بالاستقراء والتتبع يعني: ما يجب أن يحصل حتى يمكن حصولها أي: الذي تتحقق به البلاغة أمران مرجعه إلى شيئين اثنين:

الأول: الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد. الاحتراز يعني: يبتعد ويجتنب عن ماذا؟ عن الوقوع في الخطأ، خطأ في ماذا؟ في تأدية المعنى المراد، انتبه قال: المراد. يعني: ما يكون بأصل المعنى وزيادة لأن قلنا الجملة التي يتكلم بها المتكلم أنت الآن عندما تتكلم تتكَلم لإفادة أمرين: أولاً: أصل المعنى الذي دلّ عليه ثبوت مفهوم المسند للمسند إليه، أو الفعل للفاعل، مبتدأ وخبر، زيد قائم، مات عمرو. الأمر الثاني: زيادة على ما يُؤَدَّى بها أصل المعنى هذا يكون مراعاةً للحال. إذًا الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وإلا لربما أُدِّيَ المعنى المراد بكلام غير مطابق لمقتضى الحال، فلا يكون بليغًا لما مر في تعريف البلاغة من أنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال شرط فيها. الثاني: إلى تميز الفصيح من غيره. يعني: من غير الفصيح، مرجع البلاغة إلى أمرين: الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد. ثانيًا: تميز الكلام الفصيح من غيره. يعني من غير الفصيح، وإلا لربما أورد الكلام بكلام مطابق لمقتضى الحال وهو غير فصيح، قد يطابق يؤكد له الكلام ويكون الحال مقتضٍ للتأكيد، لكنه يأتي بعبارة ليست فصيحة، وإذا وجد في الكلام ألفاظ ليست فصيحة خرج عن كونه فصيحًا. إذًا كيف يميز هذا عن ذاك؟ نقول: لا بد من عِلْمٍ يتميز به معرفة الفصيح عن غيره، إذًا وإلا ربما أورد الكلام بكلام مطابق لمقتضى الحال غير فصيح، فلا يكون بليغًا - لما مَرَّ - من أن البلاغة عبارة عن المطابقة مع الفصاحة، ويدخل في تميز الكلام الفصيح من غيره تميز المفردات، أن نعرف كيف نميز هذه الكلمة بكونها فصيحة أو لا، إذا سلمت من الأمور الثلاثة، إذًا كيف نحكم عليها؟ هل هو بميزان المعاجم؟ نقول: لا، لا بد من مرجع، وحاصل الأمر أن البلاغة ترجع إلى هذين الأمرين، والاقتدار عليها يتوقف على الاتصاف بهذين الوصفين السابقين، وهذا أمر يتحصل ويكتسب من علوم متعددة بعد سلامة الحس، فمرجع البلاغة حينئذٍ إلى هذه العلوم المتعددة لا إلى المعاني والبيان فقط، لأننا عرفنا أن التنافر إنما مرده إلى الحس - هذا الصحيح - مرده إلى الحس، إذًا لا بد من الحس، لا بد أن يكون عنده ذوق سليم، والذوق السليم من أين يأتي به؟ ليس هو بعلم، يعني: ليس بعلم صناعي يتعلمه ليس هناك منظومة تحفظ، ولا كتاب يُدَرَّس، وإنما هو بممارسة العلم يكون عنده مَلَكَة. ثانيًا: عرفنا أن ضعف التأليف لمخالفة القواعد، إذًا هذا داخل في مفهوم البلاغة وليس هو عين المعاني والبيان، إذًا هو شيء خارج، ولا يمكن الاحتراز عن التعقيد اللفظي إلا بمعرفة علم النحو، أو علم الصرف، حينئذٍ نقول: البلاغة ليست مؤلفة من علمين فقط، هي علوم ثلاثة باعتبار ما يناسب الحال ومقتضى الحال، وأما من حيث ما يحصل به ويتميز الكلام الفصيح عن غيره فلا بد من علوم متعددة، وهذه التي أشار إليها بقولهم: والثاني. يعني: التمييز تمييز الفصيح عن غيره منه ما يتبين في علم متن اللغة، أو التصريف، أو النحو، أو يُدْرَكُ بالحس، وهو ما عدا التعقيد المعنوي.

هذه العلوم لا بد لها أن تكون معتبرة في علم البلاغة، بمعنى أنه لا بد أن يكون نحويًا صرفيًا، وأن يكون على علم بمتن اللغة يعني: المفردات، ماذا تستعمل العرب هذه الكلمة في أي معنى، هل هذه الكلمة مأنوسة مألوفة أم لا؟ هل هي شاذّة أم لا؟ حينئذٍ لا بد من الوقوف على متن اللغة. إذًا تيميز الكلام الفصيح عن غيره يعني: معرفة أن هذا الكلام فصيح وذاك غير فصيح يعرف من غير الفنون الثلاثة، كون الكلام فصيحًا أو ليس فصيح مرده ليس إلى علم المعاني، ولا إلى علم البيان، ولا إلى علم البديع، لذلك من أين نعرف كيف يأخذون الفصاحة قيدًا في البلاغة ثم لا يذكرونها في هذه الفنون؟ نقول: لأن البلاغة مجموعة علوم أو مجموع علوم، يعني: ليست خاصة بهذه الفنون الثلاثة، بل هي مجموعة من علوم متعددة، وذلك لأنه شرط في فصاحة الكلام سلامته مما سبق، فمنه ما يَتَبَيَّنُ في علم متن اللغة، فمنه أي: ما يُمَيِّزُ الفصيح من غيره ما يتبين بعلم متن اللغة، فهو العلم الذي يعرف به معاني المفردات إذ به يعرف الناظر أن في تَكْأَكَأْتُم مثلاً غرابة، لأنها ليست من الكلمات المأنوسة، وكذلك مُسَرَّجًا يعرف أن فيها غرابة، بخلاف اجتمعتم سراج، فليس فيها غرابة لأنه بمطالعة هذه الكتب حينئذٍ يقف على المفردات المأنوسة من غيرها، أو التصريف وهذا يعرف به سلامته من مخالفة القياس، أو النحو يعرف به السلامة من ضعف التأليف، أو التعقيد اللفظي، أو يدرك بالحس يعني: القوة السامعة والذي يدرك بالحس هو التنافر، سواء كان بين الحروف في الكلمة الواحدة أو بين الكلمات، وما يُحْتَرز به عن الأول الذي هو الخطأ في تأدية المعنى المراد هو علم المعاني. إذًا قلنا: مرجع البلاغة إلى أمرين: الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وهذا الذي يدرس في علم المعاني. الثاني: التمييز تيميز الفصيح عن غيره، هذا بمجموعة علوم يعني لسان العرب نحوًا وصرفًا ومتنًا، وما يحترز به عن التعقيد المعنوي، هو علم ... البيان، التعقيد المعنوي هذا مثلنا له بماذا؟ .. وما مثله في الناس إلا مُمَلَّكًا هذا تعقيد معنوي؟! لفظي هذا، لأنه بالتقديم والتأخير وَتَسْكُبُ عَيْنَايَ الدُّمُوعَ، لا، ليس مُسَرَّجًا، مسرجًا في اللفظ واحد فقط، مُسَرَّجًا. لتجمدا. قلنا: الجمود استعمله في عدم البكاء مطلقًا، وإنما هو خاص في عدم البكاء عند إرادة البكاء، فالإنسان قد لا يريد البكاء فلا تسمه عينه جامدة، وإنما تُسَمَّى عينه إذا أراد البكاء. إذًا التعقيد المعنوي يُحْتَرَزُ عنه بعلم المعاني، وما يعرف به وجوه تحسين الكلام هذا توابع البلاغة بعد رعاية تطبيقها على مقتضى الحال وفصاحته هو علم البديع. إذًا المقصود من هذا الحديث أن البلاغة ليست موقوفة على العلوم الثلاثة، وإنما هي موقوفة على النحو والصرف والحس ومتن اللغة، وكذلك العلوم الثلاثة لأن مرجع البلاغة إلى الأمرين المذكرين. وَالصِّدْقُ أَنْ يُطَابِقَ الْوَاقِعَ مَا ... يَقُولُهُ وَالْكذْبُ أَنْ ذَا يُعْدَمَا

هذه مسألة دخيلة في المقدمة، هي لا تذكر في هذا الموضع، وإنما تذكر في علم المعاني، يقسمون [الخبر إلى] (¬1) الكلام يقسم إلى خبر وإنشاء، والخبر هو ما احتمل الصدق والكذب لذاته، والإنشاء ما لا يحتمل الصدق والكذب لذاته. إذًا الخبر ما هو؟ ما احتمل الصدق والكذب سيأتي شرحه في محله. يرد السؤال ما هو الصدق؟ وما هو الكذب؟ عندما نقول: الخبر ما احتمل الصدق والكذب بذاته. يرد السؤال، هذا تعريف الخبر، وذكرنا الصدق جزءًا في حدِّ الخبر وذكرنا الكذب جزءًا في حدِّ الخبر، ما المراد بالصدق هنا؟ ما المراد بالكذب؟ أراد الناظم أن يفسر لنا الصدق والكذب الذين وقعا جزأين في حدِّ الخبر، ويدل قوله: (وَالصِّدْقُ). وقابله بـ (الْكذْبُ) على أن الخبر منحصر في الصادق والكاذب، يعني: ليس عندنا إلا خبر هو صادق، وليس عندنا خبر إلا هو كاذب، إما هذا أو ذاك وليس عندنا منزلة بين المنزلتين، كما أن الكلام من حيث هو إما خبر أو إنشاء، وهذا قول الجمهور أنه منحصر في اثنين على الصحيح. ثم ذكر الناظم مسألة متعلقة بما سيأتي في علم المعاني وهي: انحصار الخبر في الصادق والكاذب - كما هو مذهب الجمهور - فقال: (وَالصِّدْقُ). هذا مبتدأ، (أَنْ يُطَابِقَ) هذا خبره، أن وما دخلت عليه في التأويل مصدر، يعني مطابقة (وَالصِّدْقُ) أل هنا إنما هي نائبة عن مضاف إليه، وإما أنها للعهد الذهني، (وَالصِّدْقُ) أي: صدق الخبر. حينئذٍ الخبر هذا مضاف إليه حذف وأنيب أل مُنابه أو تكون أل للعهد الذهني يحتمل هذا وذاك، ... (وَالصِّدْقُ) أي: صدق الخبر (أَنْ يُطَابِقَ الْوَاقِعَ)، ما هو الذي يطابق الواقع، (مَا)، (الْوَاقِعَ) هذا مفعول مقدم لـ (يُطَابِقَ) لأن (يُطَابِقَ) متعدِّي، ما هو الذي يطابق؟ عندنا مطابِق ومطابَق أليس كذلك؟ مطابِق ومطابَق، ما هو المطابِق؟ الكلام. ما هو المطابَق؟ الواقع. إذًا (مَا يَقُولُهُ) أي: قوله، (مَا) هنا اسم موصول بمعنى الذي، أي: حكم (يَقُولُهُ) أي المتكلم، حينئذٍ نقول: المطابِق هو الكلام، والمطابَق هو الواقع، وما المراد بـ (الْوَاقِعَ)؟ الخارج، لأن مفهوم الكلام يكون في الذهن زيدٌ قائم تقول هذا مؤلف من ثلاثة أجزاء، أليس كذلك؟ زيدٌ قائمٌ مؤلف من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول:؟ المسند إليه، الذي يمسى الموضوع عند المناطقة وهو زيدٌ. الجزء الثاني: ما هو؟ قائم قائم فقط، تقول: قائم. قائمٌ هذا الجزء الثاني. الجزء الثالث: النسبة، التي ارتباط المسند بالمسند إليه وهو؟ قيام زيد، ثبوت قيام زيد هذا حكم الجملة، زيدٌ قائم فيها أمران: مضمون الجملة. حكم الجملة. معي؟ مضمون الجملة يعني: ما دلت عليه مفهوم الجملة، ما هو؟ قيام زيد. حكم الجملة إما السلب أو الإيجاب، إن لم تُصَدَّرْ الجملة بحرفٍ أو فعلٍ يدل على السلب فهي إيجاب، حينئذٍ تضيف المضمون إلى الثبوت، ثبوت قيام زيد، هذا يُسَمَّى حكم الجملة. طيب هذا كله في الذهن قيام زيد وثبوت قيام زيد كله في الذهن، لكن كون زيد قائم بالفعل يعني: حصل قيام منه زيد الشخص الذات قام أم لا؟ هذا شيءٌ خارج الذهن. ¬

_ (¬1) سبق.

الكلام باعتبار المفهوم إن وافق ما كان خارجًا عن الذهن يُسمَّى صدقًا، وإن خالف الكلام الذي له مفهومٌ في الذهن باعتبار الخارج الواقع يسمى كذبًا، ولذلك قال: (وَالصِّدْقُ أَنْ يُطَابِقَ الْوَاقِعَ مَا يَقُولُهُ). أن يطابق ما يقوله يعني: الحكم المفهوم من الجملة الذي محلها هو الذهن أن يطابق الواقع، فإذا قلتَ: زيدٌ قائمٌ. يعني: اعتقدت ماذا؟ ثبوت قيام زيد، الذي دل على، دعنا من الاعتقاد، الذي دل عليه اللفظ لأن عندنا ثلاثة أشياء: اعتقاد، ولفظٌ، وواقع كم؟ ثلاثة أشياء اعتقاد ولفظٌ وواقع، إن طابَق مدلول اللفظ الواقع سُمِّيَ صدقًا، فإذا قلتَ: زيدٌ قائمٌ. وبالفعل زيدٌ قائمٌ نقول: هذا صدقٌ. ولو اعتقدت خلاف اللفظ لأن العبرة هنا باللفظ والواقع، فالاعتقاد لا دخل له البتة فإذا قلت: زيدٌ قائمٌ، ثبوت قيام زيد فنظرنا في الواقع زيد ليس بقائم بل هو جالس، حينئذٍ نقول: مدلول اللفظ لم يطابِق الواقع هذا يُسَمَّى كَذِبًا، (وَالصِّدْقُ) أي: صدق الخبر (أَنْ يُطَابِقَ الْوَاقِعَ) أي: الخارج الذي يكون بالنسبة للكلام الخبري، (الْوَاقِعَ) كما ذكرنا بالنصب مفعول (يُطَابِقَ) مقدم، والفاعل (مَا)، وهذا فاعل (يُطَابِقَ) (مَا) فهو المطابق، (الْوَاقِعَ) مطابَق، اجعلها أمام بعض من أجل أن تضبطها: مطابِق اسم فاعل بكسر الباء، هذا هو الكلام. مطابَق بفتح الباء اسم مفعول وهو الواقع. إذًا (مَا) هي الفاعل، وهو اسمٌ موصول أي: حكمه، وتقدير النظم صدق الخبر أن يطابق حكم ما يقوله المخبر الواقعة، حكم ما يقوله المخبر يعني المتكلم الكلام الواقع، وقدرنا الحكم هنا لأن الصدق والكذب إنما يرجع إلى الحكم أولاً الذي هو النسبة أو الثبوت، أو السلب المضاف إلى مضمون الجملة. وعرفنا كيف نأخذ مضمون الجملة فيما سبق. إذًا (وَالصِّدْقُ أَنْ يُطَابِقَ الْوَاقِعَ مَا يَقُولُهُ) إذًا حدُّ الصدق مطابقة القول أو حكم القول الواقع، (وَالْكذْبُ) كِذْبُ كَذِب كلاهما لغتان (وَالْكذْبُ) أي: كَذِبُ الخبر (أَنْ ذَا يُعْدَمَا) هنا إشكال (أَنْ ذَا يُعْدَمَا)، (يُعْدَمَا) فعل مضارع مُغير الصيغة وهو منصوب والناصب له (أَنْ)، وهل يجوز أن يفصل بين (أَنْ) ومدخولها؟ لا يجوز فكيف نصبه؟ (أَنْ ذَا يُعْدَمَا) كيف فصل بين (أَنْ) ومدخولها؟ لا يجوز الفصل ما يجوز، [ها] حتى بالتقدير، حتى لو قيل أن يعدما ذا، لا يجوز أن يتقدم هذا الأصل، لكن جَوَّزَ بعضهم أن يقدم متعلق الفعل عليه، يعني: أَنْ زيدًا أضربَ، الأصل أنه لا يجوز.

لكن فيه نسخة: [إِذْ ذَا عُدِمَا]، هذه أولى، [إِذْ] يعني: وقت، ذا المشار إليه، (عدما) حينئذٍ لا إشكال، وهي أولى من المذكور، (أَنْ ذَا) أي: مطابقة حكمه للواقع، (ذَا) اسم إشارة والمرجع لاسم الإشارة هنا مطابقة الحكم للواقع، (أَنْ ذَا [يُعْدَمَا] (¬1)) إذًا عدما ماذا؟ مطابقة حكم الخبر للواقع، فإن طابق فهو الصدق، فإن لم يطابق فهو الكذب، (يُعْدَمَا) فكون الخبر كاذبًا عدم مطابقته حكمه للواقع، إذًا على هذه النسخة: (أَنْ ذَا يُعْدَمَا) تقول: الألف للإطلاق و (يُعْدَمَا) منصوبٌ بـ (أَنْ)، ويكون فرق بينهما على وجه الشذوذ والأولى أن يقال [إذ ذا عدما] يعني: والصدق يعني: صدق الخبر وقت ذا عدما، يعني وقت ذا عدما، والألف تكون للإطلاق. فحدُّ الصدق مطابقة حكم الخبر للواقع، والكذب عدم مطابقته له، هذا هو المشهور وعليه التأويل، ولو كان الاعتقاد بخلاف ذلك، يعني: لا عبرة هنا بالاعتقاد كونه موافقًا أو لا، فلو قال زيدٌ قائمٌ ووافق الواقع واعتقد في نفسه أنه كذب عليه، نقول: هذا صدق. هذا صدقٌ لماذا؟ لأن العبرة هنا بالقول وحكم القول والواقع، وأما الاعتقاد سواءٌ وافق أم خالف حينئذٍ نقول: هذا لا عبرة به. إذًا ولو كان الاعتقاد بخلاف ذلك من حالين، فإذا قلت زيدٌ كاتبٌ فإن كان زيدٌ موصوفٌ بالكتابة في الخارج فذلك الخبر يكون صادقًا، وإن لم يكن موصوفًا بها فذاك الخبر يكون كاذبًا، زيدٌ كاتب إن كان زيدٌ موصوفٌ بالكتابة في الخارج الفعل وهو صادق، وإن لم يكن فهو كاذب. صادقٌ لماذا؟ لكون حكم القول طابق الواقع. وكاذب لماذا؟ لكون حكم القول وهو ثبوت الكتابة لم يطابق الواقع بل خالفه لأنه غير موصوف بالكتابة، وكذلك في السلب فإذا قلت زيد ليس بكاتبٍ هنا نفيت وصف الكتابة عنه فإن طابق الواقع بكون زيدًا ليس موصوفًا بالكتابة فهو صدقٌ، فإن خالف بل هو موصوفٌ بالكتابة فهو كذبٌ، وهذا معنى مطابقة الكلام للواقع والخارج وما في نفس الأمر، فالخبر ينحصر في الصادق والكاذب ولا واسطة بينهما على الصحيح، لا فيه خلاف، فقد أجمعوا على أن من قال: محمدٌ ليس بنبيٍّ، صدقٌ أم كذب هذا؟ أم فيه تفصيل؟ محمدٌ نبيٌ طابق؟ طيب، لو قاله منكر نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: محمدٌ نبي. أراد أن يجامل قال: محمدٌ نبي، صدقٌ أم كذب؟ صدقٌ، لا عبرة بالاعتقاد، قلنا: من قال محمدٌ نبي واعتقد أنه ليس بنبي نقول: خبره صدق لماذا؟ لأن العبرة بكونه صدقًا مطابقة الواقع عنه، هذا ميزان، أما اعتقاده فهذا لنفسه، ليس له مدخلٌ في الحكم بالصدق والكذب، فإذا قال منكر رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -: محمد بن عبد الله وجامل قال: - صلى الله عليه وسلم - نبيٌ، نقول: هذا طابق الواقع لأن الذي في الواقع #1.00.29 ... لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرٌ معلوم من الدين بالضرورة، طيب لو قال: محمدٌ ليس بنبي، وهو يعتقد نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) [عدما] هكذا قالها الشيخ، وهو سبق، كما بينه فضيلته، فالأصل [أن ذا يعدما]، وفي النسخة الأخرى [إذ ذا عدما].

هذا كذب، والاعتقاد لا عبرة به البتة، إذًا فالخبر ينحصر في الصادق والكاذب ولا واسط بينهما على الصحيح، فقد أجمعوا على أن من قال: محمدٌ ليس بنبي. أنه كاذب ولو وافق اعتقاده، وأجمعوا على من قال: الإسلام حقٌ أنه صادق، ولو خالف اعتقاده. هو يعتقد أن الإسلام ليس بحق وقال: الإسلام حقٌ. حينئذٍ نقول: هذا صادقٌ ولا عبرة باعتقاده. واستدل بعضهم بحديث «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». دلَّ على انقسام الكذب إلى مُتَعَمَّدٍ وغيره. وقال السبكي: وقد استنبطتُ من القرآن دليلاً أصرح من الجميع وهو قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ} [النحل: 39]. مع أنهم تكلموا بما يعتقدون فحَكَمَ الله عز وجل بأنهم كاذبون، مع أنهم أخبروا بما يعتقدون ووصفهم الله تعالى بالكذب لانتفاء مطابقة كلامهم للواقع {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ}. إذًا نقول: انحصر الخبر في الصادق والكاذب ولا واسطة بينهما البتة، وأما قوله تعالى وهو ما تمسك به البعض بإثبات الواسطة {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] كَذَّبَهُم في ماذا؟ في قولهم: ... {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] وهذا طابَق الواقع أو لا؟ {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} طابَق أو لا؟ طابَق الواقع مع ذلك الله عز وجل قال: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}، واضح الاعتراض؟ كذبهم في ماذا؟ قالوا: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}. وقلنا: من قال الإسلام حقٌ ولو اعتقد أنه باطل قلنا هذا صادق لأنه طابَق الواقع، فالعبرة بمدلول اللفظ حكم اللفظ مع الواقع، مع ما في نفس الأمر، وأما اعتقاده فهذا لا يعتبر، يعني: ليس مؤثرًا في الصدق والكذب، وهنا قال المنافقون: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}. قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}. أُجِيبُ: أن المعنى نشهد شهادةً واقعت فيها قلوبنا ألسنتنا، فالتكذيب للشهادة لا للمشهود به، ... {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} كاذبون في ماذا؟ في الشهادة لأنهم قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}. ادَّعُوا الشهادة والشهادة لا تكون إلا بمواطئة القلب للسان واللسان للقب، كَذَبُوا أم لا؟ كذبوا في قولهم: {نَشْهَدُ}، وإذا أجبنا عن هذه الآية فلا عبرة بمن تمسك بها. ثم قال الناظم رحمه الله تعالى: الفن الأول: علم المعاني. وَعَرَبِيُّ اللَّفْظِ ذُو أَحْوَالِ ... يَأْتِي بِهَا مُطَابِقًا لِلْحَالِ عِرْفانُهَا عِلْمٌ هُوَ المَعَانِي ... مُنْحَصِرُ الأَبْوَابِ فِي ثَمَانِ هذا الفن الأول، علم المعاني الفن الأول من الفنون الثلاثة التي عنون لها أهل البيان بالبلاغة، وعرفنا أن مستند البلاغة ليست محصورة في هذه العلوم الثلاثة، بل اللسان العربي كله يشارك في ذلك.

إذًا الفن الأول من الفنون الثلاثة علم المعاني، والأنسب بلفظ العلم هنا في الترجمة أنه نفس الأصول والقواعد، يعني: القواعد التي هي المعاني، يعني عندنا قواعد في الفن وعندنا أصول كما هو الشأن في باب النحو، الفاعل مرفوع قاعدة، المفعول به منصوب قاعدة، مطلق الأمر للوجوب قاعدة الأصوليين هنا كذلك في علم المعاني ثَّم قواعد المراد هنا في هذه الترجمة نفس الأصول والقواعد، يدل على ذلك قوله: (مُنْحَصِرُ الأَبْوَابِ فِي ثَمَانِ) والذي ينحصر هو المعلوم، وهو الذي ينحصر لا العلم بمعنى الْمَلَكَة، لأنه لا ينحصر أو الإدراك. علم المعاني، قدَّم علم المعاني على البيان لكون منه بمنزلة المفرد من المركب - كما سيأتي - يعني: علم البيان هو المعاني وزيادة، فعلم المعاني جزءٌ من علم البيان، فإذا كان كذلك صار مفردًا وصار البيان مركبًا، ومعلومٌ أن تقديم المفرد أو العلم بالمفرد على العلم بالمركبات هو السند الذي يقتضيه الطبع. وقدّم الأول عند الوضع ... لأنه مقدمٌ بالطبع إذًا المفردات تُعْلَمُ أولاً قبل المركبات، إذًا لكون منه بمنزلة المفرد من المركب - كما سيأتي - والمفرد مقدم على المركب طبعًا فقدم وضعًا ليوافق الوضع الطبع، ثم عرفه بقوله: وَعَرَبِيُّ اللَّفْظِ ذُو أَحْوَالِ ... يَأْتِي بِهَا مُطَابِقًا لِلْحَالِ (عَرَبِيُّ اللَّفْظِ) من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: اللفظ العربي ... (عَرَبِيُّ اللَّفْظِ) أي: اللفظ العربي، قَدَّمَ وأَخَّرَ فيكون من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، ما هو الصفة؟ (عَرَبِيُّ)، ما هو الموصوف؟ ... (اللَّفْظِ)، قدّّم الصفة على الموصوف ثم أضافها، قال: (عَرَبِيُّ اللَّفْظِ). إذًا من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: اللفظ العربي الموصوف بالفصاحة والبلاغة لا بد من هذا، وإلا كيف يكون كذلك إذا لم يكن موصوفًا بالفصاحة والبلاغة، إذًا (عَرَبِيُّ اللَّفْظِ) أطلقه وأراد به شيئًا معهودًا وهو اللفظ العربي احترازًا من غيره، ثانيًا: كونه موصوفًا بالفصاحة والبلاغة، وقيَّد اللفظ بكون عربيًا ليخرج غيره، فإنه إنما يتكلم في قواعد اللغة العربية (ذُو أَحْوَالِ)، (ذُو) (وَعَرَبِيُّ) هذا مبتدأ (ذُو) هذا خبر أين المبتدأ وأين الخبر؟ وَعَرَبِيُّ اللَّفْظِ ذُو أَحْوَالِ ... يَأْتِي بِهَا مُطَابِقًا لِلْحَالِ عِرْفانُهَا عِلْمٌ هُوَ المَعَانِي ... ........................ جملة (عِرْفانُهَا عِلْمٌ هُوَ المَعَانِي) هو الخبر، وأما (ذُو) هذا وصفٌ له وهو يريد الآن ماذا؟ أن يجعل لنا جنس، ثم يأتي بالفصل ثم يأتي بالفصل، الفصول كلها التي تأتي في الحدود أوصاف نعوت يعني، إذا قلت مثلاً: الكلام لفظٌ مفيد مركب بالوضع، كل لفظٌ هذا موصوف، مفيدٌ، مركب كلها صفات، تعتبر صفات، إذًا (ذُو) بمعنى صاحب (أَحْوَالِ) أي: أمورٍ عارضةٍ له من تقديمٍ وتأخيرٍ وتعريفٍ وتنكيرٍ وحذفٍ وذكرٍ وغير ذلك من ما يأتي بيانه، إذًا (ذُو أَحْوَالِ) يعني: صاحب (أَحْوَالِ)، والمراد بالـ (أَحْوَالِ) هنا الأمور العارضة، ما هي هذه الأمور العارضة؟

هي التي ستدرس في الأبواب الثمانية، تعرض على اللفظ، إما مفردًا، وإما جملةً، كالقصر والحصر، فحينئذٍ إذا كان مفردًا فقد يعتريه من الأحوال أن يُحذف، فالحذف وصفٌ له، حالٌ له، أمرٌ عارضٌ له، كذلك كونه نكرةً أو معرفةً، نقول: الوصف بالنكرة أمرٌ عارضٌ للفظ، ووصله بالتعريف أمرٌ عارضٌ للفظ، إذًا (ذُو أَحْوَالِ) أي: أمورٍ عارضة تَعْرِضُ للفظ من تقديمٍ وتأخيرٍ وتعريفٍ وتنكيرٍ وحذفٍ وذكرٍ مما سيأتي ذكره في هذا الفن. (يَأْتِي بِهَا مُطَابِقًا لِلْحَالِ) (يَأْتِي) أي: ذلك اللفظ العربي (بِهَا) هذا جارٌ مجرور متعلق بقوله: (مُطَابِقًا). (يَأْتِي) حال كونه أي: اللفظ العربي (مُطَابِقًا) بتلك الأحوال للحالين، (بِهَا) أي: بتلك الأحوال متعلقٌ بقوله: (مُطَابِقًا). حال كونه (مُطَابِقًا لِلْحَالِ)، حالٌ من فاعل يأتي، أي: لمقتضى الحال، إن اقتضى الحال الحذف حُذِفَ، إن اقتضى الحال - وعرفنا الحال الأمر الداعي للتكلم على وجهٍ مخصوص - إن اقتضى الحال أن يكون اللفظ العربي مضمرًا أُضْمِرَ، إن كان اسم إشارة فحينئذٍ فذلك، وإذا كان موصولاً فهو كذلك، إذًا هذه الأحوال العارضة تكون مطابقةً للحال، واحترز به عن الأحوال التي ليست بهذه الصفة يعني: قوله (يَأْتِي بِهَا مُطَابِقًا لِلْحَالِ). يعني: مقتضى الحال، وهذا بيانٌ لأحوال اللفظ، واحترز به عن الأحوال التي ليست بهذه الصفة، فخرجت سائر العلوم لأن غير علم المعاني من العلوم لا يُبْحَث فيها عن أحوال اللفظ، النحو لا يبحث فيه عن هذا الموضع، وكذلك الصرف، وكذلك العروض مثلاً، أو متن اللغة، كلها لا يبحث فيها عن أحوال اللفظ من حيث الحذف والذكر، ومن حيث التقديم والتأخير. من حيث إن اللفظ يطابق مقتضى الحال بل من حيثية غيرها، فخرج الصرف والنحو والبيان - علم البيان - والبديع والعروض. (عِرْفانُهَا) أي: معرفة تلك الأحوال (عِرْفانُهَا) الضمير يعود إلى تلك الأحوال، والعرفان هنا مصدر كذلك مثل المعرفة، أو اسم مصدر عَرَفَهُ يَعْرِفَهُ مَعْرِفَةً وعِرْفَانًا بالكسر (عِرْفانُهَا) أي: معرفة تلك الأحوال أي: إدراك كل فردٍ فردٍ من جزئياتها (عِلْمٌ هُوَ المَعَانِي)، يعني: معرفة كل موضعٍ من هذه المواضع التي يُعنون لها بالأمور العارضة لللفظ، يعني: متى يُحْذَف المسند إليه؟ له أحوال، متى يذكر المسند إليه؟ له أحوال، متى يقدم؟ متى يؤخر؟ معرفة هذه الأحوال جزئياتها الوقوف عليها فردًا فَردًا يُسَمَّى علم المعاني، ولذلك قال: (عِرْفانُهَا). أي: معرفة تلك الأحوال أي: إدراك كل فردٍ فَردٍ من جزئيات الأحوال المذكورة بمعنى أي فردٍ يوجد منها أمكننا أن نعرفه بذلك العلم المشار إليه بقوله: (عِلْمٌ هُوَ المَعَانِي) (عِلْمٌ) أي: مَلَكَة يقتدر بها على إدراك جزئياتٍ لا أنها تحصل جملة واحدة، وإنما تحصل تباعًا (هُوَ المَعَانِي). إذًا علم المعاني ما هو؟ علمٌ يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يُطابِق مقتضى الحال. إذًا عندنا مطابقة مقتضى حال وعندنا لفظٌ عربي وله أحوال، معرفة هذه الأحوال وكونها مطابقةٌ لمقتضى الحال هو علم المعاني، وإذا عرفت أبوابه على جهة التفصيل يتضح لك المراد.

ويجوز أن يراد بقوله: (عِلْمٌ). أي: قواعد وأصول يُعرف بإدراكها أحوال اللفظ العربي .. إلى آخره. وهذا العلم كما قال ناظم هنا: ... (مُنْحَصِرُ الأَبْوَابِ فِي ثَمَانِ) يعني: إدراك هذا العلم على وجه الحقيقة هو إدراك هذه الأبواب الثمانية (مُنْحَصِرُ الأَبْوَابِ) من إضافة اسم الفاعل إلى فاعله، (فِي ثَمَانِ) أي: ثمانية أبواب لغةٍ من ثماني، وحذفت الياء لأجل الوزن ونحوها. جمعها الأخضري في قوله: إسناد مسندٌ إليه مسنَدُ ... ومتعلقات فعلٍ تورد قصرٌ وإنشاءٌ وفصلٌ وصلٌ أو ... إيجاز إطناب مساواة رأوا هذه ثمانية أبواب: إسناد، مسندٌ إليه، مسند، هذه ثلاثة أبواب وكلها متعلقة بالإسناد، وسيأتي معنى الإسناد لأنه يقتضي مسندًا ومسندًا إليه، فحينئذٍ البحث في هذه الأبواب من هذه الحيثيات العارضة للفظ العربي هو بحثٌ في علم المعاني. ثم المسند وقد يكون فعلاً أو في ما معنى المفعل وله متعلقات، الذي هو المفعول به و .. و .. إلى آخره، فحينئذٍ يأتي الباب الرابع وهو البحث في متعلقات الفعل، ومتعلقات فعلٍ - إذا وقع مسند مثلاً - تورد. قصرٌ قد يكون الكلام يراد به القصر وقد لا يراد به القصر، ما قام إلا زيدٌ هل يُؤَدَّى المعنى هذا بقولك زيدٌ قائمٌ مثلاً، ما يصلح، إذا أردت القصر حينئذٍ له أساليب، أين تبحث هذا الأساليب؟ في علم المعاني. فإذا أريد القصر وعدم القصر حينئذٍ له بابٌ خاص وهو الباب الخامس: وإنشاءٌ، وهو ما يقابل الخبر كالطلب والاستفهام والبحث عنها، وهذا الباب السادس، وفصلٌ وصلٌ يعني: إذا كان الكلام مركبًا من جملتين فأكثر، حينئذٍ علاقة الجملة الثانية بالأولى هل بينهما علاقة أو لا، إن كان بينهما علاقة فهو الوصل، إن لم يكن بينهما علاقة حينئذٍ الفصل، متى تفصل؟ ومتى تصل؟ هذا البحث يكون في الباب السابع، وهو الفصل والوصل. أو إيجازٌ إطناب مساواة، يعني: الكلام باعتبار المعنى إما أن يكون أزيد، وإما أن يكون أقل، وإما أن يكون أكثر [هل مساوٍ $ 1.15.26]، فإن كان كثيرًا فهو الإطناب، إذا كان اللفظ أكثر من المعنى فهو الإطناب، وإذا كان أقل فهو الإيجاز، وإن كان مساويًا للمعنى فهو المساواة، وهو الباب الثامن، إذًا هذه ثمانية أبواب: الباب الأول: الإسناد الخبري. الباب الثاني: المسند إليه، يعني: أحوال المسند إليه. الباب الثالث: أحوال المسنَد. والرابع: متعلقات الفعل. القصر الخامس. الإنشاء هو السادس. الفصل والوصل هو السابع. والإيجاز والإطناب والمساواة هو الثامن. ثم شرع في ما يتعلق بأول الأبواب، وهو أحوال الإسناد الخبري ونأتي عليه بعد الصلاة إن شاء الله تعالى، والله أعلم. وصلَّ الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

4

عناصر الدرس * الباب الأول: الإسناد الخبري. * الغرض من الخبر. * أحوال المخاطب وحكم كلٍ. * الحقيقة والمجاز العقليان. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال الناظم رحمه الله تعالى: (الْبَابُ الأَوَّلُ: أَحْوَالُ الإِسْنَادِ الْخَبَرِيِّ) هذا هو الباب الأول من الأبواب الثمانية التي نظمها هذا العلم، وهو علم المعاني حيث ذكر أنه (مُنْحَصِرُ الأَبْوَابِ فِي ثَمَانِ)، وأول الأبواب هذا ما يتعلق بالإسناد. قال: (أَحْوَالُ الإِسْنَادِ الْخَبَرِيِّ). ثلاث كلمات لكل واحد منها محترز، و (الْخَبَرِيِّ) احترازًا عن الإنشائي، وهل أخرج الإنشائي وليس بداخل؟ ليس هذا المراد، وإنما مرادهم أن التركيز في هذا الموضع يكون على الخبر، ولذلك قصد، وليس فيه احترازًا عن الإنشاء. و (أَحْوَالُ) بمعنى أمور عارضة وهو جمع حال، يعني: صفات تَعْرِض على الإسناد. والإسناد مصدر أَسْنَدَ يُسْنِدُ إِسْنَادًا، والإسناد عند البيانيين كغيرهم نسبة حُكْمٍ إلى اسم إيجابًا أو سلبًا، نسبة حكم نسبة بمعنى إضافة، إذا قلت: زَيْدٌ قَائِم. أضفت إلى زيد القيام، نَسَبْتَ إلى زيد القيام، فزَيْدٌ منسوب إليه وقائم منسوب، والذي نسبته هو ثبوت القيام، نسبة حكمٍ، والحكم المراد به هنا على جهة الإجمال الخبر والفعل، لأنك إذا قلت: زَيْدٌ قَائِمٌ. أثبت لزيد مضمون لفظ قائم وهو القيام، إذا قلت في الجملة الفعلية: قام يقوم زيد. فنسبت إلى زيد القيام، فالفرق بين قام زيد ويقوم زيد أنك نسبت القيام في قام زيد إلى زيد في الزمن الماضي، ويقوم زيد نسبت القيام إلى زيد في الزمن الحال أو المستقبل، واضح هذا؟ إذًا نسبة حكمٍ أي: مضمون الخبر أو مضمون الفعل إلى اسم المراد به المبتدأ والفاعل أو نائب الفاعل، فإذا قلت: قَامَ زَيْدٌ. زَيْدٌ هذا فاعل إذًا نسبتَ حكم وهو القيام الذي دل عليه قام إلى زيدٍ، وزيد هذا من حيث المعنى مسنَد إليه، وهو الذي يعنيه البيانيون، كذلك إذا قلت: زَيْدٌ قَائِمُ، زيد عند البيانيين يُسَمَّى ماذا؟ مُسْنَدًا إليه، وعند النحاة مبتدأ، وعند المناطقة موضوع، ليس محمول، وعند الأصوليين محكومًا عليه، لأنه هو المكلَّف. إذًا أربعة أسماء لمسمًّى واحد، نسبة حكم إلى اسمٍ وهو مبتدأ أو فاعل أو نائب فاعل إيجابًا أو سلبًا، إيجابًا يعني: إثباتًا. زَيْدٌ قَائِمٌ أليس كذلك؟ لَيْسَ زَيْدٌ قَائِمًا ما الفرق بينهما؟ كلاهما جملة اسمية إلا أن الأولى مثبته زَيْدٌ قَائِمٌ فيه إثبات قيام لزيد، لَيْسَ زَيْدٌ قَائِمًا فيه نفي القيام عن زيد أليس كذلك؟ مَا زَيْدٌ قَائِمٌ فيه نفي القيام عن زيد، حينئذٍ إيجابًا يعني: إثباتًا. أو سلبًا يعني: نفيًا، فالجملة الفعلية وكذلك الجملة الاسمية إما أن تكون موجبة وإما أن تكون سالبة، فإما أن يُثْبَتَ للمحكوم عليه وهو المسند إليه مدلول أو مضمون الخبر، أو ينفى عنه.

وهذا تعريف مشهور عند النحاة، وعند البيانيين المشهور أن الإسناد هو بمعنى ما سبق إلا أن فيه شيئًا من الإطالة، ضَمُّ كلمة أو ما يَجْرِي مجراها إلى أخرى بحيث يفيد الحكم بأن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى أو منتفي عنه، هو الأول لكن هذا فيه زيادة فلسفة، يعني: ضم كلمة هذا فيه نِسبة، نسبة حكم إلى اسم إذًا ضم كلمة إلى أخرى، كلمة واضحة إما اسم وإما فعل، طيب أو ما يجري مجراها يعني ما يكون في قوة الكلمة، وذلك فيما إذا وقع الخبر جملة زَيْدٌ قَائِمٌ، كلاهما مفردان ضممت كلمة إلى كلمة أخرى، طيب زَيْدٌ قَامَ أَبُوهُ، هل ضممت كلمة إلى كلمة أخرى؟ لا، وإنما ضممت جملة إلى كلمة، هنا قال: ضم كلمة أو ما يجري مجراها. يعني: ما يجري مجرى الكلمة يعني ما يكون في قوة الكلمة، والجملة الفعلية والاسمية إذا وقعت خبرًا فهي مأولة للمفرد، زَيْدٌ قَامَ أَبُوهُ في قوة قولك: زَيْدٌ قَائِمٌ أَبُوهُ. وَقَائِمٌ أَبُوهُ هذا مفرد، إلى أخرى يعني: إلى كلمة أخرى أو ما يجري مجراها بحيث يُفيد الحكم بأن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى بمعنى أن الإسناد إنما يكون باعتبار المفاهيم وهو كذلك، فإذا قلت: زَيْدٌ قَائِمٌ. عندنا أربعة أشياء زَيْدٌ لفظ مسمى زيد، قَائِمٌ لفظ مسمى قائم، فأنت إذا أخبرتَ عن زيد بكونه قائمًا هل أخبرت عن اللفظ باللفظ؟ هل أخبرت بمضمون قائم عن لفظ زيد؟ لا، لأنك إذا قلتَ: أخبرتَ عن اللفظ. حينئذٍ قلت: زَيْدٌ قَائِمٌ. لفظ الزيد لفظ زيد هو قائم وليس هذا المراد، وإنما المراد مسمى زيد ذاته، لأن عندنا اسم وعندنا مُسمّى، الاسم يكون باللسان لفظ زيد، مسمى الشخص نفسه الذات # 6.41 ... مسمى زيد، إذا قلت: قَائِمٌ. أثبت القيام لزيد أو لمسماه؟ لمسمى زيد، كذلك إذا قلت: قَائِم. هل أثبت لزيد الذي هو مسمى زيد لفظ قائم أو ما دل عليه قائم؟ ما دل عليه قائم. انتبه لهذه الاعتبارات. إذًا قال هنا بأن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى، فالاعتبار ليس باللفظ وإنما بما دل عليه اللفظ، فإذا أخبرت زيد قائم أي: مُسمَّى زيد ثابت له مدلول قائم، مضمون قائم ثبت بمدلول زيد، الذي هو وصف القيام هو ذات زيد وليس هو لفظ زيد، إذًا هذا هو الإسناد. الإسناد يقتضي مُسْنَدًا ومُسْنَدًا إليه، لأن عندنا كلمتين نسبة حكم إلى اسم، إذًا عندنا نسبة وهي الأصل في الإسناد، وهذه النسبة تقتضي بأن توجد، كيف توجد؟ لا بد أن توجد بين لفظين، فأحد اللفظين يسمى مسندًا إليه وهو المحكوم عليه، واللفظ الآخر يسمى مُسندًا، وهنا التسمية باعتبار الألفاظ في عرف النحاة. قال الناظم: إِنْ قَصَدَ المُخْبِرُ نَفْسَ الحُكْمِ ... فَسَمِّ ذَا فَائِدَة وَسَمِّ إِنْ قَصَدَ الأِعْلاَمَ بِالْعِلْمِ بِهِ ... لاَزِمَهَا ............... العاقل إذا تكلم هنا اشترط العاقل ولا لا، إذا تكلم بكلام ما فله فائدتان، يعني في الجملة ماذا أراد بكلامه؟

إما أن يريد إفادة المخاطَب، أنت ما تعلم زيد مسافر ما تدري جئتَ قلتُ لك: زَيْدٌ مُسَافِر، أَوْ سَافَرَ زَيْد. ما المراد بهذا الخطاب بهذا الخبر، إفادة المخاطَب مدلول اللفظ، بمعنى أنه لا يدري عن سفر زيد قلتُ له: زَيْدٌ سَافَرَ. هذا يسمى ماذا؟ يسمى إفادة المخاطَب نفس الحكم الذي دلّ عليه زَيْدٌ سَافَرَ. النوع الثاني: لا يُراد بالخبر إفادة المخاطَب، لأنه يعلم مدلول اللفظ، لكن ثَمَّ أمر آخر يشير إليه المتكلِّم بكلامه، وذلك فيما إذا أراد أن يُخْبِرَ المخاطَب بأنه يعلم الحكم كما علمه المخاطَب زيد يكون عندك في البيت تعلم أن زيد عندك أو لا؟ تعلم قطعًا موجود في البيت فأقول لك: زَيْدٌ عِنْدَكَ الْبَارِحة تَعَشَّى عِنْدَك. أنت تدري أو لا تدري؟ تدري قطعًا، إذًا إخباري لم يُقْصَد به إفادة المخاطَب مدلول اللفظ وإنما أراد به لازم الفائدة. وهي إذا قلت: زيد عندك يعني: أعلم أن زيدًا عندك كما تعلم أنت بأن زيد عندك، إذًا هذا يُسِمَّى ماذا؟ ليس فيه فائدة المخاطَب بمدلول اللفظ وإنما بلازم اللفظ. هاتان فائدتان، فمن المعلوم أن العاقل إذا قصد بخبره إفادة المخاطب حينئذٍ إما أن يقصد نفس الحكم يعني الذي دل عليه اللفظ زَيْدٌ قَائِمٌ إذا أخبر من لا يعلم بقيام زيد، وهذا هو الأصل في الكلام، أو كون المتكلِّم والمخبِر عالمًا بالحكم كقولك لمن زيد عنده ولا يعلم أنك تعلم ذلك: زَيْدٌ عِنْدَك. هو يعلم أنه عنده في البيت ولكنك تقول: زَيْدٌ عِنْدَك. بمعنى أني أعلم ما تعلمه أنت وهو أن زيد عندك هذا يسمى الثاني لازم الفائدة. وهذا الذي عناه الناظم من قوله: (إِنْ قَصَدَ المُخْبِرُ نَفْسَ الحُكْمِ). يعني: بإخباره (فَسَمِّ ذَا) أي: المقصود الكلام أو الخبر. (فَائِدَة) فائدة الخبر، (وَسَمِّ) (لاَزِمَهَا) الضمير يعود للفائدة متى؟ إن قصد الإعلام بالعلم به، واضح هذا؟ إذًا كل عاقل إذا تكلم فالأصل فيه أنه لا يخرج عن هاتين الفائدتين. نقول: العاقل لماذا؟ لأن النائم قد يقوم فيتكلم وكلامه لا يفيد المخاطَب ولا لازم الفائدة، والمجنون إذا تكلم كذلك لا يفيد المخاطَب ولا يفيد لازم الفائدة.

إذًا قول الناظم: (إِنْ قَصَدَ المُخْبِرُ - بخبره - نَفْسَ الحُكْمِ). أي: الحكم نفسه (نَفْسَ الحُكْمِ) من إضافة الصفة إلى الموصوف، والمراد بالحكم هنا وقوع النسبة أو لا وقوعها، الذي هو المحكوم به إطلاقًا للمصدر على اسم المفعول مجازًا، كقولك: زَيْدٌ قَائم. لمن لا يعرف أنه قائم فهو حكم أفاد فائدة لم تكن عند المخاطَب، إذا أفدت المخاطَب فائدة ليست عنده هذا هو النوع الأول، (فَسَمِّ ذَا فَائِدَة)، الفاء هذه واقعة في جواب الشرط ... (إِنْ قَصَدَ) (فَسَمِّ) الفاء هذه واقعة الجواب الشرط، و (ذَا) اسم إشارة للمفرد في محل نصب مفعول أول لـ (سَمِّ)، و (فَائِدَة) هذا مفعول ثانٍ، لأن (سَمِّ) هذا يتعدى إلى مفعولين فينصب الأول بنفسه وقد يتعدى إلى الثاني بنفسه أو بالباء، سميت ولدي محمدًا، سميت ولدي بمحمدٍ يجوز فيه الوجهان، (فَسَمِّ ذَا فَائِدَة)، إذًا (ذَا) في محل نصب مفعول أول لـ (سَمِّ)، ومفعوله الثاني (فَائِدَة)، والمشار إليه بقوله: (ذَا) أي: هذا الحكم الذي يُقصد بالخبر إفادته (فَائِدَة) أي: فائدة الخبر. إذًا هذا هو النوع الأول الذي يكون مقصودًا للمتكلِّم العاقل. (وَسَمِّ إِنْ قَصَدَ) المخبِر بخبره (الأِعْلاَمَ) أي: إعلام وإخبار المخاطَب (بِالْعِلْمِ بِهِ) أي: بالعلم بأن المتكلم عالم بالحكم، يعني: ليس ثَمَّ قصد للمتكلم أن يخبر المخاطب بشيء لا يعلمه، لأنه يعلمه باعتباره هو المخاطَب من حيث إفادة الحكم هذا من باب تحصيل الحاصل، تقول: زيد عندك. أنت تعلم أن زيد عندك. إذًا نقول: هذا من باب تحصيل الحاصل، والأصل فيه أن الكلام يكون لغوًا، لكن لَمَّا رُوعِيَ فيه اللازم وهو إفادة المخاطَب أني أعلم ما تعلمه أنت صار فيه فائدة، لكنها ليست من ذات اللفظ، فذات اللفظ يدل على النسبة فقط قيام زيد ثابت أو القيام ثابت لزيد، كونه يعلم يعني: المتكلِّم بمدلول الخبر وهو إعلام المخاطَب بذلك هو شيء خارج، واللازم كما مر معنا أنها شيء خارج عن مدلول اللفظ، (الأِعْلاَمَ) أي: إعلام وإخبار المخاطَب بالعلم به أي: بالعلم بأن المتكلم عالم بالحكم كقولك لمن زيد عنده [يعلم ويعلم نعم أنك أو] (¬1) لا يعلم أنك تعلم ذَلِكَ زَيْدٌ عِنْدَه (لاَزِمَهَا) أي: لازم فائدة الخبر مفعول يُسَمَّي وجواب إن محذوف، يعني: قصد الإعلام بالعلم به (فَسَمِّ) لازمها، يعني لازمها هذا متعلق (سَمِّ) مفعول به، طيب أين الجواب إن قصد الإعلام بالعلم به فسمه لازمها؟ تُقَدِّرُ له جوابًا محذوفًا لأنه أَخَّرَ المفعول به وقدَّم العامل (سَمِّ) ووسط بينهما بين العامل والمفعول به جملة (إِنْ قَصَدَ الأِعْلاَمَ بِالْعِلْمِ بِهِ)، (بِالْعِلْمِ بِهِ) يعني: بمدلول الخبر، فإذا كان كذلك فسمها لازمها، أي: لازم فائدة الخبر مفعول (سَمِّ) وجواب إن محذوف كما ذكرنا. والحاصل: أن قَصْدَ الْمُخْبِر بخبره إفادة المخاطَب أحد أمرين: إما الحكم الذي ضمنه الخبر، وهو النسبة محكوم بها ويسمى فائدة الخبر وهو الأصل في الكلام. وإما كون المخبر عالمًا بالحكم، ويسمى لازم فائدة الخبر. ¬

_ (¬1) سبق.

هذا هو الأصل في الكلام. يعني: لا يخرج عن هذين الأمرين، وقد يراد الخبر لغير هذين الأمرين يعني: قد يأتي الخبر ولا يراد به فائدة الخبر ولا لازمها ويراد به شيء آخر، فالحصر حينئذٍ حصر أغلبي، قد يراد بهذا التركيب غير إفادة المخاطَب العلم بمدلول اللفظ أو بلازم الفائدة، فيرجع حينئذٍ إلى قاعدة كما نص على ذلك الخطيب القزويني في ((الإيضاح)) وهي: أن العالم قد يُنَزَّلُ منزلة الجاهل، متى؟ لعدم جريانه على موجوب العلم بالعمل به، الأصل في العلم أنه يقتضي العمل، ولا يكون العلم محمودًا إلا إذا قارنه العمل، فإن انتفى العمل ووجد العمل، فالجاهل والعامل سواء في مرتبة واحدة، من يَعْلَمُ ولا يَعْمَلُ هو والجاهل سواء طبعًا ليس في الحكم الشرعي لأن العالم يعاقب، والجاهل قد يُعْذَر وقد لا يُعْذَر، المراد هنا في الخطاب، فحينئذٍ يستوي الجاهل والعالم، فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل وإن كان عالمًا به فنسوي بينهما في الخبر، كقولك لمن يعق أباه وهو يعلم أنك تعلم أنه أبوه: زَيْدٌ أَبُوكَ. تقول للابن: زَيْدٌ أَبُوكَ. هو يعلم أو لا يعلم أنه أبوه؟ يعلم، هل هناك فائدة أو ما يسمى بفائدة الخبر؟ الجواب: لا، إلا إذا كان الابن ضائعًا وقال: هَذَا أَبُوكَ. حينئذٍ جاءت فائدة الخبر ... (لاَزِمَهَا) إذا لم يكن المخاطَب يعلم أني أعلم أنه أبوك سار لازم الفائدة ونقيد هذا المثال بماذا؟ إذا كان المخاطَب يعلم أني أعلم أنه أبوه، تقول في: زَيْدٌ أَبُوكَ فَأَحْسِن إِلَيْه. هنا انتفى عندنا الأمران، ليس عندنا فائدة الخبر، ولا لازم فائدة الخبر، لماذا خوطب بهذا بِهذا التعبير؟ زَيْدٌ أَبُوكَ؟ لأنه لعدم إحسانه إلى أبيه انتفى العمل بالعلم، لأنه بعلمه أنه أبوه يقتضي البر، فلما انتفى البر الذي هو العمل حينئذٍ نُزِّلَ العالم والجاهل في مرتبة واحدة، زَيْدٌ أَبُوكَ فَأَحْسِن إِلَيْه فيعامل معاملة الجاهل لأبوته لعدم عمله بمقتضى علمه، فمن لم يعمل بما عَلِمَ هو والجاهل سواء فيخاطب العالم بخطاب الجاهل، وقد ينتفي عنه الفائدان لأمر آخر ليس بما سبق، ككلام العباد مع ربهم هذا، لا، ليس فيه فائدة الخبر ولا لازم الفائدة، قطعًا هذا أليس كذلك؟ ولذلك قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي}. لما يخاطب الله عز وجل {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} ليس فيه فائدة الخبر وليس فيه لازم الفائدة، إنما من باب إظهار الفقر والتذلل، له فائدة أخرى ليست هي المذكورة {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى} [آل عمران: 36] الله يعلم أنها وضعتها أنثى {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران: 36] والله يعلم ذلك {إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] نقول: خطاب العباد مع الله تعالى ليس فيه إفادة المخاطب بمدلول الخبر، وليس فيه لازم الفائدة، وإنما له نكتة تختص به في موضعه.

فإذا تقرر هذا وعرفت أن القصد بالخبر أحد الأمرين السابقين وأن العالم قد يُنَزّل مُنَزَّلة الجاهل فينبغي للمتكلم حينئذٍ إذا تكلم أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة، إما أن تأتي بألفاظ لإفادة الخطاب أو المخاطب شيئًا ليس عنده، أو بما يدل على أنك عالم بما يعلمه المخاطب، وما زاد على ذاك فهو لغو، يعتبر لغو زيادة على الكلام، نقول: يعتبر لغوًا. فالأصل فيه أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة في إفادة الحكم أو لازم الحكم، فلذا قال الناظم: (وَلِلْمَقَامِ انْتَبِهِ). إن كان المقام يقتضي إفادة المخاطب فحينئذٍ تأتي بألفاظ تفيد الخطاب فقط ولا تزد، وإن كان المراد إفادته لازم الفائدة فحينئذٍ تأتي بألفاظ تدل على ذلك ولا تزد، ... (وَلِلْمَقَامِ انْتَبِهِ) أي: مقام التخاطب (انْتَبِهِ) أمر من انْتَبَهَ يَنْتَبِهُ والانتباه هو التيقظ يعني: تيقظ لذلك. ثم ذكر مما يناسب المقام ولا يزد ولا يُنْقِص ما يسمى بأَضْرُبِ الخبر، أَضْرُب الخبر ثلاثة: ابتدائي، طلبي، إنكاري. الابتدائي له موضع، والطلبي له موضع، والإنكاري له موضع. إِنْ ابْتِدَائِيًّا فَلاَ يُؤَكِّدُ ... أَوْ طَلَبِيًّا فَهْوَ فِيهِ يُحْمَدُ وَوَاجِبٌ بِحَسَبِ الأِنكَارِ ... ............................. بيت ونصف اجتمع فيه أضرب الخبر الثلاثة، مشهورة عند البيانيين، ... (إِنْ ابْتِدَائِيًّا) إن شرطيًا (ابْتِدَائِيًّا) خبر كان أو يكن محذوف مع اسمها لأن إن لا يليها الاسم البتة، لا يليها اسم فإن جاء مرفوعًا حينئذٍ قلنا هذا فاعل لفعل محذوف أليس كذلك؟ أو نائب فاعل، {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: 6] {وَإِنْ أَحَدٌ} أحد جاءت بعد إن {وَإِنْ} في لسان العرب لا يتلوها الاسم المرفوع البتة، فإن كان كذلك حينئذٍ لا يعرب مبتدأ خلافًا لمن جوز ذلك فإنه لا يعرب مبتدأ، فحينئذٍ نقول: ... {أَحَدٌ} فاعل لفعل محذوف إن استجارك أحد، وقد يكون نائب فاعل {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] {كُوِّرَتْ} هي نائب فاعل {إِذَا الشَّمْسُ} {الشَّمْسُ} هذه إيش إعرابها؟ نائب فاعل ما الذي دلك على ذلك {كُوِّرَتْ}، كُور هذا مغير الصيغة إذًا إذا كورت الشمس هذا الأصل لماذا؟ لأن إذا شرطية ولا يتلوها إلا الفعل، إن جاء بعد إن أو إذا اسم منصوب حينئذٍ الغالب تجعله خبرًا لكان المحذوفة مع اسمها وهذا الذي عناه ابن مالك في قوله: ويحذفونها. يعني: كان. ويحذفونها ويبقون الخبر ... وبعد إن ولو كثيرًا ذا اشتهر «التمس ولو خاتمًا». «خاتمًا» ما الناصب له؟ تقول: خبر كان، أين كان؟ تقول: كان راحت في خبر كان [ها ها]. يعني: حُذفت التمس ولو كان الملتَمَسُ خاتمًا، ولو كان كَان حذفت والملتمس هذا اسمها محذوف معها.

هنا قال: (إِنْ ابْتِدَائِيًّا). يعني: إن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم والتردد فيه فالمقام حينئذٍ يكون ابتدائيًا، لا بد من تقدير في الجملة كلها (إِنْ ابْتِدَائِيًّا) إن يكن المخاطب خالي الذهن، خالي الذهن من ماذا؟ من الحكم ومن التردد فيه، فإذا انتفى هذان الأمران الحكم أصالة ما يدري عن الخبر من أصله، أو التردد بأن يدري لكنه لم يجزم، فحينئذٍ فالمقام يسمى ابتدائيًّا، ما حكمه؟ (فَلاَ يُؤَكَّدُ) الفاء هذه واقعة في جواب الشرط لا يُؤَكَّدُ يعني: الخبر. لا يؤكد الخبر يعني: لا تأتي بمؤَكِّدٍ من المؤكِّدات. فإن تخاطب خال الذهن من حكم ومن تردد، فالتغني عن المؤكدات، زَيْدٌ قَائِمٌ، هو ما يدري قيام زيد، ما يدري عن الموضوع من أصله، قَامَ زَيْدٌ، زيْدٌ قَائِمٌ، حينئذٍ لا يؤكد له، إذا أكدت حينئذٍ لم يطابق الكلام مقتضى الحال انتفت البلاغة، إنسان ما يدري عن زيد قائم واللهِ الَّذِي لا إِلَه غَيْرُه زَيْدٌ قَائِمٌ، نقول: هذا ما يصح. لماذا؟ لأنك أكدت لخال الذهن، وخال الذهن الذي لا يتصور الخبر من أصله، حينئذٍ لا يؤكد. إذًا إن كان ابتدائيًّا وصفة الابتدائي أن المخاطب يكون خالي الذهن، ذهنه صافي من ماذا؟ من الحكم ومن التردد فيه، (فَلاَ يُؤَكَّدُ) يعني له الخبر لتمكن الحكم في الذهن حيث وجده خاليًا، وخالي الذهن من الحكم بإثبات أحد طرفي الخبر الآخر أو نفيه عنه، وذلك بأن لا يكون عالمًا بوقوع النسبة أو لا وقوعها، يعني: ما يدري لم يتصور الطرفين، لم يخطر بباله لا زيد ولا لفظ قائم. وأما المتردد في أن النسبة هل هي واقعة أم لا؟ تصور زيد وتصور قائم لكن لا يدري هل ثبت القيام لزيد أم لا؟ مات زيد شاع ولا يدري تصور الموت ويتصور زيد لكن لم يتثبت هذا يسمى ماذا؟ متردد ولذلك سمعت أنا بالخبر لكن لست جازمًا هذا يسمى مترددًا، وإذا لم تسمع أصلاً يسمى خالي الذهن، والمتردد في أن النسبة هل هي واقعة أم لا، وذلك بأن يكون متصورًا لطرفي الخبر والنسبة، مترددًا في كيفية استناد أحدهما إلى الآخر طالبًا لها، يعني: يريد التأكيد، فلا يؤكد الخبر لخال الذهن من الحكم والتردد فيه بشيء من المؤكدات وهي: إن، واللام، واسمية الجملة، وتكريرها، ونون التوكيد .. وغير ذلك من المؤكدات، كقولك: زَيْدٌ قَائِمٌ. لمن هو خال الذهن من ذلك ليتمكن في ذهنه لمصادفته خاليًا، لأن خلو الذهن عن الشيء يوجب استقراره، يعني: لا يحتاج ليس هناك ما يُدَافِعُهُ يعني: الذي عنده شيء إذا سمع الخبر عنده منازعة يحتاج إلى تعطيه مؤكِّدًا أو مؤكديْنِ، أما خالي الذهن الذي لا يتصور هذا ما يحتاج ليست عنده منازعة، فهذا هو الضرب الأول من أضرب الكلام وهو الخبر وهو الابتدائي وسمي به لأنه لم يسبق عليه من المخاطَب بشيء من الطلب والإنكار فقد ألقي ابتدائيًّا.

(أَوْ طَلَبِيًّا) أو كان المقام (طَلَبِيًّا) نسبة إلى الطلب كما أن ابتدائيًّا نسبة إلى الابتداء، بأن تخاطب من كان متردِّدًا في الحكم يعني: تصور الطرفين والنسبة، تصور زيد وتصور قيام زيد ونسبة القيام لزيد، لكن شك في وتردد في هل النسبة واقعة بالفعل أم لا، أليس كذلك؟ حينئذٍ يسمى متردِّدًا، بأن تخاطب من كان متردِّدًا في الحكم بأن حضر في ذهن طرفا الحكم والنسبة وتحير في أن الحكم بينهما وقوع النسبة أو لا وقوعها، وكان طالبًا للحكم ليعلمه هل هو سلب أم إيجاب (فَهْوَ فِيهِ يُحْمَدُ) الفاء وقع في جواب الشرط، ومرجع الضمير التوكيد المفهوم من قوله: (يُؤَكَّدُ). يجوز أو لا يجوز؟ يجوز من باب {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] {اعْدِلُواْ هُوَ} أي: العدل. (فَلاَ يُؤَكَّدُ) هو (فَهْوَ) أي: التوكيد (فِيهِ) في الطلب لهذا النوع (يُحْمَدُ) أي: محمود. أي: حسن كما يعبر البيانيون، (فَهْوَ) الفاء وقع في جواب الشرط ومرجع الضمير التوكيد المفهوم من قوله: (يُؤَكَّدُ)، من باب {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، (فِيهِ) أي: في المقام الطلبي الضمير يعود إلى مقام الطلب يُحْمَدُ أي: يَحْسُنُ. هذا عبارة البيانيين يَحْسُنُ، (يُحْمَدُ) أي: توكيده. أي: يحسن توكيد بمؤكد واحد، واحد فقط، تأتي بمؤكد واحد بأن تدخل في كلامك إن أو اللام أو غيرهما ليزيل ذلك التأكيد تردد المخاطب ويتمكن الحكم في ذهنه، فحينئذٍ لو كان عنده شيء من التردد لا يصلح أن تقول له: زَيْدٌ قَائِمٌ. فلو قلت له: زَيْدٌ قَائِمٌ. وعنده شيء من التردد نقول: هذا لم يطابق مقتضى الحال ليس كلامًا بليغًا، وإنما تقول له: إِنَّ زَيْدًا قَائمٌ. حصل ماذا؟ هل ثَمَّ فرق بين قولك: زَيْدٌ قَائِمٌ. وقولك: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ؟ تقول: نعم. الأول خالي عن التأكيد فيلقى لخال الذهن، والثاني مؤكَّدًا بمؤكِّد واحد فإذا كان المخاطَب متردِّدًا في الحكم طالبًا له فحينئذٍ صار (طَلَبِيًّا). وقول الناظم: (يُحْمَدُ). يفهم منه أن التأكيد في هذه الحالة ليس بواجب إنما محمود وحسن، والأمر ليس كذلك، اللهم إلا أن يقال: إن قوله (يُحْمَدُ) شاملٌ للوجوب وغيره فلا يدل على الوجوب بخصوصه، هذا كالشرع الواجب محمود، والمندوب كذلك محمود، الواجب حسن وكذلك المندوب حسن، فاللفظ فيه إجمال، فقوله: (يُحْمَدُ). مراد به أنه واجب، فالمراد أن تقوية هذا المقام في هذه الحالة واجب لكنه لم يعبر بالوجوب لأنه عبر في قوله:

(وَوَاجِبٌ بِحَسَبِ الأِنكَارِ). وعبر بقوله: (يُحْمَدُ). ليدل على أن هذا وجوبه أقل من وجوب الإنكار، فلذلك عدل عن التعبير بالواجب، وإلا الأصل أن يقول: وطلبيًّا فهو فيه يجب. يجب فهو واجب، لكن لما كان وجوبه أقل من وجوب التأكيد الإنكاري عَبَّر عنه بـ (يُحْمَدُ)، فالمراد أن تقوية في هذه الحالة واجب وجوبًا ما غير بالغ إلى الغاية لكن عبر عنه بـ (يُحْمَدُ) تنبيهًا على أن هذا الوجوب ليس بالقوة كوجوبه إذا كان الكلام مع المنكِر، وذلك كقولك لمن يتردد في قيام زيد: لزيد قائم إن زيدًا. تأتي بمؤكد ولو كررت كذلك لا بأس زيد قائم زيد قائم، أكدت بالتكرار وهو نوع من أنواع التوكيد، فهذا هو الضرب الثاني من ضروب الكلام وهو الطلب، سُمِّيَ به إذ هو مسبوق بطلب المخاطَب بلسان الحال أو المقال. (وَوَاجِبٌ بِحَسَبِ الإِنكَارِ) هذا النوع الثالث، إن كان المخاطب منكِرًا للحكم يعني: [يعتقد] (¬1) تصور الطرفين والنسبة واعتقد مدلول ما تخاطبه بعكسه، يعني: تصور قيام زيد، زَيْدٌ قَائِمٌ واعتقد خلافه، هذا يُسمَّى ماذا؟ منكِرًا للحكم حاكمًا بخلافه، وهذا وَجَبَ توكيده، ولذلك قال: (وَوَاجِبٌ). يعني: توكيده (بِحَسَبِ الإِنكَارِ)، (وَوَاجِبٌ) يعني: وجب توكيد (بِحَسَبِ الإِنكَارِ) قوة وضعفًا، يعني: إذا قوي الإنكار جئت بمؤكدَيْنِ، إن ازداد الإنكار جئت بمؤكد واحد [$ هل فيه شيء هنا $ 32.55]، إن ضعف الإنكار جئت بمؤكد واحد، إذًا (بِحَسَبِ الإِنكَارِ) يعني: قوة وضعفًا لأن الجملة قد يجتمع فيها مؤكِّدان فأكثر، وَاللهِ إِنَّ زَيْدًا لَقَائِم كم مؤكد؟ والله، إن، ل اللام زيدًا قائم جملة اسمية أربع مؤكدات، متى هذا تقول: وَاللهِ إِنَّ زَيْدًا لَقَائِم؟ إذا بلغ الإنكار غايته بمعنى أنه إذا بلغ قوة يحتاج إلى الزيادة في التوكيد، (بِحَسَبِ الإِنكَارِ) قوة وضعفًا، أي: بحسب رسوخه في اعتقاد المخاطب وعدمه فإن ضعف إنكاره بحيث يمكن إزالته بسهولة، حينئذٍ يكتفي بمؤكد واحد، فإذا أكَّده بمؤكِّد واحد حينئذٍ استوى مع الطلب، [نعم] والذي يُمَيِّزُ هذا عن ذاك حال المخاطَب فإن كان الكلام مؤكَّدًا بمؤكِّد واحد قال قائل: إِنَّ زَيْدًا قَائم. هذا يحتمل أنه طلبي ويحتمل أنه إنكاري، ما الذي يميز هذا عن ذلك؟ المخاطَب، فإن كان المخاطب مترددًا في الحكم فهو طلبي، وإن كان منكِرًا للحكم حاكمًا بخلاف فهو إنكاريٌّ، لكن إِنَّ زيدًا لقائم، هذا إنكاري قطعًا لأن المؤكِّدَيْنِ فأكثر إنما يكون في الإنكار، فحينئذٍ إذا ضَعُفَ الإنكار اكْتُفِيَ بمؤكِّدٍ واحد، وإن توقع ذلك #34.57 جئت له بمؤكِّدَيْنِ .. وهكذا، كلما ازداد في الإنكار زدت في التوكيد إزالة له. لو قال قائل: أنا صادق، إني صادق، إني لصادق، والله إني لصادق. أنا صادق. لمن؟ لخالي الذهن. إني صادق هذا مؤكد بكم؟ مؤكِّد واحد وهو: إن. إني صادق يجوز أن يكون لمتردد ولمنكر ضعيف الإنكار. إني لصادق كم مؤكد؟ إن واللام، هذا للمنكر لكنه وسط. ¬

_ (¬1) ((سبق.

والله إني لصادق، هذا لشديد الإنكار، وإذا زدت والله الذي لا إله غيره [ها ها] حينئذٍ تؤكد له ومن ذلك قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} انظر هنا إنكاري {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا} يعني: الرسل. {إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} [يس: 13، 14] كم مؤكد؟ {إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} كم مؤكد؟ مُؤَكِّدِيْنِ، أتى بمُؤَكِّدِيْنِ، الأول {إِنَّا} والثاني اسمية الجملة، {قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} بعد ما أكدوا لهم بمؤكدين زاد الإنكار {قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 15، 16] ماذا زاد عن الجملة الأولى؟ {رَبُّنَا يَعْلَمُ} قالوا: هذا - كما قال الزمخشري - فيه قوة القسم، كأنهم قالوا: والله. {يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} زادوا اللام، لما تَكَرَّرَ منهم الإنكار زادوا لهم يعني الرسل في المؤكدات فقوله: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} جاري مجرى القسم في التأكيد كما ذكره الزمخشري في كشافه، وإنا واللام واسمية الجملة، وذلك لمبالغة المخاطبين في الإنكار، فهذا هو الضَّرْبُ الثالث من ضُرُوبِ الخبر وهو الإنكار أو الذي يسمى الإنكاري وهو الملقى إلى المنكر، سُمِّيَ به إذ هو مسبوق بإنكار المخاطَب. هذه أنواع وأَضْرُب الخبر. (إِنْ ابْتِدَائِيًّا فَلاَ يُؤَكِّدُ) إن كان ابتدائيًّا خال الذهن فالحكم أنه لا يؤكد له مطلقًا، فإن أُكِّدَ له حينئذٍ خرج عن حد البلاغة. (أَوْ طَلَبِيًّا فَهْوَ فِيهِ) يعني: في هذا الطلب (يُحْمَدُ) يعني: يجب، لكن الوجوب هنا أقل من الإنكار. (وَوَاجِبٌ) يعني: واجب تأكيده للمخاطَب بمؤكِّد واحد فأكثر ... (بِحَسَبِ الأِنكَارِ) قوة وضعفًا. إخراج الكلام على هذه الوجوه - إذا طبقنا الأحكام السابقة - يسمى إخراجًا على مقتضى الظاهر، إخراج الكلام من المتكلم عندما تكلم بأنا صادق، إني صادق، والله إني لصادق، إذا أخرجته باعتبار المخاطَب يعني: هل هو خالي الذهن، متردِّد، وعاملت كل شخص بما هو أهله يُسمَّى إخراجًا للكلام على مقتضى الظاهر من خلوه من التأكيد في الأول الابتدائي، والتقوية بمؤكد استحسانًا على جهة الايجاب في الثاني، ووجوب التوكيد (بِحَسَبِ الأِنكَارِ) في الثالث. قد يُخَالَف نعكس، نخاطِب خالي الذهن بمؤكِّد، نعامل المنكر معاملة خالي الذهن لكن لنكتة لفائدة، إذا لم يكن لفائدة أو لنكتة مقصودة فهو منتفٍ، يعني: وصف البلاغة عنه منتفٍ، قد نعامل خالي الذهن معاملة المنكِر، وقد نعامل المنكِر معاملة خالي الذهن، فإذا عاملنا خالي الذهن معاملة المنكِر أكَّدنا له .. # 39.28، وإن كان الأصل أنه لا يُؤَكَّد له، قد يعامل المنكِر معاملة خالي الذهن فلا يؤكد له، هذا متى؟ إذا خرج الكلام على غير مقتضى الظاهر، واضح هذا؟

الأضرب الثلاثة السابقة بالأحكام السابقة إن أكدنا للمنكِر أو المتردِّد لا إشكال فيه، تركنا التأكيد لخالي الذهن هذا هو الأصل، قد نعكس ونعامل خالي الذهن بمعاملة المنكِر أو بالعكس هذا يسمى خروجًا عن مقتضى [أو على مقتضى الظاهر] (¬1) على غير مقتضى الظاهر، إذًا قد يُخَالَف ويخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر كما ذكره الناظم بقوله: (وَيَحْسُنُ التَبْدِيلُ بِالأَغْيَارِ). أي: تبديل ما يقتضيه الظاهر (بِالأَغْيَارِ) جمع غَير يعني بغيره، يعني: تبدل الخطاب لخالي الذهن بالخطاب للمنكر، وَتُبْدِل أو تُبَدِّل الخطاب للمنكِر بالخطاب لخالي الذهن، وهذا كثير حتى في القرآن ... (وَيَحْسُنُ التَبْدِيلُ) أي: تبديل ما يقتضيه الظاهر (بِالأَغْيَارِ) أي: بغير ما يقتضيه الظاهر، فحينئذٍ يُورِدُ الكلام الملقى إلى خالي الذهن عن النسبة كما يلقى إلى المتردِّد فيها، فيَصُبُّ أو يُصَبُّ لها الكلام في قالب واحد، فيلقى الكلام مؤكدًا إلى خال الذهن كما يلقى للمتردّد، وذلك إذا قدَّم له ما يُلَوّح بالخبر فتستشرف له نفسه استشراف المتردد الطالب حينئذٍ يحسن له أن يؤكد، بمعنى أن المؤكد إذا قدَّم قرينة تشير إلى أن خالي الذهن إذا أُلْقِيَ إليه الكلام فحينئذٍ يكون مترددًا في قبوله، فحينئذٍ يحسن التأكيد، بالمثال المشهور عند النحاة في قوله تعالى: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ}. هذا خُوطِب به نوح عليه السلام {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} هذا يشير إلى ماذا؟ يُشير إلى أمر ما أنه سيقع هل سيقع عذاب أم لا؟ هل سيقع إغراق أم لا؟ إذًا خالي الذهن من الكلام إذا أُلقي إليه مثل هذه القرينة حينئذٍ يستلزم شيئًا آخر ولذلك جاء ما بعده {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ}، وهنا أُلْقِيَ قوله: ... {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ}. إلى خالي الذهن ومع ذلك أكَّدَه لماذا؟ لأنه لَمَّا قال له أولاً {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} كأن المخاطَب قد استحدث في نفسه شيئًا وتشوقت نفسه إلى معرفة شيء وهو هل سيحل بهم العذاب أم لا؟ وهذا شأن متردِّد فلما أُلْقِيَ إليه الخطاب حينئذٍ أُكِّد بمؤكِّد واحد. هنا عومل خالي الذهن معاملة المتردِّد لوجود القرينة الدالة على ذلك، {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي: لا تدعوني يا نوح في شأن قومك. فهذا الكلام يلوح بماذا؟ يلوح بالخبر تلويحًا ويُشعر بأنه قد حقَّ عليهم العذاب فصار المقام مقام أن يتردّد المخاطب في أنهم هل صاروا محكومًا عليهم بالإغراق أو لا؟ صار عنده تردّد فقيل: {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} بالتأكيد. إذًا هنا لو قيل: نوح عليه السلام خالي الذهن لأنه ما يدري ما يعلم فقال الله تعالى: {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ}. لماذا أكد والأصل في خطاب خالي الذهن أنه ابتدائي فلا يؤكد له نقول: هنا نُزِّلَ خالي الذهن مُنَزَّلَة المتردّد لماذا؟ لكون ثَمَّ قرينة تدل على أن في نفسه قد وقع استشرافًا لشيء ما هل هم مغرقون أم لا؟ واضح هذا؟ وقد يُجْعَل المقر كالمنكِر إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار فيؤكد له الكلام تأكيد المنكِر نحو ماذا؟ قول الشاعر: ¬

_ (¬1) سبق مستدرك من الشيخ.

جاء شقيق عارض رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح جاء شقيق رجل مجيئه هكذا مدلاً بشجاعته قد وضع رمحه بعارضه كأنه ليس أحد معه سلاح، فقوله: إن بني عمك. هذا الكلام أُلْقِيَ لخالي الذهن وأكده مع كون المخاطب خالي الذهن لكونه نَزَّلَ نفسه أو المخاطَب مُنَزَّلَة المنكِر، وهنا أُكِّدَ له بمؤكِّد واحد لأن الإنكار هنا بالقوة ويحمل على أقل ما يمكن أن يكون، فهذا دليل على إعجاب شديد منه واعتقاد أنه لا يقوم إليه من بين عمه أحد كأنهم كلهم عُزْلٌ ليس مع أحد منهم سلاحه، فهو لا ينكر أن في نبي عمه سلاح هو مقر لكن قوله: إن بني عمك. إن بني عمك نقول: إن هنا للتوكيد أفادت ماذا؟ أفادت في الأصل أن المخاطب منكِر للحكم نقول: لا، ليس الأمر كذلك، لكن لما كان مع خالي الذهن معه أمارة تدل على أنه ليس منكِرًا للحكم، وإنما هو في قوة المنكِر لأن الذي يأتي بالسلاح ويشهره كأن غيره لا يملك السلاح كأنه منكِر لغيره من إثبات السلاح له، حينئذٍ أكده وهو مقر لكونه مُنَزّل مُنَزّلة المنكِر، وقد يجعل العكس المنكِر كالمقر إذا كان معه دلائل وشواهد لو تأملها ارتدع عن إنكاره، فلا يؤكد له كقولك لمنكر الإسلام: الإسلام حق. هو يُنكر الإسلام، الإِسلام حق لأن الإسلام لو تأمله بشواهده لارتدع وعرف أن إبطاله للإسلام هو مُبْطَلٌ في نفسه فأدنى ما يمكن أن يُتأمل من أحكام الإسلام يصل إلى أنه حق، هنا عومل المنكر معاملة خالي الذهن فألقي إليه الخطاب دون توكيد. الإسلام حق بلا تأكيد لأن مع المنكر دلائل دالة على حقيقة الإسلام، قال في ((الإيضاح)): هذا كله اعتبارات الإثبات وقس عليه اعتبارات النفي. يعني: الكلام كله في الأضرب الثلاثة كما يكون في الإثبات يكون كذلك في النفي، وأورد أمثلة تُرْجَعْ إليها. إذًا (وَيَحْسُنُ التَبْدِيلُ بِالأَغْيَارِ) بمعنى أنه يؤكد لخالي الذهن، ولا يؤكد للمتردد أو المنكر بحسب القرائن التي تحيط به. ثم أورد المصنف مسألة تتعلق بالإسناد وهي تقسيمه إلى إسناد [حقيقي عقلي] (¬1) حقيقة عقلية، ومجاز عقلي. فالإسناد ينقسم إلى نوعين، الإسناد السابق ضُمّ كلمة إلى أخرى على الحد السابق ينقسم إلى قسمين: حقيقة، ومجازي. وكلاهما منسوب إلى العقل. ثم أورد الناظم مبحث الحقيقة والمجاز العقليين نظرًا إلى أنهما من أحوال الإسناد كالتأكيد والتجريد عنه، ثم لفظ الحقيقة والمجاز له استعمالان، يعني سيأتي معنا في علم البيان الحقيقة والمجاز، وهنا كذلك يأتي لفظ الحقيقة والمجاز ما المراد؟ المراد هنا المعنى الذي هو الإسناد، ولذلك وصف بالعقل، وسيأتي في مبحث البيان المجاز والحقيقة لكن اللغوي، فهنا مجاز لغوي ومجازي علقي، اللغوي يبحث في علم البيان، والعقلي يبحث في علم المعاني، كذلك الحقيقة اللغوية تبحث في علم البيان، والحقيقة العقلية تبحث في علم المعاني، ثم لفظ الحقيقة والمجاز تارة يقصد بهما الألفاظ وذلك سيأتي في علم البيان وهو معناهما الاصطلاحي، وتارة يُستعملان في المعاني وهو تجوز في الإسناد وعدمه، وهو المقصود هنا في علم المعاني. قال الناظم: وَالْفِعْلُ أَوْ مَعْنَاهُ إِنْ أَسْنَدَهُ ... لِمَا لَهُ فِي ظَاهِرٍ ذَا عنْدَهُ ¬

_ (¬1) سبق.

حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ وَإِنْ إِلَى ... غَيْرِ مُلاَبِسٍ مَجَازًا أَوَّلاَ أُوِّلا يجوز الوجهان. إذًا الحقيقة العقلية عرَّفها بقوله: (الْفِعْلُ) بأنواعه الثلاثة، الفعل الماضي والفعل المضارع وفعل الأمر، (وَالْفِعْلُ) المراد به هنا الفعل الاصطلاحي، [ما دل على كلمة] (¬1) ما دل على معنى في نفسه واقترن بأحد الأزمنة الثلاثة (وَالْفِعْلُ أَوْ) للتنويع (مَعْنَاهُ) يعني: معنى الفعل. وهو ما يكون فيه رائحة الفعل كاسم الفاعل مصدر (أَوَّلاَ) واسم الفاعل (مَعْنَاهُ) عرفنا مراد معناه يعني: معنى الفعل، ما فيه معنى الفعل، رائحة الفعل، كالمصدر، واسم الفاعل، واسم المفعول والصفة المشبهة، واسم التفضيل، والظرف، هذه كلها في معنى الفعل، فقد ترفع ما بعدها، وقد تنصب ما بعدها، فهي تعمل عمل الفعل، المصدر وما عطف عليه يعمل عمل الفعل ولذلك هي في قوة الفعل في معنى الفعل، (الْفِعْلُ أَوْ مَعْنَاهُ إِنْ أَسْنَدَهُ) أي: المتكلِم. ... (لِمَا لَهُ) يعني: لما اللام هنا بمعنى إلى، وما بمعنى شيء (إِنْ أَسْنَدَهُ) عرفنا الإسناد # 50.13 ... أو نسبة (إِنْ أَسْنَدَهُ) المتكلم أسند الفعل أو ما في معنى الفعل أسنده إلى أي شيء؟ إلى ما أي شيء هو له، أي لذلك الشيء، والمقصود هنا من باب الاختصار والإيضاح أن الفعل أو ما في معنى الفعل له ملابسات شتى، قد يلابس الفاعل وقد يلابس المفعول به المرفوع وهو نائب الفعل، وقد يلابس غير هذين الشيئين الفاعل والمفعول به المرفوع يعني: نائب الفاعل. (إِنْ أَسْنَدَهُ) الفعل أو ما في معنى الفعل إلى فاعله حينئذٍ نقول: هذا حقيقة عقلية، (إِنْ أَسْنَدَهُ) الفعل وما في معنى الفعل إلى نائب الفاعل المفعول المرفوع فهو إسناد حقيقي، حقيقة عقلية، إن أسند الفعل إلى ما هو له يعني: الذي أحدثه بالفعل والذي يُحدث الفعل وما في معنى الفعل ما هو؟ الفاعل، تقول: صَامَ زَيْدٌ، صَائِمٌ زَيْدٌ، أَصَائِمٌ زَيْد، زيدٌ هذا أحدث الصيام في الموضعين صَامَ زَيْدٌ، زيد هو الذي أحدث الصوم، أَصَائِمٌ زَيْدٌ، زيد هو الذي أحدث الصوم، إذًا إذا أسند الفعل وما فيه معناه إلى الفاعل فهو حقيقة عقلية، إن أسند إلى المفعول المرفوع يعني: نائب الفاعل فهو حقيقة عقلية، إن أسند إلى غير هذين كالزمن [والمصدر نعم] (¬2) كالزمن والمكان فحينئذٍ نقول: هذا إسناد الشيء إلى غير ما هو له. هذا الفرق بين النوعين واضح هذا؟ إن أسند الفعل أو ما في معنى الفعل إلى الفاعل والمفعول المرفوع شيئين فقط محصورَيْنِ، فالإسناد حقيقة عقلية وإن لم يسند إليهما بل أسند إلى غيرهما فالإسناد مجاز عقلي. نَهْرٌ جَارٍ، جار هو أي: النهر. أي: الماء. هذا ليس إسنادًا حقيقيًّا إنما هو إسناد مجازي. إذًا (إِنْ أَسْنَدَهُ) أي: المتكلِم، إذًا الفعل أو معناه، احترز بالفعل أو معناه عما لا يكون فيه فعل ولا معنى الفعل، وهذا اختلفوا فيه هل هو موجود أم لا؟ لكن ذكره البيانيون، حينئذٍ الحيوان جسم عندنا إسناد هنا أليس كذلك؟ أسندت جسم إلى الحيوان، هل الحيوان هنا فعل؟ لا، هل هو في معنى الفعل؟ لا. ¬

_ (¬1) ((سبق مستدرك من الشيخ. (¬2) سبق مستدرك.

إذًا ليس بحقيقة ولا مجاز، لأن الحقيقة العقلية والمجاز العقلي هو إسناد للفعل أو معناه إلى ما هو له في الأول، وإلى غير ما هو له في الثاني. إذًا لا بد من إسناد الفعل أو معناه في الموضعَيْنِ الحقيقة العقلية والمجاز العقلي. فإذا لم يكن عندنا إسناد فعل أو في معنى الفعل فلا يُسمى حقيقة عقلية ولا مجازًا. إذًا احترز به عن ما لا يكون المسند فيه فعلاً أو معناه كقولنا: الحيوان جسم. فإنه لا يوصف بحقيقة ولا مجاز على قول، أو في الفعل أو معناه للتنويع، (إِنْ أَسْنَدَهُ) أي المتكلم (لِمَا) أي: إلى، ما أي شيء هو له أي: لذلك الشيء، كالفاعل فيما بني للفاعل، ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا هنا ليس الكلام في المفردات، ليس في ضَرَبَ هل استعمل في معناه أو لا، وزيد هل استعمل في معناه أو لا؟ ليس هذا الكلام هذا سيأتي في علم البيان، نحن نتكلم هنا في الإسناد ضم كلمة إلى أخرى، ضَرَبَ زَيْدٌ، مُسْنَد ومُسْنَد إليه، ليس بحثنا في المسند والمسند إليه، هل استعمل في معناه اللغوي، هذا بحثه فيما يأتي، أما الكلام هنا في الإسناد ضم كلمة إلى أخرى، ضَرَبَ زَيْدٌ هنا أسندت ضَرَبَ وهو فعل إلى زيد على وجه ماذا؟ على وجه الفاعلية فهو إسناد حقيقي، ويسمى حقيقة عقلية، ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، وللمفعول به فيما بُنِيَ للمفعول به نحو ضُرِبَ عَمْرٌ هنا أسندت ضرب إلى عمرو فإن الضاربية لزيد والمضروبية لعمرو هذه ثابتة بدلالة اللفظ، أما نحو نهاره صائم، صَائم هذا اسم فاعل ويرفع فاعل أين الفاعل؟ نَهَارُهُ صَائم هو أي؟ تجيبون أنتم، نَهَارُهُ صَائِمٌ هُوَ أي؟ النهار، هل النهار يصوم؟ لا. إذًا أسندت ما في معنى الفعل إلى غير ما هو له، يعني لم يحدثه وإنما سبب الملابسة هنا [كون الصيام] (¬1) كون النهار محلاً للصوم زمانًا له يقع فيه، إذًا ثَمَّ ملابسة، لأن الحدث المصدر لا بد له من مكان ولا بد من له من زمن، وقد يكون ثَمَّ سبب خارج عنه، نَهَارُهُ صَائِمٌ، نهاره مبتدأ صائم، زَيْدٌ نَهَارُهُ صَائِم، نهاره مبتدأ صائم خبر، صائم في معنى الفعل رفع فاعلاً، هنا عندنا إسناد ليس إسناد صائم إلى نهار، لا، وإنما إسناد صائم إلى الفاعل الذي بعده الذي هو الضمير المستتر، فهنا الإسناد هل أسندت صائم الذي هو الحدث إلى ما هو له أو لغير ما هو له؟ لا شك الثاني، لأنك إذا قلت: أنه إسناد الشيء إلى ما هو له. يعني النهار يصوم النهار يصوم؟ ما يصوم قطعًا، النهار لا يصوم، لا يُحْدِثُ الصوم لأنه حَدَثٌ والنهار كذلك حَدَث، والحدث لا يحدث حدثًا، إذًا نهاره صائم نقول: أُسند ما في معنى الفعل إلى فاعل هنا، لكنه ليس هو فاعل حقيقة، فيكون المجاز ويكون الإسناد هو مجازًا عقليًّا، لَيْلُهُ قَائِم، قائمٌ هو أي: الليل. هل الليل يقوم؟ الجواب: لا، فالقول فيه كالقول السابق، فإن الصوم ليس للنهار، بل هو ظرف له، والقيام ليس لليل، بل هو ظرف له. ¬

_ (¬1) سبق.

قال: (فِي ظَاهِرٍ). لما هو له (فِي ظَاهِرٍ ذَا) أي: الإسناد المذكور، أي: إلى ما يكون الفعل أو معناه له (عنْدَهُ) أي: عند المتكلم. يعني: لنا الكلام فحسب بمعنى الظاهر فيما يظهر لنا، أما اعتقاده فلا عبرة به البتة، لأنه بهذا الاعتبار قد يوافق وقد يخالف، وباعتبار المطابقة للخارج قد يطابِق وقد لا يطابِق، الأقسام الأربعة كما سيأتي. إذًا (فِي ظَاهِرٍ) يعني: في ظاهر الكلام. لو تكلم متكلم قال: خَلَقَ زَيْدٌ الْجِدَارَ. دعك من كونه مطابق للواقع أو لا؟ حقيقة عقلية أم لا؟ حقيقة عقلية لماذا؟ لأنه في ظاهر الكلام نثبته له أليس كذلك؟ فنقول: خَلَقَ زَيْدٌ الْجِدَارَ. أو خَلَقَ زَيْدٌ الذُّبَابَ. باعتبار نفسه نقول: هذا الإسناد إسناد حقيقي لماذا؟ لأنه أَسند الشيء والأصل فيما إذا أسند الشيء إلى شيء آخر أنه يَعْتَقده سواء دلّ على ذلك قرينة ينصبها للتأكيد أو لا، لأنه إذا تكلم مثل هذا الكلام قد ينصب قرينة تدل على أنه يريد بظاهر الكلام ظاهره، وهذا أكد أنه حقيقة، وقد ينصب قرينة تدل على أن ظاهر الكلام ليس بمراد وداخل في المجاز - كما سيأتي -، وقد لا ينصبه. (فِي ظَاهِرٍ) أي: في ظاهر حاله إذا لم ينصب قرينة تدل على أنه أراد المجاز حينئذٍ يصرف على ظاهره، (فِي ظَاهِرٍ ذَا) أي: الإسناد المذكور أي: إلى ما يكون الفعل أو معناه له عنده أي عند المتكلم فيما يُفهم من ظاهر كلامه هذا هو العبرة ويظهر من حاله، وذلك بأن لا توجد قرينة دالة على أنه غير ما هو له في اعتقاده، يعني: إذا أراد بظاهر الكلام ما لا يعتقده لا بد أن ينصب قرينة، إذا تكلم بكلامه في الظاهر إنه لا يطابق الواقع، فإذا أراد أنه لا يطابق اعتقاده لا بد أن ينصب قرينة تدل على ذلك وإلا اعتُبر حقيقةً، ومعنى كونه له أن معناه قائمًا به ووصفٌ له وحقه أن يُسند إليه، كقولك قام زيدٌ فالقيام وصفٌ له فنسبة القيام إليه حينئذٍ ثابتة وهي حقيقة، بمعنى أن العرب إنما وضعت قام بفعل العبد الصادر عنه هذا هو الأصل، لو قلت قام زيد حينئذٍ العرب وضعت قام للدلالة على أن الفاعل قد أحدث هذا الحدث وهو القيام، (حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ) كلام الناظم (وَالْفِعْلُ أَوْ مَعْنَاهُ) .. إلى آخره. (حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ)، (وَالْفِعْلُ) هذا مبتدأ و (حَقِيقَةٌ) خبره يجوز العكس، فهي إسناد الفعل أو معناه إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر، هذا عبارة صاحب ((الإيضاح)) و ((التلخيص)) وأوردها الناظم كما هي. قوله: في الظاهر ليشمل ما لا يطابق اعتقاده، يعني: اللفظ لا يطابق الاعتقاد مما يطابق الواقع وما لا يطابق الواقع، حينئذٍ أقسام الحقيقة أربعة يعني: دخل في قوله: (فِي ظَاهِرٍ) أربعة أقسام، لأنه إما أن يطابق الاعتقاد وعندنا ثلاثة أشياء: قولٌ مدلوله والاعتقاد والواقع. على تقسيم السابق اعتقاد قولٌ جملة لها مفهوم مطابقة الواقع، اللفظ هذا إما أن يطابق الاثنين، مدلول اللفظ الوسط هذا اعتقاد لفظٌ واقع، اللفظ له مدلول إما أن يطابق الاثنين الاعتقاد والواقع، إما أن لا يطابق الاثنين، إما أن يطابق الاعتقاد لا الواقع أو العكس، يطابق الواقع الاعتقاد كم؟ أربعة من يعيدها؟ ... إما أعد أي

يطابقه معًا نعم أو بالعكس. الأول: ما يطابق الواقع والاعتقاد جميعًا، كقول المؤمن الموحد أنبت الله البقل، إسناد الإنبات إنبات الزرع عمومًا إلى الله عز وجل، أنبت الله البقل، المؤمن مؤمن يعتقد أن هذه بفعل الله عز وجل، في الواقع كذلك أو لا؟ إذًا مدلول اللفظ الذي هو إسناد الإنبات إنبات البقل إلى الله عز وجل مدلول اللفظ طابق الاعتقاد لأنه موحد مؤمن وطابق الواقع، شفى الله المريض، أسند الشفاء إلى الله عز وجل وهو مطابق للاعتقاد أنه مؤمن ومطابق للواقع، إذًا هذان مثالان مما طابق فيه الاعتقاد والواقع. الثاني: ما يُطابق الواقع دون الاعتقاد، طابق الواقع فقط دون الاعتقاد، مثَّلًوا البيانيون أو مثل البيانيون بقول المعتزلي لمن لم يعرف حاله يخفيها: خالق الأفعال كُلُّهَا أو كُلِّهَا خالق الأفعال كُلَّهَا هو الله عز وجل، هذا طابق ماذا؟ معتزلي ماذا يعتقد أن أفعال العباد مخلوقةٌ لهم، أليس كذلك هذه عقيدتهم؟ وهي عقيدة كفرية إذا قال المعتزلي لشخصٍ ما وهو لا يعرف أنه معتزل يتخفى كالعقلانين الآن يتخفى أنه معتزل قال: خالق الأفعال كلها الله عز وجل. يكون هذا الكلام حقيقة أو مجاز؟ حقيقة عقلية طيب، طابق الواقع؟ طابق الواقع، نعم، الله عز وجل هو خالق الأفعال كلها، والاعتقاد؟ خالف الاعتقاد، إذًا هذا مما طابق الواقع دون الاعتقاد. الثالث: ما يطابق اعتقاده فقط دون الواقع. عكس الثاني طابق الاعتقاد دون الواقع، كقول الجاهل قول الجاهل يقصد به الكافر الذي ينسب الأفعال إلى العباد: شفى الطبيبُ المريضَ، معتقدًا شفاء المريض من الطبيب طابق الواقع؟ لا، ما طابق الواقع، طابق الاعتقاد؟ نعم طابق الاعتقاد، شفى الطبيبُ المريضَ معتقدًا بهذا القيد لو كان من باب السببية شيءٌ آخر معتقد أن الطبيب هو الذي شفى بذاته المريض نقول: في الواقع لا، لكنه طابق معتقده. الرابع: ما لا يطابق الاثنين، لا الواقع ولا الاعتقاد. كالأقوال الكاذبة التي يكون القائل عالمًا بحالها دون المخاطب، هذا الذي يكذب، يقول: جاء زيد. هو يعلم يعتقد أن زيد ما جاء ولم يأت زيد بعد، قال: جاء زيدٌ. مدلول اللفظ مجيء زيدٍ طابق الواقع؟ لا، لم .. ، طابق الاعتقاد؟ لا. وكل كذاب يكون داخلاً في هذا القسم، جاء زيدٌ مع كون هذا القول واقعًا مع فقد وعدم المجيء الذي نسبته إليه في نفس الأمر وفي علمك، سميت حقيقة عقلية لأن الحاكم بذلك هو العقل دون الوضع، لأن إسناد الكلمة شيءٌ يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة، فلا يصير ضرب خبرًا عن زيدٍ بوضع اللغة هذا الذي نعبر عنه دائمًا في النحو بأن الوضع نوعان: وضعٌ شخصي. ووضعٌ نوعي.

وضع النوعي هو وضع التراكيب، وضعت العرب ضَرَبَ زيدٌ عمرًا مثلاً، ضَرَبَ فعلٌ، وزيدٌ يذكر كمثالٍ لكون فاعلاً بمعنى أن ضَرَبَ قد يُسْنَدُ إلى زيد وقد يسند إلى عمرو وقد يختلف باختلاف الأزمان والإعصار، فالعرب وضعت ضرب للدلالة على أن فاعل قد أحدث هذا الحدث، وأما كونه زيدًا أو عمرًا أو خالدًا هذا لم تضعه العرب، وإنما التركيب يكون بقصد المتكلم، فلا يصير ضرب خبرًا عن زيدٍ بوضع اللغة، بل بمن قصد إثبات الضرب فعلاً له، وإنما الذي يعود إلى وضع اللغة أن ضرب لإثبات الضرب لا لإثبات الخروج، وأنه لإثباته في زمنٍ ماضٍ دون المستقبل، فأما تعيين من ثبت له فإنه يتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين. إذًا الذي يُسند ضَرَبَ إلى الفاعل نقول الفاعل هذا يختلف من شخصٍ إلى شخصٍ آخر، ماذا صنعت العرب؟ وضعت ضرب للدلالة على الضرب بعينه الحدث الخاص لا الخروج ولا الأكل ولا الشرب ولا غيره. وثانيًا: للدلالة على أن هذا الحدث قد وقع في الزمن الماضي. ثم التركيب بمعنى أنك تقدم الفعل على الفاعل، وبمعنى أن الفعل أَثَّرَ في الفاعل فأحدث فيه ضَمًّا هذا هو النوع القاعدة العامة وهذا تركه بعض البيانيين. إذًا هذا حد الحقيقة العقلية (وَإِنْ إِلَى غَيْرِ مُلاَبِسٍ) عين ملابسٍ (مَجَازٌ أَوَّلاَ) (وَإِنْ إِلَى) من يُقَدِّر؟ أُسْنِدَ الفعل أو معناه إلى غيرٍ يعني: غير الفاعل والمفعول المرفوع (مُلاَبِسٍ) بشرط أن يكون ملابسًا للفعل، ملابسات الفعل تختلف (مَجَازٌ)، إذًا إذا فهمت الحقيقة العقلية فهمت المجاز العقلي، ملابسات الفعل مختلفة إن أُسْنِدَ الفعل إلى الفاعل يعني: الذي فعله بالفعل وهو وصفٌ له فهو حقيقةٌ عقلية، وكذلك المفعول المرفوع ما عدا هذا إن كان ثم ملابسة وهذا شرط في المجاز فحينئذٍ يكون مجازًا عقليًا، وإن أُسند الفعل أو معناه إلى غيرٍ، هكذا في النسخة التي موجودة معكم، وفي ((دفع المحنة)) إلى عين ملابسٍ، يعني: ذات، فسرها بذات إلى عين ملابَسٍ الأصل بفتح الباء، الفعل هو الملابِس، والملابَس هو المتعلق به، أي: ذاتٌ أي: ذات ملابِسٍ غير ما هو له أو في معناه. قال في الشرح: ووجد في النسخ بدل عين (غَيْرِ) بالراء وهو سهوٌ من الناظم أو تحريفٌ من الناسخ، يعني: يرى أن هذه النسخة التي معنى (غَيْرِ) هي عين، وضعت النقطة وجعلت النون راء، ويقول: هذا سهوٌ من الناظم - إن صح نسبته إلى الناظم - أو تحريفٌ من الناسخ. إذ لا كلام في غير الملابس، غير الملابس بالفعل وما في معنى الفعل ليس بالمجاز لماذا؟

لأن الذي يقال فيه مجازٌ ما له أدنى ملابسةٍ بالفعل، إن كان على وجه الفاعلية والمفعولية فهو ملابسٌ وهو حقيقة عقلية، إن كان ملابسًا له وليس واحدًا من اثنين بأن كان زمنًا له نهاره صائمٌ قلنا هنا: الصيام مع النهار فيه ملابسة أو لا؟ توجد ملابسة؟ الصيام أين يقع؟ في النهار إذًا ثم ملابسة يعني: علاقة ارتباط أدنى ارتباط، فالحدث الذي هو الصيام لا بد له من محل وهو النهار، إذًا نهاره صائمٌ أُسند الصيام إلى النهار لملابسةٍ بين الحدث الذي هو الصيام وكونه محلاً للصيام، ليله قائمٌ كذلك القول فيه، غير الملابس لا علاقة له به لا يمكن أن يقال بأنه مجازٌ، ففهم الشارح أن قوله: (غَيْرِ مُلاَبِسٍ). بالإضافة (غَيْرِ مُلاَبِسٍ) وإن أُسند الفعل أو معناه (إِلَى غَيْرِ مُلاَبِسٍ)، غير الملابس لا دخل له هنا لأنه ليس بمجاز ولا حقيقة، وإنما يُسند الفعل أو معناه إلى ملابس وإلا لا يُسمَّى كلامًا، فـ (غَيْرِ مُلاَبِسٍ) قال: هنا سهوٌ من الناظم أو تصحيفٌ من الناسخ إذ لا كلام في غير ملابَسٍ لأنه يقال: ملابسٌ غير ما هو له ويقال (غَيْرِ مُلاَبِسٍ) فتأمل، هكذا قال الشارح. وفيه نظر لأن غيرٍ إذا نونت حينئذٍ فككنا من أورده الشارح، غيرٍ إلى غيرٍ يعني: غير الفاعل والمفعول المرفوع (مُلاَبِسٍ) شرطٌ في أن يكون هذا الغير ملابَس، إذًا لا إيراد، قد يكون التصحيف عنده هو، عين هي المصحفة، لذلك لا وجود لها، يعني: لم يعبر البيانيون في هذا الموضع بعين ملابسٍ، هذا لم يَرِدْ هنا، وإنما تعبيره (غَيْرِ مُلاَبِسٍ) إلا إذا قيل الملابس نوعان: ملابسٌ مباشرةً. وملابسٌ ليس بمباشرةٍ. الأول: الفاعل والمفعول. والثاني: غير ملابس ما عدا الفاعل والمفعول. لا إشكال فيه. فإذا قيل (غَيْرِ مُلاَبِسٍ) وعُنِيَ به غير الملابس مباشرةً. احترزنا به عن الفاعل و .. يحتمل هذا. (وَإِنْ إِلَى غَيْرِ) أي: غير ما هو له أي: غير الفاعل والمفعول المرفوع ملابسٍ للفعل أو معناه بوجهٍ ما ن هذا تقدير الكلام، وإن أسند الفعل أو معناه إلى غير - كما ذكرنا - ما هو له؟ أي: لذاك الملابَس عند المتكلم في الظاهر، يعني: بأن لا يُسند إلى الفاعل فيما بُنِيَ للفاعل، وإلى المفعول فيما بُني للمفعول، بل يسند لملابَسٍ غير هذين الأمرين، أي متعلقٍ له غيرهما، سواءٌ كان ذلك الغير غيرًا في الواقع أو عند المتكلم في الظاهر. (مَجَازٌ) أي: فهو مجازٌ عقليٌ يعني يسمى بهذا العنوان.

الفعل وما في معناها له ملابساتٌ شتى، يلابس الفاعل تارة، والمفعول به تارة، والمصدر والزمان والمكان والسبب، أما المصدر فلكونه جزءًا من الفعل أو ما في معنى الفعل، وأما السبب قد يكون خارجًا لكنه له تأثيرٌ في الإحْدَاث، أما الزمان والمكان فهو واضح، فإسناده إلى الفاعل إذا كان مبنيًا له حقيقة كما سبق، وكذا إذا المفعول إذا كان مبنيًا له واحترز عنهما بقوله: غير ما هو له. وإسناده إلى غيرهما لمضاهته لما هو له في ملابسة الفعل مجازٌ - على ما ذكرناه - كقوله في المفعول به {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] راضيةٌ هي أي: العيشة، راضيةٌ وليس مرضيٌ بها وليست راضية، الراضي هو الصاحب أليس كذلك؟ {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} راضيةٌ هي أَسْنَدَ راضية إلى الضمير، ومرجع الضمير العيشة، والعيشة راضيةٌ أو مرضيٌ بها؟ مرضيٌ بها، حينئذٍ أسند الشيء إلى غير ما هو له، فإن راضية مسندةٌ إلى ضمير العيشة فقد جعلت يعني: الـ {عِيشَةٍ} فاعلاً، قال: {رَّاضِيَةٍ} هي جعلت فاعلاً وهي ليست بفاعل وإنما هي مفعولٌ في المعنى لأنها مرضيٌ بها والراضي إنما هو صاحبها، فقد سلخ عنها معنى المفعولية وجعل مرضي به راضيًا، ومثله ماءٌ دافقٌ، دافقٌ اسم فاعل هو أي: الماء ماء دافق فاعل أو مفعول؟ مفعول أي: ماءٌ مدفوقٌ وواضحٌ هذا؟ وبعكسه سيلٌ مفعمٌ، سيلٌ مفعم، مفعم اسم مفعول هو السيل مُفْعِل مالئٌ أو مملوءٌ، مفعَم يعني: مملوء، طيب السيل مالئ أو مملوء، مالئٌ هنا أُسْنِدَ الشيء إلى غير ما هو له، والأصل أن يقول: سيلٌ مفعِمٌ. اسم مفعول من أُفْعِم، أُفْعِمت الإناء يعني: مُلِئَتْ، فالمملوء هنا هو الوادي، والسيل مفعِمٌ بالكسر لأنه مالئٌ لا مملوء، إذًا السيل مفعَمٌ هذا اسم مفعول والأصل أن يقول مفعِمٌ بالكسر لكنه أسنده إلى غير ما هو له، والمصدر شعرٌ شاعرٌ، شاعرٌ هو أي: الشعر هذا مثال الإيضاح وانتقد عليه. لكن المراد هنا المثال، وفي الزمان نهاره صائم، وليله قائم - كما مر معنا -. وفي المكان طريقٌ سائرٌ، سائر الطريق هو أي: الطريق، الطريق يسير؟ لا، لا يسير، وهو مسيرٌ فيه، إذًا طريقٌ سائر تقول: هذا مجازٌ. ونهرٌ جارٍ. النهر لا يجري الماء وإنما هو محل، وفي السبب بنى الأمير المدينة إذا كان آمرًا لعماله بنى الأمير، ما بنى وإنما أمر عماله هو سببٌ في البناء. وقول الناظم: (مَجَازٌ أَوَّلاَ [أُوِّلا]) يجوز الوجهان أُوِّلاَ أي: هو، أي: الإسناد، أي: بتأولٍ، يعني: بنصب قرينةٍ صارفةٍ عن أن يكون الإسناد إلى من هو له، أو إلى ما هو له، يجوز الوجهان.

حينئذٍ الأصل في الكلام أن يُحمل على حقيقته، فإن قصد المتكلم أنه أراد بإسناد الشيء إلى غير ما هو له إذا قصد المجاز لا بد من نصب قرينة، يعني: الحكم على إسناد الشيء الفعل أو معناه إلى غير ما هو له أنه مجاز متى؟ إن وجدت قرينة، وإن لم توجد قرينة فحينئذٍ هو حقيقة عقلية؛ لأن الحقيقة العقلية عممناها، سواءٌ طابق الواقع أو لا، طابق الاعتقاد أو لا، حينئذٍ نقول: لو قال: خلق زيدٌ ذبابة. ويعتقد هذا، نقول: هذا حقيقة عقلية، لكنه كذب، فرق بين أن نُصَدّق ونكذّب، لا، هو كذب قطعًا لماذا؟ لكون الخبر لا واقع له. يعني: لم يطابق فهو كذبٌ، نقول: أنت كاذب لكنه حقيقةٌ عقلية، واضحٌ هذا؟ إذًا أي بنصب قرينةٍ صارفةٍ عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له، فخرج نحو قول الجاهل: شفى المريض الطبيب. قلنا: هذا باعتبار الواقع كذب؛ لأن الشافي هو الله عز وجل إلا إذا قلنا بأنه سبب - هذه مسألةٌ أخرى - أما إذا اعتقد أن الشافي بذاته هو الطبيب فهذا كذبٌ، ولكنه لما وافق اعتقاده حينئذٍ صار حقيقةً عقلية، وحملناه على الحقيقة العقلية لا المجاز لكونه لم ينصب قرينة بأن هذا الكلام الذي أَسْنَدَ الشيء إلى غير ما هو له فأسند الشفاء إلى الطبيب وهذا إسناد الشيء إلى غير ما هو له، ولم ينصب قرينة [حملناه على القرينة] (¬1) حملناه على الحقيقة العقلية، فإن إسناده الشفاء إلى الطبيب ليس بتأولٍ ومثله أنبت الربيع البقل، فإن هذا الإسناد وإن كان إلى غير ما هو له في الوقع لكن لا تأول فيه لأنه مراده ومعتقده وخرجت الأقوال الكاذبة فإنها لا تأول فيها، يعني: كل ما لم يطابق الواقع أو الاعتقاد وأُسند الشيء إلى غير ما هو له إن لم ينصب قرينة فهو حقيقةٌ عقلية، فإن نصب قرينة تدل على أن ظاهره غير مراد فهو مجازٌ عقلي، وهذا واضحٌ بين. وعليه فكل تركيبٍ إسنادي لا يحمل على المجاز. هذه النتيجة. كل تركيبٍ إسنادي لا يحمل على المجاز حتى يَظُنّ أو يعلم يعني: المخاطَب أن قائله لم يُرِدْ ظاهره بأن يؤوله فإن شُكَّ في ذلك فيحمل على الحقيقة لأنها الأصل. إذًا نشترط في الحكم بكون الإسناد مجازيًا إذا أسند الفعل أو معنى الفعل إلى غير ما هو له أن ينصب قرينة، إما لفظية، وإما حالية. ولذلك قالوا: إذا تكلم الموحد قال: شفى الطبيب المريض. هذا صارت قرينة لأنه موحد يعتقد أن الله تعالى هو الشافي والاشتراط القرينة لم يحمل قول الشاعر: أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كَرُّ الغداة ومر العشي على المجاز، لم يحمل على المجاز مع أنه ماذا؟ أسند كر الغداء أشاب الصغير، كَرُّ الغداة ومر العشي هذا من أجزاء الزمان، كر الغداة أشاب الصغير، أليس كذلك؟ وأفنى الكبير إذًا أسند الشيء إلى غير ما هو له. يأتي هذا التركيب البيت هل هذا حقيقة عقلية أو مجازٌ عقلي؟ ¬

_ (¬1) سبق.

أولاً: تنظر أشاب هذا مُسند إلى ماذا؟ كَرُّ الغداة، إذًا أَسند شيء إلى الزمن، والزمن لا يحدث شيئًا، إذًا أسند الشيء إلى غير ما هو له هذا أولاً، هل نصب قرينةً تدل على أن الظاهر يخالف معتقده أم لا؟ أين القرينة؟ لا قرينة. إذًا تقول: هذه حقيقة عقلية مع كونه أسند الشيء إلى غير ما هو له، فليس كل تركيبٍ فيه إسناد الشيء إلى غير ما هو له تحكم عليه مباشرة أنه مجاز، لا، ليس هذا المراد، وإنما لا بد من نصب القرينة، فالاشتراط القرينة في ذلك نحمل هذا الكلام من الشاعر على أنه أراد به الحقيقة، يعني: يعتقد أن الذي أحدث وأفنى أشاب وأفنى هو كَرّ الغداة ومر العشي، هذا لا نحمله على المجاز، بل هو حقيقةٌ عقلية، فَكَرُّ الغادة ومر العشي هما من أجزاء الدهر وهو الزمن حيث أسند أشاب وأفنى إلى الكَرّ والمَرِّ، وحملناه على الحقيقة العقلية لعدم قيام القرينة المفيدة للعلم أو الظن منا بأن قائله لم يتعقد ظاهره، بل الأصل أن من تكلم بكلامٍ أنه يعتقد ذلك الظاهر لاحتمال أن يكون معتقدًا له ويكون حقيقة، وحملنا قول الشاعر: ..................... ... مَيَّزَ عَنْه قُنْزُعًا عَنْ قُنْزِعٍ جذب الليالي أبطئِ أو أسرعي ... ...................... على المجاز العقلي، هنا ماذا؟ أسند ميَّزَ، هذا الْمَكْنِيّ به عن الشيب في الرأس إلى جذب الليالي، ميَّزَ جذب الليالي كسابقه، لكن أسند الشيء إلى غير ما هو له، حقيقة أو لا؟ الأصل هنا باعتبار هذا البيت تقول: هذا حقيقة. لكن دلت القرينة على أنه موحد ويعتقد أن الله عز وجل هو المحدِث ولذلك قال في نفس القصيدة: أفناه قيل الله للشمس اطْلُعِي ... حتى إذا وراكِ أفقٌ فارجعي فدل على أن قوله: ميَّز جذب الليالي، لم يرد به الحقيقة وإنما أراد به المجاز العقلي، لأنه ثبت عندنا أن معتقده يخالف ذلك، فحينئذٍ يكون قرينةً صارفةً للفظ عن ظاهره. إذًا نحمل قوله: ................... ... مَيَّزَ عَنْه قُنْزُعًا عَنْ قُنْزِعٍ جذب الليالي .............. ... ...................... على المجاز العقلي حيث أسند ميَّز المكني به عن الشيب في الرأس إلى جذب الليالي أي: مضيها، ووجدت القرينة الدالة على أنه لم يرد بها الإسناد ظاهره، بل هو معتقِدٌ خلافه كقوله للبيت الذي ذكرناه سابقًا. إذًا نقول: الأصل في التركيب أنه يُحمل على الحقيقة إلا إذا دلت القرينة الظاهرة اللفظية أو الحالية على أنه أراد غير ذلك، يعني: يعتقد غير ذلك، فالقرينة حينئذٍ في هذا المجاز تدور مع اعتقاد المتكلم، فإن عُلِمَ يعني: من جهة السامع أو ظُنَّ أن المتكلم موحد حينئذٍ حُمِلَ قوله: على المجاز وصَدَّقَهُ، وإن عَلِمَ أو ظُنَّ أو عُلِمَ أو ظُنَّ أنه دُهُريٌّ مثلاً حمّله على الحقيقة وكذب قائله.

(وَالْفِعْلُ أَوْ مَعْنَاهُ إِنْ أَسْنَدَهُ لِمَا لَهُ فِي ظَاهِرٍ) يعني: في ظاهر الكلام من حاله (ذَا عنْدَهُ)، (عنْدَهُ) الضمير يعود إلى المتكلم، يعني: في الظاهر من كلامه لئلا يكون قرينة على خلاف قول حقيقة عقلية، وإن أسند الفعل أو معناه إلى غيرٍ، وهذا الغير مراد به غير الفاعل والمفعول به بشرط أن يكون هذا الغير ملابَس بالفعل أو ما في معناه (مَجَازٌ) أي: عقليٌ (أُوِّلاَ) هذا شرطٌ في الحكم بكونه مجازًا عقليًا وهو القيام قرينة اللفظية أو الحالية، والله أعلم. وصلََّ الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين. على كلٍّ درس التفسير هذا إن شاء الله يأتي، بس نريد، لكن نريد الطلاب يكونوا بيِّنين، لأن التفسير سيطبق فيه إعراب وصرف وبيان واستعارة، وإذا الطالب ما كان متصور تبقى هنا الإشكال في الدرس، وفيه صعوبة، وأما ((إحكام الأحكام)) هذا ما أدري عنه، هل يستأنف أم لا؟ والله أعلم.

5

عناصر الدرس * الباب الثاني: أحوال المسند إليه. * أغراض حذفه وذكره. * أغراض تعريفه. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال الناظم رحمه الله تعالى: باب (أَحْوَالُ الإِسْنَادِ الْخَبَرِيِّ) هذا فيما مضى الباب الثاني من الأبواب الثمانية التي ذكر أن علم المعاني منحصر فيها لأحوال المسند إليه. ذكرنا علم المعاني أنه منحصر في أبواب ثمانية، إذ عرف الناظر هذه الأبواب الثمانية حينئذ استطاع أن يميز ما الذي يطابِق مقتضى الحال من أحوال اللفظ العربي وما الذي لا يطابق، فذكر الباب الأول وهو باب في ... (أَحْوَالُ الإِسْنَادِ الْخَبَرِيِّ) وعرفنا المسائل المتعلقة به من حيث تقسيم إفادة الخبر إلى نوعين: فائدة الخبر، ولازمها. ثم ذكر مسألة ثانية وهي أَضْرُب الخبر الثلاثة الابتدائي، الطلبيّ، الإنكاريّ. ثم قَسَّمَ الإسناد إلى: حقيقي ومجازي. هذه ثلاثة مسائل ذكرها في الباب السابق. فلما انتهى من الكلام عن الإسناد الخبري شرع في ما يليه وهو: (المُسْنَدِ إِلَيْهِ). والإسناد عرفنا أنه نسبة حكم إلى اسم إيجابًا وسلبًا، ولا يتحقق الإسناد إلى بمسنَدٍ إليه ومسنَد، لا بد منهما، ثلاثة أركان مترابطة متلازمة: مسند إليه، ومسند، وإسناد. الذي هو نسبة حكم إلى اسم إيجابًا أو سلبًا. مسند إليه هو المحكوم عليه، وهو المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل، والمسند هو المحكوم به وهو الفعل والخبر، وقدّم المسند إليه على المسند لأن المسند إليه كالموصوف والمسند كالصفة، ولا شك أن حق الموصوف أن يتقدَّم على الصفة، فالموصوف أولى بالتقديم والرعاية لأنه هو الموضوع وهو المحكوم عليه، والصفة هي المحمول وهي المحكوم به. فذات المسند إليه مقدمة من حيث الأصل كذلك ما اتصف به المسند إليه يكون مقدمًا على غيره، إذًا تقديمه من حيث كونه محكومًا عليه. الباب الثاني: (أَحْوَالُ المُسْنَدِ إِلَيْهِ) يعني في بيان أحوال المسند إليه، وأحوال المراد بها هنا الأمور العارضة له، يعني للمسند إليه، من حيث هو المسند إليه، وهذه الأحوال العارضة كالحذف والذكر والتعريف والتنكير والإطلاق والتقييد .. وغير ذلك من الاعتبارات الراجعة إلى ذاك المسند إليه، وهي اعتبارات ستة متقابلة: الحذف والذكر، متقابلان يعني متى يُذكر المسند إليه؟ له مقامات، متى يحذف المسند إليه؟ له مقامات، إذًا الحذف والذكر متقابلان. والتعريف والتنكير متى تأتي بالمسند إليه معرفًا، ثم أنواع المعرفة ستة متى يكون ضميرًا؟ ومتى يكون اسم إشارة؟ ومتى يكون اسم موصولاً؟ ومتى تكون محلاً بأل، وما المراد بأل؟ ومتى يكون مضافًا، أوراق متنوعة أحوال تختلف من حال إلى حال، التعريف والتنكير.

الثالث: التقديم والتأخير. متى يقدّم ومتى يؤخر؟ كما هو معلوم من شأن المسند إليه إذا كان مبتدأً أنه قد يتقدم له أحوال واعتبارات، ومتى يتأخر؟ والأصل فيه التقديم، وأما المسند إليه إذا كان فاعلاً فالأصل أنه لا يتقدم على مذهب البصريين - وهو الصحيح - وإنما يتقدم على مذهب الكوفيين، إذًا الحذف والذكر، والتعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، هذه ست كلها متقابلة. وما يتعلق بتوابع المسند إليه كذلك يُذْكَرُ في هذا الباب، أو ما يتعلق به يعني بذاته كما إذا كان وصفًا يتعلق باسم المرفوع أو يتعلق به جار ومجرور، أو ظرف أو نحو ذلك. إذًا هذا ما يتعلق بقوله: (أَحْوَالُ المُسْنَدِ إِلَيْهِ). يعني الأمور العارضة، والمراد بالأمور العارضة هذه الستة التي مذكورة من حيث ذاتها، وأما من حيث التوابع فوصله كونه يُنْعَت، كونه يُبْدَل مِنْهُ، كونه يعطف عليه فيما سيأتي في موضعه، وفيه بحسب ذلك أبحاث: الأول في حذفه أرتب النظم لكم لأجل الاستفادة منه الأول. البحث الأول: في حذفه وحذف المسند إيه إذا كان مبتدأ أو فاعلاً في بعض المواضع لأحد أمور بمعني أن الاعتبار المناسب يكون حذفه عند وجود واحد من هذه الأمور، يعني يحذف، هل حذفه يكون عشوائيًّا؟ أم يكون لنكتة وفائدة لغوية؟ لا شك أنه الثاني بمعنى أنه لا يحذف المسند إليه إلا إذا كان هناك فائدة، ما هي هذه الفائدة؟ هي التي يتكلم عنها أهل المعاني هنا، ما هي هذه الفائدة من حذف المسند إليه؟ يتكلم النحاة بأن المسند إليه إذا كان معلومًا يجوز حذفه وحذف ما يعلم جائز كما تقول: زيد .. إلى آخره أما لماذا يحذف؟ الجواب: يكون هنا عند أهل البيان. إذًا حذفه لأحد أمورٍ، بمعنى أن الاعتبار المناسب للمقام يكون حذفه عند وجود واحد من هذه الأمور، فإن حذف لا لواحد منها كان حذفًا على غير الوجه المناسب، يعني لا يكون بليغًا لم يطابق مقتضى الحال، لأنه حذف في غير موضع الحذف الذي يكون بليغًا عند أهل البيان، ثم الحذف حذف المسند إليه يفتقر إلى أمرين، يعني لا بدمن أمرين، ليس كل مسند إليه يجوز حذفه لا بد من اعتبارين: الأول: العلم بالمحذوف. العلم بالمحذوف لأن القاعدة العامة في باب النحو أن ما لا يعلم لا يجوز حذفه، وما يعلم يجوز حذفه، وحذف ما يعلم جائز، هذا قاعدة عامة ذكرها ابن مالك رحمه الله تعالى في باب المبتدأ لكنها عامة في المبتدأ وغيره وحذف ما يعلم جائز. إذًا الأمر الأول الذي يفتقر إليه الحذف العلم بالمحذوف بأن يكون السامع عارفًا بالمسند إليه المحذوف لوجود القرائن، لا يُحذف إلا إذا كان ثَمَّ قرينة كجواب السؤال مثلاً أين زيد؟ في الدار، في الدار يجيب هكذا، في الدار جار ومجرور إيش إعرابه؟ خبر، متعلق بمحذوف خبر، خبر لأي شيء لمبتدأ، أين المبتدأ؟ محذوف، لماذا حُذف؟ للعلم به. هل هناك قرينة؟ نعم، كونه واقع في جواب السؤال. وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ كَمَا ... تَقُولُ زَيْدٌ بَعْدَ مَنْ عِنْدَكُما من عندك؟ زيد، أو عندي زيد ونحو ذلك، وهذا مقرر في النحو، يعني باب المبتدأ. والثاني: الداعي الموجب لرجحان الحذف على الذِّكر. وهذا الذي يبحثه البيانيّون في هذا الموضع.

وحذف ما جائز كما تقول زيد بعد من عندكما من عندكما؟ زيد. حذفت ماذا؟ [الخبر أي أنا ذكرته على أنه مبتدأ لذلك سرحت] بعد من عندكما؟ يعني زيدًا، فلتتأملوا [ها ها] الداعي الموجب لرجحان الحذف على الذكر، والثاني يذكر هنا في هذا العلم. قال الناظم رحمه الله تعالى: الحَذْفُ لِلصَّوْنِ وَلِلإِنكَارِ ... وَالإِحْتِرَازِ أَوْ لِلإِخْتِبَارِ حذف يعني حذف المسند إليه، يكون لواحد من هذه الأمور الأربعة، هي أكثر من ذلك لكن ذكر لك أربعة ونكتفي بها: الصَّوْنِ، الإِنكَارِ، الإِحْتِرَازِ، الإِخْتِبَارِ. الحذف أي حذف المسند إليه وأل هنا نائبة عن مضاف إليه، أو للعهد الذهني أو الذكري؟ لأنه ذكر باب الثاني (أَحْوَالُ المُسْنَدِ إِلَيْهِ) حذف: حذف المسند إليه إذا ذكر أولاً ثم ضُمِّنَ بأن، لكن هذا لا يقال فيه هكذا، العهد الحضوري، أي هذا المسند إليه، متى يكون للعهد الذكري؟ إذا سُبِقَ له ذِكْرٌ، وهذا يكون صريحًا {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15، 16] نفس الكلمة أعيدت، هنا لم تعد نفس الكلمة، لو قال: مسند إليه، المسند قلنا: هذا الثاني هو عين الأول، لكنه قال: الحذف أي حذف المسند إليه، حينئذ تكون أل للعهد الذهني، أو على مذهب الكوفيين أنه عِوَض عن المضاف إليه، الحذف أي حذف المسند إليه (لِلصَّوْنِ) يعني كائن (لِلصَّوْنِ)، حذف مبتدأ و (لِلصَّوْنِ) متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، (لِلصَّوْنِ) أي صون المسند إليه عن ذكره بلسانك تعظيمًا له، قد يكون مسند إليه عظيم حينئذ لعظمته في نفسك تصونه تصون المسند إليه، ليس صون لسانك أنت، هذا مبحث آخر، إنما تصون المسند إليك عن ذكره بلسانك، فهو أعلى من أن تذكره أنت بلسانك، وجدت الشيء عندهم حتى تذكره بلسانك كقول القائل: وإياك واسم العامرية إنني ... أغار عليها من فم المتكلم هذا ليس مثال للحذف، وإنما أنه قد يحذف المسند إليه من أجل الصيانة أو صون المسند تعظيمًا له، مثاله: نجوم سماء كلما انقضَّ كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكب أي هم نجوم سماءٍ، نجوم سماء هذا خبر لمبتدأ محذوف، حذف المبتدأ المسند إليه، المسند إليه حذفه لماذا؟ أولاً: يجوز الحذف بدلالة السياق والقرائن عليه. ثانيًا: لِمَ حُذِفَ؟ صونًا له عن أن يُذكر. هم نجوم سماء، وحذف المسند # 12.07 إليه صيانة له. قال: ومنه قوله: رب السموات والأرض. أي هو رب السموات والأرض أو يكون حذفه لأجل صونك أنت عن ذكره، عكس الأول، الأول تصون المسند إليه تحفظه، الصون هو الحفظ، تصونه عن أن تذكره بلسانك فهو أعلى وأعظم من تذكره بلسانك، هنا العكس يكون المسند إليه حقيرًا فتصون لسانك أنت، والصون هنا عام يشمل النوعين أو يكون حذفه لأجل صونك أنت عن ذكره تحقيرًا له على حد قول القائل: ولقد علمت بأنهم نجس ... فإذا ذكرتهم غسلت فمي ولقد علمت بأنهم نجس، هذه أشخاص أو أناس أو قوم، فإذا ذكرتهم بلساني غسلت فمي، يعني كأنه تنجس المحل نجاسة حكمية، وذلك كقوله: قومٌ إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واثتوثقوا من ركاد الباب والدار

أي هم قوم أو إن شأت قل مثاله: فاسق فاجر زيد مثلاً من الناس [ما تريد أن] تريد أن تحفظ لسانك عن ذكره، تقول: فاسق. يعني زيد فاسق وتحذف المسند إليه صيانة للسانك عن ذكره. (لِلصَّوْنِ وَلِلإِنكَارِ) هذا الثاني أي لتأتي الإنكار، (وَلِلإِنكَارِ) على حذف مضاف أي لتأتي الإنكار يعني تحذف المسند إليه من أجل أنه إذا احتجت إلى أن تنكر فلك مجال ولك فُسحة أن تُنكر، كما إذا طعنت في شخصًا أو كان وليًّا أو نحو ذلك تقول: فاجر، ظالم حذفته، لو قيل لك لما سببته ما عنيته عنيت شخصًا [ها ها] آخر، فلك فسحة أن تُنكر، بخلاف لو سميته زيدٌ كذا فاجر ظالم طاغي .. إلى آخره، وهذا كله يكون مسجلاً عليك، لكن إذا حذفته وأردت السلامة فلو سئلت قل: ما قصدته. طبعًا ستكذب لكن أو توري. (وَلِلإِنكَارِ) أي لتأتي الإنكار أي الحذف حذف (المُسْنَدِ إِلَيْهِ) ليكون لك سبيل إلى الإنكار إن مست إليه حاجة، مثاله أن يُذكرَ شخص فتقول: فاسق. فلو قلت: زيدٌ فاسق. لقامت البينة عليك، نعم قامت البينة لذلك ولم تستطع الإنكار، وإنما يتأتى ذلك إذا لم يكن جوابًا لاستفهام، يعني لك أن تحذف (المُسْنَدِ إِلَيْهِ) لتأتي الإنكار بشرط أن لا يكون جوابًا لسؤال استفهام، لأنه إذا كان كذلك السؤال معاد في الجواب، قلت: من زيد؟ قلت: الفاسق. إذًا زيد الفاسق .. إلى آخره. تقول: هذا يعتبر ليس كالأول، لماذا؟ لأن السؤال معاد في الجواب، فلو قيل لك: ما زيد؟ قلت: فاسق لم ينفع الإنكار بعد، لأن الأصل في السؤال إعادته في الجواب. (وَالإِحْتِرَازِ) هذا الثالث: من أغراض حذف (المُسْنَدِ إِلَيْهِ) يعني ... (الإِحْتِرَازِ) عن العبث بناء على الظاهر، أي (الإِحْتِرَازِ) عن التكلم بما لا فائدة فيه في الظاهر بدلالة القرينة عليه يعني إذا كان المسند إليه معلومًا بين المتكلم والمخاطب حينئذ لا حاجة إلى ذكره، إذا كان معلومًا فلا حاجة لذكره، لأن ذكره حينئذ يكون ماذا؟ يكون لغوًا من الكلام، يكون عبثًا، لأنك في الأصل تأتي بالمسند إليه من أجل أن تمهد للحكم، زيدٌ قائمٌ، فإذا كان زيدٌ معلوم بينك وبين المخاطب حينئذ لا تذكره، فإذا ذكرته صار ماذا؟ صار عبًثا من القول، لأن الظاهر وقرين الظاهر تدل عليه والمخاطب يعلمه وأنت تعلمه وإنما يجهل الخبر حينئذ لا داعي إلى ذكره، كقولك لمن يستشرف الهلال، الهلال والله. بدلاً أن تقول: هذا الهلال. الكل يبحث عندنا قرينة هنا البحث عن الهلال، فبدلاً من أن يقول: هذا الذي رأيته الهلال. الهلال، مباشرة يحذف المسند إليه، أي هذا الهلال فلو صرحت بذكر المسند إليه المبتدأ لكن ذكره عبثًا في الظاهر بمعنى أنه لا تظهر له فائدة، لماذا يذكر هذا، نحن نبحث عن الهلال. أين زيد؟ في الدار. لا تقل زيد في الدار، لماذا؟ لأن السائل عندما قال: أين زيد؟ إذًا علمت أنت أنه يعلم زيد، لكنه يجهل مكانه؟ حينئذ لا تعد عليه تقول: زيد في الدار. وإنما تقول: في الدار. مباشرة، فالحذف هنا يكون لأجل الاحتراز عن العبث، فإذا ذكرته صار زيادة في القول ولا فائدة فيه.

(أَوْ لِلإِخْتِبَارِ)، (أَوْ) بمعنى الواو، هذا الرابع مما يُحذف المسند إليه لأجله وهو الاختبار، أي يُحذف المسند إليه لأجل اختبار حال سامع الكلام هل ينتبه عند القرينة أم لا؟ أو يكون حذف لأجل اختبار قدر فهمه أي السامع بأن يُعلم له تنبهًا ولكن يريد أن يختبر مقدار تنبهه؟ وهل هو ممن يكتفي بالقرينة الخفية أو ممن يحتاج إلى قرينة ظاهرة؟ إذًا يأتي بذكر الخبر ويحذف المبتدأ لأجل أن يختبر السامع هل يعلم أو لا؟. كقوله مثلاً: أول جامعٍ للصحيح رحمه الله تعالى يختبره يعلم أو لا يعلم. قال: الترمذي أول جامع للصحيح. نجح أم لا؟ هذا اختبار لكم يا شطار، أول جامعٍ هذا خبر أين مبتدأه؟ لو قدره: الترمذي أول جامع للصحيح رحمه الله تعالى نجح أم لا؟ لم ينجح، إذًا عنى به الإمام البخاري رحمه الله تعالى. إذًا (أَوْ لِلإِخْتِبَارِ) يعني: يكون حذفه لأجل اختبار حال السامع هل ينتبه أم لا؟ وقيام القرينة شرط في الجميع. هذه أربعة أغراض لحذف المسند إليه، هل يُشترط في حذف المسند إليه في المواضع الأربعة وجود القرينة؟ الجواب: لا، لِمَا ذكرناه بأن الحذف ينتقل إلى أمرين: أولاً: العلم بالمحذوف هذا لا بد أن يكون له قرينة. الثاني: نكتة الحذف وهذه التي ذكرها الناظم أربعة مواضع. وَالذِّكْرُ لِلتَعْظِيمِ وَالإِهَانَةِ ... وَالْبَسْطِ وَالتَّنْبِيهِ وَالْقَرِينَةِ (وَالذِّكْرُ) هذا المبحث الثاني في ذكر المسند إليه، وإنما قدم ذكر الحذف على الذكر مع أن الذكر هو الأصل، الأصْل في المسند إليه المبتدأ أن يذكر والحذف فرع عنه، لماذا قدم الفرع على الأصل؟ نقول: لأن الذكر هو الأصل، فلا تتشوف النفس إلى ذكر الموجب له بخلاف حذفه، لو ذُكِرَ ما سأل عنه السائل، لأنه الأصل، لكن لو حذف قال: لِمَ حذف؟

إذًا النفس تتشوف لحذف الأصل أكثر من ذكره، والذكر أي ذكر المسند إليه مع كونه معلومًا - لا بد من هذا، لا بد من قرينة - يكون لأمورٍ، وإن كان ذكره هو الأصل حيث لا مقتضي للعدول عنه من قرينة أو غيرها، يعني الأصل أنه يذكر فإن وجد موجب للعدول عن الذكر إلى الحذف حينئذ حذف، والمراد بمقتضي سبب الحذف هو الذي يذكره البيانيّون في هذا الموضع، يعني والحذف للتعظيم، والذكر للتعظيم والإهانة .. إلى آخره. نقول: هذا موجب لذكره للتعظيم أي لتعظيم اسم المسند إليه لكونه يعني لكون اسمه مما يدل على التعظيم نحو أمير المؤمنين حاضر، أمير المؤمنين هذا مبتدأ، حاضر حينئذ نقول ذكر المسند إليه هنا تعظيمًا لكون اسم عظيم، يعني يدل على العظمة هذا الأصل، (وَالإِهَانَةِ) أي لإهانة المسند إليه لكون اسمه مما يقتضي الإهانة، يعني فيه شيء من الدلالة، والمقام يستدعيها، يعني ثَمَّ أمر يضاف إلى كون اسمه فيه شيء من الإهانة أن يكون المقام يستدعي، يعني ليس المراد هنا الحكم معلقًا على مجرد الاسم ودلالته على شيء مهين، إنما المراد أنه اجتمع أمران: اسمه فيه دلالة على إهانة، ثم المقام يستدعي. لو كان الثاني غير موجود الذي هو المقام يستدعي الإهانة لَمَا صلح أن يكون هذا المقام للذكر لكون اسمه مما يقتضي الإهانة المقام يستدعيها إذ مجرد كون ذكره دالاً على الإهانة لا يقتضي ذكره، بل لا بد من المقام، نحو اللعين إبليس، اللعين إبليس هذا فيه إهانة، اللعين، إذًا اللعين يعني ملعون إبليس هذا خبر. نحو: السارقُ اللئيمُ حاضرٌ، السارق اللئيم هذا فيه إهانة فذكر هنا من أجل إهانته، واللفظ يدل على الإهانة والمقام يقتضي الإهانة فاجتمعان.

(وَالْبَسْطِ) أي قصد المتكلِم بسط نفسه بالكلام، يعني يُذكر من أجل ماذا؟ المقام قد يستدعي الحذف لكن من أجل يُطيل الكلام مع محبوبه، فحينئذ يذكر المبتدأ وأوصافه ونحو ذلك، (وَالْبَسْطِ) يعني: بسطه الحديث والكلام، أي قَصْد المتكلم بسط نفسه بالكلام حيث يطلب المقام طول الحديث، إذا كان المقام يطلب طول الحديث فحينئذ البسط يكون مطلوبًا، حيث يطلب فيه طول المقام بمخاطبة ذلك المخاطب لشرفه والافتخار بمكالمته فيصير المتكلِم مستعذِبًا بطول كلامه مع مخاطَبِه، فلهذا يطال الكلام مع الأحباب، الساعة والساعتين والثلاث [ها ها] وذلك كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {هِيَ عَصَايَ} [طه: 18] {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] عصاي هذا الأصل، لكن قال: {هِيَ عَصَايَ}، فذكر من أجل أن يطيل الحديث ولذلك زاد على الجواب بقوله: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18] أطال الحديث من أجل إطالة الكلام مع الرب جل وعلا، وإنما أجمل المآرب لأن تفصيلها يطول وربما يؤدي الطول إلى الخروج عن الفصاحة، وقد يكون فصل الكلام في مقام الافتخار والابتهاج وغير ذلك من الاعتبارات المناسبة، كما يقال لك من نبيك؟ حينئذ تقول: نبينا خليل الله أبو القاسم محمد - صلى الله عليه وسلم -، هنا أطلت من أجل ماذا؟ الافتخار، خليل الله أبو القاسم محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -. والتنبيه أي ذكر المسند إليه للتنبيه على جهل وغباوة السامع، يعني: ما يفهم حينئذ لا بد من - ومر معنا - أن من مقتضى الحال أن خطاب الغبيّ ليس كخطاب الذكيّ، يفترقان فالذي لا يفهم إلا بالتصريح لا بد أن تصرح له، وهنا كذلك التنبيه حينئذ تشير بذكر المسند إليه لكونه غبيًّا لا يفهم إلا بالتصريح، يعني لا يفهم بالقرينة لا تكفي إلا بأن يصرح له، مثل ماذا؟ مثَّلوا له بقولك لمن يعبد صنمًا: الصنم لا ينفع ولا يضر. يعني تراه يعبد صنم تقول: لا ينفع ولا يضر. هذا الأصل، لكن لكونه غبيًّا تقول: الصنم يعني المعبود الذي توجهت إليه بالعبادة لا ينفع ولا يضر. والقرينة أين ضعف التأويل على القرينة، يعني ثَمَّ قرينة لكن المخاطب قد يَضْعُفُ عن إدراكها، أي لضعف التأويل على القرينة الدالة عليه، أو ضعف فهم المخاطب عن فهم ما حذف بدلالة القرائن، فيذكر للاحتياط بضعف التأويل على القرينة، يعني والقرينة بكون القرينة ضعيفة في نفسها أو - وهذا تفسير بعضه - أو بأن التأويل على القرينة ضعيف، أو لكون المخاطَب قد لا يُدرك بالقرائن. وَالذِّكْرُ لِلتَعْظِيمِ وَالإِهَانَةِ ... وَالْبَسْطِ وَالتَّنْبِيهِ وَالْقَرِينَةِ وقد يكون الذكر لغير ما ذكر كالتهويل والتعجب والإشهاد بقصة والتسجيل على السامع حتى لا يكون له سبيل إلى الإنكار وهذا كله مع قيام القرينة. البحث الثالث في تعريفه وَإِنْ بِإِضْمَارٍ تَكُنْ مُعَرِّفَا ... فَلِلْمَقَامَاتِ اْلثَّلاَثِ فَاعْرِفا

وإن يكن يعني المسند إليه (مُعَرِّفَا) بإضمار (فَلِلْمَقَامَاتِ اْلثَّلاَثِ). تعريف المسند إليه يقابله التنكير، إذا تأتي به معرفًا لغرض، وتأتي به منكرًا لغرض، ما هي أغراض التعريف وما هي أغراض التنكير وهو متقابلان؟ المعرفة ما وضع ليستعمل في معين، ما يعني لفظ وضع أو اسم وضع ليستعمل في معين، وأنواع المعارف كم؟ سبعة أو ستة: ستة أو سبعة على الخلاف، الخلاف في ماذا؟ الخلاف السابع المختلف فيه ما هو؟ فيه ستة أو سبعة؟ النكرة المقصودة، نعم، هذه لا بد أن تكون محفوظة. فمضمر أعرافها ثم العلم ... فذو إشارة فموصول متم فذوا أداة فمنادى عين فدوا إضافة بها تبين هذه سبعة جمعها ابن مالك في الكافية: فمضمر أعرافها، يعني أعرف المعارف مضمر، فمضمر أعرافها، ثم العلم، فذو إشارة، فموصول متم، فذو أداة، فمنادى عُيِّنَ فذو إضافة بها تبين. وإنما قدم الناظم هنا الكلام على تعريف المسند إليه على الكلام على تنكيره لأن الأصل في المسند إليه التعريف بخلاف المسند، وهذا فيما إذا كان مبتدأً، الأصل فيه أن يكون معرفة. وَلا يَجُوزُ الابْتِدَا بِالنَّكِرَةْ ... مَا لَمْ تُفِدْ كَعِنْدَ زَيْدٍ نَمِرَه حينئذ الأصل في النكرة أنها لا يُبدأ بها، وإنما يُبتدئ بماذا؟ بالمعرفة. إذًا الأصل في المسند إليه أن يكون معرفة، وهذا فيما كان مبتدأ، وأما إذا كان فاعلاً فلا يشترط فيه، قد يكون نكرة وقد يكون معرفة، لا يشترط لماذا؟ لكون الحكم متقدمًا على الفاعل، قام رجل قَامَ زَيْدٌ، إذًا لَمَّا عرف المخاطب قيام الحكم فحينئذ هان عليه كون المسند نكرة أو معرفة، بخلاف إذا قلت: رَجُلٌ قَائِمٌ. يَنتظر السامع لأن قائم هنا يتبادر للذهن أنه صفة رَجُلٌ قَائِمٌ ماذا به؟ وهو قد جعل قائم خبرًا عن رجل. إذًا نقول: لاحتياج النكرة سياجًا شديدًا إلى الوصف حينئذ لا تقع النكرة مبتدأً البتة. إذًا قدم الناظم الكلام على تعريف المسند إليه على الكلام على التنكير لأن الأصل في المسند إليه التعريف بخلاف المسند، وبدأ بالضمير لكونه أعرف المعارف كما سبق فقال: وَإِنْ بِإِضْمَارٍ يَكُنْ مُعَرِّفَا ... فَلِلْمَقَامَاتِ اْلثَّلاَثِ فَاعْرِفا (وَإِنْ بِإِضْمَارٍ) هذا متعلق بـ (مُعَرِّفَا)، (يَكُنْ) هذا فعل الشرط، (وَإِنْ .. يَكُنْ) (بِإِضْمَارٍ) (مُعَرِّفَا)، واسم (يَكُنْ) ضمير مستتر يعود على المسند إليه، (وَإِنْ .. يَكُنْ) المسند إليه (مُعَرِّفَا) (بِإِضْمَارٍ) واضح هذا؟ (فَلِلْمَقَامَاتِ) الفاء واقعة في جواب الشرط (فَلِلْمَقَامَاتِ اْلثَّلاَثِ فَاعْرِفا).

(وَإِنْ بِإِضْمَارٍ يَكُنْ) المسند إليه (مُعَرِّفَا) خبر (يَكُنْ) واسمه الضمير المسند إليه يكون لأحد أسباب (فَلِلْمَقَامَاتِ اْلثَّلاَثِ) والمراد بها الغيبة والتكلم والخطاب، يعني يكون ضميرًا للمتكلم، ويكون ضميرًا للمخاطب، ويكون ضميرًا للغائب. أنا ضربتُ، أنتَ أَنتِ، ضربتَ ضربتِِ، هو ضَرَبَ. إذًا جيء به ببيان أن المسند إليه لا بد وأن يعبر عنه بأحد الضمائر الثلاث، لأن الخطاب مغاير للغيبة، والغيبة مغاير للتكلم، فلا بد من الإتيان به للدلالة على ما وُضِعَ له في لسان العرب، (فَلِلْمَقَامَاتِ اْلثَّلاَثِ) وهي الغيبة والتكلم والخطاب (فَاعْرِفا) فاعرفن الفاء عاطفة، والألف بدل من نون التوكيد الخفيفة، والجملة هذه تكملة. إذًا المقام قد يقتضي أن يُورِدَ المتكلم فيه ضمير غائب لتقدم ما يرجع إليه المسند إليه لفظًا، يعني قد يأتي بضمير الغيبة لتقدم ما ذُكرَ أو ما عاد عليه الضمير، يعني لو قلت: هو راكب. هو لا يعود إلا على شيء متقدم ولا يعود على متأخر، إذًا إذا أردت أن يكون دلالة المسند إليه ضمير غائبًا فلا بد أن يكون عائدًا على شيء متقدم لفظًا كقول أبي تمام: هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله هو في البيت السابق تحدث عن أبي إسحاق المذكور في البيت السابق فقوله: هو البحر، هو مسند إليه جاء به معرفة ضميرًا للغيبة لماذا؟ لكونه قد رجع إلى مذكور صريح سابق، واضح؟ إذًا بدلاً من أن يقول يتحدث عن زيد من الناس تقول: زيد قادم، وزيد راكب، هذا فيه حشو، وإنما تقول: زيد قادم، وهو راكب. إذًا لماذا جئت بالضمير في الثاني؟ لكونه قد دل على ما يرجع إليه سابقًا، فلو جئت بالاسم الصريح الظاهر حينئذٍ صار حشوًا، فالمقام يقتضي هنا الإضمار ولا يقتضي الإظهار، فبدلاً من أن تأتي بالاسم مظهرًا زيد وهو قد ذكر سابقًا تأتي بالضمير الراجع إليه، والضمير هنا رجع إلى لفظ مذكور صريح يعني نطق به، أو معنًى يعود الضمير الغيبة وهو مسند إليه إلى سابق لكنه من حيث المعنى لا من حيث اللفظ يعني لم ينطق به لم يصرح، كما لو قلت: زيد قادم وهو حاضر. هو عاد على شيء مصرح به أو معنًى نحو قوله تعالى: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، {هُوَ} إيش إعرابه؟ مبتدأ مسند إليه جاء ضميرًا، لِمَ جاء ضميرًا، لماذا؟

لأنه بدلاً من أن تأتي بالاسم الظاهر حشوًا تأتي بما يدل عليه وقد تقدم مرجعه لكنه من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، لأن {هُوَ} يعود على العدل المفهوم من قوله: {اعْدِلُواْ} إذا مرجع {هُوَ} معنى، الذي هو المصدر المنسبك منه الفعل {اعْدِلُواْ} منسبك من مصدر وزمن، العدل هو الذي عاد عليه الضمير [أو حكمًا] (¬1) أو معنًى نحو قوله تعالى: ... {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] أي العدل، أو لقرينة الحال المقام كقوله: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11]، (أَبَوَيْهِ) الضمير يعود إلى أي شيء؟ الميت هذه لقرينة الحال، صحيح؟ لقرينة الحال، أو حكمًا نحو قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، ... {هُوَ اللَّهُ} هذا حكمًا، يعني هذا ضمير القصة والشأن يعود إلى متأخر، أو يقتضي المقام إذًا يقتضي المقام أن يُورِدَ الضمير غيبة، ثم المرجع قد يكون ملفوظًا به صريحًا، وقد يكون معنًى، وقد يكون معلومًا بقرينة الحال، وقد يكون حكمًا. هذه أربعة أحوال. أو يقتضي المقام أن يورد فيه ضمير متكلم. قوله تعالى: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أفصح العرب». أو يقتضي المقام أن يورد فيه ضمير خطاب كقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] {إِنَّكَ} الكاف للخطاب هنا، إذًا اقتضي المقام أن يأتي بضمير خطاب وهذا واضح، واقتضى المقام أن يأتي بضمير المتكلم، وهذا واضح، واقتضى الخطاب أن يأتي بضمير غيبة فلا بد له من مرجع على التفصيل الذي ذكرناه سابقًا. وَإِنْ بِإِضْمَارٍ يَكُنْ مُعَرِّفَا ... فَلِلْمَقَامَاتِ اْلثَّلاَثِ فَاعْرِفا ثم قال: وَالأَصْلُ فِي الْخِطَابِ لِلْمُعَيَّنِ ... وَالتَّرْكُ فِيهِ لِلْعُمُومِ الْبيِّنِ هذه المسألة هي التي ينفرد بها البيانيون، المسألة السابقة تحدث عنها النحاة وغيرهم، وأما كون المخاطب يكون معينًا على الأصل هذا حديث البيانيين، (وَالأَصْلُ فِي) مقام (الْخِطَابِ) أي الحق الواجب له بحسب وضع اللغة أن يكون للمعين، يعني: إذا خاطبتَ شخصًا بـ (أنت) ترى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي} الأصل أن يكون الخطاب معين، شخص معين، إمَّا مفرد أو مثنًّى أو جمعًا، هذا الأصل فيه، وقد لا يكون الخطاب لمعين لحكمة ما، كما قال: (لِلْعُمُومِ الْبيِّنِ) فحينئذٍ نقول: عندنا أمران فيما يتعلق بضمير الخطاب: أصلٌ بحسب وضعه اللغوي. وفرع، وهو مجاز عندهم. الأصل أنه إذا خوطب الشخص بلفظ الخطاب بضمير الخطاب يكون معينًا (أنتَ، أنتِ، أنتما، أنتم) هذا الأصل، أن يكون الشخص معينًا. وقد يخرج عن ذلك ولا يراد به المعين، ويكون ماذا يكون مفيدًا للشمول البدلي (وَالأَصْلُ فِي) مقام (الْخِطَابِ) أي الحق الواجب له بحسب وضع اللغة أن يكون للمعين مخاطبه، أي أن يعين المخاطب مفردًا كان أو مثنًّى أو جمعًا لأن أصل وضع المعارف أن تُستعمل في معين. ما هو المعرفة؟ ما وضع المستعمل في معين. إذًا ضمير خطاب من المعارف الأصل فيه أنه يُستعمل في معين. إذًا هذا لا يُسأل عنه مع أن الخطاب هو توجيه الكلام إلى حاضر فيكون معينًا. ¬

_ (¬1) سبق.

(وَالتَّرْكُ) أي ترك ذاك الأصل ألا يكون الخطاب مستعملاً لمعين فيه أي في تعيين المخاطب أي قد يترك الخطاب مع معين إلى غيره للعموم البين، يعني لإفادة لأجل - اللام للتعليل - أي لأجل إفادة الشمول البين الظاهر الواضح، حينئذٍ تترك التعيين من أجل أن يكون الخطاب عامًا للعموم البين أي الشامل لكل مخاطب على سبيل البدلية، أي ليعم الخطاب كل مخاطب على سبيل البدل، فالعموم بدلي هنا لا شمولي. (وَالأَصْلُ) في قوله: (وَالأَصْلُ) هذا مبتدأ، و (فِي الْخِطَابِ) متعلق به وقوله: (لِلْمُعَيَّنِ) هذا خبره (وَالتَّرْكُ) مبتدأ، و (فِيهِ) متعلق به وخبره (لِلْعُمُومِ)، و (الْبيِّنِ) هذا صفة له. فأصل الخطاب أن يكون لمعين وقد يترك إلى غير معين كما تقول: فلان لئيم إن أكرمتَهُ أهانَ، وإن أحسنتَ إليه أساء إليك. أكرمتَه أحسنتَ. هل المراد به مخاطب معين أم المراد به كل من يتأتى أن يكون هذا خطابًا له؟ لا شك الثاني. حينئذٍ هنا لم يُرد به معين وإنما أريد به الشمول، يعني لم يتعين الخطاب هنا لشخص بعينه خلاف ما عليه المعرفة، إن أكرمته يعني كل شخص يكرمه إن أحسنتَ لكل شخص يحسن إليه إن أكرمته أهان إن أحسنتَ يعني كل شخص يحسن إليه النتيجة الإساءة، فلا تريد بذلك أكرمت وأحسنت مخاطبًا بعينه، بل تريد إن أُكرم من أي شخص كان، وإن أحسن إليه من أي شخص كان، فليس المراد به مخاطبًا معينًا فتخرجه بصورة الخطاب ليفيد العموم أي سوء معاملته غير مختص بواحد دون واحد، وهو في القرآن كثير، يعني هذا خطاب موجود في القرآن بكثرة كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] {وَلَوْ تَرَى} من؟ كل من يتأتى منه الرؤية ليس خاصًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بأي قارئ، وإنما كل من تتأتى منه أن يكون راءِيًا حينئذٍ دخل في الحكم. أُخرج في صورة الخطاب لما أريد العموم للقصد لا توضيع حالهم، وأنها تناهت في الظهور حتى أمتنع خفاؤها فلا تختص بها رؤية راءٍ تختص به، بل كل من يتأتى منه رؤية داخل في الخطاب، فيجعل غير الحاضر كالحاضر ليعم كل مخاطب على سبيل البدل. إذًا (وَالأَصْلُ فِي الْخِطَابِ لِلْمُعَيَّنِ) جاء على وفق ما هو بحسب الوضع، (وَالتَّرْكُ فِيهِ) يعني في الخطاب (لِلْعُمُومِ الْبيِّنِ) فيترك ويراد به الشمول البدلي وَعَلَمِيَّةٌ فَلِلاْحْضَارِ ... وَقَصْدِ تَعْظِيِمٍ أَو احْتِقَارِ (وَعَلَمِيَّةٌ) الثاني من المعارف العلم، وهو ما وضع لشيء بعينه لا يتناول غيره: اسم يعين المسمى مطلقًا ... علمه كجعفر وخرنقًا

فهو وُضِعَ لشخص بعينه لا يتناول غيره، زيدٌ علم ووضع للذات المشخصة المقصودة المعينة ولا يتناول غيره البتة، فتعريف المسند إليه بالعلمية يكون لأمور كما قال هنا الناظم: (عَلَمِيَّةٌ) نسبة إلى العلم وهو مبتدأ، أي علمية المسند إليه أي كونه معرفًا بالعلمية (فَلِلاْحْضَارِ) الفاء فاء الفصيحة، (لِلاْحْضَارِ) واللام للتعليل أي لأجل أن يحضر المسند إليه بعينه في ذهن السامع، [أن] بإحضار ماذا؟ إحضار المسند إليه بعينه في ذهن السامع يعني أشخصه لك من أجل أن أحكم عليه، إذا قلتَ: زيد قال. وأنت تعرف زيد وإلا ما صار علمًا، زيدٌ سافر إذا لما قلتَ زيد أحضرتَ المسند إليه الذي حكمتَ عليه بكونه سافر بعينه بشخصه لا يحتمل غيره البتة، لأجل أن يحضر المسند إليه بعينه في ذهن السامع ابتداءً باسم يخصه بحيث يكون متميزًا عن جميع ما عاداه، لو قلتَ ماذا؟ جاءني زيد وهو راكب. وهو راكب هل أحضرته بعينه؟ ما أحضرته بعينه، إذًا ابتداءً من أول مرة أنه يعبر عنه بالعلم، وهو راكب أحضره لكن لا بعينه، وإنما بمرجعه، جاءني زيد وهو راكب، وهو من؟ زيد. إذًا أحضره لكن لا بذاته وإنما بواسطة، لأجل أن يحضر المسند إليه بعينه في ذهن السامع ابتداءً يعني في أول مرة احترازًا من قولنا: جاءني زيد وهو راكب. هذا إحضاره مرة ثانية لا أولاً بالضمير الغائب، باسم يخصه أي المسند إليه بحيث لا يُطلق على عَلى غيرهم، كقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لما قلتَ: {اللَّهُ أَحَدٌ} دل مدلوله على الذات المقدسة الموصوفة بالإلوهية {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} ... [الفتح: 29] أحضرته بعينه أبو مالك قاصرٌ فَقْرَهُ ... على نفسه ومشيع غناه وقصد تعظيم أي للدلالة على تعظيم المسند إليه، يعني يؤتي به علمًا من أجل أن يعظم، كمن يسمى حاتمًا مثلاً حاتمٌ وتريد به المشار إليه حاتم الجواد. (أَو احْتِقَارِ) المسند إليه - كما في الكنى والألقاب المحمودة والمذمومة - يجمع قصد التعظيم والاحتقار كما هو في الألقاب وهو نوع من العلم وكذلك الكنى، أبو لهب مذموم أو لا؟ مذموم. أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - ممدوح. إذًا قد تشير الكنية إلى مدح وقد يشار باللقب إلى ذم أو مدح، حينئذٍ يؤتي به من أجل إفادة مدلوله. [الثاني] (¬1) من المعارف الموصول أو الثالث نعم الثالث أول الضمير والثاني علمية الثالث قال: وَصِلَةٌ لِلجَهلِ وَالتَّعْظِيمِ ... لِلشَّانِ وَالإِيمَاءِ وَالتَّفْخِيمِ (وَصِلَةٌ) كان الأَوْلَى أن يقدم اسم الإشارة لأنه أَعْرَف أليس كذلك؟ فذو إشارة فموصول متم، صحيح؟ فمضمر أعرافها ثم العلم ... فذو إشارة فموصول متم إذا اسم الإشارة أعرف فالأَوْلَى أن يقدمه عليه، إذ هو يعرف منه كما هو مذهب سيبويه والجمهور، ويأتي المسند إليه صلة لأمور. ¬

_ (¬1) سبق مستدرك بعده.

قال الناظم: (وَصِلَةٌ) أي الموصول مع صلته، عبر بالصلة عن الموصول مع صلته، أي وأما تعريف المسند إليه بالموصلية أي بإيراده اسم موصول وتخصيصه بالصلة لأنك إذا قلتَ: الذي قام أبوه قادم. أين المسند إليه هنا؟ الذي قام أبوه [حاضر] قادم أين المسند إليه؟ قولان إلى الآن بقي قول ثالث قسمة عقلية [ها] أين المسند إليه؟ ما هو؟ الذي. وقام أبوه؟ قام أبوه ها يا نبيل. الموصول مع صلته، إما أن يكون الموصول، وإما أن يكون الموصول مع صلته، وإما أن تكون الصلة. ثلاثة أقوال عقلية. الذي هو المسند إليه، هو المبتدأ، إذا جاءت تعرب الذي قام أبوه حاضر، الذي اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، قام أبوه فعل وفاعل، والفاعل مضاف ومضاف إليه والجملة من الفعل والفاعل صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، كيف نقول الذي له محل وهو المبتدأ الابتداء، والصلة قام أبوه لا محل له من الإعراب، لأن الذي يعرب هو الأول الصلة، وصلة هي التي تكون مبتدأً، جاء الذي قام أبوه. جاء فعل ماضي، الذي فاعل، قام أبوه صلة الموصول، فالاسم الموصول هو الذي يكون مبتدأ، وهو الذي يكون له محل من الإعراب سواء وقع فاعلاً أو اسم إن أو خبر إن الموصول هو الذي يعرب، هو الذي يكون له محل من الإعراب، وأما الصلة فلا محل لها من الإعراب، ولذلك نقول بتعبير دقيق: وأما تعريف المسند إليه بالموصلية أي بإيراده اسم موصول وتخصيصه بالصلة، يعني التي هي الجملة بالجهل، أي يأتي لأمور منها ألا يعرف السامع إلا ما قُيِّدَ الموصول بالصلة، ترى شخصًا في المسجد مع شخص ثالث ولا تعرف اسمه، تقول له: الذي كان معنا بالأمس، فما تعرف اسمه ولا تعرف له وصف إلا الذي كان معنا، فحينئذٍ جئت بالصلة هنا الموصول وجعلته مسندًا إليه بالجهل، بالجهل بماذا؟ للجهل بصفات المسند إليه إلا هذا الوصف، أي: يجعل المسند إليه موصولاً لجهل السامع أي: لعدم علم السامع المخاطَب بالأحوال المختصة به سوى الصلة، وقد يكون من المتكلِم كذلك، ويحتمل أنه من السامع ويحتمل أنه من المتكلم، كقولك: الذي كان معنا أمس رجلٌ صالحٌ. والتعظيم للشأن وعبَّر عنه في ((الإيضاح)) بقوله: جُعِلَ ذريعةً إلى التعريض بالتعظيم لشأن الخبر. يعني: يُجعل المسند إليه اسمًا موصولاً ذريعةً من أجل التعريض بالتعظيم لشأن الخبر، يعني: وسيلة لتعظيم غيره، أي يُجعل المسند إليه موصولاً للإيماء إلى وجه بناء المسند على المسند إليه ووسيلةً إلى رفع شأن المسند وتعظيمه كقول الفرزدق: إِنَّ الذي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لنا ... بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ إن الذي سمك السماء: هذا إيماء إلى الخبر. بنى لنا بيتًا أو قصرًا: إذًا خبر المتبني عليه وهو أمرٌ عظيم، حينئذٍ جاء التمهيد هنا من أجل ماذا؟ جيء بالاسم الموصول وجُعل مسندًا من أجل أن يمهد بالصلة المخصصة للاسم الموصول إيماءً إلى أن الخبر عظيم، إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتًا. إذًا كيف يكون حاله؟ عظيم لأن الذي سمك السماء سامك السماء هو الباني للقصر، حينئذٍ صار تمهيدًا وذريعةً لتعظيم الخبر. إِنَّ الذي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لنا ... بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ

ففي قوله: إن الذي سمك السماء: إيماءٌ إلى الخبر المبتني أو الْمُبْتَنَى عليه، أمرٌ من جنس الرفعة وفيه تعريضٌ بتعظيم بنائه لكونه فِعْلَ من رفع السماء لا بناء أرفع منها، الذي رفع السماء هو الذي بنى قصرًا، إذًا كيف يكون حال القصر؟ عظيم هذا المراد به، والإيماء، أي: الإشارة إلى وجه بناء الخبر أي: بناء المسند على المسند إليه، يعني: ما العلة؟ قد يشار بالاسم الموصول يعني: يؤتى بالمسند إليه وكذلك حتى في المسند يؤتى بالاسم الموصول من أجل ... أن يُمَهَّدَ بأن علة الخبر الذي هو الحكم ما اشتمل عليه الموصول من ... الصلة: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]. ما علة قوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ}؟ استكبارهم. من أين أخذته؟ {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ}. إذًا جيء بالصلة هنا من أجل التمهيد لكون الخبر معلل. معلل بماذا؟ بما اشتملت عليه الصلة. {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} فإن الاستكبار الذي تضمنته الصلة فيه إيماء يعني: إشارة إلى أن الخبر المبني عليه أمرٌ من جنس العقاب والإذلال فكان مناسِبًا لإسناد {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي ذليلينَ إلى الموصول، حينئذٍ جاء بالفاتحة كما قال التفتازاني: على وجهٍ ينبه الفطن على الخاتمة. {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} لو وقف هنا سيعلم أن عقابًا ينالهم، وهذا جاء بالصلة في الأول. (وَالتَّفْخِيمِ) أن يؤتى بالمسند إليه موصولاً لأجل التفخيم في مقام التعظيم والتهويل كما في قوله تعالى: {فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]. {مَا غَشِيَهُمْ} أي: موجٌ عظيم لا يكتنه كنهه ولا يمكن وصفه، فإن في هذا الإبهام من التفخيم ما لا يخفى، فلو قيل: فغشيهم الغرق حينئذٍ علقه بمعلومٍ لكن {فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} هل هو غرق؟ هل هو هلاك؟ هل هو زلزال؟ هل .. هل .. ، يحتمل ويحتمل، فحينئذٍ يتصور بالذهن أن هذه كلها قد وقعت لكن لو قال: غشيهم الغرق حينئذٍ كان فيه تخصيص للعذاب، فلو قيل: فغشيهم الغرق لم يفد هذا التفخيم، (وَصِلَةٌ لِلجَهلِ وَالتَّعْظِيمِ لِلشَّانِ)، للشأن هذا متعلق بقوله التعظيم (وَصِلَةٌ لِلجَهلِ)، (وَصِلَةٌ) هذا مبتدأ و (لِلجَهلِ) هذا خبر، والبقية معطوفاتٍ عليها، والمسوغ هنا التفصيل، أو يراد كقصد الجنس صلة حينئذٍ صار في حكم المعرفة (وَالإِيمَاءِ وَالتَّفْخِيمِ) ثم قال: وَبِإِشَارةٍ لِذِي فَهًمٍ بَطِي ... فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ أَوِ التَّوَسُّطِ هذا النوع الرابع؟ [الضمير، العلم، الصلة، اسم لإشارة هذا الرابع أحسنت].

ثم ذكر اسم الإشارة بقوله: (وَبِإِشَارةٍ) يعني: اسم إشارة، بحذف المضاف اسم إشارةٍ أي: باسم إشارةٍ جُعل مسندًا إليه أي: وأما تعريف المسند إليه بإرادة اسم إشارة (لِذِي فَهًمٍ بَطِي) يعني: اسم الإشارة في الأصل أنه موضوعٌ لأي شيء، اسم الإشارة في أصل وضعه في لسان العرب موضوعٌ للمحسوسات، المحسوسات لا بد أن يكون لشيءٍ محسوس أليس كذلك؟ وما سبق معنا أن حدّ الإشارة ما وضع لمسمًى أو معين وإشارةٍ إليه، لو قلت: هذا زيدٌ، هذا من المعارف أليس كذلك؟ من المعارف لو لم أشر بيدي وأردت أن أعرف واحدًا منكم: هذا زيدٌ. أنا أريد أن أخبرك أنت: هذا زيدٌ. دون أن أشير تعرفه؟ ما تعرفه. لكن لو قلت: هذا زيدٌ عرفته أم لا؟ بماذا عرفته بلفظ هذا فقط؟ لا، مع الإشارة، هذا زائدًا الإشارة، أما لفظ هذا لوحده لا يكفي ولا يكون معرفةً، لو جلست من العشاء إلى الصلاة تقول: هذا زيدٌ، هذا زيدٌ، ما عرفه الحاضرون لماذا؟ لانتفاء الإشارة، الذي يكون فهمه بطيئًا لا يُدرك إلا المحسوس، يعني: المعقول هذا لا مجال له فيه، فإذا خوطب حينئذٍ أريد الإشارة إلى كونه بليد الذهن فيؤتى له باسم الإشارة بناءً على أنه لا يفهم [ها ها] المعقولات. (لِذِي) أي لسامعٍ صاحب فهمٍ بطيء لبلادته وغباوته، فحينئذٍ يكون مُسْتَبْلَدَ الذهن حتى أنه لا يتميز له الشيء إلا بالإشارة ولا يدرك غير المحسوس، كقول الفرزدق يخاطب جريرًا: أولئك آبائي فجئني بمثلهمُ ... إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ أولئك قالوا: أراد به الإشارة إلى غباوة جرير، كلهم يذم بعضهم بعضًا جرير وفرزدق. أولئك آبائي: مبتدأ وخبر، فجئني بمثلهمُ إذا جمعتنا يا جرير مجامعُ، إذًا إذا كان المخاطب السامع ذا فهمٍ بطيء يعني إشارة إلى كونه لا يفهم إلا بالمحسوسات فحينئذٍ يؤتى بالمبتدأ اسم إشارة. أو (فِي الْقُرْبِ) أي: للدلالة على القرب، معلومٌ أن اسم الإشارة قد يكون للقريب أو البعيد أو التوسط كما ذكره الناظم هنا، فحينئذٍ تأتي باسم الإشارة للدلالة على قرب المسند إليه، أو للدلالة على بعده، أو للدلالة على توسطه، أو (فِي الْقُرْبِ) أي: أن يكون المسند إليه اسم إشارة لأجل بيان حاله من قربٍ من المتكلمين، كقولي: هذا زيد إذًا هو قريبٌ مني، أو البعد كذلك أو ذلك زيد، {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2]. بعيد لرفعة شأنه والبعد هنا معنوي، أو التوسط وهو مذهب كثيرٍ من النحاة لأن للإشارة ثلاثة مراتب: قربى ولها المجرد. ووسطى ولها ذو الكاف ذاك. وبعدى ولها ذو الكاف واللام. ذا هذا القريب، ذاك للمتوسط، ذلك هذا للبعيد، وصححه ابن الحاجب، وعند سيبويه وتبعه ابن مالك أنه ليس للإشارة إلا مرتبتان، ثم ذكر المحلى بأل. نكمل بعد الصلاة إن شاء الله يا إخوان، والله أعلم. وصلَّ الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

6

عناصر الدرس * تتمة أغراض تعريفه. * أغراض تنكيره. * أغراض ذكر توابعه. * أغراض فصله بضمير الفصل. * أغراض الخروج عن مقتضى الظاهر. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال الناظم رحمه الله تعالى: وَأَلْ لِعَهْدٍ أَوْ حَقِيقَةٍ وَقَدْ ... تُفِيدُ الاسْتِغْرَاقَ أَوْ لِمَا انْفَرَدْ هذا المعرف الخامس، وهو: (أَلْ). ونطق بـ أل بناءً على أن المعرف هو (أَلْ) برمتها الهمزة واللام، خلافًا لمن قال: الألف واللام. حينئذٍ يحتمل عنده أن المعرف هو اللام والصحيح أن المعرف هو (أَلْ) بناءً على مذهب الخليل بكون الهمزة همزة قطع لكنها سُهِّلَتْ وصارت همزة وصل لكثرة الاستعمال، (وَأَلْ) أي: المعرفة. ونقول: عبَّر بـ (أَلْ) دون الألف واللام اختيارًا لمذهب الخليل أن الْمُعَرِّفَ مجموع (أَلْ)، وتعريف المسند إليه بـ (أَلْ) للنكت، فتارة يكون لعهد كما قال هنا: (لِعَهْدٍ). أي: لمعهود. أطلق المصدر وأراد به اسم المفعول، (لِعَهْدٍ) أي: حصة معهودة بين المتكلم والمخاطب، حصة يعني: قدر معهود بين المتكلم والمخاطب واحدًا كان أو اثنين أو جماعة يختلف، قد يكون المعهود شيئًا واحدًا فردًا، وقد يكون مثنًى، وقد يكون متعددًا، فهو قابل للكل، فالمراد منه العهد الخارجي هنا لأنه سيقابله بقوله: (أَوْ لِمَا انْفَرَدْ). وهو حقيقة وقد تفيد الاستغراق، إذًا عندنا عهد خارجي، وذلك لتقدم ذكره صريحًا ويسمى العهد الخارجي الحقيقي، أو كناية يعني: يكون العهد الخارجي متقدمًا يكون ذكره أو المعهود يكون المعهود متقدمًا، إما أن ينطق به صريحًا وإما أن يكنى عنه يعني يذكر كنايةً ويسمى العهد الخارجي التقديري، إذًا عندنا عهد خارجي حقيقي وهو الذي ذُكر المعهود صريحًا، وعندنا كناية ويسمى العهد الخارجي التقديري، وهذا تقسيم البيانيين. فالأول: العهد الخارجي الحقيقي كقوله تعالى: {فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ} [النور: 35] {الْمِصْبَاحُ} (أَلْ) في قولك: {الْمِصْبَاحُ} للعهد الخارجي الحقيقي لماذا؟ لكون المعهود - ما هو المعهود -؟ ... {مِصْبَاحٌ} السابق، وذكر أولاً، ومثله المثال المشهور بـ {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15، 16] أي: الذي أرسل أولاً. فإذا أعيدت النكرة معرفة فحينئذٍ هو عين الأول، ويسمى العهد الخارجي الحقيقي لكونه قد ذُكِرَ أولاً.

والثاني: العهد الخارجي التقديريّ نحو ماذا؟ كقولك: انْطَلَقَ الرَّجُلُ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا، وَالْمُنْطَلِقُ ذُو سَعَادَةٍ. انْطَلَقَ وَالْمُنْطَلِقُ، هنا في الْمُنْطَلِقُ (أَلْ) للعهد لكنه عهد خارجيّ تقديريّ لماذا؟ لكون انْطَلَقَ يدل على اسم الفاعل التزامًا، فإن انْطَلَقَ يدل على الْمُنْطَلِقُ التزامًا لأن انْطَلَقَ حَدَثٌ، والحدث لا بد له من مُحْدِثِّ، والْمُحْدِث هو المتصف بالحدث. انْطَلَقَ مُنْطَلِق، ضَرَبَ ضَارِب، قَتَلَ قَاتِل، إذًا دلالة قَتَلَ على قَاتِل دلالة التزامية، فحينئذٍ يكون العهد هنا عهدًا خارجيًّا لكنه تقديري، وقد اجتمعا في قوله تعالى يعني: خارجًا، صريح حقيقي، والتقديري في قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} [آل عمران: 36]، {وَلَيْسَ الذَّكَرُ} هنا تقديري ... {كَالأُنثَى} هنا حقيقي، أي: ليس الذكر الذي طَلَبَتْ كالأنثى التي وُهِبَتْ، فالأنثى إشارة إلى ما سبق ذكره صريحًا في قوله تعالى حكاية عن أم مريم {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى} نكرة، ثم قال: {كَالأُنثَى} إذًا هي عينُها لكنه ليس مسند إليه والذكر إشارة إلى ما سبق ذكر كناية في قوله تعالى حكاية عنها: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران: 35]. أين الذكر هنا؟ {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} أين الذكر؟ {مَا} كناية عن الذكر كأنها قالت: نذرت لك ذكرًا في بطني محررًا. وإن كانت {مَا} هذه عامة للذكر والأنثى لكن لما كان الذي يُحَرَّر ويكون خادمًا لبيت المقدس هو الذكر يعني: محصور في الذكور. هذه قرينة، ثم قوله: {مُحَرَّراً}. هذا حال، حَال من {مَا}، لو كان المراد بها الأنثى لقالت: محررةً. تأنيث لكن قال: {مُحَرَّراً}. علمنا أن {مَا} صاحب الحال مذكر هنا، فدل على أن {مَا} كناية عن ذكر، فلما قال: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ}. الذي دلت عليه {مَا} {كَالأُنثَى}، ... {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى} إذًا اجتمع عندنا العهد الخارجي الحقيقي والعهد الخارجي التقديريّ. إذًا {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} فـ {مَا} عامة للذكر والأنثى لكن التحرير وهو أن يعتقل ولد لخدمة بيت المقدس للذكور دون الإناث وكذلك تزيد عليه {مُحَرَّراً}، وقد يستغنى عن ذكره لتقدم علم المخاطب به يعني: المعهود الخارجي قد لا يُذكر لا تصريحًا ولا كناية لماذا؟ لعلم المخاطَب بِهِ، نحو ماذا؟ خَرَجَ الأَمِيرُ، ذَهَبَ الأَمِير، رَاعَيْتُ الأَمِير، وأنت تعلم أنه ليس للبلد إلا أمير واحد، فحينئذٍ المعهود هنا فرد خارجي أليس كذلك؟ لكن أين هو؟ هل ذكر صريحًا؟ الجواب: لا، هل ذكر كناية؟ الجواب: لا، أين الإحالة؟ الإحالة لشيء معلوم عند المخاطب لماذا؟ لكوني أنا المتكلم وأنت أيها المخاطب نعلم أن البلد ليس لها إلا أمير واحد، خَرَجَ الأَمِيرُ إذا لم يكن في البلد إلا أمير واحد قالوا: ومنه - عند البيانيين - {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ}، {تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، وهذا مدلوله فرد لكنه يعلمه المخاطب، فحينئذٍ المعهود في قوله: {الْغَارِ}. والمعهود في قوله: ... {بِالْوَادِ}. والمعهود في قوله: {الشَّجَرَةِ}.

لم يتقدم لا تصريحًا ولا كناية، وإنما عُهِدَ علمه إلى المخاطب، واضح؟ أو لكونه محسوسًا مُبْصَرًا كقولك لِمَنْ يسدد سهمًا: الْقِرْطَاس. يعني: شيء محسوس أمامك الْقِرْطَاس يعني: سدد القرطاس مثلاً أو لكونه حاضرًا نحو {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] حاضر اليوم نزلت الآية يوم عرفة يعني: هذا اليوم. حينئذٍ (أَلْ) هنا تفيد العهد الحضوري، وكل هذا في غير مسند لكن الحكم واحد، والبيانيون اعتادوا أن يمثلوا للمعاني بالمسند وغيره. إذًا العهد الخارجي الأصل أنه منقسم إلى قسمين: عهد خارجي حقيقيّ: إذا كان المعهود ملفوظًا به مصرحًا {مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ}. وعهد خارجي تقديريّ: وهو إذا كُنِّيَ عنه مثل {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}، والمراد بالذكر هنا حينئذٍ نقول: هذا عهد خارجي تقديري، وقد يأتي لغيره فيما ذكر. (أَوْ حَقِيقَةٍ) (أَوْ) للتنويع، أو يكون المسند إليه معرفًا بـ (أَلْ) لأجل الإشارة لـ (حَقِيقَةٍ) يعني: نفس الحقيقة فـ (أَلْ) عند البيانيين قسمان: عهدية. وحقيقية. فقط الحقيقية هي الجنسية وتدخل تحتها الاستغراقية، بخلاف التقسيم عند النحاة عند النحاة تختلف، عند البيانيين (أَلْ) إما عهدية، وإما حقيقية. يعني: إما تأتي للعهد كما قال الناظم هنا، وإما لحقيقة. ثم العهد أنواع ثم الحقيقية كذلك أنواع. (حَقِيقَةٍ) من الحقائق أي: ماهية من الماهيات المشتركة بين جميع الأفراد التي يُعبر عنها بالجنس - عند البيانيين - يعني: الحقيقة من حيث هي لا باعتبار الأفراد، الإنسان حيوان ناطق، الإنسان من حيث هو إنسان لا باعتبار الأفراد، حينئذٍ يعبر عنها بالحقيقة يعني: ماهية من الماهيات، أو حقيقة من الحقائق التي يُعبَّر عنها بالجنس من غير اعتبار مصدقها، ما المراد بالمصدق؟ الأفراد، يعني: ما يَصْدُقُ عليه اللفظ، لفظ إنسان يصدق على عمرو، وخالد، وبكر، ومحمد، هذا يُسمى مصدر، نعتبر مدلول اللفظ من حيث هو لا باعتبار المصدر يُسمى ماذا؟ يسمى حقيقة. نحو: الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَة. هذا المثال مشهور: الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَة. حَقِيقَةُ الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ حَقِيقَةِ الْمَرْأَة، لا باعتبار الأفراد يعني: ليس كل فرد من الرجال خير من كل فرد من النساء، ليس هذا المراد، الآن وجد العكس، الرَّجُلُ حقيقة الرجل من حيث هو رجل يعني: وصف الرجولة خير من وصف الأنوثة أليس كذلك؟ هذا هو المراد، أي: حقيقة الرجل من حيث هي هِي يعني: لا باعتبار الأفراد ومنه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} ... [الأنبياء: 30] يعني: من جنس الماء - وإن كان هذا ليس من المسند إليه - ومنها اللام داخلة على المعرفات حقيقية تقول: الكلمة قول مفرد. الكلمة (أَلْ) أي: حقيقة الكلمة من حيث هي هِي يعني: لا باعتبار الأفراد. الإنسان حيوان ناطق يعني: الإنسان من حيث هو هُو. والكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد، ولا تدل هذه اللام على وحدة ولا تعدد. إذًا لام حقيقة تدل على حقيقة من الحقائق وماهية من الماهيات لا باعتبار الأفراد، فلا تدل على تعدد ولا على وحدة، وإنما على شيء من حيث هو هُو.

ثم قال: (وَقَدْ تُفِيدُ الاسْتِغْرَاقَ). (وَقَدْ) ليست للتقليل إنما هي كثيرة (تُفِيدُ) ما هي؟ (أَلْ) التي للحقيقة يعني: مع دلالتها على الحقيقة والماهية (تُفِيدُ الاسْتِغْرَاقَ) يعني: الشمول. (تُفِيدُ الاسْتِغْرَاقَ) إذًا الاستغراقية ليست مباينة للحقيقية وإنما هي داخلة تحتها، (وَقَدْ تُفِيدُ) وهي (أَلْ) التي للحقيقة (الاسْتِغْرَاقَ) سواء كان حقيقيًّا أو عرفيًّا - كما سيأتي - للأفراد حقيقة كـ {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} يعني: عالم كل غيب وكل شاهدة، كل فرد من أفراد الغيب عالم به، وكل فرد من أفراد الشهادة عالم به {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] يعني: كل إنسان، هذه (أَلْ) الاستغراقية لأنها أشارت إلى الحقيقة لكن باعتبار الأفراد وباعتبار جميع الأفراد ثلاثة أشياء: {الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} حقيقة الإنسان ميزه عن الحيوان عن سائر الحيوان يعني: الأنواع. ثم كان الحكم على الأفراد. ثم الحكم على الأفراد على نوعين: بعض الأفراد أو جميع الأفراد؟ هنا جميع الأفراد ولذلك صَحَّ حُلُول لفظ كل محلها والاستثناء من مدخولها، {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ} [العصر: 2، 3] {إِلَّا} أداة استثناء {الَّذِينَ} جمع أليس كذلك؟ هو مُستثنى، أين المستثنى منه؟ الإنسان، الإنسان في اللفظ واحد، كيف استثني منه {الَّذِينَ}؟ نقول: هو باعتبار المعنى في شمول. يعني: كل إنسان كل فرد من أفراد الإنسان. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] هذه موصولية إذًا (وَقَدْ تُفِيدُ الاسْتِغْرَاقَ) للأفراد حقيقةً كـ {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: كل غيب وكل شهادة، أو عرفًا يعني: لها استغراق لكنه عرفيّ كقولهم: جَمَعَ الأَمِيرُ الصَّاغَة. كل صاغة العالم أو صاغة بلده؟ بلده، لأن هذا العرف، الأمير ليس له إلا ما تحته، أليس كذلك؟ جَمَعَ الأَمِيرُ الصَّاغَة يعني: صاغة بلده، هذا الذي يُعَوَّلُ عليه، وأما لفظ الصاغة لو قيل بأنه كالإنسان حينئذٍ جمع كل من يَصْدُق عليه الوصف في العالم كله، وهذا لا وجود له. إذًا هذا استغراق عرفي يعني: باعتبار عرف المتكلِم. كون (أَلْ) للاستغراق المراد بها أنها تعمُّ الأفراد ومع ذلك معنى الجنسية لا يفارقها، لأن الحقيقية قلنا: حقيقة من الحقائق وماهية من الماهيات وهي التي يُعَبَّرُ عنها بالجنس، إذًا (أَلْ) الجنسية. (أَلْ) الحقيقية هي الجنسية عند البيانيين، حينئذٍ (أَلْ) التي تفيد الاستغراق لا تفارق الجنسية، وإنما مع دلالتها على الجنسية تدل على الأفراد، إما كُلاًّ في الحقيقي أو بعضًا في العرفيّ، فمعنى الجنسية لا يفارقها كما أشرنا فيما سبق {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أُشير بـ (أَلْ) إلى الحقيقة لكن لم يقصد بها الماهية من حيث هي هِي ولا من حيث تحققها في ضمن بعض الأفراد، بل في ضمن الجميع بدليل صحة الاستثناء. {إِنَّ الْإِنسَانَ} رُوعِي فيه الاستغراق ورُوعِي فيه الجنس، انتبه لهذا.

(أَوْ لِمَا انْفَرَدْ) (أَوْ) للتنويع أي: ترد (أَلْ) المعرفة للجنس لا مطلق (أَلْ) للإشارة (لِمَا انْفَرَدْ) هذا نوع من النوع الثاني، (أَلْ) لعهد انتهينا منها، أو حقيقة أو قال ماذا؟ بـ أو (أَوْ حَقِيقَةٍ) ثم هذه الحقيقية الجنسية تفيد الاستغراق وقد تفيد كذلك (لِمَا انْفَرَدْ) يعني: لفرد ذهني (لِمَا انْفَرَدْ) أي: لفرد مبهم من أفراد الجنس، يعني: يكون مدلولها فردًا لكنه ليس في الخارج وإنما هو شيء في الذهن أي: للفرد الواحد من أفراد الجنس غير معين عند السامع باعتبار عهديته في الذهن، يعني: معهود في الذهن، كقولك: اذْهَبْ إِلَى السُّوق. أليس كذلك؟ إذا قلت لابنك: اذْهَبْ إِلَى السُّوق. اذْهَبْ إِلَى كُلِّ سُّوقٍ في العالم، إِلَى كُلِّ سُوقٍ في البلد، إلى سوق واحد غير معين ما المراد؟ الثالث. إذا قلت: (أَلْ) هنا كـ (أَلْ) في الإنسان عمت كل الأسواق أليس كذلك؟ اذْهَبْ إِلَى السُّوق يعني كل سوق، اذْهَبْ إِلَى السُّوق والمراد به العرفي يعني: أسواق البلد كلها اذْهَبْ إِلَى سُّوق يعني: المراد به سوقًا واحدًا يحصل به الذهاب، اذْهَبْ إِلَى الْمَسْجِد المراد به فرد من أفراد المسجد ليس المراد به كل المساجد، إذًا جاءت (أَلْ) هنا لفرد مبهم غير معين، وحينئذٍ يكون هذا الفرد وجوده وجود في الذهن فقط، لأنه إذا قال: اذْهَبْ إِلَى السُّوق. أنا استحضر أي سوق في ذهني وتمشي، وإما إذا كان معهودًا في الخارج وهذا فيما مضى في العهدية. إذًا (أَوْ لِمَا انْفَرَدْ) يعني: للفرد الواحد من أفراد الجنس غير معين عند السامع باعتبار عهديته في الذهن، وهذه التي تسمى (أَلْ) العهدية الذهنية، وهي عند النحاة نوع من أنواع العهدية، وهنا عندهم نوع من أنواع الجنسية، واضح؟ (أَلْ) العهدية للذهن هذه عند النحاة يجعلونها داخلة في العهدية التي تقابل الحقيقة والجنسية، وهنا لا، يجعلونها داخلة في الحقيقية، ادخل السوق إلى حيث لا عهد فإن الدخول إنما يكون في سوق واحد، وهذا الاسم الذي دخلت عليه (أَلْ) والمراد به فرد واحد غير معين في المعنى كالنكرة، لأنه كأنه قال: ادخل السوق. ادخل سوقًا. أي سوقٍ، فيصدق بسوق واحد، إذًا هو في المعنى كالنكرة إذا لم يكن لمعين يعرفه المخاطب فصار شائعًا بحسب الظاهر ولهذا يوصف بالجمل، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ}، {اللَّيْلُ} المراد به فرد غير معين حينئذٍ وصف بـ {نَسْلَخُ}، {نَسْلَخُ} الجمل بعد المعارف أحوال وهنا لا يعرب حالاً، وإنما يعرب صفةً لماذا؟ لأن الليل في قوة النكرة، والجمل بعد النكرات صفات، ولذلك أُعْرِبَ صفة. وأوضح منه قوله يعني من حيث الاستدلال: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ... وَمَضَيْتُ ثُمَّت قلت لا يعنيني

اللئيم فرد مبهم غير معين، يَسُبُّنِي الجملة صفة وليست بحال لماذا؟ لأن اللئيم المراد به فرد واحد غير معين فهو في معنى النكرة صار شائعًا في جنسه، فحينئذٍ نقول: هذا هو معنى النكرة، إذًا أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ أيُّ لئيم؟ أيَّ لئيمٍ كان فيصدق بفرد شائع واضح هذا؟ إذًا (أَلْ) التي يُراد بها الجنس وهي معرفة باللام، إما أن يراد بها نفس الحقيقة، واضح؟ الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَة، وإمَّا فرد معين فهو العهد الخارجي، وإمَّا فرد غير معين وهو العهد الذهني، وإمَّا كل الأفراد وهو الاستغراق، هذا ذكره في ((الإيضاح)) ونُوزِعَ في قول: فرد معين وهو العهد الخارجي. ثم ذكر الإضافة بقوله: وَبإِضَافَةٍ فَلِلإِخْتِصَارِ ... نَعَمْ وَلِلذَّمِّ أَوِ احْتِقَارِ هذا المعرف السادس والأخير، وتعريف المسنَد إليه بإضافة إلى شيء من المعارف يكون لنكت، وإن يكن أي: المسند إليه معرفًا بإضافة يعني: بسبب الإضافة الباء سببية فالاختصار الفاء وقعت في جواب الشرط، أي: بأن يكون المقام مقتضيًا الاختصار لأنك لو لم تضف لعددت وأطلت الحديث، فيورد المسند إليه مضافًا إلى غيره بكونه الإضافة أقصر طريق إلى إحضار المسند إليه في ذهن السامع كقول الشاعر: هواي مع الركب اليماني لمصعد ... جنيب وجثماني بمكة موثق فإنه أخصر من قوله: الذي أهواه. هواي الذي أهواه، ومثله قوله: بنو إسرائيل. بدل من أن تعدد تقول: بنو إسرائيل. {وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ} [يوسف: 58] بدل من أن تعدد تأتي بالإضافة فهو أخصر، فإنه يُغني عن تفصيل المتعذر كما في بني إسرائيل، أو مرجوح ومثله أولاد يعقوب ... {وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ}. (نَعَمْ وَلِلذَّمِّ أَوِ احْتِقَارِ). (نَعَمْ) هذا حرف جواب مبني على السكون لا محل له من الإعراب ولا عمل له، ومن معانيه أنه حرف توكيد، متى؟ إذا صُدِّرَ به الكلام كما هو الشأن هنا. (نَعَمْ) وبالتبعية التي مضت مثل ما مر معنا في نظم ((الآجرومية)) هو نفسه، نعم إنك طالب مجتهد، هنا حرف توكيد، (وَلِلذَّمِّ) للمضاف إليه أو للمضاف، قد يضاف الشيء ويراد به ذم المضاف أو المضاف إليه، علماء البلد فعلوا كذا مثلاً، تريد به الذم، «تعس عبد الدرهم». «تعس عبد الدينار». أريد به الذم، ولد الحجام حاضرٌ أريد به الذم، ومثله الاحتقار الذي ذكره في ... # 23.26 (أَوِ احْتِقَارِ) وهو قريب من الذم، فالأمثلة واحدة، وبهذا انتهى البحث الثالث وهو تعريف المسند إليه. البحث الرابع في تنكيره قال: وَإنْ مُنكَّرًا فلِلتَّحقِيرِ ... وَالضِّدِّ وَالإِفْرَادِ وَالتكْثِيرِ وَضِدِّهِ ................... ... ............................. هذا ما يتعلق بماذا؟ بتوابع المسند إليه، الفرق بين هذا البحث والبحث السابق أن البحث السابق يتعلق بذات المسند إليه بذاته، هو يُحذف بذاته، يُذكر بذاته، كذلك يكون معرفة بذاته، (نَعَمْ) ذات تتعلق بالوصف وليس بـ .. يكون نكرة بذاته فالتعريف والتنكير، التنكير هذا متعلق بالبحث بمقابل المعرفة، ما وصلنا لما سيأتي.

البحث الرابع تنكيره أي: تنكير المسند إليه (وَإنْ يَكُنْ مُنكَّرًا فلِلتَّحقِيرِ وَالضِّدِّ)، (وَإنْ يَكُنْ) المسند إليه (مُنكَّرًا) أي: نكرة فيكون لنكت فوائد يعني (فلِلتَّحقِيرِ) الفاء واقعة في جواب الشرط بمعنى أنه أحقر من أن يُعَيَّن، ما تُعين تأتي بنكرة لأنه إن ذكرته معرفةً فحينئذٍ رفعت من شأنه، وتحقره تأتي به نكرة. (وَالضِّدِّ) ضد التحقير وهو التعظيم، وهو تعظيم شأنه بمعنى أنه أعظم من أن يُعَيَّن فارتفاع شأنه أو انحطاطه هو المانع من تعريفه فيهما، واجتمعا في قول الشاعر: لَهُ حَاجِبٌ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَشِينُهُ ... وَلَيْسَ لَهُ عَنْ طَالِبِ الْعُرفِ حَاجِبُ أي: مانع عظيم، حاجب في الأول أي: مانع عظيم عن كل ما يَعِيبُهُ، وليس له عن طالب الإحسان حاجب حقير فكيف بالعظيم، حينئذٍ اجتمع التنكير هنا مرادًا به التعظيم ومرادًا به التحقير. إذًا (فلِلتَّحقِيرِ وَالضِّدِّ) يعني: تحقير المسند إليه، فهو أحقر من أن يُعَيَّن، (وَالضِّدِّ) الذي هو ضد التحقير، فـ (أل) هنا نائبة عن المضاف إليه أو للعهد، أي: ضد التحقير وهو تعظيم شأنه واجتمعا في البيت السابق. (وَالإِفْرَادِ) أي: القصد إلى فرد مما يصدق عليه اسم الجنس، كقوله تعالى: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20]. ما المراد به {رَجُلٌ} يعني: واحد الإفراد إذا أردت الفرد الواحد تأتي باللفظ مُنِكَّرًا، وجاء رجل يعني: رجل واحد. (وَالإِفْرَادِ) {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} دلّ على أنه مفرد، أي: رجل واحد وهذه وحدة شخصية، وقد يؤتى به للدلالة على وحدة نوعية، أي: نوع خاص مخالف للأنواع المعهودة وهو أمر واحد تحته وأشياء متعددة سواء كانت متفقة الحقائق أو مختلفة، يعني: ليس كالنوع عند المناطقة، فإنه يدل على متعدد لكنها حقائق متفقة، أي: نوع غريب كما في قوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7]. أي: نوع غريب من الغشاوة لا يتعارفه الناس وهو غطاء التعامي عن آيات الله {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} هذا الاعتراض. نقول: المراد به وحدة يعني: وحدة شخصية أو وحدة نوعية؟ وحدة نوعية، لماذا؟ لأن المراد بالغشاوة هنا التعامي عن تدبر آيات الله، وهذا له أسباب وله صفات، متعددة أو متحدة؟ متعددة مختلفة، إذًا غشاوة فيه وحدة لكنها نوعية لا شخصية. (وَالتكْثِيرِ وَضِدِّهِ) وهو القلة أي يُنَكّر المسند إليه للدلالة على كثرة في أفراد المسند إليه بمعنى أنه كثير حتى لا يُحتاج إلى تعريفه إلى كقولهم: إن له لإبلاً. كثيرة يعني: وبعضهم يجعل التنوين هو الدال على التكثير. ومنه عند الزمخشري {إِنَّ لَنَا لأَجْراً} [الأعراف: 113] كثيرًا، والقلة نحو قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]. قليل رضوانه قليل فكيف بالكثير، فهو أكبر وأكبر، أي: رضوان قليل أكبر ليدل على غيره من باب أولى. إذًا (وَإنْ مُنكَّرًا) يعني: وإن يؤتى بالمسند إليه (مُنكَّرًا فلِلتَّحقِيرِ وَالضِّدِّ) وهو التعظيم (وَالإِفْرَادِ وَالتكْثِيرِ وَضِدِّهِ) وهو القلة، هذا ما يتعلق بذات المسند إليه.

ثم شرع فيما يتعلق بإتباع المسنَد والفرق بينهما أن ذلك يتعلق بذاته، وهذا يتعلق بخارج عنه بلفظ خارج عنه. ثم بَيَّن الأمور العارضة المتعلق بتوابع المسند إليه - وهو البحث الخامس - فبدأ بالوصف الذي هو النعت فقال رحمه الله تعالى: . وَالْوَصْفُ لِلتَّبْيِين ... وَالمَدْحِ وَالتَّخْصِيصِ وَالتَّعْيِينِ يعني: ووصفه كذا للتبيين هكذا للتبيين نعم هذا خبر أو متعلق بمحذوف خبر المبتدأ (وَالمَدْحِ وَالتَّخْصِيصِ وَالتَّعْيِينِ) هذه معطوفة عليه (وَالْوَصْفُ) أي: وصف المسند إليه، لماذا تصف المسند إليه؟ لماذا تأتي بالصفة؟ لأمور منها (لِلتَّبْيِين) وهو ما يُعَبّر عنه بالكشف، تبيين ما يسمى بالصفة الكاشفة يعني: يكون محتمل، فترفع الاحتمال أو تقلل الاشتراك، وهو ما يُعَبّر عنه بالكشف عن معناه، بأن احتاج إلى ذلك بأن يكون مبهمًا يحتاج إلى تعين كقوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 2، 3]. {الَّذِينَ} هذا وصف للمتقين وهو صفة كاشفة، وكقوله أو قولك أنت: الجسم الطويل العريض العميق يحتاج إلى فراغ يشغله. الجسم الطويل العريض هذه كلها أوصاف كاشفة وليس كل جسم وإنما هو ما اجتمع فيه الصفات السابقة. (وَالمَدْحِ) أي: إفادة المدح بالوصف نحو: زيد العالم جاءني. هذا فيه مدح لزيد {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] هذا نعت للمدح، ومنه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. هذا مدح، وقد يأتي للذم أو الترحم. (وَالتَّخْصِيصِ) أي: إفادة الوصف للتخصيص للمسند إليه، إرادة التخصيص يعني: إرادة إفادة تقليل الاشتراك أو رفع الاحتمال، وأراد بالتخصيص هنا ليس كالتخصيص عند النحاة، وإنما أراد به ما يعم تقليل الاشتراك ورفع الاحتمال الْمُعَبَّر عنه عند النحاة بالتوضيح أليس كذلك؟ النحاة تقول: الوصف إما مخصص أو موضح، مخصص في النكرات موضح في المعارف. هذا عند من؟ عند النحاة. جاء رجل عظيم. قالوا: هذا تخصيص. جاء زيد التاجر. قالوا: هذا توضيح. فرق بينهما [أن النكرة] (¬1) أن الموصوف إذا كان نكرة فحينئذٍ يكون تخصيصًا، والموصوف إذا كان معرفة حينئذٍ يكون توضيحًا، عند البيانيين يجمعون المعنيين في معنى واحد وهو التخصيص فأيهما أعم؟ التخصيص عند البيانيين أعم من التخصيص عند النحاة، لماذا؟ لأن التخصيص عند النحاة تقليل الاشتراك فقط، وعند البيانيين تقليل الاشتراك ورفع الاحتمال، فانتبه للفوارق. وأراد بالتخصيص هنا ما يَعُمُّ تقليل الاشتراك ورفع الاحتمال [الْمُعَبِّر عنه بالتوضيح أو $$ هل سبق أم أرادها الشيخ 31.58] الْمُعَبَّر عنه بالتوضيح وعند النحاة التخصيص عبارة عن تقدير الاشتراك الحاصل في النكرات نحو قولك: جاء رجل عالم. قالوا: جاء رجل. رجل هذا يشمل الجاهل والعالم، فإذا قلت: عالم. قلت الاشتراك لماذا؟ لأنه بقي اشتراك ما هو؟ من هو هذا الرجل العالم زيد أو عمرو أو خالد بقي اشتراك، لكن هذا قللت الاشتراك، فإنه كان بحسب الوضع محتملاً لكل فرد من أفراد الرجال فلما قُلْتَ: عالم. قللت ذلك الاشتراك وخصصته بضرب من الأفراد المتصفة بالعلم. ¬

_ (¬1) سبق مستدرك بعده مباشرة.

والتوضيح عند النحاة عبارة عن رفع الاحتمال الحاصل في المعارف نحو: زيد التاجر عندنا. فإن وصفه بالتاجر يرفع احتمال غيره، فالتخصيص عند البيانيين أعم فيشمل تقليل الاشتراك وهذا في وصف النكرة، ورفع الاحتمال وهذا في وصف المعرفة. (وَالتَّعْيِينِ) هكذا (وَالمَدْحِ وَالتَّخْصِيصِ وَالتَّعْيِينِ) ويعبر عنه بالتنصيص أي: البسط والبيان لكون دلالة المنطوق أقوى نحو: جاءني رجل واحد. جاءني رجل قال: واحد. ما الفائدة هنا؟ تنصيص تعيين، لأن ما دلّ عليه بالمنطوق ليس في قوة ما دُلّ عليه بالمفهوم، فإن رجل دلّ على الواحد بالمفهوم، وواحد دلّ على الواحد بالمنطوق، هكذا قيل. قيل: وهو شرط في إفادة الوصف المدح أو الذم أو الترحم وإذا لم يكن متعيِّنًا قبل ذكر الوصف كان الوصف مخصِّصًا حينئذٍ يكون ماذا؟ اشترط ذلك لئلا يكون الوصف مخصِّصًا، على كل التعيين قل من ذكره. يعني: لم يذكره إلا صاحب ((التلخيص)). المبحث السادس: في تأكيده أو الذي يليه بعد الوصف وَكَوْنُهُ مُؤَكَّدًا فَيَحْصُلُ ... لِدَفْعِ وَهْمِ كَوْنِهِ لاَ يَشْمُلُ وَالسَّهْوِ وَالتَّجَوُّزِ المُبَاحِ ... ............................. يُؤَكَّدُ المسند إليه بأحد المؤكِّدات المذكورة في النحو فيحصل تأكيده لأمور: أولاً: (لِدَفْعِ وَهْمِ كَوْنِهِ لاَ يَشْمُلُ) يعني: دفع توهم عدم الشمول. جاء القوم، القوم هذا مُسنْد إليه، ما هو يحتمل أنه مجاز أطلق الكل وأريد به البعض يحتمل هذا؟ لكن إذا أكدته جاء القوم كلهم، إذًا ما فائدة التوكيد هنا؟ دفع توهم عدم إرادة الشمول بالمسند إليه وهو القوم. أي: دفع توهم كون المسند إليه لا يشمل للأجزاء أو للجزئيات نحو: استوى الرغيف كله. استوى الرغيف، يحتمل استوى بعضه دون كله، وإذا قلت: كله. حينئذٍ رفعت توهم عدم إرادة الشمول للأجزاء، لا للجزئية، وجاء القوم كلهم لئلا يُتوهم أنه استوى البعض في المثال الأول وأن البعض لم يجئ لكنك لعدم اعتدادك بالباقي منهما جعلت الفعل المسند إلى الكل بناءً على أنهم في حكم شيء واحد. إذًا لعدم توهم عدم إرادة الشمول أُكَّد المسند إليه - وهذا مر معنا في المؤكدات بكل وكذلك، والمجاز بنحو نفسه وعينه -. واستهوي أي: لدفع وهم استهوي والنسيان في النسبة كقولك: جاء زيد. زيد هذا مسند إليه يحتمل أنك أخطأت، أردت أن تقول: جاء عمرو. فقلت: جاء زيد. لكن لما قلت: زيد زَيد. علمنا أنك متيقظ فالثاني يكون مؤكدًا للأول لدفع توهم السهو أو النسيان، لأن إعادة لفظ المسند إليه تنفي السهو والنسيان فيه، ثم السهو والنسيان وإن اشتركا في أن الحكم مع كل منهما يكون صادرًا على سبيل الغلط لكنهما افتراقا بأن الأول الذي هو السهو ينبه صاحبه بأدنى تنبيه بخلاف الثاني. (وَالتَّجَوُّزِ) يعني لدفع توهم المجاز وهذا في النفس والعين جاء زيد يحتمل أنه رسوله أو غلامه أو كتابه، قلت: نفسه، عينه. حينئذٍ رفعت توهم المجاز، أي دفع توهم المجاز أي: التجوز في النسبة نحو: جاء زيد نفسه. فإنه ينفي أن يكون جاء غلامه، وإنما نسب المجيء إليه تجوزًا، وقلنا: هذا فيه بحث فصلناه في شرح المطول على (الآجرومية)) يُرجع إليه، والكلام غير مسلم مطلقًا.

وقوله: (المُبَاحِ). هذا من باب التتمة يعني: التجوز المباح الذي يكون سائغًا يعني: ما وجد فيه شروط المجاز، ليس كل ما ادُّعِي المجاز حينئذٍ قُبِلَ، المجاز لا شك أنه موجود في اللغة وفي الكتاب والسنة لكن ليس على إطلاقه. إذًّا: وَكَوْنُهُ مُؤَكَّدًا فَيَحْصُلُ ... لِدَفْعِ وَهْمِ كَوْنِهِ لاَ يَشْمُلُ وَالسَّهْوِ وَالتَّجَوُّزِ المُبَاحِ ... ............................. المباح صيغة كاشفة (ثُمَّ بَيَانُهُ فَلِلإِيضَاحِ بِاسْمٍ بِهِ يَخْتَصُّ)، (بَيَانُهُ) يعني: يعطف على المسند إليه عطف بيان، ما فائدة عطف البيان هذه كلها مرت معنا في النحو، (ثُمَّ) للترتيب الذكري (بَيَانُهُ) أي: إتباع المسند إليه بعطف البيان. (فَلِلإِيضَاحِ) يعني: له فائدة واحدة وهي إيضاحه باسم يختص به مثل ماذا؟ أقسم بالله أبو حفص. من هو أبو حفص؟ يحتمل عُمَر، حينئذٍ لما قلت: عمر. رجعت إلى الأول فعطفت عليه ورفعت الاحتمال لأن أبا حفص كنية ليست لعمر بن الخطاب فقط، وإنما هي له ولغيره ولكن عمر حينئذٍ تعين بأن المراد بمسمى أبي حفص هو عمر بن الخطاب ... (فَلِلإِيضَاحِ بِاسْمٍ بِهِ يَخْتَصُّ) يختص بالمسند إليه، وقوله: (بِهِ). هذا متعلق بقوله: (يَخْتَصُّ) باسم يختص، يختَص باسم به، أي: لإيضاحه وكشفه باسم مختص به، للإيضاح باسم، باسْم هذا متعلق للإيضاح [لا، للإيضاح]، (فَلِلإِيضَاحِ) يعني: إيضاح المسند إليه (بِاسْمٍ) مختص (بِهِ) بالمسمى، (بِهِ) متعلق بـ (يَخْتَصُّ)، و (بِاسْمٍ) متعلق بالإيضاح تقدير الكلام (فَلِلإِيضَاحِ) باسم مختص به أي: بالمسند إليه، والفرق بينه وبين الصفة الموضحة أنه وُضع ليدل على للإيضاح بخلافها، يعني: الصفة قد تأتي موضحة وعطف البيان يأتي موضحًا، ما الفرق بينهما؟ نقول: الفرق: أن عطف البيان وُضع ابتداءً ليدل على الإيضاح بخلاف الصفة، فإنها وضعت لتدل على معنى في موصوفها. ومثاله عطف البيان كقولك: قدم صديقك خالد. فإنه يجوز أن يكون للمخاطب أكثر من صديق أليس كذلك؟ جاء صديقك كل واحد عنده أصدقاء من هو؟ خالد إذًا وضحت أم لا؟ وضحته باسم يختص به لا يشاركه غيره فيه البتة، فإنه يجوز أن يكون للمخاطب أكثر من صديق واحد فلا يتبادر إلى ذهنه باللفظ صديقك ما هو مراد المتكلم، فلما فُسِّرَ بما هو المراد منه وهو خالد اتضح المراد، ولا يلزم أن يكون عطف البيان أوضح من متبوعه على الصحيح فيه خلاف بجواز أن يحصل الإيضاح من اجتماعهما معًا، ومثَّلُوا لذلك بغير المسند إليه بقوله: أقسم. بقول الشاعر: أقسم بالله أبو حفص عمر. مع أنه الكنية أشهر وأوضح من الاسم لجواز تعدد كل واحد منهما منفردًا فيكون فيه خفاء ويرتفع عنه ذلك الخفاء بذكر الثاني مع الأول، يعني: قد يكون المسند إليه مع عطف البيان كل منهما فيه إيضاح للآخر، وذلك إذا اشتهر أحدهما واشتهر الثاني كذلك.

(وَالإِبْدَالُ يَزِيدُ تَقْريرًا لِمَا يُقَالُ) هذا الثالث من التوابع، (وَالإِبْدَالُ) منه أي: من المسند إليه (يَزِيدُ) المسند إليه (تَقْريرًا) أي: تقرير الأمر في نفس السامع ففيه نوع تقوية وتوكيد لماذا؟ لأنه في نية تكرار العامل مثل السابق: قدم صديقك خالد. يحتمل أنه بدل كأنك قلت: قدم صديقك قدم خالد. لأن العامل في الثاني هو عين العامل في الأول لكن على التكرار، يعني: أو بتعبير آخر أدق نقول: العامل في الثاني مغاير للعامل الأول من حيث العمل، لكنه من حيث الوصف فهو هُو، قدم صديقك قدم خالد، إذًا العامل في صديق هو عينه العامل في خالد لكن باعتبار التعدد لا باعتبار الاتحاد، يعني: ليس هو كالصفة مع الموصوف. يزيد تقريرًا (لِمَا يُقَالُ) أي: بالمعنى المقصود (لِمَا يُقَالُ) تتمة يعني للذي (يُقَالُ) المراد به المعنى المقصود، فالإبدال من المسند إليه لزيادة التقريب وفائدته المبالغة وسبب التقرير هنا تأكيد المعنى تكرار العامل، فقوله: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} [الفاتحة: 6، 7]. أبدل ليكون شهادة بالصراط بالاستقامة على أبلغ وجه {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} صراط من؟ ما صفة أهله؟ قال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ}. إذًا فيه زيادة تقرير لأنه إذا طرق السمع أولاً مبهمًا ثم عُقِّبَ بالتفسير تمكن عنده، وكذا بدل البعض كالسابق بدل الكل من الكل نحو: جاء القوم أكثرهم. جاء القوم جاء أكثرهم والاستمال نحو سُلِبَ عمرو ثوبه، سُلِبَ عمرو سُلِبَ ثوبه، فيه تكرار، وأما بدل والغلط فلا يرد هنا لأنه ليس بفصيح خارج عن الفصاحة، والمراد بالزيادة التقرير أي التثبيت بالحكم والمسند إليه في ذهن السامع لاشتماله على تكرير الحكم والمسند إليه. ثم قال: الْعَطْفُ تَفْصِيلٌ مَعَ اقْتِرَابِ ... أَوْ رَدِّ سَامِعٍ إِلَى الصَّوَابِ

(الْعَطْفُ) المراد به عطف النسق، (الْعَطْفُ) مبتدأ و (تَفْصِيلٌ) خبره، و (الْعَطْفُ) أي: النسق أي جعل المسند إليه معطوفًا عليه غيره بأحد الحروف العشرة أو التسعة المشهورة عند النحاة وهي مكررة في النحو ومكررة بمعانيها، والأصل قاعدة هنا أن يعتبر في المعنى معنى الحرف المعنى الذي وُضع له الحرف، فالواو لمطلق الجمع، والفاء للترتيب لا # 43.48، وثم، المعاني تلك هي المعتبرة هنا، فإذا عطفت بالفاء لإرادة معنى الفاء، وإذا عطفت بـ ثم لإرادة معنى ثُمَّ .. وهكذا، الحكم واحد، هذه قاعدة عامة في هذا الباب ولكن مثل بمثالين، و (الْعَطْفُ) المذكور يكون لأمور منها (تَفْصِيلٌ) بالصاد المهملة أي: تفصيل المسند إليه. (تَفْصِيلٌ) (مَعَ اقْتِرَابِ) أي: مع اختصار. أراد بالاقتراب هنا الاختصار هذا تعبير في ذلك، مع اختصار في ذلك التفصيل لطي العامل من المعطوف، نحو قولك: جاء زيد وعمرو. هنا فصلت جاء زيد وعمرو، أفادت الواو المغايرة هذا الأصل في العطف حينئذٍ فصلت في من ثبت له المجيء وهو زيد وهو عمرو، فإن فيه تفصيل الفاعل لأنه زيد وعمرو من غير دلالة على تفصيل الفعل، الفعل واحد الذي هو المسند بأن المجيئين كانا معًا أو مترتبين مع مهلة أو بلا مهلة، إذ الواو وإنما هي لمطلق الجمع، أي: لثبوت الحكم للتابع والمتبوع من غير تعرض لا لترتيب ولا لمعية، كما هو الشأن في معنى الواو وهو مذهب البصريين، قيل: واحترز بقوله: مع اختصار أي نحو قوله: جاءني زيد وجاءني عمرو. هنا ليس عندنا اختصار لماذا؟ لأنه فصَّل المسند، وبالسابق فصل الفاعل ووحد المسند، جاء ثبت المجيء واحد زيد وعمرو إذًا التفصيل في الفاعل، لو قلت: جاء زيد وجاء عمرو. فصلَّت كذلك في المسند فليس فيه اختصار، فإنه وإن أفاد تفصيل المسند إليه لكنه لا يفيد بالاختصار، فلا يكون من عطف المسند إليه بل من عطف الجملة. (أَوْ رَدِّ سَامِعٍ إِلَى الصَّوَابِ) أو يكون العطف فيه (رَدّ سَامِعٍ) أي: للسامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب فيه، وذلك بالعطف بلا - وهذا مر معنا في النحو - جاءني زيد لا عمرو، إذا اعتقد المخاطَب أن الذي جاءك زيد حينئذٍ قد أخطأ في الحكم فترده من الخطأ إلى الصواب تقول: جاءني زيد لا عمرو. (أَوْ رَدِّ سَامِعٍ إِلَى الصَّوَابِ) يعني: من الخطأ الذي أعتقده إلى الصواب وهذا يكون بلا وبل كذلك ولكن على تفصيل عند النحاة.

(وَالْفَصْلُ للتَّخْصِيصِ) مبتدأ وخبر، ومن جملة أحوال المسند إليه، ... (الْفَصْلُ) فصل ماذا عن ماذا؟ المسند عن المسند إليه [أنتم ظاهرية] المراد بالفصل هنا ما يسمى بضمير الفصل [ها ها] (وَالْفَصْلُ للتَّخْصِيصِ) يعني: من جملة أحوال المسند إليه الفصل أي: تعقيبه بما صورته صورة ضمير مرفوع منفصل يُؤْتَى به بين المبتدأ والخبر، زيد هو القائم، هو، هذا ضمير فصل، صورته صورة ضمير، هو ليس بضمير على الصحيح، هو حرف لكن صورته صورة الضمير ولذلك سُمَّي ضميرًا، فصل بين المسند إليه والخبر، واضح؟ هذا يُسمى ضمير فَصْلٍ. أي: تعقيبه بما صورته صورة ضمير مرفوع منفصل يُؤتى به بين المبتدأ والخبر وهما أصله عند اشتباه الخبر بالصفة، يعني: [زيد قائم] (¬1) يحتمل احتمالاً أن قائم صفة لزيد، زيد القائم بـ ... (أَلْ) ليس نكرة هذا يحتمل إذا قلت: زيد قائم هذا لا يحتمل أنه صفة، لماذا؟ لأن قائم نكرة وزيد معرفة، ولا بد من التطابق، إذًا لا يحتمل، لكن لو قلت: زيد القائم احتمل أن القائم هنا صفة لزيد وأنت أردت أن يكون خبرًا فتأتي بالضمير، زيد هو القائم فتعين أن يكون خبرًا لأنه لا يوصل بين الموصوف وصفته الضمير، وذلك إذا كان الخبر معرفة نحو: زيد هو العالم. أو اسم تفضيل مستعملاً بمن نحو: زيد هو أفضل من عمرو. أو فعلاً ماضيًا نحو: زيد هو قام، أو فعلاً مضارعًا نحو: زيد هو يقوم. أربعة أحوال، يعني لا يُؤْتَى بضمير الفصل بعد المبتدأ المسند إليه إلا إذا كان الخبر معرفةً، أو اسم تفضيل وذكرت معه من، [أو فعل ماضي] (¬2) أو فعلاً ماضيًا، أو فعلاً مضارعًا. وإنما يجاء به إذا كان الخبر أحد هذه الأمور المذكورة، وتسميته بالفصل عند البصريين، والكوفيين يسمونه عامدًا أو دعامة، وله أحكام، هل هو اسم أو حرف، وعلى الأول إذا ثبت أنه اسم هل له موضع من الإعراب أو لا؟ وإذا كان له موضع هل الموضع باعتبار من قبله؟ أو باعتبار ما بعده، أقوال مبسوطة في كتب النحو، وجعله من أحوال المسند إليه دون المسند مع أن واسطة لاقترانه أولاً بالمسند إليه، أو لأنه في المعنى عبارة عنه وفي اللفظ مطابق له فإفرادًا وتذكيرًا وتأنيثًا وتثنيةً وجمعًا، كذلك وتكلمًا وخطابًا وغيبًا، يعني: لماذا جعلناه من توابع المسند إليه مع كون القدر المشترك بين المسند إليه والمسند؟ لأن له أحكامًا تتأتى على ضمير الفصل راجعة إلى المسند إليه، والحق أن فائدته ترجع إليهما جميعًا، لأنه يجعل أحدهما مخصصًا ومقصورًا عليه، ولآخر مخصصًا به ومقصورًا عليه، ويكون الإتيان به كما قال الناظم هنا: (للتَّخْصِيصِ). يعني: لإفادة التخصيص والقصد، وهو إثبات الحكم بالمذكور ونفيه عن ما عداه، وهذا قد يذكره في باب القصر فيما يأتي، ويكون الإتيان به (للتَّخْصِيصِ) أي: لأجل التخصيص بالمسند إليه بالمسند أي قصره على المسند إليه، لأنه مما يفيد القصر والحصر نحو: زيد هو القائم. يعني: لا غيره. ¬

_ (¬1) سبق وضحه الشيخ بعدها. (¬2) سبق مستدرك بعده.

إذًا أثبت القيام لزيد وحصرته في زيد ونفيت القيام عن غير زيد، بماذا حصل؟ بضمير الفصل كأنك قلت: ما قائم إلا زيد، والزيدان هما قائمان انظر ثنيت هما، والزيدون هم القائمون {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: لا غيرهم. {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [الشورى: 9] أي: لا غيره. واضح هذا؟ لما فرغ الناظم من الكلام عن إتباع المسند إليه بأحد التوابع المتقدم بيانها أو ما يتصل بذلك أو ضمير الفصل شرع بالكلام على تقديمه والأصل ويقال: تأخيره فقال: ............ والتَقْدِيمُ ... فَلاِهْتِمَامِ يَحْصُلُ التَّقْسِيمُ كَالأَصْل وَالتَّمْكِينِ وَالتَّعَجُّلِ ... ............................. تقديم المسند إليه هذا تابع لذاته، فصل بينهما الناظم تبعًا للقزويني في ... ((التلخيص)). (والتَقْدِيمُ) يعني: المسند إليه على غيره من أجزاء الكلام، والمراد هنا من التقديم إراده مقدمًا يعني: لا يتأخر، لأنك تقول: في الدار زيد، زيد في الدار. متى تُقَدِّمُ ومتى تؤخر؟ هنا يبحث البيانيون، ... (فَلاِهْتِمَامِ) به يعني: يقدم المسند إليه لقاعدة عامة وهو أنه مهم، ثم هذه الأهمية لها أسباب يعني: الاهتمام هذا جنس عام ويصدق بماذا؟ لكونه الأصل ولكونه التمكين والت ... #52.15 هذه كلها سبب أو أسباب لبيان كون المسند إليه مهتمًا به، واضح؟ إذًا القاعدة العامة في كونه مقدمًا هو الاهتمام، ثم ما وجه هذا الاهتمام؟ بأي سبب يكون؟ وبأي طريقة يكون؟ هو الذي ذكره فيما بعده. ولذلك قال: (فَلاِهْتِمَامِ) به وأنه هو المهم عند المتكلم أو المخاطب من ذكره غيره. أي: فلكون ذكره أهم ولا يكن في التقديم مجرد ذكر الاهتمام، بل لا بد من أن يبين أن الاهتمام من أي وجه وبأي سبب فلهذا فصله الناظم بقوله: (يَحْصُلُ التَّقْسِيمُ) والتفصيل. لماذا؟ لأي شيء؟ للاهتمام. قال ماذا؟ (والتَقْدِيمُ فَلاِهْتِمَام) الاهتمام يحصل بماذا؟ قال: (يَحْصُلُ التَّقْسِيمُ). يعني: التنويع والتفصيل للاهتمام (كَالأَصْل) وما عطف عليه، (يَحْصُلُ التَّقْسِيمُ) أي: تفصيل جهة الاهتمام وسببه (كَالأَصْل) فيه لأن المسند إليه الأصل فيه أن يكون مقدمًا لماذا؟ لأنه محكوم عليه، والمحكوم عليه الأصل أن يتقدم لأنه موضوع، والخبر محمول عليه، هذا الأصل كالأساس بالنسبة للبيت، (كَالأَصْل) فيه أي: الأمر الذي ينبغي أن يتصف الشيء به في نفسه لولا المانع، وذلك لأنه محكوم عليه ولا بد من تحققه قبل الحكم فقصدوا أن يقدم في الذكر أيضًا، وهذا واضح، لاسيما ولا مقتضى للعدول عنه لأنه إذا لم يكن سبب لأن يتأخر المسند إليه إذا لم يكن عندنا مقتضٍ - وهذا موافق للأصل - فاجتمع فيه أمران: كونه الأصل محكومًا عليه. وكونه لم يوجد مقتضٍ لتأخيره.

لذلك قال: لاسيما ولا مقتضي للعدول عنه إذ لو وجد أمر يقتضي العدول عن ذلك الأصل فإنه يُلغى - يعني: التقديم - ولا يقدم المسند إليه على المسند كما في الفاعل مع فعله، فإن مرتبة العامل الذي هو الفعل مثلاً التقديم على المعمول كالفاعل، لأن الكلام في المسند إليه يعم المبتدأ والفاعل، المبتدأ واضح أنه متقدم فقام زيد هنا متأخر، لماذا تأخر؟ لوجود المقتضي، ما هو المقتضي؟ أنه فاعل، وكونه فاعلاً بمعنى أنه لا يتقدم على عامله، وبعد فعل فاعل، وهذا يبحث في كتب النحو، وكما لو تضمن الخبر استفهامًا ما نحو: أين زيدٌ حينئذٍ تقول ماذا؟ أين زيدٌ؟ أين مبتدأ، زيدٌ وأين الخبر؟ أين، إذًا لماذا؟ تأخر هنا لوجود المقتضي وهو كون الخبر متضمنًا الاستفهام، والاستفهام له الصدارة في الكلام، حينئذٍ وجب تقديمه، ولهذا الموضع من المواضع وجوب تقديم الخبر على المبتدأ، أين زيدٌ؟ فإنه من مقتضيات العدول عن الأصل .. وهكذا. والتمكين فالأصل والتمكين أن يكون التقدير للمسند إليه بالتمكين أي: التَّمَكُّن يعني: تمكن الخبر في ذهن أو تمكن الخبر في ذهن السامع، تمكن الخبر في ذهن السامع لأن في المبتدأ تشويقًا إليه أي: للخبر وذلك إذ وصف المبتدأ بوصف غريب مشوقٍ إلى معرفة خبره، ولا شك أن حصول الشيء بعد التشوق إليه أوقع في النفس من غيره، بمعنى أنك تقدم المبتدأ على الأصل لوجود مقتضٍ وهو ماذا؟ أن فيه شيئًا يدل على التشويق، وهذا التشويق يمهد للخبر حينئذٍ هذه الفائدة مشتركة بين المبتدأ والخبر، فحينئذٍ إذا جاء الخبر بعد التشوق تمكن في النفس كما قال الشاعر: والذي حارت البرية فيه هذا مبتدأ، هذا يجعل الإنسان عندما يسمع هذا الكلام من هو الذي حارت البرية - إنسان - حيوانٌ مستحدثٌ من جماد جاء الخبر حينئذٍ تمكن في النفس، فقدم المبتدأ وهو الموصول [وصل معنى نعم] (¬1) وهو الموصول لما وصله بجملة قوله: حارت البرية فيه ¬

_ (¬1) سبق.

فصارت النفس متشوقةً إلى الخبر عنه، ما هو؟ فلما أتى إلي بعد ذلك الشوق صادف عنده من التمكن ما لم يصادفه لو عكس الأمر، والتعجل أي: ويكون تقديم المسند إليه لأجل التعجل يعني: تعجيلاً للمسرة خبر. نجح زيدٌ أو ناجحٌ زيدٌ حينئذٍ نقول: هذا عجل. يعني لم يكن هذا في المبتدأ، أي: لتعجيل المسرة للمخاطب بالتفاؤل بلفظه إذا كان مِمَا يتفاءل به نحو: سعدٌ في دارك، هو يحب سعد مثلاً قال: سعدٌ في دارك فرحًا منذ أن سمع سعد استبشر بذلك، أو لتعجيل الإساءة مثلاً كقولك مثلاً السفاح في دارك [ها ها] هذا فيه ماذا تعجيلٌ للإساءة إليه. (وَقَدْ يُفِيدُ الاخْتِصَاصَ إِن وَلِي)، (وَقَدْ) هذا للتكثير هنا ليس للتقليل (وَقَدْ يُفِيدُ) تقديم المسند إليه ... (الاخْتِصَاصَ) وعرفنا معنى الاختصاص متى؟ (إِن وَلِي نَفْيًا) بلا فاصل بينهما يعني: إذا تقدم المسند إليه وكان الخبر جملةً فعلية وكان النافي قد اتصل بالمسند إليه، يعني: ليس بينهما فاصلٌ البتة (وَقَدْ) هذه للتكثير (يُفِيدُ) تقديم المسند إليه لا لما سبق من الاعتبارات، بل يقدم ليفيد (الاخْتِصَاصَ) والحصر بالفعل الواقع في مقام الخبر، يعني: قصر الخبر الفعل عليه، وهذه قيود يتقدم المسند إليه، ويكون تاليًا لنفيٍ بلا فاصل، ويكون الخبر جملة فعلية. بهذه القيود الثلاث أفاد الاختصاص والقصر. ما أنا قلت هذا. ما أنا قلت، أنا قلت جملةٌ اسمية أنا مبتدأ وتقدم، قلتُ هذا، هذه جملة فعلية خبر ما هنا، حينئذٍ ما أنا قلت هذا فيه حصرٌ أم لا؟ فيه حصر أم لا؟ ماذا تفهم من هذه الجملة؟ ما أنا قلت هذا؟ بل غيري، بل سواي. إذًا الحصر هنا في نفي القول عن الشخص نفسه، وفيه فائدة أخرى من جهة المفهوم وهي إثباته للغير، وذلك لا يصح أن يقال ما أنا قلت هذا ولا غيري هذا تناقض ولا يصح، لماذا؟ لأنك بقولك ولا غير بالمنطوق نفيت ما أثبته بالمفهوم لأن قولك ما أنا قلت بمفهومه فيه ثبوتٌ للغير بأنه قاله، فإذا قلت ولا غير حينئذٍ تناقضت. إذًا (وَقَدْ يُفِيدُ الاخْتِصَاصَ إِن وَلِي) وكذلك إن وَلِِيَ، يعني: تلا المسند إليه نفيًا، لكن قَصَّرَ هنا الناظم، وكان الخبر جملةً فعلية، ليس نفيًا فقط، وكان الخبر جملةً فعلية، فإن كان جملة اسمية فلا، إن كان مفردًا فلا، فلا يختص الحكم هنا إلا بما إذا كان الخبر جملة فعلية، أي: أداة نفيٍ أي: واقعًا بعدها بلا فاصلٍ سواءٌ كان مظهرًا، أو مضمرًا، معرفًا، أو منكرًا، مطلقًا المسند إليه سواء كان ضميرًا أم لا معرفةً أم لا، نحو: ما أنا قلت هذا. أي: بل سواي أي للغير. وإنما يختص نفي القبول أو القول عنه وإنما يختص نفي القول عنه إذا وقع على غيره، إذ لو لم يقع على غيره لم يختص نفيه به، الاختصاص هنا في ماذا؟

في نفي القول عن نفسه، ما أنا قلت هذا، الاختصاص الذي أفاده تقدم النفي وتقدم المسند إليه وكون الجملة الفعلية خبرًا عن المبتدأ هو نفي القول عن الذات، وهذا إنما يكون فيه إثباتٌ لغيره، إذًا له جهتان، ولذلك قال: إنما يختص نفي القول عنه إذا وقع على غيره، إذا إذ لو لم يقع على غيره لم يختص نفيه به، فالتقديم يفيد نفي الفعل عن المتكلِم وثبوته لغيره على الوجه الذي نُفِيَ عنه من العموم أو الخصوص، ولا يلزم ثبوته لجميع من سواه، يعني: إذا قلت: ما أنا قلت هذا. إذًا بل سوايَ، إذًا كل من سواه، لا، ليس المراد هذا، وإنما المراد به البعض على الوجه الذي نُفِيَ عن المتكلِم، لأن التخصيص إنما هو بالنسبة إلى من توهم المخاطب اشتراكه مع المتكلم أو انفراده به دونه، بخلاف لو قلت: ما قلتُ. ما قلتُ هذا فيه نفي فقط ليس فيه اختصاص النفي عنك وإثباته لغيرك، فإنه إنما يكون في شيءٍ لم يثبت أنه مقولٌ، ما قلت يعني: هذا يأتي في المناظرة أو المجادلة، لو قلتَ: ما قلتُ هذا. حينئذٍ ما الذي تُفيده هذه الجملة؟ تفيد أن هذا القول منفي لكنه لا يدل على أنه قد قيل، لكن قولك: ما أنا قلتُ هذا، هذا فيه إثباتٌ للقول، فرقٌ بين الجملتين، ما قلتً هذا. إذًا القول لم يقل من أصل، ليس فيه دلالة. لكن ما أنا قلتُ هذا. القول قد قيل به لكنه لم أقله أنا نفيت عن نفسي وأثبته لغيري، ففرقٌ بين الجملتين، بخلاف: ما قلتُ. فإنه إنما يكون في شيءٍ لم يثبت أنه مقول، وما أنا قلتُ هذا في شيءٍ ثبت أنه مقولٌ ولكن نفيته عن نفسي، فالتقدم هنا أفاد التخصيص، ونفي الحكم عن المذكور مع ثبوته لغيره. وهذه المسألة فيها تفصيلات كثيرة جدًا في ((المطولات)) ترجعون إليها. ثم ختم الباب بمسألة وهي أن جميع ما تقدم في هذا الباب من الأحوال المقتضية لاختلاف المسند إليه من الحذف والذكر .. إلى آخره هو مقتضى الظاهر، يعني: الكلام هنا كالكلام في أَضْرُبِ الخبر، أضرب الخبر عرفنا ابتدائي لا يؤكد، الطلبي مؤكد واحد استحسانًا يعني: وجوبًا أقل، الإنكاري وجبت. ثم قد تتبدل وتتغير، يعني: يخرج الكلام على غير مقتضى الظاهر، هنا كذلك قد يقتضي الظاهر الحذف لكن تخالفه فتذكره، قد يقتضي المقام الذكر لكنك تحذفه، إذًا قد يؤتى بالكلام في الاعتبارات الماضية لا على وجهٍ، لكن لا بد من فائدة ونكتة. ما سبق هو مقتضى الظاهر وقد يخرج الكلام على خلافه لنكتةٍ، ولذلك قال: وَقَدْ عَلَى خِلاَفِ الظَّاهِرِ ... يَأْتِي كَالأُولَى وَالْتِفَاتٍ دَائِر (وَقَدْ) تقليل أو تكثير؟ إن كان في نفسه فهو كثير، كثير جدًا ولذلك الغيب والالتفات كثير حتى في القرآن، وإن كان باعتبار ما جرى على وفق الظاهر فهو قليل، فالتقليل والتكثير هنا باعتبار المقابل، إن كان في نفسه فهو كثير، وإن كان بمقابلة ما سبق فهو قرين.

(وَقَدْ) يأتي (عَلَى خِلاَفِ)، (وَقَدْ) (عَلَى خِلاَفِ) مقتضى ... (الظَّاهِرِ) لاقتضاء الحال إياه (يَأْتِي) ما هو؟ (وَقَدْ) يأتي (عَلَى خِلاَفِ) مقتضى الظاهر، ما هو الذي يأتي؟ المسند إليه [نعم المسند إليه]، قد يأتي المسند إليه والعارض له الحذف ومقتضى الظاهر أنه يذكر فحينئذٍ جاء خلاف مقتضى الظاهر، لنكتةٍ فمن ذلك قالوا: وضع المضمر موضع الظاهر، قد يقتضي الكلام أن تعبر بالاسم بالظاهر فتأتي بالضمير، والعكس بالعكس، كقوله: نِعْمَ عبدًا ما كان نعم العبد، العبد عبدًا أين الاسم الظاهر؟ وأين الضمير؟ نِعْمَ العبد، العبد اسم ظاهر، قد تعدل عن هذا الظاهر وتقول: نِعْمَ عبدًا أين الضمير؟ نِعْمَ هو عبدًا، إذًا عدلت عن التصريح بالعبد وجئت به مضمرًا، يعني: ضميرًا، إذ المقام يقتضي الإظهار لعدم تقدم المسند إليه، فأضمر معادًا إلى مُتَعَقَّلٍ في الذهن والتزم تفسيره بنكرةٍ ليُعْلَمَ جنس المتعقل، يعني: قد تقول: نِعْمَ عبدًا، والأصل أن تقول: نِعْمَ العبد، فتَعْدِل عنه فتقول: نِعْمَ عبدًا، عدلت عن الاسم الظاهر إلى الضمير، ما الذي سوَّغ لك ذلك؟ كونك جئت بنكرةٍ، وهذه النكرة تعتبر مفسرة لمرجع الضمير، لأن الضمير في الأصل يرجع إلى متقدم، وهناك [ستة أحوال أو $$ 1.07.11] ستُ أحوال يرجع الضمير إلى متأخر منها هذا الضمير، نِعْمَ عبدًا. عاد الضمير إلى عبدًا ولم يعد إلى متقدم، فلما كان كذلك حينئذٍ وضع الضمير موضع الاسم الظاهر، ومثَّل الناظم بمثالين للخروج عن جاء مقتضى الظاهر، الأول أشار إليه بقوله: (كَالأُولَى). الأولى يعني: كونه أولى بالقصد والإرادة، أي: من خلاف المقتضى أي: مقتضى الظاهر مجاوبة المخاطب بغير ما ترقب، يعني: يسأل السائل أو يطلب بلسانٍ مقاله يطلب كلامًا فأجيبه بغير ما سأل، هذا يُسَمّى ماذا؟ الأسلوب الحكيم ... [سماه السكاكي (المغالطة)] (¬1) مجاوبة المخاطب بغير ما يترقب، وسماه الجرجاني (المغالطة) ليس السكاكي، والسكاكي الأسلوب الحكيم وذلك بحمل كلامه على خلاف قصده، تنبيهًا على أنه أولى بالقصد، كمن يسأل عن شيءٍ لا يختص به فتجيبه بجوابٍ يتعلق به، كأنك تقول: كان الأولى بك أن تسأل عما أجبتك به، وأما ما سألت عنه فهذا تعديل عنه، كقول الْقَبَعْثَرَى وقد قال له الحجاج متوعدًا: لأحملنك على الأدهم. قصد به الحديد، فحمله القَبَعْثَرَى على الخيل: مثل الأمير يحمله على الأدهم والأشهب. هذا حَمَلَ ماذا؟ حَمَلَ كلام المتكلم على خلاف مقتضى الظاهر، لأن مقتضى الظاهر أن الأدهم مراد به الحديد، فقال له: مثل الأمير يحمله على الأدهم والأشهب. أراد الحجاج أن يقيده فتلقاه القَبَعْثَرَى بغير ما ترقبه من فهمه التوعد بألطف وجهٍ مشيرًا إلى أن من كان مثله في السلطة والسعة إنما يناسبه أن يجود بأن يحمل على الأدهم والأشهب من الخيل، لا أن يقيد. فقال له الحجاج: إنه حديد. فقال: لأن يكون حديدًا خيرٌ من أن يكون بليدًا. حديد قال له: لأن يكون حديدًا أولى من أن يكون بليدًا. ومنه إجابة السائل بغير ما يتطلب تنبيهًا على أنه الأولى أو الأهم. ¬

_ (¬1) ((سبق استدركه الشيخ.

قالوا: كقوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] اشتهر هذا المثال عند البيانيين سألوا عن الهلال يبدوا دقيقًا ثم يتزايد حتى يستوي ثم ينقص حتى يعود كما بدأ، فأي فائدةٍ تحت ذلك، فأجيب ببيان حكمة ذلك وهي أنه معرفة المواقيت والحلول والآجال، يعني: ليس لكم أن تسألوا عن دقته وغيره، ورُوِيَ أنهم لم يسألوا عن سبب زيادة الهلال ونقضانه بل عن سبب خلقه، والله أعلم. الثاني وأشار إليه بقوله: (وَالْتِفَاتٍ دَائِر). يعني: دائرٍ بين التكلم والخطاب والغيبة التفات دائر، دائر بين ماذا؟ بين التَّكَلُّمِ والخطاب والغيبة. المشهور عند الجمهور أن الالتفات هو التعبير عن معنًى بطريقٍ من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بطريقٍ آخر منها، يعني: خاصٌ بهذه الثلاثة، يتكلم عن الغيبة ثم ينتقل مباشرة إلى الخطاب، أو العكس بالعكس، فالانتقال من الغيبة إلى التكلم، ومن التكلم إلى الخطاب، وهذا يسمى ماذا؟ يسمى التفاتًا لأنه على خلاف مقتضى الظاهر. مثال الالتفات من التكلم إلى الخطاب كقوله تعالى: {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22]. {أَعْبُدُ} {تُرْجَعُونَ}، الأصل وإليه أرجع هذا الأصل {أَعْبُدُ} أرجع، {أَعْبُدُ} ترجع، إذًا هذا إلى الخطاب والأصل وإليه أرجع، ومن التكلم إلى الغيبة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 1، 2] أين الالتفات؟ ... {أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، {إِنَّا} وهذا تكلم من التكلم إلى الغيبة، أين الغيبة؟ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} لأن الاسم الظاهر عندهم من الغيبة، تقول: زيدٌ قائمٌ، زيدٌ غائب هذا ليس، لإنه إما خطاب وإما هو وإما أنا، إما هذا أو ذاك، واحدٌ من الثلاثة، فإذا قلت: زيدٌ قائمٌ. هذه عبارة عن الغيبة فالاسم الظاهر نوعٌ من أنواع التعبير عن الغائب، فإذا قال: {إِنَّا}. هذا متكلم، ثم قال: {فَصَلِّ} الأصل يقول: لِي لكن قال {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} غيبةٌ لأنه اسم ظاهر. ومن الخطاب إلى الغيبة حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم هذا الأصل، لكن قال: {وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22]. هذا التفاتٌ من الخطاب إلى الغيبة. ومن الغيبة إلى التكلم {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ} [فاطر: 9]. ومن الغيبة إلى الخطاب {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] الفاتحة الآيات الثلاثة الأول {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2، 4] هذه كلها ثلاث آيات غيبة لأنه بالاسم الظاهر {إِيَّاكَ} انتقال لأن الأصل إياه نعبد وهذا الأصل، لكن خرج عن مقتضى الظاهر لنكتةٍ.

والالتفاتُ مأخوذٍ من التفات، التفات الإنسان من يمينه إلى شماله وبالعكس، ووجه التسمية فيه ظاهر وهو من محاسن الكلام، ووجه حسنه ما ذكره الزمخشري هو أن الكلم إذا نقل من أسلوبٍ إلى أسلوبٍ كان ذلك أحسن تطريةً لنشاط السامع وأكثر إيقاظًا للإصغاء إليه من إجراءه على أسلوبٍ واحد، يعني: الذي يستمع بعقل إذا انتقل من خطاب إلى غيبة، ومن غيبة ينشط، أما الذي لا يدري فهو لا يدري. ومن خلاف الظاهر التعبير عن المستقبل بلفظٍ الماضي هذا لا بد من ذكره، التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي، والعكس كذلك، يعني: الأصل في المعنى الماضي الحدث الذي وقع في الزمن الماضي أن يعبر عنه بالزمن الماضي قد يعبر عنه بالمستقبل لنكتة. ومنه ماضٍ عن مضارعٍ وضع ... لكون محققًا نحو فزع إنما يدل على تحقق وقوعه ويجعل ما هو للواقع كالواقع {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ} [النمل: 87]، {وَيَوْمَ يُنفَخُ} على بابه لا إشكال فيه لأن النفخ لم يقع بعد {فَفَزِعَ} ما فزعوا بعد، لأن فزع يدل على ماذا؟ يدل على حدثٍ وقع في الزمن الماضي، إذًا الفزع وقع، وهو لم يقع، حينئذٍ نقول: استعمل الماضي مرادًا به المستقل للدلالة على تحققه. منه كذلك {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} [الأعراف: 50] بعد ما نادوْا سينادي {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ} [الأعراف: 48] كذلك، جعل المتوقع الذي لا بد من وقوعه بمنزلة الواقع. إذًا (وَقَدْ عَلَى خِلاَفِ الظَّاهِرِ يَأْتِي كَالأُولَى) هذه بفتح الهمزة وسكون الواو، (وَالْتِفَاتٍ دَائِر) وبهذا انتهيا من أحوال المسند إليه، وبحثه طويل جدًا، والله أعلم. وصلَّ الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

7

عناصر الدرس * الباب الثالث: أحوال المسند. * أغراض حذفه وذكره. * أغراض ذكره جملة أو مفرداً. * فائدة تقييده بالفضلات وتركه. * فائدة تقييده بأدوات الشرط. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال الناظم رحمه الله تعالى: (البابُ الثَّالِثُ: أَحوَالُ المُسْنَدِ). (البابُ الثَّالِثُ) من الأبواب الثمانية التي انحصر فيها علم المعاني: ... (أَحوَالُ المُسْنَدِ)، قدَّم الباب الأول في أحوال الإسناد الخبري - ومر ... معنا - والباب الثاني في أحوال المسند إليه، و (البابُ الثَّالِثُ) في (أَحوَالُ المُسْنَدِ)، وحينئذٍ تمت الأجزاء الثلاثة. وهذه أهم ما يُعْتَنَى به في هذا المقام: الإسناد، والمسند إليه، والمسند. وكلاها الثلاثة متلازمة. إذ لا مسند إليه إلا بمسند ولا عكس، ولا إسناد إلا بمسندٍ إليه ومسند، فإذًا لكل واحد من هذه الثلاثة الأجزاء أحكامٌ تتعلق بها يحتاج الطالب أن يتمعن فيها على جهة الخصوص. (أَحوَالُ المُسْنَدِ) أي المحكوم به وهو المحمول فعلاً كان أو اسم، يعني: يسمى محمولاً عند المناطقة، والمسند إليه يسمى موضوعًا عند المناطقة، وإن كان العبارات مختلفة إلا أن المعنى واحد، نعم اختلاف بعض الأحكام التي لا تضر. (أَحوَالُ المُسْنَدِ) أي: المحكوم به وهو المحمول فعلاً كان أو اسمًا، بخلاف المسند إليه فلا يكون إلا اسمًا، وأما المسند فإنما يكون اسمًا ويكون فعلاً، يعني: تارةً يكون اسمًا وتارةً يكون فعلاً، وهذا من أبرز الفوارق بين النوعين مع كون الأول المسند إليه محكومًا عليه والثاني محكومًا به. وهذا فرقٌ جوهري من حيث المعنى، وأما من حيث اللفظ وما يدل عليه فالمسند إليه لا يكون إلا اسمًا، والمسند يكون اسمًا ويكون فعلاً. وأخرَّه عن المسند إليه لأنه فرع، المسند إليه أصلٌ، والمسندُ فرعٌ عنه ومسوقٌ لأجله؛ لأن المسند إليه - كما مر - محكومٌ عليه والمسندُ محكومٌ به وهو متضمنٌ للحكم، والثاني لا شك أنه مؤخرٌ عن الأول؛ لأن المحكوم عليه مقدمٌ وَقُدِّمَ الأَوَّلُ عِنْدَ الوَضْعِ ... لأَنَّهُ مُقَّدَّمٌ بِالطَّبْعِ فالطبع يقتضي أن يقدم المحكوم عليه أولاً، ثم بعد ذلك يأتي المحكومُ به. أحوال المسند - عرفنا المسند - أحواله يقال فيه ما قيل فيما سبق، المراد بها الأمور العارضة للمسند، فتعرض له أمور كما أن المسند إليه تعرض له أمور، فالأحوال العارضة هنا تعرض للمسند من حيث هو مسندٌ كالترك، والذكر، والتعريف والتنكير، وكل ما مضى من الأبحاث المتعلقة بالمسند إليه، ثَمَّ اشتراكٌ من حيث المعنى عرفنا أنه ثم فرقًا بينهما، ومن حيث الأحوال العارضة فيعرض للمسند ما يعرض للمسند إليه من حيث الذكر، والحذف، والتعريف والتنكير .. إلى آخر ما مر معنا. وفيه أبحاث: الأول في تركه، قال الناظم:

(لِمَا مَضَى التَّرْكُ) ما إعراب الترك؟ مبتدأ مؤخر (لِمَا مَضَى) يعني: للذي مضى، يعني: مرَّ وانتهى ذكره (التَّرْكُ)، الترك هنا أحوال الترك في المسند (لِمَا مَضَى) يعني: يُترك المسند إليه لما مر من أحوالٍ في المسند إليه، فحينئذٍ اشتركا من حيث الجملة فيُترك المسند لأغراضٍ هي بعينها التي يُترك المسند إليه أو إن شئت عبر بيحذف لأجلها، (لِمَا مَضَى) من النكت في حذف المسند إليه الترك، أي: ترك المسند إليه لما مضى بحذف المسند إليه، في قوله فيما سبق: الحَذْفُ لِلصَّوْنِ وَلِلإِنكَارِ ... وَالإِحْتِرَازِ أَوْ لِلإِخْتِبَارِ وكما أن المسند إليه يُحذف للصون، كذلك المسند يحذف للصون، إما لصون المسند لعظمته ومكانته، وإما لصون لسانك أنت عن حقارته ورزالته، كذلك للإنكار والاحتراز والاختبار. فالاحتراز عن العبس أي: الإتيان بما لا فائدة فيه للعلم به، نأتي ببعض الأمثلة فقط نحو: زيدٌ في جواب من قام؟ زيدٌ، ما إعراب زيد؟ فاعل، ليس مبتدأ نحن في المسند إليه، ذكرتني المسند يكون خبرًا ويكون فعلاً، المسند إليه هو المحكوم به ولذلك مر معنا حد الإسناد نسبةُ حكمٍ إلى اسمٍ إيجابًا أو سلبًا، احفظ هذا الحدّ واعرف المراد بالاسم والمراد بالحكم ترتاح كثير من هذا المقام، نسبة أي: إضافة حكمٍ، ما المراد بالحكم هنا؟ الخبر والفعل، الخبر بأنواعه المفرد والجملة وشبه الجملة، والفعل بأنواعه الماضي والمضارع، والأمر على خلافٍ فيه - هل تقع الجملة طلبية خبرًا أو لا؟ - والصحيح أنها تقع، حينئذٍ المراد بالحكم الاسم الخبر بأنواعه والفعل بأنواعه، إلى اسمٍ المراد به المبتدأ والفاعل ونائب الفاعل. احفظ هذا التعريف بهذا التعليق تستريح كثيرًا. إيجابًا أو سلبًا هذا تقسيم للجملة قد تكون موجبة وقد تكون سالبةً - يعني: منفية، يعني: المسند يكون خبرًا ويكون فعلاً من قام؟ زيدٌ ما إعراب زيد؟ فاعل - لا تتردد - فاعل لأن التقدير قام زيدٌ، حذفت قام لدلالة قام التي في السؤال، فذكره حينئذٍ يكون من باب التطويل لأنه لا فائدة منه؛ لأن السائل يسأل عن ماذا؟ عن حدثٍ مخصوص عبر عنه بقام، من قام؟ إذًا يعلم أن ثَمَّ قيامًا قد وقع، فإذا قلت له: قام ماذا صنعت؟ أطلت في الحديث بدون فائدة، وإنما تذكر الفائدة مباشرةً زيدٌ، زيدٌ فاعلٌ لفعل محذوف جوازًا، إذًا الاحتراز عن العبث الإتيان بما لا فائدة فيه للعلم به نحو زيدٌ في جواب من قام، وقوله: كذلك ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيّارٌ بها لغريب

فإني وقيّارٌ، كذلك. الرحل هو المنزل والمأوى، وقيار اسم فرسٍ للشاعرِ، فالمسند لقيار محذوف لأن قيار هنا مبتدأ، لدلالة ما قبل عليه، والتقدير وقيارٌ كذلك، ومنه قوله تعالى: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} [الإسراء: 100]. {لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ}، {أَنتُمْ} ما إعرابها؟ ليست مبتدأ، بل هي فاعل لو تملكون، تملكون هذا الأصل وحذف تملكون فانفصل الضمير صار أنتم، لأن الواو تأتي تملكون الواو هي الفاعل، هذه لا تكون إلا متصلة لا يكون منفصلاً، فحينئذٍ أنيب أنتم مناب الواو، والأصل لو تملكون تملكون، فحذف الفعل احترازًا عن العبس لوجود المفسر فانفصل الضمير وليس أنتم مبتدأ، وما بعده خبر، بل فاعل لفعلٍ محذوف، وقول الشاعر كذلك: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأي مختلفٌ الرأي والرأي الآخر، نحن بما عندنا راضون أليس كذلك؟ نحن بما عندنا راضون، نحن راضون أليس كذلك؟ وبما عندنا متعلق براضون، إذًا حذف الخبر من الأول لدلالة الثاني عليه، نحن بما عندنا وأنت، [إذا جاءت الواو لا تبحث عن المبتدأ بعد الواو انتبه هل سبق $ 9.16 وأنه مستدرك بعده]، إذا جاءت الواو نحن بما عندنا وأنت، لا تبحث عن الخبر بعد الواو، إذًا نحن بما عندنا نحن مبتدأ أين الخبر؟ نحن ماذا؟ قائمون نائمون آكلون شاربون يحتمل، لكن بدلالة المتأخر نحن بما عندنا راضون فحذف الخبر، إذًا: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرأي مختلفٌ

أي نحن بما عندنا راضون، (لِمَا مَضَى التَّرْكُ) أي ترك المسند إليه لما مضى في حذف المسند إليه، عرفنا الآن وعبَّر هنا بالترك وفيما سبق بالحذف هل هو مقصودٌ أم لا؟ قال: الحذف للصون في المسند إليه، وهنا قال: ... (لِمَا مَضَى التَّرْكُ) هل ثَمّ فرقٌ؟ نعم لأن المسند إليه ركنٌ، فالأصل فيه أن يذكر وهو عمدة محكومٌ عليه، لا يجوز حذفه البتة، هذا أصلٌ إلا إذا دلت قرينة عليه، حينئذٍ إذا ترك لا بد وأن يدل على أنه متروك شيءٌ ما، لا بد أن يدل على كونه متروكًا شيءٌ ما، حينئذٍ لما كان هذا استلزامًا لذكر المسند إليه وجودًا أو عند الحذف، عُبِّر بالحذف للدلالة على أنه يذكر أولاً ثم يحذف، لماذا؟ لكونه عمدة، وأما المسند فهذا يمكن أن يستغنى عنه فلكونه فرعًا عن المسند إليه، عُبِّر عنه بالترك بمعنى أنه قد لا يذكر ابتداءً، وأما المسند إليه فلا يذكر ثم يحذف، ففرقٌ بين النوعين، وعبَّر هنا بالترك وفي المسند إليه بالحذف تنبيهًا على أن المسند إليه هو الركن الأعظم، نعم هو الركن الأعظم من الجزأين، هو الركن الأعظم الشديد الحاجة إليه حتى أنه إذا لم يذكر فكأنه أُتي به ثم حذف، يعني: لا بد أن يكون مذكورًا، إما أن يؤتى به صراحةً وإما أنه يؤتى به ثم يحذف، يعني: لا يترك ابتداءً بل يذكر ثم يحذف لأصالته وعمديته حتى أنه إذا لم يذكر فكأنه أُتِيَ به ثم حذف بخلاف المسند فإنه ليس بهذه المثابة، فكأنه تُرِكَ من الأصل يعني: لم يذكر. إذًا الترك لا يفهم أنه ذكر ثم حذف والحذف لا، ذكر أولاً ثم حذف، وعُبِّر بالتعبيرين لدلالة على أن المسند إليه ركنٌ أعظم، والمسند - وإن كان عمدة - إلا أنه ليس مساويًا للمسند إليه. (لِمَا مَضَى التَّرْكُ) في عبارة الناظم قصور لأنه أحال على شيءٍ حين مضى مطلقًا، لأن في ترك المسند اعتباراتٌ لم تكن هناك، هل كل ما ترك في المسند هو بعينه الغرض في المسند إليه على ظاهر كلام الناظم؟ نعم، (لِمَا مَضَى التَّرْكُ) الترك لكل ما مضى ما اسم موصول بمعنى الذي، إذًا عمّ، فكل تركٍ في المسند هو بعينه الترك أو الحذف في المسند إليه، لكن ليس الأمر كذلك، ثَمّّ تركٌ في المسند ليس موجودًا في المسند إليه، لأن في ترك المسند اعتباراتٍ لم تكن هناك، مثل أن يكون مثلاً قد يحذف المسند لأنه مثل، والأمثال تحكى كما هي، كما في قوله: كل رجلٍ وضيعته. كلُّ: مبتدأ، رجلٍ: مضاف إليه، وضيعته: معطوفٌ على كل أين الخبر؟ محذوف لماذا؟ سماعًا، هل هذا الغرض موجودٌ في المبتدأ؟ لا، ليس موجودًا، فكيف يقول: الترك لما مضى؟ هذا يَرِدُ عليه. إذًا في عبارته قصور لأنه يرد عليه بعض الاعتبارات في المسند من حيث الحذف كما لو كان مثلاً فحينئذٍ يبقى على أصله، أو جاريًا مجرى المثل كقولهم: ضربي زيدًا قائمًا، ضربي زيدًا إذا كان قائمًا، وكأكثر شرب السويق ملتوتًا، إذا كان ملتوتًا، حينئذٍ نقول: قد يُحذف الخبر لغرضٍ ليس موجودًا في المسند إليه، هذا الذي نريده في هذا المقام، فقول (لِمَا مَضَى التَّرْكُ) فيه إجمالٌ والصواب أن بعض الأغراض قد تكون في المسند ولا تكون في المسند إليه.

إذًا قد يحذف المسند إليه وقد يترك المسند، والنحاة يعبرون بالحذف في الموضعين لأنهم لا يدققون في مثل هذه المواضع، قد يحتمل بعض الألفاظ أو بعض الجمل، إما حذف المسند أو حذف المسند إليه يحتمل هذا: فصبرٌ جميل مثال مشهور عند البيانيين، فصبرٌ جميل، فصبرٌ جميلٌ، صبرٌ جميل. جميل ما هو إعرابه؟ صفة ليس بخبر، فصبرٌ: هذا نكرة، جميل: هذا نعته، هذا يحتمل أن المحذوف المبتدأ فأمري أو حالي صبرٌ جميل، أو شأني صبرٌ جميل، فصبرٌ جميل أَجْمَلُ بي، أَجْمَلُ بي يعني: أحسن بي أن يكون، يحتمل أن يكون المبتدأ هو المحذوف ويحتمل أن يكون الخبر هو المحذوف، جَوِّز هذا أو ذاك، يعني: يجوز أن يكون المحذوف هو المسند إليه ويكون التقدير فأمري صبرٌ جميل، ويجوز أن يكون من حذف المسند فصبرٌ جميل أجمل بي، لكن الأولى أن يكون المحذوف المسند إليه هنا، لماذا؟ قالوا: وإن كان يحتملهما على السواء إلا أن الأول أولى لماذا؟ قالوا؟ لأن سياق الكلام للتمدح بحصوله له، لو قلت مثلاً: فأمري - شأني وحالي - صبرٌ جميل الصبر واقع أو لا؟ ماذا تفهم؟ تأملوا! واقع، فأمري صبرٌ جميل الصبر واقع أم لا؟ واقع، طيب صبرٌ جميل أجمل بي واقع أو لا؟ ليس بواقع. إذًا لو جاز أن يكون من حذف المسند إليه أو المسند نقول: في هذا المقام يترجح أن يكون المحذوف هو المسند إليه لأن يعقوب كان يتمدح بكون الصبر حاصلاً له، وهذا إنما يكون إذا حذف المسند إليه ولا يستويان من حيث المعنى. إذًا لأن سياق الكلام التمدح لحصوله له والإخبار بأن الصبر الجميل أجمل لا يدل على حصوله له، ففرقٌ بين المعنيين، ولكن القاعدة العامة عند النحاة أنه يجوز، إذا كان كلٌ منهما سائغ حينئذٍ جاز أن يكون الأول وجاز أن يكون الثاني، والقاعدة العامة بعضهم يرى أنها الخبر هو الذي يكون مذكورًا، والمسند إليه هو الذي يكون المبتدأ هو الذي يكون محذوفًا لأن الخبر هو محط الفائدة، فحينئذٍ لا بد من ذكره، وبعضهم يرى أن المبتدأ هو الذي يكون محذوفًا $ 17.37كقاعدة عامة إذا لم يترجح المعنى لماذا؟ قالوا: لأن المبتدأ لا يكون إلا معلومًا، يعني: عندما أخبرك بأن زيد عالم، زيدٌ عالمٌ ما الذي تعلمه أنت من كلامي وما الذي تجهله؟ المبتدأ معلوم وإلا ما صار واسطة بيني وبينك في الحديث، لو جئتك بزيد ولا تعلمه وعالمٌ ولا تعلمه حينئذٍ ما حصل الخطاب، لا بد من مقدمة لأعرِّف لك من هو زيد ثم أصفه بكونه عالما، لكن إذا كان معلومًا زيدٌ عالمٌ إذًا المبتدأ هنا واسطة ووسيلة من أجل الحكم الذي هو الخبر، قيل: الخبر أولى بالذكر لأنه محط الفائدة، وقيل: المبتدأ لأنه العامل وأيضًا الحذف من الأواخر أولى. على كلٍ إن رجح المعنى فهو الذي يُحْكَمُ به كما في المثال السابق، وإن لم يترجح فالظاهر إن الأولى أن يكون المحذوف هو المبتدأ - وإن كان عاملاً - فحذف العوامل كثير ليس بالقليل، يعني: هو قياسي مبتدأ عاملٌ في الخبر والحذف من الأواخر، نقول: هنا يراعى ماذا؟ يراعى القضية الكبرى وهي كون المبتدأ محكومًا عليه وكون المسند أو الخبر محكومٌ به، فحينئذٍ إذا كان كذلك فالأصل هو الجهل بالحكم وهو الذي تضمنه الخبر ولذلك إبقاؤه في اللفظ يكون أولى.

(لِمَا مَضَى التَّرْكُ) حال كونه مع القرينة يعني: لا يجوز ترك الخبر المسند إليه وحذفه إلا إذا كان هناك قرينة وهذا كما ذكرناه سابقًا في باب المسند إليه لأن القاعدة العامة في باب النحو وحذف ما يعلم جائزٌ مفهومه أن ما لا يعلم حذفه لا يجوز وهذا مطلقًا في باب المسند وفي غيره، إذًا التنصيص هنا يكون من باب التقعيد العام الذي يذكره النحاة، (مَعَ القَرِينَةْ) بالإسكان أي: وشرط الترك أن توجد قرينةٌ دالةٌ عليه ليفهم المعنى، وهي إما سؤالٌ مذكور، نحو قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ... [الزخرف: 87]. ما إعراب [لفظ الجلالة $ 20.08] {اللَّهُ} فاعل لا تقول مبتدأ، الله لماذا؟ لأنه وقع في جواب السؤال، والسؤال معادٌ في الجواب، فحينئذٍ تقول التقدير: خلقنا الله، فاللهُ هذا فاعل والعامل فيه يكون محذوفًا، أي خلقنا الله الدليل على ذلك التصريح به في قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ} [الزخرف: 9]. ما قال لا يقولن العزيز، أعادوا العامل مع كونه مذكورًا في السؤال - وسيأتي لما ذُكِرَ. {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}، {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ} [يس: 78، 79] ما قال: قل الذي قال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي} إذًا التصريح بالعامل وهو فعلٌ في هذين الموضعين وفي غيرهما يدل على أن القول هنا: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 63] فاعل، لأن حمل النظير على النظير هذا من قواعد النحاة، وهذا خاصةً في القرآن، إذا جاء التصريح بشيءٍ في موضعٍ وجاء مبهمًا في موضعٍ معين آخر واحتمل أمرين تحمله على ما صُرِّحَ به، ولذلك كل ما في القرآن التي تحتمل أن تكون تميمية أو حجازية ما جاء مصرحًا في {مَا هَذَا بَشَراً} [يوسف: 31]، {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2]. هذا جاء مُصَرَّحًا بأنها حجازية؛ لأنه هي التي تعمل عمل ليس، في بعض المواضع ما جاء يعني: إما أنها دخلت الباء على الخبر، وإما أنه لا يظهر في الإعراب، حينئذٍ نقول: الراجح أنها حجازية وليست تميمية لماذا؟ لورود التصريح به في موضعٍ آخر، إذًا القاعدة عندنا هنا أنه ما جاء مبهمًا أو مترددًا بين احتمالين وجاء في موضعٍ آخر مصرحًا به في القرآن حينئذٍ نحمل النظير على النظير، ولا نقول: هذا كذا، وهذا يحتمل أمرين، لا، نحمل هذا على ذاك. إذًا السؤال الذي هو القرينة قد يكون مذكورًا منصوصًا عليه {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي خلقنا الله، أو مقدر للعلم به يعني: قد يكون السؤال مقدرًا يفهم من الكلام كقوله: لِيُبْك يزيد ضارعٌ لخصومةٍ ... ومختبطٍ مما تطيح الطوائح

يبكى يزيد: مغير الصيغة، ويزيد هذا نائب الفاعل، وضارعٌ هذا محل الشاهد مرفوعٌ على أنه فاعل لفعلٍ محذوف، كأنه قال: من يبكيه؟ [أو من، نعم:] (¬1) من يبكيه؟ بَكَى يَبْكِي، من يبكيه؟ قال: ضارعٌ، وضارعٌ هنا جاء جوابًا لسؤالٍ مقدر، وعلم من السياق، فيبكى مغير الصيغة ويزيد نائب فاعل وضارعٌ مرفوعٌ بفعلٍ محذوف كأنه قيل: من يبكيه؟ فقال: يبكيه ضارعٌ. لأنه كان ملجئًا للأذلاء وعونًا للضعفاء. إذًا هذا ما يتعلق بالترك وعرفنا ما فيه. (التَّرْكُ) (لِمَا مَضَى) مبتدأ وخبر، خبر مقدم، وما هنا فيه عموم، وصلة الموصول هنا الجار متعلق بمحذوف خبر مقدم، مع القرينة هذا حالٌ مع متعلق بمحذوف حال من الترك، حال كون الترك كائنًا مع قرينة، وعرفنا قرينه المراد بها السؤال قد يكون مذكورًا وقد يكون محذوفًا للعلم به. (وَالذِّكْرُ) لما مضى، ما إعراب (الذِّكْرُ) معطوف على الترك، هل الحديث هنا في نوعٍ واحد أو في نوعين الترك والذكر هما مبحثان أليس كذلك؟ (التَّرْكُ) (لِمَا مَضَى)، (وَالذِّكْرُ) لما مضى، الذكر مبتدأ حُذِفَ خبره لدلالة ما قبله عليه، (وَالذِّكْرُ) لما مضى، فصل الجملتين أولى لأن كلاً منهما مبحثٌ خاصٌ من مباحث المسند، (وَالذِّكْرُ) أي ذكر المسند لما مضى، أين مضى؟ في ذكر المسند إليه من قوله: وَالذِّكْرُ لِلتَعْظِيمِ وَالإِهَانَةِ ... وَالْبَسْطِ وَالتَّنْبِيهِ وَالْقَرِينَةِ ¬

_ (¬1) سبق صوب بعده.

فكل ما قيل هناك يقال: هنا على ماذا؟ على ما أطلقه الناظم (وَالذِّكْرُ) لما مضى، ما هذه صيغة عموم، حينئذٍ كل ما مضى في المسند إليه من أغراض ذكر المسند إليه يُذكر من أغراض ذكر المسند، ككونه الأصل ولا مقتضي للعدول عنه أو الاحتياط لضعف التأويل على القرينة كقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}. لما ذكر هنا المسند مع كونه حذف في الآية التي ذكرناها سابقًا، ضعفًا على التأويل على القرينة يعني كأنه تلويحٌ بأنهم أغبياء، أو بأنهم لا يفهمون، أو التنبيه على غباوة السامع كقوله تعالى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] في جواب قوله: {أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 62، 63] {فَعَلَهُ} أعاد الفعل مع أنه في جواب السؤال، فالأصل أنه يحذف، هذا فيه تأويل على ما مضى، أو التعظيم كقولك زيدٌ سلطان العلماء مثلاً، أو محمدٌ نبينا - صلى الله عليه وسلم - هذا لم يخالف في الإسلام مثلاً، أو الإهانة كزيدٌ بن الحجام ونحو ذلك مما سبق بيانه، كل ما يقال هناك يقال هنا، زاد هنا فائدة ليست هناك (أَوْ يُفيِدُنَا) أي الذكر (تَعْيِينَهْ) يعني ذكر المسند إليه يفيدنا دون حذفه تعين المسند، يعني: تعين نوعه ما هو؟ لأن المسند كما عرفنا يكون فعلاً ويكون اسمًا، فإذا حذفه قد لا ندري هل المحذوف هذا اسمٌ أم فعلٌ؟ لأنه يختلف المعنى كما سيأتي، إذًا أو للتنويع أو الذكر يعني: ذكر المسند إليه يفيدنا نحن يفيد هو نا، هو الضمير يعود إلى الذكر ونا مفعولٌ به (تَعْيِينَهْ) مفعولٌ به يفيدنا ماذا؟ تعيينه نعم أفاد يفيدنا نحن تعيينه يكون مفعول ثاني لإفادة، (أَوْ يُفيِدُنَا تَعْيِينَهْ) من كونه اسمًا لا فعلاً، حينئذٍ يفيد الثبوت، لأن الاسم يدل على الثبوت لكون الاسم يدل على الذات وهي لا تتغير، نبينا محمدٌ، محمدٌ نبينا نقول الخبر هنا في الموضعين: كان خبرًا دل على ذاتٍ، والذات في الأصل أنها لا تتغير، فدل على الثبوت هذا معنى الثبوت، الثبوت معناه عدم التغير، فإذا كان الاسم هو المسند حينئذٍ نفهم بأن مدلول المسند ثابتًا وليس بمتغير، أو كونه فعلاً لا اسمًا ليدل على التجدد؛ لأن الفعل يدل على أحوال الذات المتعلقة بالأزمنة، الفعل له دلالة يدل على أحوال الذات المتعلقة بالأزمنة، قام زيدٌ، زيدٌ هنا ذات دل الفعل على أنها موصوفةٌ بصفةٍ حدث وهو القيام في الزمن الماضي، إذًا دل على ذاتٍ وهي مرتبطة بزمانٍ معين عرفنا هذا الارتباط من الفعل، وكونه في الزمن الماضي كذلك عرفناه من صيغة قام، إذًا الفعل يدل على أحوال الذات المتعلقة بالأزمنة، فحينئذٍ يتغير بتغيرها، قام زيدٌ، يقوم زيدٌ، قم يا زيدٌ. تغيرت الأزمنة بتغير الفعل والذات هي الذات، فلو حذف المسند في هاتين الصورتين الاسم والفعل لم يدر أهو اسمٌ أم فعل؟ فتفوت الدلالة على المعنى المراد من حدوثٍ في الفعل أو ثبوتٍ في الاسم. إذًا: . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . أَوْ يُفيِدُنَا تَعْيِينَهْ

وَكَونُهُ فِعْلاً فَلِلتَّقيدِ ... بالْوَقتِ مَعْ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ وَاسْماً فَلاِنْعِدَامِ ذَا. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . هذا ما يتعلق بكون المسند فعلاً أم اسمًا، (وَكَونُهُ) أي المسند (فِعْلاً فَلِلتَّقيدِ)، يعني: فيكون للتقيد يعني: تقيد المسند أي يخصصُ (بالْوَقتِ)، يعني: نجيء بالمسند فعلاً من أجل أن نقيد المسند بالوقت، لأن الفعل يدل على الوقت يعني الزمن أحد الأزمنة الثلاثة إما الماضي أو الحال أو المستقبل، (وَكَونُهُ) أي: المسند (فِعْلاً) فيكون (لِلتَّقيدِ) أي: تَقَيّد المسند أي: يخصص للوقت الخاص به من الأزمنة الثلاثة أعني الماضي، وهو الزمان الذي قبل زمان التكلم، والمستقبل: وهو الذي يُتَرَقَّبُ وجوده بعد هذا الزمان، الزمن الماضي قبل زمن التَّكَلُّم، المستقبل هو الذي يحدث بعد زمان التكلم، بقي ماذا؟ الحال، الحال النحاة يقولون: دل على الحال ويسكتون. ولكن عند البيانيين فلسفةٌ جيدة والحال وهو أجزاءٌ من أواخر الماضي وأوائل المستقبل، أواخر الماضي وأوائل المستقبل، هذا هو الحال لا يكاد أن .. ولذلك أنكره بعض النحاة قالوا: الحال هذا لا وجود له. لماذا؟ لأن الحال معناه الوقت الذي يكون متصلاً بآخر جزءٍ من الماضي وبأول جزءٍ من المستقبل، هذا لا وجود له، لأن درسنا الآن منه ما هو ماضي ومنه ما هو مستقبل كل ما مضى فهو ماضي حتى الكلمة هذه ماضي صار، والمستقبل الآتي فحينئذٍ أين وجود الحال؟ لا يكاد أن .. ، يعني: هو غير قارٍ كما يعبر عنه البعض، هذا لا وجود له، [ولذلك] (¬1) لكن اشتهر عند النحاة هو هذا، من أواخر الماضي وأوائل المستقبل متعاقبًا من غير مهلةٍ وتراخٍ. كما تقول: زيدٌ يصلي. زيدٌ يصلي يعني: الآن هو في أثناء الصلاة، طيب الصلاة ثلاثة أشياء صلاةٌ مضت يعني: جزءٌ منها مضى، وجزءٌ منها آتٍ، الذي أخبرت بالكلم وقت فعله هو الحال، وما عداه إما ماضي أو مستقبل، فقوله: يصلي. منه ماضي ومنه مستقبل ومنه حال فكيف يقول النحاة: بأنه للحال؟ حينئذٍ فيه نوع تعميم، ولذلك هو اصطلاحًا عرفي فقط، وإلا الحال هذا هو حقيقته آخر أجزاء الماضي وأول أجزاء المستقبل وهو بينهما ولا يكاد أن يكون قارًا بل يذهب، منذ أن تتكلم صار ماضيًا، زيدٌ يصلي والحال أنه قد مضى بعضٌ من صلاته وبعضٌ منها مشغولٌ به وبعضٌ منها مستقبلٌ له، فجعلوا الصلاة الواقعة في الأنات المختلفة المتعاقبة واقعةً في الحال وهذا أمرٌ عرفي. يعني: مجرد اصطلاحٍ فحسب. ¬

_ (¬1) سبق.

إذًا: (وَكَونُهُ فِعْلاً فَلِلتَّقيدِ بالْوَقتِ) إذا أردت الدلالة على أن المسند إنما حكم به على المسند إليه في أحد الأزمنة الثلاثة فتأتي بالماضي للماضي والمستقبل للمستقبل والحال للحال، وإنما كان الفعل مقيِّدًا للتقيد بالزمان لأنه دالٌ بصيغته على أحد الأزمنة الثلاثة، نعم وهو كذلك، فالفعل الماضي يدل على الزمان بالصيغة أليس كذلك؟ فَعَلَ فَعُلَ فَعِلَ نقول: مجرد إتيان الفعل على هذا الوزن دل على أنه ماضي انطلق أَفْعَلَ تَفَعَّلَ اسْتَفْعَلَ، الأوزان التي مرت معنا في المقصود، نقول: هذه كلها تدل على أنه ماضي، كذلك يَفْعُلُ يَفْعَلُ يَفْعِلُ هذا يدل على المضارع، افْعَلْ هذا يدل على المستقبل، فإن الدلالة على أحدها على وجهٍ أخصر جيء به يعني: لماذا جيء به؟ من أجل أن يدل على الزمن بالصيغة مع الاختصار، لأنك لو قلت: زيدٌ قائمٌ أمسِ، أيهما أقرب قائمٌ أمسِ أو قام زيدٌ؟ قام زيدٌ. إذًا هو أخصر، ماذا صنعنا؟ حذفنا أمسِ اختصارًا وجئنا بقام بدلاً من قائم، حينئذٍ يكون دلالة قام على قائمٌ أمسِ من حيث الصيغة، فبدلاً من أن نطيل الكلام ونأتي بلفظٍ زائد عن الاسم لأن الاسم قد يدل على الزمان لكن بقيدٍ، وأما الفعل يدل على الزمان لكن بالصيغة فهو دلالةٌ وضعية، إذًا إنما كان الفعل مقيدًا للتقيد بالزمان لأنه دالٌ بصيغته على أحد الأزمنة الثلاثة، فإذا أراد الدلالة على أحدها أتى به على وجه الاختصار لدلالته عليه من غير احتياجٍ إلى قرينةٍ تدل على ذلك، بخلاف الاسم فإنه إنما يدل على ذلك بقرينةٍ خارجةٍ، كقولنا: زيدٌ قائمٌ أمس، وإذا أردت الآن زيدٌ قائمٌ الآن، وإذا أردت غدًا مستقبل زيدٌ قائمٌ غدًا فبدل من أن تأتي بهذه الألفاظ تأتي بالاختصار وتأتي به فعلاً. هذه الفائدة الأولى (وَكَونُهُ فِعْلاً فَلِلتَّقيدِ بالْوَقتِ).

فائدة ثانية: - نأخذها من كون الفعل مُسْنَدًا - (مَعْ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ)، يعني: مع الدلالة على التجدد، حصول الشيء الذي هو الحدث شيئًا فشيئًا، ولذلك #35.35 .. قال: الجملة الاسمية تدل على الثبوت والدوام، والجملة الفعلية تدل على التجدد والحدوث. ما المراد؟ الاسم عرفنا أنه يدل على الذات، والذات لا تتغير في الأصل، والفعل يدل على الحدث متعلق بالزمن، ولا شك أن الحدث يقع شيئًا فشيئًا، فحينئذٍ نقول: دلالة الجملة الفعلية على الحدث لكون الفعل دالاً على حدثٍ وزمنٍ، ولا شك أن الزمن له أجزاءٌ متعاقبة وكل زمنٍ يقطع فيه شيءٌ من الحدث حينئذٍ يحصل شيئًا فشيئًا، (مَعْ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ) الذي هو من لوازم الزمان الذي هو جزءٌ من مفهوم الفعل، وتجدد الجزء وحدوثه يقتضي تجدد [الكل وحدوثه، على ما لو] (¬1) الكلَّ وحدوثه على ما ذكرناه، لأن يقوم مثلاً هذا يدل على التجدد والحدوث كيف؟ نقول: هنا يقوم دلَّ على حدثٍ وزمن ولا شك أنه دل على حدثٍ يعني: نوعٍ من أنواع الحدث وهو القيام، طيب والزمن؟ لا شك أنه أجزاء، والحدث الذي هو القيام لا يقع في جزءٍ مباشرةً كله، وإنما يقع شيئًا فشيئًا، شيئًا فشيئًا، شيئًا فشيئًا هذا ليس منتهى، يعني: الفعل لا يدل على الانتهاء، وإنما يدل على أن هذا الوصف الذي هو القيام قائمٌ وواقعٌ جزءً فجزء لأن الزمان أجزاء، وكذلك الحدث قابلٌ لأن يكون في الأجزاء، بخلاف الاسم الذي يدل على الثبوت. إذًا (مَعْ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ) الذي هو من لوازم الزمان، كيف عرفنا أنه من لوازم الزمان لأن له أجزاء وكل حدثٍ له جزءٌ يقع في جزءٍ من الزمان، ولا شك أن درسنا هذا له ساعة مثلاً هل وقع في الجزء الأول من المغربية أو وقع شيئًا فشيئًا حتى استوفى الساعة؟ هذا مثال حسي الآن؟ وقع شيئًا فشيئًا حتى استوفى الساعة الكاملة إذًا نقول: هذا المراد بالتجدد، بمعنى أن الحدث الذي هو الدرس وهو إلقاء الدرس وقع شيئًا فشيئًا بأن الزمان يتسع شيئًا فشيئًا، ويلحق كل جزء من أجزاء الزمان جزءٌ من الحدث فيقع فيه، وهذا المراد بالتجدد، لأنه فعلنا هذا حدث، وفعلك أنت هذا حدثٌ، الذي هو جزءٌ من مفهوم الفعل، وتجدد الجزء جزء الزمان وحدوثه يقتضي ماذا؟ يقتضي تجدد الكل وحدوثَه، والتجدد هو الحدوث شيئًا فشيئًا، بمعنى أن من شأنه أن يقع مرةً بعد مرة، هذا يقال: في الشأن الفعل المضارع، الفعل الماضي يدل على التجدد أيضًا لكن ليس بهذا المعنى، [التجدد عند النحاة وعند البيانيين على نوعين التجددٌ ليس التجدد المراد به] (¬2) الحدوث على نوعين: حدوثٌ بعد أن لم يكن. يعني: بعد عدم. وهذا يشترك فيه الفعل الماضي والمضارع، لأنك تقول ماذا؟ قام زيدٌ. قبل اتصافه بالقيام لم يقم. إذًا دلَّ قام على الحدوث، تفهم من قام زيدٌ أن القيام لم يكن ثم كان، هذا حودثٌ أم لا؟ حدوثٌ لكنه ليس هو المراد هنا، (مَعْ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ) والحدوث بمعنى واحد بمعنى حصوله شيئًا فشيئًا مرةً بعد مرة، وهذا لا يدل عليه الفعل الماضي، وإنما يدل الفعل الماضي على الحدوث بمعنى وجود الشيء بعد ألم يكن، وليس هذا بمرادٍ هنا. ¬

_ (¬1) سبق. (¬2) خطأ في كلمة رجع عنه الشيخ.

إذًا الحدوث كم نوع؟ نوعان: نوعٌ بمعنى الوجود بعد العدم. وهذا يشترك فيه الفعل الماضي والمضارع، بل الفعل كله بأنواعه الثلاثة يدل على حدوث الشيء بعد ألم يكن. وأما الحدوث الذي هو أخص من هذا المعنى متعلقٌ بالفعل الماضي، وهو حدوث الشيء شيئًا فشيئًا لأن الفعل يدل على الاستمرار، وهذا واضحٌ، يعني: تأمل في دلالة الفعل الماضي تفهم أنه ليس هذا المراد، إذا قلت: زيدٌ يقوم. يعني: يحصل القيام في المستقبل شيئًا فشيئًا، لكن قام زيدٌ هو انتهى وانقطع، فكيف يحصل شيئًا فشيئًا فهذا متنافٍ معه. إذًا الحدوث نوعان: حدوثٌ بمعنى وجود الشيء بعد ألم يكن، وهذا الفعل بأنواعه الثلاثة يدل عليه، وليس هو مراد النحاة والبيانيين بكون الجملة دالةً على الحدوث، وإنما هو خاصٌ بالنوع الثاني، وهو حدوث الشيء ووجوده مرةً بعد مرة، يعني: شيئًا فشيئًا وهذا لا يدل عليه الفعل الماضي البتة وإنما هو خاصٌ بالفعل المضارع. إذًا إذا أريد الدلالة على التجدد والحدوث جيء بالمسند بصورة الفعل، إذا أردت أن المسند دالٌ على التجدد والحدوث لا تأتي بالمسند مفردًا أو شبه جملة، وإنما تأتي به بجملةٍ فعلية، هنا قال: كقوله تعالى: {فَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]. أين المسند؟ لا يتصور ابتداءً المسند يعني: مبتدأ وخبر، قلنا: المسند الفعل، قد يسند إلى المبتدأ وقد يسند إلى الفاعل، {فَرِيقاً كَذَّبْتُمْ} كذبتم فريقًا وانتهيتم، فيه حدوث أم لا؟ فيه حدوث، يعني: وقع التكذيب بعد أن لم يكن وفرغتم من التكذيب، لأن دلالة الفعل الماضي تدل على الانقطاع، {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} يعني: قتلتم ولا زال القتل مستمرًا شيئًا فشيئًا، وبهذا استدل ابن كثير على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات شهيدًا، واضح؟ {فَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} أي فريقًا فرغتم من تكذيبه، وهذا ليس فيه تكذيب شيئًا فشيئًا لماذا؟ لأنه فعل ماضي، والفعل الماضي يدل على وقع الشيء والانتهاء منه انقطاعه، إذًا {فَرِيقاً كَذَّبْتُمْ} كذبتم فريقًا وانتهيتم من تكذيبه، وفريقًا فرغتم من قتلهم وها أنتم تَسْعَوْنَ في قتل محمد - صلى الله عليه وسلم -، هكذا قال المفسرون، وهذا يدل على ماذا؟ على أن قوله {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} على ما ذكرناه زيدٌ يصلي الصلاة منها ما قد وقع وانتهى ومنها ما هو آتٍ في المستقبل، {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} تقتلون دل على شيئين، قتلٌ قد وقع وانتهى، وقتلٌ باقي وما زال، انظروا المعنى كيف يختلف. وكقوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ} [البقرة: 137] كفاية حصلت وكفاية لا زالت في المستقبل. إذًا: وَكَونُهُ فِعْلاً فَلِلتَّقيدِ ... بالْوَقتِ مَعْ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ وَاسْمًا. . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . .

يعني: وكونُه اسمًا يعني: كون المسند اسمًا (فَلاِنْعِدَامِ ذَا) ما هو ذا؟ .. فقط؟ كونه فعلاً دل على أمرين: تقيد بالوقت أحد الأزمنة الثلاثة، وإفادة التجدد. وكونه (اسْماً فَلاِنْعِدَامِ ذَا) يعني: الدلالة على الوقت مع إفادة التجدد، وكون المسند (اسْماً فَلاِنْعِدَامِ ذَا) المذكور لماذا؟ نقدر المذكور؟ .. كيف نطابق؟ .. أي: مبتدأ وخبر ليس عندنا مبتدأ وخبر؟ .. على واحد والمشار إليه اثنان، إذًا لا بد من التأويل لأن لو كان كذلك قال: ... (وَاسْمًا فَلاِنْعِدَامِ) ذين أليس كذلك؟ وذا ثان للمثنى المرتفع صحيح؟

لو كان المراد اللفظين بعينهما لقال: واسمًا فلانعدام ذين، هذا الأصل لكن قال: (فَلاِنْعِدَامِ ذَا) أي: المذكور، ثم تفسر المذكور بشيئين يعني: المذكور يطلق على الاثنين والثلاثة وألف واضح؟ وكونه مسند (اسْمًا فَلاِنْعِدَامِ ذَا) المذكور من التقييد بالوقت وإفادة التجدد، فرجع إلى الأمرين، بأن يراد به بالاسم الدوام والثبات أو الثُبوت لأغراضٍ تتعلق بذلك. إذًا دلالة الاسم إذا وقع مسندًا فحينئذٍ يكون ماذا؟ دالاً على الثبوت، المراد بالثبوت وقوع الشيء بعد أن لم يكن، أو أنه ثابت؟ مرَّ معنا هذا، على أنه ثابت لماذا؟ لأن مدلول الاسم في الأصل ذات، والذات لا تتغير وإذا كان كذلك فحينئذٍ يكون ثابتًا، دلالةٌ أخرى الاستمرار هذا المراد بالدوام، الثبوت والاستمرار الثبوت والدوام، متغايران هي ليست كلمة واحدة، بخلاف التجدد والحدوث هذا بمعنًى واحد، وإن كان الحدوث قد يكون أعم لكن المراد به في هذا الموضع معنى واحد، إذا قلت الاسم يدل على الثبوت والدوام، الثبوت له مدلول والدوام له مدلول آخر، الثبوت هو ثابتٌ لكن لا يلزم منه الاستمرار، الدوام يدل على أنه مستمرٌ، وكون المسند (اسْمًا فَلاِنْعِدَامِ ذَا) المذكور من التقييد بالوقت وإفادة التجدد، بأن يراد به بالاسم إذا وقع مسندًا الدوام والثبوت لأغراضٍ تتعلق به، فالاسم يثبت به الشيءُ للشيء من غير اقتضاء أن يتجدد، ويحدث شيئًا فشيئًا فلا تعرض في زيدٍ أو في زيدٌ منطلقٌ بأكثر من إثبات الانطلاق فعلاً له، الاسم ليس له فائدة إلا إثبات الشيء بالشيء فقط، أنه أثبت له، لكن هل يدل على أنه متجددٌ؟ الجواب: لا. فلا تعرض في زيدٌ منطلقٌ لأكثر من إثباتٍ الانطلاق فعلاً له كما في قولك: زيدٌ طويل، وعمرٌو قصير. وأما الفعل فإنه يُقصد به أو فيه التجدد والحدوث، ومعنى زيدٌ ينطلق، ليس هو معنى زيدٌ منطلق، زيدٌ منطلق يعني: ثبت الانطلاق لزيدٍ، وزيدٌ ينطلق بمعنى أن ينطلق أثبت الانطلاق لزيد ومنه وقع وحصل والباقي مستمرٌ، فمعنى زيدٌ ينطلق أن الانطلاق يحصل له شيئًا فشيئًا وهو يزاوله، وعند البيانيين مثال عجيب جدًا: لا يألف الدرهم المضروب صرتنا لكن يمر عليها وهو منطلقُ. يعني: الدينار إذا جاء والدرهم لا يدخل الجيب، أو يدخل ولكنه لا يبقى. قوله: وهو منطلقٌ يعني: قال المرشدي - كلام جميل -: أن الانطلاق من الصرةِ ثابتٌ للدرهم دائمًا، بحيث لا يستقر في الصرةِ وقتًا ما، لا يستقر وقتًا ما، لماذا؟ لأنه ما جاء بفعلٍ يدل على زمنٍ، وإنما جاء بالاسم، والاسم الذي في الأصل لا يدل على الزمن، فلما أراد الشاعر دلالة اللفظ على هذا المعنى أبرز المسند في صورة الاسم حتى لا يتقيد بزمانٍ دون زمان، ولو قال: هو ينطلق، وهو ينطلق لدل على أنه استقر في صرته ثم حدث له الانطلاق، لا يألف الدرهم المضروب صرتنا. يعني: إذا جاءت الدراهم لكن يمر عليها وهو منطلقُ، بمعنى: أنه يدخل الجيب ولا يستقر فيخرج مباشرةً، لو قال: وهو ينطلق.

معناها أنه استقر وحينئذٍ خرج، لدل على أنها استقر في صرته ثم حدث له الانطلاق، إذ الفعل يدل على الحدوث وحدوث الشيء مسبوقٌ بعدمه، فظهر أن في صورة الاسم مبالغةٌ في الوصف بالجود ليس بصورة الفعل، زيدٌ جوادٌ، زيدٌ يجود فرقٌ بين المعنيين، يجود أبلغ من جوادٍ. إذًا هذا ما يتعلق بـ: (وَاسْماً فَلاِنْعِدَامِ ذَا).

ثم قال: (وَمُفْرَدَا لأنَّ نَفْسَ الحُكْمِ فيهِ قُصِدَا) الخبر كما مر معنا في النحو، أنه قد يكون مفردًا، وقد يكون غير مفرد، والمراد بالمفرد هنا ما يقابل المركب، فقط؟ ما ليس أين؟ ما ليس جملةً ولا شبيهًا بالجملة، ما ليس جملةً ولا شبيهًا بالجملة، فالمفرد يختلف وضعه في أبواب النحو، فالمفرد في باب الإعراب ليس كالمفرد في باب الخبر، ليس كالمفرد في اسم لا والمنادى، وهنا المراد بالمفرد ما ليس جملةً ولا شبيهًا بالجملة، إذًا يقع الخبر المسند إليه مفردًا وقد يقع جملةً والحكم يختلف، وكون المسند مفردًا والمراد به هنا ما يقابل الجملة لا ما يقابل المثنى والمجموع ولا ما يقابل المضاف وشبهه كما هو المفرد في باب المنادى واسم لا، ولا ما يقابل المركب لأن المفرد قد يطلق في مقابلة المركب، وذلك لكونه غير سببيًا يعني: يكون المسند مفردًا إذا كان غير سببيٍّ مع عدم إفادة تقوي الحكم نحو زيدٌ قائمٌ، زيدٌ مبتدأ وقائمٌ خبر، قائمٌ خبر مفرد أو غير مفرد؟ مفرد، الزيدان قائمان، قائمان خبر وهو مفرد، الزيدون قائمون، قائمون خبر وهو مفرد، كزيدٌ قائمٌ فقائمٌ ليس سببيًا ولا يفيد التقوي كقام بل يقرب منه، والسببي هنا - لأجل أن نفهم - ما جرى على غير مَنْ هُو لَهُ، بأن يكون إثبات المسند للمسند إليه بمتعلقه لا لنفسه - كما هو الشأن في النعت السببي - إذا قلت مثلاً: زيدٌ أبوه منطلقٌ، زيدٌ أبوه منطلقٌ، أبوه منطلقٌ الجملة خبر المبتدأ، أليس كذلك؟ أبوه منطلقٌ الإثبات هنا للحكم هل هو لزيد أو لمتعلق زيد؟ لمتعلق زيد؛ لأن الحديث عن أبي زيد وليس عن زيد، واضحٌ؟ هذا مثل قولك: جاء زيدٌ أو جاء زيدٌ العالم أو القائم أبوه، فالعالم أو القائم هنا نعت لزيد، لكنه ليس جارٍ لزيد، وإنما هو جارٍ لما بعده، فالذي يوصف بالعلم أو بالقيام ليس هو الموصوف، وإنما هو ما بعده، هنا كذلك، فالسببيّ ألا يجري الحكم المتعلق بالخبر للمبتدأ، بل لما تعلق به يعني لا لذات المبتدأ بل لشيءٍ تعلق به، كقولك: زيدٌ أبوه منطلقٌ، زيدٌ: مبتدأ أول، أبوه: مبتدأ ثاني، منطلقٌ: خبر الثاني والجملة خبر الأول، أبوه منطلقٌ لم يتعلق بزيد بل بمتعلق زيد وهو الأمر، كذلك: هند عبدها قائمٌ، عبدها قائمٌ، القيام هنا ليس لهند وإنما هو للعبد، كذلك الانطلاق ليس هو لزيد وإنما هو لأبي زيد، إذًا يسمى سببيًّا عند البيانيين، هذا لم يذكره النحاة هناك، فلو كان سببيًّا أو مفيدًا للتقوي فهو جملةٌ قطعًا، يعني: كل ما يفيد السببية أو أفاد التقوية يعني: التأكيد فهو جملة، ما لم يكن كذلك فهو مفردٌ.

زيدٌ قائمٌ، قالوا: هنا لا تكرير للإسناد فيه لأنك إذا قلت زيدٌ قام، شرب، زيدٌ مبتدأ قام فعل ماضي والفاعل ضمير مستتر يعود إلى زيد، هنا قالوا: فيه تقوية للحكم، الخبر وقع فعلاً ماضيًا، وأُسْنِدَ إلى ضمير زيد فكأنك كررت زيدًا مرتين، أثبت له الحكم مرتين، مرة بكون الجملة وقعت قام زيدٌ في القوة لأن الضمير يعود إلى زيد، ومرة أخرى أسندت القيام إلى فاعل، يعني: زيد وقع مرتين مرة بالاسم الظاهر وهو مبتدأ ومرةً فاعلاً، فأخبرت عنه من حيث كونه مبتدأ ومن حيث كونه فاعلاً بقام، تأكيد أو لا؟ في تقوية أو لا؟ فيه تقوية، هذا يسمى ماذا؟ يسمى تقوية الحكم، وليس بمفرد. إذًا زيدٌ قائمٌ لا تكرير للإسناد فيه لكون قائم اسم فاعل، وهو مع مرفوعِهِ عند النحاة وعند البيانيين في حكم المفرد، ولذلك يمثل بهذا المثال للمفرد، زيدٌ قائمٌ يذكر النحاة [بأن الاسم يتألف من اسمين] (¬1) بأن الكلام يتألف من اسمين، ويذكرون هذا النوع زيدٌ قائمٌ فيعترض عليهم معترض يقول: قائمٌ مؤلف من كلمتين فهو مؤلف من ثلاث كلمات، يجاب بأن اسم الفاعل مع مرفوعِهِ في حكم الاسم المفرد، فحينئذٍ لا تكرار، يعني: لم يسند قائم إلى زيد ولم يسند إلى ضمير زيد، ليس هو كزيدٌ قام ففرقٌ بينهما، فلا يفيد حينئذٍ تقوي الحكم، فزيدٌ قائمٌ هذا مفرد لأنه لا يفيد تقوي الحكم وليس بسببي، ومثله قام زيدٌ هل فيه تكرار؟ لا، ليس فيه تكرار لماذا؟ لأن قام هنا أسند إلى زيد مرة واحدة بخلاف زيدٌ قام أُسند إلى زيد مرتين، مرة باسم صريح ومرة بضميره حيث لا تكرار للإسناد فيه بخلاف الجملة نحو زيدٌ قام، فإنها تفيد ذلك التكرار، تفيد ذلك يعني: التقوي لتكرار الإسناد فيها إلى زيدٍ مرتين، إلى لفظه وإلى ضميره. إذًا المفرد المراد به ألا يكون سببيًا كهندٌ عبدها قائم، أو زيدٌ بوه منطلقٌ، وألا يفيد التقوي، والتقوي له صورةٌ وهي قولهم: زيدٌ قام. وأما قام زيدٌ فليس فيها تقوي البتة. وزيدٌ قائمٌ ليس فيها تقوي البتة. لأنه إذا وجد السببي وتقوي الحكم فهو جملةٌ قطعًا، ما عدا ذلك فليس بجملةٍ. ¬

_ (¬1) سبق مستدرك بعده.

وتقوي الحكم في الاصطلاح عندهم هنا تأكيده بالطريق المخصوص نحو زيدٌ قام، واصطلاح السكاكي في المسند هنا في زيدٌ قام ويسمى مسندٌ فعلي أو مسندًا فعليًا وفي نحو زيدٌ قام أبوه مسندٌ سببي. إذًا: (وَمُفْرَدَا لأنَّ نَفْسَ الحُكْمِ فيهِ قُصِدَا)، (لأنَّ نَفْسَ الحُكْمِ) يعني: ذات الحكم وهو إثبات مضموم المسند هو المقصود دون التقوى، لأنه إذا قصد التقوى فحينئذٍ خرج عن كونه مفردًا، فإذا لم يقصد فقط نفس الحكم وإنما قُصِدَ زيادٌ على ذلك فهو ليس بمفردٍ، واضح التركيب هنا؟ افهموا البيت (وَمُفْرَدَا) يعني: كون المسند مفردًا، لماذا؟ يعني: ليس بجملة، لأن نفس الحكم فيه في المفرد الذي دل عليه (قُصِدَا) الألف للإطلاق يعني: المقصود هو نفس الحكم، ومتى يكون كذلك؟ إذا لم تكن الجملة سببية ولا مقويةً للحكم. يعني: في نحوه قام زيدٌ وزيدٌ قائمٌ وما عدا ذلك فلا، فالمفرد حينئذٍ يدل على ذات الحكم لا على شيءٍ زائد على الحكم، وزيدٌ قام دل على الحكم وزيادة، وهو تقوي الحكم، لأنه في قوة تكرار الإسناد مرتين، وزيدٌ أبوه قائمٌ كذلك لأنه كرر الضمير في أبوه الذي هو صلته. وَالْفِعْلُ بِالْمَفْعُولِ إِنْ تَقَيَّدَا ... وَنَحْوِهِ فَلِيُفِيدَ زَائِدَا (وَالْفِعْلُ بِالْمَفْعُولِ إِنْ تَقَيَّدَا) والفعل إن تقيدا (بِالْمَفْعُولِ) ونحو المفعول (فَلِيُفِيدَ زَائِدَا) هذا واضح، واضح؟ يعني: الفعل إذا وقع خبرًا [مسندًا إليه] (¬1) مسندًا إما أن يتقيد بشيء أو لا؟ أليس كذلك؟ نقول: زيدٌ قام، قام لم يتعلق بشيء، أو زيدٌ يقوم، يقوم لم يتعلق بشيء، هل هو مثل: زيدٌ يقوم أبوه؟ لَمَّا ذكرت الفاعل حينئذٍ زاد فائدةً، إذًا وَالْفِعْلُ بِالْمَفْعُولِ إِنْ تَقَيَّدَا ... وَنَحْوِهِ فَلِيُفِيدَ زَائِدَا ¬

_ (¬1) سبق مستدرك بعده.

(وَالْفِعْلُ) وما أشبهه يعني: وما يعمل عمله من اسم الفاعل واسم المفعول ونحوهما، فهو المسند فعلاً كان أو اسمًا يعمل علمه، (إِنْ تَقَيَّدَا) الألف للإطلاق بالمفعول سواءً كان مفعولاً مطلقًا، أو به، أو له، أو فيه، أو معه، لأنه أطلق المفعول، ونحوه يعني: نحو المفعول مثل ماذا؟ كالحال والتمييز والاستثناء، نحو قولك: ضربت ضربًا شديدًا (فَلِيُفِيدَ زَائِدَا)، ضربتُ هذا فعل وفاعل، أين المسند؟ ضرب، أين المسند إليه التاء، إذًا إذا قلت: ضربتُ، هل هو في المعنى مثل: ضربت ضربًا شديدًا؟ لا، ليس مثله، إذًا لما قلت: ضربًا شديدًا زاد في المعنى (فَلِيُفِيدَ زَائِدَا) هنا قيدت الفعل بالمفعول المطلق ووصفته بكونه شديدًا، حينئذٍ زاد المعنى، فكل ما قيدت الفعل بمقيدٍ ما من مفعولٍ أو نحوه من الفضلات سواءٌ كانت منصوبة أو مخفوضة فحينئذٍ يزيد في المعنى، فإذا قلت: ضربت ضربًا شديدًا أو ضربت زيدًا شربًا شديدًا زاد أو لا؟ زاد المعنى، لأنك ذكرت المفعول به في الأول تقول: ضربت ضربًا شديدًا أخفيت المفعول به، أوقعت الضرب على من؟ أخفيته. ومن حقك هذا، فإذا قلت: ضربت زيدًا أفصحت، إذًا زاد المعنى، ضربت ضربًا شديدًا أو ضربت زيدًا ضربًا شديدًا يوم الجمعة زاد المعنى؟ زاد المعنى، أمامك أو تأديبًا أو جلست والسارية، أو جاء زيدٌ راكبًا، وطاب محمدٌ نفسًا، وما ضربت إلا زيدًا، فهذه كلها مقيدات يعني: تفيد الفعل زيادة معنى، فهي تقيد المسند وتزيده، وتزيده معنًى وتعتبر مقيدات وتفاصيل له، (فَلِيُفِيدَ) هذا القيد المسند معنًى زائدًا ويزاد الحكم بها، فإن تقيد المسند بقيدٍ زائد حينئذٍ يُعتبر تخصيصًا له، كل ما ذكرت تقيدًا فقد خصصته، إذا قلت: ضربت ولم تذكر المفعول به فيه عموم، أليس كذلك؟ فيه عموم وشمول، ما تدري ضربت من؟ ما تدري ضربت من زيد عمرو .. إلى آخره، إذا قلت: ضربت زيدًا حصل تخصيص أم لا؟ ضربت زيدًا ضربًا خفيفًا، وسطًا، شديدًا ما تدري؟ فإذا قلت: ضربت زيدًا ضربًا شديدًا، عَيَّنْت خصصت، ما تدري أين ضربته؟ ضربت زيدًا ضربًا شديدًا عند بيته، لا تدري ضربته أمام أحد أم لا؟ ضربت زيدًا ضربًا شديدًا عند بيته أمام أبيه، حصل تخصيص أو لا؟ كل ما زاد قيدٌ حصل تخصيصٌ للمعنى، (فَلِيُفِيدَ) هذا القيد المسند معنًى زائدًا ويزاد الحكم بها، فإن تقيد المسند بقيدٍ زيادةُ تخصيصٍ له، وكل ما ازداد تخصيصًا ازداد الحكم بعدًا، كما أنه كل ما ازداد عمومًا ازداد قربًا، هذا التفصيل السابق. ثم قال: (وَتَرْكُهُ لِمَانِعٍ مِنهُ). (وَتَرْكُهُ) الضمير يعود إلى التقييد، (وَتَرْكُهُ) أي: التقْيِيد أو التقَيُّد بشيءٍ مما ذُكِرَ يكون (لِمَانِعٍ مِنهُ) يعني: من زيادة الفائدة، والمانع مثلاً كانتهاز فرصة أو الاختصار، أو عدم العلم بمقيدات وإرادة ألا يتطلع عليه الحاضرون ونحو ذلك، مثلاً لو ضربت، أنت تعلم أنك ضربت زيد لكن ما تريد أن تخبر بأن الضرب قد وقع على زيد فتخفي، تقول: ضربت. وتسكت عن البقية لماذا؟ سترًا لزيدٍ أو لنفسك أنت، وكذلك ما يتعلق بالحال والتمييز ونحوها.

ثم قال: (وَالْفِعْلُ) وما أشبهه (إِنْ تَقَيَّدَا) (بِالْمَفْعُولِ) يعني: بالمفاعيل كلها، ونحوه الضمير يعود إلى المفعول كالتمييز والحال وكل الفضلات، (فَلِيُفِيدَ زَائِدَا) يعني: زائدًا على المعنى الذي دل عليه المسند، (وَتَرْكُهُ) أي: ترك التقييد بما ذكر من المفاعيل ونحوها إنما يكون (لِمَانِعٍ مِنهُ) يعني: لغرضٍ ما يمنعك من ذكر القيد. ثم قال: (وَإِنْ بِالشَّرْطِ بِاعتِبارِ مَا يَجِيءُ مِنْ أَدَاتِهِ). (وَإِنْ) قيد ... (بِالشَّرْطِ) يعني: قُيِّدَ المسند الذي هو الفعل (بِالشَّرْطِ) وهنا لا يكون إلا فعلاً، وإن تقيد يعني: المسند (بِالشَّرْطِ) أي: بأداةٍ من أدواته مقدمةً كانت الأداة أو مؤخرة، إن جئتني أكرمتك، تقدم أداة الشرط، أكرمتك إن جئتني تأخرت أداة الشرط، إذًا (بِالشَّرْطِ) مطلقًا تقدم أم تأخر، يكون هذا التقييد (بِالشَّرْطِ) باعتبار ما أي: المعنى الذي يجيء ويثبت من أداته؛ لأن أدوات الشرط إما حرفٌ وإما اسمٌ، وكل حرفٍ أو اسمٍ من أدوات الشرط له معنى، وهذه مبحوثةٌ كلها في علم النحو، فإذا أردت المجرد التعليق تأتي بأن الشرطية، وإذا أردت التعليق في مكانٍ تأتي بأين أو أينما، وإذا أردت الزمان تأتي بمتى .. وهلم جرا، باعتبار ما أي المعنى الذي يجيء ويثبت من أداته، أداته أي: أدواته. يعني: أفاد العموم لأن أداة هذا نكرة أضيف إلى معرفة والمراد به العموم، أي: أدواته التي قيد بأحدها حرفًا كانت أو اسمًا، فلذا عبر بالأدوات الشاملة للنوعين، الحروف والأسماء، وكلها مبسوطةٌ في النحو، هكذا قال: ((عقود الجمان)) وكلها مبسوطةٌ في النحو , يعني: فليرجع إليه، لكن بعضها جديرٌ بأن يخص بالحديث والعناية ويبحث عنه، ولذلك عناه البيانيون في هذا الموضع وهو ثلاثة: إذا، وإن، ولو. يعني: الإحالة تكون عند البيانيين لعلم النحو فقل ما يقال في إن مشترك بين البيانيين والنحاة إلا (إذا، ولو، وإن) فإن فيها مباحث طويلة جدًا وفيها خلافات عريضة جدًا، لكن نختصر ما ذكره المصنف وهي: ثلاثة: إذا وإن ولو. قال الناظم: ?? وَالجَزْمُ أَصْلٌ فِي إِذَا ... لاَ إِنْ وَلَوْ وَلاَ كَذَاكَ مَنْعُ ذَا (وَالجَزْمُ أَصْلٌ فِي إِذَا) إذا جازمة أم لا؟ إذا، من الجوازم أم لا؟ في الشعر خاصة هو يقول ماذا؟ (وَالجَزْمُ أَصْلٌ فِي إِذَا). ..

أي نعم أحسنت ليس العمل، هذا اختبار، لاختباري، الجزم ليس المراد به هنا العمل، وإنما المراد به القطع بوقوع مدخولها (وَالجَزْمُ أَصْلٌ فِي إِذَا) والجزم بوقوع الشرط في الاستقبال يعني: من الزمان في اعتقاد المتكلم أصل في إذا، نقول: أولاً لتعليق الفعل على الفعل في الزمان المستقبل سواء كان ماضي اللفظ أو مضارعه هذا المعنى مشترك بين (إذا) و (إن)، التعليق في المستقبل إِذَا جَاءَ زَيْدٌ أَكْرَمْتُه، هل وقع المجيء؟ هل وقع المجيء؟ لا، الإكرام قطعًا ما وقع، إذًا كلا المعنيين الذيَنِ دلا عليه فعل الشرط والجواب لم يقعا، بل هما في مستقبل، إِذَا جَاءَ زَيْدٌ أَكْرَمْتُه، إِن جَاءَ زَيْدٌ في المستقبل، إذًا (إِذَا) و (إن) تجعل الفعل ماضي اللفظ والمستقبل واضح تجعله في المستقبل، حينئذٍ هي كالسين وسوف، يعني: تعتبر من القرائن الدالة على الفعل المضارع يراد به المستقبل، تعليق الفعل على الفعل، انتبه! الفعل على الفعل يعني: جواب الشرط على فعل الشرط في الزمان المستقبل سواء كان ماضي اللفظ أو مضارعه هذا المعنى مشترك بين (إِذَا) و (إن)، فَإِذَا جَاءَ زَيْدٌ، جاء من حيث اللفظ ماضي ومن حيث المعنى مستقبل، إذًا صيرت الفعل الماضي لفظًا صيرته مستقبلاً. [إن إذا يجيء] إن يجئ زيد، يجئ الأصل فيها أنها يجيء وهو دال على الحال والاستقبال، لكن بدخول (إن) عينته للمستقبل. إذًا إذا كان مضارعًا فهو محتمل على قول الجمهور للحال والاستقبال فتصيره (إِذَا) و (إن) للمستقبل، وإن كان ماضي اللفظ - وهذا الغالب يكون مدخول (إِذَا) حينئذٍ صرفته إلى المستقبل. وهذا المعنى مشترك لكن (إِذَا) تختص بالمجزوم بوقوعه، يعني: إذا تختص [بأن يكون ما (بعدها) مجزوم] (¬1) بأن يكون ما بعده مجزومًا يعني: سيقع إما تحقيقًا نحو: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ جَاءَ زَيْدُ. طلوع الشمس محقق أم لا؟ محقق. أو إدعاءً ليس تحقيقًا وإنما إدعاءً نحو قولك: إِذَا جَاءَ صَدِيقِي أَكْرَمْتُهُ. فإن مجيئه ليس مقطوعًا به كطلوع الشمس لكنه مُدَّعَى باعتبار خطابي، وهو أن الصديق يزور صديقه. إذًا ما بعد (إِذَا) يكون محقق الوقوع إما تحقيقًا وإما ماذا؟ وإما ادعاءً. (لاَ إِنْ) يعني: لا للجزم إن (وَالجَزْمُ أَصْلٌ فِي إِذَا) الجزم لوقوع الشرط (لاَ إِنْ) يعني: ليس الجزم أصلاً في (إِنْ) يعني مدخول (إِنْ) لا يكون مقطوعًا، لا للجزم (إِنْ) فإنها وإن شاركت (إِذَا) في كون كل منهما للاستقبال إلا أنها تفارقها في كونها موضوعة في الأصل لعدم الجزم بوقوع الشرط، ولهذا تدخل على النادر والمحال. ¬

_ (¬1) سبق مستدرك بعده.

{فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} ... [الأعراف: 131] {فَإِذَا جَاءتْهُمُ}، {وَإِن تُصِبْهُمْ} انظر هنا التعبير بـ (إِذَا) في الحسنة والتعبير بالمصبية بـ أو الإصابة بالسيئة جاء بـ (إِنْ) أتى في الحسنة بـ (إِذَا) ولفظ الماضي أما المعنى فهو مستقبل، لماذا؟ لأن وقوعها مجزومٌ به، الحسنة واقعة لأن المراد بها النعم ونعم الله تعالى لا تنفك عن الخلق، {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ} إذًا الحسنة واقعةٌ واقعة، وفي السيئة: {وَإِن تُصِبْهُمْ} جاء بـ (إِنْ) والفعل المضارع إشارةً إلى ندورها، والسيئة هي ما يسوء الإنسان، ولهذا نُكِّرَتْ إشارةً إلى التقليل بخلاف الحسنة، فإذا جاءتهم الحسنة جاء بال للكمال {وَإِن تُصِبْهُمْ} إذًا القليل هو إصابة السيئة، وقد تخرج (إِنْ) عن أصلها فتستعمل في المجزوم به، كالتجاهل مثلاً كقول الابن لمن يسأل عن أبيه: إن كان في الدار أخبرتك. هذا فيه إيهام وتجاهل بأنه ليس في الدار، وإنما الأصل أن يقول: إذا كان في الدار أخبرتك. لأنه متحقق الوقوع بأنه في الدار لكن أراد أن يخرج الخبر مخرج المشكوك فيه أو النادر لأنه ليس واقعًا، فالأصل في إذا للجزم وقد تخرج عنه، والأصل في (إِنْ) لعدم الجزم وقد تخرج عنه يأتي لـ الشيء المجزوم به ولذلك قال: (أَصْلٌ)، (وَالجَزْمُ أَصْلٌ). إذًا يفهم منه أن الأصل هذا قد ينتفي فتأتي (إِذَا) لغير الجزم، وعدم الجزم أصلٌ في (إِنْ) وقد يخرج هذا الأصل عن أصله فيكون فرعًا. (وَلَوْ) وأما (لَوْ) فقول الجمهور: إنها حرف امتناعٍ لامتناع. وفسرها الأكثر بأن المراد امتناع الثاني لامتناع الأول، انتبه! حرف الامتناع لامتناع، ثم امتناع ماذا الأول للثاني أو الثاني للأول؟ امتناع الثاني لامتناع الأول، لو جاء زيدٌ أكرمتك. ما الذي يفهم امتناع الإكرام لامتناع مجيء زيد. إذًا امتنع الثاني الذي جوابه (لَوْ) لامتناع الأول الذي هو مجيء زيد. وقول الناظم (وَلَوْ) أي: وليس الجزم بوقوع الشرط أيضًا أصلٌ في (لَوْ)، (لاَ إِنْ وَلَوْ) يعني: (لَوْ) مدخول لا، يعني: لا يكون الجزم أصلاً في (إِنْ) ولا يكون الجزم أصلاً في (لَوْ) أي: وليس الجزم بوقوع الشرط أيضًا أصلٌ في (لَوْ) بل هي لتعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشرط فرضًا في الماضي مع القطع بانتفاء الشرط فيلزم انتفاء الجزاء كما تقول: لو جئتني أكرمتك. هذا معلق على الإكرام بماذا؟ بالمجيء مع القطع بانتفاء المجيء فيلزم انتفاء الإكرام، فهي امتناعٌ لامتناع، يعني امتناع الثاني أعني: الجزاء لامتناع الأول أعني الشرط، فالجزاء منتفٍ بسبب انتفاء الشرط. الجزاء منتفٍ بسبب انتفاء الشرط، وهذا معنى قول الجمهور - جمهور النحاة - السابق أنها حرف امتناعٍ لامتناع.

وقوله: (وَلاَ لِذَاكَ مَنْعُ ذَا). هذا محل إشكال عند الشراح، ما المراد به؟ (وَلاَ لِذَاكَ مَنْعُ ذَا)، (وَلاَ لِذَاكَ) الذي هو الجزاء (مَنْعُ ذَا) الذي هو الشرط، هذا خلافًا لقول ابن الحاجب لأنه يرى العكس، الجمهور على أنه امتنع الثاني بامتناع الأول، هو يرى أن الأول امتنع لامتناع الثاني. وقال هنا: (وَلاَ لِذَاكَ مَنْعُ ذَا) ليس (مَنْعُ ذَا) (لِذَاكَ) يعني: لم يمتنع الأول امتناع الأول بل العكس امتناع الثاني لامتناع الأول، أي: وليست (لَوْ) لامتناع الشرط لامتناع الجزاء، كما ذهب إليه بعضهم ونسبه المرشدي في ((شرح العقود)) لابن الحاجب حيث قال: فهي لامتناع الأول لامتناع الثاني .. إلى آخر كلامه. وهذا تفسير صاحب ((الدرر الفرائد))، وفسره ((في دفع المحنة)) بقوله: ولاك ذاك منع ذا. أي: ولاك (إِذَا) و (إِنْ) منع (لَوْ) ولاك ذاك أي: مثل ذاك المشار إليه (إِنْ) وإذا منع ذا الذي هو (لَوْ) يعني: المنع كِلا الحروف [والأسماء الثلاثة] (¬1) الحروف الثلاثة مشتركة في المنع (إِذَا)، و (إِنْ)، و (لَوْ)، إلا أن الامتناع في ... (لَوْ) ليس كالامتناع في (إِذَا) و (إِنْ)، وهو معنًى لا بأس به أي: ولاك إذا وإن منع (لَوْ) فإنها حرف امتناعٍ لامتناع. ثم قال: وَالْوَصْفُ وَالتَّعْرِيفُ وَالتَّأْخِيرُ ... وَعَكْسُهُ يُعْرَفُ وَالتَّنكِيرُ ويأتي بعد الصلاة بإذن الله، والله أعلم. وصلَّ الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

_ (¬1) سبق مستدرك بعده.

8

عناصر الدرس * الغرض من وصفه وتعريفه. * الغرض من تأخيره أو تقديمه. * الغرض من تنكيره. * الباب الرابع: أحوال متعلقات الفعل. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقوله رحمه الله تعالى: ............... وَإِنْ ... بِالشَّرْطِ بِاعتِبارِ مَا يَجِيءُ مِنْ أَدَاتِهِ ..................... ... ............................. يعني: وإن تقيد المسند بالشرط يعني: بأداة شرط فحينئذٍ يكون المعنى معنى المسند ومقتضاه (بِاعتِبارِ مَا يَجِيءُ مِنْ أَدَاتِهِ) يعني: باعتبار المعنى الذي أدخلتها من أداة فحينئذٍ يكون المعنى، (وَالجَزْمُ أَصْلٌ) لا فرع (فِي إِذَا) المضمنة معنى الشرطية، (لاَ إِنْ وَلَوْ) وعدم الجزم هو الأصل (وَلاَ كَذَاكَ مَنْعُ ذَا) هذا محل إشكال، ولأن ذاك اسم إشارة يرجع إلى أي شيء؟ وذا اسم إشارة يرجع إلى أي شيء؟ فسره بعض الشراح بقوله: أي ولا لذاك. باللام في نسختان: نسخة باللام، ونسخة بالكاف. على اللام (وَلاَ لِذَاكَ مَنْعُ ذَا) لذاك أي: الجزاء. (مَنْعُ ذَا) أي: الشرط، أي: وليست لو لامتناع الشرط لامتناع الجزاء كما نسب لابن الحاجب، وعلى هذا المعنى نقول: (لِذَاكَ). ولا يصح كذاك على النسخة الثانية، وعلى النسخة الأخرى (ولا كذاك منع ذا) يعني: ولا كذاك مشار إليه إذا وإن (مَنْعُ ذَا) الذي هو لو يفترقا من حيث المنع، فكل هذه الحروف (إذا)، و (لو)، و (إن) فيها شيء من الامتناع لكن الامتناع في (لو) أقوى، ولذلك قال: (وَلاَ) (مَنْعُ ذَا) لو (كذاك) أي: مثل منع إذا وإن والمعنى واضح. ثم قال: وَالْوَصْفُ وَالتَّعْرِيفُ وَالتَّأْخِيرُ ... وَعَكْسُهُ يُعْرَفُ وَالتَّنكِيرُ (وَالْوَصْفُ) انتقل إلى مبحث آخر من مباحث المسند، أي: وصف المسند يعني: إذا وُصِف هذا شيء منفك عنه تابع له نحو: زَيْدٌ كَاتِبٌ مُجِيد. زَيد مبتدأ، وكاتب خبر، ومجيد نعت لكاتب الذي هو المسند، هنا وصف فأفاده التخصيص لأنه كاتب منه مجيد ومنه غير مجيد، فإذا قلت: مجيد. فحينئذٍ صار الكاتب مجيدًا صار مجيدًا فأفاده التخصيص لكون الفائدة أعم، لأن زيادة الخصوص توجب أتمية الفائدة لا شك، جَاءَ رَجُلٌ قَصِير، جَاءَ رَجُلٌ عَالِم، جَاءَ رَجُلٌ جَاهِل، لا شك أنه أفاده فائدة أتم من كونه جَاءَ رَجُلٌ ما تدري عالم جاهل طويل قصير، فإذا قلت: جَاءَ رَجُلٌ عَالِمٌ طَوِيلٌ قَصِير ... إلى آخره [طويل قصير ما يأتي معًا ها ها] وقد يخصص المسند بالإضافة نحو ماذا؟ زَيْدٌ غُلامُ رَجُلٍ، والحكم حكمه يعني: غلام رجل لا غلام امرأة. (وَالْوَصْفُ وَالتَّعْرِيفُ)، (وَالتَّعْرِيفُ) تعريف المسند ليكون الحكم على الذي علمه المخاطب ببعض المعرفات التي هي إحدى طرق التعريف، بأن يكون مضمرًا أو علمًا، أو اسم إشارة، أو موصولاً ... إلى غير ذلك، فالحكم هنا كالحكم في المسند إليه، سواء: اتحد التعريفان نحو: الرَّاكِبُ هُوَ الْمُنْطَلِقُ. أو اختلافا زَيْدٌ هُوَ الْمُنْطَلِقُ. الرَّاكِبُ هُوَ الْمُنْطَلِقُ صار ماذا؟ الرَّاكِبُ الْمُنْطَلِقُ متحدان أو لا؟ متحدان، إذ الطريق واحد وهو (أل) الرَّاكِبُ محلًى بـ (أل) معرف بـ (أل)، الْمُنْطَلِقُ معرف بـ (أل).

طيب زَيْدٌ هُوَ الْمُنْطَلِقُ اتحدا أم اختلافا؟ اختلاف زَيْدٌ وهو مسند إليه علم وَالْمُنْطَلِقُ هذا محلًى بـ (أل). بالذي جهله منهما أي: أنه يجب عند تعريف المسند تعريف المسند إليه، إذا عُرِّفَ المسند وجب تعريف المسند إليه لماذا؟ لأن المسند لا يكون أعرف من المسند إليه، لا يكون أعرف، فإذا كان المسند معرفةً وجب تعريف المسند إليه، أليس كذلك؟ هذا هو الأصل أنه يجب عند تعريف المسند تعريف المسند إليه ولا يشترط الاتحاد في التعريف، إذ ليس في كلامهم كون المبتدأ نكرةً والخبر معرفة، هذا لا وجود له، أن يكون المبتدأ نكرة والخبر معرفة لا وجود له في لسان العرب، فتعريف المسند حينئذٍ يكون لما مضى من المسائل المتعلقة بتعريف المسند إليه يعني: متى تعرفه بـ (أل)، ومتى يكون ضميرًا، ومتى يكون عَلَمًا، ومتى يكون بالإضافة .. إلى ما سبق، وإن كان جنس التعريف هنا قد يخالف جنس التعريف هناك بحيث إن تعريف المسند قد يفيد الحصر، ولذلك يقول: زَيْدٌ هُوَ الْمُنْطَلِقُ. زَيْدٌ هُوَ الْمُنْطَلِقُ هو ضمير فَصْلٍ وعند كثير من البيانيين أن ضمير الفصل مر معنا أنه

(وَالْفَصْلُ للتَّخْصِيصِ) قلنا يفيد ماذا؟ يفيد التخصيص لكن متى يفيد التخصيص؟ إذا لم يوجد في الجملة ما يفيد التخصيص، فإذا وجد في الجملة ما يفيد التخصيص حينئذٍ صار مؤكِّدًا، فقولنا مثلاً: زَيْدٌ هُوَ الْمُنْطَلِقُ. زَيْدٌ الْمُنْطَلِقُ حصل تعريف الجزأين وسيأتينا أنه من المخصصات زَيْدٌ الْمُنْطَلِقُ لا غيره من أين أخذنا؟ من تعريف الجزأين، إذًا وُجِدَ عندنا سبب وطريق للحصر والقصر، وهو تعريف الجزئين، إذا أدخلت ضمير الفصل مع الدلالة دلالة الجملة على الحصر والقصر حينئذٍ صار مؤكدًا ولا يفيد التخصيص، إن زَيْدٌ هُوَ الْمُنْطَلِقُ ما الذي أفاد التخصيص؟ تعريف الجزأين، وما وظيفة (هو) ضمير الفصل؟ تقول: مؤكِّد. نقول هنا: مؤكد. حينئذٍ إذا عُرِّفَ المسند أفاد التخصيص بخلاف تعريف المسند إليه لا يفيد التخصيص زَيْدٌ عَالِمٌ، زَيْدٌ مسند إليه وهو معرفة، عَالِمٌ خبر، هل أفاد التخصيص؟ لا مع كون المسند إليه معرفةً والمسند نكرةً لم يفد التخصيص، بخلاف زَيْدٌ هُوَ الْعَالِمُ حينئذٍ أفاد التخصيص بتعريف المسند، إذًا (وَالتَّعْرِيفُ) تعريف المسند ليكون الحكم على الذي علمه المخاطب ببعض المعرفات السابقة التي مرت معنا فيما سبق، (وَالتَّعْرِيفُ) لإفادة المخاطب حكمًا أو لازم حكمٍ على شيء معلوم له بأحد طرق التعريف بأمر آخر مثله، أي: إذا كان السامع يعلم بالمحكوم عليه إحدى صفتين وهذه مسألة أخرى يعني: زَيْدٌ أَخُوكَ. أيهما المبتدأ وأيهما الخبر؟ لأن الجزأين معرفان هنا، أيهما المبتدأ وأيهما الخبر؟ حينئذٍ نأتي إلى المعنى زَيْدٌ أَخُوكَ عند ابن مالك رحمه الله يتعين لا يجوز تقديم الخبر على المبتدأ هنا، زَيْدٌ أَخُوكَ زَيْدٌ مبتدأ وَأَخُوكَ خبر متعين، وعند غيره لا، يجوز الوجهان، لكن الذي يُرِجِّحُ هو المعنى فإذا كنت تعلم زيدًا ولا تعلم - المخاطب يعني - ولا يعلم أنه يعلم أنه أخوه حينئذٍ تجعل المعلوم زيد، وتجعل الخبر الذي هو مجهول أخوك، وإذا كان يعلم أن له أخًا لكن لا يدري أنه زيد فحينئذٍ تقول: أَخُوكَ زَيْدٌ. فحينئذٍ صار المحكوم عليه أخوك لماذا؟ لكونه معلومًا، لكن لا تدري أنه هو زيد أو عمرو أو خالد وقلت: أَخُوكَ زَيْدٌ. فصار فرق بينهما، إذا كان السامع يعلم للمحكوم عليه إحدى الصفتين وأردت أن تفيده الأخرى فاجعل المعلوم له مبتدأ، المعلوم تجعله مبتدأ، وغيره خبرًا كما إذا كان يعرف زيدًا باسمه ووصفه، يعلم الشخص نفسه زيد باسمه ووصفه، [ويجهل كَوْنُهُ] (¬1) يجهل كَوْنَهُ أخاه فتقول: زَيْدٌ أَخُوكَ. يعلم زيد باسمه ووصفه ويجهل كونَهُ أخاه تقول: زَيْدٌ أَخُوكَ. ¬

_ (¬1) ((سبق مستدرك بعده.

وعكسه وهو أَخُوكَ زَيْد لمن علم أن له أخًا ولا يعلم كونه زيدًا، والتأخير أي: تأخير المسند فلأن ذكر المسند إليه أهم - كما مر معنا - (فَلاِهْتِمَامِ) إذًا يقدم المسند إليه وإذا تقدم المسند لزم منه تأخير المسند، إذًا يتأخر المسند لكون المسند إليه أهم في الذكر - كما مر في تقديم المسند إليه - والأصل في المسند هو التأخير، (وَعَكْسُهُ) أي: عكس التأخير وهو التقديم فلتخصيصه بالمسند إليه، أي: لقصر المسند إليه على المسند نحو: تَمِيمِيٌّ زَيْدٌ. عكسه عكس التأخير وهو التقديم، إذا تقدم المسند على المسند إليه قد يفيد الحصر والقصر - كما سيأتي وقد يكون في بابه - تَمِيمِيٌّ زَيْدٌ، أي لا غيره لا ينسب لغير تميم. فِي الدَّارِ زَيْدٌ، في الدَّارِ فقط زيد طيب. فِي الْبَلَدِ عَالِمٌ. عالم واحد. إذًا تَمِيمِيٌّ زَيْدٌ يعني: أنه مقصور على التميمية لا يتجاوزها إلى غيرها، أو للتنبيه يعني كما أنه يأتي للتخصيص يأتي للتنبيه على أنه خبر من أول وهلة لا نعت، لَهُ هِمَمٌ لا مُنْتَهَى لِكِبَارِهَا، في الدار زيد هذا قد لا يكون التخصيص، لَهُ هِمَمٌ لا مُنْتَهَى لِكِبَارِهَا، إذ لو قيل: هِمَمٌ لَهُ. لتوهم أنه نعت - كما مر معنا - أن النكرة إذا جاء بعدها وصف، إذا جاء بعدها لفظ قد يكون اسمًا وقد يكون ظرفًا أو جارًا ومجرورًا حينئذٍ احتياج النكرة إلى الصفة أشد من احتياجها إلى الخبر، احتياج النكرة إلى الصفة أشد افتقارًا من احتياجها إلى خبر، فإذا جاءت النكرة حينئذٍ يتوهم مباشرة الذهن أن ما بعده صفة له، هِمَمٌ لَهُ ماذا بها؟ هذا يحتمل أن له نعت بهمم وأن الخبر لم يأت بعد، فإذا قدمته حينئذٍ أفاد ماذا؟ أنه خبر من أول وهلة، إذ لو قيل: همم له. توهم أنه نعت لشدة طلب النكرة للنعت، أو للتفاؤل إذا أخذنا من المسند التفاؤل، (سعدت بغرة وجهك الأيام) سعدت الأيام، أو لتشوق الناس إلى ذكر المسند إليه بأن يكون في المسند طول يقتضي ذلك نحو: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها، شمس الضحى هذا مبتدأ مؤخر، قدمت هنا ماذا؟ المسند الذي هو ثلاثة، فيه تشويق أو لا؟ عندما تسمع ثلاثة تشرق الدنيا تظن أنك واحد منهم. إذًا (وَعَكْسُهُ) أي: التأخير أو التقديم ... (يُعْرَفُ) يعني: يعرف أكثرها مما تقدم في المسند إليه، الوصف هذا مبتدأ و (يُعْرَفُ) الجملة خبر عن المبتدأ، والتعريف والتأخير عكسه معطوفات على ما سبق، (وَالتَّنكِيرُ) أيضًا (يُعْرَفُ) مما تقدم في المسند إليه، فلإرادة عدم العهد وعدم الحصر الدال عليهما التعريف نحو: زَيْدٌ كَاتِبٌ، وَعَمْرٌ شَاعِرٌ. وللتفخيم نحو: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] على أنه خبر محذوف، للتحقير ما زيد شيء، فكل ما يتأتى في المسند إليه في التنكر يتأتى هنا. والله أعلم. (الْبَابُ الرَّابِع) في (أَحْوَالُ مُتَعَلَّقَاتِ الْفِعْلِ) الباب الرابع من الأبواب الثمانية (أَحْوَالُ مُتَعَلَّقَاتِ الْفِعْلِ).

(مُتَعَلَّقَاتِ) جمع متعلِق، قيل: يجوز فيه الكسر والفتح متعلِّقات متعلَّقات لأنها جمع لمتعلِّق أو متعلَّق فيجوز فيها الوجهان، والأولى الكسر، جوزوا الوجهين لكن الأولى أن يقال بالكسر، بل لو قيل بأنه يتعين لكان أولى أيضًا لماذا؟ لأن المعمول متعلِّق والعامل متعلَّق به، إذًا فرق بين العامل والمعمول والمراد هنا المعمولات المتعلِّقات المراد به المعمولات ليس المراد به العوامل، والعامل متعلَّق به، فإذا قلت: قَامَ زَيْدٌ. قَامَ متعلَّق به ما الذي تعلق بـ قَامَ؟ زَيْدٌ، فزيد متعلِق، إذًا قيل جمع متعلِّق بكسر اللام وفتحها لكن نقول: الأولى الكسر؛ لأن المعمول متعلِّق والفعل متعلَّق، والمراد بالمتعلِّقات المعمولات التي تتعلق بالفعل، أي ترتبط أو يرتبط معناها به كالمفاعيل وشبه المفاعيل من حال وتمييز كلها مرتبطة بالفعل، يعني: بعاملها، فإذا قلت: ضَرَبْتُ زَيْدًا ضَرْبًا شَدِيدًا أَمَامَ الأَمِيرِ عِنْدَ بَيْتِهِ كل هذه متعلِّقات تعلَّقت بماذا؟ بـ ضَرَبَ لأنها معمولات له، إذًا كلها متعلِّقات وضرب هذا متعلَّق به. هذه لها أحوال من حيث الذكر، ومن حيث الحذف، ومن حيث التقديم والتأخير، ثم أغراض الحذف لِمَ حُذِفَ المفعول به وقد يجب حذفه، وقد يجب ذكره. إذًا لها أحوال، ما هي هذه الأحوال؟ تبحث في هذا المحل. (أَحْوَالُ مُتَعَلَّقَاتِ الْفِعْلِ) نص على الفعل وليس التنصيص تخصيص له دون غيره، بل الفعل وما يعمل عمله، كاسم الفاعل ونحوه، واختصر في الترجمة على الفعل لأصالته في العمل، وهذا دائمًا يذكرون الأصل ويتركون الفرع، وأعلم أنه أراد هنا من الأحوال، الأَحوال يعني: الصفات. أراد بعض الأحوال لا كل الأحوال لماذا؟ لأن متعلِّقات الفعل قد يجري فيها كثير من الأحوال المذكورة في المسند إليه والمسند، يعني: بعض الأشياء مشتركة بين ما مضى وبين ما يأتي لأن المفعول به قد يُنَكَّر وقد يُعَرّف، قد يُعَرّف بضمير أو يُعَرّف باسم إشارة، أو .. أَو .. كل ما قيل هناك من الأغراض في التعريف أو التنكير يقال في المفعول. إذًا بعضها قد مر معنا. واعلم أنه أراد من الأحوال بعضها لا كلها؛ لأن متعلقات الفعل قد يجري فيها كثير من الأحوال المذكورة في باب المسند والمسند إليه كالتعريف والتنكير وما أشبه ذلك من ما مر، ولكن لما اختص بعضها بنوع غموضٍ ومزيد دقة وُضِعَ هذا الباب لذلك البعض، كحذف المفعول، هناك لم يذكر، هناك المسند والمسند إليه، فحذف المفعول وتقديمه على الفعل وتقديم بعض المعمولات على بعض ما هي الأغراض؟ ما مرت هذه، لم تمر معنا في المسند ولا المسند إليه وإنما عنون لها بهذا الباب لهذه المسائل. ثُمَّ مَعَ المَفْعُّولِ حَالُ الفِعْلِ ... كَحَالِهِ مَعْ فَاعِلٍ مِنْ أَجْلِ تَلَبُّسٍ لاَ كَوْنُ ذَاكَ قَدْ جَرَى ... .............................

(ثُمَّ) للترتيب الذكري، (ثُمَّ مَعَ المَفْعُّولِ) به قَيَّد، لأن المراد به المفعول به، (ثُمَّ مَعَ المَفْعُّولِ) به (حَالُ الفِعْلِ) الفعل الاصطلاحي ... (كَحَالِهِ) أي: حال الفعل (مَعْ فَاعِلٍ) أي: ذكر الفعل مع الفاعل أو مع المفعول، أو ذكر كل من الفاعل والمفعول مع الفعل من أجل ماذا؟ (مِنْ أَجْلِ تَلَبُّسٍ)، (حَالُ الفِعْلِ) مبتدأ (مَعَ المَفْعُّولِ) بفتح. وَمَعَ مَعْ فِيهَا قَلِيلٌ الأصل فيها الفتح، أصله يحتمل أنه مَعْ حركت للتخلص من التقاء الساكنين على كل (مَعَ المَفْعُّولِ) هذا خبر مقدم، (حَالُ الفِعْلِ) الاصطلاحي مع المفعول به كحال الفعل مع الفاعل، (حَالُ الفِعْلِ) مع المفعول كحال الفعل مع الفاعل، وما هو حال الفعل مع الفاعل؟ أنه واقع منه يعني: متلبس به قَامَ زَيْدٌ، ضَرَبَ زَيْدٌ، ما العلاقة بين ضرب وزيد؟ التلبس الارتباط بمعنى أن الحدث الذي دلّ عليه ضرب هو الذي أوقعه زيد، إذا ذكر المفعول فحال المفعول مع ضرب كحال زيد مع ضرب، يعني: بينهما علاقة لكن العلاقة تختلف، علاقة ضرب بزيد على أنه أوقع أوجد الفعل، وعلاقة ضرب مع زيدًا عمرًا مثلاً مفعول به كونه وقع الحدث عليه، إذًا كل من الفاعل والمفعول به له ارتباط بالفعل، لا فرق بينهما، فتأثير الفاعل في الفعل من حيث إيقاعه، [وتأثير المفعول به] (¬1) إيقاعه على الغير، وتأثير المفعول به مع الفعل من حيث كونه محلاً للوقوع، إذًا كل من الفاعل والمفعول به له ارتباط بالفعل وإن اختلفت جهة الارتباط، ولذلك قال: (مِنْ أَجْلِ تَلَبُّسٍ). يعني: من أجل دلالة على أن الفاعل تلبس بالفعل وأن المفعول تلبس بالفعل، إذًا (تَلَبُّسٍ) قدر مشترك بين النوعيين. ¬

_ (¬1) رجع الشيخ لتعميق الجملة السابقة.

(ثُمَّ مَعَ المَفْعُّولِ) به (حَالُ الفِعْلِ كَحَالِهِ) أي: حال الفعل (مَعْ فَاعِلٍ) أي: ذكر الفعل مع الفاعل أو مع المفعول إذا حُذِفَ الفاعل، أو ذكر كل من الفاعل والمفعول مع الفعل (مِنْ أَجْلِ تَلَبُّسٍ) أي: من أجل إفادة تلبس الفعل بكل منهما، بالفاعل وبالمفعول لكنهما يفترقان - الفاعل والمفعول - لأن تلبسه بالفاعل من جهة وقوعه منه، [وَتَلَبْسُهُ] (¬1) وَتَلَبْسَهُ بالمفعول من جهة وقوعه عليه، فإذا قلت مثلاً: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، زَيْدٌ فاعل، وَعَمْرًا مفعول به، وضرب هو العامل ولذلك دائمًا نقول: ما معنى العامل؟ إذا قيل: هذا عامل يعمل النصب ويعمل الرفع. هذا اللفظ عامل يدل على أن ما رفعه أو نصبه أو خفضه يتمم معناه له ارتباط به من حيث المعنى، فلا يتم ضَرَبَ إلا بِزَيْد، ولا يتم ضَرَبَ إلا بعمرو لأنه محل للوقوع، حينئذٍ إذا قلت: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا. ضَرَبَ فعل ماضي، زَيْدٌ فاعل، عَمْرًا مفعول به، هذا من حيث اللفظ، ظاهريًّا لكن من حيث المعنى وتحقق مدلول اللفظ فتقول: [زيد محل] (¬2) زيد هو الذي أوقع الحدث، وعمرو محل لوقوع الحدث، إذًا لهما ارتباط بضرب لكن جهة الارتباط مختلفة، إذًا من أجل إفادة تلبس الفعل بكل منهما لكنهما يفترقان، بأن تلبسه بالفاعل من حيث وقوعه منه، وتلبسه بالمفعول من جهة وقوعه عليه، ومن هذا يعلم أن المراد بالمفعول المفعول به، ولذلك قيدنا لأنه لم قابله بالفاعل علمنا، وشَرَّكَ بينهما في التلبس علمنا أن المراد به هنا هو المفعول به، لأنه هو الذي يقع عليه بخلاف ضَرَبْتُ زَيْدًا ضَرْبًا شَدِيدًا، ضَرْبًا شَدِيدًا هذا مفعول مطلق، بينهما علاقة نعم، لكن لا من جهة التلبس، وإنما من جهة نوعية الضرب، ففرق بينهما ولذلك نقول: المفعول المراد به مفعول به. ¬

_ (¬1) سبق. (¬2) سبق يظهره ما بعده.

ومن هذا - الكلام السابق - تقرر أن المراد بالمفعول المفعول به، لأن هذا تمهيد لحذفه، وإن كان سائر المفاعيل [من] جميع .. نعم، وإن كان سائر المفاعيل بل جميع المتعلقات كذلك فإن الغرض من ذكرها مع الفعل إفادة تلبسها لكن من جهات مختلفة، قد يكون لذات الفعل من حيث إيقاع الحدث، ومن حيث كونه محلاً لوقوع الحدث ومن حيث صفات الحدث، من حيث الزمان والمكان وغيرها، فإن الغرض من ذكرها مع الفعل إفادة تلبسها من جهات مختلفة كالوقوع فيه وله ومعه وغير ذلك، (لاَ كَوْنُ)، لا كونِ (ذَاكَ قَدْ جَرَى) يعني: لا من أجل كون ذاك الفعل قد جرى أي وقع، ليس المراد تلبس الفعل مع الفاعل أو مع المفعول لكونه يدل على أن الحدث قد وقع، ليس هذا المراد وإنما المراد كون الحدث واقعًا لكن من حيث الفاعل ومن حيث المفعول به، لأنك لو أردت أن تدل على إيقاع الضرب فقط حينئذٍ قلت: وقع ضرب، وُجِدَ ضرب ما تحتاج أن تقول: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا. لتدل على أن مدلول هذا اللفظ إيقاع ضَرْبٍ فحسب، لا، ليس هذا المراد؛ لأن ضرب يدل على إيقاع حدث لكنه مخير في الزمن الماضي، لو أردت أن تخبر بأن ثَمَّ ضربًا قد وقع بقطع النظر عن زمنه وفاعله ومفعوله تقول: حصل ضَرْبٌ، وَقَعَ ضَرْبٌ. لكن من الضارب؟ من المضروب؟ متى وقع؟ هذا لا يحتاج إليه في هذا التركيب، وإنما تأتي بوقع ضرب، إذا قلت: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا. لا تفيد هذا التركيب الذي سبق بيانه، إذًا لا من أجل كون ذلك الفعل قد جرى أي: وقع أي: ليس الغرض من ذكر المفعول به مع الفعل إفادة وقوع الفعل وثبوته في نفسه من غير إرادة أن يُعْلَمَ مِمَّنْ وَقَعَ، وعلى مَنْ وَقَعَ، إذ لو كان الغرض ذلك لكان ذكر الفاعل والمفعول معه عبثًا، نعم، لو كان المراد مجرد إيقاع الضرب كقولك: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا. زَيْدٌ عَمْرًا هذا عبث لماذا تذكره؟ إذا أردت الإخبار بإيقاع ضرب وقع ضرب بقطع النظر عن كونه من زيد أو على عمرٍ، فإذا ذكرت الفاعل مع المفعول فثَمَّ معنى آخر يدل عليه التركيب ليس هو إفادة إيقاع الضرب فحسب، ولذلك قال: (لا) (مِنْ أَجْلِ) (كَوْنُ ذَاكَ) أي: الحدث. (قَدْ جَرَى) وقع فقط، لأن هذا لا يُعَبَّر عنه بذكر الفاعل والمفعول، بل تحذف الفاعل وتحذف المفعول بل تأتي بمصدرٍ قد أسند إلى فعل آخر كـ وقع وحصل. إذًا إذ لو كان الغرض ذلك لكان ذكر الفاعل والمفعول معه عبثًا، يعني: من غير ذكر الفاعل أو المفعول، لكونه حينئذٍ عبثًا فليس في هذا التركيب شيء من متعلقات الضرب، يعني الحاصل. إذًا حاصل ما ذكره المصنف هنا حاصل الفعل مع المفعول، كالفعل مع الفاعل في ماذا؟ في أن الغرض من كل منهما إفادة التلبس به، لا إفادة وجوده يعني حصول الحدث فقط، وإلا قيل: وُجِدَ ضرب مثلاً إلا يعني من غير ذكر الفاعل والمفعول، وإلا لو كان كذلك لذكر الفاعل والمفعول يعد عبثًا، إلا أن جهة التلبس تختلف، ففي الفاعل من جهة وقوعه منه، وفي المفعول من جهة وقوعها عليه، والمميز لذلك الرفع في الفاعل والنصب في المفعول به كما هو مبين في علم النحو. ثم قال - انتقل إلى مسألة أخرى -: ................... ... وَإِنْ يُرَدْ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ ذُكِرَا

النَّفْيُ مُطلَقًا أَوِ الإِثْبَاتُ لَهْ ... فَذَاكَ مِثْلُ لاَزِمٍ فِي المَنْزلَةْ مِنْ غَيْر تَقْدِيرٍ وَإِلاَّ لَزِمَا ... ............................. المتكلم الذي يتكلم بالخبر - سيأتي بالمسند والمسند إليه - تارة يريد الإخبار عن الفعل، إذًا - نرتب مقدمات - المتكلم تارةً يريد بكلامه الإخبار عن الفعل أي: الحدث. من غير تلبس بفاعل ولا مفعول به ماذا يقول؟ إذا أراد أن يخبر عن الحدث فقط من غير ذكر الفاعل أو المفعول، لا يريد أن يبين من الفاعل ومن المفعول؟ نقول: قد حصل حادث صحيح أو لا؟ حصل حادث يعني: وقع وثبت، فالدلالة هنا حادث يدل على أن شيئًا قد وقع ولم يكن من غير تعرض بفاعل ولا مفعول، حينئذٍ إذا أراد المتكلم أن يخبر بإيقاع الحدث فقط لا يذكر فاعلاً ولا مفعولاً، وإنما يأتي بالمصدر فيقول: وقع حدث. وإن شاء قال: حادث - ولا إشكال فيه -، أو وقع ضرب ونحوه، فليس في هذا التركيب شيء من متعلقات الضرب، هذا أولاً. وتارة لا يريد أن يخبر بإيقاع الحدث فقط، وإنما يريد أن يذكر معه الفاعل، فحينئذٍ يأتي بالفعل الصناعي أولاً قال: وقع ضرب. ضرب جاء بالفعل اللغوي وهو المصدر، إذا أراد أن يدل على الفاعل فحينئذٍ يأتي بقَامَ يَقُومُ قُمْ .. إلى آخره يعني: يأتي بالفعل الصناعي، فإن كان لازمًا - هذا أمر واضح - يقول: قَامَ زَيْدٌ. ليس عندنا مفعول به، فيقول: قَامَ زَيْدٌ، مَاتَ عَمْرٌ، قَعَدَ خَالِدٌ، جَلَسَ مُحَمَّدٌ. فيأتي بالفعل الصناعي وهو لازم ولم يُرِدْ من هذا اللفظ إلا أن يثبت الفاعل فحسب، هذه مرحلة ثانية. وإما أن يكون الفعل الصناعي لا يكون لازمًا، وإنما يكون متعدِّيًا - هذا له أحوال، الكلام الآن في المتعدِّي - فتارة يقصد بالفعل المتعدي الإخبار بالحدث في المفعول دون الفاعل، الفعل المتعدي فيقصد إيقاع الحدث من المفعول ولا يعنيه الفاعل، يعني: يطوي ذكر الفاعل هذا ماذا يسمى عند النحاة؟ .. الكلام في الفعل. .. نعم المبني للمجهول، ضُرِبَ زَيْدٌ، هنا قلنا: حذف الفاعل له أغراض، قد يحذفه لغرض ما، لا أريد أن أخبرك بالفاعل، ضُرِبَ زَيْدٌ، هنا فعل صناعي متعدي [حُذِفَ المفعول وإنما] (¬1) حُذِفَ الفاعل، وإنما أريد أن يخبر عن وقوع هذا الحدث وإيقاعه على المفعول، فحينئذٍ يأتي به على صيغة مغير الصيغة، يعني: يحذف الفاعل ويغير صيغة الفعل ويُسنده إلى المفعول به فيرتفع، هذا إذا كان الفعل الصناعي متعدّيًا ولم يقصد المتكلم ذكر الفاعل وإنما عنى المفعول به، فيأتي بالفعل الصناعي مُغير الصيغة ويأتي بالمفعول به على أنه نائب عن الفاعل، فيقول: ضُرِبَ عَمْروٌ. وتارة يقصد المتكلم بالإخبار - بالخبر يعني - يقصد الإخبار بالفاعل يعني يَعني بكلامه الفاعل ثم لا يذكر المفعول، وهذا ضربان نوعان: ¬

_ (¬1) سبق مستدرك بعده.

يقصد الفاعل ليس كالأول لم يقصد الفاعل جاء بالفعل المتعدي وإنما جاء بالفعل المتعدي وقصد الفاعل ولا يذكر المفعول، يعني: يترك ذكر المفعول وعدم ذكر المفعول مع الفعل المتعدي وإسناده إلى الفاعل له أغراض وله أحوال، في الجملة ينقسم إلى نوعين، وهو الذي عناه الناظم هنا بقوله: ... (وَإِنْ يُرَدْ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ ذُكِرَا). هذه الجملة معترضة أراد به تقييد الحكم، بمعنى أن الكلام فيما لم يذكر المفعول به، (وَإِنْ يُرَدْ .. النَّفْيُ) احذف (إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ ذُكِرَا) أتركها ما تحذفها من النظم يعني: من الذهن. (وَإِنْ يُرَدْ ... النَّفْيُ مُطلَقًا أَوِ الإِثْبَاتُ لَهْ ... فَذَاكَ مِثْلُ لاَزِمٍ ............ هذا النوع الأول، ونشرحه على ما نذكره ثم نأتي إلى البيت، وهو ضَرْبَان - يعني إذا قصد الإخبار بالفاعل ولم يذكر المفعول معه -: الضَّرْبُ الأول: أن يقصد المتكلم إثبات المعنى للفاعل أو نفيه عنه. إما إثبات أو نفي، ضرب زيد، أو ما ضرب زيد، إما إثبات أو نفي، هذا واضح، على الإطلاق يعني: مطلقًا من غير اعتبار أي معنى آخر، من غير اعتبار عموم ولا خصوص ولا تعلق بمن وقع عليه، فالمتعدِّي كاللازم، المتعدِّي هنا كاللازم، إذا قصد بالفعل المتعدي إسناده إلى الفاعل ولم يلتفت ولم يلحظ المفعول به وتَعَلُّق المفعول بالفعل حينئذٍ الفعل المتعدي كاللازم، يُنَزّل مُنَزَّلَة اللازم، إذا أردت الإخبار بإيقاع ضرب منك فقط ولم تُرد الإخبار عن المفعول به، تقول: ضَرَبْتُ. ولا تقل زَيْدًا، وحينئذٍ ضَرَبْتُ مثل قام زيد. يعني: يكون لازمًا، مُنَزّل مُنَزَّلَة اللازم، هل عندنا مفعول؟ لا، ليس عندنا مفعول، لا تقل حذفت المفعول به لأنه لم يُرَدْ أصلاً ما أردته لذلك قال: (إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ ذُكِرَا). بمعنى أنه قد حُذِفَ أصلاً لم يقدر ابتداءً، فحينئذٍ يكون الفعل المتعدي كاللازم. إذًا النوع الأول أن يقصد المتكلم إثبات المعنى للفاعل. إذًا عندنا فاعل لا بد من ذكره أو نفيه عنه على الإطلاق كما قال: (النَّفْيُ مُطلَقًا). من غير اعتبار عموم ولا خصوص ولا تعلق بمن وقع عليه، فالمتعدي حينئذٍ ... كاللازم، فلا يذكر مفعوله لئلا يُتَوَهَّمَ أو يَتَوَهَّمَ السامع أن الغرض الإخبار بتعلقه بالمفعول، ولا يقدر كذلك حينئذٍ، ليس عندنا مفعول به محذوف ولا بد من تقديره لأن المقدر كالمذكور، وهذا ضربان - كما سيأتي -.

إذًا قول الناظم هنا: (وَإِنْ يُرَدْ). (إِنْ) حرف شرط، و (يُرَدْ) هذا مُغير الصيغة، وقوله: (النَّفْيُ). هو نائب الفاعل (إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ ذُكِرَا) المفعول به مع الفعل المتعدّي المسند إلى فاعله، وألف (ذُكِرَا) للإطلاق، والجملة معترضة مراد بها تبيين حال المفعول به لو لم يذكر، أما إذا ذكر هذا شأن آخر، والكلام هنا فيما إذا لم يذكر، (إِنْ يُرَدْ) بذكر الفعل الصناعي المتعدّي مع الفاعل (النَّفْيُ) قلنا: هذا نائب فاعل لا يرد. أي: نفي الفعل عن الفاعل (مُطلَقًا)، أي: من غير اعتبار عموم في الفعل بأن يراد جميع أفراده أو خصوص بأن يراد بعضها ومن غير اعتبار تعلقه بمن وقع عليه فضلاً على عمومها وخصوصها، بمعنى أنه لم يلحظ مع الفعل أي أمر آخر، لا عموم ولا وخصوص ولا كونه متعلقًا بعَمْرٍو من حيث كونه وقع عليه مطلقًا (النَّفْيُ مُطلَقًا أَوِ الإِثْبَاتُ لَهْ)، (أَوِ) للتنويع، (أَوِ) أن يرد إثبات الفعل له أي لفاعله (مُطلَقًا)، فالإطلاق يرجع إلى النفي والإثبات، (فَذَاكَ) أي: الفعل المتعدّي (مِثْلُ لاَزِمٍ) أي: مثل الفعل اللازم (فِي المَنْزلَةْ) أي: مُنَزّل مُنَزّلة اللازم (مِنْ غَيْر تَقْدِيرٍ) يعني: للمفعول. لأن المقدر كالمذكور، ونحن نتحدث عن ماذا؟ عن فعل ليس له مفعول أصلاً، وهذا إنما كان بمرحلة ثانية، يعني: الأصل فيه أنه متعدٍّ ويقتضي مفعولاً به، لكن لَمَّا لم يلحظ فيه إلا إسناده إلى الفاعل فكأنه لم يكن له مفعول حينئذٍ حذف ابتداءً ولا يقدر، لأنك لو قدرته فقد لاحظته، فحينئذٍ يفسر الفعل هنا بكونه فعلاً لازمًا فيقتضي يعني: يرفع فاعلاً ولا تقل: يقتضي مفعولاً به. (مِثْلُ) فعل اللازم (فِي المَنْزلَةْ)، أي: منزلته أو مُنَزّل مُنَزَّلة الفعل اللازم، (مِنْ غَيْر تَقْدِيرٍ) أي: من غير أن يقدر له مفعول، لأن المقدر كالمذكور، في أن السامع يفهم منهما أن الغرض الإخبار بوقوع الفعل عن الفاعل باعتبار تعلقه بمن وقع عليه، يعني: لو جعلت المفعول به مقدرًا حينئذٍ السامع يَلْحَظ هذا المعنى، فحينئذٍ لم يرد بالفعل المتعدّي اللازم لأنه صار متعدّيًا متى؟ إذا قدرته. إذًا هذا هو الضرب الأول، إذا أريد بالفعل أن يسند إلى الفاعل من غير ملاحظة معنى للمفعول البتة، لا عموم في الفعل ولا خصوص ولا بمن تعلق به من حيث وقوع الحدث عليه، فحينئذٍ الفعل المتعدّي كاللازم، وهذا ضربان نوعان، هذا النوع ضربان: الأول لأنه إما أن يُجعل إطلاق الفعل كناية عن الفعل، يعني قد يكون هناك كناية استعمل ضربت مُنَزَّلة ضربت زيدًا، كأنه كني به، يعني: الأصل أن يقول: ضَرَبْتُ زَيْدًا، [حذف المفعول وحذف المفعول $ 39.20] وضربت الأصل فيه أنه متعدي فاستعمل بدلاً من ضربت المتعدي إلى زَيْدًا ضَرَبْتُ يعني: من باب الكناية، إما أن يجعل إطلاق الفعل كناية عن الفعل متعلقًا بمفعول مخصوص دلت عليه القرينة أو لا؟ أما الأول الذي دلت عليه القرينة كقول الشاعر مثلاً: شجو حساده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ......... يرى ماذا؟ حذف المفعول به ويسمعَ واعي

أن يرى مبصرٌ ويسمع واعي، يرى متعدٍّ في الأصل، ويسمع كذلك متعدٍّ في الأصل هنا لم يتعدَّ وإنما رفع فاعلاً في الموضعين فقط، أي: المقصود هنا أن يرى مبصرٌ أي: أن يكون ذو رؤية أو يكون ذو سمع لأن المراد وجود من يبصر ووجود من يسمع، فأُسْنِدَ الفعل إلى الفاعل بقطع النظر عن مُتَعَلَقِهِ وهو المفعول به فحينئذٍ صار كاللازم، أي: أن يكون ذو رؤية وذو سمع فيُدرك بالبصر محاسنه وبالسمع أخباره، فحينئذٍ نَزَّل يرى ويسمع مُنَزَّلة اللازم، أي: يصدر منه الرؤية والسماع من غير تعلق بمفعول مخصوص. قال السيوطي هنا: أي ليس في الوجود ما يُرى ويُسمع إلا آثاره المحمودة. فإذا أبصر مبصر لا يرى إلا محاسنه، وإذا سمع سامع كذلك لا يسمع إلا بأخبار حسنة، فغيظ عداه أن يقع إبصار - وقع إبصار - أو سمع، فإنه كيف وقع لا يقع إلا على محاسنه، بخلاف ما لو قال: أن يرى مبصر محاسنه. يعني: ذكر المفعول به، فإنه ليس فيه حينئذٍ ما يقتضي أنه ليس في الوجود ما يُبْصَر غير محاسنه. يعني: استعمال اللازم هنا أدق في المعنى من استعمال المتعدي. فلو قال: يرى مبصر. يعني: لا يرى أي مبصر إلا محاسنه، بخلاف يرى مبصر محاسنه، كذلك السمع، ويسمع واعي يعني: لا يسمع الواعي إلا أخباره المحمودة، فإذا حذف المحمود به وجعل الفعل كاللازم حينئذٍ لا يُسمع في الوجود إلا محاسنه كما أنه لا يبصر إلا محاسنه، ثم جُعِلا الفعلين السابقين يرى ويسمع كناية عن الرؤية والسماع المتعلقين بمفعول مخصوص - وهو محاسنه وأخباره -. والثاني: الذي لا يكون في قرينة كقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] يعلمون ماذا؟ {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} يعلمون متعدّي أو لا؟ متعدّي في الأصل أما هنا فهو لازم، {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} قيل: الفعلين في الموضعين هما متعديان في الأصل لكن هنا المراد ماذا؟ المراد مقارنة من اتصف بصفة العلم بقطع النظر عن المعلوم، ونفي العلم بقطع النظر عن المعلوم، حينئذٍ صار الوصل هنا مقيدًا بكونه مسندًا إلى الفاعل بقطع النظر عن مفعوله، فقوله: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} يعلمون فعل وفاعل، والأصل أنه متعدّي أليس كذلك؟ أين المفعول؟ ليس عندنا مفعول، لماذا؟ لكونه لازمًا {لَا يَعْلَمُونَ} يعلمون ماذا؟ نقول: هنا لازم وليس بمتعدّي، لماذا؟ لأنه قصد الفعل ابتداءً أن لا يتعلق بمفعول به البتة فنُزِّلَ مُنَزّلة اللازم فإن الغرض هنا إثبات العلم له مطلقًا في الأول ... {الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} ونفيه عنهم كذلك في الثاني {لَا يَعْلَمُونَ} أي من غير عموم في أفراده ولا خصوص، والمعنى لا يستوي من يُوجد منه حقيقة العلم ومن لا يوجد. يعني: من له صفة العلم لا يستوي مع من انتفى عنه صفة العلم.

ومثله {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43] أضحك من؟ حُذِفَ، لا نقول: حُذِف، وإنما نقول: أضحك استُعمل ابتداءً مراد به الإضحاك، وأبكى استعمل ابتداءً مراد به الإبكاء {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ} ... [النجم: 44] أمات من؟ {وَأَحْيَا} أحيى من؟ و {أَغْنَى وَأَقْنَى} [النجم: 48] كل هذه أفعال متعدّية في الأصل لكن المراد بها هنا اللازم، فليس عندنا مفعول، فلا تقدر، إذا عرفتَ تقول: أضحك والمفعول به محذوف. لا، ليس عندنا هنا محذوف، لأن المراد هو الذي منه الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء والإغناء والإقناء. حينئذٍ فعل أُسْنِد إلى فاعله بقطع النظر ليستوي، يعني مصدر الإحياء هو الله عز وجل {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} مصدر الإضحاك هو الله عز وجل، إذًا المراد بإسناد الفعل إلى فاعله بقطع النظر عن تعلقه فنُزِّل مُنَزَّلة اللازم، واضح هذا؟ إذًا - نرجع إلى الأبيات - (وَإِنْ يُرَدْ) النفي أو الإثبات له مطلقًا يعني: للفعل الاصطلاحي. (فَذَاكَ مِثْلُ لاَزِمٍ) مثل فعل اللازم (فِي المَنْزلَةْ) فلا يتعدى، لكن انتبه من غير تقدير للمفعول به. إذ لو قدرت المفعول به لم يكن مثل اللازم؛ لأن الفعل المتعدي قد يُذكر معه مفعوله وقد يحذف لغرض، والمحذوف لغرض كالموجود وليس هو بلازم، وإنما الكلام هنا في الفعل المتعدي المنزل منزلة اللازم بأن لا يكون له مفعول أصلاً، وهذا مثله. وإما إذا قدرت، فلا، خرج الكلام عن المراد. إذًا (وَإِنْ يُرَدْ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ ذُكِرَا) المفعول به هذا القيد يعني: لم يذكر (إِنْ يُرَدْ) (النَّفْيُ مُطلَقًا) يعني: نفي الفعل، أو الإثبات له مطلقًا بقطع النظر عن عموم أو خصوص في الفعل في أفراده وبقطع النظر عمن وقع عليه الفعل، (فَذَاكَ) الفعل المتعدي (مِثْلُ لاَزِمٍ فِي المَنْزلَةْ) والمكانة والمرتبة (مِنْ غَيْر تَقْدِيرٍ وَإِلاَّ) هذا الضرب الثاني، (إِلاَّ). الضرب الأول: قطع النظر عن المفعول به ابتداءً. الضرب الثاني: لم يقطع النظر. بمعنى أن المتكلم أتى بالفعل المتعدي ملاحظًا المفعول سواء ذكره أم لا، إن ذكره فهو الأصل إن لم يذكره حينئذٍ يلزمه التقدير متى هذا؟ إذا أراد الإخبار عن الحدث الفعل مع فاعله ملاحظًا المفعول به، حينئذٍ يكون على أصله، (وَإِلاَّ) أي: الضرب الثاني أن لا يقطع النظر عن المفعول بل يُقْصَدُ ولا يذكر لفظًا ويقدر بحسد الفرائد، أما إذا ذكره فهذا لا إشكال فيه. (وَإِلاَّ) وإن لم يكن الغرض عند عدم ذكر المفعول مع الفعل المتعدّي المسند إلى فاعله إن لم يكن الغرض إثباته لفاعله أو نفيه عنه مطلقًا، بل قصد تعلقه بمفعولٍ غير مذكورٍ (لَزِمَا)، (لَزِمَا) الألف هذه للإطلاق، ما الذي لزم؟ قال: (مِنْ غَيْر تَقْدِيرٍ وَإِلاَّ لَزِمَا). ما الذي لَزِم؟ التقدير. (مِنْ غَيْر تَقْدِيرٍ وَإِلاَّ لَزِمَا) يعني: لزم التقدير بحسب القرائن الدالة على تعين المفعول إن كان عامًا فعام وإن خاصًا فخاص، (وَإِلاَّ لَزِمَا).

ثم لما وجب تقدير المفعول تعين أنه مراد، ومحذوفٌ من اللفظ لغرضٍ، لأن الغرض متعينٌ عند الحذف إذ لا يجوز الحذف إلا لشيءٍ معلوم، ثم لا يكون الحذف لشيءٍ معلوم إلا لنكتةٍ وفائدة، فإن لم يكن لنكتة أو فائدة وهذا الأصل فيه المنع، فأشار إلى بيانه تفسير الغرض بقوله: (وَالحَذْفُ لِلْبَيَانِ فِيما أُبْهِمَا). (الحَذْفُ) مبتدأ، في الذي أبهما الألف للإطلاق وهو (فِيما أُبْهِمَا) هذا خبر الحذف (لِلْبَيَانِ) متعلقٌ به (وَالحَذْفُ) أي: حذف المفعول به من اللفظ المقدر بعد قابلية المقام، أي: وجود القرينة فيكون للبيانِ (الحَذْفُ لِلْبَيَانِ فِيما) يعني: في الذي (أُبْهِمَا) الألف هذه للإطلاق، وعبارة السيوطي: والحذف فيما أبهما للبيانِ. والحذف في الذي أبهما للبيانِ، للبيان هو الخبر أليس كذلك؟ والحذف في المبهم أي: إن قصد البيان بعد الإبهام. يعني: يحذف المفعول به، ثم يأتي إبهامٌ، الإبهام من أين يأتي؟ يأتي من لفظِ الفعل نفسه عند قراءته، ولهذا قال: وهذا خاص بفعل المشيئة والإرادة، أن يكون القصد من بعد الإبهام من الحذف للمفعول يجيء البيان له، بأن يذكر ما يدل عليه فإن له وقعًا في النفس لم يحصل بذكره ابتداءً وذلك كما في فعل المشيئة والإرادة ونحوهما إذا وقعا شرطًا فإن الجواب يدل عليه نحو: قوله تعالى: {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ} [الأنعام: 149]. لو شاء هدايتكم لهداكم، هدايتكم هو المفعول به، لو شاء هدايتكم أين الإبهام هنا؟ لو قرأ أو سمع {فَلَوْ شَاء} يذهب الذهن مذاهب شتى شاء ماذا؟ هدايتكم إماتتكم إحياءكم رزقكم موتكم، إذًا يذهب الذهن مذاهب شتى، فلما {لَهَدَاكُمْ} جاء تقدير المفعول به من أين علم؟ من الجواب {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} أي: لو شاء هدايتكم، هدايتكم المفعول الذي حذف {لَهَدَاكُمْ} فإنه لما قال: {فَلَوْ شَاء} علم السامع أن هناك شيئًا علقت به المشيئة لكنه مبهم، ما هو الذي شاءه هذا مبهم، لما قال: ... {لَهَدَاكُمْ} علمنا أن المحذوف هنا مفعول به وهو ماذا؟ هدايتكم، ما الذي دل عليه؟ الجواب، جاء التقدير بعد الإبهام أليس كذلك؟ جاء التقدير بعد الإبهام فحصل إبهامٌ أولاً بـ {شَاء}، ثم جاء التقدير الذي أخذ من هدايتكم، فإذا جيء بجواب الشرط صار مبينًّا وهذا أوقع في النفس من ذكره ابتداءً مبينًا، لو قال لو شاء هدايتكم لهداكم هذا فيه بيان، وحينئذٍ لا يذهب الذهن ولا يذهب السمع في مذاهب شتى. إذًا هذا الموضع الأول أنه والحذف للبيان فيما أبهما يعني: يأتي الحذف للبيان متى؟ في الذي أبهما ابتداءً وذلك يفهم من فعل المشيئة، أو لمجيء الذكر أو يكون الحذف لمجيء الذكر، أي: ذكر المفعول ثانيًا على وجهٍ يتضمن إيقاع الفعل على صريح لفظه، يعني: دون ضميره، إظهارًا لكمال العناية بوقوعه عليه كقوله: قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ ... دد والمجد والمكارم مِثْلاً

قد طلبنا حذف المفعول به، لم نجد مِثْلاً، مثلاً هذا مفعولٌ لنجد، حذفنا من الأول من أجل أن يقطع الثاني على اسمه الصريح، ماذا نقول؟ أي: ذكر المفعول ثانيًا على وجهٍ يتضمن إيقاع الفعل على صريح لفظه دون ضمير - الذي هو نجد - إظهارًا لكمال العناية بوقوعه عليه، وضابطه - ضابط عند البيانيين - إذا كان في الكلام فعلان: طلبنا، ونجد، متوجهان إلى مفعولٍ واحدٍ، طلبنا مثل، نجد مثل، إذًا توجها لمفعولٍ واحد حذف المفعول من الأول طلبنا مثلاً حذف من الأول لإيقاع الثاني على صريح لفظه، يعني: من أجل أن ينصب الثاني اللفظ دون الضمير، أليس كذلك؟ وإذا قدرنا في الأول نقدر الضمير لأنه لو ذُكر مع الفعل الأول لكان الواجب أن يذكر مع الفعل الثاني ضميره لتقدم ذكره فيفوت إيقاع الفعل الثاني على صريح لفظه، لو جعلنا مثلاً منصوبًا بطلبنا لقال نجده، فحينئذٍ وقع الثاني على الضمير لا على الاسم الصريح وهذا ليس مرادًا. ولذلك قال: (أَوْ لِمَجِيءِ الذِّكْرِ). يعني: يُقدر في الأول يحذف من أجل أن يأتي الثاني فينصب اللفظ الصريح مثاله: قد طلبنا، هذا متعدي فلم نجد لك في السؤ ... دد والمجد والمكارم مِثْلا أي: قد طلبنا لك مثلاً فيها فلم نجده، هذا أصل التركيب، قد طلبنا مثلاً فلم نجده لكنه ماذا صنع؟ عكس فجعل الثاني ناصب للفظ الصريح، والأول حذف منه الفعل، فحذف مثلاً من الأول إذ لو ذكره لكان المناسب فلم نجده، فيفوت الغرض المذكور وهو إيقاع الوجدان على صريح لفظ المثل لكمال العناية بعدم وجدانه (أَوْ لِرَدِّ تَوَهُّمِ السَامِعِ غيْرِ الْقَصْدِ)

أو يكون الحذف للمفعول مع إداراته لرد توهم السامع غير القصد، وعبَّر عنه السيوطي بقوله: [دفع ابتداء، نعم] (¬1)، دفع ابتدار الذهن إلى غير المراد. يعني: حذفه من أجل أن لا يتوهم السامع شيئًا لم يرد أي: غير المراد، بأن يسبق الذهن إلى غير المراد، كقوله: وسورة أيامٍ حززنا إلى العظم، حززنا هنا الشاهد حززنا أي: قطعنا إلى العظم، الأصل حززنا اللحم، قطعنا اللحم إلى العظم، لو قال: حززنا اللحم يتبادر الذهن إلى ماذا؟ إلى أنه لم يصل القطع إلى العظم، لكن لما حذفه صار ماذا؟ حززنا إلى العظم، إذًا بلغ الحزُّ مبلغه وهو العظم، ففيه ماذا؟ فيه رد توهم ما قد يقع على للسامع، فحُذِفَ مفعول حززنا وهو اللحم لأنه لو ذكره ربما توهم السامع قبل ذكر ما بعده أن الحزَّ لم ينته إلى العظم، وإنما كان في بعض اللحم فحذفه دفعًا لهذا التوهم، إذًا (أَوْ لِرَدِّ تَوَهُّمِ السَامِعِ غيْرِ الْقَصْدِ) يعني: غير المراد من كلام المتكلم، أو هو للتعميم، أو يكون هو أي: الحذف للتعميم في المفعول مع الاختصار، كقولك: قد كان منه ما يؤلم، ما يؤلم كل أحدٍ. لما حذف أفاد التعميم، بقرينة أن المقام مقام المبالغة، وهذا التعميم وإن أمكن أن يستفاد من ذكر المفعول بصيغة العموم، لكنه يفوت معه الاختصار هنا الغرض أمران: تعميمٌ مع اختصار. لأنه قد يقول قائل يؤلم كل أحدٍ ذكر المفعول أيضًا فيه تعميم، لماذا نقول الحذف للتعميم؟ واضح هذا؟ يؤلم قلنا: حذف المفعول من أجل إفادة التعميم، فيقول: أذكر المفعول بلفظٍ وصيغةٍ تدل على العموم، إذًا يؤلم كل أحدٍ. نقول: لا، المراد هنا التعميم مع الاختصار. ما هو الاختصار؟ حذف المفعول، وفرقٌ بين اللفظين، فَعِلَّة الحذف هنا مركبة من التعميم والاختصار، قال تعالى: {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} [يونس: 25]. يدعو من كل؟ عباده، حذف المفعول هنا للإفادة العموم، أي جميع عباده، وهنا أفادت الآية العموم تحقيقًا لا مبالغة كالمثال السابق. (أَوْ لِلْفَاصِلَهْ) أو يكون الحذف للفاصلة، يعني: لأن تراعى الفاصلة، وهو آخر الفقرة، كقوله تعالى {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا} [الضحى: 1، 3] قلاك هذا الأصل فحذف المفعول به مراعاةً للفاصلة {وَمَا قَلَى} لأن آخرها الألف، وقيل للاختصار ولا مانع أن يجتمع الغرضان في مثالٍ واحد. أي: ما قلاك، فحذف المفعول هنا لأن فواصل الآية على الآي على الألف، نعم، (أَوْ هُوَ لاِسْتِهْجَانِك المُقَابَلَه) يعني: يحذف المفعول به من أجل أن لا تقابل المخاطب بلفظٍ فيه قُبح، يعني: من أجل الاستهجان وهو قبيح لو ذكرته، أو يكون هو أي: للحذف (لاِسْتِهْجَانِك) أي: استقباحك (المُقَابَلَه) منك المخاطب بذكر فيحذف تجنبًا لها كقول عائشة إن صح عند ذكر أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما رأيت منه ولا رأى مني. يعني: ما رأيت منه العورة ولا رأى مني فحُذِفَ المفعول هنا من الموضعين لما في التصريح بلفظ العورة من الهجنة يعني: القبح، وقرينة الحذف اقتران هذا الكلام بذكر أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت مباشرة نسائه. ثم قال: ¬

_ (¬1) سبق.

وَقَدِّمِ المَفْعُولَ أَوْ شَبِيهَهُ ... رَدًّا عَلَى مَنْ لمْ يُصِبْ تَعْيِينَهُ وَبَعْضُ مَعْمُولٍ عَلَى بَعْضِ كَمَا ... إِذَا اهْتِمَامٌ أَوْ لأصْلٍ عُلِمَا (وَقَدِّمِ المَفْعُولَ) على الفعل، هنا أحوال تقديم المفعول على عامله، ... (أَوْ شَبِيهَهُ) يعني: شبيه ماذا؟ شبيه المفعول، الحالة قد تتقدم راكبًا جاء زيدٌ، تقدمت، قدم المفعول على الفعل عامله ليشمل الفعل وغيره، (أَوْ شَبِيهَهُ) أي: شبيه المفعول من الجار والمجرور والظرف والحال وما أشبه ذلك، لأجل ماذا؟ (رَدّاً) هذا مفعول أجله، (رَدّاً) أي: لأجل الرد ... (عَلَى مَنْ) أي: على الذي لم يُصب تعيينه، لم يُصب تعيين المفعول به، أي: تعيين المفعول كقولك: زيدًا عرفتُ. الأصل: عرفت زيدًا، زيدًا عرفت، هذا ترد به على من؟ على من اعتقد أنك عرفت إنسانًا واعتقد أنه غير زيد، عرفت إنسان أنت إنسان تعرف إنسانًا، هذا الأصل لا إشكال فيه، لكن لو اعتقد أنك تعرف عمرًا، وقد أخطأ فحينئذٍ تقول له: زيدًا عرفت لا غيره، لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد القصر والحصر، فحينئذٍ زيدًا عرفت أي: لا غيره، ترد به على من اعتقد أنك عرفت عمرًا لا زيد، واعتقد أنه غير زيدٍ وأصاب في الأول أنه إنسان دون الثاني أنه غير زيدٍ، ولهذا تقول: لتأكيد هذا الرد: زيدًا عرفت لا غيره. صح أم لا؟ نعم صح، لا غيره تأكيد، كيف يكون مؤكدًا؟ لأنه لو سكت قال زيدًا عرفت، بالمنطوق إثبات المعرفة لزيد، بالمفهوم نفي المعرفة عن غير زيد، لا غيره دل بالمنطوق ما دل عليه مفهوم السابق توافقا؟ توافقا، الأول دل على لا غيره بالمفهوم، والثاني دل عليه بالمنطوق، ولذلك صار توكيدًا، لما دل عليه مفهوم السابق. وقد يكون لرد الخطأ فيه الاشتراك، كقولك: زيدًا عرفت. لمن اعتقد أنك عرفت زيدًا وعَمْرًا. زيدًا عرفت، إذًا زيدًا لا عَمْرًا، وتقول لتأكيده زيدًا عرفت وحده. صحيح زيدًا عرفته، لأنه اعتقد الشركة وأنت أردت الوحدة: زيدًا عرفت وحده. وهذا توكيدٌ للمفهوم الذي دل عليه التركيب السابق. واعلم أن [تقديم المفعول ونحوه] تقديم المفعول ونحوِهِ يلزمه التخصيص غالبًا الذي ذكرناه سابقًا، أي: لا ينفك عن تقديم المفعول ونحوه في أكثر السور بشهادة الاستقراء وحكم الذوق، ولذلك قال السيوطي رحمه الله تعالى: لا يقال ما زيدًا ضربت ولا غيره. هذا فيه تناقض لأن قولك: ما زيدًا ضربت. أفاد ماذا؟ نفي الضرب عن زيدٍ وإثباته لغير زيد، فإذا قلت: ولا غيره نفيت الضرب عن غير زيدٍ وقد أثبته أولاً هذا يسمى ماذا؟ يسمى تناقضًا، ما زيدًا ضربت ولا غير. هذا لا يصح التركيب غلط لماذا؟ لكون فيه تناقضًا، تناقضًا بين ماذا؟ بكون نفيت ما أثبته أولاً، نفيت عن زيدٍ الضرب، مفهومه إثبات الضرب لغير زيدٍ، حينئذٍ لا يصح أن تقول: ولا غيره. بمعنى أنك لم تضرب غير زيد. لا يقال ما زيدًا ضربت ولا غيره. لأن التقديم يدل على وقوع الضرب على غير زيدٍ تحقيقًا لمعنى الاختصاص، وقولك: ولا غيره. ينفي ذلك فيتناقضان.

ومثل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] أي: لا غيرك {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي: لا غيرك. {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ} [المائدة 23] أي: لا على غيره .. وهلم جرا. تقديم ما حقه التأخير يفيد الاختصاص وهو في القرآن كثير. إذًا (وَقَدِّمِ المَفْعُولَ أَوْ شَبِيهَهُ) كالجار والمجرور والحال (رَدّاً عَلَى مَنْ لمْ يُصِبْ تَعْيِينَهُ) حينئذٍ إذا قدمته أفدت الاختصاص (وَبَعْضُ مَعْمُولٍ عَلَى بَعْضِ) أي: قدم بعض معمولٍ على بعضٍ أي: وقدم بعض معمولٍ من الفاعل والمفاعيل ونحوها من الحال والتمييز (بَعْضُ مَعْمُولٍ) الفعل (عَلَى بَعْضِ) يعني: على بعض الآخر (كَمَا إِذَا اهْتِمَامٌ) أي: كما إذا كان ذكر ذلك البعض المقدم أهم (كَمَا إِذَا اهْتِمَامٌ) يعني: كما لو كان هو الأهم (كَمَا إِذَا اهْتِمَامٌ) إذا كان هناك اهتمامٌ، (مَا) هذه زائدة، (كَمَا إِذَا اهْتِمَامٌ) أي: كما إذا كان ذكر ذلك البعض المقدم أهم لاعتناء المتكلم والسامع بشأنه، والاهتمام بحاله لغرضٍ من الأغراض كقولك قُتِلَ الخارجيُّ فلانٌ، لأن الأهم في تعلق القتل هو الخارجي المقتول ليتخلص الناس من شره وليس لهم فائدةٌ في أن يعرفوا قاتله، (أَوْ لأصْلٍ عُلِمَا) الألف للإطلاق (أَوْ لأصْلٍ) أي: يكون تقديم ذلك البعض المعمول على المعمولات الأخر هو الأصل ولا مقتضي للعدول عن ذلك عنه، كالفاعل في نحو: ضرب زيدٌ عمرًا. هنا ماذا قلت؟ ضرب زيدٌ عَمْرًا يجوز؟ يجوز ماذا؟ كم حال هنا؟ ضرب زيدٌ عمرًا، هذا الأصل، ضرب عمرًا زيدٌ، زيدًا ضرب عمرٌو؟ صحيح؟ إيش بالكم؟ طال الدرس ضرب زيدٌ عمرًا. هذا الأصل العامل أولاً، ثم الفاعل، ثم المفعول. الحالة الثانية: تُقدم المفعول على الفاعل، ضرب عَمْرًا زيدٌ هذا جائزٌ، [زيدًا ضرب عَمْرًا] (¬1) عَمْرًا ضرب زيدٌ قدمت المفعول على العامل لِمَ يجوز؟ {فَرِيقاً هَدَى} [الأعراف: 30] لا. المراد هنا التقديم، لكن لو قلت: زيدٌ ضرب عَمْرًا، على أن زيد فاعل يجوز؟ لا يجوز المراد هنا الأحكام النحوية أما الأغراض فهذا شيء آخر فعندنا ثلاثة أحوال: ضرب زيدٌ عمرًا، هذا الأصل. ضرب عمرًا زيدٌ، هل هذا جائزٌ؟ نقول: نعم يجوز، لكن يجوز تقديم المفعول على فاعله إذا كان ثَمَّ غرض، وإذا لم يكن ثَمَّ غرضٌ فأي النوعين أهم الفاعل أم المفعول؟ حينئذٍ الأصل أن نقدم الفاعل على المفعول، فإذا لم يكن غرض حينئذٍ تقول: قولك ضرب زيدٌ عمرًا أولى بلاغةً من قولك: ضرب عمرًا زيدٌ وإن جائزًا نحوًا، لماذا؟ لكون زيد مقدم على عمرو في الأهمية لأنه فاعل، ولذلك قال: كالفاعل في نحو: ضرب زيدٌ عمرًا لأنه عمدةٌ في الكلام وحقه أن يلي الفعل، والمفعول الأول في أعطيت زيدًا درهمًا يصح أعطيت درهمًا زيدًا، أليس كذلك؟ لكن لكون المفعول الأول في قوة أو معنى الفاعل لكون هو الآخر صار الأولى بالتقديم، فإن أصله التقديم لما فيه من معنى الفاعلية وهو أنه آخذٌ للعطاء. ¬

_ (¬1) سبق.

إذًا قاعدة: وقدم بعض معمولٍ على بعضٍ يجوز إذا كان ثَمَّ قرينة. (كَمَا إِذَا اهْتِمَامٌ) إذا كان الاهتمام بالمقدم، إما لكونه منزلته التقديم، أو إذا لم يكمن منزلته التقديم فحينئذٍ لا بد لفائدةٍ أو نكتة، أو لأصلٍ لكون مرتبته هي الأصل كالفاعل مع المفعول. والمفاعيل قاعدة عن البيانين - نختم بها الدرس المفاعيل - وما بمعناها من الفضلات وإن اشتركت في كونها فضلة لكنها مترتبةٌ فيما بينها عند اجتماعها، فإذا اجتمعت حينئذٍ يقدم المفعول المطلق، المفاعيل كلها إذا اجتمعت يقدم المفعول المطلق، ثم المفعول به بلا واسطة، يعني: بلا حرف جر بزيدٍ، ثم الذي بواسطة، ثم المفعول فيه الزمان، ثم المكان، ثم المفعول له، ثم المفعول معه، هذا الترتيب إذا اجتمعت المفاعيل كلها. المفعول المطلق أولاً، ثم المفعول بلا واسطة، ثم المفعول بواسطة، ثم المفعول فيه الزماني، ثم المكاني، ثم المفعول له، ثم المفعول معه. والأصل أن يذكر الحال عقيب صاحب الحال هذا الأصل، إذًا جاء راكبًا زيدٌ، جاء زيدٌ راكبًا أيهما أولى؟ إذًا لم يكن ثَمَّ غرض جاء زيدٌ راكبًا، لأنه موافق الأصل، الترتيب صاحب الحال أولاً ثم الحال، فالأصل أن يذكر الحال عقيب صاحب الحال، والتابع عقيب المتبوع، وعند اجتماعها يقدم التابع على الحال، وعند اجتماع التوابع الأصل تقديم النعت، ثم التأكيد، ثم البدل، أو عطف البيان وعند اجتماع التأكيد مع المفعول به يقدم التأكيد. هذا ما يتعلق من جهة الاختصار بالباب الرابع (أَحْوَالُ مُتَعَلَّقَاتِ الْفِعْلِ)، والله أعلم. وصلَّ الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. البلاغة ما تتقن إلا إذا أتقن النحو، ألاحظ بعض المسائل صعبة عندكم لأن النحو شوي ما هو بذاك. ما أدري إيش عندكم في النحو أنتم، النحو أساس، لو تعطي كل يوم فقط النحو ساعة خلال ستة أشهر إن شاء الله تضبطه. والسلام عليكم ورحمة الله.

9

عناصر الدرس * الباب الخامس: القصر * أنواع القصر. * طرق القصر. * ما يقع فيه القصر. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال الناظم رحمه الله تعالى: (الْبَابُ الخَامِسُ: الْقَصْرُ) (الْبَابُ الخَامِسُ) من أبواب المعاني الثمانية حيث قال فيما سبق ... (مُنْحَصِرُ الأَبْوَابِ فِي ثَمَانِ)، ومر الحديث عن أربعة أبواب ووصل إلى الخامس وهو (الْقَصْرُ) لَمَّا كان القصر يجري في ركنيي الإسناد وفي متعلقات الفعل ذكره عقب الأبواب الثلاثة، يعني ما يتعلق بالمسند إليه والمسند ومتعلقات الفعل، وأما الإسناد فلا يكون فيه حصر، وإنما يحصر المسند إليه أو المسند أو المفعول مثلاً أو الحال، فإما أن يتعلق بمسند إليه، وإما أن يتعلق بالمسند، وإما أن يتعلق بأحد متعلقات الفعل، لذلك قال: عقب الأبواب الثلاثة. القَّصْرُ نَوْعَانِ حَقِيقِيٌ وَذَا ... نَوْعَانِ وَالثَّانِي إضَافِيٌّ كَذَا القصر لغةً الحبس، ومنه قوله تعالى: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72]. يعني محبوسات في الخيام. واصطلاحًا عرَّفوه بأنه تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوص، شيء بشيء مسند أو صفه لموصوف أو موصوف بصفة، هذا المراد به على جهة التخصيص، تخصيص شيء يعني: موصوف أو صفة بشيء يعني: بالموصوف أو بصفة فيشمل حينئذٍ نوعي القصر الحقيقي والإضافي، ثم كل منهما إما قصر صفة على موصوف، أو عكسه. بطريق مخصوص يعني من الطرق الآتي بيانها يعني مما ذكره الناظم من الطرق الأربعة المشهورة، كتخصيص زيد بالقيام مَا قَائِمٌ إِلا زَيْدٌ، كأنك خصصت بل خصصت زيد بكونه قائمًا، هنا تخصيص شيء بشيء تخصيص زيد بالقيام بطريق مخصوص وهو (ما، وإلا)، ويجري القصر أو التخصيص بين الفعل والفاعل ما قام إلا زيد، وبين المبدأ والخبر ما زيد إلا قائم، ما قائم إلا زيد، وبين الفعل والظرف بنا مرّ كما سيأتي، وبين الحال وعاملها راكبًا ما جاء راكبًا إلا زيد وغير ذلك مما قد يأتي بيانه. القصر عرفنا معناه في اللغة والاصطلاح، قال (نَوْعَانِ) (القَّصْرُ نَوْعَانِ) (القَّصْرُ) مبتدأ و (نَوْعَانِ) خبره، (حَقِيقِيٌ) هذا بدل مفصل من مجمل وقوله: (نَوْعَانِ) هذا فيه إبهام وإجمال (حَقِيقِيٌ) بالرفع على أنه بدل مفصل من مجمل، يعني بدل بعض من كل، أو تجعله خبرًا لمبتدأ محذوف أول النوعين أولهما حقيقيٌّ، إذا إما أن يكون بدلاً، وإما أن يكون خبرًا مبتدأ محذوف، والثاني إضافي (حَقِيقِيٌ) (نَوْعَانِ) (حَقِيقِيٌ)، ... (وَالثَّانِي إضَافِيٌّ)، (الثَّانِي) مبتدأ و (إضَافِيٌّ) خبره (وَذَا ** نَوْعَانِ) هذه جملة معترضة بين بها أن الحقيقي ينقسم إلى نوعين، (وَذَا) أي الحقيقي مبتدأ (نَوْعَانِ) خبر المبتدأ، وقوله: (كَذَا) (وَالثَّانِي إضَافِيٌّ كَذَا) أي مثل ذا أي الحقيقي بكونه على نوعين. إذًا ذكر في هذا البيت أن القصر ينقسم إلى نوعين. حقيقي وإضافي، وأن الحقيقي والإضافي كل منهما نوعان، وهو (نَوْعَانِ): الأول: حقيقي. والثاني: إضافي. لماذا انقسم القصر إلى نوعين حقيقي وإضافي؟

لأن تخصيص الشيء بالشيء الذي هو حقيقة القصر، إما أن يكون بحسب الحقيقة ونفس الأمر يعني بنفس في الواقع أنه خُصّ زيدٌ بكذا، بأن لا يتجاوزه إلى غيره أصلاً، لأن الأصل في كون الشيء اختص بشيء ما الذي يُفْهَم ويتبادر إلى الذهن أنه لا يتجاوزه إلى غيره، إن كان كذلك فهو الحقيقي، بمعنى أنه في نفس الأمر وحقيقة الأمر أنه عندما خُصَّ بهذا الوصف هذا الوصف لا يتجاوز زيدًا البتة، حينئذٍ يكون حقيقيًّا، إما أن يكون بحسب الحقيقة ونفس الأمر بألا يتجاوزه إلى غيره أصلاً وهو الحقيقي هذا الأول. أو بحسب الإضافة والنسبة، بمعنى أنه خُصَّ زيد بوصف باعتبار وصف آخر لا مطلقًا، أو خُصَّ زيد بوصف باعتبار عمرو لا باعتبار كل الناس وإنما هو باعتبار شيء معين. إذا التخصيص شيء بشيء قد يكون مطلقًا من كل وجه ويكون في نفس الأمر [وقد يكون] وهذا الحقيقي. وقد يكون باعتبار شيء آخر يعني بملاحظة وصف آخر. لو قلت: مَا زَيْدٌ إِلا قَائِمٌ. يعني باعتبار القعود لا باعتبار كل الصفات، وإنما نظرت القيام مقابل للقعود، فزيد قائم لا قاعد فخصصته بوصف القيام هذا المراد بكون إضَافِيًّا أي نسبيًّا، أو بحسب الإضافة والنسبة إلى شيء آخر لئلا يتجاوزه إلى ذلك الشيء وإن أمكن أن يتجاوزه إلى شيء آخر في الجملة وهو الإضافي، وهذا كقولك: ما زيد إلا قائم. بمعنى أنه يعني زيد لا يتجاوز القيام إلى القعود، أليس كذلك؟ إذا كان المقابل يظن أن زيدًا قائم أو قاعد قلت: مَا زَيْدٌ إِلا قَائِمٌ. كأنك نفيت جميع الصفات عن زيد وأثبت له القيام، هل هذا صحيح؟ لا، زيد له صفات متعددة لكن باعتبار كونه قائمًا أو قاعدًا خصصت زيد بالقيام هذا المراد بالإضافي، بمعنى أنه لا يتجاوزه أو لا يتجاوز القيام إلى القعود لا بمعنى أنه لا يتجاوز إلى صفة أخرى أصلاً هذا لا وجود له، لأنه ما من شيء موجود إلى وله عدة صفات. فالـ (حَقِيقِيٌ) حينئذٍ ما كان التخصيص فيه بحسب الحقيقة يعني بالفعل قد خُصَّ زيد بكذا واختص به ولا يتجاوزه إلى غيره البتة، حينئذٍ نقول: هذا تخصيص حقيقي بحيث لا يتجاوز المقصور ما قصر عليه إلى غيره، إذا لم يكن في البلد إلا عالم واحد ما زيد أو ما العالم إلا زيد، قصرت هنا زيد على العلم، إذا غيره ليس بعالم، إن كان كذلك فهو قصر حقيقيّ، وإن كان المرد أنه تمكن في العلم تقول: ما العالم إلا زيد. مع وجود غيره من العلماء وإنما كماله حينئذٍ صار إضافيًّا لأن القصر والتخصيص هنا باعتبار الكمال لا باعتبار وجود العلم لأن غيره مثله، حينئذٍ لو قلت: ما العالم إلا زيد وثَمَّ عمرو وبكر علماء، ماذا عنيت؟ عنيت الكمال، إذا هنا التخصيص إضافيّ وليس بنسبيّ. إذًا الحقيقي ما كان التخصيص فيه بحسب الحقيقة بحيث لا يتجاوز المقصور ما قصر عليه لغيره، والإضافي ما كان التخصيص فيه بحسب الإضافة إلى شيء آخر يعني بملاحظة وصف أو بملاحظة موصوف لا مطلقًا من كل وجه من حيث إثبات الصفة أو النفي عن الموصوف.

مَثَّلوا للحقيقي بقولهم: إنما السعادة للمقبولين. يعني الذي قُبِلَ هو الذي يكون سعيدًا، أي أن السعادة مختصة بالمقبولين بحيث لا تتجاوزهم إلى غيرهم فهذا قصر حقيقيّ، قصر صفة على الموصوف. والسعادة تختص بِمن؟ بمن قَبِلَهُ الله عز وجل {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] إذا السعادة منحصرة فيهم، هل توجد السعادة في غيرهم؟ الأصل لا، والسعادة التي يَدَّعِيها مَنْ يَدَّعِيهَا هذه سعادة موهومة، وإنما هم في أهل الإيمان والعمل الصالح.

ومَثَّلوا للإضافي بقولهم: إنما العالم زيد. جواب لمن قال: زيد وعمرو كل منهما عالم. (وَذَا ** نَوْعَانِ). (وَذَا) إذا عرفنا قوله: (القَّصْرُ نَوْعَانِ حَقِيقِيٌ ** وَالثَّانِي إضَافِيٌّ)، (وَذَا ** نَوْعَانِ) ثم قال: (كَذَا) كل من الحقيقي والإضافي ينقسم إلى قسمين، وقوله: (ذَا)، (وَذَا) أي الحقيقيّ المشار إليه الحقيقي (نَوْعَانِ)، (وَالثَّانِي إضَافِيٌّ كَذَا) أي أن الإضافي نوعان كما أن الحقيقية نوعان (كَذَا) أي مثله مثل (ذَا) أي المذكورة وهو الحقيقي بكونه على نوعين الإضافي كذلك. ثم أشار إلى نوعي كل منهما في قوله: (فَقَصْرُ صِفَةٍ عَلَى المَوْصُوفِ) الفاء هذه فاء الفصيح لأنه أفصحت عن جواب الشرط مقدر، إذا علمت أن القصر الحقيقي نوعان وأردت معرفة كل منهما (فَقَصْرُ) يعني فأولهما قصر، قصر (صِفَةٍ عَلَى المَوْصُوفِ)، (قَصْرُ صِفَةٍ عَلَى المَوْصُوفِ) أولهما (قَصْرُ صِفَةٍ عَلَى المَوْصُوفِ) وهو أي قَصْرُ الصفةٍ على الموصوف (وَعَكْسُهُ) الذي هو قصر الموصوف على الصفة، عندنا أمران صفة وموصوف، صفة القيام والموصوف كزيد أو عمرو، إما أن تقصر الصفة على الموصوف، وإما أن تقصر الموصوف على الصفة، ما حقيقة كل منهما (فَقَصْرُ صِفَةٍ عَلَى المَوْصُوفِ) نقول: حقيقة هذا النوع ألا تتجاوز صفة ذلك الموصوف إلى موصوف آخر. إذا قصرنا الصفة على الموصوف حينئذٍ إذا قلنا: ما زيد إلا عالم. حينئذٍ قصرنا قصر وصف العلم على زيد، ما العالم إلا زيد، قصرنا صفة العلم على زيد، هل هذه الصفة العلم تتعدَّى زيد في هذا النوع؟ لا، وإنما تختص به ولا تتجاوزه إلى غيره، وهو ألا تتجاوز الصفة ذلك الموصوف إلى موصوف آخر. لكن زيد هل له صفات أخرى؟ نعم له صفات أخرى. إذا الحديث عن قصر الصفة بعينها، أما الصفات الأخرى هذا قد يكون موصوفًا بصفات أخرى، وإنما يكون التخصيص تخصيص شيء بشيء باعتبار صفة معينة التي يُنَصّ عليها، وأما ما عداها يجوز أن يكون لذلك الموصوف صفات أخر. واضح هنا؟ (فَقَصْرُ صِفَةٍ عَلَى المَوْصُوفِ) بأن هذه الصفة لا تتجاوز يعني لا تتعدَّى يعني لا يتصف بها غير المقصور عليه، هل للمقصور عليه بهذه الصفة له صفات أخرى؟ نقول: نعم، يجوز له لأن يكون له صفات أخرى، فقصر هذه الصفة لا يلزم منه نفي ما عداها من الصفات، والمراد بالصفة هنا (فَقَصْرُ صِفَةٍ عَلَى المَوْصُوفِ) المراد بها الصفة المعنوية، لأن الصفة قد يراد بها النعت، هل المراد بها النعت؟ الجواب: لا. لأن النعت: هو التابع المشتق أو المؤول بالمشتق. هل المراد بالصفة هنا الصفة النحوية النعت النحوي؟ الجواب: لا، وإنما المراد به الصفة المعنوية، يعني المعنى القائم بالغير، سواء دُلّ عليه بمشتق أو بغيره، قد يجتمعان وقد يفترقان. إذًا المراد بالصفة هنا صفة معنوية، وعبَّر هو بالصفة وبعضهم يُعَبِّرُ بالوصف وكلاهما واحد، حينئذٍ الوصف المعنوي أي المعنى القائم بالغير كالجود والكرم والعلم والْحُسْن ونحو ذلك.

نقول: هذه أوصاف وهي معان قائمة بالغير هي المرادة هنا، أي المعنى القائم بالغير كالجود والكرم ونحوهما، لا النعت النحوي بعني التابع الذي يدل على معنى في متبوعه غير الشمول، وهذا يبحث عنه النحاة. قد يجتمع هنا يصدق عليه الصفة المعنوية وقد لا، فبينهما وخصوص من وجه، بمعنى أنه يجتمعان في مادة، عندنا العموم والخصوص نوعان، عموم وخصوص مطلق، وعموم وخصوص وجهي، المطلق نحتاج إلى مادتين: مادة الاجتماع، ومادة افتراق الأعم عن الأخص. ومثل قولهم: كل قول لفظ من غير عكس، هذا بينهما العموم والخصوص المطلق، فنحتاج إلى مثال في كونه قولاً ولفظ كزيد هذا قولاً ولفظًا، ويحتاج إلى مثال يصدق عليه الأعمّ الذي هو اللفظ ولا يصدق عليه الأخص الذي هو القول، وهو (ديز) مقلوب زيد، لأنه لفظ وليس بقولٍ، هنا قال: العموم والخصوص الوجهي نحتاج إلى ثلاثة مواد، مادة الاجتماع، ومادة افتراق الأعم عن الأخص، ومادة افتراق الأخص عن الأعم. فالعموم والخصوص المطلق نحتاج إلى مثالين مادتين صورتين، والعموم والخصوص الوجهي نحتاج إلى ثلاث مواد يعنى ثلاث صور ثلاث أمثلة، مادة الاجتماع يصدق عليه الأعم والأخص، ومادة يفترق فيها الأعم عن الأخص، ومادة يفترق فيه الأخص عن الأعم. النعت النحوي أو الوصف النحوي مع الصفة المعنوية التي يعنيها البيانيون هنا بينهم العموم والخصوص الوجهي، فهذا أعم معنى من النعت النحوي لتصادقهما على العلم في نحو: أعجبني هذا العلم. على تأويل العلم لأنه جامد الأصل أنه لا يكون نعتًا، وتفارقهما في مثل: العلم حسن. هذا يصدق علي ماذا؟ وصف معنوي وليس بنعت نحوي لماذا؟ لكونه خبرًا لكونه هذا حسن زيد حسن زيد مبتدأ وحسنٌ خبر، هو وصف معنوي لكنه ليس بنعت، وصف معنوي وليس نعتًا نحويًّا، ومررت بهذا الرجل. قالوا: هذا نعت نحوي لكن على التأويل، لأنه جامد لا بد أن يؤول بمشتق، الرجولة ونحوها. مررت بهذا الرجل، إذًا هذا يعتبر نعتًا نحويًّا ولا يكون وصفًا معنويًّا، وهذا النوع أعني قصر الصفة على الموصوف كثير في لسان العرب نحو: ما في الدر إلا زيد. هذا قصر صفة على موصوف، والمراد هنا القصر قصر الكينونة، والثبوت والوجود على زيد، وهذا يحتمل أن يكون حقيقيًّا لئلا يوجد في الدار إلا زيد، تنظر ليس في الدار تقول: ما في الدار إلا زيد قصرت الكينونة في الدار على زيدٍ، يكون حقيقيًّا متى؟ إذا لم يكن معهم مشارك وقد يكون إضافيًّا إذا قصدت بأن الذي له الوجود المعتبر هو زيد، ومن عداه وجود وعدمه سواء. تقول: ما في الدر إلا زيد. واضح هذا؟ فيحتمل هذا المثال لأن يكون حقيقيًّا أو يكون إضافيًّا أعني قصر الصفة على الموصوف نحو كثير هذا نحو: ما في الدار إلا زيد بما يقصد به المبالغة لعدم الاعتداد بغير المذكور حتى كأنه كالعدم، ويحتمل أنه المراد به الحقيقي إذا لم يوجد معه أحد البتة.

(فَقَصْرُ صِفَةٍ عَلَى المَوْصُوفِ) عرفنا المراد (قَصْرُ صِفَةٍ عَلَى المَوْصُوفِ) ألا تتجاوز هذه الصفوة موصوفها، يعني تختص به، ولا يَمْنَع أن يكون الموصوف صفات أخر غير الذي ثبت له، عكسه (وَعَكْسُهُ) أي قصر الموصوف على الصفة (عَكْسُهُ) أي خلاف العكس المراد به هنا العكس اللغوي، ليس العكس الاصطلاحي الذي تحدث عنه المناطقة، والعكس لازم، (وَعَكْسُهُ) أي عكس (قَصْرُ صِفَةٍ عَلَى المَوْصُوفِ) هو قصر الموصوف على الصفة، (عَكْسُهُ) أي عكس المذكور الأول وهو قصر الصفة على الموصوف هذا هو عين الأول خلافه الذي يقابله قصر الموصوف على الصفة، وهو حقيقته ألا يتجاوز الموصوف تلك الصفة إلى صفة أخرى، الموصوف ليس له صفة إلا هذه الصفة، لكن يجوز أن تكون تلك الصفة لموصوف آخر عكس السابق، هنا إلا يتجاوز الموصوف يعني المقصور عليه ألا يتجاوز تلك الصفة لكن هذه الصفة يجوز أن تكون لموصوف آخر (مِنْ نَوْعِهِ) المعروف وهي الأربعة أقسام الآتية يعني عند البيانين، (مِنْ نَوْعِهِ) المعروف: المعروف عند من؟ عند أهل المعاني الصادق بفردية أعني الحقيقي والإضافي، فالأول من الحقيقي إذا علمنا الآن أن عندنا قصر صفة على موصوف هذا نوع، وعندنا قصر موصوف على صفة وكل منهما إما حقيقيّ وإما إضافيّ، فعندنا قصر موصوف على صفة حقيقي. وقصر موصول على صفة إضافي. وقصر صفة على موصوف حقيقي. وقصر صفة على موصوف إضافي. حينئذٍ القسمة رباعية، ولذلك قال بعض الشراح: (وَعَكْسُهُ مِنْ نَوْعِهِ المَعْرُوفِ) وهي الأربعة الأقسام الأربعة الأنواع: فالأول من الحقيقي وهو قصر الصفة على الموصوف كما مرّ في المثال السابق (ما في الدار إلا زيد) قصرنا صفة الكينونة على زيد. والثاني من الحقيقي وهو قصر الموصوف على الصفة نحو: (ما زيد إلا كاتب)، إذا أردنا أنه لم يتصف إلى بوصف بالكتابة هذا كمثال فقط، وإلا ليس بصحيح، يعني زيد ليس له أي صفة أخرى فقط كاتب، لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا .. إلى آخره، فنُفِيَتْ عنه جميع الصفات ولم يكن له إلا صفة واحدة، وهذه الصفة كما أنها مقصورة عليه لا يمنع أن تكون لموصوف آخر عمرو وخالد .. إلى آخره، قصر الموصوف على الصفة (نحو ما زيد إلا كاتب) إذا أريد أنه لا يتصف بغير الكتابة يعني ينقسم الحقيقي أي لا صفة له غيرها، لا صفة لزيد غير الكتابة، إذا أريد بأنه من قصر الموصوف عل الصفة قصرت زيد من الناس على وصف واحد وهو الكتابة ولا يتعداه البتة، يعني لا يوصف بأي وصف آخر غير الكتابة، وأما الكتابة فهي صفة لزيد ولغيره وهو عزيز لا يكاد يوجد، هذا غير موجود، وهو عزيز لا يكاد يوجد هكذا قال السيوطي في ((عقود الجمان)) لتعذر الإحاطة بصفات الشيء حتى يمكن إثبات شيء منها ونفي ما عداها بالكلية، ويمكن وجه آخر وهو أحسن أن يقال: ما من موجود يتصور وجوده إلا وهو متصف بصفات المتعدى ليس له صفة واحدة، يعني كونه موجود هذه صفة، كونه إنسان صفة أخرى، فكيف يقصر على صفة واحدة؟ واضح هذا؟ يعني كونه موجودًا هذه صفة، كونه إنسانًا هذه صفة أخرى يكفي هذا، يكفي في كونه يتصف غير صفة الوجود مثلاً.

فأقسام القصر أربعة، لأنه قصر حقيقي وغير حقيقي وهو الإضافي كما مر، وكل واحد منهما ضربان: قصر موصوف على الصفة. وقصر الصفة على الموصوف. والأول من الحقيقي كقولك في ما مرّ: ما زيد إلا كاتب. إذا أردت ألا يتصف بصفة غير الكتابة، يعني لا صفة له غيرها، وهذا لا يكاد يوجد في الكلام لأنه ما من متصور إلا وتكون له صفات تتعدّى الإحاطة بها أو تعسر، والثاني منه يعني قصر الصفة على الموصوف حقيقي ما في الدار إلا زيد، ومرّ معنا، والفرق بينهما ظاهر فإن الموصوف في الأول لا يمتنع أن يشاركه غيره في الصفة المذكورة: ما زيد إلا كاتب. وقصر الموصوف على الصفة، قلنا: هذا نادر. لكن هل يمكن أن يشاركه غيره؟ نعم، والثاني الذي: ما في الدار إلا زيد يمتنع مشاركته غيره له. إذا قلت: ما في الدار إلا زيد. يعني لا يوصف بالوجود في الدار إلا واحد فقط وهو زيد، هذا يمتنع أن يشاركه غيره، لماذا؟ لأنه من قصر الصفة على الموصوف، وأما قصر الموصوف على الصفة فهذا لا يمتنع الشركة: ما زيد إلا كاتب. إذًا غير زيد كاتب كذلك يوصف بالكتابة، ومثال الأول من الإضافة [قصر الصفة] لا قصر الموصوف على الصفة: ما زيد إلا كاتب، لمن اعتقد اتصافه بالكتابة والشعر، يعني ما زيد إلا كاتب يحتمل أن يراد به ماذا؟ الحقيقي، قلنا: هذا ممتنع لكن له وجه آخر يعني اللفظ جائز لكن باعتبار آخر وهو أنه يكون في مقابلة ماذا؟ في مقابلة من اعتقد أنه كاتب يعني كصحفي مثلاً وشاعر، حينئذٍ نقول: ما زيد إلا كاتب. يعني لا شاعر، حينئذٍ ما زيد إلا كاتب لمن اعتقد اتصافه بالكتابة والشعر فجاز التركيب، أما كونه من قصر الموصوف على الصفة وهو حقيقي، لا، وإنما يكون من الإضافي. ومثال الثاني منه يعني قصر الصفة على الموصوف: ما كاتبٌ إلا زيد. انتبه أن المقصور عليه هو الذي يكون بعد إلا، هذا في ما إلا، وأما في إنما فهو الذي يكون متأخرًا {إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ} [النساء: 171] حصرت الله عز وجل قصرته على الإلوهية {إِلَهٌ وَاحِدٌ}، ما زيد إلا عالم، المقصور عليه عالم، ما عالم إلا زيد المقصور عليه زيد، واضح هذا؟ إذًا ما بعد إلا هو المقصور عليه، وأما في (إِنَّمَا) فإنما يكون المتأخر، إنما زيد عالم. المقصور في عالم، إنما العالم زيد المقصور في زيد، واضح؟ انتبه! إذا المثال الثاني منه أي قصر الصفة على الموصوف ما كاتب إلا زيد عكس الأول. الأول قلنا ما زيد إلا كاتب هنا قصر الصفة على الموصوف ما كاتب إلا زيد، زيد هو الموصوف وقصرت عليه صفة الكتابة، هذا لمن اعتقد اشتراك زيد وعمرو في الكتابة، لمن اعتقد أن زيد من الناس عمرًا اشتركا في الكتابة وعمر ليس بكاتب، حينئذ تقول: ما كاتب إلا زيد. جعلت زيدًا الموصوف مقصورٌ عليه وصف الكتابة هذا من في مقابلة من اعتقد الاشتراك بين زيد وعمرو، ما كاتب إلا زيد لمن اعتقد اشتراك زيد وعمرو في الكاتبة ويسمى هذا قصر إفراد. القصر للإضافي ثلاثة أنواع:

(قصر إفراد، وقصر قلب، وقصر تعيين) وهذه الثلاثة إنما هي متعلقة بالإضافي دون الحقيقة، إذا كان في مقابلة من اعتقد الشَّرِكَة يكون إفرادًا، يعني من اسمه، القلب فيه قلب، والتعيين في تعيين، والإفراد فيه إفراد. إذًا إذا اعتقد الشَّرِكَة بين زيد وعمرو في الكتابة وواحد منهما ليس كذلك (ما كاتب إلا زيد) هذا يسمى قصر إفراد، ويسمى هذا قصر إفراد وهو تخصيص أمر بأمر دون آخر جوابًا لمن اعتقد اشتراكهما فيه. وهذا هو القسم الأول من الإضافي. الثاني قصر القلب: وهو تخصيص أمر بأمر مكان آخر اعتقد السامع فيه العكس، قلب يعني تقلب عليه هو اعتقد أن العالم زيد وهو ليس بزيد إنما هو عمرو، حينئذ تقلب عليه الاعتقاد، مثال في قصر الموصوف ما زيد إلا عالم لمن اعتقد أنه جاهل يعني هو المتعلَّق واحد لكن الصفة تختلف، إذا اعتقد ... [أن زيد عالمًا] (¬1) أن زيد جاهل حينئذ تقلب عليه تقول: (ما زيد إلا عالم) هذا قصر الموصوف على الصفة لمن أعتقد أنه جاهل. ومثاله في قصر الصفة على الموصوف (مَا الْعَالِمُ إِلا زَيْدٌ) لمن اعتقد أن العالم عمرو. إذًا قد يكون في قلب قصر صفة على الموصوف لمن ادَّعَى بأن زيدًا جاهل فتقلب عليه، أو ادَّعَى أن العالم عمرو وليس بزيد فتقلب عليه. والثالث قصر التعيين وهو تخصيص أمر بأمر مكان آخر أشكل على السامع تعيين أحدهما. يعني جوز الأمرين، قال: زيد شاعر أو كاتب. يحتمل هذا وذاك تأتي تعيِّن له مَا زَيْدٌ إِلا شَاعِرٌ، أَوْ إِلا قَائِمٌ. مثالٌ في قصر الموصوف مَا زَيْدٌ إِلا قَائِمٌ لمن تردد في قيامه وقعوده، زيد قائم أم لا؟ تردد لم يُعَيَّن له فتأتي بالقصر من أجل التعيين، هو جوَّز الأمرين وتصور الطرفين حينئذٍ تأتي بقولك: مَا زَيْدٌ إِلا قَائِمٌ من أجل الجواب عنه. ومثال في قصر الصفة (مَا قَائِمٌ إِلا زَيْدٌ) لمن تردد في أن القائم زيدٌ أو عمرٌو (ما قائمٌ إلا زيدٌ) فهذه الأقسام الثلاثة الإفراد والقلب والتعيين إنما هي خاصةٌ بالإضافيّ دون الحقيقيّ. فَقَصْرُ صِفَةٍ عَلَى المَوْصُوفِ ... وَعَكْسُهُ مِنْ نَوْعِهِ المَعْرُوفِ طُرُقُهُ النَّفْيُ وَالاِسْتِثْنَا هُمَا ... وَالْعَطْفُ وَالتَقْدِيمُ ثُمَّ إِنَّمَا ¬

_ (¬1) سبق.

فيما مر تخصيص شيءٍ بشيءٍ بطريقٍ، ما هو هذا الطريق؟ يعني إذا أردنا التخصيص كيف نأتي به؟ بأي كلام بأي تركيب؟ الجواب: لا، العرب لها طرق أربع مشهورة في القصر تخصيص شيء بشيء، قصر صفة على موصوف أو العكس، وهذه المشهورات وغيرها زِيد عليها لكنها ليست مشهورة، فـ (طُرُقُهُ) يعني طرق القصر جمع طريق، يعني السبيل الذي يكون إلى القصر كيف يكون أربعة على ما ذكره الناظم: (النَّفْيُ وَالاِسْتِثْنَا) طريق واحدة هذا ليس النفي طريقًا والاستثناء طريقًا، لا، إنما اجتماعهما معًا هما طريق واحد ولذلك قال: (هُمَا). يعني معًا طريق واحد. فقوله: (هُمَا) هذا دفع لوَهَمٍ قد يتوهم فيه الطالب بأن النفي طريق، والطريق الثاني (الاِسْتِثْنَا)، فدفع هذا الوهم قال: لا. (طُرُقُهُ النَّفْيُ وَالاِسْتِثْنَا هُمَا) معًا طريق واحد كما مر معنا في الأمثلة السابقة، مَا قَائِمٌ إِلا زَيْدٌ، مَا نافية وإلا استثنائية. (هُمَا) طريق واحد والمراد بالنفي هنا أحد أدواته سواء كان حرفًا أو كان اسمًا أو كان فعلاً، ليس زَيْدٌ إِلا قَائِمًا، نفي هنا ليس فعل غير زيد إلا قَائِمٌ هذا الاسم، و (الاِسْتِثْنَا) المراد به إلا على جهة الخصوص، مثال في قصر الموصوف على الصفة إفرادًا ما زَيْدٌ إِلا شَاعِرٌ، هنا قصر الموصوف على الصفة ولذلك جاءت الصفة بعد إلا وقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} [آل عمران: 144]. وقلبًا مَا زَيْدٌ إِلا قَائِمٌ، وفي قصر الصفة على الموصوف إفرادًا مَا شَاعِرٌ إِلا زَيْدٌ، وقلبًا مَا الْعَالِمُ إِلا زَيْدٌ لمن اعتقد أن العالم عمرو، يقال فيها ما قيل فيما سبق، لا نقف مع كل مثال، والكل يصلح مثالاً للتعيين والتفاوت إنما هو بحسب اعتقاد المخاطب. يعني: إذا قلت: مَا زَيْدٌ إِلا قَائِمٌ هذا يحتمل أنه إفراد أو قلب، والذي يعين هو ما يكون باعتقاد المخاطب، والذي يُظهر اعتقاد المخاطب وهو غيب ما يكون من القرائن والأحوال، هل المخاطب يُنْكر؟ هل المخاطب ادعى شيئًا فتقلبه عليه؟ هل شك في أمرين وعَيَّن؟ هذا كله باعتبار المخاطب.

وتحقيق القصر في قصر الموصوف على الصفة هنا في ما وإلا كيف جاء القصر؟ كيف جاء التخصيص؟ ما وجهه؟ قالوا: أنه إذا قيل مثلاً: مَا زَيْدٌ. قبل أن تقول: إِلا قَائِمٌ لو قلت: مَا زَيْدٌ. توجه النفي هنا إلى أي شيء؟ عندنا أمران إما ذات زيد، وإما صفة زيد. الذوات لا تنفى، وإنما الذي ينفى أوصاف الذوات، ولذلك {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] يعني نكاحًا لأن لا يتعلق تحريم بالذوات، فـ مَا زَيْدٌ هنا احتمالان أن الذي ينفى الذوات. قلنا: هذا ممتنع. بقي ماذا؟ بقي الصفة. من الصفات ما هو متفق عليه ولا يتعرض له كطوله مثلاً أو قصره أو نحو ذلك، ومنه ما قد يختلف فيه النظر كالشاعرية والكتابة، حينئذٍ يتعين الثاني دون الأول. فإذا قلت: مَا زَيْدٌ. توجه النفي إلى صفته لا إلى ذاته، لماذا؟ لأن نفي الذوات يمتنع نفيها، وإنما ينفى صفاتها، لأن الذي يمتنع نفيه يعني: لا يوجد، أن لا يوجد ولذلك نقول مثلاً إذا قيل: لا زَيْدٌ فِي الدَّارِ وَلا عَمْرٌو. يعني: وجود زيد وليس المراد ليس بزيد وإنما وجود زيد، وحينئذٍ لا نزاع في طوله وقصره ونحوهما من الصفات لأنه متفق عليه عمرو ثابت تراه طويلاً، والأصل في الناس يتفقون على أن الطويل طويل وعلى أن القصير قصير لا يختلفون، قد يقع اختلاف باعتبار الناظر، وإنما النزاع في كونه شاعرًا أو كاتبًا حينئذٍ تناولهما النفي، ما زيد المقصود به الكتابة أو الشاعرية. ثم إذا قال: إِلا شَاعِرٌ. جاء التخصيص والقصر حينئذٍ قوله: إِلا شَاعِرٌ. إذا كان المقابل بقصره هنا الموصوف على الصفة في كون عمرو مثلاً شاعر وهو ليس بشاعر، وإنما أردت قصر الموصوف على هذا الوصف. فإذا قلت: مَا زَيْدٌ شَاعِرٌ أَوْ كَاتِبٌ حينئذٍ قلت: إِلا شَاعِرٌ. حصل التخصيص بكون زيدًا شاعرًا لا غير كما في الآية السابقة {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} إذًا النزاع في كونه شاعرًا أو كاتبًا تناولهما النفيّ، فإذا قيل: إلا شاعر. جاء القصر. إذًا الصفة التي جاءت بعد إلا مع مقابلها هي التي دخل عليها النفي. يعني: النفي ما زيد لم يدخل على الذات لما عرفنا لم يدخل على الصفات المتفق عليها وإنما دخل على الصفات المتنازع فيها، فلما جاءت إلا بالتنصيص على إحدى الصفات حصل القصر وجاء القصر. هذا في قصر الموصوف على الصفة.

وفي قصر الصفة على الموصوف أنه متى قيل: مَا شَاعِرٌ. فأُدْخِل النفي على الوصف الْمُسَلَّم ثبوته يعني: متفق على أن هذا الوصف مُسَلَّمٌ لكن محله زيد أو عمرو؟ هو الذي وقع فيه النزاع، فأُدْخِلَ النفي على الوصف الْمُسَلَّم ثبوته أعني الشعر لغير من الكلام فيهما كزيد وعمرو مثلاً، توجه النفي إليهما، إذا كان الحديث أو المقام يقتضي أن يكون بين ذاتين والمراد بهما زيد أو عمرو حينئذٍ مَا شَاعِرٌ توجه النفي إلى وصف زيد بالشاعرية أو وصف عمرو بالشاعرية، فإذا قلت: إِلا زَيْدٌ. حينئذٍ أخرجت عمرًا فقصرت الحكم على زيد. فإذا قيل: إلا زيد. جاء القصر (طُرُقُهُ النَّفْيُ وَالاِسْتِثْنَا هُمَا) طريق واحد لا اثنين هذا هو الطريق الأول وهو أقواها في القصر هو هذا النوع، ولذلك جاء لا إله إلا الله، جاءت على أعلى درجات القصر، لا معبود بحق إلا الله، وكل ما يأتي ما عداها في القرآن فإنما يكون مرتبة ثانية {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [طه: 98] إله واحد، هو حصر وقصر لكنه ليس في القوة كـ لا إله إلا الله، (وَالْعَطْفُ) هذا النوع الثاني أي: ومن طرق القصر العطف بلا أو بل، هذا المراد به هنا (بل، لا) فكقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادًا. زَيْدٌ شَاعِرٌ لا كَاتِبٌ، هنا قصر الموصوف على الصفة [وقلبًا] إفرادًا وقلبًا زَيْدٌ قَائِمٌ لا قَاعِدٌ لمن يعتقد العكس، فإن لا العاطفة نفت في الأول الكتابة عن زيد وقد أثبتت له الشعر أولاً، فحصلت قصر زيدٍ أي: حبسه على الشعر وعدم مجاوزته للكتابة، زَيْدٌ شَاعِرٌ لا كَاتِبٌ، لا أثبتت ونفت، أثبتت ماذا؟ الشاعرية لزيد، ونفت عنه وصف الكتابة. وفي الثاني زَيْدٌ قَائِمٌ لا قَاعِد نفت لا القعود عنه، زيد قائم لا قاعد نفت عنه القعود، وقد أثبتت له القيام أولاً قبل النفي وحَصَّلَت قصره على القيام وقلبت اعتقاد المخاطب كونه قاعدًا. ومثل لا بل، فقولك: بقصر الموصوف على الصفة إفرادًا: مَا زَيْدٌ قَائِمًا بَلْ قَاعِدٌ. هي حصر وقلبًا: ما عمرو شاعر بل زيد. وتقول في قصر الصفة على الموصوف إفرادًا وقلبًا في العطف بـ لا: زيد شاعر لا عمرو. لمن اعتقد أن عمرًا شاعر لا زيد فيكون قصر إفرادٍ، أو اعتقد أن عمرًا شاعر لا زيد فيكون قصر قلب يعني: باعتبار المخاطب، إن كان المراد به قلب حينئذٍ صار قصر قلب، إن كان فيه تشريك فحينئذٍ صار قصر إفرادًا. وتقول في قصر الصفة على الموصوف إفرادًا في العطف بـ بل: لَيْسَ عَمْرًا شَاعِرًا بَلْ حَامِدٌ هنا نفيت ما قصرت الصفة على الموصوف وقلبًا: ما زيد قائمًا بل قاعد. إذًا العطف بـ لا أو بـ بل في النوعين قصر الصفة على الموصوف أو قصر الموصوف على الصفة يعتبر طريقًا من طرق القصر، وتبين المسائل كما مضى.

(وَالتَقْدِيمُ) أي من طرق القصر تقديم ما حقه التأخير وهذا مرّ معنا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] هذا فيه تقديم المعمول على عامله، وهو أسلوب من أساليب القصر والحصر، تقديم ما حقه التأخير كتقديم المعمول على العامل فإنه يفيد الحصر، نحو: بنا مَرَّ. مرَّ زيد بنا، بنا لا بغيرنا. فيه قصر الصفة على الموصوف، وتَمِيمِيٌّ أَنَا يعني: لا قيسيّ. تَمِيمِيٌّ أَنَا هنا قدَّم الخبر على المبتدأ، تَمِيمِيٌّ هذا خبر مقدم وأَنَا مبتدأ مؤخر في قصر الموصوف على الصفة، أي لا قيسي ليس من قيس. إما قصر تعيين وذلك إذا قلته لمخاطب يدَّعِي أنك من قيس تردد أو من تميم من غير ترجيح، وإما قصر قلب إذا قلت لمخاطب يدعي أنك من قيس، وتَمِيمِيٌّ أَنَا، ولا يصلح مثال لقصر الإفراد بتنافي الوصفين، يعني لا يعتقد أنك تميمي وقيسي في وقت واحد، تحتاج إلى تعيين وهذا لا يتأتى، ومثاله قول: شَاعِرٌ أَنَا. لمن اعتقدك شاعرًا أو كاتبًا، واضح هذا؟ (وَالتَقْدِيمُ) يعني بما حقه التأخير، والمثال الأشهر {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، ... {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ} [المائدة: 23] فتوكلوا على الله، سواء كان المقدم مفعولاً به أو جارًا ومجرورًا أو غيره كما مر بالأمس زَيْدًا ضَرَبْتُ، يعني لا غيره. زَيْدًا ضَرَبْتُ لا غيره. (ثُمَّ) للترتيب الذكري (إِنَّمَا) يعني ومن طرق القصر (إِنَّمَا) بكسر الهمزة أثبته الجمهور ونفاه كثير، يعني فيه خلاف (إِنَّمَا) أَنَّمَا أثبتها الزمخشري. ومثال قصر الصفة على الموصوف إفرادًا بـ إنما قوله تعالى: {إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171]. وعرفنا أن المقصور يأتي متأخرًا، وقلبًا إنما زيد قائم. وقصر الصفة على الموصوف إفرادًا وقلبًا: إنما قائم زيد. قصر الصفة على الموصوف. هذه الطرق الأربعة هي المشهورات عند البيانيين، يعني: الحصر والقصر إنما يكون بـ (النفي والاستثناء، والعطف، والتقديم لما حقه التأخير، وإنما). فهذه الطرق الأربعة منها بعد ما عرفناها ما يدل على القصر بالوضع، ومنها ما يدل على القصر بفحوى الكلام يعني: بالمفهوم مع دلالة العقل، ولذلك قال الناظم: (دِلالَةُ التَّقْدِيمِ بِالفَحْوَى) يعني بمفهوم الكلام ليس بالنص، (وَمَا ** عَدَاهُ بِالْوَضْعِ) يعني: بوضع العرب لهذا المعنى هذا التركيب، ووضعت العرب (ما) و (إلا) منطوقًا بهما لإفادة القصر، و (إنما) منطوق بها لإفادة القصر، و (لا) و (بل) لإفادة القصر بأنواعه، بقي ماذا؟ التقديم، التقدِيم العرب لم تقدم وتؤخر في الأصل، وإنما وضعت الترتيب العام الذي يسمى الوضع النوعي، ثم إذا قدم وأخر المتكلم فحينئذٍ يكون شيئًا من عند نفسه أراد به معنًى تعلق في ذهنه وهو الحصر والقصر. إذًا الذي يُفهم من دلالة التقديم من حيث كونه قصرًا إنما هو بالعقل يعني: فحوى الكلام. والذي يُفهم من دلالة القصر لبقية الأنواع الثلاث حينئذٍ نقول: هذا بالوضع. والمسألة طويلة عريضة في كتب البيانيين والأصوليين.

قال الناظم: (دِلالَةُ التَّقْدِيمِ بِالفَحْوَى). (دِلالَةُ التَّقْدِيمِ) يعني تقديم ما حقه التأخير على القصر (بِالفَحْوَى) يعني مفهوم الكلام، ولا شك أن عندنا منطوق وعندنا مفهوم، وهما متقابلان (وَمَا ** عَدَاهُ) أي الذي عداه. أي عدا التقديم الوضع، إيش إعراب الوضع؟ خبر ماذا؟ .. ما الذي عدا تقديم فحوى. .. أي؟ الوضع مبتدأ [نعم]؟ . خبر ما، نعم خبر ما، مَا والذي عداه والذي عدا التقديمَ أو التقديمِ يجوز الوجهان، عداه الوضع يعني: والذي عداه يعني: والذي تجاوز التقديم، وهو الثلاثة الأخر النفي والاستثناء والعطف وإنما بالوضعِ نعم متعلق محذوف، والذي عداه كائن بالوضعِ أنا قلت: الوضعُ بالوضعِ كائن بالوضعِ هو خبر لكنه متعلق بمحذوف. إذًا (وَمَا) أي والذي هذا مبتدأ، (عَدَاهُ). أي عدا التقديم وهو ثلاثة (النفي، وإلا، والعطف بـ لا وبمن وإنما)، (بِالْوَضْعِ) أي كائن وثابت (بِالْوَضْعِ) يعني وضع اللغة الذي يسمى الوضع اللغوي، وجزم العقل كذلك لأن العقل يستعمل في الاستنباط فقط، تقول: الأصل موضوعًا (بِالْوَضْعِ) اللغوي ثم العقل له مجال في الفهم. أليس كذلك؟ وَعُرِّفَتْ بِالنَّقْلِ لاَ بِالْعَقْلِ ... فَقَطْ بَلِ اسْتِنْبَاطُهُ ..... هكذا يقول السيوطي في ((الكوكب))، وعُرِفَتْ يعني اللغة. وعرفت بالنقل لا بالعقل بل استنباطه، العقل يستنبط فقط يستنبط من اللغة، فدلالة التقديم على القصر ليست بطريق الوضع، لأنه لم يوضع لمعنى حتى يستدل العقل على إفادته القصر، التقديم أمر معنوي، كونك قدمت وأخرت نقول: هذا شيء معنوي، وإنما بفحوى ومفهوم الكلام، بمعنى أنه إذا تأمل ذو الذوق السليم فيه فهم القصر وإن لم يعرف اصطلاح البلغاء في ذلك. وأما البواقي فإنها تفيده بالوضع، لأن الواضع واضع اللغة على الخلاف فيه ووضعها لمعاني تفيد القصر، فالانتقالُ فيها إليه وضع لا يحتاج إلى تتبع تراكيب البلغاء. فحينئذٍ نقول: مفهوم القصر من التقديم مدرك بالعقل، يعني فحوى الكلام، والقصر من بقيت الثلاثة مدرك (بِالْوَضْعِ) يعني العرب وضعت هذه الألفاظ للدلالة على القصر، وأما التقديم فلم تضعه العرب ابتداءً وإنما فهمه الناظر أو السامع من فحوى الكلام. ثم قال: (وَأَيْضًا مِثْلَ مَا

الْقَصْرُ بَيْنَ خَبَرٍ وَمُبْتَدَا ** يَكونُ بَيْن فاعِلٍ) وفعل (بين فعل وفاعل) إلى هنا ينتهي البيت (¬1) (وَأَيْضًا مِثْلَ مَا الْقَصْرُ بَيْنَ خَبَرٍ وَمُبْتَدَا) يعني مثل ما يكون القصر بين خبر ومبتدأ، وهذا عرَّجنا عليه في أول البحث يعني يكون القصر بين مبتدأ وخبر وهذا واضح. قال: كذلك يكون بين فعل وفاعل. ما قام إلا زيد هذا حصل القصر بين ماذا هنا؟ بين الفعل والفاعل ما زيد إلا قائم بين مبتدأ وخبر هذا مراده بالبيت، (وَأَيْضًا) مصدر آضَ إذا رجع منصوب على المفعولية المطلقة دائمًا والعامل فيه محذوف وجوبًا (مِثْلَ مَا) مثل الذي يكون القصر بين خبر ومبتدأ كما تقدم الأمثلة السابقة يكون بين فعل وفاعل نحو: ما قام إلا زيد. وغيرها كالفاعل والمفعول نحو: ما ضرب عمرًا إلا زيدٌ. والمفعولين كذلك ما أعطيت زيدًا إلا درهمًا يعني لم أعطيه شيئًا من الأشياء إلا درهمًا وغير ذلك من المتعلقات. إذًا القصر يكون في الجملة الاسمية بين المبتدأ والخبر، ويكون في الجملة الفعلية. يكون بين ركني الإسناد المبتدأ والخبر، وفعل وفاعل، ويكون بين متعلقات كذلك كالحال وبنا جار ومجرور. ثم قال: ............... ... ................. وَمَا بَدَا مِنْهُ فَمَعْلُومٌ وَقَدْ يُنَزَّلُ ... مَنْزِلَةَ المَجْهُولِ أَوْ ذَا يُبْدَلُ خليكم معي (وَمَا بَدَا مِنْهُ) يعني والذي ظهر (بَدَا) بمعنى ظهر (مِنْهُ) أي من القصر. (فَمَعْلُومٌ) أي: جار على مقتضى الظاهر. والمراد - انتبه لهذه المسألة - أن أصل النفي والاستثناء أن يكون لمخاطب يجهل ما استُعْمِل له، إذا استعملت القصر بما وإلا الأصل أن يكون المخاطب يجهل ما استعمل فيه ما وإلا، وهو إثبات الحكم المذكور إن كان قصر إفراد أو نفيه إن كان قصر قلبٍ وينكره. إذًا المراد هنا أن المخاطب إنما يخاطب بشيءٍ يجهله. إذًا هذا الأصل بخلاف إنما فإن أصله أن يكون الحكم مما يعلمه المخاطب. إذًا إذا قصرت شيئًا بما وإلا فالمخاطب الأصل فيه أنه يجهله، وإذا قصرت بـ إنما فالأصل أنه يعلمه. إن فعلت هذا على هذا النمط فهو على وفق الظاهر، وقد يعكس يعني: يستعمل ما وإلا في المعلوم، ويستعمل إنما في المجهول، واضح؟ إذًا الثاني أن نقول: خرج عن مقتضى الظاهر. ولذلك قال: (وَمَا بَدَا) أي ظهر (مِنْهُ) أي من القصر (فَمَعْلُومٌ) أي جارٍ على مقتضى الظاهر فيما ذكرناه سابقًا، أن أصل النفي والاستثناء لكل مخاطبٍ يجهل ما استُعمل له، والذي استُعمل له ما هو إثبات الحكم المذكور ونفيه على جهة القصر قصر إفراد أو غيره بخلاف إنما فإن أصله أن يكون الحكم من ما يعلمه المخاطب ولا ينكره. ¬

_ (¬1) البيت هكذا: الْقَصْرُ بَيْنَ خَبَرٍ وَمُبْتَدَا ... يَكونُ بَيْن فاعِلٍ وَمَا بَدَا

مثال الأول قال: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [ص: 65]. وقد يخرج عن ذلك فينزل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب، ولذلك قال:: (وَقَدْ يُنَزَّلُ) (قَدْ) للتحقيق (قَدْ يُنَزَّلُ) ما هو؟ (وَقَدْ يُنَزَّلُ) المعلوم [أحسنت] المعلوم (وَقَدْ يُنَزَّلُ) نائب الفاعل يعود إلى المعلوم (يُنَزَّلُ ** مَنْزِلَةَ المَجْهُولِ)، إذًا (يُنَزَّلُ ** مَنْزِلَةَ المَجْهُولِ) ما الذي يُنَزّل مُنَزّلة المجهول؟ هو المعلوم، إذًا الضمير نائب الفاعل يعود إلى (مَا)، (وَقَدْ يُنَزَّلُ) المعلوم (مَنْزِلَةَ المَجْهُولِ) يجوز فيه الوجهان هذا من ما ينكر عليه، دائمًا تقول يُنَزَّلُ مُنَزلَةَ والشائع عند أهل العلم (يُنَزَّلُ ** مَنْزِلَةَ) وهذا الذي استخدمه هنا أقول: يجوز الوجهان. نَزَلَ مَنْزِلَةَ هذا واضح أنه بالتخفيف، وَيُنَزَّل يجوز فيه الوجهان في المقابل مُنَزَّلَةَ وَمَنْزِلَةَ يجوز فيه التشديد ويجوز فيه التخفيف، (وَقَدْ يُنَزَّلُ ** مَنْزِلَةَ المَجْهُولِ) لاعتبار المناسب يعني لاعتبار المقام فيستعمل له القصر بما وإلا إفرادًا وقلبًا، مثال الإفراد {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} [آل عمران: 144] هذه الآية خوطب بها الصحابة والأصل في الاستعمال ما وإلا أن يكون المخاطب يجهل ما دل عليه أو دلت عليه الجملة، وهل الصحابة يجهلون أن محمد رسول؟ يجهلون؟ لا. إذًا هنا نُزِّلَ المخاطب مُنَزّلة من يجهل ما دلت عليه الجملة، واضح هذا؟ الأصل في استعمال ما وإلا أن يكون المخاطب يجهل ما دلت عليه الجملة وهنا هذا الأصل لما كان الخطاب للصحابة يعلمون أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رسول، إذًا لماذا جيء بما وإلا؟ لا بد من فائدةٍ أخرى، المراد هنا الشاهد أنه استُعمل التركيب في من يَعْلَمُ ونُزِّلَ مُنَزّلة الجاهل، أي هو مقصورٌ على الرسالة هذا كلام السيوطي في ((شرح عقود الجمان)) فيستعمل له القصر نعم {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} أي هو مقصورٌ على الرسالة لا يتعداها. إلى أي وصفٍ؟ إلى التبري من الهلاك، فإنه خطابٌ للصحابة وهو عالمون بأنه غير جامعٍ للرسالة والتبرئ من الهلاك لكنهم لما استعظموا مماته نُزِّلَ مُنَزّلَة إنكارهم إياه فاستُعمل له النفي وإلا، يعني الصحابة ماذا؟ كان يظن بعضهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعتريه الموت، فلما نزلت الآية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} إذًا هو مقصورٌ على الرسالة ولا يكون مقصورًا على عدم الهلاك، يعني بمعنى أن عدم الهلاك ليس وصفًا مختصًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يموت، بل هو بشرٌ كسائر البشر فيلحقه الموت، وإنما هو مقصورٌ على الرسالة، والرسالة لا ينافيها الموت. إذًا نُزِّلَ الصحابة لكون بعضٍ قد أنكر أو كاد أن ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - مات نُزِّلَ مُنَزّلة أنه لا يعرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مختصٌ بالرسالة. إذًا قوله: هو مقصورٌ على الرسالة لا يتعداها إلى التبري من الهلاك.

يعني لا يتبرأ لكونه رسولاً لا يتبرأ من الهلاك الذي هو الموت فإنه خطابٌ للصحابة وهم عالمون بأنه غير جامعٍ للرسالة والتبرئة من الهلاك لكنهم لما استعظموا موته نُزِّلَ مُنَزّلة إنكارهم إياه فاستعمل له النفي وإلا. مثال القلب - يحتاج إلى تأمل - قوله تعالى: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} [إبراهيم: 10] الأول قصر إفرادٍ يعني: قصر على الرسالة دون التبري من الموت هنا قصر قلبٍ {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} فالمخاطبون مَنْ؟ الرُّسل المخاطَبون بهذا الخطاب الرسل، والمخاطِبون هم الكفار {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} فالمخاطَبون وهم الرسل لم يكونوا جاهلين بأنه بشر أليس كذلك؟ لأن الخطاب هنا {إِنْ} هذه الـ (إن إيش نوعها؟ نافية الدليل {إِلاَّ} في جوابها {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ} الأصل في [ما {إِلاَّ}] (¬1) {إِنْ} و {إِلاَّ} أن يكون المخاطب يجهل إذًا الرسل على هذا يجهلون أنه بشر؟ ليس المراد ذلك. لأن الرسل لم يكونوا جاهلين بأنهم بشر ولا منكرين لكنهم نُزِّلُوا مُنَزّلة المنكرين لاعتقاد القائلين لهم اعتقاد وهو الكفار أن الرسول لا يكون بشرًا، أليس كذلك؟ الرسول لا يكون بشرًا مع إصرار المخاطبين وهم الرسل على إدعاء الرسالة، هم أرادوا أن ينفوا الرسالة، لماذا؟ بكونهم بشرًا والرسالة لا تجامع البشرية عندهم. قالوا: {قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} [يس: 15] إذا كنتم أنتم بشر حينئذٍ لا يكون رسولاً إلا من كان ملك وأنتم لستم ملائكة إذًا أنتم لستم برسل هذه النتيجة. على إدعاء الرسالة فنزلهم القائلون منزلة المنكرين للبشرية لما اعتقدوه من التنافي بين البشرية والرسالة، ثَمّ تنافي في عقولهم بين البشرية والرسالة فقلبوا الحكم فقالوا: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} [إبراهيم: 10] أي مقصرون على البشرية ليس لكم وصف الرسالة التي تدعونها، وأما إنما فالأصل فيها تستعمل في ما لا يُنكره المخاطَب بأن يكون معلومًا، كقولك إنما زيدٌ أخوك لمن يعلم ذلك ويقر به ترقيقًا عليه، إنما زيدٌ أخوك هو يعلم هذا (أَوْ ذَا يُبْدَلُ) ما هو؟ (ذَا) المشار إليه (أَوْ ذَا) ¬

_ (¬1) سبق.

المجهول [أحسنت] يُبدل بماذا؟ بالمعلوم، وقد يُنَزّل المجهول مُنَزّلة المعلوم كما قال الناظم هنا: (أَوْ ذَا يُبْدَلُ) أي قد ينزل المجهول منزلة المعلوم لإدعاء ظهوره فيستعمل حينئذٍ له إنما، إنما في الأصل للمعلوم، لكن قد نستعمله لماذا؟ للمجهول كقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] قوله تعالى على المنافقين {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} ادعوا أن ذلك أمرٌ ظاهر معلوم لأن الحصر بـ إنما يكون لشيءٍ معلوم فإذا قالوا {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} إذًا الصلاح ثابت أمره ظاهر لا يحتاج إلى تنصيص فهم ادعوا أنهم مصلحون فهو أمرٌ ظاهر من شأنه أن لا يجهله المخاطَب ولا ينكره، ولذلك جاء رد يعني لما استعملوا هذا التركيب والأصل فيه أنه للمعلوم حينئذٍ جاء الرد قوي جدًا من الرب جل وعلا، جاء ربه مؤكدًا بـ إن والجملة الاسمية وتعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل وتصدير الكلام بحرف التنبيه الدال على أن مضمون الكلام مما له خطرٌ في قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12]. لما قالوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}. جاء الرد بماذا؟ {أَلا} حرف تنبيه، ثانيًا: {إِنَّهُمْ} ثالثًا: {هُمُ الْمُفْسِدُونَ} تعريف الجزأين، ثم الفصل، والجملة الاسمية. ثم عَقَّبَ ذلك بما يدل على التقريع والتوبيخ وهو قوله: {وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12]. إذًا قوله: (وَمَا بَدَا مِنْهُ) يعني والذي ظهر منه (فَمَعْلُومٌ) وهو واضحٌ بين يعني ما يُستعمل للمعلوم وما يُستعمل للمجهول (وَقَدْ يُنَزَّلُ ** مَنْزِلَةَ المَجْهُولِ) ويستعمل المعلوم مرادًا به المجهول (أَوْ ذَا) أي المجهول (يُبْدَلُ) ينزل منزلة المعلوم، والله أعلم. وصلَّى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

10

عناصر الدرس * الباب السادس: الإنشاء. * تعريف الإنشاء الطلبي وأنواعه. * التمني والاستفهام وأدواتهما. * الأمر والنهي وأغراضهما. * تقدير الشرط الجازم بعد هذه الأنواع. * النداء وأغراضه. * مجيئ الخبر بمعنى الطلب والعكس. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال الناظم رحمه الله تعالى: (الْبَابُ السَّادِسُ: الإنْشَاءُ) الباب السادس من الأبواب الثمانية التي ينحصر فيها علم المعاني هو باب الإنشاء الإِنشاء مصدر أَنْشَأَ يُنْشِئُ إِنْشَاءً، وله إطلاقات قد يطلق على نفس الكلام الذي لا يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه، لذلك يُعَرَّف على أنه ما لا يحتمل الصدق والكذب لذاته. وعرفنا أن المراد بالصدق هو تطابق الواقع، وعدم مطابقة الواقع هو الكذب. حينئذٍ الصدق المأخوذ في حد الإنشاء هو تعريفه بعينه الصدق الذي أُخِذَ في حدّ الخبر، ولذلك نقول: الكلام يُقَسّم إلى: خبر، وإنشاء. خبر ما احتمل الصدق والكذب لذاته. والإنشاء ما لا يحتملهما. فيطلق الإنشاء على نفس الكلام الذي لا يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه، ومر معنا في شرح القويسني لشرح هذه الجملة، كقولك: بعتك هذا بكذا. بعتك هذا عند إنشاء البيع فلا يقال له: صادق أو كاذب. وقد يطلق على ما هو فعل المتكلم. إذًا إما أن يراد به الكلام نفسه، وإما أن يراد به فعل المتكلم. أي إلقاء الكلام الإنشائي. فرق بين الكلام الإنشائي وبين إلقاء الكلام الإنشائي، كما أن الإخبار كذلك، يقال: خبر، وإلقاء الخبر. ففرق بينهما. والأظهر أن المراد هو الثاني يعني: إلقاء الكلام الإنشائي وليس المراد به نفس الكلام. يعني: الباب السادس الإنشاء. ما المراد بالإنشاء قبل الولوج في مسائل الإنشاء؟ هل المراد به مراد الكلام نفسه؟ أو المراد به إلقاء الكلام الإنشائي؟ الثاني، المراد به الثاني، كما يشير إليه قوله: (يَسْتَدْعِي الإِنْشَاءُ إِذَا كَانَ طَلَبْ). (يَسْتَدْعِي الإِنْشَاءُ) إذًا نقول: هذا يدل على أن المراد به الإلقاء. واعلم أن الإنشاء إما أن لا يكون طلبًا يعني: الإنشاء نوعان: إنشاء طلبي، وغيره. غير طلبي. غير الطلبي الذي لا يكون طلبًا كأفعال المقاربة كاد وأخواتها، وأفعال المدح والذم نعم الرجل زيد هذا إنشاء لكنه ليس طلبيًّا، بئس الرجل عمرو هذا إنشاء لكنه ليس طلبيًّا، وصيغ العقود بعتك واشتريت والقسم ولعل ورُبّ وكم الخبرية ونحو ذلك، هذه كلها إنشاء لكنه من النوع الثاني الذي هو لا يكون طلبيًّا، يعني لا يفهم الطلب كالأمر والنهي. الأمر والنهي فيه شيء من إفهام الطلب فلا يُبحث عنها ها هنا لقلة المباحث البيانية المتعلقة بها، يعني: لا يبحث البيانيون عنا في أفعال المقاربة والقسم ولعل وكم الخبرية لأن الأبحاث متعلقة بها قليلة ولأن أكثرها في الأصل أخبار نقلت إلى معنى الإنشاء، والمقصود بالنظر هنا هو النوع الثاني الذي هو الإنشاء الطلبي لاختصاصه بمزيد أبحاث لم تذكر في بحث الخبر، فالإنشاء حينئذٍ يكون منقسمًا إلى نوعين: طلبي، وغيره. والمقصود هنا الطلبي أي المنسوب إلى الطلب كالاستفهام والأمر ونحو ذلك. قال الناظم: يَسْتَدْعِي الإِنْشَاءُ إِذَا كَانَ طَلَبْ ... مَا هُوَ غَيْرُ حَاصِلٍ وَالمُنْتَخَبْ مِنْهُ التَّمَنِّي وَلَهُ المَوْضُوعُ ... لَيْتَ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوُقُوعُ

(يَسْتَدْعِي الإِنْشَاءُ) يُسْتَدْعَى الإنشاء يُسْتَدْعَى الظاهر ليس لها معنى، إنما الإنشاء يَسْتَدْعِي يعني: يطلب. وإذا عرفنا أن المراد بالإنشاء هنا إلقاء الكلام الإنشائي ظهر معنا يَسْتَدْعِي يعني: الإنشاء منه استدعاء وهو الطلب. أما يُسْتَدْعَى هذا فيه بعد. قال الناظم: (يَسْتَدْعِي الإِنْشَاءُ إِذَا كَانَ طَلَبْ)، (يَسْتَدْعِي الإِنْشَاءُ) إذًا الإنشاء قد يكون استدعائيًّا يعني: طلبيًّا، إذا كان طلب هذا أشبه ما يكون بالتفسير إذا كان هو أي الإنشاء طلبًا، وقف عليها على لغة ربيعة، وإلا هو خبر كان طلبًا والألف طلبا هذا الأصل وقف عليها على لغة ربيعة لأن ربيعة تسوي في الوقف بين المرفوع والمخفوض والمنصوب على خلاف لغة الجمهور الذي يفرقون بين المنصوب والمرفوع والمجرور، فيوقف على المجرور والمرفوع بالسكون وأما المنصوب فيوقف عليه بماذا؟ بالألف. وقف على المنصوب منه بالألف ... كمثل ما تكتبه لا يختلف نقول عَمْروٌ قد أضاف زيدا ... وخالد صاد الغزاة صيدا

وقف على المنصوب منه بالألف، إذًا طلبا، هذا الأصل، لغة ربيعة تقف عليه بالسكون كالمجرور والمرفوع، فإذا جاء مثل هذا التركيب إذا كان طلب لا يقال أين الألف التي تكون مبدلة عن التنوين نقول: هذا جرى على لغة ربيعة من باب الاعتذار له. إذًا (طَلَبْ) خبر كان منصوب وقف عليه على لغة ربيعة (مَا هُوَ غَيْرُ حَاصِلٍ)، (مَا) أي الذي (هُوَ) أي الطلب أو المطلوب. (غَيْرُ حَاصِلٍ) يعني غير موجود وقت الطلب، لأن طلب ما يكون موجودًا محال يكون محالاً من باب تحصيل الحاصل، فقوله: (مَا هُوَ غَيْرُ حَاصِلٍ) أي وقت الطلب. أي أن الإنشاء الطلبي أو الإنشاء إذا كان طلبًا استدعى مطلوبًا غير حاصل، (مَا هُوَ)، (هُوَ) الضمير يعود على المطلوب، يعني الطلب يتعلق باللفظ أو بإرادة المتكلم، وأما المطلوب هذا متعلق بالمخاطب. إذًا نقول: (مَا هُوَ) أي المطلوب (غَيْرُ حَاصِلٍ) أي: وقت الطلب سواء وُجِدَ ثم عدم، أو لم يكن ابتداءً. يعني المراد أنه غير موجود وقت الطلب، وإذا كان كذلك حينئذٍ إما أن يكون موجودًا ثم عُدِمَ، وإما أن لا يكون موجودًا ابتداءً، فيشمل النوعيين، لماذا؟ قالوا: لامتناع الطلب الحاصل فإنه محال، فلو اسْتَعمل أو اسْتُعمل صِيَغِ الطلب نحو: ليت لي مالاً. لمطلوب حاصل حينئذٍ امتنع إجراؤها على معانيها الحقيقية وهو المطلوب غير الحاصل، يعني: لو جاء في لسان العرب أو جاء في القرآن لفظ وقد كان المطلوب حاصلاً حينئذٍ لا بد من حمله على المعنى المجازي، لماذا؟ لكون الطلب إنما يتوجه إلى شيء غير موجود، وإذا كان كذلك حينئذٍ إذا جاء الطلب لشيء موجود إما أن نقول بأنه تناقض وهذا قد لا يقال به، وإما أن يقال بأن له محملاً حسنًا وهو المجاز، ومن هنا قال النحاة أن الأمر دلالته على إيجاد شيء غير موجود أو ديمومة الموجود، لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] {وَاتَّقِ} [الأحزاب: 37] وهو فعل أمر طلب شيء غير موجود، كيف نصنع في هذا الفعل {اتَّقِ اللَّهَ} هل التقوى غير موجودة؟ قالوا: هنا نوجه الكلام إلى أمرين، المطلوب بصيغة افعل إما أن لا يكون موجودًا فيطلب وجوده قم كان قاعدًا قلت له: قم. حينئذٍ حصل شيء لم يكن موجودًا، إن كان موجودًا قالوا: لا بد أن نجعل الطلب هنا لشيء غير موجود للقاعدة هنا لأن الطلب لا يتوجه إلا إلى شيء غير حاصل، قالوا: هنا {اتَّقِ اللَّهَ} الديمومة هذه شيء معدوم لم تقع بعد، فالمسئول أو المطلوب هنا {اتَّقِ اللَّهَ} المراد به دم على التقوى وهذا كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] آمَنُوا وصفهم بالإيمان إذًا كيف يطلب منهم شيئًا قد حصل نقول: من باب تحصيل الحاصل {آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ} آمِنُوا الأول حصل به الإيمان، ثم الإيمان قد يزول ولا يثبت، ثم أمر آخر وهو الديمومة والثبات على الإيمان هو الذي تعلق به مدلول آمِنُوا الثاني، حينئذٍ إما إيجاد شيء لم يحصل فيكون مدلول افعل، وإما الشيء الثاني وبه توجه الآيتان وهو ديمومة ما قد حصل، والديمومة معدومة حينئذٍ تعلق الأمر بشيء معدوم وجرى على القاعدة.

إذًا لو اسْتُعمل صيغ الطلب نحو: ليت لي مالاً. لمطلوب حاصل امتنع إجراؤها على التمني هنا نقول: لا بد أنه اسْتُعْمِل في شيء آخر من باب توجيه الكلام. ولذلك النحاة في باب الأمر قد أصابوا وأجادوا في تقسيم الأمر إلى شيئين: الأمر الأول: طلب شيء لم يكن موجودًا. الثاني: قد يكون موجودًا لكن قد يكون الطلب للديمومة عليه. إذًا (يَسْتَدْعِي الإِنْشَاءُ إِذَا كَانَ طَلَبْ) أي الإنشاء إذا كان طلبًا استدعى مطلوبًا غير حاصل وقت الطلب. ثم قال: (وَالمُنْتَخَبْ مِنْهُ التَّمَنِّي). (وَالمُنْتَخَبْ) يعني: الذي انتخب واختير من أنواع الطلب ليس كل طلب يبحث عنه هنا في باب الإنشاء، وإنما يختار بعض المواضع التي تتعلق بها المباحث البيانية (وَالمُنْتَخَبْ مِنْهُ فِيهِ) بعض النسخ والتي معي [فِيهِ] وليس له وجه، بعض الشروحات [مِنْهُ] وهو أولى، انتخب من كذا هذا الأصل، انتخب من الإنشاء التمني، أما انتخب في الإنشاء التمني هذا بعيد، ففيه الضمير أو منه الضمير يعود للإنشاء، وَانْتَخَبَ وَانْتُخِبَ إنما يتعدّى إلى يتعدى بمن هذا الأصل فيه. إذًا (وَالمُنْتَخَبْ) هذا مبتدأ (مِنْهُ) أي من الإنشاء وهو متعلق بالمنتخب (التَّمَنِّي). وأنواعه كثيرة أي الإنشاء والمنتخب أي المختار منه أي من الطلب (التَّمَنِّي) هذا النوع الأول من أنواع الطلب الذي يبحث عنه البيانيون.

وهو في الاصطلاح عندهم طلب حصول شيء على سبيل المحبة (وَلَهُ الْمَوْضُوعُ ** لَيْتَ)، (وَلَهُ) متعلق بـ (المَوْضُوعُ)، و (لَيْتَ) هذا خبر، (المَوْضُوعُ) للتمني له الضمير يعود للتمني الموضوع له ليت، يعني التمني معنًى من المعاني، والعرب تراعي المعاني وتجعل لها ألفاظًا تدل عليها وهي الحروف في الأصل، ولذلك الأصل في وضع الحروف أن تدل على المعاني القائمة بالنفس، فالتمني له حرفه وهو ليت، والنهي له حرفه وهو لا، والنفي والترجي كل هذه معاني ولها حروف دالة عليها. إذًا (وَلَهُ) أي لهذا المعنى وهو طلب حصول شيء على سبيل المحبة (المَوْضُوعُ) أي اللفظ الموضوع له للتمني (لَيْتَ) أي وُضِعَ له هذا الحرف وحده، ليت هو الذي يدل على التمني، ولا يشترط إمكان الْمُتَمَنَّى بخلاف الْمُتَرَجَّى، الْمُتَرَجَّى أي الشيء الذي تعلق به الرجاء يُشترط أن يكون ممكنًا يعني غير مستحيل وممكن الوقوع، وأما التمني فلا، فالْمُتَمَنَّى لا يُشترط إمكان حصوله بل قد يتعلق التمني بشيء محال، بخلاف الْمُتَرَجَّى فإنه يُشترط إمكانه فيصح التمني (وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوُقُوعُ)، فيصح التمني كما قال الناظم هنا (وَلَهُ المَوْضُوعُ ** لَيْتَ) عرفنا التمني حقيقته، وعرفنا حرفه، وهو ليت، ثم ما الذي يُتَمَنَّى؟ ما هو الْمُتَمَنَّى؟ هل يُشترط فيه أن يكون شيئًا واقعًا، أو شيئًا يجوز أن يقع، أو لا بد أن يكون محالاً؟ قال: (وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوُقُوعُ) يعني يجوز أن يكون الْمُتَمَنَّى لشيء (وَإِنْ لَمْ يَكُنِ) وإن لم يحصل (الْوُقُوعُ) يعني شيئًا محالاً، فيتعلق الْمُتَمَنَّى أو التَّمَنِّي بشيء محال، أو بشيء غير ممكن، أو يصح أن يقال: (يَكُنِ) هنا على بابها (وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوُقُوعُ) ممكنًا فيكون الخبر محذوفًا يجوز الوجهان، تكون كانت هنا تامة، ويجوز أن تكون ناقصة. إذًا لا يُشترط إمكان الْمُتَمَنَّى هذا القاعدة، بخلاف الْمُتَرَجَّى فإنه يُشترط إمكانه فيصح الْمُتَمَنَّى أو التمني وإن لم يكن الوقوع وكان تامة هنا أو ناقصة والتقدير وإن لم يكن الوقوع ممكنًا بل محالاً وقعه، لأن الإنسان كثيرًا ما يحب المحال ويطلبه، ولا يمتنع تمني الممكن إذا لم يكن توقع وطمع في حصوله لعدم الأسباب الموجبة ووجود الأسباب المانعة إذ لو توقعت وطَمِعْتَ لاستعملت كلمة لعل في الأول وعسى في الثاني. إذًا الأصل في الْمُتَمَنَّى أن يكون محالاً، وإذا كان ممكنًا فحينئذٍ هو على أمرين: إما أن يتوقع وقوعه أو لا. الثاني: يجوز تعلق التمني به والأول لا. ولذلك قال: ولا يمتنع تمني الممكن، متى؟ إذا لم يكن توقع وطمع في حصوله، إما لعدم الأسباب الموجبة ووجود الأسباب المانعة إذ لو توقعت الممكن وطمعت فيه حينئذٍ تستعمل كلمة ليت في التوقع، إذا كان الممكن متوقعًا حينئذٍ لا يكون التمني متعلقًا به، وإنما يكون بـ لعل، وإذا كان الثاني الذي هو الطمع فحينئذٍ يؤتى به بـ عسى، إذًا عسى للشيء الذي طُمِعَ في وجوده مع إمكانه، ولَعَلَّ للشيء الذي توقع وقوعه مع إمكانه، فإن كان ممكنًا ولم يتعلق به طمع ولا توقع حينئذٍ صح التمني ودخول ليت عليه، فالمحال مثل قول الشيخ الهرم:

يا ليت الشباب يعود يومًا ... فأخبره بما فعل المشيب ألا ليت الشباب، ليت، الشباب يعود يومًا، في الدنيا الشباب لا يعود فإذا تمنى أن يعود الشباب حينئذٍ قد تمنى محالاً، لأن الله تعالى حكم بذلك، والممكن الذي لم يُتوقع وقوعه كقول الفقير المملق: ليت لي مالاً فأحج منه. ليت لي مالاً هو لا يتوقع، المال ممكن أو لا؟ ممكن أن يحصل لكن هذا في حاله بعيد جدًا ولم يتوقع ولم يطمع محال يعني في نفسه، فحينئذٍ قوله هذا نقول: ممكن لم يتعلق به الطمع ولا التوقع فجاز التمني، وإما إذا كان المال متوقعًا حينئذٍ لا يصح أن يدخل عليه ليت إنما يأتي بماذا؟ توقع؟ يكون بـ لعل. والمكن الذي لم يتوقع وقوعه كقول الفقير: ليت لي مالاً فأحج منه فإن حصول المال ليس محالاً لكنه غير متوقع الحصول، ومتى كان الْمُتَمَنَّى متوقع الحصول انتقل التمني أو عن التمنِّي إلى الترجِّي فحينئذٍ نأتي بـ لعل، فمن ثَمَّ فرق بعضهم بين التمني والترجي: لأن الأول في البعيد، التمني يكون في البعيد، والثاني في القريب. بعيد الوقوع هذا يأتي التمني فيه. والثاني الذي هو الترجِّي في القريب. وبأن الأول الذي هو التمني في المعشوق للنفس، والثاني: الترجي في غيره. وبأن الثاني الذي هو الترجي في المتوقع، والأول في غيره. إذًا عرفنا حقيقة التمني ثم قال: (وَلَهُ المَوْضُوعُ ** لَيْتَ). ثم بين ما هو الذي يتمنى يتعلق بماذا؟ قال: (وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوُقُوعُ) ممكنًا بل محالاً أو أمكن وقوعه لكنه غير متوقع الحصول ولا يتعلق به الطمع. إذًا الممكن نوعان: ممكن لا يتعلق به الطمع والوقوع فهذا الذي يصح أن يكون متمنى. ونوع آخر يصح أن يكون واقعًا وكذلك يتعلق به الطمع فحينئذٍ لا يدخل عليه حرف تمني وهو ليت. (وَلَوْ وَهَلْ مِثْلُ لَعَلَّ الدَّاخِلَةْ ** فِيهِ)، (وَلَوْ وَهَلْ) و (لَعَلَّ) قد يأتي التمني عرفنا أن حرفه ليت، قد يُتَمَنَّى بغير ليت بواحد من الحروف الثلاثة إما: (لَوْ)، وإما (هَلْ)، وإما (لَعَلَّ)، إذا (لَوْ) قد تأتي للتمني لكنه مجازًا لا حقيقة، لأن الحقيقة هو وضع ليت، و (هَلْ) قد تأتي للتمني لكنه ليس حقيقةً بل هو مجاز، وكذلك (لَعَلَّ) الشأن فيها كالشأن في (لَوْ).

إذًا (وَلَوْ) أي وقد يتمنى بـ (لَوْ) وذلك ما القرينة؟ قالوا: القرينة على أن (لَوْ) للتمني إذا نُصِبَ جوابها، لأن (لَوْ) في الأصل هي شرطية تحتاج إلى جواب، إذا نصب جوابها علمنا أن لو هنا للتمني، نحو: لَوْ تَأْتِينِي فَتُحَدِّثَنِي. تُحَدِّثُنِي غلط تُحَدِّثَنِي بالنصب على تقدير فأن تُحَدِّثَنِي حينئذٍ نصب الفعل المضارع بأن مقدرة بعد فاء السببية الواقعة في جواب التمني، أليس كذلك؟ مرّ معنا في ((الآجرومية)) فَتُحَدِّثَنِي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد فاء السببية الواقعة في أحد الأجوبة الستة وهو التمني هنا، فحملت (لَوْ) على التمني بدليل ماذا؟ بدليل نصب الفعل المضارع بعدها، فنصب الفعل المضارع قرينة لأن النحاة إنما نصوا بالتتبع والاستقراء على أن الفعل المضارع يُنصب بعد الفاء السببي إذا وقع في جواب (لَوْ)، وهنا (لَوْ) لَو بُحِثَ في المعاني التي يمكن أن تُجعل من المعاني الستة لَمْ يَصِحَّ لها إلا التمني، فقيل: (لَوْ) هنا تُستعمل في التمني. لَوْ تَأْتِينِي فَتُحَدِّثَنِي بالنصب، فإن النصب قرينة على أن (لَوْ) ليست على أصلها وهو الشرط، إذ لا ينصب الفعل المضارع بعدها بإضمار أن، وإنما تضمر أن بعد الأشياء الستة المقررة في علم النحو والمناسب لـ (لَوْ) هنا هو التمني. قالوا: كما يفرض بـ (لَوْ) غير الواقع واقعًا، كذلك يطلب بـ (ليت) وقوع ما لا طماعيةً في وقوعه. ومنه قوله تعالى: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 102]. {فَنَكُونَ} لو {فَنَكُونَ} المعنى لو نظرت فيه على جهة الإجمال لقلت له: التمني. {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} يتمنون الكرة والرجعة {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} إذًا الفاء هذه فاء السببية، والفعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء الواقعة في جواب التمني، والتمني إنما حصل هنا بـ (لَوْ)، والذي دلنا على ذلك النصب، لماذا النصب مع كون الأمر قد يكون في جواب التمني والنهي والدعاء والترجي إلى آخره؟ نقول: لأننا نظرنا فإذا به لا يمكن أن يُحمل أو تحمل لفظ (لَوْ) على معنى من المعاني الستة إلا لو على التمني، وأنت لو نظرت إلى السياق وجدت أن المراد بالآية هنا التمني. إذًا (لَوْ) تستعمل في التمني لكنه مجازًا، والأصل في التمني إنما يكون بـ (ليت).

(وَهَلْ) أي وقد يجيء التمني بـ (هَلْ) والأصل أنها استفهامية، هذا الأصل فيها، فتخرج عن الاستفهام إلى التمني، وأصلها الاستفهام، حيث يُعْلم أو يَعْلم القائل امتناع ما بعدها، عرفنا أن التمني وإن لم يكن الوقوع فـ (هَلْ) الأصل فيها إذا مرت بك أن تحملها على الاستفهام، إذا استفهم إنما يُستفهم عن شيء ممكن الوقوع، أليس كذلك؟ فإذا كان ما بعدها غير ممكن الوقوع حملتها على التمني، ولذلك قالوا لك: أصلها الاستفهام حيث يعلم القائل امتناع ما بعدها نحو قوله تعالى: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا} [الأعراف: 53] {فَيَشْفَعُواْ لَنَا} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد فاء السببية الواقعة في جواب الطلب الذي هو الاستفهام، وهنا وقد عُلِمَ أن لا شافع لهم هذا معلوم أم لا؟ معلوم من جهة الشرع إذًا غير ممكن الوقوع، والاستفهام إنما يمكن عن ماذا؟ عن شيء يمكن وقوعه وإيجاده وحصوله، هَلْ قَامَ زَيْدٌ؟ هَلْ زَيْدٌ قَائِم؟ حينئذٍ لما كان ما بعد (هَلْ) امتنع وقوعه قلنا: هذه اسْتُعْمِلَتْ في معنى التمني والسياق يدل على ذلك، {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ} هذا فيه معنى التمني، فيمتنع حينئذٍ حمله على حقيقة الاستفهام لحصول الجزم بانتفاء هذا الحكم واستدعاء الاستفهام للجهل بثبوته وانتفاءه، والنكتة هنا في التمني بـ (هَلْ) والعدول عن ليت هو إيراد المتمنَّى لكمال العناية به في صورة الممكن الذي لا جزم بانتفائه، يعني خرج عن كونه بـ (ليت) لأن الأصل في (هَلْ) أن يكون ما بعده جائز الوقوع، ولذلك استعملت هذه في محل تلك. إذًا التمني بـ (هَلْ) مجاز وليس بحقيقة لأن الأصل في التمني إنما يكون بماذا؟ بـ ليت. ومن هنا نعلم أن الصحيح أن المجاز يدخل الحروف كذلك، وهذا سيأتي بحثه في ((الكوكب الساطع)) إن شاء الله تعالى.

(مِثْلُ لَعَلَّ) أي مثل ما يتمنى بـ لعل (الدَّاخِلَةْ ** فِيهِ) أي في حكم التمني، فيعطى حكم ليت، وينصب في جوابه المضارع على إضمار أن على القاعدة، وهذه كلها تبحث في نصب الفعل المضارع بأن مضمرة وجوبًا، نحو: لَعَلِّي أَحُجُّ فَأَزُوكَ. بالنصب على إضمار أن، وذلك لبعد المرجو عن الحصول فأشبه المحلات والممكنات التي لا طماعية في وقوعها، وهذا إذا كان مستبعدًا الزيارة، يعني رجل بعيد ولا يطمع أن يحج قد يحصل هذا فحينئذٍ إذا استعمل لعل هنا لَعَلِّي أَحُجُّ فَأَزُوكَ، حينئذٍ نقول: ما بعد لعل هذا غير مطمع في وجوده، ليس باعتبارك أنت وإنما باعتبار المتكلم يفترض فيه ذلك، حينئذٍ نقول: هنا استعمل لعل في غير الواقع، وهذا الشأن إنما يكون في ليت، كما قال: (وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوُقُوعُ) ممكنًا لَعَلِّي أَحُجُّ فَأَزُوكَ بالنصب على إضمار أن، وذلك لبعد المرجو عن الحصول، وعلمنا فيما سبق أن (لَعَلَّ) يكون ما بعدها مرجو الحصول يعني مطموع في حصوله، فأشبه المحالات والممكنات التي لا طماعية في وقوعها، فيتولد منه التمني لِمَا مرّ في أنه طلب محال أو ممكن لا طمع فيه بخلاف الترجي. إذًا (وَالمُنْتَخَبْ فِيهِ) عرفنا حقيقته (وَلَهُ المَوْضُوعُ ** لَيْتَ) هذا هو الأصل في التعبير عن التمني، (وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوُقُوعُ) هذا بيان للمتمنَّى أنه يكون محالاً أو ممكنًا لكنه لا طمع فيه، ثم بين أن غير (لَيْتَ) قد يقوم مقام (لَيْتَ) وهو ثلاثة أحرف، وإنما يكون هذا من جهة المجاز وهو: (لو)، و (هَلْ)، و (لَعَلَّ). ثم قال: (وَالاِسْتِفْهَامُ). أي من أنواع الطلب كما أن من الطلب التمنِّي الاستفهام (وَالاِسْتِفْهَامُ) بالرفع عطف على التمني (وَالمُنْتَخَبْ فِيهِ التَّمَنِّي) والمنتخب كذلك الاستفهام، يعني الذي اختير، (وَالاِسْتِفْهَامُ) بالرفع عطفًا على التمنِّي (فِيهِ التَّمَنِّيْ) تمنِّيْ بإسكان الياء لأي شيء؟ للوزن؟ نعم. . يُسمى منقوص، نعم التمني. ومن أنواع الطلب الاستفهام وهو عمدة أنواع الطلب، وهو لغةً طلب الفهم، وعرفًا طلب حصول صورة الشيء في الذهن، يعني المراد به: إما أن يكون تصديقًا. وإما أن يكون تصورًا. وكلا الأمرين التصديق والتصور إنما يكون في الذهن، هذا هو الأصل فيه. بمعنى أن المطلوب به حصول علم حصول صورة الشيء في الذهن، وهذا هو حقيقة العلم، الإدراك مطلقًا، إدراك الشيء على ما هو عليه، طلب حصول صورة الشيء في الذهن فإن كانت وقوع نسبة بين أمرين أو لا وقوعها فحصولها هو التصديق، ومر معنا مرارًا معنى التصديق: وهو إدراك المركبات عن الجمل الاسمية والفعلية المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل أو نائبه. إدراكه بمعنى حصول المعنى الحاصل من هذه الجملة في الذهن يُسمى تصديقًا [جهة التيسير] نحو: هل قام زيد؟ وإلا فهو التصور نحو: ما العنقاء؟ التصور إنما يكون بالمفردات. إدراك مفرد تصورًا عُلِم ... ودَرْكُ نسبةٍ بتَصْدِيقٍ وُسِم

نسبة خارجية، أو دَرْكَ يعني: إدراك وقوع نسبة كلامية على ما مر معنا في شرح ((السُّلَّم)) على كلٍّ التصديق والتصور مبحثهما في أنواع العلم الحادث، فصل في أنواع العلم الحادث من شرح ((السُّلَّم)) ومر معنا، لكن المراد هنا أن الاستفهام هو طلب حصول صورة الشيء في الذهن بالوجهين المعلومين في تقسيم العلم، إما تصديق وإما تصور، فقد يُطلب ببعض أدوات الاستفهام التصديق فقط، وقد يُطلب ببعض أفراد أو أدوات الاستفهام التصور، وقد يجوز التصور والتصديق في البعض كما سيأتي. إذًا ما العنقاء؟ هذا استفهام، اسْتفهام عن ماذا؟ عن إدراك مفرد، ما حقيقة العنقاء؟ فسِّرْهَا لي، ما الإنسان؟ ما الكلمة؟ نقول: هذه كلها إدراكها يُسمى تصورًا، والسؤال وقع عنها بما وهي اسم استفهام. إذًا الاستفهام يكون في التصديق ويكون في التصور، وكلاهما نوعا العلم واللفظ الموضع له أي الاستفهام قال: (وَالاِسْتِفْهَامُ). عرفنا هو عطف على التمني عرفنا حقيقته (وَالمَوْضُوعُ لَهْ) يعني واللفظ الموضوع له للاستفهام أحد عشرة لفظًا. هَلْ هَمْزَةٌ مَنْ مَا وَأَيٌّ أَيْنَا ... كَم كَيْفَ أَيَّانَ مَتَى أَنَّى (هَلْ هَمْزَةٌ) حرفان، والبقية أسماء (مَنْ)، و (مَا) بإسقاط حرف العطف (وَأَيٌّ أَيْنَا) الألف للإطلاق، و (كَم) إسقاط حرف العطف ... و (كَيْفَ) بإسقاط حرف العطف و (أَيَّانَ)، و (مَتَى) كذلك بإسقاط حرف العطف و (أَنَّى) هذه كلها أسماء. إذًا إحدى عشرة لفظًا يُستفهم بها، فهذه الألفاظ وإن اشتركت في إفادة الاستفهام فإنها تختلف باعتبار ما يُطلب بها، لأن بعضها يطلب به التصور، وعرفنا أن المراد بالتصور إدراك المفرد يعني لا يقع بعده إلا المفرد أو ما يُؤدي مؤدى المفرد. وبعضها يُطلب به التصديق حينئذٍ يقع بعدها الجمل الاسمية أو الفعلية، وإذا كان كذلك نقول: أدوات الاستفهام اشتركت في إفادة الاستفهام، ثم تختلف باعتبار ما يُطلب بها: (فَهَلْ) الفاء فاء الفصيحة (بِهَا يُطْلَبُ تَصْدِيقٌ)، (فَهَلْ) الفاء فاء الفصيحة يُطلب تصديق بها فقط، يعني لا يُطلب بها التصور، وإنما يُطلب بها التصديق، (فَهَلْ) الفاء الفصيحة (بِهَا يُطْلَبُ تَصْدِيقٌ) فقط أي انقياد الذهن وإذعانه لوقوع النسبة بين الشيئين، هل قام زيد؟ ثبوت القيام لزيد هو الذي يستفهم عنه بـ هل (تَصْدِيقٌ) وقوع النسبة الخارجية أو لا، فتدخل على الجملتين (هَلْ) يعني: الجملة الاسمية والجملة الفعلية، هل قام زيد؟ وهل عمرو قاعد؟ هل قام زيد؟ جملة فعلية، هل عمرو قاعد؟ هل زيد قام؟ ما نوع الجملة هنا؟ هل زيد قام؟ اسمية أو فعلية؟ من قال اسمية، لماذا؟ .. اسمية فهي بالاسم تبتدئ إذًا بُدأت باسم وهو مبتدأ، إذًا (هَلْ) حرف استفهام مبني على السكون لا محل له من الإعراب، زيد مبتدأ، قام والفاعل الجملة خبر، التعبير غلط الإعراب هذا خطأ، فرق بين أن يقال: هل زيد قائم؟ إذا لم يقع الفعل في حيز هل صارت الجملة اسمية، هل زيد قائم؟ هل عمرو قاعد؟ إذًا اسمان مبتدأ وخبر.

وأما إذا وقع الفعل في حيز (هَلْ) يعني بعدها، فما بعدها من اسم ليس مبتدأ، لأنه إذا وقع بعدها فعل اختصت بالفعلية فلا يليها الاسم هل زيد قام؟ الإعراب على التحقيق هل حرف استفهام زيد فاعل لفعل محذوف دل عليه الفعل المذكور قام، إذًا زيد ليس مبتدأً وإنما هو فاعل لفعل محذوف، انظر التركيب فرق بين أن تقول: هل زيد قائم؟ تلاها اسمان مبتدأ وخبر، أما هل زيد قام؟ هل زيد يقوم؟ لا، لا تعرب زيد أنه مبتدأ، وليست هذه الجملة باسمية وإنما هي جملة فعلية لأنها هل إذا رأت الفعل في حيزها اختصت به فلا تدخل إلا على الجملة الفعلية، واضح هذا؟ إذًا تدخل على الجملتين: الجملة الاسمية كقولك: هل عمرو قاعد؟ هذا الذي يعبر به على جهة التحقيق. وعلى الجملة الفعلية هل قام زيد؟ هل زيد قام؟ هاتان الجملتان فعليتان، إذا كان المطلوب حصول التصديق بثبوت القيام لزيد والقعود لعمرو، إذا كان المطلوب بقولنا: هل عمرو قاعد؟ حصول التصديق حينئذٍ هذه (هَلْ) للتصديق، إما إذا كان المراد به التصور حينئذٍ نقول: هذه يمتنع التركيب. ولأجل ذلك لكون هل للتصديق امتنع العطف بعدها بـ (أم) المتصلة، ومرَّ معنا (أم) المتصلة وهي التي يطلب بها التعيين بعد الهمزة أزيد عندك أم عمرو؟ (أم) تُسمى أم المعادلة، لماذا؟ لأن (أم) هنا وقعت بين شيئين، يعني هو متأكد [أنه] أن عنده واحد منهما، لكن المشكوك فيه هل هو زيد أم عمرو؟ أزيد عندك؟ إذًا عندك هذا متحقق الوقوع عندك شخص ما، لكن المتردد فيه هل هو زيد أم عمرو؟ أزيد عندك أم هذه عادلتها أزيد؟ صارت معادلة لها، الأصل أن تدخل الهمزة على الاسمين فدخلت على زيد ونابت عنها أم في الاسم الثاني، أزيد عندك أم عمرو؟ فنقول: أم هذه المتصلة، أم لطلب التعيين بعد همزة داخلة على أحد المستويين أزيد عندك أم عمرو؟ إذا كنت قاطعًا بأن أحدهما عنده، ولكنك شككت في عينه، ولهذا يكون الجواب بالتعيين لا بنعم ولا بلا، وتسمى هذه معادِلة لأنها عادلَت الهمزة بالاستفهام بها وتُسمى متصلة لعدم الاستغناء بأحدهما عن الآخر، هذا النوع الذي عدّه ابن آجروم مرّ معنا في الحرف حروف العطف هذه لا يصلح أن تدخل بعد (هَلْ)، لماذا؟ لأنها تعادل بين تصور شيئين مفردين أزيد عندك أم عمرو؟ يعني المراد به تصور وجود زيد وتصور وجود عمرو، إذًا تعلقت بالتصور، وهل ليست للتصور وإنما هي للتصديق. إذًا ما يدل على التصور لا يلي هل الدالة على التصديق. إذًا امتنع العطف بعدها بعد (هَلْ) التي لا تُستعمل إلا في التصديق بأم المتصلة فلا يقال هل زيد قام أم عمرو؟ لأن أم المتصلة إنما تستعمل عند طلب التصور وإرادة التعيين بعد العلم بالنسبة والتطبيق طلب النسبة فيلزم طلبها وكونها حاصلة وتحصيل الحاصل محال وهما متنافيان، بخلاف أم التي هي بمعنى (بل) أم الإضرابية التي تؤدي معنى (بل)، وتُسمى أم المنقطعة فيجوز تقول: هل قام زيد أم قعد عمرو؟ لأن مفهوم المنقطعة الإضراب عن الجملة السابقة، والاستفهام لطلب تصديق آخر فتكون موافقة لطلب هل فيجوز اجتماعها معه. إذًا هل لا يصح أن يَلِيَهَا أم المتصلة بخلاف المنقطعة، لأن المنقطعة لطلب التصديق، وأم المتصلة لطلب التصور فيحصل تنافي بينهم.

و (هَلْ) قسمان: بسيطة، ومركبة. بسيطة هي التي يُطلب بها مطلق وجود الشيء، فيطلب المتكلم بها نسبة الوجود إلى الماهية أو نفيها عنها هل زيد موجود؟ ما الذي طُلِبَ به؟ شيء بسيط يعني شيء واحد، هل الحركة موجودة؟ إذا طُلِبَ بـ هل وجود شيء أو صفة الشيء ماهية بالوجود حينئذٍ صارت بسيطة. ومركبة وهي التي يطلب بها وجود شيء لشيء فيطلب بها المتكلم نسبة وجود شيء إلى الماهية ونفيها عنها كقولنا: هل الحركة دائمة؟ هل زيد مسافر؟ تصورت إقامته أولاً أليس كذلك؟ هل زيد مسافر؟ هل قام زيد؟ تصورت أولاً جلوسه، إذًا هي مركبة، إذا استلزمت معنى آخر وطلب شيئًا آخر حينئذٍ نقول: هذه مركبة، لماذا؟ لأنها تستلزم تصور شيء قبل المسئول بها، وأم هل زيد موجود؟ نقول: لا، هذا ليس فيه إلا وجود زيد فقط. وهي تخصص الفعل المضارع بالاستقبال بحكم الوضع كالسين وسوف يعني: [هل قام زيد متى؟ في المستقبل [نعم]] (¬1) هذه ليست لا، هل يقوم زيد؟ هل قام زيد؟ في الماضي، تخصص الفعل المضارع بالاستقبال مرّ معنا أن السين وسوف تؤخر زمن [الماضي] (¬2) المضارع من الحال إلى الاستقبال، وأن كذلك تصير الزمن الحال إلى المستقبل، هل يقوم زيد؟ يعني في الزمن المستقبل. إذًا مما يصرف زمن الفعل المضارع من الحال إلى الاستقبال (هل) كذلك. ولذلك قال: وهي تخصص الفعل المضارع بالاستقبال بحكم الوضع كالسين وسوف، وعلم ذلك بحكم الاستقراء، فلا يصح هل تضرب زيدًا وهو أخوك؟ هذا توبيخ، والتوبيخ والتقريع في شيء مضى أو في شيء مستقبل؟ في المستقبل أو في الماضي؟ في الماضي التوبيخ على شيء وقع وحصل، هل تضرب زيدًا وهو أخوك؟ نقول: هنا تضرب في الزمن المستقبل وهو أخوك وقع الضرب مع دلالة التوبيخ هذا في الماضي فتنافيا فلا يصح، لا يصح أن يقال: هل تضرب زيدًا وهو أخوك؟ لأنه استفهام توبيخ والتوبيخ إنما يكون للحال والماضي وهل هذه تصرف الزمن إلى المستقبل يعني: تخصص المضارع بالاستقبال كما مرّ فلا يصلح لإنكار الفعل الواضع في الحال بخلاف الهمزة فإنها لأصالتها تدخل في الحال والاستقبال من غير تخصيص، فيصح أن تقول: أتضرب زيدًا وهو أخوك؟ لأنها للحال وكذلك للماضي، ومنه: {أَتقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. (فَهَلْ بِهَا يُطْلَبُ تَصْدِيقٌ) عرفنا أن (هَلْ) للتصديق فقط فلا يليها ما يُدل على التصور. ¬

_ (¬1) سبق. (¬2) سبق.

وما عدا همز تصور والذي يعني: الباقي غير (هل) عدا يعني: تجاوز همزة استثني همزة (تَصَوُّرٌ) يعني تفيد التصور، تستعمل في إدراك المفردات (وَمَا) أي والذي بقي من أدوات الاستفهام بعد هل (هَمْزًا عَدَا) أي عدا همزًا يعني تجاوز همزًا استثنيها (تَصَوُّرٌ) هذا خبر ما، أي: يطلب به تصور فقط دون التصديق، وتختلف من جهة أن المطلوب بكل منها تصور شيء آخر لأن (ما) لها معنى، و (من) لها معنى، و (أين) لها معنى وهكذا، فكل واحدة لها معنًى وتشترك في إفادة التصور لكن تشترك في إفادة التصور على طريقة واحدة أو تختلف في إفادة التصور باختلاف معانيها، لا شك أنه الثاني لأنها أسماء،،وإذا كانت أسماء فلها أوضاع، وإذا كانت لها أوضاع حينئذٍ اشتركت في قدر معين وزاد كل نوع منها على إفادة التصور بما دل عليه من معناه. فـ (من) يطلب بها تعين الشخص العالم من هنا؟ فيقال: زيد. من هنا؟ هُنا أفادت ماذا؟ طلب التصور، لكن السؤال إنما يكون عن أي شيء؟ عن الشخص يعني: العاقل الذي اتصف بالعلم، فيقال: زيد. ونحوه مما يفيد التعيين والتشخص، فـ (من) موضوعة للجنس من ذوي العلم لا يُسأل بها عن الوصف. يعني لا يُسأل بـ (من) عن الأوصاف، وإنما يُسأل بـ (ما) عن الأوصاف، إن وُجِدَ استعمال (من) عن الأوصاف حينئذٍ لا بد من قرينة أو نكتة تدل على خروج شيء عن ما أوضع له. (وَمَا) يطلب بها أحد الأمرين، إما شرح الاسم، أي شرح مدلوله، كقولك: ما العنقاء؟ ما المراد به؟ شرح هذا الاسم، طالبًا شرح هذا الاسم، وتجاب بإيراد لفظ أشهر أو حقيقة المسمى، يعني: (مَا) للتصور، يُطلب بها أحد أمرين: إما شرح الاسم ما العنقاء؟ فيرد بلفظ أشهر من لفظ العنقاء، أو كشف عن حقيقة المسمَّى التي هو بها هو، أي الماهية. كقولك: ما الإنسان؟ يعني السؤال عن ماذا عن اللفظ أو عن حقيقته؟ عن حقيقته، يعني: ما ماهية الإنسان؟ تقول: حيوان ناطق. (وَأَيٌّ) ويسأل بها عن ما يميز أحد المتشاركين في أمر يعمهما، (أَيّ) يطلب بها التمييز عن شيئين اشتركا في قدر مشترك بينهما فالذي امتاز به أحد صنفين هو الذي يجاب بأي، يعني يُسأل بـ (أَيّ) ويكون الشيء الْمُمَيِّز هو الذي يكون جوابًا لأي، لأنهم قد اشتركا فتأتي بالشيء المشترك فما افترق به أحدهما عن الآخر هو الذي يكون جوابًا، {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً} [مريم: 73] هنا السؤال عن الخيرية، فريقان اشتراكا في أن كلاًّ منهما فريق وجماعة، حينئذٍ لا بد من تمييز بعضهما عن الآخر، أي أنحن أم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالمؤمنون والكفار قد اشتركا في الفريقية، هذا فريق وهذا فريق، وسألوا عن ما يُمَيّزُ أحدهما عن الآخر، والأمر الذي يقع به التميز هنا هو الخيرية، والجواب بالتعيين نحن أو أنتم، والجواب معلوم. و (أَيْنَ) ويُسأل بها عن المكان كـ أين زيد؟ وجوابه: في البيت، أو في المسجد. و (كَم) ويسأل بها عن العدد نحو: {كَمْ لَبِثْتُمْ} أي كم سنةً أو شهرًا أو يومًا أو ساعة. و (كَيْفَ) ويسأل بها عن الحال كيف زيد؟ أصحيح أم سقيم؟ و (أَيَّانَ) ويُسأل بها عن الزمان المستقبل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}.

و (مَتَى) ويسأل بها عن الزمان ماضيًا كان أو مستقبلاً بخلاف أيان فهي للزمن المستقبل نحو: متى تحضر؟ والجواب: اليوم، أو غدًا. ومتى حضرت؟ وجوابه: أمس أو أول أمس. و (أَنَّى) أَنَّى هذه تستعمل: - تارةً بمعنى كيف ولا يليها إلا الفعل نحو قوله تعالى: {أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259]. يعني كيف، السؤال عن كيف. {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أي كيف شئتم على أي حال. - وتارة بمعنى من أين (أَنَّى) تستعمل بمعنى كيف ولا يليها إلا فعل ... {أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللهُ}، {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. وتارة بمعنى من أين نحو: {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37]. يعني من أين لك هذا. أي من أين لك هذا الرزق الآتي كل يوم. إذًا هذه المعاني اشتركت أو هذه الأسماء اشتركت في كونها يُسأل بها لإدراك التصور، ثم تفترق من حيث ما دلت عليه من معنى. قال الناظم: (وَهْيَ هُمَا). ما التركيب؟ الهمزة (وَهْيَ) أي الهمزة. (هُمَا) تصور والتصديق. إذًا تُستعمل الهمزة للتصور والتصديق معًا، أو تارة للتصور، وتارة للتصديق؟ الثاني يعني: تارة وتارة، لأنهما يتنافيان تصديق إدراك المركب، والتصور إدراك المفرد، فلا يكون الشيء مركبًا ومفردًا في وقت واحد، إنما تارة تأتي للتصور، وتارة تأتي للتصديق (وَهْيَ) أي الهمزة. يطلب بها (هُمَا) أي التصور والتصديق، يعني التصديق فقط والتصور فقط، وقد تكون لطلب أيهما كان، وهذا الحكم مختص بالهمزة لكونها الأصل، وباقي الأدوات نائبة عنها، هذا الأصل في الاستفهام. مثال التصور في المسند إليه أهذا زيد أم عمرو؟ تقول: زيد. أهذا زيد أم عمرو؟ هذا المسند إليه المسئول عنه هذا المشار إليه، هذا زيد أم عمرو؟ تصور زيد النتيجة يعني الجواب يكون زيد أو يكون عمرو. أَخَلٌّ فِي الإِنَاءِ أَمْ عَسَلٌ؟ هذا عالم بأن الإناء فيه شيء لكن لا يدري هل هو خل أم عسل، حينئذٍ يسمى ماذا؟ يُسمى تصورًا. ومثال التصور في المسند أَفِي الْخَابِيَةِ جِبْسٌ أَمْ عَسَلٌ؟ خابية هل فيها جبس أم عسل تردد في النوعية. ومثال التصديق أَزَيْدٌ قَائِمٌ؟ حيث كان التصديق لم يقم فإن كان أم عمرو أو أَم قعد فليس له، أَزَيْدٌ قَائِمٌ أَمْ لَمْ يَقُمْ؟ إذا كان التقدير أَمْ لَمْ يَقُمْ فهي للتصديق، لأنه قام زيد زَيد قائم أم قاعد هذا المراد، إن كان التقدير أم قاعد حينئذٍ خرج التصور، وإذا كان المراد أَمْ لَمْ يَقُمْ نفيت الذي أُسند بمقابل السابق حينئذٍ هي للتصديق. إذًا (وَهْيَ هُمَا) يعني: الهمزة تأتي التصور والتصديق. ثم قال: وَقَدْ لِلاستِبْطَاءِ وَالتَّقْرِيرِ ... وَغَيْرُ ذَا يَكُونُ وَالتَّحْقِيرِ

(وَقَدْ لِلاستِبْطَاءِ وَالتَّقْرِيرِ ** وَغَيْرُ ذَا يَكُونُ)، وقد يكون الاستفهام للاستبطاء، يعني قد تخرج أدوات الاستفهام عن إفادة الاستفهام إلى معنى آخر، ومنها ما ذكره الناظم بما ذُكر، (وَقَدْ) تستعمل أدوات الاستفهام المذكورة في غير الاستفهام مما يناسب المقام بمعونة القرائن مجازًا، لأن الأصل استعمالها في هو الاستفهام، فإذا استعملت في غير المعنى الذي وُضِعَت له في لسان العرب حينئذٍ هو حقيقة المجاز، وذلك عند امتناع إجرائها على معانيها الحقيقية، إذا امتنع أن تحمل أداة الاستفهام على الاستفهام حينئذٍ لا بد من التأويل، والقرينة والحال هو الذي يدل على تعيين المعنى المراد، فتجيء حينئذٍ خرجت عن الاستفهام للاستبطاء، أي: عده بطيئًا في الإجابة، كم أدعوك وما تلبي دعوتي؟ كم أدعوك هل أراد أن يستفهم كم مرة يدعوه، أم أراد أنه يستبطأ الإجابة؟ أدعوك وأدعوك وأَدعوك وما أجبتني إلى من أشكوا حالي، كم أدعوك؟ حينئذٍ نقول: هذا للاستبطاء. إذا خرجت عن كونها تفيد الاستفهام. أي عده بطيئًا في الإجابة كم أدعوك؟ لمن دعوته فلم يجبك، وهو شكاية عن البطء ونسبة المخاطب إلى التقصير في الإجابة. ومثَّلَهُ في ((الإيضاح)) بقوله تعالى: {مَتَى نَصْرُ اللهِ} [البقرة: 214]. ليس استفهامًا وإنما هو فيه شيء من الاستبطاء، (وَالتَّقْرِيرِ) أي ويجيء الاستفهام أو أداة الاستفهام للتقرير، أي حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه وإلجائه إليه، {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] ليس المراد به السؤال، وإنما المراد به التقرير، بشرط أن تسبق الهمزة المقرر به، ويُذْكَر بعدها فإن أردت التقرير بالجملة قلت: أَفَعَلْتَ كذا {أَلَمْ نَشْرَحْ} تأتي بالفعل مباشرة بعد الهمزة، أو بالمفعول قلت: أزيدًا ضربت؟ هذا تقريرٌ بالمفعول ليس بالضرب، وإنما بكون الضرب قد وقع على زيد، أو الفاعل {أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا} [الأنبياء: 62]، هذا تقريرٌ للفاعل، والأول للفعل، والثاني للمفعول به. وفي تقريره بالحال أراكبًا سرت؟ وقس عليه. إذًا يؤتى بهمزة التقرير أولاً ثم بالمقرر به، إن كان فاعلاً حينئذٍ يكون التقدير فاعل، وإن كانت جملةً تأتي بالجملة، إن كان حالاً أو مفعولاً به ونحو ذلك.

وقد لا تكون أدوات الاستفهام لما ذكر بل لغير ذلك لغير ذاك كما قال الناظم: (وَغَيْرُ ذَا) أي المذكورين، أي لغير الاستبطاء والتقرير يكون كالتعجب، تعجب بأداة الاستفهام نحو: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20] {لَا أَرَى}، {مَا لِيَ} استفهام هذا، هل يستفهم عن فعل نفسه؟ هل قمت؟ هذا لا يستفهم الأصل إنسان عن فعل نفسه، لأنه لم يكن يغيب عنه إلا بإذنه فلما لم يبصره تعجب من حال نفسه في عدم إبصاره إياه، إلا معنى الاستفهام العاقل عن حال نفسه، وهذا محال، بل هو بعيد، قد يكون مجازًا لنوعٍ ما، والتنبيه على الضلال ضلال المخاطب كقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26]. هل هذا استفهام؟ لا، ليس استفهام، وإنما خرج عن أصله والمراد به التنبيه على الضلال، {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} خطابٌ بتارك أمر الرسول والقرآن كما يقال لم يترك الجادة الواضحة إلى أين تذهب؟ يعني إلى أين أنت ذاهب هذا الطريق ليس هو الطريق، أي أنك ضللت، وذلك لأنه الله تعالى يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وحينئذٍ لا تخفى عليه خافية من أجل أن يسأل عنها، فلا يريد بهذا الكلام الاستفهام عن مكان ذهابهم الذي هو مفهوم أين، لأن أين للمكان حينئذٍ في ظاهره استفهامٌ عن مكان ذهابهم، ولكن الله تعالى يعلم حينئذٍ لا يكون استفهامًا. (وَالتَّحْقِيرِ) كقولك من هذا؟ أنت تعرفه لكن أرد أن تحقره فقلت: من هذا؟ وهذا للتحقير استخفافًا بشأنه مع أنك تعرفه. وَالأَمْرُ وَهْوَ طَلَبُ اسْتِعْلاَءِ ... وَقَدْ لأَنْوَاع يَكُونُ جَائِي أي ومن أنواع الطلب (الأَمْرُ)، والمنتخب منه التمني (وَالأَمْرُ) عطفًا على التمني، (وَهْوَ) أي الأمر (طَلَبُ اسْتِعْلاَءِ) يعني (طَلَبُ) بمعنى الإيجاد، طلب فعلٍ غير كفٍ على جهة استعلاء، (طَلَبُ) هذا فيه قصور من الناظم لأن الطلب قد يكون طلب فعلٍ، وقد يكون طلب تركٍ، قد يقال بأنه لما ذكر النهي حينئذٍ تختص الأمر بطلب الفعل، لكنه لم يعرف النهي، لو عرف النهي بأنه طلب الترك عرفنا أن الأمر طلب الفعل، فالأمر هو طلب إيجاد فعلٍ غير كفٍ، على جهة استعلاءٍ من الآمر على المأمور بمعنى أنه يطلبه ويكون العلو معه، يعني وهو عالٍ، الاستعلاء المراد به العلو على المأمور، وعده لنفسه عاليًا، وهذا الأصح عند البيانيين. هنا يفرقون حتى السيوطي في ((شرح عقود الجمان)) الأصح عند البيانيين أنه يُشترط في الأمر الاستعلاء، وإذا جاء عند الأصوليين وبحث المسألة هو بنفسه، والأصح عند الأصوليين أنه لا يُشترط علوٌ ولا استعلاء، والمسألة هي بعينها، والمتكلم وإن اختلف من جهة أنه فنٌ مستقل إلا أن الأصل في المسألة هي واحدة. فالأصح أن يقال ما رُجِّحَ عند الأصوليين يُسْتَصْحَبُ عند البيانيين، ومن رجح ما عند البيانيين ورآه حقًا استصحبه عند الأصوليين، والحق في المسألة أنه لا يُشترط في الأمر علوٌ ولا استعلاء سواءٌ كان عند البيانيين أو عند الأصوليين. وليس عند جل الأذكياء ... شرط علوٌ فيه واستعلاء

هذا هو الصحيح أنه لا يشترط في الطلب أن يكون على جهة الاستعلاء ولا على جهة العلو. والسيوطي هنا اختلف أمره رجح في ((الكوكب)) أنه لا يُشترط فيه علوٌ ولا استعلاء، ورجح هنا في ((عقود الجمان)) أنه يُشترط فيه الاست .. والمسألة هي بعينها، والمبحث هنا لغوي، وإذا كان كذلك يُنظر فيه على جهة القواعد العربية، فما وافق الحق قبل، وما لم يوافق رُدَّ، ولم يشترط المتكلم العربي الفصيح عندما قال: افعل. أن يكون الفعل من أعلى إلا أدنى، ولا يُشترط فيه أن يكون اللفظ مصحوبًا بما يدل على الغلظة، حينئذٍ يستوي فيه الأمران وإنما نطقوا بافعل وحملت على طلب إيجاد الفعل من غير كفٍ فحينئذٍ سمي أمرًا. والتقسيم الذي يذكره البيانيون وتبعهم عليه المناطقة وغيرهم [أن الأمر إن كان من أعلى إلى أدنى] (¬1) أن الطلب إن كان من أعلى إلى أدنى فهو أمرٌ. وإن كان من أدنى إلى أعلى فهو دعاء. وإن كان من مساوي لمساوي فهو التماس. هذا لا الأصل له في لغة العرب، وإنما هو مجرد اصطلاح استعماله على جهة الأمر قالوا: حقيقة. والتماسٌ ودعاء قالوا: هذا على جهة المجاز. والصحيح أنه لا يُعرف هذا، هذا أمرٌ دخيلٌ على لسان العرب. إذًا قال: (وَالأَمْرُ وَهْوَ) أي الأمر من حيث المعنى طلب استعلاء، طلب فعلٍ غير كفٍ على جهة استعلاء، وذكر الناظم هنا ما رجحه البيانيون وهو أنه يشترط في الطلب أن يكون على جهة الاستعلاء من أجل أن يسمى أمرًا، فإن لم يكن على جهة الاستعلاء قالوا: ليس بأمر وإن استعمل فيه صيغة افعل فهو مجاز، والمراد هنا أن يعرف الأمر حقيقةً لا مجاز، فإن كان من المساوي للمساوي لأنه انتفى به الاستعلاء فلا يسمى أمرًا، إن كان من أدنى إلى أعلى {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا} [آل عمران: 147] قالوا: ليس بأمر وإنما هو دعاء. نقول: هذا التقسيم لا أصل له. ثم قال: (وَقَدْ لأَنْوَاع يَكُونُ جَائِي)، (وَقَدْ لأَنْوَاع يَكُونُ) قبل ذلك لأنه ذكر أن النهي له صيغة [النهي] الأمر له صيغة وهي صيغة افعل هذا الأصل فيها، وكل ما دل على الطلب ولو بواسطةٍ فيسمى أمرًا عند الأصوليين، وأما عند العرب فما، ذل بصيغته هو الذي يُسمى فعل أمر، يعني بصيغة افعل، وأما ليفعل فهذا ليس بأمرٍ وإن سماه الأصوليون أمرًا، لأن النظر إنما يكون في مدلول اللفظ لا في اللفظ بعينه فحسب، {لِيُنفِقْ} [الطلاق: 7] هذا يسمى أمرًا عند الأصوليين، عن النحاة لا يسمى أمرًا، لكن عند البيانيين ذكر المرشدي أن البيانيين كالأصوليين. يعني ما دل على الأمر يكون أمرًا، ولذلك قال: صيغته من المقترنة باللام أولى، ومتى تكون مقترنة باللام؟ إذا كان فعلاً مضارعًا {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ} هذا يُسمى أمرًا عند البيانيين وهو أمرٌ عند الأصوليين، نحو: ليقم زيدٌ. هذا يُسمى أمرًا وهي لام الجازمة المفيدة للطلب، أو لا يكون بها نحو: أَكْرِم عمرًا، وصه، ونذاري، ورويدًا زيدًا هذه كلها تُسمى أمرًا عند البيانيين وهي كذلك عند الأصوليين. ¬

_ (¬1) سبق.

وأشار بقوله: (وَقَدْ لأَنْوَاع يَكُونُ جَائِي). (جَائِي) هذه الياء للإشباع، جاءٍ هذا الأصل، جاءٍ لأنه منقوص وإذا نُوِّنَ ونُكِّرَ وجب دخول التنوين لكونه وقع في آخر البيت وذهب التنوين، إما أن يقال بأن الياء رجعت، وإما أن يقال بأنها للإشباع. أي: أن صيغة الأمر قد يستعمل لغيره، عرفنا صيغة الأمر افعل وليفعل وما ذُكر معه. الأصل فيها الدلال على طلب إيجاد فعلٍ من غير كفٍ على جهة الاستعلاء، قد يستعمل صيغة الأمر في غير الأمر كما اسْتُعْمِلَ ليت في غير التمني وهل في غير الاستفهام، إذًا الأصل في وضعها أن تُستعمل فيما وضعت له، وقد تخرج عنه ويسمى مجازًا، فصيغة الأمر قد تُستعمل لغيره، يعني لغير الطلب طلب الفعل استعلاءً بحسب مناسب المقام، وقرائن الأحوال تستعمل للإباحة وهذه يعتني بها الأصوليون أكثر، يعني افعل حقيقةً للوجوب، افعل حقيقةً في الوجوب، مجازٌ في الندب. هذا الذي يعنينا مجازُ في الندب والإباحة، هذا الذي تعلق بالأحكام الشرعية، فإذا قيل: حقيقةٌ في وجوب. حينئذٍ إذا لم توجد قرينة صارفة وجب حمل اللفظ على حقيقته، وهو الدلالة على الوجوب. وافعل لدى أكثر للوجوب يعني حقيقة، إن دلت افعل عن الندب لقرينة حينئذٍ يكون مجاز، إذا لم تستعمل في الدلالة على الطلب. ثانيًا إذا دلت القرينة على عدم الوجوب والندب استعملت في الإباحة، حينئذٍ نقول: هذا الذي يتعلق بالحكم الشرعي. فتستعمل للإباحة نحو جالس الحسن أو ابن سيرين {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} [المائدة: 2]، {فَاصْطَادُواْ} قالوا: هذه للإباحة. والتهديد كذلك تأتي {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] هل هذا أمرٌ بأن يعمل ما شاء؟ لا، المراد به التهديد. إذًا لم تستعمل في الأمر حينئذٍ نقول: هذا مجاز. والإهانة نحو: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]. والتسخير أي التذليل {كُونُواْ قِرَدَةً} [البقرة: 65]. والتعجيز نحو: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] {فَأْتُواْ} الأمر هنا لتعجيز. إذًا هذا من معاني افعل التي تخرج عنها للدلالة أو من الدلالة على الأصل وهو الأمر. (وَقَدْ لأَنْوَاع يَكُونُ جَائِي) وقد يكون يعني صيغة: افعل. (جَائِي) لأنواعٍ يكون جائيًا لأنواع، أليس كذلك؟ وقد يكون الأمر جائيًا لأنواعٍ هذا الأصل يكون على ما سبق. وَالنَّهْيُ وَهْوَ مِثْلُهُ بِلاَ بَدَا ... وَالشَّرْطُ بَعْدَهَا يَجُوزُ وَالنِّدَا

(وَالنَّهْيُ) هذا عطفٌ على التمني، أي ومن أنواع الطلب النهيّ، من أنواع الطلب المنتخب الذي يتحدث عنه البيانيون تعلق به أحكام بيانية (النَّهْيُ) وهو طلب الكفّ عن الفعل. النهي ضد الأمر بمعنى أنه يقابله في التعريف وفي الأحكام المترتبة عليه في الجملة، طلب الكفّ عن الفعل تحريمًا أو كراهةً على جهة الاستعلاء على حد ما سبق في الأمر. والصحيح أنه لا يُشترط فيه علوٌ ولا استعلاء كالأمر، فإن صادف استعماله على سبيل الاستعلاء مِمن هو أعلى أفاد وجوب الترك المعبر عنه بالتحريم، وإلا أفاد طلب الترك فحسب، ثُمّ إن استعمل على سبيل التضرع سمي دعاءً، وإن استعمل من المساوي سمي التماسًا. يعني الكلام في النهي كالكلام في الأمر، والصحيح هنا كالصحيح هناك، أن هذا التقسيم حادث، يعني لا يعرف في لسان العرب، وإنما هو دخيلٌ عليها، وإلا إما أن يقال بأنه حقيقة أو مجازٌ، أم أنه [يسمى أمرًا ولا يكون] ويسمى نهيًا ولا يكون نهيًا حقيقةً؟ تقول: لا. وقول الناظم: (وَهْوَ مِثْلُهُ) أي مثل الأمر في الاستعلاء لأنه المتبادر إلى الفهم فهو طلب الكفّ عن الفعل استعلاءً. وقوله: (بِلاَ بَدَا) أي ظهر بلا، بدا بِلا يعني: أداته التي وضع في الدلالة على النهي هي لا الناهية الجازمة، وهو حرفٌ واحدٌ وهو لا الجازمة، نحو: لا تفعل {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان: 13]، وفي عرف النحاة تسمى هذه الصيغة نهيًا، في أي معنًى استعمل كما يسمى افعل أمرًا وهذا هو الصحيح، يعني ليس عندنا التماسٌ ولا دعاء، تُسمى نهيًا في أي معنًى استُعمل، متى ما وجد طلب الترك سُمِّيَ نهيًا، كما أن صيغة افعل متى ما وجد الطلب طلب الفعل سُمِّيَ؟ سمي أمرًا. وقد يخرج عن استعماله في طلب الكف إلى غيره وهذه كذلك يعتني به الأصوليون كالتهديد كقولك لعبدٍ لا يمتثل أمرك: لا تمثل أمري. كما يقول الأب لابنه: لا تذهب لا تذهب. يعني: تهديد هذا تخويف، فإنه ظاهرٌ أنه ليس المراد طلب كفِّه عن الامتثال، وإنما المراد به التهديد. كالدعاء نحو: {لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] فإنه ظاهر أنه تضرع والتماس كقولك على سبيل التلطف لمن يساويك لا تفعل كذا أيها الأخ، دل على أنه التماسٌ وليس بنهيٍ، هذا جريٍ على التفصيل المشهور عندهم. إذًا (وَالنَّهْيُ وَهْوَ مِثْلُهُ بِلاَ بَدَا) وهذه مباحثها تكون في النحو على جهة التفصيل، وما يتعلق بها من أحكام في أصول الفقه (وَالشَّرْطُ بَعْدَهَا يَجُوزُ) والشرط يجوز بعدها أي بعد هذه المذكورات الأربعة ... (وَالشَّرْطُ بَعْدَهَا) أي بعد الأنواع الأربعة وهي: التمني، الاستفهام، النهي، الأمر.

(بَعْدَ) (يَجُوزُ) يعني يجوز أن يقدر، أي بعد الأنواع الأربعة التي هي التمني والاستفهام والأمر والنهي (وَالشَّرْطُ) المراد به حرف الشرط، قد يقدر بعدها، فيجوز أن يُجْزَمْ بعدها المضارع بتقدير شرطٍ بعدها، وهذا مما عدَّه النحاة من الجوازم ويبحث في جزم الفعل المضارع وهو ما يسمى بالطلب. {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ} [الأنعام: 151]، {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا} [النور: 30] {يَغُضُّوا} الأصل يغضون ما الذي جزمه؟ {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ} أين الجازم؟ ليس عندنا أداة جزم {يَغُضُّوا} يغضون إن يغضوا من أبصارهم إذًا على تقدير حرف شرط {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ} إن تأتوا أتلوا، إذًا نقول: على هذا تقدير حرف شرطٍ. نحو: ليس لي مالاً أَنْفِقْهُ. أي إِنْ أُرْزَقْهُ أُنْفِقْهُ، وأين بيتك أزرك أي: إن تعرفنيه أو تعرفنيه أزرك {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ} [إبراهيم: 31] إن يقيموا الصلاة، فحينئذٍ يجوز بعد هذه الأوجه الأربعة: التمني، والاستفهام، والأمر، والنهي، إذا جُزم الفعل المضارع حينئذٍ يكون مجزومًا بشرطٍ مقدر على خلافٍ، ولا تشتم يكن خيرًا لك. يعني إن لا تشتمني يكن خيرًا لك، وتفصيلها أكثر يكون في كتب النحو ومرَّ معنا. إذًا المراد هنا (وَالشَّرْطُ بَعْدَهَا يَجُوزُ)، (وَالشَّرْطُ) يعني أداة الشرط (يَجُوزُ بَعْدَهَا) بعد هذه الأربعة حينئذٍ يجزم الفعل المضارع بحرف الشرط المقدر أو بجواب الطلب على خلاف المذكور. (وَالنِّدَا) أي ومن أنواع الطلب النداء بكسر النون ممدودًا إلا أن الناظم قصره للوزن وقيل لغة، وهو طلب الإقبال بحرفٍ نائبٍ مناب أدعو لفظًا أو تقديرًا، النداء هو طلب الإقبال بحرفٍ إذا الأصل في وضع أن يكون بحرفٍ هذا الحرف نائبٌ مناب أدعو تقديرًا أو لفظًا، لفظًا أو تقديرًا يا زيد هذا نُطق بحرف النداء {يُوسُفُ أَعْرِضْ} [يوسف: 29] {يُوسُفُ} يعني يا يوسف إذًا حرف النداء يكون مقدرًا ويكون ملفوظًا بها. فيا للبعيد حقيقةٌ أو ما نُزِّلَ مُنَزَّلته، يعني قد تجيء ياء للقريب، الأصل فيها للبعيد يا زيد ما تستعمله للقريب، إنما تستعمل للبعيد، أو ما نُزِّلَ مُنَزّلة البعيد هو قريب لكنك أردت أن تشير إلى أنه فيه بعدٌ إما من حيث الفهم أو من حيث المكانة، يعني قد تجيء يا للقريب عند إعطائه حكم البعيد وتَنْزِيله مُنَزَّلَتَه لنكتةٍ تقتضيه فيصير بعيدًا حكمًا، وتلك النكتة إما إشارة إلى كونه بليدًا فينبه باستعمالها فيه على بلادته، وأنه بعيدٌ من التنبيه، وإما الحرص في وقوع النداء للمخاطب وطلب إقباله كأنه بعيد كقوله تعالى: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ} [القصص: 31]. وإما بيان الاعتناء بالمخاطب، وكون المخاطب يعتني به نحو: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]، وأما (أَيَا، وهَيَا) فهما للبعيد تنبيهًا على أنه حاضر لا يغيب، وأي والهمزة للقريب، وقد تستعمل في البعيد تنبيهًا على أنه حاضرٌ في القلب لا يغيب عنه أصلاً. إذًا الأصل في حرف النداء أن يكون ياء ومثله ما ذكرناه. (وَالنِّدَا

وَقَدْ لِلاخْتِصَاصِ وَالإِغْرَاءِ ** يَجِيءُ) قد يجيء النداء بالياء يجيء أو ... [تجيء] إذا أردنا به الأداة يجوز لكن يجيء أظهر، وقد يجيء يعني النداء غير مستعملاً في معناه الحقيقي وإنما يخرج عن أصله كما هو الشأن في (ليت) و (هل) ونحوها، وقد تستعمل صيغة النداء في غير معناه وهو طلب الإقبال بأن تجيء إذا جعلناه راجعًا إلى الأداة (لِلاخْتِصَاصِ) يعني يفيد الاختصاص بدلاً من أن يقال يا أيها الرجل حينئذٍ نقول: هذا أفاد الاختصاص. ومر معنا معنى الاختصاص أنه [قصر الحكم على] ذكر الحكم في المذكور ونفيه عن ما عداه، نحو: أنا أفعل كذا أيها الرجل، في مثل هذا التركيب نقول: أيها الرجل أصله يا أيها الرجل، هنا حذفت يا وأيها الرجل دليلٌ عليها، أي متخصصًا به دون الرجال، أنا أفعل كذا أيها الرجل، هذا التركيب وإن كان الأصل فيه ياء النداء إلا أنه خرج عن أصله وهو طلب الإقبال إلى معنى التخصيص بمعنى أنه ما دل عليه التركيب أنا أختص به دون غيرٍ من الرجال، فقولك: أيها الرجل تخصيصٌ منادى بطلب إقباله عليه، ثُمَّ جُرِّدَ عن ذلك ونقل إلى تخصيص مدلولٍ من بين أمثاله بما نُسِبَ إليه، يعني مدلول شخصٍ واحدٍ من بين أمثاله بما نُسِبَ إليه، يعني رجلٌ من الرجال أو زيدٌ من الزيود، واستعماله يكون إما في معرض التفاخر نحو: أنا أكرم الضيف أيها الرجل، يعني أنا مختصٌ بإكرام الضيوف من بين الرجال. أي مختصًا من بين الرجال بإكرام الضيف، أو التصاغر نحو: أنا المسكين أنا الرجل، يعني أنا المختص بالمسكنة، أو لمجرد البيان بيان المقصود بذلك الضمير نحو: أنا أدخل الدار أيها الرجل، فكل هذا صورته صورة النداء وليس به، يعني خرج عن أصله، والمراد به هذا التركيب بعينه: أنا أفعل كذا أيها الرجل، خرج عن كونه نداءً إلا إفادة التخصيص، لأن أيًّا وما جعل وصفًا له لم يرد به المخاطب يعني: النداء، لم يرد به المخاطب يعني: مناداته، بل هو عبارةٌ عما دل عليه ضمير المتكلم السابق وهو أنا، ولا يجوز فيه إظهار حرف النداء لأنه لم يبق فيه معنى النداء أصلاً فكره التصريح بأداته بلفظ أيها، والرجل مضمومٌ من نوعه على أنه صفته ومجموعه في محل نصب من حيث الإعراب بحثٌ طويل عند النحاة. (وَالإِغْرَاءِ) يعني قد يخرج النداء إلى الإغراء أي التحريض، كقولك لمن أقبل يتظلم: يا مظلوم. يعني زد، زد من الشكايا. يا مظلوم، فإنه ليس لطلب الإقبال لكونه حاصلاً وإنما الغرض والقصد إغراؤه وحثه على زيادة التظلم وبث الشكوى، فإنه ليس بنداءٍ حقيقةً. وقوله: (لِلاخْتِصَاصِ وَالإِغْرَاءِ) متعلق بقوله: (تَجِيءُ). وفي نسخةٍ: (يَجِيءُ).

ثم قال ختم الباب بقوله: (ثَمَّ مَوْضِعَ الإِنْشاءِ) قد يقع الخبر. ثم قد يقع الخبر موضع الإنشاء، مرّ معنى أن الكلام نوعان: خبرٌ، وإنشاء. وعرفنا المراد بالخبر والمراد بالإنشاء، قد يستعمل يعني: تأتي بالجملة بلفظ الخبر والمعنى إنشاء، وقد يقع العكس، لكن الأكثر أن يستعمل الخبر موضع الإنشاء، والثاني مختلفٌ فيه. ولذلك قال هنا: (ثَمَّ) للترتيب الذكري ... (مَوْضِعَ الإِنْشاءِ) بالنصب مفعولٌ مقدم لقوله: (يَقَعُ). (قَدْ) للتحقيق و (يَقَعُ) فعل مضارع و (الْخَبَرُ) فاعل (مَوْضِعَ) يعني مكان (الإِنْشاءِ)، أي قد يقع الخبر موقع الإنشاء أي: ترد صيغة الخبر ويراد بها الإنشاء لمعنًى من المعاني، منها ما ذكره الناظم بقوله: (لِلتَّفَاؤُلِ) بوقوع المعنى المطلوب فيعبر عنه بصيغة الماضي الحاصلة التي حقها أن يخبر عنها بأفعالٍ ماضية، يعني: عرفنا أن الإنشاء يكون في المستقبل شيءٌ لم يقع، ولذلك من أبرز ما يميز الخبر عن الإنشاء، الخبر شيءٌ مضى انتهى هذا الأصل فيه، والإنشاء يكون بشيءٍ متعلقٍ في المستقبل، تعبر عن المستقبل بشيءٍ قد مضى للدلالة على أنه واقعٌ وحاصل وهذا ما عناه بقوله: (لِلتَّفَاؤُلِ). يعني التفاؤل بماذا؟ بوقوع المعنى المطلوب مثل ماذا؟ غفر الله لك، هذا دعاء اللهم اغفر لك مثلاً أو له، حينئذٍ نقول: اغفر هذا الأصل، وَضِعَ موضعه غَفَرَ وهو فعلٌ ماضي للدلالة على ماذا؟ على التفاؤل بوقوع المطلوب وهو حصول المغفرة من الله للمخاطب، فإنه أبلغ من: رب اغفر له. قد يقال: رب اغفر له، وقد يقال: غفر الله لك، أيهما أبلغ؟ غفر الله لك، بخلاف اغفر، حيث أتى بصيغة الماضي كأنه وقع فأخبر عنه، (وَالْحِرْصُ) يعني والإظهار الحرص، يعني: وقصد الحرص في وقوع المطلوب الذي اشتمل عليه الخبر لأن الطالب إذا عظمت رغبته في شيءٍ كثر تصوره إياه وربما يخيل إليه أنه حاصلٌ، هذا يسمى حرصًا، حينئذٍ نورده بلفظ الماضي نحو: رزقني الله لقاءك، وزارني محبوبي ما كان اللهم ارزقني لقاءه، وزرني يا محبوبي. يعني أتى بالجملة الفعل الماضي للدلالة على الدار. قال القزويني: والدعاء بصيغة الماضي من البليغ نحو: رحمه الله يحتملها. يعني يحتمل التفاؤل ويحتمل الحرص. وهنا نصٌ من البيانيين وهو محل وفاقٍ في معنى على أنه يعبر عن الرحمة برحمه الله، والآن استبدلت عند البعض يرحمه الله وهذا غلظ، يعني ليس، يجوز من ناحية اللغة لكن ناحية المعنى البليغ لا، والدعاء بصيغة الماضي من البليغ نحو: رحمه الله يحتملها أي التفاؤل وإظهار الحرص، وأما غير البليغ فهو ذاهبٌ عن هذه الاعتبارات. (أَوْ بِعَكْسِ ذا) عكس ماذا؟ استعمال الإنشاء مرادًا به الخبر هذا مختلفٌ فيه هل هو واقعٌ أم لا؟ لكن المشهور وجوده، ووجوده في بعض الأمثلة فقط، يعني ليس له قواعد وليس له يعني نكات (تأَمَّلِ) أي تأمل المذكور، (أَوْ بِعَكْسِ ذا) أي عكس قولنا: قد يقع الخبر موقع الإنشاء أي: قد يقع الإنشاء موقع الخبر، أي يُستعمل الخبر بصيغة الطلب لنكتٍ تُدْرَكُ بالتأمل. ولذا قال الناظم: (تأَمَّلِ). منها قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ} [الأعراف: 29].

الآية لم يقل وإقامة وجوهكم تأكيدًا لمكان العناية بالصلاة {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] جاء بصيغة الإنشاء الطلب، والمراد به التسوية، حصل منك استغفارٌ أم لا؟ الحكم واحدٌ، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] أي ليتربصن دل هنا على أن التسليم إنما يكون في الامتثال. إذًا القاعدة هنا أنه يجوز أن يقع الخبر مرادً به الإنشاء، وهذا كثير، وهو متفقٌ على وجوده، وقد يقع الإنشاء مرادًا به الخبر وهذا مختلفٌ فيه، والصحيح وجوده لأنه دون سابق، والله أعلم. وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

11

عناصر الدرس * الباب السابع: الفصل والوصل. * دواعي الفصل. * دواعي الوصل. * الباب الثامن: الإيجاز والإطناب. * تعريف الإيجاز والإطناب وأنواع كلٍ. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال الناظم رحمه الله تعالى: (الْفَصْلُ وَالْوَصُلُ)، (الْبَّابُ السَّابِعُ: الْفَصْلُ وَالْوَصُلُ) الباب السابع من الأبواب الثمانية التي انحصر فيها علم المعاني، وهو أعظم الأبواب، من أبواب هذا العلم علم المعاني أعظمها الفصل والوصل، وهو أعظم الأبواب خطرًا وأصعبها مسلكًا وأدقها مأخذًا، حتى قصر أبو علي الفارسي البلاغة على معرفته قيل: مبالغة. وقيل: حقيقة. وأن من كمل فيه لا بد أن يكون كمل في غيره، يعني الذي يُتْقِنُ هذا الباب إلا من كمل في غيره من أبواب السابقة والآتية. (الْفَصْلُ وَالْوَصُلُ) قَدَّمَ الناظم الفصل لأنه الأصل، والوصل عارض، حاصل بزيادة حرف، لأن الوصل هو: عطف الجملة على الجملة. والفصل هو: ترك العطف. لأن العطف كما يكون في المفردات يكون كذلك في الجمل، كما تعطف زيدًا على عمرٍو، جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، رَأَيْتُ زَيْدًا وَبَكْرًا، عطفت المفرد على المفرد، كذلك يكون عطفه في الجمل. إن كان العطف بحرف يدل على معنى وهو غير الواو، الوَاو تدل على معنى، لكن (الفاء، وثُمّ) هذه واضحة معانيها المعاني المعتبرة في المفردات هي بعينها معتبرة في الجمل، يعني كما أن (الفاء) تدل على الترتيب مع التعقيب في المفردات كذلك مع الجمل، وكذلك (ثُمّ) تدل على التعقيب مع المهلة في المفردات كذلك في الجمل. إذًا نقول: لأن الفصل هو الأصل، والوصل عارض حاصل بزيادة حرفٍ لكن لما كان الوصل بمنزلة الملكة، والفصل بمنزلة عدمها، والأعدام إنما تعرف بملكاتها، جرت عادة علماء المعاني بتقديم تعريف الوصل، لأن الوصل يحتاج إلى ملكة. يعني: الذي يسلم مثل ما يقال: (سكن تسلم) هناك. هنا الذي يُريد أن يسلم فليفصل ولا يصل إلا إذا كان عالمًا، ولن يجيد إلا إذا كانت عنده ملكة، وهو لذلك قال: أعظم أبواب علم المعاني. قال رحمه الله تعالى: إِنْ نُزِّلَتْ ثَانِيَةٌ مِنْ مَاضِيَه ... كَنَفْسِهَا أَوْ نُزِّلَتْ كَالْعَارِيَةْ فافْصِل ................. ... ............................ إذًا قدم الفصل على الوصل. الوصل لغةً: الجمع. وهو: عطف بعض الجمل على بعض. والفصل لغةً: القطع. وهو: ترك عطف بعض الجمل على بعض. قال الناظم: (إِنْ نُزِّلَتْ ثَانِيَةٌ مِنْ مَاضِيَه). يعني إذا توالت جملتان. الحديث هنا عن الجملتين، إذا توالت جملتان فـ (إِنْ نُزِّلَتْ ثَانِيَةٌ مِنْ مَاضِيَه) يعني الثانية من ماضية يعني من السابقة، يعني الجملة الثانية المعطوفة (إِنْ نُزِّلَتْ) من السابقة التي هي المعطوف عليها كنفسها، أو النوع الثاني (أَوْ نُزِّلَتْ كَالْعَارِيَةْ) دخل تحت هذا البيت أربعة أنواع مما يجب فيه الفصل، وهو ما يعنون له بـ: كمال الاتصال هذا الأول. الثاني: شبه كمال الاتصال. وثالثًا: كمال الانقطاع. ورابعًا: شبه كمال الانقطاع. هذه أربعة أنواع، اثنان دخلا تحت قولنا: (كَنَفْسِهَا). الذي هو كمال الاتصال وشبه كمال الاتصال. أو العاري (كَالْعَارِيَةْ) دخل تحته نوعان: كمال الانقطاع، وشبه كمال الانقطاع.

ما المراد بهذه الأنواع الأربعة؟ هذه الأنواع الأربعة هي مواضع وجوب الفصل بين الجمل. الأول: كمال الاتصال. فيجب الفصل بين الجملتين إذا كان بينهما كمال الاتصال. والمراد بكمال الاتصال أن تكون الثانية مؤكدة للأولى، أو بدلاً منها، أو عطف بيان. إما تكون الثانية تأكيدًا للأولى، أو تكون بدلاً منها، أو تكون عطف بيان. حينئذٍ نقول: يجب الفصل في هذه المواضع الثلاثة، أن تُنَزّل الجملة الثانية من الأولى منزلة التوكيد المعنوي في إفادة التقرير مع اختلاف المعنى وهذا التوكيد المعنوي، أو اللفظي في إفادة التقرير مع اتحاد المعنى. يعني: قد تنزل الجملة الثانية من الأولى مُنَزَّلة التوكيد المعنوي كـ جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ، وقد تنزل الثانية من الأولى منزلة التوكيد اللفظي كـ جَاءَ زَيْدٌ زَيدٌ، هذان اعتباران من اعتبارات المذكورة هنا. مثال الأول التوكيد المعنوي قوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ}. بالنسبة إلى قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}. {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] كم جملة؟ جملتان {ذَلِكَ الْكِتَابُ} مبتدأ وخبر، {لاَ رَيْبَ فِيهِ} جملة اسمية هذه نافية للجنس {لاَ رَيْبَ فِيهِ} إذًا جملة اسمية وجملة اسمية، نُزِّلَتِ الثانية من الأولى منزلة التوكيد المعنوي، وفُصِلَ بينهما يعني: لم يعطف ذلك الكتاب ولا ريب فيه، ذلك الأمر ولا شك فيه كما يقول الناس. نقول: لا، إنما فصل بين هاتين الجملتين لأن الثانية بمنزلة التوكيد، وهل يقال: جَاءَ زَيْدٌ وَنَفْسُهُ؟ أو جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ؟ جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ، كما أنه لا يفصل بين جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ، نَفْسُه المؤكد المعنوي مع المؤكد زيد كذلك هنا نزلت مُنَزّلة التوكيد المعنوي [فلا فصل] (¬1)، بل يجب الفصل هنا وليس بـ فلا وصل بل يجب الفصل هنا. إذًا {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} فإنه لما بولغ هنا الوجه لماذا؟ لما بولغ في وصف الكتاب ببلوغه الدرجة القصوى في الكمال {ذَلِكَ الْكِتَابُ} تدل على أن الكتاب بلغ الدرجة القصوى في الكمال من جهتين: ¬

_ (¬1) سبق.

أولاً: {ذَلِكَ} تدل على كمال التمييز، وجاءت اللام، اللام البعد، وإلا {الْكِتَابُ} يشار إليه {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ} جاء في غير موضع {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ} [النمل: 76] وهذا يشار بها للقريب، لكن جاء هنا قال: {ذَلِكَ}. إذًا فيه مكانة وعظمة. {الْكِتَابُ} دخلت عليه (أل) الدالة على الكمال، حينئذٍ لما بولغ في وصف الكتاب ببلوغه الدرجة القصوى في الكمال، ووجهه أنه جعل المبتدأ {ذَلِكَ} اسم الإشارة الدالة على كمال العناية بتمييزه وتعريف الخبر {الْكِتَابُ} بـ (أل) الدالة على الانحصار حينئذٍ عرف الجزءان أي: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} أنه الكتاب الكامل الذي يستحق أن يُسمى كتابًا دون ما سواه، جاز حينئذٍ أن يتوهم السامع قبل التأمل أن في ذلك مجازًا، إذا قيل: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} هذا هو الكتاب وما عداه ليس بكتاب، قد يتوهم السامع بأنه مجاز أي: بسبب المبالغة فاتبع بقوله {لاَ رَيْبَ فِيهِ} كما أنه قد يتوهم جَاءَ زَيْدٌ رَسُولُهُ غُلامُهُ ذاته يحتمل فلما قيل: نَفْسُهُ. حينئذٍ تعين، فلما قال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}. واحتمل أنه فيه شيء من المبالغة - وانتبه هنا المعاني ليست خاصة بالمسلمين، حتى يقال: كيف يتوهم؟ - لا، هنا الكتاب عام يستمعه المسلم والكافر، فقد يتوهم الكافر العربي {ذَلِكَ الْكِتَابُ} بأنه مجاز من باب المبالغة، فجاء {لاَ رَيْبَ فِيهِ} إذًا من باب التأكيد، من باب نفي المجاز في قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}. دفعًا لهذا التوهم. إذًا هذا الأول بما يتعلق بالجملة إذا كانت الثانية بمنزلة التأكيد المعنوي.

ومثال التوكيد اللفظي تُنَزّل الثاني مُنَزّلة التوكيد اللفظي قوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}. أيضًا في نفس السورة {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} إذا جُعلت جملة مستقلة بالنسبة لقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} هذه الجملة تعتبر مؤكدة أو بمنزلة التأكيد اللفظي لقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}، {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} فإن معناه أنه في الهداية بالغ درجة لا يدرك كُنْهُهَا من أين أخذنا هذا؟ لما في تنكير هدى، هُدى دال على الإبهام والتفخيم التنكير يدل على الإبهام ويدل على التفخيم، والإتيان به دون هادٍ اسم فاعل حتى كأنه هداية محضة، لذلك تقول: زَيْدٌ عَدْل. كأنه هو العدل بعينه ولا يقال: زَيْدٌ عَادِل. إذا أردت المبالغة تقول: زَيْدٌ عَدْلٌ. إذًا هو العدل بعينه لا يزيد عنه ولا ينقص، {هُدًى} إذًا هو الهداية بعينها، فلو قلت: هادٍ. فهو أقل معنى من {هُدًى}، وكذلك عادل هو أقل معنًى من العدل، لأن المصدر يدل على تمام المعنى. وقوله: هادٍ. إذًا {هُدًى} أدل على المقام من هادٍ حتى كأنه هداية محضة، وهذا معنى {ذَلِكَ الْكِتَابُ} لأن معناه الكتاب الكامل أي في الهداية إذ هي المقصود من الإنزال فهو بإنزال جيد للثاني في قولك: جَاءَ زَيْدٌ زَيدٌ. إذًا {ذَلِكَ الْكِتَابُ} لما عرّف الجزأين وكان المراد به الكمال، الكمَال في ماذا؟ القرآن أو الكتاب إنما أُنزل من كونه هادٍ إلى طريق الله عز وجل، فإذا قيل: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} يكون فيه توكيد لفظي من جهة المعنى. إذًا هذا ما يتعلق بالجملة الثانية إن كانت مؤكِّدة، وأما البدل من كون الثاني بدلاً من الأولى لنكتة كـ كون المراد لطيفًا أو مطلوبًا في نفسه فتُنَزّل الثانية بمنزلة البدل المطابق نحو قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه: 120]. {قَالَ يَا آدَمُ} ما قال: وقال يا آدم. لماذا؟ لأن {قَالَ يَا آدَمُ} هو عين الوسوسة، أليس كذلك؟ جَاءَ زَيْدٌ أَخُوكَ، أخوك بدل مطابق، بدل كلّ من الكل، هل يصح أن تقول: جَاءَ زَيْدٌ وَأَخُوكَ، وأردت به البدلية؟ الجواب: لا، إذًا هنا لما كان قوله: {قَالَ يَا آدَمُ} هو عين الوسوسة فسرها لأن قوله: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ}. هذا فيه شيء من ناحية الإجمال، فقال: {قَالَ يَا آدَمُ}. ففصل جملة {قَالَ} لأنها بمنزلة البدل المطابق من وسوس، والنكتة في الإبدال هنا لطافة المراد ودقته، وهذا مثال صالح لعطف البيان فنحتاج إلى إعادة، لأن كل ما صلح أن يكون بدل كل من الكل فهو عطف بيان. إذًا {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ} لِمَ فصل؟ لكون الجملة {قَالَ يَا آدَمُ} بمنزلة البدل المطابق من قوله: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} أو بمنزلة عطف البيان، أو بمنزلة بدل البعض نحو قوله تعالى: {أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 132: 134] انظر {أَمَدَّكُم}، {أَمَدَّكُم}. {أَمَدَّكُم} الأولى فيها شيء من التعميم أو الإبهام ... {أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ} ما هو؟ قال: {أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}.

هل هذا كلّ ما أمدهم الله تعالى به من النعم؟ الجواب: لا، إذًا هذا بدل بعض من كلّ. ففصل جملة {أَمَدَّكُم} الثانية لأنها كبدل البعض إذ مضمونها بعض ما يعلمون، والنكتة في إبدالها كون مضمونها مطلوبًا في نفسه، أو بمنزلة بدل الاشتمال نحو: ارْحَلْ لا تُقِيمَنْ عِنْدَنَا، أو لا تُقِيمَنَّ عِنْدَنَا. ارْحَلْ ما قال: وَلا تُقِيمَنَّ. إنما قال: ارْحَلْ لا تُقِيمَنَّ. إذًا فصل بين الجملتين لكون الثانية بمنزلة بدل الاشتمال من الأولى، فلا تقيمن بدل اشتمال من ارحل، والنكتة كالذي قبله. إذًا إذا كانت الجملة الثانية بمنزلة التوكيد بنوعيه اللفظي والمعنوي، أو بمنزلة البدل من السابقة، أو بمنزلة عطف البيان حينئذٍ وجب الفصل، يعني: لا يجوز أن تعطف الثانية على الأولى، لماذا؟ لكونها توابع، والتوابع عين المتبوع، والعطف يقتضي المغايرة، والموجب للتأكيد دفع توهم السهو أو المجاز. إذًا هذا هو النوع الأول كمال الاتصال، يُعَنْوَنُ له عند البيانيين بكمال الاتصال أن تكون الثانية بمنزلة البدل أو التوكيد أو عطف البيان. الموضع الثاني من مواضع وجوب الفصل: أن يكون بين الجملتين شبه الاتصال - ليس كمال الاتصال - شبه الاتصال. يعني شبه كمال الاتصال وصورته بأن تكون الجملة الثانية جوابًا عن سؤال اقتضته الجملة الأولى، يعني تُنَزّل الجملة الأولى بمنزلة السؤال، والجملة الثانية بمنزلة الجواب. فتُنَزّل الأولى مُنَزّلة السؤال فتُفْصَلُ منها الثانية كما يُفْصَلُ الجواب عن السؤال، هذا الأصل، أَيْنَ زَيْدٌ؟ فِي الْبَيْتِ. لا يصح تقول: أَيْنَ زَيْدٌ وَفِي الْبَيْتِ. لا يُعطف الثاني على الأول، مثلها الجملة الثانية إذا كانت بمنزلة الجواب فلا تعطف على ما قبلها لأنها في منزلة الجواب، ويسمى الفصل في ذلك استئنافًا، وكذلك الجملة الثانية تسمى استئنافًا، هذا ما يُسمى باستئناف البياني الذي يمر معنا دائمًا، ما ليس واقعًا في جواب سؤال مقدر هذا الاستئناف النحوي، ما كان واقعًا في جواب سؤال مقدر هذا الاستئناف البياني. مثاله قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]. كأنه قيل: هل النفس أمارة بالسوء؟ {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} هل النفس أمارة بالسوء؟ {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} فنزلت الثانية منزلة الجواب، والأولى اقتضت السؤال فحينئذٍ وجب الفصل، وهذه بقرينة التأكيد. ومنه قول الشاعر: قال لي كيف أنت قلت عليل ... سهر دائم وحزن طويل كأنه قال: لم أنت عليل؟ فقلت: عليل سهر دائم. هذا جاء الفصل، ولم يقل وسهر دائم، لماذا؟ لكون الثانية مُنَزَّلَة مُنَزّلة الجواب من السابقة، كأن المخاطب لما سمع عليل قال: ما سبب علتك؟ قال: سهر دائم وحزن طويل.

إذًا هذا الموضع الثاني وهو شبه الاتصال، هذان الموضعان داخلان في قوله: (كَنَفْسِهَا). (إِنْ نُزِّلَتْ ثَانِيَةٌ) يعني: جملة ثانية (مِنْ مَاضِيَه) يعني من الجملة الماضية السابقة. (كَنَفْسِهَا) وهذا ما يُسمى بكمال الاتصال أو شبه كمال الاتصال. يعني أن تكون الثانية بمنزلة التوكيد، أو عطف البيان، أو بدل بأنواعه، أو بمنزلة الجواب. إذًا دخل النوعان في هذه (كَنَفْسِهَا). (أَوْ نُزِّلَتْ كَالْعَارِيَةْ) وهذا يدخل تحته أمران وهو الموضع الثالث أن يكون بين الجملتين كمال الانقطاع. وصورته أن تختلف الجملتان خبرًا وإنشاءً، الأصل في العطف عند البيانيين أن يُعطف الخبرُ على الخبرِ، والإنشاء على الإنشاء مطلقًا لفظًا ومعنًى؟ لفظًا ومعنًى هذا الأصل، فإن اختلفا في اللفظ والمعنى، أو في المعنى دون اللفظ، أو في اللفظ، في البعض دون المعنى، يعني كانت الأولى خبرية لفظًا إنشائية معنى، وكانت الثانية إنشائية لفظًا خبرية المعنى، حينئذٍ قالوا: هذا حصل فيه اختلاف. إذًا كمال الانقطاع أن تختلف الجملتان خبرًا وإنشاءً، لفظًا ومعنًى، أو معنًى فقط، أو يفقد الجامع، لا بد من تحقق أمرين. مثال كمال الانقطاع: مات فلان رحمه الله. هل يصح أن يقال مات فلان ورحمه الله؟ لا يصح، لماذا؟ لكون الأولى خبرًا لفظًا ومعنًى، والثانية خبرٌ لفظًا لا معنًى. لأن رحمه الله عرفنا قبل قليل أنه ثُمَّ قد يقع الخبر موضع الإنشاء، وهنا وقع الخبر موضع الإنشاء رحمه الله بمعنى يرحمه الله. إذًا لما اختلفا في المعنى خبرًا وإنشاءً حينئذٍ وجب الفصل. إذًا مات فلان رحمه الله، أي يرحمه الله. فهو إنشاء معنًى فلا يصح عطفه على مات فلان، لأنه خبر لفظًا ومعنًى. إذًا هذا الموضع الثالث من المواضع التي يجب فيها الفصل فصل جملة الثانية على الأولى ولا يجوز العطف إذا كان بين الجملتين كمال الانقطاع لأن اختلفتا خبرًا وإنشاءً أو فقد الجامع، وسيأتي فقد الجامع. الموضع الرابع من مواضع وجوب الفصل: شبه الانقطاع. يعني شبه كمال الانقطاع. بأن يكون عطف الثاني على الأولى موهمًا لعطفها على غيرها. يعني: لو عطفنا لوقع وهم أو فسد المعنى مثاله المشهور عندهم: وتظن سلمى أنني أبغي بها ... بدلاً أُرَاهَا في الضلال تهيمُ تظن سلمى ماذا؟ أنني أبغي بها بدلاً، هذا مظنون سلمى، أُرَاهَا يعني أنا. في الضلال تهيم، ولو عطف أُرَاهَا على أبغي لصار من مظنون سلمى. إذًا العطف هنا يُفسد المعنى، حينئذٍ نقول: يجب الفصل لأننا لو عطفنا أُرَاهَا على أبغي لصار من مظنون سلمى، تظن سلمى ماذا؟ أنني أبغي بها بدلاً، وهل تظن أنني أُرَاهَا في الضلال تهيم؟ الجواب: لا. هذا من مظنون المتكلم الشاعر نفسه، وأما هي فلا. إذًا نقول: فصل أُرَاهَا عن أبغي، لأنه لو عُطِفَ لظُنَّ أنه معطوف على أبغي، وليس مرادًا بل يفسد المعنى. اتضح هذا؟ إذا عَطَفَ هنا صار من مظنون سلمى، تظن سلمى أنني أبغي. إذًا هذا مظنون سلمى، هذا الذي تظنه سلمى. أُرَاهَا في الضلال تهيم. هذا مظنوني أنا، فلو عطفته على أبغي لظُنَّ أنه من مظنون سلمى فسد المعنى.

إذًا هاتان الموضعان كمال الانقطاع، وشبه كمال الانقطاع، وهو المراد بقوله: (إِنْ نُزِّلَتْ) يعني الثانية من الأولى (كَالْعَارِيَةْ)، (فافْصِل). إذًا هذه مواضع أربعة يجب فيها الفصل. أو نزلت الجملة الثانية من الأولى كالعارية. العارية ما تعطيه غيرك على أن يعيده إياك، يقال: أعاره أعطاه إياه عارية. (كَالْعَارِيَةْ) قال الشارح هنا: بأن لم يقصد تشريك الثانية للأولى في الحكم. وهو داخل في مفهوم ما قد سبق، لكن ثَمَّ مثال مشهور عند البيانيين وهو جميل قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14، 15] ما قال: والله يستهزئ بهم. فصل بماذا؟ لم يعطف {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على {إِنَّا مَعَكُمْ} لأن الاحتمال إما أن يُعْطَف على إذا خلوا والله يستهزئ بهم، أو إن يُعطف على قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ}، وكلا المعنيين العطف يُفسد المعنى، والله يستهزئ بهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم والله يستهزئ بهم لو عطف على {إِنَّا مَعَكُمْ} لصار من مقول المنافقين، أليس كذلك؟ وإذا عطفه على خلوا {وَإِذَا خَلَوْاْ} خلوا هذا مقيد، مقيد بماذا؟ بظرف بمعنى أن قولهم هذا إنما هو مقيد بالخلوة، إذًا الحال المقابل للخلوة انتفى مقولهم، أليس كذلك؟ لو عُطِفَ {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على خلوا {وَإِذَا خَلَوْاْ} حينئذٍ صار استهزاء الله سبحانه وتعالى بهم في حال خلوتهم لا مطلقًا، وهذا فسد المعنى. بل {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} مطلقًا دون أن يقيد بفعلهم هم، وإنما يكون على إطلاقه، فكلا المعنيين لو عُطِفَ {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فَسَدَ. لم يعطف {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على {إِنَّا مَعَكُمْ} لماذا؟ لأنه ليس من مقولهم فلو عُطِفَ عليه لزم تشريكه في كونه مقول قالوا فيلزم أن يكون مقول قول المنافقين وليس كذلك {قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ}، {قَالُواْ} أي: المنافقون. إنا معكم والله يستهزئ بهم، هذا فيه تنافي. أو كان للأولى حكم لم يقصد إعطائه للثانية فالفصل واجب [لئلا يلزم من الفصل التشريك] (¬1) لئلا يلزم من الوصل التشريك في ذلك الحكم نحو: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} .. الآية، لم يعطف {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على {قَالُواْ} لئلا يُشاركه في الاختصاص بالظرف المتقدم لأن قوله: ... {وَإِذَا خَلَوْاْ}. هذا ظرف، والظرف متعلق بقوله: {قَالُواْ} أليس كذلك؟ متى يقول قولهم؟ إذا خلوا، لو عطفه على قالوا: ليس على مدخول قالوا لصار متقيدًا بالظرف وهو لم يرد، لم يُعطف {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على {قَالُواْ} لئلا يشاركه في الاختصاص في الظرف المتقدم وهو قوله: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} لما مر أن تقديم المفعول ونحوه من الظرف وغيره يفيد الاختصاص فيلزم أن يكون استهزاء الله بهم مختص بحال خلوتهم إلى شياطينهم وليس كذلك. فجميع ما مرّ قال الناظم فيه: (فافْصِل) أي وجوبًا. والفاء هنا واقعة في جواب الشرط. (فافْصِل) إذًا في المواضع الأربعة السابقة. ¬

_ (¬1) سبق.

(وَإِنْ تَوَسُّطٌ فالْوَصْلُ ** بِجَامِعٍ أَرْجَحُ)، (وَإِنْ تَوَسُّطٌ) يعني: للجملتين في نسخة وإن تَوسَّطت (وَإِنْ تَوَسُّطٌ) وهذا عبارة السيوطي في ((عقود الجمان))، (وَإِنْ تَوَسُّطٌ) للجملتين توسط بين ماذا؟ بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع، عرفنا كمال الاتصال وعرفنا كمال الانقطاع، كمال الاتصال أن تكون الجملة الثانية مؤكدة أو بدلاً أو عطف بيان أو بمنزلة الجواب، هذا ليس منزلة جواب منزلة الجواب هذا شبه الاتصال، كمال الانقطاع أن يكون بين الجملتين تنافٍ في الخبرية والإنشائية مع فقد الجامع. التوسط بين الموضعين قال هنا: (وَإِنْ تَوَسُّطٌ) يعني بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع بأن تتفق الجملتان في الخبرية أو الإنشائية لفظًا ومعنًى أو معنًى فقط - انظر أو معنّى فقط - ولهما أقسام ثمانية تُطلب في المطولات. مثاله قوله: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]. والجامع هنا الاتحاد في المسند {يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} جاء العطف هنا لماذا؟ لكون الجملة الثانية خبرية أو إنشائية؟ الجملة الأولى {يُخَادِعُونَ اللهَ} خبرية لفظًا ومعنًى {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} خبرية لفظًا ومعنًى، {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} خبرية لفظًا ومعنًى ووجد الجامع وهو اتحاد المسند، أين المسند؟ {يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} الجامع للاتحاد في المسند {يُخَادِعُونَ} الواو، طيب {خَادِعُهُمْ} من؟ من المخادَع هنا؟ {يُخَادِعُونَ اللهَ} على كلامهم؟ المفعول به، والفاعل هم، {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أي الله عز وجل. حينئذٍ الاتحاد وقع في ماذا هنا؟ يخادِعون وخادِع اتحدا في اللفظ المادة، اتحدا في اللفظ لأنه مشتق من المخادعة فحينئذٍ لما اتحدا صار تناسب بينهما، وهو الجامع الآتي ذكره إن شاء الله. {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14] عطفت الثانية على الأولى، الأُولى إنشائية أو خبرية؟ خبرية لفظًا ومعنًى، ليس فيه تمني ولا والثانية؟ كذلك، والجامع بينهما؟ أبرار فجار، نعيم جحيم، تضاد، لأن التضاد هذا يعتبر مما يجمع به بين الأمرين. قال: (فالْوَصْلُ). إذًا (وَإِنْ تَوَسُّطٌ فالْوَصْلُ) هذا مبتدأ، (أَرْجَحُ) هذا الخبر، (بِجَامِعٍ) هذا متعلق بقوله: (فالْوَصْلُ). (فالْوَصْلُ) بين الجملتين بالواو (بِجَامِعٍ) هذا فيه اشتراط وجود الجامع، يعني لا يكون التوسط توسطًا إلا بوجود الجامع، فإن انتفى الجامع حينئذٍ انتفى التوسط، (بِجَامِعٍ) بين الجملة الأولى والثانية. أي: لا بد في جميع ذلك أن يكون مقرونًا بجامع أي وجه من وجوه المناسبة، لا وصل إلا بجامع، لا عطف لجملة ثانية على أولى إلا لمناسبة بينهما، فيكون باعتبار المسنَد إليهما، يعني ما هما أوجه الجامع أو المناسبة؟

لهم كلام طويل فيه، لكن منه يكون باعتبار المسنَد إليهما والمسندين جميعًا. أي المسند إليه في الأولى والمسند إليه في الثانية، إذا اتفقا فحينئذٍ قلنا: هذه مناسبة كالمثال السابق. وكذلك المسند في الأولى والمسند في الثانية. إذا اتفقا قلنا: هذا جمع، نحو ماذا؟ يَشْعُرُ زَيْدٌ وَيكْتُبُ هنا الشعر والكتابة بينهما مناسبة، يعني إذا جاء في الذهن الشعر يستحضر الكتابة، وإذا جاءت الكتابة يستحضر الشعر، ثم المسند إليه هو هُو يَشْعُرُ زَيْدٌ وَيكْتُبُ هُوَ، إذًا ثَمَّ مناسبة بينهما، لا يقال: يَشْعُرُ زَيْدٌ يكْتُبُ. وإنما يقال: وَيكْتُبُ. للمناسبة الظاهرة بين الشعر والكتابة وتقارنهما في خيال أصحابهما، يعني الذي يتخيل الشعر يتخيل الكتابة والعكس بالعكس، وعمرو يعطي ويمنع، الإعطاء إذا استحضره الإنسان في ذهنه تصور ماذا؟ مقابله وهو المنع، إذًا هذه مناسبة، مناسبة في ماذا؟ في الوجود أو في التضاد؟ الثاني في التضاد؛ لأنه لا يمنع يعطي في وقت واحد مع اتحاد الجهة. إذًا وعمرو يعطي ويمنع لما بين الإعطاء من تناسب التضاد، وخَالِدٌ شَاعِرٌ وَبِشْرٌ كَاتِبٌ، وَزَيْدٌ طَوِيلٌ وَعَمْروٌ قَصِيرٌ. خالدٌ شَاعِرٌ وبِشْرٌ كَاتِبٌ، شاعر كاتب، وَخالِدٌ وَبِشْرٌ إذا كان بينهما إخوة أو صداقة أو صحبة ونحوها حينئذٍ نقول: هذا مناسب. زَيْدٌ طَوِيلٌ وَعَمْروٌ قَصِيرٌ الطول والقصر تضاد، وزيد وعمرو إذا كانت بينهما مناسبة من إخوة أو صداقة أو نحوهما من الملابسات بخلاف ما إذا لم يكن كذلك فإنه لا يجوز، لو لم يكن بين زيد وعمرو مناسبة لم يَجُزِ العطف زَيْدٌ طَوِيلٌ وَعَمْروٌ قَصِيرٌ وزيد هذا في واد وهذا في وادٍ آخر، لا يجوز العطف، لماذا؟ لعدم وجود الجامع. وإن كان المسندان فقط متناسبين دون المسند إليهما نحو زَيْدٌ كَاتِبٌ وَعَمْروٌ شَاعِرٌ حيث لا مناسبة بين زيد وعمرو بوجه مما ذُكر على ما ذكرنا، ونحو: خُفِّي ضَيِّقٌ وَخَاتَمِي وَسِيع. الضيق والسعة متقابلان حصل المناسبة، لكن خفي وخاتمي ليس بينهما جامع. إذًا نقول: هذا لا يصح العطف إلا على وجه آخر. امتنع العطف يعني في نحو خُفِّي ضَيِّقٌ وَخَاتَمِي وَسِيع، امتنع العطف لعدم المناسبة بين زيد وعمرو في الحالة المفروضة السابقة، وعدم المناسبة بين الخف والخاتم، وإن وجدت مناسبة التماثل في المسندين الأولين وهما الشعر والكتابة، ومناسبة التضاد في المسندين الآخرين وهما الضيق والسعة، حيث لا مناسبة بين مسند إليهما في المثالين، أي بين زيد وعمرو، والخف و .. . إذًا لا بد من وجود المناسبة بين المسندين والمسند إليهما في الموضعين، وكذا نحو زيد شاعر وعمرو طويل سواء كان بين زيد وعمرو مناسبة أم لا لعدم التناسب بين المسندين وهما الشعر والطول. زَيْدٌ شَاعِرٌ وعَمْروٌ طَوِيلٌ لا يصح العطف لماذا؟ لأن الطول والشعر ليس بينهما مناسبة، إذا استحضر الشعر لا يستحضر الطول، والعكس بالعكس، ولو كان زيد وعمرو أخوين، لو وجد المناسبة بين المسند إليه يعني: بينهما ترابط ومعنى وتعلق لم توجد مناسبة بين المسندين حينئذٍ امتنع العطف.

وقول الناظم: (أَرْجَحُ). هذا غلط، ظاهره يُشعر بجواز الفصل وليس كذلك، بل يجب الوصل في هذا الموضع (وَإِنْ تَوَسُّطٌ فالْوَصْلُ ** بِجَامِعٍ) واجب متعين وليس بأرجح لأنه يُفهم ماذا؟ يُشعر بجواز الفصل، وليس كذلك، بل الوصل متعين في هذه الحالة. الحاصل أن التوسط توسط الجملتين بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع لا بد من تحقق أمرين، توسط حقيقته إذا اجتمع فيه أمران: الأمر الأول: اتفاق الجملتين خبرًا وإنشاءً على التفصيل الذي ذكرناه. اتفاق الجملتين خبرًا وإنشاءً. الثاني: وجود الجامع بين الجملتين. إن وجدا قلنا: توسط فيجب الوصل. إن فقدا أو فقد أحدهما حينئذٍ هو كمال الانقطاع لأنه إذا فقد الأول في فك الجملتين إذ لم تتفق الجملتان فهو كمال انقطاع، وإذا لم يوجد الجامع فهو كمال انقطاع، إن فقدا حينئذٍ واضح بين إن اجتمعا حينئذٍ هو التوسط فيجب الوصل. إذًا متى نحكم على الجملتين لكونهما توسطتا بين كمال الانقطاع وكمال الاتصال؟ إذا تحقق فيه أمران: اتفاق الجملتين خبرًا وإنشاءً. وجود الجامع. حينئذٍ نحكم على الجملة بأنها متوسطة فيجب الوصل. فإذا اختل أحد الأمرين فهو كمال الانقطاع. (وَإِنْ تَوَسُّطٌ فالْوَصْلُ ** بِجَامِعٍ أَرْجَحُ) وهذه الحالة الخامسة التي يذكرها البيانيون. بقي حالة، وهي مما يجب فيه الوصل، هو الوصل لدفع لإيهام، وهذه واضحة، لا، جزاك الله خيرًا. لا، وجزاك الله خيرًا. أليس كذلك؟ قالوا: هنا يجب. فيه خلاف المشهور أنه يجب، حينئذٍ إذا كان ثَمَّ إيهام ولا يدفع إلا بالوصل وجب الوصل. إذا قال له: تفضل. قال: لا جزاك الله خيرًا [ها ها] يوهم ماذا؟ أنه دعاء عليه، وهو ليس كذلك. إذًا لا وجزاك الله خيرًا، لا وأستغفر الله، لا وأيدك الله، لا وبارك الله فيك، لا بد من الإتيان بالواو هذه الحالة السادسة. وهي الوصل لدفع الإيهام، كقولهم: لا وأيدك الله. وُصِلَتْ وإن كان بينهما كمال الاتصال لأن الأولى خبر والثانية إنشاء لئلا يُتَوَهّم أن لا داخلة على جملة وأيدك الله فتكون دعاءً عليه، ومثله: لا وأستغفر الله. ................... ... ............ ثُمَّ الْفَصْلُ بِحَالٍ حَيْثُ أَصلُهَا قَدْ سَلِمَا ... أَصْلٌ وَإِنْ مُرَجِّحٌ تَحَتَّما لما كانت الجملة الحالية أو كانت الحال الواقعة جملة تارة توصل بالواو وتارة تفصل عن صاحب الحال حينئذٍ لها علاقة بباب الوصل والفصل، ولذلك يذكرها البيانيون في خاتمة باب الوصل والفصل لأنها إن فصلت فهي من الفصل، وإن وصلت فهي من الوصل. إذًا لها حالان، لما كانت الحالة الأولى واقعة جملة تارة تدخلها الواو وتارة لا تدخلها صار لها في الصورة حالتا وصل وفصل، فناسب ذكر ذلك في بابه، وتارة تأتي بالواو وتارة بدونها حينئذٍ عَقَّبَ للمناسبة. فقال: (ثُمَّ الْفَصْلُ للحَالٍ) أي: المنتقلة هنا (بِمَا لِحَالٍ) هذا ما ظهر لي وجهه، (بِمَا لِحَالٍ) في الشرح [لا في للحال]. ثم الفصل للحال حيث أصلها قد سلما الكلام واضح، أما (ثُمَّ الْفَصْلُ بِمَا لِحَالٍ) هذا لم يتضح لي والله أعلم.

(ثُمَّ) للترتيب الذكري، (الْفَصْلُ للحَالٍ) المنتقلة، منتقلة هذا قيد لا بد من تقيدها، أي ترك عطفها بالواو (الْفَصْلُ) يعني ترك العطف. ... (للحَالٍ) المراد هنا جملة الحال لأن الحديث هنا في ماذا؟ في الجمل لا في المفردات، ليس جاء زيد راكبًا، لا، هذا قول واحد أنه لا يوصل بسابقه، لا يعطف بالواو، وإنما المراد بالجملة. إذًا (للحَالٍ) الواقعة جملة، والمراد بها الحال التي هي منتقلة، (حَيْثُ أَصلُهَا) هنا تعليل، حيث للتعليل يعني لماذا الفصل؟ (حَيْثُ أَصلُهَا)، المراد بالأصل هنا المفرد، لأن الحال كالخبر تارة تأتي مفردًا، وتارة تأتي جملة بنوعيها، أي النوعين أصل للآخر؟ المفرد أصل للجملة، [جاء زيد] (¬1) لا ليس جاء، زيد قائم هذا أصل لقولك: زيد أبوه قائم. أليس كذلك؟ أبوه قائم جملة خبر، هي فرع لماذا؟ لأنها في قوة المفرد، يعني تفسر بمفرد، الحال كذلك، الأصل جاء زيد ضاحكًا هذا الأصل، جاء زيد يضحك هذا فرع، فلما كان الأصل لا يُعطف بالواو كان الأصل في الفرع ألا يُعطف بالواو، اتضحت؟ واضح؟ الأصل المفرد لا يُعطف، قلنا: الحال إذا جاءت مفردة لا تُعطف، جاء زيد ضاحكًا، هل يصح أن يقال: جاء زيد وضاحكًا؟ ما يصح. إذًا الأصل في الحال المفردة أن لا توصل بما قبلها أو بصاحب الحال بالواو فوجب الفصل، إذا قيل: جاء زيد يضحك هذا فرع أم أصل؟ فرع، لماذا؟ لأنه جملة، والأصل في الحال أن تكون مفردة، كما أن الأصل الذي هو المفرد الفصل ولا يوصل بالواو كان الفرع كذلك، صار مثله، ولذلك علله (حَيْثُ أَصلُهَا) إذًا الفصل (للحَالٍ) هذا الأصل، لماذا؟ لأن (أَصلُهَا) الذي هو المفرد، فحيث هنا للتعليل، (حَيْثُ أَصلُهَا) وهو المفرد في قولك: جاء زيد ضاحكًا. (قَدْ سَلِمَا) من دخول الواو، والألف للإطلاق، كما أن أصلها سلم من دخول الواو كذلك الفرع الذي هو الجملة إذا وقعت حالاً تسلم. إذًا الأصل في جملة الحال الفصل وليس الوصل، حيث (أَصلُهَا قَدْ سَلِمَا ** أَصْلٌ) هذا خبر الفصل، الْفصل أصل، لو قيل بأن جملة الحال توصل وتفصل، توصل يعني تدخل عليها الواو، وتفصل، لكن أي النوعين أصل، الفصل أم الوصل؟ الفصل، لذلك قال: الفصل أصل، والوصل فرع. لماذا كان الأصل هو الفصل؟ لأنها فرع عن المفرد، والمفرد الأصل فيه الفصل بل يتعين الفصل، واضح هذا؟ أصل لأنها معربة بالأصالة لا بالتبعية، والإعراب في الأسماء إنما جيء به للدلالة على المعاني الطارئة عليها بسبب تركيبها مع العوامل فهو دال على التعلق المعنوي بينها وبين عواملها فيكون مغنيًا عن تكلف تعلق آخر كالواو، والأحسن من هذا ما استدل به القزويني حيث قال: استدل على ذلك بالقياس على الخبر والنعت. الخبر لا يفصل عن المبتدأ بالواو، والنعت لا يفصل عن المعنوت بالواو، والحال بمعنى الخبر والنعت فلا توصل بالواو. قال رحمه الله: لأنها في المعنى - يعني جملة الحال. - حكم على صاحبها كالخبر، ووصف له كالنعت. إذًا بالمنزلة، وإذا كان الحال مثل الخبر والنعت فكما أنهما يكونان بدون الواو فكذلك الحال. عرفنا هذا؟ إذًا [والحال] و (الْفَصْلُ للحَالٍ أَصلُهَا قَدْ سَلِمَا) أصلها. ¬

_ (¬1) سبق.

قلنا: الحال المراد بها المنتقلة احترازًا عن المؤكدة لمضمون الجملة فإنها لا يجوز أن توصل البتة، بل الفصل متعين في كل حال، فإنها لا تدخلها الواو أبدًا لشدة ارتباطها بما قبلها كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} [النساء: 79] قد تأتي جملة وقد تأتي مفردة، فهذه الحال المؤكِّدة لعاملها لفظًا ومعنًى. (وَإِنْ مُرَجِّحٌ تَحَتَّما) إن وُجِدَ مرجح ينقل عن الأصل وهو الفصل إلى الوصل حينئذٍ (تَحَتَّما) يعني صار العدول إلى الوصل هو الأصل، (وَإِنْ) يعني (وَإِنْ) يكن (مُرَجِّحٌ) للفصل على الوصل أو للوصل على الفصل (تَحَتَّما) بألف الإطلاق، أي وجب الفصل وامتنع دخول الواو، وذلك بأن كانت الجملة فعلية والفعل مضارع مثبت، التفاصيل هذا يذكرها النحاة في آخر باب الحال وفيها تفاصيل كثر تُرْجَع إليها. إذا كانت الجملة جملة حالية فعلية وفعلها مضارع مثبت، يعني غير منفي حينئذٍ يجب الاكتفاء بالضمير لأنه أصل في الربط، جاء زيد يضحك. جاء زيد ويضحك؟ نقول: لا، هذا لا يصح. لماذا؟ لكون الحال هنا جملة فعلية فعلها مضارع وهو مثبت، حينئذٍ أين الرابط؟ الضمير المستتر يضحك هو أي زيد، فيكتفى بالضمير عن الواو، لأنه أصل في الربط. ومثَّلَ له البيانيون بقوله تعالى: {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] أي لا تعطي حال كونك تعد ما تعطيه كثيرًا. والمثال الذي ذكرناه واضح. أيضًا وإن يكن مرجحًا للوصل (تَحَتَّما) أيضًا الوصل فيؤتى بالواو، وضابطه كل جملة خلت عن ضمير يربطها بصاحبها بالواو ليحصل ارتباط بصاحبها فلا يجوز، خرجت زيد قائم، يعني إذا خلت الجملة عن ضمير تعينت الواو، إذا وجد الضمير حينئذٍ قد يجوز الواو وقد لا يجوز، يعني مختلف فيه له أوضاع وأحوال، وإن خلت الجملة عن الضمير تعينت الواو، لماذا؟ لأن الحالية كالجملة الخبرية لا بد لها من رابط يربطها بالمبتدأ، هنا لا بد من رابط يربطها بصاحب الحال، فإذا قلت: خَرَجْتُ زَيْدٌ قَائِم. أين الضمير؟ ليس عندنا ضمير. إذًا وجب الوصل بالواو، خَرَجْتُ وَزَيْدٌ قَائِمٌ، الواو هذه واو الحال، والتفاصيل هذه تؤخذ من كتب النحو. ثم قال الناظم رحمه الله تعالى: (الْبَابُ الثَّامِنُ: الإِيجَازُ وَالإِطْنَابُ)

يسير الباب نأتي عليه (الْبَابُ الثَّامِنُ) وهو خاتمة الأبواب الثمانية التي انحصر فيها علم المعاني، وهو: (الإِيجَازُ وَالإِطْنَابُ). هذا هو الباب الثامن، وهو باب عظيم حتى نقل صاحب ((سر الفصاحة)) عن بعضها أن البلاغة هي الإيجاز والإطناب كما قيل في الوصل والفصل، (الإِيجَازُ وَالإِطْنَابُ) هي البلاغة ولم يذكر الناظم المساواة، (الإِيجَازُ وَالإِطْنَابُ) ولم يذكر المساواة هذه مما يستدل بها على أن الناظم لم ينظم ((التلخيص)) لأن ((التلخيص)) ذكر المساواة جعلها أصل، مساواة وإيجاز وإطناب، وهنا أسقط المساواة، ولم يذكر المساواة للعلم بها مما ذكره في حد (الإِيجَازُ وَالإِطْنَابُ). هذا إذا أردنا أن نجعل النظم صار على ما صار عليه الكثير من البيانيين، وإن رأينا أنه جنح إلى رأي ابن الأثير أن المساواة لا وجود لها، إما إيجاز، وإما إطناب. حينئذٍ نقول: خالف كثيرًا من البيانيين. وأيضًا لقلة الأبحاث المتعلقة بالمساواة لم يذكرها، الإيجاز والإطناب والمساواة هذه ثلاثة أبحاث، لماذا انقسمت إلى ثلاثة ألفاظ لمعانيها؟ لأن المقبول من طرق التعبير إذا تكلم المتكلم ليس كل ما تكلم به يكون مقبولاً، وإنما المقبول قالوا: إما أن يعبر عن المراد تأدّية أصله بلفظ مساوٍ له، فالمقبول من طرق التعبير عن المراد إما أن يكون بتأدّية أصله بلفظ مساوٍ له، أو ناقص عنه وافٍ، أو زائد عليه بفائدة، يعني إذا تكلم متكلم اللفظ والمعنى: إما أن يكون متساويين. وإما أن يكون أحدهما زائد على الآخر. وإما أن يكون ناقصًا. فالمساوي هو المساواة، والناقص هو الإيجاز، والزائد هو الإطناب. فالمقبول من طرق التعبير عن المراد تأدية أصله بلفظ مساوٍ له تأدية أصل يعني المعنى أصل المراد بلفظ مساوٍ له، يعني اللفظ والمعنى متساويان ليس أحدهما أزيد من الثاني. أو ناقص عنه وافٍ، يعني اللفظ ناقص عن المعنى والمعنى كثير هذا يُسمى الإيجاز. أو زائد عليه بفائدة، وهذا يسمى الإطناب. فالأول المساواة، والثاني الإيجاز، والثالث الإطناب. فالمساواة نحو قوله تعالى مثَّلَ لها الناظم ولا يذكرها {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] والمثال هذا فيه كلام لكن من باب المثال فقط {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} قالوا: فإذا تأملت الآية وجدتها منطبقة على معانها من غير زيادة ولا نقصان. إذًا المساواة هي في حقيقتها تأدية أصل المعنى بلفظ مساوٍ له لفائدة، والمثال هو المذكور، وأشار الناظم إلى تعريف ما بوب له وهو الإيجاز والإطناب بقوله: (تَوْفِيَةُ المُرَادِ بِالنَّاقِصِ مِنْ ** لَفْظٍ لَهُ الإِيجَازُ) ما هو الإيجاز؟ (تَوْفِيَةُ المُرَادِ) يقال: وَفَى الشيء يَفِي وُفِيًّا على فُعُولٍ أي تم وكثر. وأَوْفَى على الشيء وأَوْفَاه حقّه ووَفَّى تَوْفِيَةً بمعنى أنه أعطاه. إذًا (تَوْفِيَةُ المُرَادِ) يعني إعطاء المراد الذي هو المعنى، والمراد به أصل المعنى (تَوْفِيَةُ المُرَادِ) أي توفية المعنى المقصود من اللفظ. (بِالنَّاقِصِ) يعني باللفظ الناقص، عنه عن أصل المراد إذًا عندنا أمران: أصل المراد وهو المعنى.

وعندنا ما يُعَبَّرُ أو ما يُعَبِّرُ عن أصل المعنى. الأول هو المقصود، والثاني هو اللفظ، إن أُدِّيَ المعنى الذي هو أصل المراد بلفظ ناقص وكان المراد أكثر من حيث المعنى فهو الإيجاز، باللفظ الناقص عنه أي: عن أصل المراد بـ (لَفْظٍ لَهُ) كما قال الناظم، والضمير في قوله: (لَهُ) يعود إلى المراد. (الإِيجَازُ) يعني هو الإيجاز، وهو لغةً التقصير ضد التطويل، فهو هنا بمعنى الاختصار، فالإيجاز عُرْفًا تَأْدِيَةُ أصل المعنى بلفظ ناقص وافٍ لفائدة، أو التعبير عن المقصود بلفظ ناقص عنه وافيًا به، بمعنى أنه يشترط أن يكون اللفظ ناقصًا لكن لا يخل بالمعنى، فإن خل بالمعنى هذا خرج عن كونه فصيحًا، الكلام في لفظ وجيز يؤدى به معنى كثير دون خلل في المعنى. (وَالإِطْنَابُ إِنْ بِزَائِدٍ عَنْهُ)، (وَالإِطْنَابُ إِنْ) أُدِّيَ أصل المعنى المراد بلفظ زائد عنه، (وَالإِطْنَابُ إِنْ) أين فعل الشرط؟ نقول: محذوف دل عليه ما سبق (إِنْ بِزَائِدٍ عَنْهُ) إن أُدِّيَ أصل المعنى المراد (بِزَائِدٍ) أي بلفظ زائد (عَنْهُ) يعني عن المراد. بلفظ زائد (عَنْهُ) أي عن المراد. فهو تأدية أصل معنى المراد بلفظ زائد عنه. فيكون اللفظ أكثر من المعنى، لكن لا بد من فائدة وإلا صار حوشًا، أو التعبير عن المقصود بلفظ زائد عليه لفائدة، فخرج بقوله بتعريف الإطناب بفائدة التطويل وهو المسمى بالإكثار، وهو أن يكون اللفظ زائدًا على أصل المعنى لا لفائدة، ويكون الزائد غير متعين كما في قول الشاعر: وألفى قولها كذبًا ومَيْنَا كذبًا ومينًا ما الفرق بينهما؟ المين هو الكذب، والكذب هو المين، ليس فيه زيادة لمعنى، وإنما هي زائدة دون، لكن لا يُعَيَّن بأن الزائد هو كذبًا أو مينًا، وإنما هنا غير معين، فيه زائد لكن لا نحكم به، لأن الذي يحكم هو المتكلم، فإن الكذب هو المين فلا فائدة من الجمع بينهما. وخرج الحشو وهو الزائد المتعين، يعني: الإطناب يُشترط فيه الفائدة، احترزنا عن ماذا؟ عن التطويل، والتطويل هو زيادة لكنها غير متعينة مثل كذبًا ومينًا، واحد منهما زائد لكن ما ندري ما هو؟ الحشو زيادة لكنها متعينة، نعرف أن هذه الكلمة هي الزائدة، فخرج الحشو وهو الزائد المتعين. من قول الشاعر: واعلم علم اليوم والأمس قبله ما الفائدة من قبله، الأمس دل عليه، الأمس لا يكون إلا قبلاً، الأمس قبله، إذًا قبله نقول: هذا زائد وهو حشو، فإن قوله: قبله. زائد مستغنًى عنه. ثم قسم الإيجاز إلى نوعين فقال: (وَضَرْبَا الأَوَّلِ). الألف هذه وَضَرْبَ الأَوَّلِ، قصر، مبتدأ مرفوع بالابتداء، ورفع الألف، والنون حذفت للإضافة (وَضَرْبَ الأَوَّلِ) بدليل قال: (الأَوَّلِ). عرفنا أن الأول مضاف والثاني مضاف إليه (وضربان: (وَضَرْبَا الأَوَّلِ ** قَصْرٌ وَحَذْفُ جُمْلَة أَوْ جُمَلِ) دل على أن الإيجاز نوعان، ثم شرع في بيانهما، ثم قسم الإيجاز إلى نوعين فقال: (وَضَرْبَا الأَوَّلِ) أي الإيجاز. (قَصْرٌ) أي إيجاز قصر. (وَحَذْفُ جُمْلَة) .. إلى آخره أي إيجاز حذف. إذًا الإيجاز نوعان: إيجاز قصر. وإيجاز حذف.

والفرق بينهما أن الكلام القليل إن كان بعضًا من كلامه كثير فهو إيجاز حذف، وإن كان كاملاً يُعْطِي معنًى أطول منه فهو إيجاز القصر. يعني إذا كان الكلام ليس فيه حذف وكان الكلام اللفظ قليلاً والمعنى كثيرًا فهو إيجاز قصر، وأما إذا كان المعنى كثيرًا وحصل حذف كما سيذكره الناظم حينئذٍ يسمى إيجاز حذف. إذًا الفرق بينهما أن الكلام القليل إن كان بعضًا من كلام كثير فهو إيجاز حذف، إن كان مختصر منه، يعني: حذفت بعض الألفاظ.

وإن كان كاملاً يعطي معنًى أطول منه فهو إيجاز قصر، وقد يجتمعان في نحو فلان يعطي ويمنع، فإذا جعلت الفعل قاصرًا من باب {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] حينئذٍ هذا قصر، إيجاز قصر، وإذا جعلته مما حذف مفعوله بمعنى أنه مما كان الأصل فيه ذكر المفعول ولم تُنَزِّله مُنَزّلة القاصر حينئذٍ لزم، يعني لزم التقرير كما مرّ معنا حينئذٍ صار فيه إطناب. فإذا جعلت الفعل قاصرًا فهو إيجاز قصر، وإذا جعلته متعدّيًا وحذفت المفعول إرادة العموم فهو إيجاز حذف. يعني لفظ واحد يحتمل الأمرين. فإيجاز القصر أن يتيسر للمتكلم كلام لفظه قليل ومعناه كثير، اللفظ القليل والمعنى كثير. مثاله قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]. فإن معناه كثير ولفظه قليل لأن معناه أن الإنسان إذا علم أنه متى قَتَلَ قُتِلَ كان ذلك داعيًا إلى أن لا يقدم على القتل فارتفع بالقتل الذي هو القصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض، وكان ارتفاع القتل حياةً لهم، وليس فيه حذف شيء، هذا المعنى كثير دل عليه هذا الكلام القليل، وهذا إيجاز. وإيجاز الحذف. قال السبكي: لا يقال إيجاز القصر فيه أيضًا حذف لكلام كثير، لأن إيجاز القصر يؤتى فيه بلفظ قليل يؤدي معنى لفظ كثير، وإيجاز الحذف يترك فيه شيء من ألفاظ التركيب الواحد مع إبقاء غيره لحاله، يعني لا بد فيه من الحذف. وإيجاز الحذف قال هنا: (وَحَذْفُ جُمْلَة أَوْ جُمَلِ أَوْ جُزْءِ جُمْلَةٍ). ذكر أن الحذف، إيجاز الحذف هو ما حُذِفَ منه شيء، ثُمَّ هذا المحذوف إما أن يكون جملة وإما أن يكون جمل، وإما أن يكون جزء جملة، يعني ليس بكلام مستقل فهو أنواع ثلاثة. وإيجاز الحذف إما حذف جملة، والمراد بالجملة هنا الكلام المستقل الذي لا يكون جزءًا من كلام آخر، يعني ليس بجملة الشرط وحدها أو جملة الجواب وحدها، ولذلك جُعِلَ جملة الشرط وجملة الجواب من قسم حذف جزء الجملة. مثاله قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [البقرة: 60]. {فَانفَجَرَتْ}، {فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ} فضرب الحجر {فَانفَجَرَتْ} إذًا حذف جملة، مراد بها كلام مستقل، يعني حذف كلامًا أوله وآخره يسمى كلامًا، وهذا دل عليه الفاء هنا، أي فضربه بها فانفجرت فقوله: فضرب بها جملة محذوفة، (أَوْ جُمَلِ) يعني أن يكون المحذوف جمل ليست جملة واحدة أي فوق جملة اثنتان فأكثر كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ} [يوسف: 45، 46] {فَأَرْسِلُونِ} يعني: فأرسلوني فذهبت .. قصة كاملة فحُذِفَ كلُّ ما ذُكِر {يُوسُفُ} لأنه منذ أن قال لهم الكلام مباشرة واجه يوسف؟ لا، وإنما حذف عدة جملة، هذا يكون في القصص القرآني كثير جدًا يعني يُخْتَصَر. وهذا مثل ما يفعله بعض الناس يريد أن يخبرك عن شيء في السوق فذهبت ووقفت هذا الأصل فيه الكلام البليغ أن يُحْذَف ويؤتى بمباشرة المقصود، أي {فَأَرْسِلُونِ} فأرسلوني إلى يوسف لأستعبره الرؤيا ففعلوا فأتاه فقال له: يا يوسف.

فحذف الجمل التي ذكرتَ فيما سبق أو جزءُ جملة (أَوْ جُزْءِ) بالخفض معطوف على جملة، حذف جزء جملة يعني إما مسندًا أو مسند إليه أو صفة أو موصوف على حسب، أوردها السيوطي في ((عقود الجمان)) بكثرة (أَوْ جُزْءِ جُمْلَةٍ) أي أو حذف جزء جملة، والمراد بجزء الجملة هنا ما يُذكر في الكلام ويتعلق به ولا يكون مستقلاً عمدة كان أو فضلاً، كل ما يحذف من المفردات فهو جزء جملة، ولذلك: حذف ما يعلم جائزٌ وحذف فضلة أجز كل داخلٌ في هذا. كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي أهل القرية [إذا أراد أنه ليس مجازًا مثلاً] (¬1) نعم إذا أردنا به أنه مجاز فحينئذٍ حذف المضاف {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي اسأل أهل القرية حذف المضاف. {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] أي آيةً مبصرةً حذف الموصوف هنا. {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79] أي سفينةٍ صالحة أو سليمة حذف الصفة. {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [الشورى: 9] أي إن أرادوا وليًّا فحذف الشرط مع أداته. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس: 45] حذف الجواب، جواب إذا الشرطية وهو محذوف أي اعرض على كلٍ، كل ما يحذف من المفردات من المضاف أو الصفة أو الموصوف أو المبتدأ أو الخبر حينئذٍ يكون داخلاً في هذا. والحذف على وجهين: أحدهما أن لا يقام شيءٌ مقام المحذوف، بل يكتفى بقرينة كما في الأمثلة السابقة. يعني حذف {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] حذف أهل، هل أقام في اللفظ شيء مقامه؟ لا، إنما عُلِمَ المحذوف بالقرينة. ¬

_ (¬1) سبق.

الثاني أن يقام. يحذف شيءٌ ويأتي تعويضًا عنه بجملةٍ. مثاله قوله تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} [فاطر: 4] أي إن يكذبوك هذا شرط فلا تحزن واصبر هذا جواب الشرط {فَقَدْ كُذِّبَتْ} ليس هو الجواب {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} ليس هذا تعليل، ليس هذا جوابًا للشرط {وَإِن يُكَذِّبُوكَ} فلا تحزن واصبر {فَقَدْ كُذِّبَتْ} .. إلى آخره. فقوله: {فَقَدْ كُذِّبَتْ} ليس جزاءً للشرط، لماذا؟ لأن تكذيب الرسل، الرسل متقدم على التكذيب {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ} هذا سابقٌ فأين الجواب؟ لا يكون جوابًا فلا يصح وقعه جزاءً له، بل هو سببٌ لمضمون الجواب المحذوف أقيم مقامه استغناء بالسبب عن المسبب. إذًا إذا حذف شيء إما أن يُؤْتَى ببدله بما ينوب عنه، وإما أن لا يأتي أو يُؤتى بشيءٍ، والغالب هو الأول يعني القرينة هي التي تدل على المحذوف ولا يذكر في كلام شيءٌ البتة. ثم الحذف على القاعدة العامة لا بد من دليلٍ يدل عليه، إذ حذف ما لا يدل عليه دليلٌ بعد الحذف لا يجوز باتفاق أهل العربية نحاةً والصرفيين والبيانيين، أن ما لا يدل عليه دليلٌ بعد الحذف لا يجوز، سواءٌ كان في الحروف عند الصرفيين أو في الكلام، وأدلته كثيرة يعني: الذي يدل على المحذوف أشار إليها بقوله: (وَمَا يَدُلُّ ** عَلَيْهِ أَنْوَاعٌ) والذي يدل على المحذوف أنواع كثيرة متعددة. وقوله: (عَلَيْهِ). الضمير يعود على الحذف (أَنْوَاعٌ) التنوين هو للتكثير متعددة، (وَمِنْهَا الْعَقْلُ) يعني لم يذكر إلا العقل، بأن يدل العقل على المحذوف لاقتضائه إياه، يعني لا يمكن أن يستقيم الكلام إلا بمحذوفٍ، لكن دلالةٌ عقلي على المحذوف ليست من جهة التعيين، يعني الكلمة المحذوفة معينة، العقل يدل على أن ثَمَّ حَذْفًا في التركيب، لكن ما هي هذه الكلمة؟ العقل لا يدل عليها، فالعقل يدل على العموم لا على الخصوص، يعني على عموم الحذف مطلق الحذف، هذا التركيب فيه حذفٌ، ويحتمل كذا وكذا وَكذا والتعيين يكون بالقرائن والسياق لا بالعقل، لكن دلالته يعني العقل عليه على المحذوف إنما هي على جهة العموم لا الخصوص، بأن تقتضي أن في الكلام حذفًا، وأما التعيين لخصوص المحذوف فلا دلالة للعقل عليه، واضحٌ هذا؟ فالعقل يدل على المحذوف على جهة العموم لأن في الكلام حذفًا فقط ويقف، ثم تعيين هذا المحذوف هذا يؤخذ من القرائن والسياق، فلا دلالة للعقل عليه، وإنما يدل عليه مقصود ظاهرٍ من الكلام يوجد في كل مقامٍ بحسب من ما يقتضيه العرف والمقام وسياق الكلام. يعني تعيين المحذوف يؤخذ بالقرائن لفظية، وأما كونه فيما الكلام محذوفًا حينئذٍ يؤخذ من العقل. كقوله تعالى: ... {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] أي تناولها. وإن شئت قل: أكلها. فإن العقل دلّ على أن في الكلام محذوفًا وذلك لأن الأحكام الشرعية كما هو معلوم عند الأصوليين لا تناط بالذوات والأعيان، يعني: لا يقال هذا حرام لذات الشيء نفسه، وإنما فعل العبد هو الذي يوصف بكونه حرامًا أو واجبًا.

فالأحكام الشرعية لا تناط بالذوات والأعيان وإنما تتعلق بأفعال المكلفين فلا بد هنا من محذوف وهو يحتمل، يحتَمل ماذا؟ التناول الأكل النظر المس البيع غير ذلك، والمقصود الأظهر من هذه الأشياء المحتملة في الآية تناولها يعني أكلها، فدل على تعيين المحذوف أُخِذَ من السياق، وأما كونه محذوفًا هذا أُخِذَ من العقل. ثم قال: وَجَاءَ لِلتَوشِيعِ بِالتَّفْصِيلِ ... ثَانٍ وَالاعْتِرَاضُ وَالتَذْيِيلِ (ثَانٍ) يعني الإطناب [أحسنت] قَسَّمَ لك أولاً الإيجاز، ثم أراد أن يبين أغراض الإطناب، (وَجَاءَ) (ثَانٍ)، (وَجَاءَ) هذا فعل ماضي (ثَانٍ) هذا فاعله (وَجَاءَ) (ثَانٍ) أي الإطناب، لأمور إما الإيضاح بعد الإبهام كقوله تعالى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25]. فإن قوله: ... {اشْرَحْ} يفيد طلب شرح شيء ما له {رَبِّ اشْرَحْ} ما هو الذي طُلِبَ شرحه؟ لما جاء {صَدْرِي} فَسَّرَهُ. أولاً فيه إيهام لقوله {اشْرَحْ} ما الذي طُلِبَ شرحه؟ لَمَّا جاء {صَدْرِي} صار فيه تفسير ومثله {وَيَسِّرْ لِي} ما هو؟ {أَمْرِي} [طه: 26] إذًا جاء الإيضاح بعد الإبهام، والتوشيع وأشار إليه بقوله: (وَجَاءَ لِلتَوشِيعِ بِالتَّفْصِيلِ). وهو في اللغة لَفّ القطن المندوف واصطلاحًا أن يُؤْتَى في عجز الكلام بمثنى مفسر باسمين ثانيهما معطوف على الأول، يعني يأتي في آخر الكلام بمثنى مجمل، ثم يأتي تفصيله «يشيب ابن آدم وتشب فيه خصلتان». هذا إبهام، ثم جاء ... «الحرص وطول الأمل». إذًا يُسمى ماذا؟ يسمى توشيعًا، لذا قال: ... (بِالتَّفْصِيلِ). يعني يفصل المثنى باسم معطوف على آخر بعد الإبهام، وهذا فيه تشويق، فَفَسَّرَ الخصلتين باسمين عطف أحدهما على الآخر، ولو أراد الإيجاز والاختصار لقيل: يشب فيه الحرص وطول الأمل هذا ابتداءً مباشرةً لكنه أراد التشويق هذا هو الأصل في الإطناب، يعني يشوق يشب وفيه خصلتان تتوجه النفس وما هاتان الخصلتان؟ إذا جاء الجواب كان أكمل، لكنه أَبْهَمَ ثُمَّ وَضَّحَ للعلة الذي ذكرناها.

إذًا التوشيع للتفصيل أن يُؤتى في عجز الكلام يعني: في آخره بمثنى وفيه إبهام، ثم يأتي لتفصيل هذا المسمى باسمين لأن المثنى لا يدل على أكثر من اثنين، عُطِفَ الثاني على الأول بالواو، ويُسَمَّى توشيعًا، ومنه ذكر الخاص بعد العام للتنبيه على فضيلة الخاص. لقوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] داخل التوشيع حتى ليس كأنه من جنس العمل، (وَالاعْتِرَاضُ) وهذا أن يؤتى في أثناء الكلام الجملة الاعتراضية التي تمر معك في الإعراب الجملة الاعتراضية قد تكون جملة واحدة، وقد يأتي بجمل، وهو أن يُؤتى في أسماء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر، يعني ليس خاصًا بجملة واحدة - وإن ادَّعاه بعض النحاة - ولكن الصحيح قد يكون أكثر من جملة لا محل لها من الإعراب، لأنها من المواضع التي لا محل لها من الإعراب لنكتة كالتنزيه بقوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]. {وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} معطوف على قوله: {الْبَنَاتِ} ويجعلون لله البنات ولهم ما يشتهون هذا الأصل {سُبْحَانَهُ} هذه جملة معترضة لا محل لها من الإعراب، قصد بها ماذا؟ التنزيه، جيء بها بالجملة هذه، هذه الجملة بين الجملتين. {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} [آل عمران: 36] إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى هذا الأصل {وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} هنا جملتان إذا لم يكن أكثر، وكذلك قول الشاعر: إن الثمانين وبُلِّغْتَهَا ... قد أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلى ترجمان بُلِّغْتَهَا اعتراض، والمراد بها الدعاء، والواو فيها اعتراضية ليست عاطفة ولا حالية (وَالتَذْيِيلِ) يعني يأتي الإطناب للتذييل بصيغة التفعيل، وهو لغة جعل ذيل للشيء، من اسمه ذيل للشيء يعني يكون في الخاتمة يكون في خاتمة الكلام، واصطلاحًا عندهم أن يأتي بجملة عقب جملة، والثانية تَشْتَمِلُ على معنى الأولى للتأكيد، يعني الأولى معادة في الثانية، فيأتي بجملتين جملة عقب جملة، وتكون الثانية مشتملة على معنى الأولى، ويكون فيها معنى التأكيد، يعني هذا معنى التأكيد، التأكيد هو التقوية وهو ضربان نوعان، ما خرج مخرج المثل بأن يقصد حكم الكلي منفصل عن ما قبله جارٍ مجرى الأمثال، نحو ماذا؟ قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17]. هذا يصلح أن يكون ماذا؟ أن يكون مثلاً {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}، {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا} هل هو داخل في قوله: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}؟ داخل فيه، فالجملة الثانية عُقِّبَت بالجملة الأولى وهي مشتملة عليه من جهة المعنى. أي هل يُعَاقَبُ على ما ذُكِرَ على أن المراد أعمُّ من الجزاء الأول. وقوله تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81]. {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} يجري مجرى المثل، وهذا قد يذكره الناس وهي مشتملة على معنى الجملة الأولى، هذا النوع الأول.

والثاني ما لا يجري مجرى المثل، وذلك بأن لم يستقل بإفادة المراد، بل يتوقف على ما قبله، بمعنى أن التذييل جعل الذيل الجملة الأخرى العقب الجملة الأولى لا تستقل بنفسها، بل لا بد من ذكرها مع السابقة، مثاله كالآية السابقة {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} إذا جعل التقدير وهل يجازى ذلك الجزاء المخصوص لا على جهة التعميم لو قيل: {وَهَلْ نُجَازِي}. على جهة العموم استقل بنفسه، وإذا أريد به الخصوص حينئذٍ لا تنفك عن الجملة السابقة، وهل يجازى ذلك الجزاء المخصوص فيكون متعلقًا بما قبله معنًى فلا يُعْلَم أن يكون بمجرده مثلاً، وقد اجتمع الضربان في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 34، 35]. {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} اشتملت على معنى الجملة السابقة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، {أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} تذييل من الضرب الثاني، يعني الذي لا يجري مجرى المثل لأنه لا ينفك عنه، وإن كان داخلاً في معناه. وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}. من الضرب الأول لأنه يجري مجرى المثل وهو منفك عما سبق وإن كان مشتملاً له من جهة المعنى، فكل منهما تذييل على ما قبله. إذًا ذكر لك بقوله: (وَجَاءَ) (ثَانٍ) أي الإطناب (لِلتَوشِيعِ بِالتَّفْصِيلِ) هذا متعلق بالتوشيع لأنه جاء مفصلاً لمثنى بعطف الاسم الثاني على الأول بالواو (وَالاعْتِرَاضُ) عرفنا المراد بالاعتراض أنه يكون بجملة أو جملتين أو أكثر، (وَالتَذْيِيلِ) بنوعيه الاثنين. والله أعلم. وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

12

عناصر الدرس * الفن الثاني: علم البيان. * تعريف علم البيان وبيان طرقه. * التشبيه تعريفه وأركانه. * بيان طرفي التشبيه وأنواعهما. * بيان وجه الشبه وأنواعه. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: بعدما أنهى الناظم رحمه الله تعالى ما يتعلق بالفن الأول من الفنون الثلاثة التي هي مجموع علم البلاغة، فن العِلم الأول علم المعاني، والثاني علم البيان، والثالث علم البديع، لما أنهى ما يتعلق بالفن الأول وأبوابه الثمانية. قال رحمه الله تعالى: الفن الثاني (عِلْمُ البيانِ) الفن الثاني من الفنون الثلاثة (عِلْمُ البيانِ) وقد حصر بعضهم علم البلاغة في علم المعاني وعلم البيان لِمَا مرّ في أول الكتاب، وأخر الكلام عليه عن الكلام عن المعاني أو على المعاني لكونه أخصّ منه إذ المعاني كالمفردِ، والبيان كالمركب، أخر كلام عليه عن الكلام عن المعاني لكونه أخصّ منه، ولذلك قلنا: قدم علم المعاني على علم البيان لكونه كالمفرد بالنسبة لعلم البيان، إذ علم البيان لا بد أن يراعى فيه مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وإذا كان كذلك فحينئذٍ لا بد من العلم أولاً، فعلم المعاني، ثم علم البيان. لكونه أخصّ منه إذ المعاني كالمفرد، لأن علم البيان كالمفرد، والبيان كالمركب فهو متأخرٌ عنه طبعًا ولذلك أخره عنه وضعًا، وقدمه على الثالث لشدة الاحتياج إليه يعني: علم البديع لأن الحاجة إلى علم البيان أشد لكونه جزءًا من علم البلاغة، ومحتاجًا إليه بتحصيل بلاغة الكلام بخلاف البديع فإنه من الْمُحَسِّنَات، يعني من المكملات إما من جهة اللفظ وإما من جهة المعنى، وهذا العلم يعني علم البيان من شروط تحسينه عن علم البديع كما سيأتي والشرط مقدمٌ على المشروط. إذًا هذا وجه المناسبة بين ترتيب العلوم الثلاثة. أولاً: علم المعاني، لأنه كالمفرد. وعلم البيان ثانيًا، لأنه كالمركب، والمفرد مقدمٌ على المركب. وثالثًا: علم البديع لكونه من المحسنات، والبيان شرطٌ فيه والعلم بالشرط مقدمٌ عن العلم بالمشروط. عِلْمُ الْبَيِّانِ مَا بِهِ يُعَرَّفُ ... إيرَادُ مَا طُرُقُه تَخْتَلفُ فِي كَوْنِهَا وَاضِحَةَ الدِّلالَةْ ... ...........................

هذا تعريف علم البيان. قال الناظم في تعريفه (عِلْمُ الْبَيِّانِ) هنا أظهر في مقام الإضمار مرّ معنا أن الشيء إذا ذكر أولاً إنما يأتي بالضمير نقول: زيدٌ قَدِمَ وهو راكبٌ. لا يصح أن يقال في الأصل إلا لنكتةٍ ما زيدٌ قدم وزيدٌ راكبٌ لئلا يظن أن زيدًا الثاني مغايرٌ للأول حينئذٍ يقال: وهو راكبٌ. هنا الفن الثاني (عِلْمُ الْبَيِّانِ) وهو (مَا بِهِ يُعَرَّفُ) هذا هو الأصل، وإنما يقال: أظهر يعني: جاء بالاسم الظاهر في مقام الإضمار الذي هو الضمير لنكتةٍ قد يقال: لأنه أراد الإيضاح أراد به الإيضاح أو من أجل الوزن، (عِلْمُ الْبَيِّانِ مَا بِهِ يُعَرَّفُ)، (مَا) اسم موصول بمعنى الذي يصدق على الْمَلَكَة، وعرفنا أن الْمَلَكَة شرطٌ في تحصيل في تحصيل الفصيح والبليغ، يعني: لا يكون الرجلُ فصيحًا إلا إذا كان ذا مَلَكَةٍ، ولا يكون بليغًا إذا كان ذا مَلَكَةٍ، فمن أورد الكلام الفصيح ولم تكن له مَلَكَة فليس بفصيح، ومن أورد الكلام البليغ ولم تكن له مَلَكَة فليس ببليغ، من أورد كلام وقد وجد ما يتحقق من شروطٍ في علم البيان حينئذٍ لا يكون على وَفْقِ هذا الفن الثاني. إذًا مَلَكَةٌ ما - أي: مَلَكَةٌ - وهي هيئة راسخةٌ في النفس يُقْتَدَرُ بها على إدراك جزئياتٍ أو نفس الأصول والقواعد على ما علمت في علم المعاني، يعني هنا في تعريف الفن يصح أن يُراد به (مَا) الذي أُطْلِقَ وأريد به الْمَلَكَة، أو إن شئت قل العلم، ثم يفسر العلم بالْمَلَكَة أو بالمسائل أو بالقواعد والأصول. هنا يحتمل أن يكون المراد به الْمَلَكَة ويحتمل أن يكون المراد به الأصول والقواعد لِمَا مَرّ في علم المعاني، ملكةٌ يقتدر بها على إدراكاتٍ جزئية لأنها تحصل جملةً واحدةً بالفعل، يعني المراد هنا أن ما يصدق عليه علم البيان كالذي يصدق عليه علم المعاني، بمعنى أنه لا يوجد دفعةً واحدة وإنما يوجد شيئًا فشيئًا، (بِهِ يُعَرَّفُ)، (بِهِ) متعلقٌ بقوله: (يُعَرَّفُ)، أي برعايته (بِهِ) أي [بعلم المعاني] (¬1) بعلم البيان ليس المعاني بعلم البيان وهل المراد به العلم بالأصول والقواعد فحسب أو الرعاية؟ ما المراد به؟ هل المراد به علم الرعاية الذي هو الْعَمْلُ بما عَلِم؟ أو المراد فقط العلم النظري؟ ¬

_ (¬1) سبق.

لا شك أن المراد به الثاني، لِمَا مَرَّ معنا مرارًا أن من حفظ قواعد النحو ولم يطبق النحو حينئذٍ لا يسمى نحويًا، ومن عَلِمَ قواعد علم المعاني ولم يطبقه حينئذٍ لا يسمى بلاغيًا، وكذلك علم البيان، فالشأن حينئذٍ في الرعاية لأن الملكة لا تستفاد إلا بذلك، كيف نقول: هو مَلَكَة يعني: هيئةٌ راسخة، ثم هو مجرد قواعد تحفظ ولا تطبق؟ وهذا لا يسمى علم البيان، لا بد أن يكون علم البيان علم رعاية حينئذٍ يصح أن يقال: بأنه بياني. إذًا (بِهِ) يعني برعايته والباء هنا سببية، يعني بسبب رعايته، (يُعَرَّفُ) الأصل يُعْرَفُ بالتشديد للنظم يعني: فعل مضارع مُغَير الصيغة وبتقديم الجار والمجرور هنا (بِهِ يُعَرَّفُ) يحتمل أنه للوزن ضرورة، ويحتمل أن فيه إيماءً إلا أنه لا يُعْلَمُ غالبًا إلا بعلم البيان، يعني ما سيأتي. وقلنا: غالبًا لإخراج العرب العربان إذ هو مركوز في طبائعهم، يعني علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع هذه العرب العربان فصيح، يعني قبل تدوين أو تأصيل هذا العلم كان العلم موجودًا في ركائزهم، كعلم الأصول وعلم النحو والصرف، حينئذٍ الشأن واحد والكلام واحد، فإدراك القواعد لا يلزم منه أن من كان قبل القواعد أن لا يكون بيانيًا، أليس كذلك؟ لأن العلم هذا علم صناعة صار علمًا حادثًا، وكما هو الشأن في علم النحو وعلم الأصول، العرب القح قبل وضع النحو لا يَعْرِف أن هذا تمييزًا وأن هذا حالاً وهذا مضاف وهذا مضاف إليه، وإنما يأتي به على السليقة يأتي به على وجهه على القواعد، لكن هذا الاصطلاحات اصطلاحات عرفية لا يُدْرِكُهَا ولا يعرفها، لو قيل له: هذا تمييزًا، هذا فعلٌ ماضٍ، فعل مضارع لما أدرك ذلك، كذلك الشأن في البلاغة بأنواعها الثلاثة المعاني والبيان والبديع، فالسليقي الذي يأتي به على سليقته ولا يعرف هذه الاصطلاحات لا يخرج عن كونه عالمًا بفن البلاغة. ولذلك نقول: غالبًا لإخراج العرب العربان إذ هو مركوزٌ في طبائعهم من غير أن يعلموا البيان ويمكن أن يكون قدمه للوزن (يُعَرَّفُ) ما الذي يعرف؟ قال: ................. ... إيرَادُ مَا طُرُقُه تَخْتَلفُ فِي كَوْنِهَا وَاضِحَةَ الدِّلالَةْ ... ........................ (إيرَادُ) هذا نائب فاعل (يُعَرَّفُ)، (يُعَرَّفُ) ما الذي (يُعَرَّفُ)؟ (إيرَادُ مَا) أي معنًى (مَا) هو اسم موصول بمعنى الذي، أو نكرة موصوفة يحتمل هذا ويحتمل ذاك، (إيرَادُ مَا) أي معنًى واحدٍ من المعاني التي يدل عليها الكلام المراعى فيه مطابقته لمقتضى الحال، يعني يأتي بالكلام الذي اشتمل على علم المعاني، لأن علم المعاني كما مر معنا أنه مطابقة المقام لمقتضى الحال، مقتضى، نعم مطابقته لمقتضى الحال من حيث التأكيد وعدمه، ومن حيث الحذف، المسند والمسند إليه .. إلى آخره فيأتي به على وجهه، ثم هو معنًى واحدٌ من المعاني. إذًا (إيرَادُ مَا) يعني إيرادك هنا بإضافة المصدر إلى المفعول، والذي أورده هو المتكلم (إيرَادُ مَا) إيرادك ما، أي معنًى واحدٍ من المعاني التي يدل عليها الكلام المراعى. إذًا المعنى هنا ليس مدلول مفرد، وإنما هو مدلول مركب هذا أولاً.

ثم ليس كل مركبٍ وإنما مركبٌ قد طابق مقتضى الحال. إذٍ اشتمل على علم المعاني، ثم هو معنًى واحد وليس بمعاني متعددة كما سيأتي في المثال، ولذلك فالمعنى الواحد نقول هنا: هو ما يدل عليه الكلام الذي رُوعِيَ فيه المطابقة لمقتضى الحال وتقييد المعنى بالواحد للدلالة على أنه لو أورد معاني متعددة بطرقٍ مختلفة لم يكن من البيان في شيء، يعني لو تكلم عن جود حاتم، وتكلم عن شجاعة زيد، وتكلم عن حلم آخر، نقول: هذه معاني متعددة وليس هو بمراد، المراد هنا أن يأتي بمعنى واحد كالجود فقط، ثم يُعبر عن هذا المعنى الواحد بطرقٍ مختلفة تارةً بالتشبيه، وتارة بالمجاز على اختلاف أنواعه، وتارةً بالكناية، فالمعنى واحد وهو مدلول الكلام، ثم هذا الكلام قد طابق مقتضى الحال. إذًا لو أورد كلامًا متعلقًا بمعاني متعددة مختلفة ككلامٍ يتعلق بجود حاتم وكلامٍ آخر يتعلق بشاعرية حسان وثالثٍ يتعلق بحلم فلان حينئذٍ يقول: هذه معاني متعددة وإن كانت الطرق مختلفة إلا أنها ليست من علم البيان في شيء، إنما المراد بعلم البيان إيراد ما أي معنًى من المعاني التي دل عليها الكلام مراعى في مطابقته لمقتضى الحال.

(طُرُقُه) (إيرَادُ مَا) أي الذي معنى (طُرُقُه تَخْتَلفُ) يعني طرق هذا المعنى الواحد تختلف، (طُرُقُه) جمع طريق والمراد هنا التراكيب ط (طُرُقُه) جمع فُعُل والمراد هنا التراكيب والعبارات الموصلة إلى المقصودِ، عَبَّر عن التراكيب والعبارات هنا بالطرق مجازًا لعلاقة الإيصال، فالطريق الحسي يُوصل إلى المقصود، والكلام والعبارات توصل إلى المقصود، إذًا (طُرُقُه) أي تراكيبه، (تَخْتَلفُ) أي مختلفة، (طُرُقُه) الضمير يعود إلى (مَا) يعني الطرق التي يُحَصَّلُ بها هذا المعنى الواحد (تَخْتَلفُ). إذًا المعنى متحد والطرق التي هي تراكيب الكلام مختلفة، هذا يُسمى ماذا؟ يسمى علم البيان. (تَخْتَلفُ) هي أي الطرق، أي مختلفة، فالجملة صفة للطرق، واختلافها كما بينه هنا بالتعريف (فِي كَوْنِهَا وَاضِحَةَ الدِّلالَةْ)، (فِي كَوْنِهَا) أي في كون هذه الطرق التي يعبر بها عن المعنى الواحد واضحة الدلالة على ذلك المعنى، والمراد به كما سيأتي الدلالة العقلية عليه، بأن يكون بعض الطرق واضح الدلالة وبعضها أوضح، يعني من باب واضح وأوضح كصحيح وأصح. إذًا كلها مشتركة بقدرٍ واحدٍ فليس عندنا هنا خفاء يقابل الوضوح، بعضها واضح الدلالة وبعضها أوضح، ولا شك أن الواضح خفيٌ بالنسبة إلى الأوضح، الواضح من حيث هو بالنسبة إلى الأوضح فيه شيءٌ من الخفاء فلذلك لم يحتج أن يقول - يعني المعرف - في الإيضاح والخفاء، السَّكَّاكِيّ لما عرف البيان قال: علمٌ بِهِ. كما قال هنا: يُعَرَّفُ إيرَادُ مَا طُرُقُه تَخْتَلفُ فِي الخفاء والوضوح. جاء بكلمة الخفاء وهذا قالوا: أنه غلط منه، غُلِّطَ في ذلك، بكل كلها واضحة، إن أراد بالخفاء الذي هو الواضح في مقابلة الأوضح صح، وإن كان الخفاء في مقابلة الواضح غُلِّطَ في ذلك، لأن الخفي هذا ليس مشتملاً على بلاغة الكلام فانتفى به ركنٌ من أركان الكلام الذي يُعَبَّرُ عنه بالبلاغة، فلذلك لم يحتج أن يقال: في الإيضاح والخفاء كما فعله السكاكي، بل لا يصح إرادة الخفاء، لا يصح هنا البتة، لماذا؟ لأن ما ليس بواضح إذا كان الخفي في مقابلة الواضح ما ليس بواضح أصلاً ليس طريقًا لطيفًا فلا يكون مقامًا بيانيًا انتفى عنه علم البيان، فلا يكون مقامًا بيانيًا ولا فصيحًا، فليس إيراد المعنى الركيك بلفظ الركيك من مسائل هذا العلم، لأن الخفاء ملازمٌ للركيك، فإذا كان كذلك فالمعنى الركيك الذي يؤدَّى بلفظ الركيك هل هو من مسائل هذا العلم؟ الجواب: لا، ولا من العلم الماضي لأنه يشترط في ما سبق مطابقته لمقتضى الحال وأن يكون فصيحًا، ولا يكون فصيحًا إلا إذا سلم من التعقيد اللفظي والتعقيد المعنوي .. إلى آخر ما مضى، وإنما الكلام في طرقٍ واضحة بعضها أوضح من بعضٍ.

إذًا (فِي كَوْنِهَا) الضمير يعود إلى الطرق، و (وَاضِحَةَ الدِّلالَةْ) هذا يشتمل نوعين: ما كان واضحًا في نفسه وباعتبار مقابله الأوضح قد يكون فيه شيءٌ من الخفاء، حينئذٍ واضح الدلالة يدخل فيه ما هو أوضح من بابٍ أولى، فإذا اشترط الوضوح فالأوضح من بابٍ أولى وأحرى فيشمل النوعين، ولا نحتاج أن نقول: في الخفاء والوضوح لأنه محتمل إذا كان الخفاء مقابل الوضوح فهو غَلَطٌ لأنه ركيك والركيك لا يكون من مسائل هذا العلم، وإن كان في مقابل الأوضح فيعبر عنه بالوضوح هذا الأصل فيه، فخرج حينئذٍ من التعريف معرفةُ إيراده بطرقٍ مختلفةٍ في اللفظ والعبارة فقط، بأن يريده بألفاظٍ مترادفة مثلاً نقول: هذا ليس من علم البيان. فلا يكون ذلك من علم البيان، والمراد بالمعنى الواحد كل معنًى يدخل تحت قصد المتكلم فلو عرف أحدٌ إيراد معنى قولنا: زيدٌ جوادٌ مثلاً زيدٌ جوادٌ بطرقٍ مختلفة لم يكون بمجرد ذلك عالمًا بالبيان، يعني إذا عرف بأن زيد جوادٌ يؤتى به بطرقٍ مختلفة لكنه ليس أهلاً لإنشاء هذه الطرق، حينئذٍ لا يكون من أهل البيان، لماذا؟ لأنه يُشْتَرَط في هذا العلم كما اشتُرِطَ في العلم السابق الْمَلَكَة، وكما اشْتُرِطَ في من يتصف بالبلاغة بليغ، ومن يتصف بالفصاحة فيقال: فصيح، لا بد أن تكون عنده مَلَكَة، فإذا انتفت الْمَلَكَة فحينئذٍ لا يكون بلاغيًا، كما أنه لا يكون كذلك من عَرَفَ إيراد كل معنًى يدخل في قصد المتكلم وليست له مَلَكَة كالعربي المتكلم بالسليقة، هذا داخل ولا شك أنه داخل، لماذا؟ لأن هذه اصطلاحات عرفيه يعني: نشأت بعد أن لم تكن، فوجدت اللغة بصنوفها وأنواع علومها - اللغة العربية - وكان أهلها عالمين بها، بل هم أهلها وهم المرجع في ذلك، حينئذٍ لما استقرت هذه المصطلاحات لا يمكن أنَّنَا نخرج أولئك الأقوام الذين تعلمنا منهم اللغة لمجرد عدم علمهم بهذه الاصطلاحات، بل هم أهلها وذاك نحويٌ، وذاك بيانيٌ، وذاك صرفيٌ، ولو لم يعلم الاصطلاحات، كما نقول: ذاك أصوليٌ ولو لم يكن على علمٍ بالاصطلاحات.

فعلم البيان علمٌ يعرف به إيراد المعنى الواحد - انتبه - إيراد المعنى الواحد يعني أنت عندما تتكلم تورد تنطق تلفظ المعنى الواحد المدلولِ عليه بكلامٍ مطابقٍ لمقتضى الحال بطرقٍ مختلفةٍ في إيضاح الدلالة عليه، بأن يكون بعض الطرق واضحة الدلالة وبعضها أوضح. قال الطيبي: مثال ذلك أنَّا إذا أردنا إيراد معنى قولنا: زيدٌ جوادٌ وأردنا مثلاً فنقول: في طرق التشبيه لأن مقاصد هذا العلم محصورة في التشبيه والمجاز والكناية، وإن كان التشبيه داخلاً أو خارجًا في الأصل وإنما احتيج إليه لكون الاستعارة مبنيةً على التشبيه، فلو أردنا أن نأتي بـ زيدٌ جوادٌ بطرق التشبيه ماذا نقول؟ نقول: زيدٌ كالبحر في السخاوة، زيدٌ مشبه كالبحر الكاف حرف تشبيه والبجر مشبهٌ به في السخاوة هذا وجه الشبه، هذا طريق، نفس المعنى نأتي به بطريقٍ آخر بتركيبٍ آخر بكلامٍ آخر فنقول: زيدٌ كالبحر، نحذف ماذا؟ وجه الشبه، زيدٌ بحرٌ حذفنا وجه الشبه والأداة، هذه ثلاث طرق لمعنًى واحد وهو كون زيدٍ جوادًا هل المعنى اختلف؟ لا. وإنما هو معنى واحد، ولذلك قلنا: إيراد المعنى الواحد هذا مراد، ثم يؤتى به بعدة طرق، إن كان بالتشبيه فله ما ذكره هنا، وفي طرق الاستعارة زيدٌ جوادٌ ماذا نقول؟. نقول: رأيت بحرًا في الدار، حذفنا الكاف، وتقول: لُجَّةُ زيدٍ كَثُرَتْ. وتقول: لُجَّةُ زيدٍ متلاطمٌ أمواجها. هذا بوجوه الاستعارة الآتي بيانها إن شاء الله تعالى، فحينئذٍ زيدٌ جوادٌ جئنا به المعنى واحد واختلفت الطرق في التعبير عنه بنوع الاستعارة وهي نوعٌ من أنواع المجاز كما سيأتي، وفي طرق الكناية زيدٌ جوادٌ ماذا نقول؟ زيدٌ مضيافٌ، زيدٌ جوادٌ مضيافٌ، مضيافٌ ماذا يقدم؟ زيدٌ كثيرٌ أضيافه هذا نوعٌ آخر، زيدٌ كثيرٌ رماده، الرماد يعني الطبخ، إن الرماد كثيرٌ بساحة زيد، المعنى واحد انظروا العبارات مختلفة، إن الجود في قبةٍ ضربت على زيدٍ، إنه مصورٌ من الجود، كأنه خلق من الجود، هذا في غاية ما يمكن أن يُعبر. انظر المعنى واحد زيدٌ جوادٌ جئت به بعدة طرق في التشبيه وبالاستعارة وفي الكناية هذا المراد بإيراد المعنى الواحد وهو كون زيدٍ جوادًا بطرقٍ مختلفة وكلها واضحة بمعنى أن الدلالة تفهم من التركيب نفسه ولكلٍ وجهةٌ كما سيأتي بيانه. فظهر أن مرجع البيان إلى اعتبار المبالغة بإثبات المعنى الشيء هكذا قال الطيبي، وهذا هو الصحيح أن علم البيان كله تشبيه ومجاز والكناية مبناها على المبالغة. إذًا فظهر أن مرجع البيان إلى اعتبار المبالغة بإثبات المعنى للشيء. إذًا لمٌ يعرف به إيراد المعنى الواحد المدلولِ عليه بكلام المطابق لمقتضى الحال بطرقٍ مختلفة في إيضاح الدلالة عليه بأن يكون بعض الطرق واضح الدلالة وبعضها أوضح. قوله: (وَاضِحَةَ الدِّلالَةْ) أو الدَّلالة الدُّلالة مثلثة الدال كما مرّ معنا، وإن كان الضم رديء المشهور الدِّلالة والدَّلالة بالكسر والفتح، والدُّلالة سمع لكنه رديء كما قال الأمين في مقدمته، ولَمَّا لم تكن كل دَلالةٍ قابلةً للوضوح والخفاء احتيج إلى تقسيمها.

هنا يذكر البيانيون قبل الكلام في التشبيه والمجاز والكناية. أقسام الدلالة تُعَرّف الدَّلالة، ثم تذكر أقسامها الثلاثة أو القسمين العامين دلالة لفظية ودلالة غير لفظية، ثم تقسم غير اللفظية إلى ثلاث، وتقسم اللفظية إلى ثلاث، على كلٍّ مرّ معنا هذا قريبًا في شرح ((السُّلّم)) وليس مرادًا هنا، إنما المراد هو ما يقابل الوضعية، ولما لم تكن كل دَلالةٍ قابلةً للوضوح والخفاء احتيج إلى تقسيمها وتعين المقصود منها، فالدلالة حينئذٍ لأنه قال: (فِما بِهِ لاَزِمُ مَا وُضِعِ لَهْ). الدلالة هي كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر، هذا إذا شرطنا الفهم بالفعل، كون أمرٍ بحيث يفهم منه أمرٌ آخر، فُهِمَ منه بالفعل أم لا، يعني لا يُشترط في الدلالة أن تكون دلالة أن يفهم بالفعل، بل ولو بالقوة، فهم أمرٍ من أمرٍ، يعني يتعلق به الفهم كون الشيء هذا عند البيانيين بحيث يلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر أو كون أمرٍ بحيث يُفْهَمُ منه أمرٌ، الأول الدّال والثاني المدلول. إذًا عندنا دلالة وعندنا دالٌ وعندنا مدلولٌ، عندنا دلالة وهي الفهم سواءٌ قلنا: فهمًا بالفعل أم لا، وعندنا دالٌ وهو اللفظ أو غيره، وعندنا المدلولٌ وهو ما يُفْهَمُ من اللفظ أو غيره، فدلالة اللفظ حينئذٍ نقول: اللفظ الموضوع. أما المهمل فلا مدخل له هنا اللفظ الموضوع الذي وضعته العرب لا يخلو إما أن يدل على تمام ما وضع له، أو على جزئه، أو على الخارج اللازم له ذهنًا. لفظ الموضوع إما أن تكون الدلالة مطابقية أو تَضَمُّنِية أو التزامية. ولكن من حيث التقسيم الدلالة اللفظية نقول: إما أن يدل اللفظ على تمام وكمال الموضوع له أو على جزئه على بعضه، وهذا يكون في المعاني المركبة لا البسيطة، أو على الخارج اللازم، وهذا يكون ملتزمًا من جهة الذهن، فدلالة اللفظ على تمام ما وضع له وضعية تسمى وضعية، ثّمَّ فرقًا بين الحديث عن أقسام الدلالة بين البيانيين والمناطقة، فالتقسيم في الجملة متحد لأن الأسماء قد تختلف، فدلالة اللفظ على تمام - يعني كمال - ما وُضِعَ له - يعني تمام المعنى الذي وُضِعَ له اللفظ في لسان العرب - يعني ذلك المعنى - وضعيًا يسمى وضعيًّا.

المطابقية يعبر عنها هنا بالوضعية، كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق بالنسبة إلى من هو عالمٌ بالوضع، فنسميها دلالة وضعية، المطابقية التي نسميها ناطقة تسمى هنا وضعية، إذًا مرّ بك هذه دلالة وضعية فاعلم أن مرادهم بها دلالة اللفظ على تمامِ ما وُضِعَ له، وهي التي يعنون لها بدلالة المطابقة، فحينئذٍ نسميها دلالة وضعية يعني نسبةً إلى الواضع، لماذا؟ لأن الواضع إنما وضع اللفظ للدلالة على تمام الموضوع له، فهي دلالةٌ منسوبةٌ إلى الوضع، وإنما اختصت به مع كون دلالة التضمن وكذلك دلالة التزام فيها شيء من الوضع، لأن هذه وضعية محضة بخلافهما يعني: التضمنية والالتزامية وإن كان للوضع مدخلٌ فيه، يعني الوضع، ولذلك نقول: اللفظ الموضوع. إذًا لا بد أن يكون مأخوذًا في جميع الأقسام، اللفظ الموضوع إما أن يدل على تمام ما وضع له. عرفنا الوضعية، أو على جزئه هذا قسمٌ لأي شيء للفظ الموضعي، إذًا هي وضعية أو على اللازم الخارج إذًا هي وضعية. إذًا الوضع له مدخلٌ في الأنواع الثلاثة ولا شك، لكن لما كان الوضع في دلالة اللفظ على تمام ما وُضِعَ له محضًا يعني خالصًا يُفهم المعنى منه دون دلالة العقل، حينئذٍ سمت وضعية محضة، وأما دلالة اللفظ على جزء المعنى الموضوع له اللفظ العقل له مدخلٌ، فسلب عنه لفظ الوضع فلا تسمى وضعية، وإنما تسمى عقلية عند البيانيين، وكذلك الالتزام من بابٍ أولى وأحرى. إذًا الوضع له مدخلٌ في الدلالة الوضعية والدلالة التضمن والدلالة التزام إلا أنه لما كان المعنى يُفهم في التضمن بواسطة العقل لأنه دلالةٌ على جزئه، واللازم كذلك بواسطة العقل سُلِبَ عنه عن هذين النوعين وصف الوضعية واختص بدلالة المطابقة فهي الدلالة الوضعية عندهم لأن الوضع هنا متمحضٌ في الفهم. هذا الأول، وعلى جزئه يعني: دلالة اللفظ على جزئه أي: على جزء الموضوع له من حيث هو جزءٌ وهذا إنما يكون في المعاني المركبة، وأما المعاني البسيطة فلا تتأتى دلالة التضمن البتة، مثل ماذا؟ قالوا: كدلالة الإنسان على الحيوان فقط، إذا قلت: هذا إنسانٌ وقصدت به الحيوان فقط فهو جزءٌ لأن الإنسان معناه مركب من شيئين حيوان ناطق، إذا أطلقت لفظ الإنسان وأردت به الحيوان فقط فهو دلالة الشيء على جزئه، دلالة اللفظ على جزئه، يعني على جزء المعنى الذي وُضِعَ له اللفظ، وإذا قصدت به الناطق دون الحيوان كذلك استُعْمِل اللفظ في الدلالة على جزء المعنى، وهذا المعنى كذلك أورده ابن لقيم في أعلام الرب جل وعلا. فيقال: الرحمن دلالته دلالة وضعية كما هنا أو مطابقة على الذات والصفة معًا، ذاتٌ متصفة بصفة الرحمة، إذًا عندنا أمران فهو معنًى مركب، دلالة الرحمن على الذات فقط هذه دلالة تضمن، دلالة الرحمن على الرحمة فقط دون الذات هذه دلالة التضمن.

إذًا دل اللفظ على جزء المعنى كدلالة الإنسان على الحيوان فقط أو على الناطق فقط، أو دلالة اللفظ على خارجٍ عن الموضوع له لازمٌ ذهنًا، دلالة اللفظ على خارجٍ عن الموضوع له يعني لم يوضع له في لسان العرب هذا المعنى وإنما وضع لمعنًى آخر لكن يلزم من هذا المعنى معنًى آخر، فيكون المعنى الذي وُضِعَ له اللفظ في لسان العرب مَلْزُومًا، واللازم هو الخارج، كدلالة الأربعة على الزوجيةً، أليس كذلك؟ الأربعة وضعت العرب لفظ أربعة للعدد المعدود بالأربعة، لكن لم تضع العرب أو الواضع لفظ أربعة للدلالة على أنه زوجٌ، فالزوجية ليست داخلةً في مفهوم الأربعة وإنما هو لازمٌ، لأن القاعدة كل أن كل منقسمٍ على اثنين ثم تكون النتيجة اثنين صحيحين حينئذٍ يكون زوجًا، ويقابله الفرد حينئذٍ دلالة الأربعة على الزوجية نقول: هذه دلالة اللفظ على خارجٍ عنه لازمٌ له، لأنه لا ينفك عن الأربعة وهو كونه ينقسم على اثنين لا ينفك عن الزوجية، ومَثَّلُوا له كدلالة الإنسان على الضاحك، إذا قيل: الإنسان هو حيوان ناطق. ويلزم منه أن يكون ضاحكًا فالمعنى ملزوم، وهذا اللازم لازمٌ، فثَمَّ فرق بين اللازم والملزوم، إذًا النوع الثالث إذا دل اللفظ على خارجٍ عن الموضوع له لازم ... #31.08 من حيث إنه خارجٌ لازمٌ، فهاتان الدلالتان على الجزء وعلى الخارج عند البيانيين عقلية، بخلاف الكلام عند المناطقة، ولذلك مرّ معنا فصلٌ في أنواع الدلالة اللفظية الوضعية. قلنا: الوضعية يدل على أن الأقسام الثلاثة وضعيةٌ عند المناطقة، نسيتم؟ فصلٌ في أنواع الدلالة. قال الشارح: اللفظية. قال صاحب الأصل: الوضعية. إذًا الوضعية هذا احترازًا عن مقابلها، فحكم على أنواع الدلالة اللفظية كلها بكونها وضعية، دلالة اللفظ على ما وافقه يدعونها دلالة المطابقة وجزئيه تضمنًا وما لزم

الثلاثة هذه قالوا: وضعية. إذًا كلها وضعية عند أكثر المناطقة إن كان ثَمَّ خلافٌ بينهم. أما عند أهل البيان فيختلفون فعندهم ما يُسَمَّى بالوضعية التي يُقابلها المطابقية عند المناطقة هذه وضعية ولا إشكال فيها، بل هي متفقٌ عليها لأن البحث هنا تتناوله ثلاثِ أيدي أو ثلاثُ أيدي: الأصولي، والمنطقي، والبياني. ويختلفون في ما يُحكم على هذه الدلالة، فعند المناطقة الثلاثة وضعية، وعند البيانيين المطابقية وضعية والتضمنية التزام عقلية، وعند الأصوليين وهو الصحيح في المقامات الثلاث أن دلالة المطابقة والتضمن وضعية والالتزام عقلي. وهذا المرجح في جميع الفنون. إذًا المسألة واحدة والحكم واحد والدليل واحد فلا اختلاف باختلاف الفنون، ولذلك هنا قال: عقلية. لماذا هي عقليةٌ عندهم عند البيانيين؟ لأن دلالته عليهم أي دلالة اللفظ على الجزء وعلى اللازم الخارج إنما هو من جهة العقل، يعني: العقل له مدخلٌ، فلما كان العقل له مدخلٌ في ذلك حينئذٍ سميت عقلية، فالعقل يحكم بأن حصول الكل والملزوم في الذهن يستلزم حصول الجزء واللازم، الكل الذي هو مدلول اللفظ، إذا حصل أولاً في الذهن حكم العقل بالجزء، وإذا حصل الملزوم الذي هو معنى اللفظ حينئذٍ دل العقل على اللازم، فالوصول من الكل إلى الجزء هذا حصل بالعقل لأنك أطلقت اللفظ والمراد به الكل في لسان العرب. الإنسان المراد به حيوانٌ ناطق هذا أصلٌ، إذا أطلقت الإنسان فالأصل فيه أنه ينصرف إلى الحيوان الناطق فإذا أردت بعضه فالعقل الذي خصصه. إذًا العقل له مدخلٌ. إذا أطلقت الأربعة فالمراد به المعنى الموضوع المعدود حينئذٍ إذا توصلت به بهذا اللفظ إلى الزوجية فالعقل هو الذي حكم. إذًا لما كان العقل وسيلةً في التوصل من الكل إلى الجزء ومن الملزوم إلى اللازم حينئذٍ سميت عقلية، فالعقل يحكم بأن حصول الكل الذي هو مدلول اللفظ المطابق بالأصل، والملزوم في الذهن يستلزم حصول الجزء واللازم فيه أيضًا، وشروط الالتزام هنا - لأنها عقلية - أن يكون الملزوم ذهنيًا، فاتفقا مع المناطقة بأن يكون الملزوم ذهنيًا، أما الذي يكون في الخارج كالسواد للغراب فليس بمراد، ولو باعتقاد المخاطب، ولا يُشترط أن يمنع العقل انفكاكه كما اشترطه المناطقة، فاللازم عند البيانيين ليس هو كاللازم عند المناطقة، يعني: ثَمّ افتراقٌ في الاصطلاحات بين الطائفتين، لا يُشترط أن يمنع العقل انفكاكه. مر معنا أن اللازم هو ما يمنع العقل انفكاكه، ما يمنع العقل انفكاكه هذا هو اللازم، هل هذا هو المراد عند البيانيين إذا أطلقوا اللازم؟ الجواب: لا، لا يُشترط هذا، كما اشترطه المناطق وإلا لخرج كثير من معان المجازات والكنايات من أن تكون مدلولات التزامية، ولَمَا تَأَتَّى الاختلاف بالوضوح بدلالة الالتزام أيضًا. العقلية المراد بها عند البيانين هي دلالة التضمن ودلالة الالتزام.

وإيراد المعنى الواحد عرفننا أنواع الدلالة، إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في الوضوح لا يَتَأَتَّى بالوضعية التي هي دلالة اللفظ على تمام ما وُضِعَ له، فليس لها بحث في علم البيان ولا يتعلق بها العلم من أصله، وإنما إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة يكون في ماذا؟ في دلالة التضمن، وفي دلالة الالتزام. إذا الذي يُستعمل هنا في الأصل هو ما كان أحد أو أحد الدلالتين، لأن السامع إذا كان عالِمًا بوضع الألفاظ لذلك المعنى لم يكن بعضها عنده أوضح من بعض، وإن كان غير عالِمٍ بذلك لم يكن كل واحد من الألفاظ دالاً عليه لتوقف الفهم على العلم .. . المراد هنا الخلاصة أن الوضعية الذي دلالة المطابقة لا بحث لها في علم البيان، وإنما يتعلق البيان بالدلالة العقلية وهي دلالة التضمن ودلالة الالتزام، ويتأتى بالعقلية لجواز أن تختلف مراتب اللزوم في الوضوح. إذا علمت ذلك فاعلم كما قال الناظم هنا: ................. ... فِما بِهِ لاَزِمُ مَا وُضِعِ لَهْ إِمَّا مَجَازٌ مِنْهُ الاستِعَارَةُ ... تُنْبِي عَنِ التَّشْبِهِ أَوْ كِنَايَةُ أراد أن يبين علم البيان أنه منحصر في ثلاثة مقاصد، كما مرّ في علم المعاني منحصر في أبواب ثمانية، منحصر الأبواب في ثمانية هنا علم البيان منحصر في ثلاثة أبواب: تشبيه هذا أولاً. وثانيًا: المجاز. وثالثًا: الكناية. لا بحث له في غير هذه الأبواب الثلاثة، والأصل في بحثهم أنه منحصر في بابين المجاز والكناية، وأما التشبيه فالأصل أنه لا يُبحث فيه، لكن لما كان المبنى الاستعارة على التشبيه حينئذٍ بُحِثَ في التشبيه وذكرت أنواعه على جهة التفصيل.

إذا علمت ذلك فاعلم أن ما به، ما أي اللفظ اسم موصول بمعنى الذي يصدق على اللفظ، ما به أي اللفظ المراد به لازم ما وضع له، لازم ما أي لازم معنًى موضوع له أي اللفظ، موضوع له، له الضمير يعود إلى اللفظ. وقوله (مَا بِهِ) الضمير يعود إلى ما يعني اللفظ الذي يُراد به لازم ما، يعني لازم معناه، لأن دلالة الجزء على الكلِّ هذا لازم عندنا لأنها عقلية، ليست وضعية الصحيح أنها وضعية لكن على كلام البيانين هي عقلية، إذا البحث هنا في دلالة في اللازم، وهو دلالة الكلِّ على الجزء إنما علمت جهتك اللزوم العقلي، ودلالة المعنى على لازم خارج له أو عنه، إذًا فما به، أي اللفظ المراد به لازم معنى ما، معنى موضوع له اللفظ المراد به لازم ما وضع به. إذا المراد بهذا التركيب المراد به لازم ما وضع له، يعني اللفظ المراد به لازم ما وضع له سواء كان جزءًا، ودخلت دلالة التضمن أو خارجًا دخلت دلالة الالتزام، أي سواء كانت اللازم داخلاً كما في التضمن أو خارجًا كما في دلالة الالتزام. إما أن تقوم قرينة على عدم إرادة ما وُضِعَ له فهو مجاز، دلالة اللفظ على اللازم سواء كان جزءًا أو خارجًا، إما أن تقوم قرينة على أن اللفظ اسْتُعْمِلَ في غير ما وُضِعَ له فهو مجاز. ولذلك قال: (إِمَّا مَجَازٌ). إما أن تقوم قرينة على عدم إرادة ما وضع له فهو مجاز، ثم المجاز منه الاستعارة، والاستعارة هي مجاز علاقته المشابهة، إذًا التشبيه أصل للاستعارة، ولذلك قال: (مِنْهُ الاستِعَارَةُ) هكذا (مِنْهُ) أي من المجاز (الاستِعَارَةُ) وهي نوع من أنواع المجاز، تُبنى، أي هي الاستعارة على التشبيه فلزم ذكر (التَّشْبِيهِ)، (أَوْ كِنَايَةُ) عطف على قوله: (مَجَازٌ) فانحصر المقصود من البيان في هذه الثلاثة. إذا مجاز هذا إذا قامت قرينة على عدم إرادة ما وُضِعَ له اللفظ، ثم المجاز منه (الاستِعَارَةُ) وهي تبنى على (التَّشْبِيهِ) الذي كان أصلها أو أصلهما فتعين التعرض له أيضًا قبل المجاز الذي أحد أقسام الاستعارة، أو كناية هذا عطف على سابقه. إذا كأنه قال: فما به لازم ما وضع له إما مجاز أو كناية هذا الأصل، إما مجاز أو كناية، أو للتنويع، فقسم لك المقاصد أو المقصودين إلى نوعين: مجازًا أو كناية. ولما كانت الاستعارة وهي نوع من المجاز مبناها على التشبيه لزم أن يذكر التشبيه فلذلك يذكرون التشبيه أول ما يتكلمون عنه. المقصد الأول من المقاصد الثلاث، إذا ما عرفنا هذه المقدمة المقصد الأول هو التشبيه: التَّشْبِيه مصدر شَبَّهَ يُشَبِّهُ تَشْبِيهًا من باب التَّفْعِيل، وهو في الاصطلاح عند البيانين: الدلالة على مشاركة أمر للآخر في معنًى. الدلالة إذا عندنا الدلالة، لا بد أن نعرف ماذا الدلالة؟ وقد سبق معنا، وعرفنا أنواع الدلالة وقد سبق معنا، وعرفنا أن الوضعية ليست مرادًا هنا، فإن قيل أن التشبيه من الدلالة الوضعية حينئذٍ كيف يُبحث في علم البيان؟ أجبنا بأن البحث بالتشبيه ليس من علم بيان ابتداءً، وإنما هو مذكور لما يتعلق بعلم البيان، لأن بحث البيانين هنا في هذا الفن علم البيان في الدلالة العقلية، والتشبيه ليس من هذا الأصل، فكيف يذكر؟

قلنا: .. #42.38 لم يذكر آصالة وإنما ذكر تبعًا، فحينئذٍ المجاز والكناية دلالتهم عقلية فلا إشكال فيه ولا اعتراض، واضح هذا؟ [نعم] التشبيه هو الدلالة على مشاركة، إذًا هذا معنى التشبيه ثَمّ مشاركة بين شيئين، مشاركة أمر الذي هو الْمُشَبَّه لآخر الذي هو الْمُشَبَّهُ بِهِ في معنًى الذي هو وَجْهُ الشَّبَهِ، لا على وجه الاستعارة التحقيقية، ولا على وجه الكناية، ولا على وجه التجريد، يعني هذه ثلاثة أشياء فيها مشاركة شيء لشيء آخر في معنًى، وهل هي تشبيه؟ الجواب: لا، ليست من التشبيه، لئلا تدخل في الحد لولا من أن نذكر هذا القيد لو لم أن نذكر هذا القيد لدخلت في الحدّ، فلا بد من إخراجها، فنقول: لا، هذا استدراك وإخراج، لا على وجه الاستعارة التحقيقية، وهي فيها تشبيه مشاركة أمر لأمر آخر في معنًى، لكنها ليست من التشبيه الاصطلاح، ولا على وجه الكناية ولا على وجه التجريد شرح التعريف. قوله: (الدِّلالَةْ) أي من المتكلِّم للمخاطَب، أليس كذلك؟ الدلالة، دلالة من؟ دلالة الكلام، ممن؟ من المتكلِّم إلى المخاطَب، بالكاف ونحوها، دلالة بأي شيء حصلت؟ بالكاف ونحوها يعني بأداة التشبيه لأن المشاركة هنا ما الذي يدل عليها؟ الذي يدل عليها أداة، قد تكون حرفًا، وقد تكون اسمًا، وقد تكون فعلاً. ولذلك يُعبر بالأداة كما سيأتي. الدلالة من المتكلم للمخاطَب بالكاف ونحوها لفظًا أو تقديرًا، لفظًا كقولك زيد كالأسد، هنا لفظت بالكاف. زيدٌ أسدٌ. على الصحيح أنه تشبيه بليغ ليس استعارة فحينئذٍ نقول: الأصل زيد كالأسد. حُذِفَت الكاف، إذًا قد تكون الكاف مذكورةً، وقد تكون مقدرة، على اشتراك أمر وهو الْمُشَبَّه لأمر آخر وهو اْلُمَشَّبَهُ بِهِ في معنًى وهو وجه الشَّبَهِ، والمراد هنا بوَجْهِ الشَّبَهِ وصف من أوصاف أحدهما في نفسه. يعني: وصف من أوصاف أحدهما الْمُشَبَّه أو الْمُشَبَّهِ به، في نفسه كالشجاعة في الأسد، والنور في الشمس. وينبغي أن يكون وجه الشبه في نفسه مما يصح أن يقاس به غيره لبلوغه الكمال في بابه، يعني لا بد أن يكون وصفًا متميزًا، لأنك إذا قلت: زيد كالأسد. هذا زيد حيوان، والأسد حيوان كذلك، زيد موجود، والأسد موجود، زيد يأكل والأسد يأكل، هذا يشرب وهذا يتناسل. إذا الأوصاف مشتركة لكن ما الذي أريد؟ أريد وصف يتميز به الْمُشَبَّه به لا يشاركه الْمُشَبَّه، يعني الوصف الجامع قد يكون مشتركًا بينهما وقد يكون المشبَّه به متميزًا فيه، بمعنى أنه أظهر فيه فيقال زيد كالأسد يعني في الشجاعة، وأما ما عداها من الأوصاف فهي مشتركة بين زيد والأسد بل وغيره، وذلك كقولك زيد كالأسد دُلَّ بهذا الكلام على مشاركة زيد الأسد في الشجاعة، فدلالته على هذه المشاركة هي التشبيه، زيد كالأسد، ما الذي فُهِمَ من هذا التركيب؟

مشاركة زيد الأسد في معنًى واحد وهو وصف انفرد به الأسد وهو الشجاعة، هذا الذي يُسمى ماذا؟ يُسمى بالتشبيه، ثَمَّ مُشبَّه، ثَمَّ مُشَبَّهٌ به، ثَمَّ أداة، ثَمَّ وجه شبه أركانه أربعة كما سيأتي. ولما كان هذا التعريف يتناول يعني دخل فيه ما يسمى تَشْبِيهًا بلا خلاف، ولِمَا يُسمَّى تشبيهًا على المختار، ولِمَا لا يُسمّى تشبيهًا. إذًا ثلاثة أحكام، منه يعني مما يُحكم عليه بأنه تشبيه هو تشبيه بلا خلاف، وذلك فيما إذا ذكرت الأداة، كـ (زيد كالأسد)، نقول: هذا تشبيهٌ بلا نزاع. النوع الثاني: يُسمى تشبيهًا وفيه نزاع لكن على الصحيح هو تشبيه في قولك: زيد الأسد. هذا فيه نزاع، هل هو استعارة أو تشبيهٌ اصطلاحيّ؟ الصحيح أنه تشبيهٌ اصطلاحي. ولِمَا لا يُسمى تشبيهًا ووُجِدَ فيه المعنى وهو مشاركة أمر لآخر في معنًى. هذا النوع لا بد من إخراجه وهو ثلاثة أشياء: استعارة تحقيقية، والكناية، والتجريد. ما يسمى بالتجريد. ولِمَا لا يسمى تَشبيهًا احترز عن الثاني بتقييده بأن يكون ذلك الاشتراك على وجه الاستعارة التحقيقية، وهي التي تحقق معناها حسًّا أو عقلاً، الاستعارة هي مجاز علاقته المشابهة، قد يكون مدلوله محققًّا مدركًا بالحسّ، وقد يكون شيئًا معقولاً، يعني مدركًا بالعقل كما سيأتي، نحو: رأيت أسدًا يرمي. هنا ليس عندنا تشبيه وإنما هي استعارة تحقيقية، لأنه شَبَّهَ أولاُ ثُمَّ أطلق لفظ الأسد على زيد كما سيأتي بيانه.

إذًا نقول: هذه الاستعارة التحقيقية ومثالها: رأيت أسدًا يرمي. نقول: هذا ليس بتشبيه اصطلاحي وإنما هو استعارة تحقيقية، وإن كانت هي مبنيةً على التشبيه، لأن التشبيه ما ذُكر إلا من أجل الاستعارة، إذًا رأيت أسدًا يرمي ليس هو بتشبيه اصطلاحي، ولا على وجه الاستعارة بالكناية، وسيأتي بحثها، وهي التي أظهر فيها التشبيه في النفس. ثَمَّ مُشاركة أَمْرٍ لآخر، لكن هنا التشبيه مضمر في النفس، يعني مقدر في النفس، يعني منويّ، نويتَ أولاً ثُمَّ أَطْلَقْتَ، فلم يُصَرِّحْ بشيء من أركانه سوى الْمُشَبّه، ودُلَّ عليه بأن أُثْبِتَ للمشبَّه أَمْرٌ اخْتَصّ بالْمُشَبّه به نحو: أَنْشَبَتُ الْمَنِيَّةُ أَظْفَارَهَا، هذا يُسَمَّى كناية، وهو فيه في الأصل معنى التشبيه، لكنه ليس بالتشبيه الاصطلاحي ولا بد من إخراجه، وسيأتي معنى الكناية في آخر الفصل. ولا على وجه التجريد وهو أن يكون الْمُشَبّه مذكورًا أو مقدرًا ولم يكن اسم الْمُشَبّه به خبرًا للمُشَبّه ولا في حكم الخبر مع حذف أداة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه، نحو ماذا؟ لقيت من زيد أسدًا. كأنك جردت من زيد أسدًا، لقيت من زيد هذا يُسمى التجريد عند البيانين، لقيت من زيد أسدًا، فبكل من هذه الثلاثة دلالة على مشاركة أمر لآخر في معنًى إذا وُجِدَ فيه الْحَدّ، ولكن لا يُسمَّى شيء من تَشْبِيهًا اصطلاحًا، لا الاستعارة الحقيقية، ولا كناية، ولا التجريد، وإن كانت الثلاثة مبناها على التشبيه في الأصل، لكن لا تسمى تشبيهًا في الاصطلاح. ودخل في تعريف التشبيه الاصطلاحي ما يُسمى تشبيها بلا خلاف، وهو ما ذكر فيه أداة التشبيه، سواء ذكر الْمُشَبّه معها نحو: زيد كالأسد، ذُكِرَ فيها أدة التشبيه، وهذا محل وفاق، أو حذف لقرينة نحو: كأسدٍ. في جواب: كيف زيد؟ كأسدٍ. أين الْمُشَبّه محذوف لقرينة وقوعه - الكلام يعني - جوابًا لسؤال: كيف زيد؟ كأسد، أو كالأسد. ودخل أيضًا ما يُسمى تشبيهًا على المختار يعني على الصحيح، وهو التشبيه الذي حُذِفَتْ أداته وجُعِلَ الْمُشَبّه به خبرًا عن الْمُشَبّه أو في حكم الخبر، سواء كان مع حذف الْمُشَبّه أو مع ذكره {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}. [البقرة: 18] أي هم صمٌّ أي هم كصمٍّ، واضح هذا؟ {صُمٌّ} نقول: هذا خبر لمبتدأ محذوف، حذف المبتدأ وهو هم وبَقِي الْمُشَبّه به وحذفت الأداة. كقول الشاعر: أَسَدٌ عَلَيَّ وفي الْحُروبِ نَعَامَة

يعني أنت كالأسد، وحُذِفَ أنت الذي هو المبتدأ الْمُشَبّه، وحذفت أداة التشبيه وبَقِيَ الْمُشَبَّه به كما هو الشأن في {صُمٌّ بُكْمٌ}. إذا هذا على الصحيح يعتبر ماذا؟ يعتبر تشبيهًا، الذي حذفت أداته وجُعِلَ الْمُشَبّه به خبًرا عن الْمُشَبّه، هم كصم هذا الأصل، تشبيهٌ أم لا؟ تشبيهٌ اتفاقًا هذا التركيب تشبيه باتفاق، لكن لَمَّا حُذِفَ الْمُشَبَّه وحذفت الأداة قال: ... {صُمٌّ}، هل هو تشبيه أم لا؟ محل نزاع والصحيح أنه تشبيه، وإن كان التقدير هم كصم، لَمَّا حذفت الأداة جُعِلَ الْمُشَبّه به خبًرا عن الْمُشَبّه، لَمَّا [لم يكن جارًّا] لم يكن مجرورًا بالكاف المحذوفة حينئذٍ وقع فيه لبس، أي أنت أسد، وحذف منهما الْمُشَبّه وأداة التشبيه. والثاني نحو قولك: زيدٌ أسدٌ. وحذفت أداة التشبيه فقط، فهو تشبيه بليغ على الصحيح لا استعارة. إذًا هذان النوعان وقع فيهما نزاع، وهو النوع الأول أن يحذف الْمُشَبّه مع الأداة ويجعل الْمُشَبّه به خبرًا عن المبتدأ {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} - احفظ هذا المثال - هم كصم هذا الأصل. الثاني أن تحذف الأداة فقط ويبقي الْمُشَبّه. زيدٌ أسدٌ. ماذا صنعتَ؟ أبقيت الْمُشَبّه والْمُشَبّه به طرفين وحذفت الأداة، هذا فيه نزاع كذلك، والصحيح في الموضعين أنهما تشبيه اصطلاحًا لا استعارة. انتهينا من التعريف. ثم قال رحمه الله تعالى: وَطَرَفَا التَّشْبِيهِ حسِّيَّانِ ... وَلِّوْ خَيَالِيًّا وَعَقْلِيَّانِ وَمِنْهُ بِالْوَهْمِ وَبِالْوُجْدَانِ ... أَوْ فيهِمَا يَخْتَلِفُ الجُزْآنِ لما كان الطرفان هما الأصل والعمدة في التشبيه لكون الوجه معنًى قائمًا بهما والأداة آلة في ذلك، قدَّم بحث ما يتعلق بالطرفين، المراد بالطرفين هما الْمُشَبّه والْمُشَبّه به، لأن البحث يكون في أمور: أولاً: في الْمُشَبّه والْمُشَبّه به. في الطرفين على ما ذكر الناظم في البيتين. الثاني: في الأداة. الثالث: في وجه الشبَّه. ثم يذكرون أغراض الشبّه، الغرض منه، ثم يذكرون أقسام كل منها. فقال رحمه الله تعالى: (وَطَرَفَا التَّشْبِيهِ) أي الْمُشَبّه والْمُشَبَّه به، إما ... (حسِّيَّانِ) (وَعَقْلِيَّانِ)، والخيالي داخل في الحسيّ، والوهم والوجدان داخلان في العقل على الترتيب انظر في البيتين، (حسِّيَّانِ) أو (عَقْلِيَّانِ) هذا التقسيم، إما (حسِّيَّانِ) أو (عَقْلِيَّانِ) أو مختلفان ولو خياليًّا هذا نوع من أنواع الحسّيّ داخل فيه، و (مِنْهُ) أي من العقليّ (بِالْوَهْمِ وَبِالْوُجْدَانِ) إذا الوهم والوجدان داخلان في العقل، (أَوْ فيهِمَا يَخْتَلِفُ الجُزْآنِ) يعني بعضه حسيّ وبعضه عقليّ. إذا القسمة ثلاثية، طرف التشبيه ثلاثة أقسام: إما (حسِّيَّانِ) وإمّا (عَقْلِيَّانِ)، وإما مختلفان. الحسِّيَّان أن يكون كلٌّ من الْمُشَبّه والْمُشَبّه به حِسِّيّ. والعقليان أن يكون كل من الْمُشَبّه والْمُشَبّه به عقليّ. ومختلفان أن يكون الأول والمشبّه حسي، والمشبه به عقلي، والنوع الثاني أن يكون الْمُشَبّه عقلي وأن يكون الْمُشَبّه به حسي. هذا ما يعبر عنه بالمختلفين، واضح هذا؟

نشرع (وَطَرَفَا التَّشْبِيهِ) أي الْمُشَبّه والْمُشَبّه به إما (حسِّيَّانِ)، أي كل منهما حسي منسوب إلى الحسيّ، والمراد به هنا الحسّ الظاهر لأن الحسّ قد يقال بأن المراد به حسّ الباطن وهو الوجدان، ويطلق في الأصل ويراد به الحسّ الظاهر وهو حقيقته هنا يعني الحسيّ المراد بالحسي المراد به الْمُدْرَكُ هو أو مادته بأحد الحواس الخمسة، أو بإحدى الحواس الخمسة. المدرك يعني الذي يُدرك، والإدراك واضح، هو أو مادته، هو يعني: بتركيبه وأجزائه، أو مادته يعني مفرداته التي تألف المركب منها، إذًا الحسيّ هنا قد يكون مركبًا فيدرك الشيء كله بالحسِّ، وقد لا يدرك بالحس وإنما تدرك مفرداته التي تألف منها، وسيأتي مزيد بيان. والمراد هنا بالحواس الخمس التي هي: البصر والسمع والشم والذوق واللمس. هذه الحواس الخمس. فإذا أُدْرِكَ الْمُشَبّه أو الْمُشَبّه به هو أو مادته يعني التي تألف منها بإحدى الحواس الخمس فهو الحسيّ، يعني الذي يُسمى حسِّيًّا، كتشبيه الخدّ بالورد، في المبصرات، خدّ ورد، الخدّ كالورد مثلاً في الحمرة، الْخَدّ هذا مُشبّه والورد مُشبَّهٌ به، وكلاهما حسيّ لأنه مدرك بالبصر يدرك بالبصر. والصوت الضعيف بالهمس، إذا شبه الصوت الضعيف بالهمس، الصوت كالهمس. حينئذ نقول: كلاهما حسيّ لأن كلاًّ من الْمُشَبّه والْمُشَبّه به مدرك بالسمع، هذا من المسموعات، وكالنكهة بالعنبر في طيب الرائحة هذا من المشمومات، وكتشبيه الريق بالشهد أو بالخمر في اللذة - إذا كان يتلذذ - أو في إزالة عقل الشارب، حينئذٍ شُبِّهَ الخمر أو الرّيق بالخمر كلاهما مما يُذاق حينئذٍ هذا في المذاقات، وكتشبيه الجلد الناعم بالحرير، في ماذا؟ في اللمس. إذًا هذه كلها الْمُشَبّه والْمُشَبّه به يدرك بالحسِّ. ودخل في الحسيّ بزيادة قولهم أو مادته هو الخيال، مادته يعني المفردات التي تألف منها الكلّ، فعندنا مادة وعندنا كلّ هيئة، قد تكون المادة مدركة بالحسّ، وأما الكلّ فلا يدرك بالحسّ إنما يكون بالخيال، فدخل بالحسّ بزيادة قولهم أو مادته الخيال كما أشار إليه الناظم في قوله: (وَلِّوْ خَيَالِيًّا). يعني ولو كان المدرك (خَيَالِيًّا) خيالي هذا خبر كان المحذوفة مع اسمها. وبعد إن ولو كثيرًا لاشتهر «ولو خاتمًا من حديد». يعني ولو كان الملتمس خاتمًا، وخاتمًا خبر كان المحذوفة مع اسمها. ويحذفونها ويبقون الخبر ... بعد إن ولو كثيرًا لأشتهر

(وَلِّوْ خَيَالِيًّا) يعني ولو كان المدرك بالحس (خَيَالِيًّا)، وهو ما كانت مادته يعني مفرداته تدرك بالحسّ، وأما هو فلا لأنه غير موجود، يعني لو تخيل الذهن هيئة مركبة من أشياء حسِّيّة لكنه لا وجود له في الخارج، فحينئذٍ لو وجد في الخارج لأدرك بالحسّ، وهو الخيالي المعدوم، يعني غير موجود في الخارج، وإنما تصوره الذهن، المعدوم الذي فُرِضَ مُجْتَمِعًا من أمور كل واحد منها مما يدرك بالحسِّ دون المجموع المركب منها. إذًا (وَلِّوْ خَيَالِيًّا) المراد بالخياليّ المعدوم الذي فُرِضَ مُجْتَمِعًا من أمور كل واحد منها مما يدرك بالحسِّ، يعني تخيل الذهن شيئًا مركبًا هذا الشيء المركب لا وجود له في الخارج، رَكَّبْتَهُ من ماذا؟ ركبته من أِشياء محسوسة لو وُجِدَ مَا رُكِّبَ من محسوس في الخارج يُدْرَكُ بماذا؟ بالحسِّ. لذلك صار الخيالي حسِّيًّا، دخل في الحسّ. المعدوم إذا هو غير موجود، الذي فُرِضَ مُجْتَمِعًا من أمور كل واحد منها مما يدرك بالحسِّ دون المجموع المركب منها، كما في قول الشاعر: وكأن مُحْمَرّ الشقيق إذا تَصَوَّبَ أو تَصَعَّدَ أعلام ياقوت نُشِرْنَ على رماح من زبرجد هنا ماذا صنع؟ شَبَّه الشقيق، الشّقيق المراد به ورد أحمر في وسطه سوادًا شبَّه الشقيق بعلم الياقوت لحمرته، والعود الأخضر الرقيق الذي هو ساقه بالرمح من زبرجد، وهو حجر أخضر معروف، أعلام ياقوت ليس عندنا أعلام ياقوت، يعني كأنه قال: أعلام من ذهب، على ساق من فضة، هذا له وجود في الخارج؟ لا. ولكن الذهب والفضة لها وجود في الخارج، فركَّب من الذهب والفضة شيئًا مجتمعًا لا وجود له في الخارج، لكن لو وُجِدَ لكان مدركا بالحسّ، فإن كلاًّ من العلم والياقوت والرمح والزبرجد محسوس، لكن هذا المركب الذي مادته تَرَكَّبَ منها كل واحد منها حَسِّيّ، لكن هذا المركب الذي هذه الأمور مادته ليس بمحسوس، لماذا؟ لأنه غير موجود، لو تخيلت طائرًا بخمسة أجنحة أو برأسين .. إلى آخره، نقول: هذا وجوده وجود ذهني، لكن مركب من ماذا؟ أنت أدركت الجناح وعرفته، وهو شيء في الخارج محسوس، لو وجد بهذه الصفة في الخارج لكن مدركًا بالحسِّ، لأنه ليس بموجود لأن الحسّ إنما يُدْرِكُ ما هو موجود في المادة حاضر عند الْمُدْرِك على هيئات مخصوصة محسوسة. إذًا الأعلام التي هي من ياقوت أعلام ياقوتية منشورة على رماح من زبرجد هذا لا وجود لها، وأما المادة التي أُلِّفَتْ منها هذه الهيئة فهي موجودة، هذا يُسمى ماذا؟ يُسمّى خياليًّا، وهو داخل في الحسِّ بمعنى أنه لو وُجِدَ في الخارج لكن مُدْرَكًا بالْحِسِّ، والعقل يتصور ما لا وجود له في الخارج كما مرَّ معنا، وإِمّا (عَقْلِيَّانِ) نقول: هذا يقابل (حسِّيَّانِ)، إذًا طرفا التشبيه الْمُشَبّه والْمُشَبّه به، إما أن يكون حِسِّيَّينِ ودخل فيهما الخيالي وهو المعدوم المفروض وجوده قد أُلِّفَ من أشياء محسوسة.

قال: (عَقْلِيَّانِ) أي منسوب كلاهما إلى العقل وهو ما عدا ذلك، أي ما لا يكون هو ولا مادته مدركًا بإحدى الحواس الخمس، لا يدرك هو ولا مادته يعني المفردات التي تَأَلَّفَ منها المركب لا يدرك بإحدى الحواس الخمسة الظاهرة، وإنما يدرك بالعقل يعني الذي يفهمه العقل. قالوا: كما في تشبيه العلم بالحياة، العلم ليس محسوسًا يعني لا يدرك بالحس لا بالبصر ولا بالشم ولا يذاق، والحياة كذلك لا تشم ولا تدرك بالبصر إذا انتفى عن الطرفين إدراك الحواس الخمس، ووجه الشبه لهما كونهما جهتي إدراك. إذا العقلي هو ما لا يدرك هو ولا مادته بالحسِّ كالعلم والحياة. (وَمِنْهُ بِالْوَهْمِ) يعني (مِنْهُ) يعني من العقلي الوهمي، وهو ما يدرك بالْوَهَمِ الذي لا يكون للحسِّ مدخل فيه مع أنه لو أُدْرِك لم يُدرك إلا بها، يعني لا يُدرك بإحدى الحواس الخمسة المذكورة السابقة، مع أنه لو أدرك لم يُدرك إلا بإحدى الحواس الخمس بخلاف الخيال السابقة، السابق إذا للحسّ فيه مدخل فإنه منتزع منه، هنا المفردات عقلية، والهيئة عقلية، لو وجد في الخارج لأُدرك بالحس بخلاف الخيالي، الخيَال الهيئة المجتمعة لا تُدرك بالعقل، ولو أُدركت بالخارج لأدركت بالحس حينئذٍ لما تألفت وتكونت من المحسوسات تعلقت بالحسّ ولذلك دخلت هنا. هنا الوهمي الذي لا يكون الحسِّ مدخل فيه مع أنه لو أدرك لم يدرك إلى بها، وبهذا القيد يتميز عن العقلي كما في تشبيه قول أبي تمام: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زُرقٌ كأنياب أغوالِ غول ولها أنياب، أين الغول؟ لا وجود لها، أين أنياب الغوال؟ لا وجود لها، حينئذ هي موجودة في العقل لكن الغول لو وُجِدَ في الخارج لأُدْركت بماذا؟ بالحسِّ لأنها منسوبة إلى نوع من أنواع الحيوان، وأنيابها من باب أولى أن تُدْرَك بالحسِّ. إذًا أنياب أغوال، يعني أظفار أغوال، هي الغول لم توجد في الخارج حينئذ أنيابها من باب أولى، فلو أدرك هذا الشيء إنما يُدرك بالحسِّ. إذًا هذا يُسمى ماذا؟ يُسمى وهمي لأن متوهم لا وجود له في الخارج، لو وُجِدَ على سبيل الافتراض لكان إدراكه يكون بالبصر، فأنياب الأغوال مما لا يُدركه الحسّ، لماذا؟ لعدم وجودها، لكنها لو أُدْرِكَت لَمْ تُدرك إلى بحس البصر، هذا الوهمي، وكذا من العقلي ما يُدرك بالوجدان يعني الحسّ الباطن الذي يُسمى بالوجدانيات، أي يُدرك بالقوى الباطنة وتسمى وجدانيات، لكون الإنسان يُدركها بقواه الباطنة، ويجدها من نفس اللذة والألم والجوع والشبع والهم والفرح وما شاكل ذلك، فليس إدراك شيء من هذه المعاني يكون بالحواس الظاهرة، أليس كذلك؟ وليست من العقليات الصرفة، بل من الوجدانيات التي تُدرك بالقوى الباطنة، فيَعلم من نفسه أنه على جوع لكنه لا بدلالة العقل ولا بدلالة البصر ولا بدلالة السمع ولا بالشم ولا بغيره، وإنما يُسمى بالحس الباطن. إذا من العقلي بالوجدان أي ما يدرك بالقوة الباطنة كاللذة وما عطف عليها، وهذان داخلان تحت قوله: (عَقْلِيَّانِ). إذا الوهمي والوجداني هما من أقسام العقلي.

(أَوْ فيهِمَا يَخْتَلِفُ الجُزْآنِ)، (أَوْ فيهِمَا) أو للتنويع، والعطف هنا على (حسِّيَّانِ). (أَوْ فيهِمَا) أي في طرفي التشبيه يختلف الجزءان بأن يكون الْمُشَبّه عقليًّا والْمُشَبّه به حِسِّيًّا، عرفنا المراد بالعقلي ويشمل الوهمي والوجداني، والْمُشَبّه به الحسي ويشمل الخيالي كتشبيه المنية بالسبع، المنية بالسبع، مشبه هنا عقلي لأن لا تدرك بالبصر ولا بالسمع ولا بالذوق، والْمُشَبّه به هو السبع هذا حسيّ، إذا الْمُشَبّه هنا والْمُشَبّه به اختلفا حسًّا وعقلاً، هذا يُعبر عنه بالمختلفين بأن يكون الأول عقليًّا كالمنية، والثاني يكون حسيًّا كالسبع، أو العكس يكون الْمُشَبّه حسيًّا والْمُشَبّه به عقليًّا كالعكس في التشبيه السابق، تشبيه السبع بالمنية، وكتشبيه النور بالهدى، فإن النور حسي يدرك بالبصر والهدى عقلي ووجه الشبه بينهما كونهما جهتي وصول إلى المقصود. إذًا هذا ما يتعلق بطرفين التشبيه. ثم قال: (وَوَجْهُهُ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ). (وَوَجْهُهُ) بعد ما أنهى الكلام على الطرفين شرع في الكلام على الجامع بينهما وهو وجه الشبه، يعني المعنى الذي وُجِدَ في الْمُشَبّه به فأُلْحِقَ أو العكس وُجِدَ في الْمُشَبّه فأُلْحِقَ بالْمُشَبّه به، يعني وُجد هذا الوصف في المشبه، ثم لوجوده في المشبه به [أُلحق الثاني] أُلحق الأول بالثاني، يعني الْمُشَبّه بالْمُشَبّه به، فوجود الوصف أولاً يكون في الْمُشَبّه به، هذا لا كلام فيه، وإنما يتحقق وجود الوصف في المشبه لأن هذا ما يكون أشبه بالقياس، إلحاق النظير بالنظير، وهو وجه الشبه، وقدَّمه على ما يليه لأن له مَدْخَلِيَّةً في مفهوم التشبيه كالطرفين، فقال: (وَوَجْهُهُ) أي وجه الشبه واحدًا كان أو متعددًا كما سيأتي في تقسيم الناظم (مَا اشْتَرَكَا فِيهِ)، أي معنًى (مَا) هنا اسم موصول بمعنى الذي يصدق على المعنى، لأن الكلام هنا في المعاني، (مَا) أي معنًى (اشْتَرَكَا) الألف هذه فاعل، أي الطرفان الْمُشَبّه والْمُشَبّه به، (فِيهِ) أي في المعنى الذي قُصِدَ اشتراك الطرفين فيه، والمراد هنا المعنى الذي له زيادة اختصاصٍ بالْمُشَبّه، وقصد اشتراكهما فيه، يعني كما ذكرنا سابقًا زيدٌ مثلاً قلنا: زيدٌ كالأسد هنا يشتركان في أوصاف متعددة كثير من الذاتيات مثلاً وغيرها، كل منهما حيوان وكل منهما جسمٌ وكلٌ منهما موجود وكلٌ منهما يأكل ويشرب ويناسل هذه أوصاف مشتركة بين زيدٍ والأسد ولكن ليس شيئًا منها مقصودٌ فيه بالتشبيه، وإنما المراد به المعنى القائم بالْمُشَبّه به فوجد في الْمُشَبّه وامتاز الْمُشَبّه به عن غير به، يعني بالشجاعةٍ مثلاً. ثم قال رحمه الله تعالى: ............. وَجَا ... ذَا فِي حَقِيقتيهِمَا وَخَارِجَا وَصْفاً فَحِسِّيٌّ وَعَقْلِيٌّ ... .......................... يعني ينقسم وجه الشبه إلى حقيقي وخارجي، يعني خارجٌ وداخلٌ، ثم الخارجي نوعان: وصفٌ وإضافيٌ، والوصف نوعان: حسيٌ وعقليٌ وهذا يأتي بحثه فيه طولاً. والله أعلم، وصلّى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

13

عناصر الدرس * بيان وجه الشبه وأنواعه. * بيان أداة التشبيه والغرض من التشبيه. * أنواع التشبيه باعتبار أركانه. * الحقيقة والمجاز. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فلا زال الحديث في المقصد الأول من المقاصد الثلاث في علم البيان، وقلنا: هو محصورٌ في ثلاثة مقاصد: التشبيه، ثم المجاز، ثم الكناية. وشرع في التشبيه وعرفنا حقيقته وأنه مقومٌ من أربعة أركان، وبَيَّنَ ما يتعلق بالركنين الأولين في قوله: وَطَرَفَا التَّشْبِيهِ حسِّيَّانِ ... وَلِّوْ خَيَالِيًّا وَعَقْلِيَّانِ وَمِنْهُ بِالْوَهْمِ وَبِالْوُجْدَانِ ... أَوْ فيهِمَا يَخْتَلِفُ الجُزْآنِ ثم شرع فيما يتعلق بالركن الثالث وهو وجه التشبيه. بعد إنهاء الكلام في الطرفين شرع في الكلام عن الجامع بينهما وهو وجه الشبه. ويُعَبِّرُ عنه السيوطي بـ (وجه التشبيه). وقدَّمَهُ على ما يليه لأن له مدخليةً في مفهوم التشبيه كالطرفين، فقالوا: (وَوَجْهُهُ) أي وجه الشبه واحدًا كان أو متعددًا، يكون وجه الشبه واحدًا، يعني شيئًا واحدًا، وقد يكون متعددًا كما يأتي (مَا اشْتَرَكَا فِيهِ)، (مَا) أي المعنى أو معنًى (اشْتَرَكَا) أي الطرفان الْمُشَبَّه والْمُشَبَّه به (فِيهِ) أي في ذلك المعنى الذي قُصِدَ اشتراك الطرفين فيه، والمراد هنا ليس مطلق المعنى لأنه كما مرَّ معنا أن قولك: زيدٌ كالأسد ثَمّ اشتراك في الوجود والحيوانية، وما يتعلق بأعراض كُلاًّ منهما ولكن المراد أن ثَمَّ معنًى وُجِدَ في الْمُشَبَّه به ووُجِدَ في الْمُشَبَّه، وأريد إلحاقه به، إذ التشبيه إلحاق الفرع بالأصل، والمراد المعنى الذي له زيادة اختصاصٍ بالْمُشَبَّه وقد اشتركا فيه كالشجاعة في قولك: زيدٌ كالأسد. الأسد لا شك أنه متفقٌ على أنه شجاع، ووُجِدَ [في] هذا الوصف في زيد قلت: زيدٌ كالأسدِ. في ماذا؟ في الشجاعة. إذًا كون هذا الوصف موجودًا في الْمُشَبَّه به هذا لا إشكال فيه، وإنما هل هو موجودٌ في الْمُشَبَّه باعتبار المتكلم؟ نعم، زيدٌ كالأسد. ثم قال: (وَجَا) بالقصر للضرورة وهو لغة مثل هذه يقال: لغة. وإن كان الشارح أنه قال: إنه بالقصر للضرورة (وَجَا ** ذَا) أي وجه الشبه، وجه الشبه ينقسم إلى نوعين: - إلى خارجٍ عن حقيقة الطرفين. - وغير خارج.

خارج، وغير خارج. وهذا الاصطلاح كما مرّ معنا اصطلاحٌ منطقي خارجًا عن الذات، وليس بخارجٍ عن الذات. ما كان داخلاً في الذات كالكلِّ الحقيقي، والكل العرضيّ، والمراد هنا ما كان داخلاً في الذات كالجنس والنوع أو تمام الذات فهذا داخل، وما كان وصفًا فهو العرضي هذا الخارجي. ولذلك قال: (وَجَا ** ذَا) أي وجه الشبه غير خارجٍ عن حقيقة الطرفين، كما أشار إليه في قوله: (فِي حَقِيقتيهِمَا) أي حقيقة الطرفين. وذلك [بأن يكون تمام الماهية النوعية] (¬1) نعم بأن يكون تمام ماهيتها النوعية، أو جزءً منها مشتركًا بينهما وبين ماهيةٍ أخرى كما في تشبيه إنسانٍ بإنسان في كونه إنسانًا، أو الأوضح من هذا أن يقال: تشبيه ثوبٍ بآخر في الجنس والنوع، كما يقال: هذا القميص مثل هذا، يعني في كونه من قطنٍ أو كتان أو نحو ذلك، وهذا تشبيهٌ به في الجنس، أو أن تقول: هذا الثوب مثل هذا في كونه قميصًا لا في الجنس الذي وُجِدَ منه، قد يقال: هذا الثوب مثل هذا، والمراد به أنه مصنوعٌ من قطنٍ ونحوه، وقد يقال: هذا الثوب مثل هذا، يعني في الهيئة. فحينئذٍ الأول في الجنس، والثاني في النوع. أو يقال: هذا مثل هذا. وتقصد به إنسان شَابَهَ إنسانٍ آخر، وكل منهما قدرٌ مشترك في الإنسانية التي هي الحيوان الناطق، أو جزءها كما في تشبيه بعض الحيوانات بالإنسان في كونه حيوانًا، على كلٍّ ما كان داخلاً يراد به الجنس والنوع. مثالٌ أوضح أن يقال: هذا الثوب مثل هذا. في كونه مصنوعًا من قطنٍ ونحوه، وإن كان المراد به الهيئة العامة والنوع فيقال: هذا الثوب مثل هذا. يعني في كونه قميصًا. وجاء وجه شبهٍ خارجًا (وَخَارِجَا) يعني عن حقيقة الطرفين (وَصْفًا) هذا تابع لقوله: خارجًا. (خَارِجَا وَصْفًا فَحِسِّيٌّ وَعَقْلِيٌّ) هذا نوع للوصف، و (وَصْفًا) أي صفة، وتلك الصفة على نوعين - عند البيانيين -: - إما حقيقة. - أو إضافية. والأولى الحقيقة: - إما حسية. - وإما عقلية. ولذلك قال: (وَصْفًا فَحِسِّيٌّ) الفاء هذه فاء الفصيحة، (فَحِسِّيٌّ) فهو حسيّ أي الوصف. (وَعَقْلِيٌّ) يعني وهو عقليّ، أو منه حسيّ ومنه عقليّ يحتمل النوعين أو الوجهين. إذًا هذان النوعان الحسيّ والعقليّ وصفان أو نوعان للوصف الحقيقي وليس داخل فيه مفهوم الإضافي. إذًا الصفة: إما حقيقة، وهذه تنقسم إلى قسمين: حسية، وعقلية. وإما إضافية. ¬

_ (¬1) سبق.

فالحسية المشار إليها بقوله: (فَحِسِّيٌّ) أي مدرك بالحسّ. حسّ يعني مدرك بإحدى الحواس الخمس. كالكيفيات الجسمية مما يدرك بالبصر من الألوان والأشكال والمقادير والحركات وما يتصل بها كالحسن والقبح والضحك والبكاء، هذه كلها متعلق بالبصر، أو بالسمع من الأصوات الضعيفة والقوية والتي بين بَين، أو بالذوق من الطعوم، أو بالشمّ من الروائح، أو باللمس من الحرارة والبرودة ونحوها. هذا ما يتعلق بالحسّ. يعني ما كان مدركًا بإحدى الحواس الخمس. والعقلية المشار إليها بقوله: (وَعَقْلِيٌّ) كالكيفيات النفسانية من الذكاء والتيقظ والمعرفة والعلم والقدرة والكرم والسخاء والحلم والغضب وما جرى مجراها من الغرائز والأخلاق. هذه لا تدرك بالبصر ولا بالسمع ولا بالذوق ولا بغيرها، حينئذٍ إذا انتفى إدراكها بالحواس الخمس حينئذٍ صار إدراكها بالعقل. والإضافية التي تقابل الحقيقة كإزالة الحجاب في تشبيه الحجة بالشمس، يعني بأن يكون معنًى متعلقًا بشيئين هذا المراد بالإضافية، لأن الإضافة بالنسبة كما يقال الابتداء حقيقي وابتداء نسبي. إذًا النسبي هنا باعتبار شيء آخر فيكون بين أمرين، بأن يكون معنى متعلق بشيئين كإزالة الحجاب في تشبيه الحجة بالشمس، لو شبه الحجة بالشمس ما وجه الشبه؟ إزالة الحجاب. هل إزالة الحجاب موجودة في الشمس فقط دون الحجة؟ أو في الحجة دون الشمس؟ الجواب: لا، وإنما هي متعلقة بالطرفين، هذا يسمى ماذا؟ إضافية. فإنها ليست هيئة متقررةً في ذات الحجة ولا في ذات [الحجاب] (¬1) إزالة الحجاب. نقول: هذا وصف إضافي. يعني باعتبار النوعين لا باعتبار وجوده في شيء دون آخر. ثم ذكر تقسيمًا آخر لوجه الشبه، فقال: ........... وَذَا ... وَاحِدًا أوْ فِي حُكْمِهِ أَوْ لاَ كَذَا ¬

_ (¬1) سبق.

(وَذَا) أي وجه الشبه. إما واحدًا أو في حكمه، والمراد في قوله: ... (وَاحِدًا) ما يُعَدُّ في متعارف اللغة أمرًا واحدًا، يعني غير مركب، شيء واحد، سواء كان حقيقةً لا جزء له كمفهوم الجوهر، إن صح، أو لها جزء، لكن اعتبر أجزاؤها منضمًا بعضها إلى بعض ووضع بإزاء مجموعها لفظ مفرد، إذًا المراد بالواحد هنا: ما كان لفظًا مفردًا، سواء كان مدلوله شيئًا واحدًا أو كان شيئًا مركبًا لكنه بانضمامه بعضه إلى بعض صار شيئًا واحدًا. وهذا الذي عناه بقوله: (أوْ فِي حُكْمِهِ) أمرًا واحدًا، يعني شيء واحد لا يتجزأ، أو يكون متجزئًا لكنه لما انضم بعضه إلى بعض صار شيئًا واحدًا، ولذلك قال: (أوْ فِي حُكْمِهِ) يعني في حكم الواحد. ووضع بإزاء مجموعها لفظ مفرد فإنها بهذا الاعتبار تُعَدُّ أمرًا واحدًا كمفهوم الإنسان، الإِنسان ما مفهومه؟ مركب من شيئين وهو كونه حيوانًا ناطقًا، الحيوانية شيء، والناطقية شيء آخر. إذًا رُكِّبَ منهما وصار شيئًا واحدًا، صار هو مدلول الإنسان. لا ينفك الحيوان عن الناطق كما أنه لا ينفك الناطق عن الحيوان. إذًا صار لفظ إنسان مفردًا ومدلوله شيء واحد. ثم هذا الشيء الواحد ليس باعتبار الأصل وإنما بعد الانضمام كمفهوم الإنسان، وهذا هو الذي عناه الناظم بقوله: (أوْ فِي حُكْمِهِ). إما واحدًا (أوْ فِي حُكْمِهِ)، أي في حكم الواحد نُزِّلَ مُنَزَّلَتَهُ لكونه من أمرين أو أمور متعددة، وكل واحد منهما حسيّ أو عقليّ، يعني الأول هذا الذي وجه الشبه يكون واحدًا (أوْ فِي حُكْمِهِ) إن اعتبرناهما اثنين كل واحد منهما إما حسيّ وإما عقليّ، وعرفنا المراد بالحسيّ وهو المدرك بإحدى الحواس الخمس، والمراد بالعقلي وهو ما يُدرك بغير الحواس الخمس. (أَوْ لاَ كَذَا)، (أَوْ لاَ) يكون (كَذَا) يعني كالأمر الواحد ولا في حكمه، ودخل تحت هذا النوع نوعان: - ما يسمى بالمركب. - وما يسمى بالمتعدِّي. إذًا (أَوْ) هذا للتنويع، عطف على قوله: (وَاحِدًا أوْ فِي حُكْمِهِ) أي لا يكون واحدًا ولا في حكم الواحد بأن يكون متعددًا أو مركبًا، فدخل تحت قوله: (أَوْ لاَ كَذَا) نوعان. حينئذٍ وجه الشبه: إما واحدًا، وإما مركبًا، وإما متعددًا. (أوْ فِي حُكْمِهِ) هذا لا يذكره كثير من البيانيين، إنما هو تصرف من الناظم لعله تبع أحدًا ما، (أَوْ) ثلاثة أنواع: إما واحدًا أمرًا واحدًا، وإما أن يكون متعددًا، وإما أن يكون مركبًا. والمركب لا شك أنه مأخوذ من متعدد. هذا مركب معناه أجزاء، والمتعدد لا شك أنه أجزاء، والفرق بينهما كما سيأتي. والمركب من متعددٍ: - إما تركيبيًا حقيقيًّا بأن يكون وجه الشبه حقيقةً ملتئمةً من أمور مختلفة. - أو تركيبًا اعتباريًّا بأن يكون هيئة انتزعها العقل من عدة أمور. إذًا المركب من متعددٍ إما أن يكون تركيبًا حقيقيًّا، وهذا متى؟ أن يكون وجه الشبه حقيقةً ملتئمة، يعني مأخوذة من عدة أمور، أو يكون اعتباريًّا بأن يكون هذه الصورة لا وجود لها في الخارج وإنما انتزعها العقل من عدة أشياء، وبالمثال يتضح المقام.

والمتعدد هذا المقابل للمركب بأن ينظر - يعني الناظر - إلى عدة أمور ويقصد اشتراك الطرفين في كل واحد منها، أي يكون كل منها وجهًا للشبه، يعني يُشَبِّهُ شيئًا بشيء في عدة أمور، ووجه الشبه يكون متعددًا، زَيْدٌ كَعَمْرٍو في كونه عالمًا أديبًا حييًّا هذه ثلاث صفات، شَبَّهْتَ زيد بعمرو في ماذا؟ في ثلاثة أشياء، وجه الشبه نقول: هنا متعدد. كل واحد من هذه الأمور هو وجه شبه، أليس كذلك؟ لأنك أردت ماذا؟ أردت اشتراكهما في صفة العلم، وفي صفة الأدب، والحياء. نقول: هذه الثلاثة. كلها مرادة، وكل واحد منها وجه شبه. هذا يُسمى ماذا؟ يسمى متعددًا، أما المركب فيخالف هذا. إذًا المتعدد بأن ينظر الناظر إلى عدة أمور عدة أشياء ويقصد اشتراك الطرفين في كل واحد منها، أي يكون كل منها وجهًا للشبه، ولهذا يعني بهذا التعبير فارق المركب، فإنه لم يقصد فيه اشتراك الطرفين في كل من تلك الأمور بل في الهيئة المنتزعة أو في الملتئمة منها، بمعنى أن المركب مركب من عدة أشياء، ولكن لم يلاحظ فيه كل فرد على جهة الانفراد، وإنما هذه الأمور المتعددة لها هيئة انتزع من هذه الأمور المتعددة هيئة صار هو وجه الشبه، حينئذٍ الفرق بين المتعدد المركب أن كلاً منهما مركب من أجزاء، إلا أن المتعدد كل جزء من هذه الأجزاء هو وجه شبه بعينه، وأما المركب فلا، ليس كل جزء من هذه الأمور المتعددة هو وجه شبه، بل الهيئة العامة التي أخذها الناظر أو المتكلم الْمُشَبَّه أخذها من هذه الأمور المتعددة. وهذه الأقسام الثلاثة: إما حسي، وإما عقلي. أمر واحد، متعدد، مركب. الأمر الواحد: إما حسي وإما عقلي. والمركب: إما حسي وإما عقلي. والمتعدد: إما حسي وإما عقلي. فهذه ستة أقسام، ويزيد الثالث الذي هو المتعدد بالاختلاف أي بعضه حسيّ وبعضه عقلي. حينئذٍ صارت القسمة سبعة، يعني المتعدد يكون كل من الطرفين حِسِّيَّيْنِ، ويكون كل من الطرفين عقليين، وقد يكونا مختلفين الأول حسيّ والثاني عقليّ أو بالعكس. والمراد بالحسيّ من وجه الشبه هنا ما يكون طرفاه حِسِّيَّيْنِ لا غير، يعني يكون الْمُشَبَّه حِسِّيًّا، ويكون الْمُشَبَّه به حِسِّيًّا، فلا يجوز أن يكون كلاهما أو أحدهما عقليًّا - انتبه هنا - اصطلاح خاص في وجه الشبه.

إذا قيل: حسيّ: المراد به أن الْمُشَبَّه والْمُشَبَّه به كلاهما حسيان. فإن كانا عقليين أو أحدهما عقليّ فليس بحسيّ، فليس كل ما رأيت الْمُشَبَّه به فقط حسيًّا فهو حسيّ لا بد أن ينظر في الْمُشَبَّه هل هو حسيّ مثله أم لا؟ فإن اتفقا في أن كلاً منهما حسيّ فحينئذٍ فهو حسيّ، فإن اختلفا فحينئذٍ لا يكون حسِّيًّا بل يكون عقليًّا. فلا يجوز أن يكون كلاهما أو أحدهما عقليًّا لامتناع أن يُدرك بالحسّ من غير الحسّ شيء. والمراد بالعقلي ما هو أعمّ من الحسّي أن يجوز أن يكون طرفاه حسيين أو عقليين أو أحدهما حسيًّا والآخر عقليًّا. الواحد الحسيّ مثاله يعني من وجه الشبه. قالوا: كتشبيه الخد بالورد. رجعنا [ها ها] كتشبيه الخد بالورد هذا حسيّ لأن الخد حسيّ والورد حسيّ ووجه الشبه ما هو؟ في الحمرة، والحمرة هذه حسية وصف لأنها مدرك بالبصر، الأحمر تدركه بماذا بالعقل أو البصر؟ [هاه يا سلطان] بالبصر، إذًا هو حسيّ هذا واحد، وهو شيء واحد أو متعدد؟ الحمرة يعني اللون الأحمر؟ هو شيء واحد. إذًا الواحد الحسيّ من وجه الشبه كتشبيه الخد بالورد، فإن وجه الشبه الجامع بين الْمُشَبَّه والْمُشَبَّه به هو حمرة اللون وهو شيء واحد. إذًا كل ما شبه شيء بشيء في اللون فهو حسيّ، ويكون ماذا؟ إذا كان اللون واحدًا فيكون شيئًا واحدًا. والواحد العقلي من وجه الشبه كتشبيه الشخص الشجاع بالسبع زَيْدٌ كَالأَسَدِ في ماذا؟ في الشجاعة. الشجَاعة هذا شيء عقليّ متعدد أو أمر واحد؟ أمر واحد، شيء واحد. إذًا الواحد العقلي من وجه الشبه كتشبيه الشخص الشجاع بالسبع، ووجه الشبه حينئذٍ بينهما الشجاعة، أو تشبيه العلم بالنور في الاهتداء الْعِلْمُ كَالنُّورِ نقول: هذا تشبيه عقليّ. لماذا؟ لكون وجه الشبه المراد به الاهتداء وهو شيء واحد. إذًا الواحد الحسيّ كتشبيه الخد بالورد في الحمرة، والواحد العقلي من وجه الشبه - الكلام في وجه الشبه الآن - الواحد العقلي كالعلم بالنور في الاهتداء. ومثال المركب الحسيّ والمركب الحسيّ عرفنا أنه من متعددٍ، وليس كل واحد من هذه المتعدد مرادٌ لذاته، بل المراد هيئة منتزعة من الأمور، يعني هذه أشياء متعددة شكلت هيئة شبهت الشيء بالشيء في هذه الهيئة لا في كل فرد من أفرادها، مثاله قول الشاعر: وقد لاح بالفجر، بعض الروايات بالصباح. وقد لاح بالفجر الثُّرَيَّا [كما ترى] (¬1) ... كعنقود مُلاَّحِيَّة حين نورا الثُّرَيَّا معروف هذا اسم لجملة من النجوم مجتمعة، يعني لها اجتماع بعضها قريب من بعض. كعنقود، الكاف أداة التشبيه، وعنقود مشبه به والثُّرَيَّا مشبه، إذًا شبه الثُّرَيَّا بعنقود، عنقود من ماذا؟ عنقود مُلاَّحِيَّة. قالوا: عنب أبيض في حبه طول. نَوَّرَا الذي هو العنقود، فالوجه هنا، ما الوجه؟ الهيئة الحاصلة من تقارن الصور البيض المستديرات الصغار المقادير في رأي العين، يعني تعرف عنقود العنب حينئذٍ إذا كان بجوار بعضه البعض وهو أبيض وكذلك الثُّرَيَّا بعضها قريب من بعض، حينئذٍ شبه الثُّرَيَّا باجتماعها وتلاصقها وقربها والنور الحاصل منها بعنقود مُلاَّحِيَّة، يعني عنب أبيض قريب بعضه من بعض. ¬

_ (¬1) وقال: على ما ترى. وروي: لمن رأى.

هل لكل عنبة من هذه الأفراد هي مراده بذاتها أو المجموع؟ المجموع. إذًا شبه هيئة بهيئة، كأنه قال: كهيئة الثُّرَيَّا في الاجتماع والنور والاستضاءة كهيئة عنقود مُلاَّحِيَّة كأنها عنقود من عنب، عرفتموه هذا مثله. إذًا الوجه هنا الهيئة الحاصلة من تقارن الصور البيض المستديرات الصغار المقادير في رأي العين، فهنا ماذا صنع؟ قالوا: نظر إلى عدة أشياء وقصد إلى الهيئة الحاصلة منها، هذا المركب الحسيّ لأن الثُّرَيَّا ونورها يُدرك بالحسّ، وعنقود الْمُلاَّحِيَّة يُدرك بالحسّ بالبصر. إذًا مركب حسيّ. المركب العقلي كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5]. شَبَّه ماذا؟ الذين يحملون التوراة بالحمار، بجامع ماذا؟ قالوا: الوجه هنا حرمان الانتفاع، حمار يحمل أسفارًا فلم ينتفع بها، وهؤلاء الحمير البشرية حَمِلُوا التوراة فلم ينتفعوا بها، إذًا شبه هذا بذاك في ماذا؟ بجامع الحرمان، كل منهما محروم مما حمله، الوجه حرمان الانتفاع بأبلغ نافعٍ الذي هو التوراة مع تحمل التعب في اصطحابه وهو أمر عقليّ مأخوذ من أمور متعددة، هذا الأمر العقلي مأخوذ من أشياء متعددة، وهي صورة، يعني ليس كل واحد منها مقصودًا بذاته، بل المراد به الهيئة، لأنه رُوعِيَ فيه من جهة الحمار فعل مخصوص وهو الحمل، ومحمول مخصوص وهو الأسفار المشتملة على العلوم، إذًا حمار وشيء يحمله إذًا عندنا حمل، والحمل هذا ليس مطلق حمل وإنما المراد به الأسفار، والأسفار المراد بها كتب العلم التي فيها علم النافع، وهو الأسفار المشتملة على العلوم، وكون الحمار جاهلاً بما فيها، هذا أمر تزيده حمار وهو كاسمه جاهل ويحمل شيئًا مخصوصًا، ثُمَّ هذا الشيء المخصوص ليس كل شيء، وإنما شيء ينتفع به، وكذلك رُوعِيَ من جهة الْمُشَبَّه الذين يحملون التوراة فعل مخصوص وهو الحمل للتوراة لأنها بأيديهم، ومحمول مخصوص وهو التوراة المشتملة على العلوم، وكون اليهود جاهلين بما فيها حقيقةً أو حكمًا لعدم عملهم بمقتضاها. إذًا الصورة التي حصلت في التشبيه هنا مركب عقليّ، مركب من ماذا؟ من كونه الْمُشَبَّه به حمار، وثَمَّ فعل وهو حمل، والمحمول ثُمَّ عدم الانتفاع، هذه أربعة، أشياء ليس كل واحد منها مقصودًا لذاته، فليس الحمار هو المقصود لذاته فقط، وإنما بكونه حاملاً، وليست الأسفار مقصودة لذاتها بل المراد بها أنها شيء يُنتفع به، شُبِّهَ من يحمل التوراة ولم يعمل بما فيها بالحمار. إذًا هذا يسمى ماذا؟ مركبًا عقليًّا. ومثال المتعدد الحسيّ تشبيه فاكهة بأخرى في اللون والطعم والرائحة، في لونها وهو مقصود لذاته، وطعمها وهو مقصود لذاته، ورائحتها وهو مقصود لذاته. إذًا كل واحد من هذه الأشياء مقصودة لذاتها، لم ننظر إلى الهيئة المجتمعة ليس عندنا هنا هيئة مجتمعة، وإنما كل واحد من هذه الأشياء مقصودًا لذاتها، والعقليّ تشبيه رجل بآخر في العلم والحياء والحلم، هذه كلها مدركة بالعقل. إذًا متعدد الحسيّ كتشبيه فاكهة بأخرى فيما ذُكِر، والمتعدد العقلي تشبيه زيد بعمرو في العلم والحياء والأخلاق، هذه كلها مدركة بالعقل.

ومثال المتعدد المختلف: حسن الطلعة وكمال الشرف بتشبيه رجلٍ بالشمس، زيدٌ كالشمس، في ماذا؟ في حسن الطلعة وكمال الشرف وبالإضاءة مثلاً، حينئذٍ نقول هذه ثلاثة أشياء مع الشمس. إذًا قوله: ... (وَاحِدًا أوْ فْي حُكْمِهِ أَوْ لاَ كَذَا) شمل أنواع الشبه أوجه الشبه الثلاثة: - إما أن يكون أمرًا واحدًا وهو إما حسي أو عقليّ. - وإما أن يكون متعددًا وهو حسي أو عقليّ. - وإما أن يكون مركبًا وهو حسي أو عقليّ. وهذه ستة أنواع ويزيد المتعدد بكونه قد يختلف حينئذٍ صارت سبعة أنواع. إذًا (وَذَا ** وَاحِدًا أوْ فْي حُكْمِهِ) هذا المراد به شيءٌ واحد الذي هو الواحد، (أَوْ لاَ كَذَا) أو لا يكون مثل ذا المشار إليه ما هو؟ الواحد وما في حكمه، يعني أو (ذَا)، (أَوْ لا)، (أَوْ لا) يكون (كَذَا) أي مثل (ذَا) المذكور، فهو عطفٌ عليه، فالحاصل أن وجه الشبه إما واحدٌ أو مركبٌ أو متعدد، وهذه على القسمة التي ذكرناها سابقًا. ثم قال رحمه الله تعالى: وَالْكَافُ أَوْ كَأَنَّ أَوْ كَمِثْلِ ... أدَاتُهُ وَقَدْ بِذِكْرِ الْفِعْلِ هذا المبحث الرابع أو الثالث؟ طرفان الْمُشَبَّه والْمُشَبَّه به هذان اثنان، الرابع إذًا، وأما أداته أي: أداة التشبيه، قلنا: لا بد من أداة تشبيه مشاركة أمرٍ لآخر في معنىً ليس مطلقًا، دلالة مشاركة أمرٍ لآخر، دلالة تكون من المتكلِّم إلى المخاطَب، طيب بأي شيءٍ يكون؟ بأداةٍ. ولذلك أما (أدَاتُهُ) فهي الكاف أي مسماها الكاف، ليس الكاف حرف كاف، إنما مسمى الكاف، وهي داخلة على قول كالأسد: زيدٌ كالأسد، الكاف هنا مسمى الكاف كا هو المراد (الْكَافُ) أي مسماها، أطلق الناظم هنا قال: (الْكَافُ). ومعلومٌ أن الكاف تأتي حرفًا وتأتي اسمًا واستعمل اسمًا كما قال ابن مالك، حينئذًٍ شمل اللفظ النوعين (وَالْكَافُ) سواء كان اسمًا أو حرفًا، وعليه زيدٌ كالأسد فيه وجهان من الإعراب صحيح؟ الوجه الأول؟ البلاغة ثمرة النحو، فمن لا نحو عنده لا يُثْمِرُ. [ها ها] نعم: كالأسد فيه وجهان مبتدأ أي تكون هي؟ هي الخبر. إذًا الكاف خبر هكذا، تقول: زيدٌ مبتدأٌ، كالأسد الكاف خبرٌ المبتدأ مرفوع بالمبتدأ، ثم الكاف مضاف والأسد مضافٌ إليه، هذا جيد. النوع الثاني واضح، وهو أن يكون كالأسد جارٌ مجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ. إذًا (الْكَافُ) أي مسماها حرفًا كانت أو اسمًا، (أَوْ كَأَنَّ)، (أَوْ) للتنويع، (كَأَنَّ) أي وكأن. قال الزجاج في كأن: هي للتشبيه ليست مطلقًا، بل إذا كان الخبر جامدًا. يعني فصَّل الزجاج في كأن هل هي للتشبيه أم لا؟ فقال: إذا كان الخبر جامدًا فهي للتشبيه، وإن كان الخبر مشتقًا فحينئذٍ هي للشك لا تكون للتشبيه.

إذًا (أَوْ كَأَنَّ) على مذهب الزجاج متى؟ إذا كان الخبر جامدًا، نحو كأن زيدًا أسدٌ، في هذا التركيب كأن للتشبيه، لماذا؟ لكون الخبر وهو أسدٌ جامدًا، يعني يدل على ذات ليس مشتقًا، كأن زيدٌ أسدٌ كأن هنا للتشبيه، وللشك إذا كان مشتقًا نحو كأنك قائمٌ، كأنك قائمٌ ليست للتشبيه عند الزجاج وإنما هي للشك. إذًا ثَمَّ فرقٌ، وقيل هي للتشبيه مطلقًا سواء كان الخبر جامدًا أو مشتقًا، وهو مذهب الجمهور، أكثر البيانين على أن (كَأَنَّ) للتشبيه مطلقًا سواء كان الخبر جامدًا أو كان الخبر مشتقًا، وظاهر كلام الناظم هنا الإطلاق لأنه لم يقيدها. قال: (أَوْ كَأَنَّ). فأطلق حينئذٍ يحمل على ما إذا كان الخبر جامدًا أو مشتقًا. (أَوْ كَمِثْلِ) أي ومثل، وَمثل مثل شبه وما في معناهما ولفظة نحو وما يؤدي معناها نحو قولك زيد مثل الأسد، كلمة مثل هذه تفيد التشبيه زيد مثل الأسد، زيد شبه الأسد، زيد نحو الأسد، كل هذا أداة تشبيه. ولذلك قال: (أَوْ كَمِثْلِ). لم يقل أو مثل قال: (أَوْ كَمِثْلِ) يعني المثل ومثل المثل، كنحو وشبه ونحو ذلك، واضح؟ ولذلك أدخل الكاف على مثل، يعني ليست مثل فحسب، وإنما هي وما كان بمعناها، زيد مثل الأسد. إذًا هذه ثلاث أدوات: الكاف، وكأن، ومثل وما كان نحو مثلٍ. والأصل في الكاف ونحوها مما يدخل على المفرد كلفظ: نحو، ومثل، وشبهه. أن تدخل على الْمُشَبَّه به لفظًا - هذا مما يتعلق بالأداة - أن تدخل الكاف وما كان داخلاً على مفردٍ أن تدخل على الْمُشَبَّه به لفظًا أو تقديرًا، زيدٌ كالأسد، أين دخلت الكاف وهي أداة تشبيه؟ على الْمُشَبَّه أو على الْمُشَبَّه به؟ على الْمُشَبَّه به، هذا هو الغالب والأصل فيها، هذا هو الأصل فيه أن تدخل على الْمُشَبَّه به لفظًا كالمثال المذكور زيدٌ كالأسد، أو تقديرًا: زيدٌ أسدٌ، على المثال السابق زيدٌ أسدٌ، وعلى الصحيح أن هذا استعارة أو تشبيه؟ قلنا: ثَمَّ ما هو مختلفٌ فيه، والصحيح أنه تشبيهٌ اصطلاحي وليس باستعارة. ومثله أي المحذوف وهو المقدر قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [البقرة: 19] التقدير في الآية أو كمثل ذَوِي صَيِّبٍ، فالمثل الْمُشَبَّه به قد ولي الكاف لأن المقدر في حكم الملفوظ {أَوْ كَصَيِّبٍ} أو كمثل صيبٍ يعني ذوي أصحاب صيبٍ، فدخلت الكاف هنا على محذوف، والذي هو مثل حينئذٍ حُذِفَ.

وقد يليها غير الْمُشَبَّه به لكنه ليس هو المطرد، المطرد أن يلي الكاف الْمُشَبَّه به، وقد لا يليها كقوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} [الكهف: 45] مثل الحياة الدنيا كماء، هل الْمُشَبَّه به الماء؟ لا، ليس الْمُشَبَّه به الماء. إذًا دخلت على غير الْمُشَبَّه به، إذ ليس الماد تشبيه حال الدنيا بالماء ولا بغيره، يعني ولا بمفردٍ آخر يحتمل تقديره، بل المراد تشبيه حالها في نظرتها وبهجتها وما يعقبها من الهلاك والفناء بحال النبات الحاصل من الماء، يكون أخضرًا ناضرًا شديد الخضرة ثم ييبس فَتُطَيِّرَهُ الرياح كأن لم تكن، إذًا هيئة منتزعة بهيئةٍ منتزعة حينئذٍ {كَمَاء} ليس الماء الْمُشَبَّه به، وليس ثَمَّ مفرد آخر يمكن تقديره في المحل، وإنما المراد به تشبيه الدنيا في هيئتها وحالها وما تؤول إليه بالنبات الذي يكون بالماء، ثم ينبت، ثم يصفر، ثُمَّ ثُمَّ .. إلى آخره، فشبه حالةٍ بحالة. فـ (الْكَافُ أَوْ كَأَنَّ أَوْ كَمِثْلِ ** أدَاتُهُ) كما قال الناظم هنا. (وَالْكَافُ) (أدَاتُهُ) كاف مبتدأ و (أدَاتُهُ) خبر، ويمكن العكس، (أدَاتُهُ) مبتدأ (وَالْكَافُ) خبر، إذا جعلنا الكاف مبتدأ حينئذٍ والكاف وما عطف عليه أداته، من أجل أن يصح المعنى، لأن (أدَاتُهُ) ليس الكاف فحسب وإنما ما عُطِفَ عليه داخلٌ فيها، الكاف وما عطف عليه خبرٌ المبتدأ، فالكاف أداته أي أداة التشبيه أي آلته التي يُتَوَصَّلُ بها حرفًا كانت أو اسمًا أو فعلاً، ولذلك عبر بالأداة الشاملة للأنواع الثلاثة، الفعل ليس في الكاف، وإنما المراد به قد يكون أداة التشبيه اسمًا أو فعلاً أو حرفًا. ولذلك قال هنا: (وَقَدْ بِذِكْرِ الْفِعْلِ)، (وَقَدْ بِذِكْرِ الْفِعْلِ) يعني قد يكون أو يقع التشبيه بالفعل، وقد يكون التشبيه بذكر الفعل، يعني بذكر فعلٍ ينطق به يُنْبِئُ هذا الفعل عن التشبيه، فيستغنى به عن الأداة. (وَقَدْ بِذِكْرِ الْفِعْلِ) قد للتقليل هنا، يعني وقد يكون التشبيه لا بالأداة وإنما بذكر فعل يُستغنى بذكر الفعل عن الأداة، لكنه تختلف مادته، يعني مادة الفعل بحسب قرب الشبه وبعده، فإن كان الشبه قريبًا جيء بـ (علمت)، وإن كان الشبه بعيدًا جيء بـ (حَسِبْتُ)، فـ (علمت) للشبه القريب، و (حَسِبْتُ) للشبه البعيد، فيأتي في التشبيه القريب بنحو علمت زيدًا أسدًا. لو قال: علمت زيدًا أسدًا في معنى التشبيه أو لا؟ علمت زيدًا أسدًا؟ لا يمكن أن يكون المراد علمت زيدًا أسدًا يعني حيوان مفترس؟ يمكن؟ لا يمكن. إذا فيه تشبيه قطعًا، إذا امتنع أن يُحْمَل زيدٌ على أنه الحيوان المفترس الهيئة المخصوصة الجثة إذًا لا بد من وقوع التشبيه، أين أداة التشبيه؟ ليس عندنا أداة، قالوا: الفعل هنا أغنى عن ذكر أداة التشبيه، ثم هذا التشبيه قريب، ولذلك استعمل في عَلِم الدال على اليقين، علمتُ زيدًا أسدًا الدال على التحقيق، وفي البعيد التشبيه البعيد حَسِبْتُ زيدًا أسدًا.

يعني حَسِبَ تدل على الظن، الدالة على الظن وعدم التحقق، يعني حَسِبْتُ دال على الظن وعدم التحقق، هكذا قال في ((التلخيص)) يعني ذكره صاحب ((التلخيص)) القزويني: أن الفعل قد يستغنى به عن الأداة. فليس عندنا أداة. واعْتُرِضَ عليه بأن في مثل كون هذه الأفعال مُنْبِئَةً عن التشبيه نوع خفاء، والأظهر أن الفعل يُنْبِئُ عن حال التشبيه في القرب والبعد وأن الأداة المحذوفة، نعم التشبيه قريب في علمت، والتشبيه بعيد في حسبتُ، لكن عندنا أداة محذوفة علمت زيدًا كالأسد، هذا أصل التركيب، وحُذِفَت الأداة، حَسِبْتُ زيدًا كالأسد، وحُذِفَت الأداة، فليس عندنا فعل ينوب مناب الأداة فيُسْتَغْنَى عنها، بل لا تشبيه إلا بأداة مطلقًا، وما ذكره صاحب ((التلخيص)) فيه نظر. إذًا اعْتُرِضَ بأن في مثل كون هذه الأفعال مُنْبِئَةً عن التشبيه نوع خفاء، والأظهر أن الفعل يُنْبِئُ عن حال التشبيه في للقرب والبعد، وأن الأداة محذوفة مقدرة لعدم استقامة المعنى بدونه، نحو: زيد أسد، لأن عَلِمْتُ مُنْبِئٌ عنه، إذًا الذي أَنْبَأَ وأشار إلى التشبيه هو أداة التشبيه، وهي مقدرة، وُجِدَتْ أولاً ثُمَّ حُذِفَت، وأما عَلِمَ فلا يدل على التشبيه البتة، وإنما يدل على قربه أو بعده. وَغَرَضٌ مِنْهُ عَلَى مُشَبَّهِ ... يَعُودُ أَوْ عَلَى مُشَبَّهٍ بِهِ هذا ما يتعلق بالغرض، لأي غرض تأتي بالتشبيه، لماذا تعدل إلى التشبيه؟ وأما (غَرَضٌ مِنْهُ) أي من التشبيه وهو ما يقصده المتكلِّم في إيراده من الغاية، ما هي غاية التشبيه؟ ما هو الهدف من التشبيه؟ هو المراد به الغرض، (غَرَضٌ مِنْهُ) وهو ما يقصده المتكلِّم في إيراده من الغاية، في الغالب أنه يعود على الْمُشَبَّه لأن الغرض إما أن .. ، عندنا طرفان مشبه ومشبه به بعض الأغراض تعود على الْمُشَبَّه، وهو الأغلب، وبعضٌ آخر يعود على الْمُشَبَّه به على قلة، فالأصل في عود الغرض إنما يكون للمشبه، لأنه هو الذي يراد به إلحاقه بالْمُشَبَّه به، لأن الْمُشَبَّه به هو وصفٌ ثابتٌ له لا إشكال فيه، وأما الْمُشَبَّه هو الذي فيه إلحاق. (عَلَى مُشَبَّهِ ** يَعُودُ)، (وَغَرَضٌ مِنْهُ) يعني من التشبيه، (يَعُودُ عَلَى مُشَبَّهٍ)، (عَلَى مُشَبَّهٍ) متعلق بقوله: (يَعُودُ) في الأغلب، وهو على وجوه مختلفة، يعني هذه الأغراض أحدها بيان إمكان وجوده، يعني نعدل إلى تشبيه ببيان إمكان وجود الْمُشَبَّه، بأن يكون أمرًا غريبًا يمكن أن يخالف فيه، ويُدَّعَى امتناعه، حينئذ يُسْتَشْهَدُ له بالتشبيه، يعني المراد هنا الكلام في الْمُشَبَّه، قد يكون شيئًا غريبًا، قد ينازع بعض الناس في وجوده، حينئذ يُلْحِقُهُ بماذا؟ بالمسلم به، هذا أمر مشكوك فيه، هل هو موجود أو لا؟ هل يمكن أن يوجد أو لا؟ يلحقه بماذا؟ بالْمُشَبَّه به، إذًا يعدل إلى التشبيه، كقول المتنبي: فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وأنت منهم ... فَإِنَّ الْمِسْك بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ

فإنه لما ادَّعَى أن الممدوح فاق الناس حتى صار أصلاً برأسه وجنسًا بنفسه، فإن تَفُقِ الأنام وأنت منهم يعني كونك فائق الأنام قد خرجت عنهم، كأنك لست بإنسان كأنك ملك، هل هذا ممكن أو لا؟ قد يتبادر الذهن أنه غير ممكن، وكان هذا في الظاهر كالممتنع احتد لهذه الدعوة وبين إمكانها بأن شبه هذه الحال بحال المسك، المسك ما أصله، أصله الدم، إذًا خرج المسك من الدم، إذًا أصله الدم، ثم هو ليس بدمٍ، إذًا أنت خرجت عن الناس وأصلك من الناس وأنت لست من الناس، كما أن المسك بعض دم الغزال، بحال المسك الذي هو من الدماء، ثُمَّ إنه لا يُعَدُّ من الدماء، هو من الدماء باعتبار الأصل، ثُمَّ هو الآن بحاله ووضعه ورائحته ولونه وجماله ليس من الدماء، إذًا أنت فقت الناس وأنت منهم في الأصل لكنك لست منهم، لما فيه من الأوصاف الشريفة التي لا توجد في الدم والتشريف فيه ضمني لا صريح. إذًا المراد هنا بالتشبيه بيان إمكان وجوده، بأن يكون أَمْرًا غَرِيبًا يمكن أن يخالف فيه. ثانيها: بيان حال [الْمُشَبَّه به] (¬1) الْمُشَبَّه - الكلام في الْمُشَبَّه - بيان حال الْمُشَبَّه بأنه على أي وصف من الأوصاف كما في تشبيه ثوب بآخر في السواد، إذا علم السامع لون الْمُشَبَّه به دون الْمُشَبَّه، حين يسأل عن ثوب ما، ما لونه؟ فتقول: هذا الثوب كذا، مثل ذاك الثوب في لونه. إذًا بان حاله وانكشف حاله. ثالثها: بيان قدر حال الْمُشَبَّه. الأول يتعلق بماذا؟ بحاله، الثاني: قدر حال الْمُشَبَّه في القوة والضعف والزيادة والنقصان كما في تشبيه الثوب الأسود بالغراب، في ماذا؟ في شدة السواد، هو أسود يعلم أنه أسود لكن ما قوته وضعفه؟ قال: كالغراب. إذًا في شدة سواده رابعها: تقرير حال الْمُشَبَّه في نفس السامع وتقوية شأنه، كما في تشبيه من لا يَحْصُلُ من سعيه أو يُحَصِّلُ من سعيه على طائل بمن يرقم على الماء الذي يسعى ويسعى ولا يحصل شيء، كالراقم على الماء كالذي يكتب على الماء. قالوا: هذا يُبَيِّن ماذا؟ يقرر حال الْمُشَبَّه في نفس السامع. خامسها وسادسها: قصد تشويه الْمُشَبَّه أو تقبيحه في عين السامع أو العكس، تزينه من أجل أن يرغب فيه، زيد كالأسد، زيد كالحمار. الأول للأول، والثاني للثاني. سابعها: قصد استظرافه كما في تشبيه فحم فيه جمر موقد ببحر من المسك موجه الذهب، ووجه ظرافته وإبرازه في صورة ممتنع عادة، فحم فيه جمر يَلْهَب. قالوا: شبه هذا بماذا؟ ببحر من مسك موجه الذهب، هذا فيه ظرافة فقط يعني من باب المزاح. هذا أكثر ما يُذْكَر في بيان الغرض في الْمُشَبَّه، يعني التشبيه في الْمُشَبَّه. (أَوْ عَلَى مُشَبَّهٍ بِهِ) أو يعود العرض في التشبيه على الْمُشَبَّه بِهِ، على قلة، والأول هو الأغلب والأكثر. ومرجعه أمران: يعني السبب أو الغرض أو الهدف أمران: ¬

_ (¬1) سبق.

إما لإيهام أنه أتم من الْمُشَبَّه في وجه الشبه. الذي يُسَمّى التشبيه المقلوب، بدلاً من أن تقول زيد كالبدر، البدر كزيد. إذًا الجمال في زيد أتم منه في البدر، إما لإيهام أنه أتم من الْمُشَبَّه في وجه الشبه، لأن الأصل في إلحاق الْمُشَبَّه بالْمُشَبَّه به إلحاق ناقص بكامل هذا الأصل، فإذا عَكَسْتَ جعلتَ الْمُشَبَّه به مشبهًا فحينئذ جاء الإيهام، وذلك في التشبيه المقلوب بأن يُجعل الناقص مشبهًا به قصدًا إذا ادَّعاء أنه أكمل، كقوله: وَبَدَا الصَّبَاحُ كَأنَّ غُرَّتَهُ ... وَجْهُ الْخَلِيفةِ حِينَ يُمْتَدَحُ عكس، بدا الصباح كأن غرته جعل للصباح غرة، كأن غرة الصباح وجه الخليفة، العكس هو الصحيح كأن وجه الخليفة هو الصباح، أو كغرة الصباح، قصد إيهام أن وجهه أتم من الصباح بالضوء والضياء، وإما لبيان الاهتمام بالْمُشَبَّه به كتشبيه الجائع وجهًا كالبدر في الإشراق والاستدارة بالرغيف، ويُسَمَّى إظهار المطلوب ولا يحصل إلا في مقام الطّمع في المطلوب. على كلٍّ الوجه الأول هو الذي يذكر غالبًا. إذًا الغرض من التشبيه: - إما أن يعود على الْمُشَبَّه وهذا هو الأصل وهذا هو الكثير الغالب، ومنها ما ذكرناه الأمور السبعة أو الثمان السابقة. - وقد بعود إلى الْمُشَبَّه به، وهذا أظهر ما يكون في التشبيه المقلوب. ثم قال: (فَبِاعْتِبَارِ كُلِّ رُكْنٍ أِقْسِم ** أَنْوَاعَهُ)، (فَبِاعْتِبَارِ كُلِّ رُكْنٍ) من أركان التشبيه الأربعة، كم؟ أربعة: مشبه، ومشبه به، وأداة التشبيه، ووجه الشبه. أقسام التشبيه باعتبار هذه الأقسام كلّ واحد منها له أقسام كثيرة، أجملها الناظم قال: (أِقْسِم) (فَبِاعْتِبَارِ كُلِّ رُكْنٍ أِقْسِم ** أَنْوَاعَهُ) يعني أنواع التشبيه، اقسم أنواع التشبيه، التقسيمات هنا لأنواع التشبيه، باعتبار ماذا؟ باعتبار كل ركن من أركانه الأربعة، فالفاء داخلة على قوله: (أِقْسِم) فـ (أِقْسِم) أنواعه باعتبار (كُلِّ رُكْنٍ) من أركانه الأربعة، أي الطرفين أعني الطرفين الوجه والأداة والغرض منه (أِقْسِم) أنواعه أي أنواع ذلك الركن، حينئذ له أقسام نشير إليها على جهة الإجمال وإلا تحتاج إلى دروس متعددة، فيقسم باعتبار طرفين إلى أربعة أقسام، باعتبار الْمُشَبَّه والْمُشَبَّه به ينقسم إلى أربعة أنواع، أربعة أقسام، لأنه إما تشبيه مفرد بمفرد، أو مركب بمركب، أو مفرد بمركب، أو مركب بمفرد. كم؟ أربعة. انتهينا.

إذا تقسيم مفرد بمفرد سواء كان المفرد مقيد أو غير مقيد، إذا قُيِّدَ المفرد بقيد أو بظرف أو بجار ومجرور هل يخرجه عن كونه مفردا؟ الجواب: لا. حينئذ يختلف التشبيه، المفرد الْمُقَيّد ليس كالمفرد غير المقيد، يعني من جهة كمال المعنى، لأنه إما تشبيه مفرد بمفرد، وهما أي التشبيه المفرد بالمفرد مقيدان كقولهم لمن لا يحصل من سعيه على طائل هو كالراقم على الماء، فالْمُشَبَّه الساعي مفرد وهو مقيد بأنه لا يَحْصُل أو يُحَصِّل من سعيه على شيء، إذا ساعي ليس مطلق الساعي ليس كل ساعي، وإنما ساعٍ معين وهو الذي يسعى ويسعى، لأن الساعي نوعان: ساعي يسعى ويحصل كل ما يريد، وساعي يسعى ولا يحصل شيء مما يريد. وبين بين وهذه قسمة، وإذًا فالْمُشَبَّه هو الساعي وهو مفرد مقيد بأن لا يَحْصُل أو يُحَصّل من سعيه على شيء، والْمُشَبَّه به الراقم مقيد بكون رقمه على ماذا؟ على الأرض أو على الماء؟ على الماء، إذًا كلّ منهما مقيد، الساعي مقيد بكونه لا يُحَصّل على شيء من سعيه، والراقم الذي يكتب كونه مقيدًا بكونه يكتب على الماء. إذًا هذا مفرد بمفرد، وكل منهما مقيد، لأن وجه الشبه التسوية بين الفعل وعدمه، وهو موقوف على اعتبارها بين القيدين، أو غير مقيدين كتشبيه الخد بالورد، الخد غير مقيد والورد غير مقيد، أو مختلفين يعني الأول مقيد والثاني غير مقيد، نحو ماذا؟ والشمس قول الشاعر: والشمس كالمرآة في كفِّ الأشل الشمس مشبه، والمرآة مشبه به، لكنه مقيد في كف الأشم، يعني تبرق لها بريق، لو وضعت المرآة في يد الأشل تهتز، الشمس مثلها ضوءها، تشبيه ... #50.37. إذًا الشمس كالمرآة في كف الأشل، الْمُشَبَّه به وهو المرآة مقيد بكونه في كف الأشل، بخلاف الْمُشَبَّه وهو الشمس، وعكسه أن يكون الْمُشَبَّه غير أن يكون الْمُشَبَّه مقيدًا والْمُشَبَّه به غير مقيد، لو عكسنا المثال السابق: المرآة في كف الأشل كالشمس، صار مشبه مقيد والْمُشَبَّه به غير مقيد، هذا مفرد بمفرد، إما أن يكون مقيدين، أو غير مقيدين، أو مختلفين. وتشبيه المركب بالمركب بأن يكون كل من الطرفين كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى صارت شيئًا واحدًا، وهذا كالمثال السابق الثُّريا والعنقود والجمع بينهما الهيئة المنتزعة من أشياء متعددة، وإما تشبيه مركب بمفرد كقوله: تَريا نهارًا مُشَمَّسًا قد شابه ... زَهْرُ الرُّبَا فكأنما هو مُقْمِرُ فالْمُشَبَّه هنا وهو نهار مشمس شابه أي خالطه الزهر، وهذا مركب، والْمُشَبَّه به وهو مقمر مفرد، إذا هنا مركب بمفرد. الأول: قال: هو مُقْمِر نهار مُشَمَّسٌ قد شابه زهر الربا هذا مشبه، والْمُشَبَّه به فكأنما هو مقمر. والرابع تشبيه مفرد بمركب عكس السابق، كما مرّ في تشبيه الشقيق وهو مفرد بأعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد، وهو مركب من عدة أمور. إذًا أربعة أقسام للطرفين من أراد التوسع يرجع إلى كتب أُخَر.

وينقسم التشبيه باعتبار وجه الشبه إلى تمثيل، وهو ما كان وجه الشبه فيه وصفًا منتزعًا من متعدّد كما يأتي في مجاز المركب: إن أراك تقدم رجلاً وتأخر أخرى. هنا وجه الشبه تمثيلي وهو منتزه من عدة أمور، ويأتي إن شاء الله، [فالْمُشَبَّه به] فالْمُشَبَّه هيئة منتزعة من أمور متعددة والْمُشَبَّه به كذلك، وإلى غير تمثيلٍ وهو ما ليس وجهه كذلك، نحو: الصالح في هذا الزمان كالكبريت الأحمر. وإلى مجملٍ ومفصل، والمجمل هو ما يُذكر فيه وجه الشبه. إذا حذف زيدٌ كالأسد هذا يسمى مجملاً، والمفصل هو ما ذكر فيه وجه الشبه في الشجاعة، زيدٌ كالأسد في الشجاعة هذا يسمى مفصلاً، إذا حُذف فهو مجمل. وباعتبار الأداة ينقسم التشبيه إلى مؤكدٍ وهو ما حذف أداته، ومرسلٌ وهو ما ذكرت أداته، والأقسام كثيرة جدًا ذكرها أرباب البيان يُرجع إليها. إذًا الخلاصة هنا نقول: (فَبِاعْتِبَارِ كُلِّ رُكْنٍ أِقْسِم ** أَنْوَاعَهُ) يعني أنواع التشبيه. فالضمير هنا يعود إلى التشبيه، هذا ما يتعلق بالمقصد الأول وهو التشبيه. ثم انتقل إلى ما يتعلق بالمقصد الثاني من المقاصد الثلاث وهو المجاز، لما انتهى من ما يتعلق بالمقصد الأول وهو الأهم ولذلك أطال فيه انتقل إلى بيان المقصد الثاني وهو المجاز. فقال: (ثُمَّ). هذا للترتيب الذكري يعني بعد أن ذكرنا لك ما يتعلق بالمقصد الأول وهو التشبيه، انتقل إلى المقصد الثاني فهو المجاز. (المَجَازُ) أصله مَجْوَز على وزن مَفْعَل، بوزن مَفْعَل، ولِمَ قلبت الواو ألفًا مجاز؟

اكتفاءً بجزء العلة هذا أحسن ما ... اكتفاءً بجزء العلة، أو بالنظر إلى الناظرين قبل النقل وبعد النقل، قُلِبَتِ الواو ألفًا لتحركها في الأصل مَجْوَز وانفتاح ما قبلها في الحال بعد النقل، وهذا فيه تكلف، والأولى أن يقال اكتفاء بجزء العلة. وهو في الأصل مصدر نُقِلَ إلى الكلمة الجائزة أي المتعدية مكانها الأصلي، أو الكلمة الْمَجُوزِ بها، يعنى إما أن يكون اسم فاعل، وإما أن يكون اسم مفعول. إما كلمة جائزة يعني جازت وتعدت مكانها الأصلي، وإما كلمة مَجُوزٌ بها يعني تُعُدِّيَ بها مكانها الأصلي على أنهم جازوا بها مكانها الأصلي، هذا إذا جُعِلَ ماذا؟ اسم مفعول فهو مصدر ميمي بمعني الفاعل أو بمعنى المفعول، وأيهما أولى؟ الأولى أن يُجْعَل بمعنى اسم الفاعل، لماذا؟ لأن عدم التقدير أولى من التقدير، لأن إذا قلت: جائزة. إذا ليس عندنا تقدير، مَجُوز بها لا بد من التقدير، كلمة جائزة يعني متعدية مكانها الأصلي ليس عندنا تقدير، مَجُوزٌ بها عندنا تقدير، وعدم التقدير أولى من التقدير، إذا الأول الذي هو كونها بمعنى الفاعل أولى لعدم احتياجه إلى تقدير، وأعلم أن المقصود هنا في البحث الأصلي النظر الأصلي في علم البيان إنما هو المجاز، ولذلك الناظم لم يذكر الحقيقة، لكن لا يمكن أن يفهم المجاز إلا بذكر الحقيقة، وإنما ذَكَرَ المجاز لأنه هو الذي يتأتى به اختلاف الطرق دون الحقيقة إلا أنها لما كانت الأصل للمجاز، إِذِ الاستعمال في غير ما وضع له فرع الاستعمال في ما وضع له. الكلمة أو اللفظ إذا اسْتُعْمِلَ فيما وضع له في لسان العرب هذا أصل، وإذا استُعملت في غير ما وُضِعَ له هذا فرع، حينئذٍ لا يفهم الفرع إلا بفهم أصله، فلما كان اسْتِعْمَال اللفظ في غير ما وُضِعَ له فرعًا عن استعمال اللفظ فيما وُضِعَ له حينئذٍ تعين الكلام عن الحقيقة، ولذلك جرت العادة عند البيانين أن يبدأ البحث بالحقيقة أولاً، والحقيقة في الأصل فَعِيل بمعنى فَاعِل، من حَقَّ الشيء إذا ثَبَتَ، أو بمعنى مفعول لأن فَعِيلاً في اللغة يأتي بمعنى فاعل ويأتي بمعنى مفعول، مِنْ حَقَّقْتُه إذا ثَبَّتُهُ، نُقِلَت إلى الكلمة الثابتة أو المثبتة في مكانها الأصلي. إذًا الحقيقة فَعِيل بمعنى فاعل، إما بمعنى فاعل يعني الثابتة، أو بمعنى مفعول يعني الْمُثْبَتَة في مكانها، يحتمل هذا وذاك، لكن إذا كانت بمعنى الْمُثْبَتَة حينئذٍ تكون التاء هنا للوصفية في الأصل .. #58.13 وعُرْفًا الكلمة المستعملة في مَعْنًى وُضِعَتْ له باصطلاح التخاطب، يأتي شرحه بعد الصلاة إن شاء الله تعالى، والله أعلم. وصلَّى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

14

عناصر الدرس * الحقيقة والمجاز. * أنواع المجاز باعتبار الإفراد والتركيب. * أنواع المجاز باعتبار علاقته. * المجاز المرسل وأنواعه. * الاستعارة وأقسامها. * الكناية وأقسامها. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: وقفنا عند تعريف الحقيقة، وعرفنا أن تعريف الحقيقة إنما ينبني عليه فهم المجاز، المجاز هو ضد الحقيقة، حينئذٍ هو فرع والحقيقة أصل، ولا يمكن أن يُفهم الفرع إلا بفهم أصله، وعرفنا أنها في الأصل فَعِيل بمعنى فَاعَل من حَقَّ الشيء إذا ثَبَتَ، أو بمعنى مفعول فإن الكلمة ثابتة في مكانها الأصلي، أو كلمة مُثْبَتَةٌ في مكانها الأصلي، وأما في العرف في الاصطلاح عند البيانيين فالحقيقة هي الكلمة المستعملة في معنًى وضعت له في اصطلاح التخاطب، كلمة مستعملة في معنًى وضعت له في اصطلاح التخاطب، في اصطلاح هذا متعلق بقوله: وُضِعَت. وليس المراد به اسْتُعْمِلَت، يعني ليس متعلقًا بقوله: المستعملة. وإلا فسد المعنى، وإنما يكون متعلقًا به قوله: وُضِعَت. الكلمة عَبَّرَ بالكلمة هنا ولم يقل اللفظ المستعمل، وقد قال به بعضهم لأن المجاز كما يكون مفردًا كذلك يكون مركبًا، حينئذٍ الحقيقة كذلك تكون مفردةً وتكون مركبة. فالوصف بالحقيقة توصف به المفردات ويوصف به المركبات. وقولنا: الكلمة. حينئذٍ خرج المركب. إذًا المركب لا يكون حقيقةً، لم يقل اللفظ المستعمل مع شموله للمفرد والمركب، لأن اتصاف المركب بالحقيقة والمجاز إنما هو باعتبار مفرداته، فإذا كان وصف المركب بكونه حقيقةً وبكونه مجازًا باعتبار المفردات، إذًا يكون الأصل في وصف الحقيقة والمجاز هو المفرد وهو الكلمة. إذًا قال: الكلمة. لأنها هي أصل في المجاز المفرد والحقيقة المفردة، وهي أصل في المجاز المركب وكذلك في الحقيقة المركبة. إلا إذًا اتصاف المركب بالحقيقة والمجاز إنما هو باعتبار مفرداته التي تركب منها وهي الكلمات، لذلك قال: الكلمة المستعملة. لا باعتبار كونه مركبًا مع أنه يجوز أن يراد بالكلمة معناها اللغوي الشامل للمركب أيضًا، يعني الكلمة إذا أريد به المعنى الاصطلاحي خرج المركب، كيف أخرجنا المركب وهو موصوف كذلك بالحقيقة؟ نقول: وصفه بالحقيقة باعتبار مفرداته إذا رجعنا إلى المفرد، فنأخذ الكلمة جنسًا في الحدّ، أو يكون المراد بالكلمة معناها اللغوي، وهي: ما يصدق على الجمل أو الجملة المفيدة، على كلٍّ هذا أو ذاك [يوصف بحقيقة المجاز] (¬1) يوصف بالحقيقة الكلمة والمركب. الكلمة المستعملة خرج به الكلمة المهملة، خرج بالمستعملة المهملة حينئذٍ لا يوصف بكونه حقيقةً وكذلك ولا مجازًا لأن الوصف بكونه حقيقةً أو مجازًا إنما هو للمستعمل، وأما المهملة الذي لم تضعه العرب وهو متروك من أصله هذا لا يوصف لا بإعراب ولا بناء ولا حقيقة ولا مجاز ولا بترادف ولا تباين ولا غيره، كل ما يتعلق بأوصاف الكلمات المستعملة فهو منفي عن الكلمات المهلمة كـ ديز ورفعج مقلوب زيد ومقلوب جعفر، هذه ليست بكلمات مستعملة فلا يلحقها تلك الأوصاف. ¬

_ (¬1) سبق.

إذًا خرج بالمستعملة المهملة، والكلمة قبل الاستعمال فإنها لا توصف بحقيقة ولا مجاز، يعني عرفنا المهمل مثل ديس طيب، الكلمة قبل إدخالها في جملة زيد مثل لوحدها، أو أسد هل توصف بحقيقة أو مجاز؟ الجواب: لا، وإنما توصف بعد إدخالها في المركب كما مرّ معنا في الوصف بالإعراب والبناء، الكلمة الإعراب والبناء هو وصف للكلمات، ولذلك نقول: موضوع علم النحو الكلمات العربية من حيث الإعراب والبناء. الكلمات العربية متى؟ قبل إدخالها في جملة مفيدة أو بعدها؟ الكلمات العربية من حيث الإعراب والبناء مقيد، متى نقول: الكلمة معربة؟ إذا أدخلتها في جملة مفيدة فتقول: جَاءَ زَيْدٌ. جَاءَ زَيْدٌ، جَاءَ في قولك: جَاءَ زَيْدٌ. مبني وَزَيْدٌ في قولك: جَاءَ زَيْدٌ معرب، أما جَاءَ وحده قبل إدخاله في الجملة لا يوصف بإعراب ولا بناء، ليست معربة ولا مبنية كذلك زَيْدٌ قبل إدخالها في جملة مفيد كأن تكون فاعل أو غيره، حينئذٍ لا توصف بإعراب ولا بناء، كذلك الكلمة أسد فقط وحده لا يوصف بحقيقة ولا مجاز، حينئذٍ الكلمة المستعملة أخرجت الكلمة قبل الاستعمال فإنها لا توصف بحقيقة ولا مجاز، في معنًى وضعت له، أخرج الغلط نحو ماذا؟ خُذْ هَذَا الْقَوْسَ مشيرًا إلى كتاب، أخطأ خُذْ هَذَا الْقَوْسَ وأشار إلى كتاب، خُذْ هَذَا الْمَاء وأشار إلى المنديل حينئذٍ نقول: هذا غلط. هل استعملت الكلمة فيما وضعت له؟ الجواب: لا، هل هو مجاز؟ لا، لانتفاء العلاقة، يعني ليس بين الماء وبين المنديل علاقة، وليس بين القوس والكتاب علاقة، لا بد من علاقة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي. إذًا خرج بقوله: في معنًى وُضعت له الغلط نحو: خُذْ هَذَا الْفَرَسَ أو خُذْ هَذَا الْقَوْسَ مشيرًا إلى كتاب، وخرج المجاز لأن المجاز كلمة مستعملة في غير، ليس في معنى وضعت له، في معنى غير معناه الذي وُضِعَ له في لسان العرب، فخرج المجاز، خرج المجاز المستعمل فيما لم يوضع له في اصطلاح التخاطب ولا في غيره، كالأسد في الرجل الشجاع، رَأَيْتُ أَسَدًا يَرْمِي أسدًا نقول: هذا لفظ استعمل في غير ما وُضِعَ له في لسان العرب لماذا؟ لأن الأسد في أصل وضعه الحيوان المفترس الجثة المعروفة الهيئة المخصوصة، هذا هو الأسد، إذا اسْتُعْمِلَ لفظ الأسد في الرجل الشجاع نقول: ما وَضَعَتِ العرب الأسد للرجل الشجاع وإنما وضعته للحيوان المفترس، حينئذٍ إذا استعمل في الرجل الشجاع استعمل في معنى لم يوضع له في لسان العرب، حينئذٍ نسمي هذا مجازًا، فخرج المجاز في قوله: معنًى وضعت له. وخرج بقوله: في الاصطلاح تخاطب، اصطلاح أصله اصتلح باب افتعل كما مرَّ معنا، والاصطلاح في اللغة هو الاتفاق، يقال: اصطلح زيد وعمرو.

إذا اتفقا، والاصطلاح في الاصطلاح اتفاق طائفة مخصوصة على أمر معهود بينهم متى أطلق انصرف إليه، كاتفاق النحاة على أن الاسم المرفوع المذكور بعد فعله فاعل هذا اصطلاح، والضمة ضمة، والعام عند الأصوليين اللفظ المستغرق لجميع أفراده دفعةً واحدة مرادًا به الشمول يُسمى عامة، وأما هذه الألفاظ في معانيها اللغوية فليست خاصة بهذه المعاني المصطلح عليها، هذا يسمى اصطلاحًا، فكل طائفة سواء كان نحاةً صرفيين بيانيين فقهاء أصوليين أطباء مهندسين معماريين أيًّا كان نوعه إذا اتفقوا على مصطلح على لفظ وأرادوا به معنًى متى ما أُطْلِقَ هذا اللفظ انصرف إلى المعنى المعهود عندهم يسمى اصطلاحًا. قال: في اصطلاح التخاطب، خرج به نوع آخر من المجاز، قلنا: في معنًى وضعت له. خرج به المجاز، أي مجاز؟ مجَاز لم يوضع مستعمل فيما لم يوضع له في اصطلاح التخاطب ولا في غيره كالأسد، الأسد هذا المعنى اللغوي موضوع باعتبار أهل اللغة، اسْتُعْمِلَ في غير معناه، ثَمَّ ما يُسمى بالحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية والحقيقة العرفية، سواء كان عرفًا عامًا أو عرفًا خاصًا، إذا استعمل لفظ مما وُضِع في عُرْفِ الشرع في غير معناه حينئذٍ نقول: استعمل اللفظ في غير اصطلاح التخاطب، لأن الشرع مثلاً وضع لفظ الصلاة للعبادة المخصوصة، فإذا استعمل في غير ما وضع له في الشرع بغير هذا المعنى حينئذٍ صار مجازًا، لماذا؟ لكون اللفظ هنا استعمل لا في غير معناه اللغوي وإنما في غير المعنى الذي اصطلح له في الشرع ما يسمى باصطلاح التخاطب، وهذا نوع من المجاز لكنه مقابل للحقيقة بأنواعها الثلاثة، وهي الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية والحقيقة العرفية، خرج بقوله: في اصطلاح التخاطب. المجاز المستعمل فيما وُضع له في اصطلاح آخر. فإذا جاء في الشرع لفظ الصلاة مرادًا به الدعاء نقول: هذا مجازًا، لماذا؟ لأن الشرع قد اصطلح لنفسه أن يسمي لفظ الصلاة أو يجعل الصلاة عنوانًا على العبادة المخصوصة، والصيام على العبادة المخصوصة، فإذا استعملت هذه الألفاظ الصلاة والزكاة والحج في غير معانيها المرادة شرعًا في الشرع نقول: هذا مجاز. وإذا استعمل اللغوي الصلاة بمعنى الدعاء فهو حقيقة عندهم، وإذا استعمل اللغوي الصلاة بمعنى العبادة المخصوصة فهو مجاز لغوي عندهم. إذًا إذا استعمل اللفظ في غير ما جُعل اصطلاحًا له اصطلاح آخر حينئذٍ نقول: هذا مجاز. خرج المجاز المستعمل فيما وُضع له في اصطلاح آخر غير الذي يقع به التخاطب كالصلاة مثلاً إذا استعملها المخاطِب بعرف الشرع في الدعاء فإنها تكون مجازًا عندهم، يعني الآن العبرة بالشرع نفسه.

الشرع استعمل الصلاة بمعنى العبادة المخصوصة، إذا استعملها في غير العبادة المخصوصة حينئذٍ استعمل اللفظ في غير ما وُضع له عنده، والصلاة في اللغة إذا استعملها اللغوي بمعنى الدعاء فحينئذٍ هي حقيقة، وإذا استعملها في غير الدعاء يكون مجازًا، فإنها تكون مجازًا لاستعمالها في غير ما وضع له شرعًا وإن وضع له لغةً، والوضع المراد به هنا تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه من غير ضم قرينة إليه، وهو ما نعرفه دائمًا بأنه جعل اللفظ دليلاً على المعنى، والمراد به الوضع الشخصي، لأن الوضع نوعين: وضع نوعي، ووضع شخصي. وجعل اللفظ دليلاً على المعنى وتعيين اللفظ بإزاء المعنى هذا يُسمى وضعًا شخصيًّا، وأما النوعي فهو أشبه ما يكون بالقواعد العامة، كون الفاعل مرفوعًا من الذي وضع هذه القاعدة؟ العرب. إذًا هذا يسمى وضعًا نوعيًّا، له جزئياته باستقراء هذه الجزئيات وصلنا إلى هذه القاعدة، حينئذٍ نقول: العرب وضعت قاعدة إذا جئت بالفاعل حينئذٍ ارفعه، لأن كل فاعل مرفوع، من الذي وضع هذا؟ نقول: وضع نوعيّ لكنه يرجع إلى قاعدة كلية عامة.

قال الناظم: (ثُمَّ المَجَازُ فَافْهَمَي مُفْرَدًا أَوْ مُرَكَّبًا). (ثُمَّ المَجَازُ فَافْهَمَي) المجاز ينقسم إلى قسمين: مفرد، ومركب. وهما يختلفان، وإذا اختلفا فحينئذٍ لا يمكن جمعهما في تعريف واحد، وإنما نقسم ثم نعرِّف فنقول: هو قسمان: مفرد، ومركب. قال: (مُفْرَدًا) (فَافْهَمَي مُفْرَدًا). مفردًا يعني المجاز المفرد حقيقته هو الكلمة المستعملة في غير ما وُضعت له في اصطلاح التخاطب، عكس الحقيقة السابقة، لأن الحقيقة السابقة المراد بها المفردة على وجه يصح مع قرينة عدم إرادته، الكلمة عرفنا المراد بالكلمة، المستعملة خرج المهملة، وخرج بقوله: في غير ما وضعت له. الحقيقة؛ لأن الحقيقة مستعملة فيما وُضعت له. وما له معنى آخر باصطلاح آخر كالصلاة في العبادة، هذا خرج، والغلط خرج كذلك، لأنه على وجه لا يصح، وبقيد ثم في قوله السابق هنا ما هو التعريف؟ وهو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له. هذا القيد يُدخل المجاز المستعمل فيما وضع له في اصطلاح آخر كلفظ الصلاة إذا استعملها المخاطِب بعرف الشرع في الدعاء مجازًا، وهو داخل أو خارج؟ هذا داخل، لماذا؟ لأن قوله: في غير ما وُضعت له في اصطلاح التخاطب. إذًا العبرة هنا بماذا؟ بالتخاطب، فالنظر يكون باعتبار الشرع مثلاً إذا استعمل لفظ الصلاة في العبادة المخصوصة حقيقة أو مجاز؟ حقيقة لأنه وضع لفظ الصلاة للعبادة المخصوصة، إذا استعمل الشارع الصلاة في الدعاء وهو مجاز يُسمى مجازًا شرعيًّا هذا داخل أم خارج؟ هو مجاز، عَبَّرت عنه مجاز إذًا لا بد من إدخالها، لأننا قلنا ماذا؟ في غير ما وُضعت له في اصطلاح التخاطب، إذًا ما وضع له في اصطلاح التخاطب استعماله فيه حقيقة، استعمال ما وضع في اصطلاح التخاطب في غير ما وضع له هذا مجاز، يعني استعمال الصلاة في العبادة المخصوصة حقيقة باعتبار الشارع، وإذا استعمل الصلاة في الدعاء فهو مجاز. إذًا لا بد من إدخاله، وإدخاله يكون بقوله: في غير ما وُضعت له في اصطلاح التخاطب، كلفظ الصلاة إذا استعملها المخاطب بعرفه الشرع في الدعاء مجازًا، فإنه وإن كان مستعملاً فيما وُضِع له في الجملة لأنه من ما وضع له في لسان العرب فليس بمستعمل فيما وضع له في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب أعني الشرع. إذًا الغلط خرج بقوله: على وجه يصح. إذ المراد بقوله: على وجه يصح. أن يوافق ما نُقل عن العرب، لأن الوصف بالحقيقة والمجاز نوعان لنوع الكلام، الْكلام ينقسم إلى حقيقة ومجاز كما أنه ينقسم إلى خبر وإنشاء. إذًا ما يجعل في قواعد الخبر وهي أوصاف للكلام وما جُعل من قواعد الإنشاء وهي أوصاف للكلام، كذلك الشأن في الحقيقة والمجاز، فلا بد أن يكون كل واحد من هذه الأوصاف منقول عن العرب، فكما قسمنا أن هذا خبر، لماذا؟ لأن العرب نطقت به كذا، وهذا إنشاء لماذا؟ لأن العرب نطقت به كذا. إذًا نوع الخبر منقول عن العرب، ونوع الإنشاء منقول عن ... ، كذلك الحقيقة نوعها منقول عن العرب، وكذلك الشأن في المجاز.

إذًا على وجه يصح المراد به أن يوافق المجازات المنقولة عن العرب بالنوع، وذلك عند علاقة حاصلة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، يعني العرب لم تستعمل المجاز في لفظ عن لفظ إلا لعلاقة بينهما، فإن لم يكن علاقة حينئذٍ لا مجاز، إذا لم يكن علاقة حينئذٍ لا، ولذلك قلنا: الغلط خرج لماذا؟ إذا قلت: خُذْ هَذَا الْقَوْسَ. مشيرًا إلى كتاب، لا علاقة بين الكتاب والقوس أو الفرس حينئذٍ نقول: لعدم العلاقة بين معنيي اللفظين الحقيقي والمجازي انتفى المجاز، ولذلك لا بد من العلاقة. وذلك عند علاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي تكون ملاحظةً ومعتبرةً عند استعمال اللفظ في غير ما وُضع له، ويكون هذا المعنى المستعمل قد نُفِيَ بنصب قرينة تدل على عدم إرادة المعنى الموضوع له هذا اللفظ، فخرجت الكناية لأنها مستعملة في غير ما وضعت له مع جواز إرادته حيث لا قرينة تصرف عن ذلك. إذًا لا بد من اعتبار المجاز مجازًا أولاً العلاقة، يعني المناسبة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، مناسبة بين المعنى المنقول عنه إلى المعنى المنقول إليه، وهذا سيأتي أنه محصور في شيئين: مشابه، وغير مشابه. الأول استعارة، والثاني مجاز مرسل. وهي محصورة، يعني العلاقة محصورة. ثانيًا: لا بد من نصب قرينة تدل على أن اللفظ استعمل في غير ما وضع له، هذه القرينة مثل ماذا؟ رَأَيْتُ أَسَدًا، لو قلت: رَأَيْتُ أَسَدًا. الأسد يُدرك بالبصر، والأسد يستعمل استعمالين في لسان العرب بمعنى الحيوان المفترس، وبمعنى الرجل الشجاع. حينئذٍ إذا سُمِعَ رأيت أسدًا الأصل حمل اللفظ على الحقيقة وحيث ما استحال الأصل ينتقل إلى المجاز. إذًا تقول: الأصل أنه محمول على الحقيقة، فإذا قلت: رَأَيْتُ أَسَدًا. فالمراد به الحيوان المفترس، وهل يحمل على الرجل الشجاع؟ الجواب: لا، هنا يحتمل من حيث العلاقة الوجود العلاقة موجودة يعني كون الأسد شجاع والرجل الشجاع شجاع، حينئذٍ وجدت المناسبة بينهما، لكن لعدم وجود قرينة تدل على أن اللفظ استعمل في غير ما وضع له في لسان العرب فحينئذٍ امتنع حمل الكلام على المجاز، فنقول: رَأَيْتُ أَسَدًا. إذا أراد به الرجل الشجاع نقول: أخطأت الطريق. لماذا؟ لأن العرب لم تستعمل اللفظ في معنى آخر على جهة المجاز إلا بنصب قرينة، وأنت لم تأت بالقرينة، فإذا أردت المجاز تقول: رَأَيْتُ أَسَدًا يَخْطُبُ. إذًا يَخْطُبُ عرفت أن الأسد الحيوان المفترس لا يقعد على المنابر، إذًا تعرف أن المراد به الرجل الشجاع، إذًا يَخْطُبُ أو يَرْمِي أو رَأَيْتُ أَسَدًا فِي الْحَمَّام كما يقول بعضهم، نقول: هذا لا يمكن أن يحمل على الحيوان المفترس، فنرجع إلى المجاز. إذًا لا بد في استعمال اللفظ في غير ما وضع له في اصطلاح التخاطب أن يُراعى فيه أمران انتفاء واحد منهما يخل بالمجاز. الأول: على وجه يصح. يعني علاقة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقة لا بد من رابطة، وهذه الرابطة هي المشابهة، أو ما يقابل المشابهة وهي علاقة المجاز المرسل الآتي ذكره. الأمر الثاني: لا بد من نصب قرينة.

الكناية وهي المقصد الثالث: استعمال اللفظ في غير ما وُضِعَ له لكن يجوز أن يراد المعنى الأول، يعني يُجمع بين معنيين، ولذلك من الفوارق بينهما - كما سيأتي - أنه لا قرينة تدل على أن اللفظ مستعمل في غير ما وُضِع له في الكناية، حينئذٍ خرجت الكناية لأنه لا يُشترط فيها نصب قرينة لأن الذي ينصب القرينة ينصبه لأي شيء؟ كأنه يقول لك: يَرْمِي. أنا لا أريد بالأسد الحيوان المفترس، وإنما أردت به الرجل الشجاع، أما في الكناية فلا، فيريد به اللازم والملزوم معًا، المعنى المنقول عنه والمعنى المنقول إليه، حينئذٍ لا نحتاج إلى قرينة، فبقولنا: مع قرينة [على] تدل على عدم إرادة المعنى الأول خرجت الكناية، لأن الكناية يراد بها المعنيان المعنى الأصلي والمعنى الفرعي، المعنى المنقول عنه والمعنى المنقول إليه، فهذا المجاز المفرد، ويقابله المركب، ولما كانت حقيقة كل منهما تخالف الأخرى حينئذٍ لا يمكن أن يجتمعا في حدٍّ واحدٍ. قدم المفرد هنا لبساطته على المركب. إذًا يشترط في المجاز المفرد العلاقة التي تكون بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، وهي أي العلاقة ما يتمكن بها أو يتمكن بها من التجاوز عن المكان الأصلي إلى غيره من المناسبة الواقعة بين المنقول عنه والمنقول إليه - على ما ذكرناه - وإنما اشترطت لماذا؟ ليتحقق الاستعمال على وجه يصح، ولذلك قلنا فيما سبق في تعريف المجاز خرج الغلط، من تعريف المجاز قولك: خُذْ هَذَا الْقَوْسَ. مشيرًا إلى الكتاب لأن هذا الاستعمال ليس على وجه يصح لعدم العلاقة بين القوس والكتاب، والمعتبر هنا في العلاقة النوع لا الشخص، يعني يرد السؤال هنا هل المجاز موضوع في لغة العرب أم لا؟

نقول: نعم هو موضوع، لكن وضعه شخصي أم نوعي بمعنى أنه إذا قيل: شخصي بمعنى أنك لا يحق لك أن تستعمل تركيبًا مجازيًّا إلا واللفظ والتركيب بعينه نقل عن العرب، هذا متى؟ إذا قلنا: النقل فيه شخص. يعني الوضع شخصي وهذا منتفي، لا يمكن أن يقال بأن وضع المجاز وضع شخصي، وإلا ما جاز لأحد أن يتكلم من الشعراء ولا من الخطباء إلا بما نُقِلَ عن العرب، وإذا قيل: نوعي. حينئذٍ نقول: المراد به القواعد العامة، الفاعل مرفوع هذا وضع النوعي لا شخصي لماذا؟ لأنك لو قلت: شخصي. حينئذٍ لا يمكن أن تُسند فعلاً إلى فاعل وتعربه على أنه فاعل إلا إذا سُمِعَ من العرب، نَحْنُ فِي مَسْجِدِ بَدْرٍ لا يصح، ليس بكلام هذا لماذا؟ لأن العرب لم تنطق بهذا، ما وجد مسجد بدر ولا نحن فهذا التركيب نَحْنُ فِي مَسْجِدِ بَدْرٍ هذا لم ينقل عن العرب، لكن نَحْنُ مبتدأ، وَفِي مَسْجِدِ بَدْرٍ جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، هذا النوع محكوم عليه ومحكوم به المبتدأ متقدم والخبر متأخر وهو جار ومجرور متعلق .. ، هذه قواعد عامة تكلمت العرب بهذا، لكن بأفراد نَحْنُ فِي الْمَسْجِد نقول: لا هذا لم تتكلم به العرب، وإنما تكلمت بـ نَحْنُ لوحدها، والْمَسْجِد وحده، وَفِي الدالة على الظرف، المجاز كذلك. إذًا وضعت قواعد عامة وعلاقات عامة وضعها نوعي، وأما أشخاصها فلا. إذًا المعتبر في العلاقة هنا نوعها دون شخصها، ومعناه أنه يجب أن يُنقل عن العرب إذن في الصور الكلية كاستعمال السبب في المسبب، استعمال الجزء مرادًا به الكل استعمال الكل مرادًا به السبب، مرادًا به الجزء العكس بالعكس، الكل مرادًا به الجزء، الجزْء مرادًا به الكل، هذه قواعد عامة، لكن أفرادها نقول: هذا ليس بلازم وإنما نصل إلى هذه القواعد بتتبع الجزئيات كما نظرنا في الفاعل أن العرب ما نطقت به إلا مرفوعًا فجئنا إلى قاعدة عامة الفاعل مرفوع، ثم تلك الجزئيات صار نسيًا منسيًا، ثم أنت تنشئ ما شئت من التراكيب لكن على وفق هذه القواعد، كذلك الشأن في المجاز، وجدنا أن العرب في هذا المثال والبيت الثاني والثالث والرابع مجازًا يطلقون السبب على المسبب، إذًا قاعدة من العلاقات بين المعنى السابق المنقول عنه والمعنى المنقول إليه السببية، إطلاق السبب على المسبب أو بالعكس، هذا نوع العلاقة، أما عين المثال فدعه وانشأ مثالاً من عندك. إذًا كاستعمال السبب في المسبب دون الجزئية كلفظ هذا السبب في هذا المسبب مثلاً، حينئذٍ نقول: هذا ليس مرادًا. يجب أن يثبت أن العرب يُطلقون اسم السبب على المسبب ولا يجب أن يسمع إطلاق الغيث على النبات، السبب على المسبب، أما إطلاق الغيث مرادًا به النبات هذا لا يُشترط، يعني هذا السبب المعين في المعين هذا لا يُشترط وإنما تنشئ ما شئت، وهذا معنى قولهم المجاز موضوع بالوضع النوعي لا بالوضع الشخصي، وهذا هو التحقيق في هذه المسألة، المجاز موضوع بالوضع النوعي لا الوضع الشخصي. إذًا هذا ما يتعلق بقوله: (مُفْرَدًا). المجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما وُضعت له في التخاطب على وجه يصح، أي المراد به العلاقة مع قرينة على عدم إرادته، يعني إرادة المعنى المنقول عنه.

وهذا لا بد أن يتمعن فيه الطالب قبل أن يتكلم في مسألة هل اللغة فيها مجاز أم لا؟ يفهم ما هو المجاز، ويأخذ أمثلة كثيرة جدًا، ويتمعن في القرآن وفي السنة وفي ما نُقِلَ عن العرب فإذا أدخل المجاز وتصوره على وجه، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المسألة الثانية هل اللغة فيها مجاز أم لا. أما العكس الموجود الآن فهذا خلل في التصور، تكلم في مسألة اللغة فيها مجاز أو لا وهو لا يحفظ تعريف المجاز بل لا يفهم معنى المجاز. أو (مُرَكَّبًا) أو يكون المجاز مركبًا مقابل للمفرد، فالمجاز المركب هو اللفظ المستعمل فيما شُبِّهَ بمعناه الأصلي تشبيه تمثيل، وهو ما يُسمى بالاستعارة التمثيلية، هو المجاز المركب، وفيه خلاف هل هو مجاز أو لا؟ بأن يكون وجه الشبه منتزعًا من متعددٍ للمبالغة في التشبيه كما يقال للمتردد بأمر: إِنِّي أَرَاكَ تُقَدِّمُ رِجْلاً وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى. قالوا: هذا مجاز مركب أو استعارة تمثيلية، يُسمى استعارة: إِنِّي أَرَاكَ تُقَدِّمُ رِجْلاً وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى. هذا يفكر في أمر معنوي هل يقدم على هذا الشيء أم لا؟ ولا شك أن تقديم الرجل وتأخيرها هذا يكون في الشيء الحسي. إذًا نُقِل اللفظ شَبَّهَ صورة تردده في ذلك الأمر وقد يكون معنويًّا وقد يكون حسيًّا بصورة تردد من قام ليذهب، فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلاً، وتارة لا يريد فيؤخر أخرى، فاستعمل في الصورة الأولى الكلام الدال على الصورة الثانية، يعني هو لم يقل هذا اللفظ إلا في الذهاب رجل أراد أن يخرج أو لا؟ فتردد، قام فجلس، قدم فأَخَّر، رجل آخر تردد في أمر ما حينئذٍ يستعمل هذا التركيب مرادًا به تردده في الأمر الذي أراد أن يُقْدِم عليه مع التردد، حينئذٍ شَبَّهَ صورة بصورة، إذًا مَثَّلَ صورة بصورة والجامع بينهما ما ذكرنا، وَوَجْهُ التشبيه نعم وهو الإقدام تارة، والإحجام أخرى، هذا وجه الشبه، الإقدام تارة والإحجام منتزع من عدة أمور، ويُسمى هذا المجاز التمثيل على سبيل الاستعارة، سُمِّيَ تمثيلاً لكون وجهه منتزعًا من متعدد، وعلى سبيل الاستعارة لأنه قد ذُكر فيه المشبه به وأريد المشبه كما هو شأن الاستعارة رَأَيْتُ أَسَدًا يَرْمِي - سيأتي بحث الاستعارة -. إذًا مركبًا المراد به اللفظ المستعمل فيما شُبِّهَ بمعناه، أي بالمعنى الذي يدل عليه ذلك اللفظ بالمطابقة بمعناه الأصلي تشبيه تمثيل، بأن يكون وجهه منتزعًا من متعددٍ، والمثال هو ما ذكرناه وبحثه يكون في الاستعارة التمثيلية ولم يذكرها المصنف هنا. ثم قال رحمه الله تعالى: (وَتَارَةْ ** يَكُونُ مُرْسَلاً أَوِ استِعَارَهْ يُجْعَلُ ذَا ذَاكَ ادِّعَاءً أَوِّلَهْ). المجاز المفرد يتنوع إلى نوعين ينقسم إلى موقعين: استعارة، ومجاز مرسل.

التقسيم هنا في ماذا؟ المجاز المفرد لأنه هو الأهم البحث فيه هو الأكثر عند البيانيين، أما المجاز المركب المراد به الاستعارة التمثيلية وبحثها خاص، وتارةً (وَتَارَةْ) بالتسكين (يَكُونُ مُرْسَلاً) يكون المجاز المفرد مرسلاً، أي مطلقًا من الإرسال وهو الإطلاق سُمِّيَ بذلك لعدم تقييده بعلامة واحدة، بخلاف الاستعارة يعني الإطلاق هنا في مقابل الاستعارة، والاستعَارة ضابطها شيء واحد، مجاز مفرد علاقته المشابه. إذًا عرفنا أن المجاز لا بد له من علاقة، العلاقة إما مشابهة أو ليست مشابه. الأول: الاستعارة. الثاني: المجاز المرسل. واضح هذا؟ مجاز مفرد إما علاقته المشابه بين المشبه والمشبه به، أو إن شئت قلت: بين المعنى المنقول عنه والمعنى المنقول إليه اللفظ باللفظ، أولى يعني أولى تكون المشابه. الأول: الاستعارة. والثاني: المجاز المرسل.

لذلك قال: (مُرْسَلاً). يعني مطلقًا لعدم تقييده بعلامة واحدة، والمجاز المرسل المفرد مع علاقته المصححة له، لا بد من علاقة تصحح واضحة مما سبق غير المشابهة، غير المشابهة يدخل تحته أربع وعشرون نوعًا لن نأخذها كلها، أربعًا وعشرون نوعًا يعني محصورة. العلاقات محصورة، غير المشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي. إذًا المجاز المرسل مجاز مفرد علاقته غير مشابهة معناه لما هو موضوع له، والعلاقات أنواع أنهاها بعضهم إلى أربعة وعشرين نوعًا، منها - بعضها - من للتبعيض استعمال الجزء في الكل، يعني يطلق الجزء ويراد به الكل، الجزء مدلوله جزء، والكل مدلوله الكلّ، فإذا أُطلق الجزء مرادٌ به الكل حينئذٍ نقول: هذا استعمل اللفظ في غير ما وضع له، استعمال الجزء في الكل إذا كان له مزيد اختصاص بالمعنى الذي قُصِدَ بالكلّ كإطلاق العين على الربيئة يعني الرقيب، وهي جزؤه، يعني الجاسوس يقال عين، العين جزء والجاسوس كلّ، فسُمِّيَ الجاسوس عينًا إطلاق الجزء على الكل نقول: هذا مجاز. وعكسه وهو استعمال الكل في الجزء، استعمال الكل مرادًا به الجزء {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} [البقرة: 19] {أَصَابِعَهُمْ} الأصبع هو هذا كله هذا الأصبع {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} المراد به أنامل أصابعهم. إذًا أطلق الكل وأراد به الجزء، سُمِّيَ الأنامل التي هي رؤوس الأصابع بالأصابع، يعني سَمَّى الأنامل بالأصابع، ومنه: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين». الصلاة المراد بها الفاتحة التي هي جزء الصلاة لأنها ركن، وهذه من الأدلة على أن الفاتحة ركن لأن العرب لا تُطْلِق الكل مرادًا به الجزء إلا إذا كان فوات الجزء يَفُوتُ بِهِ الكلّ «قسمت الصلاة». إذًا المراد به بالصلاة هنا الفاتحة هذا يدل على ماذا؟ على أن الصلاة توجد بالفاتحة وبغيرها من الأركان وتفوت الصلاة بفوات الفاتحة، يدل على ماذا؟ على أنها ركن، ومنه فيما استدل به ابن القيم على أن تارك الصلاة يعتبر كافرًا {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] الإيمان صلاة وزيادة، فأطلق الكل على الجزء الذي هو الصلاة ليدل على أن فوات الجزء يترتب عليه فوات الكلّ، ففوات الصلاة يترتب عليه فوات الإيمان كما أن الفاتحة هنا فواتها يترتب عليه فوات الصلاة، وهذا جيد. إذًا استعمال أو إطلاق [الكل الجزء مرادًا به] (¬1) الكل مرادًا به الجزء. ومنها من العلاقات تسمية الشيء باسم آلته مثل ماذا؟ نحو قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ} [الشعراء: 84]. أي الثناء الحسن. والثناء إنما يكون بماذا؟ باللسان، فأطلق اللسان الذي هو آلة وأراد به الثناء. ومنها تسمية الشيء باسم سببه نحو: رَعَيْنَا الْغَيْثَ. المراد به النبات، الغَيْث سبب للنبات فأطلق السبب وأراد به الْمُسَبَّب هذا يسمى مجازًا. ومنها تسمية الشيء باسم مسببه عكسه أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ نَبَاتًا، أي مطرًا. ¬

_ (¬1) سبق.

ومنها تسمية الشيء باسم ما يحل فيه {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} [آل عمران: 107] قالوا: أي في الجنة. التي تحل فيها الرحمة، ولا مانع أن يراد بها كذلك الصفة، يعني صفة الرحمة مع الجنة. أو باسم المحل نحو: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17] أي أهل ناديه الحال فيه وهو المجلس، ويحتمل أنه على حذف المضاف. إذًا هذا الشيء من العلاقات وهي أكثر من ذلك. إذًا المجاز المرسل مع علاقته المصححة له غير المشابهة كالأمثلة المذكورة.

(أَوِ استِعَارَهْ) هذا يقابل المجاز المرسل، أي أو يكون المجاز المفرد استعارة، إن لم تكن العلاقة غير المشابهة، بل كانت المشابهة بينهما فالاستعارة حينئذٍ نعرفها بأنها هي اللفظ المستعمل فيما شُبِّهَ بمعناه الأصلي لعلاقة المشابه، يعني مجاز علاقته المشابه، مجاز علاقته غير المشابه هذا المرسل، مجاز علاقته المشابه هذا استعارة، واضح؟ هما قسمان متقابلان، وقوله: (استِعَارَهْ) يدل على أن المجاز المرسل قسيم للاستعارة لأنه أتى بـ أو (مُرْسَلاً أَوِ استِعَارَهْ) حينئذٍ يدل على أن المجاز المرسل قسيم للاستعارة وهما قسمان من مطلق المجاز المفرد، فالاستعارة هي اللفظ المستعمل فيما شُبِّهَ بمعناه الأصلي لعلاقة المشابهة كلفظ أَسَدٍ في قوله: رَأَيْتُ أَسَدًا يَرِمِي. ما العلاقة بين الرجل الشجاع والأسد؟ المشابهة، يعني هذا الرجل لشجاعته يُشْبِهُ الأسد في شجاعته، إذًا لما شَبَّهَ الرجل الشجاع بالأسد بجامع الشجاعة حينئذٍ أطلق لفظ الأسد وأراد به الرجل الشجاع وهذا يسمى استعارةً. وكثيرًا ما تطلق الاستعارة يعني لفظ استعارة على فعل المتكلِّم وهذا يأتي كثير عند البيانيين فلا تخلط، يُطلق لفظ الاستعارة على فعل المتكلِّم والمراد بالفعل المتكلم استعمال، الاستعمال، استعمال اسم المشبه به في المشبه، استعمال لفظ الأسد الذي هو لفظ المشبه به في المشبه، إذا قلت: زَيْدٌ، رَأَيْتُ أَسَدًا يَرْمِي. عندنا مشبه ومشبه به، وعندنا لفظ المشبه به - انتبه - المشبه به ولفظ المشبه، ما هو المشبه به؟ الأسد أو مسمى الأسد؟ مسمى الأسد. إذًا إذا أردت إلحاق شيء بشيء فحينئذٍ تُلْحِق المشبه الذي هو الجثة الرجل الشجاع بالجثة التي هي مسمى الأسد، ثم تأخذ لفظ الأسد وتجره على الرجل الشجاع. إذًا التشبيه بالرجل الشجاع بمسمى الأسد لا بالأسد الذي هو اللفظ، ثم تأخذ لفظ الأسد لدلالته على حيوان مفترس تجعله للرجل الشجاع ولذلك استعمال اسم المشبه به عرفتم؟ اسم المشبه به يعني لفظ الأسد في المشبه الذي هو الرجل الشجاع، يعني فعْلُكَ كَوْنُكَ تجعل هذا مشبهًا وهذا مشبهًا به، ثم المشبه به له لفظ اسم وهو الأسد فتسحبه على الرجل الشجاع، هذا يسمى ماذا؟ يسمى فعل المتكلِّم استعارة، تطلق الاستعارة ويراد بها هذا المعنى، ويكون حينئذٍ بمعنى المصدر، والطرفان حينئذٍ المشبه به والمشبه مستعار منه أو مستعار له، واللفظ أي لفظ المشبه به مستعار، إذا كان المراد بالاستعارة فعل المتكلِّم فعندنا المشبه يُسمى مستعارًا له، والمشبه به مستعار منه، واللفظ الذي هو الأسد مستعار، هذا إذا جعلناها بالمعنى المصدري، وأما إذا قلنا: الاستعارة. وهي التي أرادها الناظم هنا اللفظ المستعمل لعلاقة المشابهة حينئذٍ صارت لفظًا جامدًا، فليس عندنا مستعار منه ولا مستعار له ولا .. إلى آخره، لماذا؟ لكونها علمًا جامدًا، وحينئذٍ لا اشتقاق، وأما الأول الذي هو فعل المتكلم حينئذٍ صار مصدرًا، والمصدر محل للاشتقاق.

إذًا الاستعارة يُطلق اللفظ استعارة ويراد به فعل المتكلِّم الذي هو استعمال اسم المشبه به في المشبه، عرفنا هذا، هذَا يسمى استعارة بالمعنى المصدري، وعليه ينبني المشبه مستعار له، والمشبه به مستعار منه، واللفظ مستعار. عندنا ثلاثة أركان، وأنت مستعير هذه أربعة، لكن هذا يُسكت عنه لوضوحه، فعندنا المستعير الفاعل أنت، ومستعار له، ومستعار منه، واللفظ. فرق بين هذه الأربعة معاني، وهذا متى؟ إذا كان لفظ الاستعارة مراد به المعنى المصدري الذي هو فعل المتكلِّم، وليست هي المعرفة هنا. المعنى الثاني: اللفظ المستعمل في غير ما وُضع له لعلاقة المشابه. ليس عندنا إلا استعارة، ليس عندنا مستعار له ولا .. إلى آخره، لماذا؟ لكونه لفظًا جامدًا. وعلى الأول وهي اللفظ المستعمل لا يشتق منها لكونها حينئذٍ اسمًا للفظ جامد لا للحدث، وعلى الثاني وهي استعمالها صح منه الاشتقاق كما مرّ.

هذه حقيقة الاستعارة وهي مجاز علاقته المشابه. اختلفوا في الاستعارة هل هي مجاز لغوي أو مجاز عقلي؟ على قولين، ونذكره لأن المصنف أشار إليه قوله: (بِجْعَلُ ذَا ذَاكَ ادِّعَاءً أَوِّلَهْ). إذًا اختلفوا الاستعارة التي هي مجاز علاقته المشابه، هل هي مجاز لغوي أو مجاز عقلي؟ على قولين، فالجمهور تعرفون الجمهور، يعني الكثرة الغالبة على أنها مجاز لغوي، على أنها الاستعارة مجاز، اتفقوا على أنها مجاز، لكن ما نوع المجاز؟ هل هو لغوي أم عقلي؟ هنا محل النزاع، فاتفقوا على أنها مجاز واختلفوا في الدلالة، فالجمهور على أنها مجاز لغوي بمعنى، ما معنى المراد بالمجاز اللغوي؟ أنها لفظ، إذًا لفظ، اسْتُعْمِلَ في غير ما وُضع له لعلاقة المشابه، وهو الذي عرفنا عليه ما سبق وهو الصحيح، ولذلك جرينا على التعريف السابق، لفظ استُعمل في غير ما وُضع له لعلاقة المشابه، قالوا: لا شك أنها موضوعة للمشبه به لا للمشبه، ولا لأعم منهما. لفظ أسد في أصل وضعه - أنتم معي الآن - لفظ أسد في أصل وضعه عندنا مشبه وعندنا مشبه به، أنت قلت ماذا؟ رَأَيْتُ أَسَدًا يَرْمِي، فالأسد هذا موضوع لماذا لأي شيء؟ للحيوان المفترس الجثة المخصوصة المعلومة أو للرجل الشجاع؟ هل هي موضوعه هل لفظ أسد موضوع للمشبه به أو للمشبه؟ للمشبه به، ثَمَّ احتمال ثالث أن يكون موضوعًا لما هو أعم منهما من الرجل الشجاع والجثة المعلومة وهو الحيوان الجريء، هل لفظ أسد موضوعه مدلوله اللغوي الحيوان الجريء فيعم الرجل الشجاع لأنه حيوان ويعم الجثة المخصوصة فهو حيوان، هل هذا موضوع له أم لا؟ نقول: لا، ولذلك قالوا: [ليس لفظ الأسد موضوعًا بل] نعم قالوا: لا شك أنها موضوعة للمشبه به، إذًا للمشبه به لا للمشبه، فلفظ الأسد لا يدخل تحته الرجل الشجاع، لماذا؟ لكون العرب نطقت بلفظ الأسد وله مدلول واحد وهو الحيوان المفترس، ولا لأعم منهما، يعني ما يعمّ المشبه والمشبه به، فأسد في قولك: رَأَيْتُ أَسَدًا يَرْمِي. موضوع للسبع المخصوص، واضح هذا؟ أسد في قولك: رَأَيْتُ أَسَدًا يَرْمِي. موضوع للسبع المخصوص لا للشجاع الذي يعم الحيوان وغيره، ولا لمعنى أعمّ منهما كالحيوان المجترئ، فحينئذٍ نقول: لو وضع بالشجاع، أو وضع للحيوان المجترئ، فاستعمال الأسد حينئذٍ يكون في معنى ما وُضع له، أو في غير معناه؟ ما أنتم معي؟ إذا قلنا: بأن لفظ الأسد مدلوله في لسان العرب الشجاع من حيث هو، فإذا استعملت قلت: رَأَيْتُ أَسَدًا يَرْمِي. استعملته فيما وُضع له، أو في غيره؟ فيما وُضع له. إذًا صار حقيقة، لو كان مدلول الأسد الحيوان الجريء من حيث هو حيوان، فقلتَ: رَأَيْتُ أَسَدًا يَرْمِي. استعملته فيما وُضع له أو في غيره؟ فيما وُضع له. إذًا صار حقيقة.

إذًا نقول: وضع لفظ أسد ليس للمشبه الذي هو الشجاع فلا يعمّه، وليس لما هو أعمّ من المشبه والمشبه به الذي هو الحيوان الجريء، لا للشجاع، ولا لمعنى أعم منهما من الحيوان المجترئ مثلاً، ليكون إطلاقه لفظ الأسد عليهما حقيقةً كإطلاق الحيوان عليهما، وهذا معلوم بالنقل عن أئمة اللغة العربية، يعني استعمال الأسد إنما هو للسبع المخصوص. ما الذي دلنا على ذلك؟ تنصيص أئمة اللغة على ذلك. إذًا ليس مدلول لفظ أسد الشجاع ولا ما هو أعم من المشبه به والمشبه، وعلى الشجاع إطلاق على غير ما وُضع له مع قرينة مانعة عن إرادة ما وضع له فيكون مجازًا لغويًا، إذا أطلق لفظ الأسد على الشجاع نقول: هذا استعمال للفظ في غير معناه، لأن أئمة اللغة نقلوا لنا أن لفظ الأسد إنما المراد به الحيوان السبع المخصوص، فإطلاقه على الشجاع مع قرينة وعلاقة نقول: استعمال للفظ في غير ما وُضع له وهذا هو المجاز اللغوي. وقيل: مجاز عقلي. بمعنى أن التصرف فيها في أمر عقليّ لا لغويّ، ما سبق هو تنصيص ونقل من أئمة اللغة فاستُعمل اللفظ فيما وُضع له في لسان العرب إذا أريد به السبع المخصوص، وإذا أريد به غيره فهو مجاز لعلاقة مع قرينة، هذا أمر لغوي والمردّ فيه إلى السماع النقل، ما أذن فيه أهل اللغة فهو المعتمد، وما لم يكن كذلك فلا. هنا قالوا: لا، التصرف النقل إنما هو استعمال العقل لأنها لم تطلق - يعني الاستعارة - الذي هو لفظ الأسد على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به، يعني ادَّعَيْتَ أولاً دعوى مجرد دعوى تخيل أن هذا الرجل الشجاع هو فرد من أفراد الأسد، فالأسد له أفراد من جملة هذه الأفراد المشبه إذًا هذا أمر عقلي أم لغوي؟ قالوا: هذا أمر عقلي - على قولهم - هذا أمر عقلي. إذًا لم تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به، فإِنَّ جَعْلَ الرجل الشجاع فردًا من أفراد الأسد كان استعمالها فيه استعمالاً للفظ فيما وُضع له، هم أوردوا إيراد قالوا: نحن وأنتم مع الجمهور ندَّعِي أن الرجل الشجاع فرد من أفراد الأسد، إذًا إذا استعمل الأسد في هذا الفرد استعمال حقيقي أو مجازي؟ قالوا: استعمال حقيقي. إذًا استعمال اللفظ لفظ الأسد في الرجل الشجاع بعد ادِّعاء أنه من جنس المشبه به هذا حقيقي، فلا يكون مجازًا لغويًّا، بل حقيقةً لغوية، وليس فيها - في هذا التعبير - غير نقل الاسم وحده، ونقل الاسم المجرد ليس استعارة. على هذا الكلام ليس عندنا في الاستعارة إلا نقل اللفظ من الأسد مدلوله إلى الرجل الشجاع، وهل هذا هو الاستعارة؟ قالوا: لا. إذا لم يكن هذا الاستعارة إذًا ليس عندنا إلا شيء آخر وهو التصرف العقلي، فصارت مجازًا عقليًّا.

إذًا لامتناع حمل اللفظ هنا على الحقيقة لا بد من كونه مجازًا، لأننا اتفقنا على أنه مجاز، واستعمال الأسد في الرجل الشجاع حقيقة لأنه فرد من أفراده، فإذا انتفى هذا الاستعمال فليس عندنا إلا أن يكون المرد إلى العقل. ونقل الاسم المجرد ليس استعارةً، لأنه لا بلاغة فيه بدليل العلامة المنقولة، فلم يبقَ إلا أن يكون مجازًا عقليًّا، بمعنى أن العقل جعل الرجل الشجاع من جنس الأسد، وجُعْلُ ما ليس في الواقع واقعًا مجازًا عقلي، وعلى هذا مشى الناظم، ظاهر النظم أنه مجاز عقلي، والمراد بالمجازي العقلي التصرف العقلي، والتصرف العقلي محصور في شيء واحد وهو ادِّعاء أن المشبه فرد من أفراد المشبه به، هذا التصرف العقلي وليس بلغوي، ولذلك قال الناظم: (بِجَعْلِ ذَا ذَاكَ ادِّعَاءً أَوِّلَهْ). (بِجَعْلِ ذَا)، (بِجَعْلِ) من؟ المستعير، جعل المستعير هنا من إضافة المصدر إلى مفعوله، (بِجَعْلِ) المستعير (ذَا ذَاكَ)، (ذَا) إشارة إلى أي شيء؟ المشبه (بِجَعْلِ ذَا) أي المشبه. (ذَاكَ) أي المشبه به. (ادِّعَاءً) أن المشبه داخل في جنس المشبه به - كما سبق -، واضح هذا؟ (بِجَعْلِ) أفضل [يَجْعَلُ] (بِجَعْلِ ذَا) هو المشبه (ذَاكَ) المشبه به، حقيقةً؟ لا، ادعاءً يعني بالعقل بتصرف العقل، والدعوى هنا محلها العقل يَدَّعِي في نفسه أن هذا الرجل الشجاع فرد من أفراد الأسد، ثم يسحب الاسم عليه ويسميه باسمه، (أَوِّلَهْ) أي أول المستعير ادّعاء دخول المشبه في جنس المشبه به، بأن جعل أفراد الأسد بطريق التأويل قسم (أَوِّلَهْ) يعني على جهة التأويل، فجعل أفراد مدلول الأسد قسمين: متعارف، وغير متعارف. ما هو المتعارف؟ الجثة المخصوصة. غير المتعارف ما وجد فيه معنى الأسدية وهو الشجاعة. حينئذٍ جعل اللفظ له مدلول وهو أفراده، وقسَّم الأفراد إلى نوعين: - نوع متعارف فيه. - ونوع غير متعارف فيه. إذًا (أَوِّلَهْ) إلى قسمين: - أحدهما المتعارف وهو الذي له غاية الجراءة في مثل تلك الجثة المخصوصة. - والثاني غير المتعارف: وهو الذي له تلك الجراءة، لا في تلك الجثة والهيكل المخصوص. يعني الإنسان الرجل الشجاع وُجِدَت فيه الجراءة ولم توجد الجثة، وذاك وجدت فيه الجراءة والجثة نفسها، حينئذٍ أفراد الأسد نوعان: متعارف، وغير متعارف. ولفظ الأسد إنما هو موضوع للمتعارف، فاستعماله في غير المتعارف استعمال في غير ما وُضع له، وهذا المراد بالتأويل، أنه قدر أن الأفراد على نوعين، والأصل في وضع لفظ الأسد للمتعارف، وغير المتعارف هذا جاء من جهة تصرف العقل، حينئذٍ استُعمل لفظ الأسد في المتعارف وهو حقيقة لغوية، وإذا استعمل في أفراد غير المتعارف حينئذٍ سُمِّيَ مجازًا لأن أرباب هذا القول يُسَلِّمُون بأن الاستعارة نوع من أنواع المجاز، ولفظ الأسد إنما هو موضوع للمتعارف، فاستعماله في غير المتعارف استعمال في غير ما وُضع له، والقرينة مانعة عن إيراد المعنى المتعارف بتعيين غير متعارف بها هذا المراد بقوله: (بِجَعْلِ ذَا ذَاكَ ادِّعَاءً أَوِّلَهْ).

ومنع الجمهور هذا الدليل لأن الجمهور يُسَلِّمُون بأن الإدعاء موجود، يعني ادعاء أن المشبه فرد من أفراد الأسد يقول به الجمهور لكنه ليس بأمر لغوي هم ادعوا أنه إذا استُعمل فيه فهو لغوي نمنع هذا، قالوا: نحن ندَّعِي بأن المشبه فرد من أفراد المشبه به. طيب إذا استُعمل لفظ الأسد في المشبه استعمال الحقيقي. إذًا إذا كان هذا حقيقة أين المجاز؟ تصرف عقليّ، نحن نمنع بأن استعمال لفظ الأسد في غير المتعارف أنه استعمال حقيقي، بل لم تضع العرب إلا لفظ الأسد إلا للفرد المتعارف فقط، وأما غيره فهو استعمال مجازي، ومنع الجمهور هذا الدليل بأن ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به لا يقتضي أن تكون الاستعارة مستعملة فيما وُضعت له للعلم الضروري بأن أسدًا في قولنا: رأيت أسدًا يرمي. مستعمل في الرجل الشجاع والموضوع له هو السبع المخصوص باتفاق أئمة اللغة. إذًا الاستعارة على الصحيح هي مجاز لغوي. وقوله: (بِجَعْلِ ذَا ذَاكَ ادِّعَاءً أَوِّلَهْ). محتمل، الشارح هناك جعله بأنه ممن يرجح أنها مجاز عقلي، وهذا ظاهر، لكن يحتمل أن هذا تفسير للاستعارة، (أَوِ استِعَارَهْ) كيف ما وجه الاستعارة؟ (بِجَعْلِ ذَا ذَاكَ ادِّعَاءً) وهذا يقول به الجمهور، فحينئذٍ قد يحتمل أن كلام الناظم هنا على وفق ما عليه الجمهور. ابن حزم والظاهرية أنكروا وجود الاستعارة في القرآن وفي السنة وفي لسان العرب، لماذا؟ لأنها كذب. قالوا: المجاز كله كذب. فائدة: تفارق الاستعارة الكذب من وجهين: يعني فرق بين الاستعارة والكذب. وهم يقولون بأن المجاز يحتمل نفيه ويحتمل تكذيبه، رَأَيْتُ حِمَارًا يَكْتُبُ، كذبت ليس بحمار يجوز نفيه. تقول: في هذا التركيب يجوز نفيه لأنك الذي تنفيه ما هو؟ الحمار الأصلي، عندما تقول ماذا: رَأَيْتُ حِمَارًا يَكْتُبُ. يكتب هذه قرينة، حمار هنا المراد به الفرد المتعارف أو غير المتعارف؟ غير المتعارف، وقولك: كذبت. على ماذا؟ على المتعارف. إذًا كيف يقال بأنه يجوز نفيه أو يجوز تكذيبه، هذا فاسد، ثم يلزمهم نفي الخبر وقوع الخبر في القرآن، ما هو الخبر؟ . ما احتمل الصدق والكذب لذاته، لذات الإدخال ما قطع بصدقه وهو كلام الله عز وجل، إذًا القرآن فيه أخبارٌ، والخبر ما يجوز تصديقه وتكذيبه، إذًا في القرآن ما يجوز تصديقه وتكذيبه، إذًا ننفي أن يكون القرآن مجتملاً على الخبر، وهذا فاسد ليس بصحيح. إذًا كون المجاز يجوز نفيه ونجعله قاعدة لنفي المجاز عن القرآن هذا دليلٌ فاسدٌ من أصله، لماذا؟ لأنه يلزمه أولاً نفي ليس منصبًا على الظاهر، عندما تقول: رأيت أسدًا يرمي. كذبت ليس بأسدٍ، نقول: ليس بأسدٍ حقيقي الذي هو المتعارف، ونحن ماذا أردنا؟ أردنا غير المتعارف، إذًا محل النفي والتكذيب ليس هو اللفظ وإنما هو المعنى المنقول إليه، وهذا واضحٌ ردُّه. يرد كذلك بكون القرآن فيه أخبار، والخبر ما يجوز أو ما يحتمل الصدق والكذب، على كلٍّ تفارق الاستعارة الكذب من وجهين، الاستعارة وإن شاركت الكذب في كون كل منهما إخبارًا بخلاف الواقع لكنها تتميز عنه بأمرين:

الأول: التأويل، وذلك بدعوى دخول المشبه في جنس المشبه به بأن يجعل أفراد المشبه به قسمين: متعارف، وغير متعارف، على ما سبق ولا تأويل في الكذب. ثانيًا: القرينة، الكذب ليس عندنا قرينة، الكذاب ما ينصب قرينة تدل على أنه كذاب، أو ينصب؟ ما ينصب قرينة، وأما الذي يأتي بالمجاز لا بد أن ينصب قرينة تدل على أنه لم يرد المعنى الأصلي، رأيت حمارًا يكتب. ياه! الحمار ما يكتب، إذًا كونه يكتب هذا قرينة على أن الحمار هنا ليس الجثة المعهودة، القرينة لأن المجاز تنصب فيه القرينة الصارفة عن إرادة المعنى الأصلي بخلاف الكذب. ثم قال الناظم رحمه الله تعالى، ذكر بعض أقسام الاستعارة، أقسام الاستعارة كثيرة جدًا، ولذلك أُلِّفَت رسائل فيها في تقسيمات عدّة، (وَهْيَ إِنِ اسْمُ جِنْسٍ اسْتُعيرَ لَهْ أَصْلِيَّةٌ أَوْ لاَ فَتَابعِيَّهْ) يعني تبعية، (وَإِنْ تَكُنْ ضِدًّا تَهَكُّمِيَّهْ) ذكر ثلاثة أنواع: الأول: ما أشار إليه بقوله: (وَهْيَ إِنِ) كان (اسْمُ جِنْسٍ)، (وَهْيَ) أي الاستعارة تنقسم باعتبار اللفظ المستعار إلى قسمين، باعتبار اللفظ المستعار، اللفظ المستعار يعني لفظ الأسد عرفنا أنه مشبه به واسم المشبه به، عندنا شيئان النظر الآن في ماذا؟ في اسم المشبه به، (إِنِ) كان (اسْمُ جِنْسٍ) فالاستعارة أصلية، إن كان غير اسم جنسٍ كالفعل وسائر المشتقات فهي تبعية، واضح؟ إما أن يكون اللفظ المستعار (اسْمُ جِنْسٍ)، (وَهْيَ) أي الاستعارة باعتبار اللفظ المستعار قسمان لأن اللفظ المستعار إن كان اسم جنسٍ (إِنِ اسْمُ جِنْسٍ)، (اسْمُ جِنْسٍ) هذا خبر كان محذوفًا مع اسمها، إن كان المستعار (اسْمُ جِنْسٍ)، وهو أي (اسْمُ جِنْسٍ) ما دل على نفس الذات الصالحة بأن تصدق على كثيرين من غير اعتبار وصفٍ من الأوصاف، هذا هو حقيقة المصدر، لأن المصادر من أسماء الأجناس وإن كان اسم الجنس أعمّ من المصدر، لكن المراد به هنا المصدر وما كان في معناه وهو ما يجمعه قول: ما دل على نفس الذات الصالحة بأن تصدق عليك كالأسد، أسدٌ هذا دالٌ على نفس الذات الحيوان المفترس، وهو صالحٌ أن يصدق على كثيرين هذا أسدٌ وهذا أسدٌ وهذا أسد وإن كان هو ليس بمصدر من غير اعتبار وصفٌ من الأوصاف لأن النظر هنا إلى عين اللفظ، فهو (اسْمُ جِنْسٍ)، إن كان (اسْمُ جِنْسٍ) استعير له، استعير (اسْمُ جِنْسٍ) الضمير يعود إلى (اسْمُ جِنْسٍ) له أي للمشبه فهي أصلية، أي فاستعارة أصلية، فهي أصلية أي الاستعارة أصلية كأسدٍ إذا أستعير للرجل الشجاع، وقَتْلٍ الذي هو مصدر إذا أستعير للضرب الشديد. الأول: اسم عين. والثاني: اسم معنى. إذًا اسم الجنس يعمّ النوعين: - ما كان اسم ذاتٍ، اسم عين كالأسد. - وما كان اسم معنى كالْقَتْلِ والْعِلْمِ .. ونحوها.

(أَوْ لاَ) يعني أي أو لا يكون اللفظ المستعار (اسْمُ جِنْسٍ)، إذا لا .. #1.05.16 اسم جنسٍ يعني ما يدل على ذاتٍ عينٍ أو معنًى حينئذٍ هو فعلٌ وما اشْتُقَّ من الفعل، (أَوْ لاَ) يكون اللفظ المستعار اسم (اسْمُ جِنْسٍ) كالفعل وما يُشْتَقُّ منه من اسم الفاعل واسم المفعول وصفة مشبه .. وغير ذلك، وزيد الحرف على خلافٍ فيه، فالاستعارة تابعية هنا مد بالألف للوزن فَتَبعِيَّة تسمى تبعية (فَتَابعِيَّهْ) أي فالاستعارة تبعيةٌ يعني متابعة لشيءٍ سابق، لأنه ما من تبعيةٌ استعارة تبعية إلا وهي مسبوقة بأصلية، ولذلك سميت بهذا الاسم فتَبعِيَّة لجريانها في اللفظ المذكور بعد جريانها في المصدر، إن كان اللفظ المستعار مشتقًا مثل الأفعال والصفات المشتقة، والأفعال مشتقة، والصفات قد تكون مشتقة وقد لا تكون مشتقة، مشتقة مراد بها اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة، مثاله قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] البشارة إنما تكون في ما يسر الشخص يعني يدخل السرور، وهنا قال: {فَبَشِّرْهُم} ينتظر ماذا؟ بالجنة بالثواب {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في تهكم، شبه الإنذار لأن المقام هنا يقتضي فأنذرهم بعذابٍ أليم ليس {فَبَشِّرْهُم}، شبه الإنذار الذي هو مصدر المستعار له بالتبشير الذي هو مصدر المستعار منه، عندنا إنذار وعندنا تبشير، أين التشبيه هنا؟ أين المشبه به؟ الإنذار، أو التبشير، أو الإنذار؟ أيهما كالثاني؟ الإنذار كالتبشير، أو التبشير كالإنذار؟ هنا يقول: شبه الإنذار بالتبشير، الأصل هنا المقام يقتضي ماذا؟ فأنذرهم حذف أنذرهم وشبهه بماذا؟ بالتبشير فاستعمل اسم التبشير إذًا أين المشبه؟ التبشير. أين المشبه به؟ لا، نحن الآن نَدَّعِي المشبه فردٌ من أفراد المشبه به، ندَّعِي أن الإنذار فردٌ من أفراد التشبيه، إذًا أين المشبه به؟ المذكور اللفظ الذي يُذكر أمامك هو لفظ المشبه به، وأما المشبه فلا، شبه الإنذار الذي هو مصدر المستعار له بالتبشير الذي هو مصدر المستعار منه. إذًا التبشير هذا مستعارٌ منه، واستعير له اسمه تهكمًا، ثم اشتق منه الفعل فصارت الاستعارة إليه، يعني {فَبَشِّرْهُم} لم يأت بشر وأنذر، يعني لم تجد الاستعارة هنا بين الفعلين، قد يقول قائل: فبشر هذا فعل أمر. إذًا الأصل أنذر شبه أنذر وهو فعلٌ بماذا؟ بشر، نقول: لا، الاستعارة لا تجري بين الأفعال، وإنما تجري أولاً بين المصادر، فشبَّه الإنذار الذي هو مصدر أنذر بالتبشير الذي هو مصدر بشر، ثم صارت الاستعارة بعد ذلك إلى الفعل، ومثله {إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]، {إِنَّكَ لَأَنتَ} والأصل السفيه الَغَوِي فإنه شبه السفه والغي بالحلم والرشد واستعير لهما اسمهما، ثم اشتق منهما الوصف.

إذًا أولاً جرت الاستعارة في المصدر، ثم صارت إلى الفعل، فالاستعارة الأصلية على هذا يتقرر ما كان المستعار فيها اسم جنسٍ، والتبعية بأن لا يكون اسم جنسٍ كالفعل والمشتق منه، ووجه التسمية هنا أن الاستعارة مبناه على التشبيه، وهو وصفٌ، يعني التشبيه يقتضي ماذا؟ يقتضي كون المشبه موصوفًا بوجه الشبه، هذا الأصل، أي كونه مشاركًا للمشبه به في وجه الشبه، وإنما يصلح للموصوفية الحقائق المتقررة، أما الأفعال فلا، لأنها غير ثابتة، أي الأمور الثابتة كقولك جسمٌ أبيض وبياضٌ ناصع دون معاني الأفعال والصفات المشتقة لكونها متجددة غير متقررة بواسطة دخول الزمان في مفهوم الأفعال وضعًا، وعروضه الصفات استعمالاً هذا هو المشهور، يعني أن بَشِّر وأنذر مثلاً هذه صفاتها غير ثابتة غير قارة، ومرّ معنا أن دلالة الفعل على الزمن دلالةٌ وضعية، ولذلك وكونه فعلاً لإفادة ماذا؟ التجدد، لماذا أفاد التجدد؟ لأن الزمن داخلٌ في مفهومه ويحصل شيئًا فشيئًا كلما وجد جزءٌ من الزمن وُجِدَ فيه نوعٌ من أجزاء الْحَدَث. إذًا كل ما دلّ على زمنٍ حينئذٍ لا يكون ثابتًا، الثابت كالأبيض، والناصع البياض، الأسود، أحمر نقول: هذه ثابتة طويل أو الطول والقصر نقول: هذه ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، الاستعارة إنما تكون في أوصافٍ قارة ثابتة غير متجددة، والفعل يدل على ماذا؟ على التجدد، والصفات المشتقة تدل على .. . إذًا لا تجري فيها الاستعارة، ولذلك العلم الجامد أو الأعلام لا تجري فيها الاستعارة إلا إذا قُدِّرَ فيها أوصاف، كلفظ حاتم مثلاً، حاتم هذا علم جامد، لا يقع الاستعارة فيه إلا إذا قصد به حاتم الجواد، رأيت حاتمًا يجود على الناس، حينئذٍ نقول شبه زيدًا من الناس بحاتم الجود، بجامع الجواد، ثم بدل ذلك استعار اسمه له، كيف استعار اسمه وهو علمٌ جامد؟ نقول: لا، هنا رُوعِيَ فيه الوصف. إذًا (أَوْ لاَ) تابعية هذا النوع الثاني.

(وَإِنْ تَكُنْ ضِدًّا تَهَكُّمِيَّهْ)، (وَإِنْ تَكُنْ) الاستعارة هذا النوع الثالث الذي ذكره الناظم، (وَإِنْ تَكُنْ) الاستعارة (ضِدًّا) أي مستعملةً في ضدِّ معناها الحقيقي أو في نقيضه، يعني إذا كانت الاستعارة قد تكون وجه الشبه أو الضِّدّية، قد يكون استعمالاً لضده فحينئذٍ تسمى الاستعارة تهكمية، إذا كان وجه المناسبة بين المعنيين الضد أو النقيض، فهي تهكمية أي فهي التهكمية والتمليحية يعني تنزيل التضاد أو التناقض منزلة التناسب، مثل ماذا؟ التهكمية كالمثال السابق {فَبَشِّرْهُم} [آل عمران: 21] ينتظر ماذا؟ بجنةٍ أو ثوابٍ، هذا من باب التهكم، أي أنذرهم استعيرت البشارة التي هي إخباره بما يظهر سرورًا في المخبر به للإنذار الذي هو ضده، إذًا التبشير والإنذار ضدان بإدخاله في جنسها على سبيل التهكم والاستهزاء والتمليحية كقولك: رأيت أسدًا. وتعني به جبان، لو رأيت جبانًا وقلت: رأيت أسدًا يرمي أو كذا. حينئذٍ نقول: هذا من باب السخرية والاستخفاف يستخف به وأنت تريد جبانًا على سبيل التمليح والظراف. هذا ما يسمى بالتهكمية. مرّ معنا الاستعارة في التشبيه هناك قلنا: لا على وجه الاستعارة التحقيقية، ولا على وجهة الاستعارة بالكناية، ولا على وجهة التجريد، التجريد سيأتي بحثه في البديع، ونذكر استعارة التحقيقية والكناية. الاستعارة التحقيقية هي ما تحقق معناها حسًّا أو عقلاً، فهي داخلةٌ في الأمثلة السابقة، معناها يعني مدلولها إما أن يكون مدرك في الخارج بالحسِّ رأيت أسدًا يرمي، أو تكون مدركة في الخارج بالعقل: رأيت نورًا إذا عبرت عن العلم أو عن شيء. ما تحقق معناه حسًّا أو عقلاً فالأول: كقولك رأيت أسدًا يرمي، فإن أسدًا هنا تحقيقية لأن معناه الرجل الشجاع هذا أمرٌ محققٌ حسيّ، والثاني: كأن تقول مثلاً: رأيت نورًا، أو أظهرت نورًا، وقصدت بالنور هنا الحجة، فإن الحجة شيءٌ عقليّ لا حسيّ فإنها تدرك بالعقل، وهذه مبناها على التشبيه، وليست بتشبيهٍ اصطلاحي البتة.

الاستعارة بالكناية حقيقتها أن يُضْمِرَ التشبيه في النفس، فلا يُصَرِّحُ، يعني الْمُضْمِر بشيءٍ من أركانه سوى المشبه، الأركان أربعة كلها تحذف إلا المشبه، هو الذي يُنطق به، ثم يدل على ذلك التشبيه المضمَر في النفس بأن يُثْبَتَ للمشبه أمر مختصٌ بالمشبه به، يعني يضيف على الْمُشَبَّه لفظًا، هذا اللفظ من خصائص المشبه به، إذًا دل على المشبه به بذكر لازمٍ له، بأن يُثبت للمشبه أمرٌ مختصٌ بالمشبه به فيسمى ذلك التشبيه المضمر استعارةً بالكناية، ومكنيًا عنها لماذا؟ لأنه لم يصرح به، بل دل عليه بذكر خواصه، ويسمى إثبات ذلك الأمر المختص بالمشبه به بالمشبه استعارةً تخييلية فهي داخلةُ فيها، لأنه قد أستعير للمشبه ذلك الأمر المختص بالمشبه به، وبه يكون كمال المشبه به وقوامه في وجه الشبه لتخيل أن المشبه من جنس المشبه به، مثاله ليتضح: أنشبتُ المنيةُ أظفارها. شبه المنية بالسبع في الاغتيال، السبع يغتال بدون استئذان، والمنية تغتال كذلك بدون استئذان، السبع لا يفرق بين ضارٍ ونافع يغتال الفاسق ويغتال الصالح، كذلك المنية لا تفرق فشبه المنية بالسبع وأضمر التشبيه في نفسه وحذف الأداة والمشبه به وذكر ماذا؟ المشبه، المنية هي المشبه، أنشت المنية أظفارها، المنية لها أظفار؟ الجواب: لا، الأظفار هذه من أين جاءت؟ من لوازم وخصائص المشبه به، يعني حذف لفظ الأسد وذكر في اللفظ ما هو من خصائصه، التشبيه نفسه، تشبيه المنية بالسبع مع حذف السبع وأداته يسمى استعارة بالكناية، إثبات لفظ الأظفار للمشبه يُسمى تخييلية، فاجتمع كالأصلية والتبعية، شبَّه في نفسه المنية بالسبع في اغتيال النفوس بالقهر والغلبة من غير تفرقةٍ بين نفاعٍ وضرار كلٌ منهما لا يفرق، فأثبت لها الأظفار التي لا يكمل ذلك الاغتيال في السبع بدونها تحقيقًا للمبالغة في التشبيه، فتشبيه المنية بالسبع استعارةٌ بالكناية، وإثبات الأظفار لها تخييلية، وكلٌ من لفظي الأظفار والمنية هل هو مستعملٌ في ما وُضع له في لسان العرب أو لا؟ المنية المراد به الموت، إذًا استعمل فيما وُضع له لسان العرب، والأظفار كذلك استعمل فيما وُضع له في لسان العرب، وكلٌ من لفظي الأظفار والمنية حقيقةٌ مستعملةٌ في معناها الموضوع له، فلذلك هي عند صاحب ((التلخيص)) حقيقتان لغويتان غير داخلتين في قسم المجاز، يعني الاستعارة بالكناية عند صاحب ((التلخيص)) حقيقةٌ لغوية، لأن المنية استعملت في ماذا؟ في معناها الأصلي، وكذلك الأظفار بمعناه الأصلي، إذا قلت: زيد كالأسد حقيقة أو مجاز؟ زيدٌ كالأسد حقيقة تشبيه الأصل فيه، وما ذُكر التشبيه إلا لأنه أضمر فيه الاستعارة، إذًا زيدٌ كالأسد هذا مثل أنشبت المنية أظفارها. وبعد أن فرغ الناظم من الكلام على المقصد الثاني وهو المجاز، شرع في الكلام على المقصد الثالث وهو الكناية، وبه خاتمة فن البيان، وهي في اللغة مصدر كنيت بكذا عن كذا كونًا إذا تركت التصريح به، وهي في الاصطلاح تُطلق على معنيين يعني لها استعمالان عند البيانيين:

أحدهما معنى المصدر كالاستعارة، معنى المصدر الذي هو فعل المتكلِّم، والمراد به هنا ذكر اللازم وإرادة الملزوم مع جواز إرادة اللازم أيضًا، عندنا لازم وعندنا ملزوم ما هو الملزوم؟ مدلول المعنى اللفظ يسمى ملزومًا، واللازم هو الخارج عنه، كما مرّ معنا في المنطق، الملزوم هو مدلول اللفظ، واللازم هو الخارج، ولذلك نقول: دلالة الالتزام ما هي؟ دلالة اللفظ على خارجٍ لازمٍ، إذًا عندنا لازم وهو الخارج إذًا ليس مدلول اللفظ، ومدلول اللفظ هو الملزوم اتضحت هذه؟ لأن هذه ينبني عليها باب الكناية، إذًا مدلول اللفظ الملزوم، والخارج هو اللازم، قد يستعمل الكناية والمراد به المعنى المصدري الذي هو فعل المتكلِّم، ذكر اللازم وإرادة الملزوم مع جواز إرادة اللازم أيضًا، وعليه كالسابق فاللفظ مكني به والمعنى مكني عنه، إذًا عندنا اشتقاق لأننا أردنا بالكناية المصدر، والمصدر يشتق منه ليست علمًا كالاستعارة هنا في اللفظ، وثانيهما يراد بالكناية نفس اللفظ وهي المرادة هنا، ليس المعنى المصدري، وإنما المراد اللفظ عينه، كالاستعارة هنا قد يراد به الأسد بعينه وقد يراد الإطلاق الاستعمال، استعمال اسم المشبه به في المشبه، هنا قد يراد بالكناية ذكر اللازم وإرادة الملزوم مع جواز إرادة اللازم أيضًا، ويراد به أيضًا الكناية نفس اللفظ [المكني عنه به] المكني به، وهو الذي أشار إليه الناظم بقوله: (وَمَا بِهِ لاَزِمُ مَعْنًى وَهْوَ لاَ ** مُمتَنِعًا كِنَايَةٌ). (وَمَا) أي واللفظ. إذًا نفسر ما هنا بماذا؟ باللفظ، لماذا قلنا: اللفظ ولم نقل المعنى الذي هو فعل المتكلِّم؟ لأن اصطلاح البيانيين المراد به اللفظ، فنفسر اللفظ هنا بما شاع في اصطلاح البيانيين (وَمَا) أي واللفظ، به لازم لا بد من التقدير من أجل أن يصح الكلام، واللفظ الذي أريد به، (بِهِ) متعلق بـ أريد المحذوف (لاَزِمُ مَعْنًى) أي معنى ذلك اللفظ. أريد به لازم لأن الكناية هنا استعمال اللفظ في اللازم لا في الملزوم، لكن لا يمنع أن يكون المراد استعمال اللفظ في اللازم مع إرادة الملزوم. بالمثال يأتي. (وَمَا بِهِ) يعني واللفظ الذي أريد به (لاَزِمُ مَعْنًى) ذلك اللفظ. إذًا أول ما يُطلق اللفظ في الكناية مرادًا به اللازم، كاستعمال الأسد في الرجل الشجاع لكن في المجاز لا بد من قرينة تمنع إرادة الأصل، هنا ليس عندنا قرينة، لماذا؟ لأنه يجوز أن يراد به اللازم مع الملزوم معًا، لذلك قال: (وَهْوَ لاَ ** مُمتَنِعًا)، (وَهْوَ) أي والحال، الواو واو الحال، أن ذلك المعنى (لاَ ** مُمتَنِعًا) يعني لا يكون ممتنعًا، (وَهْوَ) الضمير يعود إلى أي شيء في اللفظ هنا؟ (وَمَا بِهِ لاَزِمُ مَعْنًى)؟ المراد به المعنى نعم (وَهْوَ) أي المعنى (لاَ ** مُمتَنِعًا) لا يكون ممتنعًا، والحال أن المعنى الأصلي الذي هو الملزوم لا يكون ممتنعًا إرادته، أي لا تمتنع إرادة ذلك اللازم، (كِنَايَةٌ) أي هذا الذي يسمى كناية.

إرادة ذلك الملزوم ليس اللازم، إرادة ذلك الملزوم إذًا يُطلق اللفظ أصالةً على اللازم لازم المعنى، ولا يمنع أن يراد به المعنى الذي هو الملزوم، واضح هذا؟ (كِنَايَةٌ) وهو معنى قول القزويني: الكناية لفظ أريد به لازم معناه. ليس المعنى إنما أريد به لازم المعنى، مع جواز إرادته معه، أي إرادة ذلك المعنى مع لازمه، كلفظ طويل النجاد، طويل النجاد، وكثير الرماد، المراد بهما لازم معناهما، طويل النجاد المراد النجاد هنا حمائل السيف، حمائل السيف إذا كانت طويلة إيش معناه؟ أنه طويل. فإذا قلت: هذا طويل النجاد. أي طويل حمائل السيف. إذًا أطلقته على ماذا؟ على حمائل السيف، حينئذٍ نقول: هل يمنع إرادة اللفظ بحمائل السيف مع كونه طويل القامة أو يختص بالثاني دون الأول، أو بالأول دون الثاني؟ لا، الاحتمالات ثلاثة: طويل النجاد، حمائل السيف، طويل القامة يراد به المعنيان معًا، الأول أم الثاني أم الثالث؟ الثالث، فيراد به المعنيان، لكن ابتداءً المراد به اللازم طويل النجاد أي حمائل السيف. ويلحظ معه ماذا؟ أنه طويل القامة، هنا قال: كثير الرماد. يعني مضياف. كثير الرماد يعني الرماد كثير ويلزم منه ماذا؟ أنه مضياف، فيحتمل أو الأصل يكون إطلاق اللفظ وإرادة اللازم الذي هو مدلول مدلُول اللفظ كثير الرماد مع كونه مضيافًا، لماذا؟ لأنه إذا كان مضيافًا كثر ذبحه، وإذا كثر ذبحه كثر طبخه، وإذا كثر طبخه كثر إيقاده ويلزم منه كثرة الرماد، هذه لوازم متتابعة [ها ها] نعم، كلفظ طويل النجاد وكثير الرماد المراد بهما لازم معناهما، أعني طول القامة، يعني إذا استعمل طويل النجاد مرادًا به طول القامة، وكونه مضيافًا مع جواز إرادة حقيقة هذين اللفظين أيضًا وهو طول حمائل السيف وكثرة الرماد، يعني يحتمل أنه كنى عن طول القامة بطويل النجاد، ويحتمل أنه كنَّى عن ماذا؟ عن كونه مضيافًا بكثرة الرماد مع إرادة ظاهر اللفظين معًا، وسُمِّيَ هذا النوعين كناية لما فيه من إخفاء وجه التصريح به بالعلم. وبهذا ظهر أن الكناية تخالف المجاز من جهة إرادة المعنى الحقيقي للفظ مع إرادة لازمه، كإرادة طول النجاد مع إرادة طول القامة يجتمعان، بخلاف المجاز فإنه لا يصح فيه أن يراد المعنى الحقيقي مثلاً، فلا يجوز في قولنا: ... [رَأَيْتُ زَيْدًا يَرْمِي. أن يراد بالأسد] رَأَيْتُ أَسَدًا يَرْمِي لا يراد بالأسد هنا الحيوان المفترس، لا يجوز، لأنه صُرِفَ عن معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي، لأنه يلزم في المجاز أن يكون معه قرينة مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي. إذًا الكناية على ما ذكره صاحب ((التلخيص)) لفظٌ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة المعنى الحقيقي. وأقسامها ثلاثة كما أشار إليه بقوله: (فَاقْسِمْ إِلَى إِرَادَة النِّسْبَةِ أَوْ نَفْسِ الصِّفَةْ ** أَوْ غَيْرِ هَذَيْنَ). الكناية ثلاثة أقسام أشار إليها الناظم بقوله: (فَاقْسِمْ) يعني الكناية، إلى ثلاثة أقسام:

الأول: (إِرَادَة النِّسْبَةِ) عرفنا المراد بالنسبة ما هي النسبة؟ إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه. (إِرَادَة النِّسْبَةِ) أي إثبات أمر لآخر أو نفيه عنه، فالمطلوب بالكناية هنا النسبة عينها، فالمطلوب هنا بالكناية نسبته لغيره كقولهم: الْمَجْدُ فِي بُرْدَيْهِ، وَالْكَرَمُ فِي ثَوْبَيْهِ أو فِي ثَوْبِهِ، فإنهما كنايتان عن ثبوت المجد والكرم له حيث لم يُصرح بذلك بل كَنَّى عنه بكونهما في برديه وفي ثوبه، فإن الأمر إذا أثبت فيما يختص بالرجل ويحيوه من ثوب ونحوه فقد أُثْبِتَ له، هنا المراد الْمَجْدُ فِي بُرْدَيْهِ ي، عني كأن الذي في البردين هو المجد بعينه، فالمراد به النسبة، وَالْجُودُ فِي ثَوْبِهِ كأن الذي هو في الثوب المجد بعينه، ومنه قول الشاعر: إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج كأنه أراد ماذا هنا؟ أراد أن يُثبت اختصاص ممدوحه بثبوت هذه الصفات له، إذا أريد إثبات الصفات بالممدوح كالمجد في برديه، فالمراد هنا بالكناية النسبة، إثبات أمر لآخر، وهنا أراد ماذا؟ أراد إثبات هذه المذكورات السماحة والمروءة والنَّدى أنها مختصة بممدوحه بثبوت هذه الصفات له، فترك التصريح باختصاصها بأن يقول: إنه مختص بها أو نحوه مثل السماحة لابن الحشرج، أو سماحة ابن الحشرج، أو سَمِحٌ ابن الحشرج، يعني لا يأتي بألفاظ تدل على الاختصاص، وإنما يعدل إلى الكناية بأن جعل تلك الصفات في قبة تنبيهًا على أن محلها وهي تكون فوق الخيمة يتخذها الرؤساء مضروبة عليه، يعني كأن القبة هذه التي كونت من السماحة والمروءة والندى قد اختصت بابن الحشرج لكونها حالةٌ في مكانه، والشيء إذا اختص بالمكان اختص به، يعني كأنه جاء بالكناية دون التصريح من أجل أن يبين أن الشيء قد يكون وصفًا له بذاته وقد يكون بمكانه، فكما أن القبة قد وضعت عليه وهي مؤلفة من هذه المعاني الثلاثة السماحة والمروءة والندى فكذلك المكان الذي هو فيه، بأن جعل تلك الصفات في قبة تنبيهًا على أن محلها وهي تكون فوق الخيمة يتخذها الرؤساء مضروبة عليه، يعني على ابن الحشرج، لأنه إذا ثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد ثبت له. والثاني ما ذكره بقوله: (أَوْ) في (نَفْسِ الصِّفَةْ)، (أَوْ نَفْسِ الصِّفَةْ) أي المطلوب بالكناية الصفة عينها كالجود والكرم ونحوهما كطويل النجاد إذا جعل كناية عن طول القامة فالمراد هنا نفس الصفة على المثال السابق، ومنه ذو القفا العريض كناية عن شخص أبله، ذو القفا العريض هذا وصف أريد به [ها ها] أريد به الوصف بعينه، الصفة عينها الصفة. الثالث: ما ذكر في قوله: (أَوْ غَيْرِ هَذَيْنَ) يعني غير النسبة وغير الصفة وهو الموصوف. إذًا الكناية إما أن تكون عن النسبة وإما أن تكون عن الصفة بعينها أو عن الموصوف، والأمثلة ما سبق (أَوْ غَيْرِ هَذَيْنَ) وهي المطلوب بها غير صفة وغير نسبة بل نفس الموصوف كقولك: المضياف. كناية عن زيد بسبب اختصاصه بالمضياف وأردت به زيد، نقول: هنا المراد به الموصوف.

ولما كان بحث الكناية لطيفًا معناه ودقيقًا في المآخذ أمر الناظم بالاجتهاد في معرفته فقال: (اجْتَهِدْ أَنْ تَعْرِفَهْ) يعني تعرف هذا، أو يحتمل أنه يعود إلى البيان كله وهذا أولى (اجْتَهِدْ) يعني اسعى سعيًا حثيثًا (أَنْ تَعْرِفَهْ) يعني تعرف الكناية المذكور الأخير أو أن تعرف الباب كله العلم البيان من أوله إلى آخره. الفن الثالث (عِلْمُ الْبَدِيعِ). والله أعلم. وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أسئلة: س- إنما السعادة للمقبولين إنها مثال على قصر الموصوف على الصفة، وعزى ذلك الدمنهوري قائلاً: المقبولين لا صفة لهم إلا السعادة. ج - لا، كيف لا صفة لهم إلا السعادة، لهم صفات السعادة وغيرها، وهذا ليس بصحيح. س- هل القول بإثبات المجاز في القرآن هو الصحيح وهل يجوزه نفيه بحجة .. ؟ ج- كما ذكرنا الصحيح أن المجاز موجود في لغة العرب وليس بقليل، وإذا كان في لغة العرب فالصحيح أنه موجود في القرآن وليس بقليل، بل هو كثير، كذلك موجود في السنة، ولا يلزم القول بالمجاز التسليم التأويل لأن المؤوِّل إنما اعتقدوا أولاً أن ظاهر النصوص هو التشبيه {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] قالوا: لا نفهم من هذا التركيب إلا هذه اليد وهذا محال، إذًا فهموا أولاً التشبيه، فقالوا: ظاهر النصوص غير مراد. إذًا عندهم مقدمة لا بد من تأويل النص فلجئوا إلى المجاز، فالمجاز مقدمة ثانية وليس مقدمة أولى، وإنما اعتقدوا أولاً أن ظاهر النصوص هو ما يتبادر إلى الفهوم وهو التشبيه، لم يفهموا من استوى إلا الاستواء القعود الذي لا يدرك إلا من شأن المخلوق وهو محال لا شك في ذلك، لم يفهموا من العين إلا هذه العين، ولم يفهموا من اليد إلا هذه اليد، ولا الرجل إلا هذه الرجل، هل هذا فهم صحيح أم فهم سقيم؟ هذا فهم سقيم، بل {بَلْ يَدَاهُ} يدان تليق بجلاله جل وعلا، هذا ابتداءً أول الأمر، لماذا؟ لكونها أضيفت بالضمير لا إلى الله عز وجل، فإذا أطلق اللفظ يد حينئذٍ لا تختص بشيء، فإذا قيدت فحينئذٍ لا يفهم منه إلا باعتبار القيد وهو المضاف إليه، فحينئذٍ نقول: ظاهر النصوص هو ما يليق بجلاله جل وعلا من إثبات الصفات على المعاني اللائقة بها، وليس ظاهر النصوص هو التشبيه، والأشاعرة ومن أَوَّل وحرَّف اعتقدوا مقدمةً أولى أن ظاهر النص التشبيه هذا أولاً، ثم قالوا: ظاهر النصوص غير مراد فلا بد من تخريجه. فبحثوا عن التخريج فوجدوا المجاز، وهم لم يوجدوا المجاز من أجل ذلك كما يدعيه البعض، وإنما المجاز قد نص عليه كثير من أئمة اللغة، والإمام أحمد قال: هذا من مجاز اللغة. وأبو عبيدة كذلك قال: هذا من مجاز اللغة. وهذا يكون على أصله في إثبات المجاز.

نعم هو تطور وقُعِّد كغيره من العلوم يعني المسائل المتعلقة بباب الاشتغال، والمسائل المتعلقة بباب الفاعل والمفعول، أولاً وجدت على هيئتها التي تكون مناسبة لكل علم في أول نشأته، تأخذ مثال الرسالة للإمام الشافعي في أصول الفقه، هل أصول الفقه الذي وضعه الشافعي في الرسالة هو بعينه الموجود عند المتأخرين، ولا عند المتوسط، مختلف عنه، اختلف في ماذا؟ في تحقيق العبارات في تنصيص، في توليد بعض المسائل، في كثرة الاستدلالات، في بيان وجه الاس .. . إذًا الفن أول ما يوضع يُوضع مسائل، ولذلك جمع أصول الفقه كلها في رسالة واحدة الذي هو الكتاب، ثم بعد ذلك نُقِّحَ وهُذِّبَ وزِيد عليه، فليس هو أصول الفقه بعينه الذي يكون عند .. ، فإنما اختلفت العبارات واختلف تقسيمها، كذلك المجاز هو استعمال في اللفظ في غير ما وُضع له، ثم بعد ذلك تطور وقُعِّدَ وأُصِّلَ على ما كان عليه. والله أعلم.

15

عناصر الدرس * الفن الثالث: علم البديع. * تعريف علم البديع وأنواعه. * أقسام البديع اللفظي. * أقسام البديع المعنوي. * خاتمة في السرقات الشعرية. * تعريف السرقة وأقسامها ونوع كلٍ. * ما يلحق بالسرقة الخفية. * الخاتمة. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال الناظم رحمه الله تعالى: الفن الثالث علم البديع. تقدم في بيان ترتيب هذه الفنون الثلاثة أن فن البديع ليس جزءًا من البلاغة، بل هو تابعٌ لها، والنظر فيه فرع النظر فيها، ولذلك أُخِّرَ، والذي عليه الاهتمام عند البيانيين هو الأول أو الثاني، علم المعاني، وعلم البيان. وأما علم البديع فهو كالتّتمة لهذين العلمين. عرَّفَهُ في قوله: عِلْمُ البَدِيعِ وَهْوَ تَحْسِيْنُ الكَلاَمْ ... بَعْدَ رِعَايَةِ الْوُضُوحِ وَالمَقَامْ (عِلْمُ البَدِيعِ) أظهر في مقام الإضمار بإرادة الإيضاح لزيادة الإيضاح، (عِلْمُ البَدِيعِ وَهْوَ) إسكان الهاء لغةٌ، وهُو أي علم البديع (تَحْسِيْنُ الكَلاَمْ)، (تَحْسِيْنُ) تفعيل، وهو مصدر لمعنى اسم الفاعل مُحَسِّنُ، مُحَسِّنُ الكلام (تَحْسِيْنُ الكَلاَمْ) وهو علمٌ، يُعْرَفُ به وجوه (تَحْسِيْنُ الكَلاَمْ) هذا الذي ينبغي أن يقدر فيه الكلام، (عِلْمُ البَدِيعِ وَهْوَ تَحْسِيْنُ الكَلاَمْ) ليس هو عين التحسين فحسب إنما هو علمٌ يعرف به وجوه تحسين الكلام، لا بد من تقدير هذه الكلمات، علمٌ يُعْرَفُ به وجوه (تَحْسِيْنُ) تفعيل بمعنى مُحَسِّن، (تَحْسِيْنُ الكَلاَمْ) أي المعاني التي يُحَسَّن الكلام بها، قوله: يُعْرَفُ، أي يتصور معانيها، ويُعرف أعدادها وتفاصيلها بقدر الطاقة، بمعنى أن المحسنات اللفظية والمعنوية كثيرة جدًا عند أهل البيان، وكثيرٌ منها مما لا حاجة إليها، وإنما بعض المسائل المتعلق بالمعنوي أو اللفظي هي التي يُعتنى بها، وأما ما عداه فهو من باب [تشخيخ] الكلام فحسب عِلْمُ البَدِيعِ وَهْوَ تَحْسِيْنُ الكَلاَمْ ... بَعْدَ رِعَايَةِ الْوُضُوحِ وَالمَقَامْ

يعني بعد التحقق بالعلمين السابقين، وهما علم المعاني وعلم البيان، (بَعْدَ رِعَايَةِ الْوُضُوحِ) أي وضوح الدلالة، ووضوح الدلالة إنما يكون بتحقيق علم البيان، أي الخلو عن التعقيد المعنوي، وقوله: (بَعْدَ) متعلق بالمصدر تحسن الكلام، (وَهْوَ تَحْسِيْنُ الكَلاَمْ) تحسين، متى يكون المحسِّن؟ (بَعْدَ رِعَايَةِ الْوُضُوحِ)، والمراد برعاية الوضوح المراد بها علم البيان. وعلمنا في ما سبق أن المراد بعلم البيان وكذلك علم المعاني، وكذلك كل العلوم المراد بها علم الرعاية، بأن تراعى بمعنى أنه يُلاحظها ويُطبقها من أجل أن توجد الْمَلَكَة، وأما مجرد حفظ القواعد هذا لا يُسمن ولا يُغني من جوع، بل لا بد من مراعاة هذه القواعد وتطبيقها من أجل أن تحصل له الْمَلَكَة، وحفظ قواعد النحو دون تطبيقها لا يفيد شيئًا، وحفظ قواعد الصرف دون النظر فيها في المفردات لا يفيد شيئًا، كذلك هنا قال: (بَعْدَ رِعَايَةِ الْوُضُوحِ، وَالمَقَامْ) أي وبعد رعاية المقام، أي مقام التخاطُب، بعد رعاية المقام أي مقام التخاطب، بأن يُؤتى بالكلام مطابقًا للحال كما سبق تفصيله، وذلك تنبيهٌ على أن هذه الوجوه إنما تعدٌ محسنِّةً للكلام بعد رعاية الأمرين، وإلا لكان كتعليق الدُّرِّ على أعناق الخنازير، هكذا قيل، كتعليق الدر على أعناق الخنازير فلا يفيد شيئًا، يعني تحسين الكلام على جهة الجناس، السجع .. ونحو ذلك، ثُمَّ الكلام لا يكون مطابقًا للحال ولا يكون مراعًى فيه وضوح الدلالة هذا كما قال: الشراح.

ووجوه تحسين الكلام ضربان، إذًا بعدما عرف لنا علم البديع (وَهْوَ تَحْسِيْنُ الكَلاَمْ) أي المحسنات العلم بها بعد رعاية العلمين السابقين، قال: (ضَرْبَانِ) يعني هو (ضَرْبَانِ)، وضربان هذا خبر مبتدأ محذوف أي وهو (ضَرْبَانِ) أي نوعان، ووجوه تحسين الكلام (ضَرْبَانِ) منها ما يتعلق باللفظ فيكسوه حسنًا وجمالاً وهو (لَفْظيٌّ) كما قال هنا: (لَفْظيٌّ)، هذا إعرابه بدل مفصل من مجملٍ، وهذا أحسن، ويصح أن يكون خبرًا لمبتدأٍ محذوف يعني أولها (لَفْظيٌّ) أو الأول لفظيٌ، يجوز الوجهان، ومتى ما كان اتصال الكلام وحصل به الإعراب فهو مقدم، نوعان (ضَرْبَانِ لَفْظيٌّ) بدل مفصل من مجمل، إذًا هو جملةٌ واحدة، (ضَرْبَانِ) وهو (ضَرْبَانِ لَفْظيٌّ) أي وهو لفظيٌ، أو أولها لفظيٌ صار جملتين، وجعلوا الكلام في جملةٍ واحدة أولى من جعله جملتين. إذًا (ضَرْبَانِ) منها ما يتعلق باللفظ، ولذلك قال: وهو (لَفْظيٌّ) أي راجعٌ إلى تحسين اللفظ أولاً وبالذات، ولا يكون اللفظ مجردًا عن المعنى، لا بد أن يكون له أثرٌ في المعنى، لكن يكون الأثر في المعنى تبعًا لا استقلالاً، بمعنى أنه يُنظر في اللفظ أولاً وبالذات وإن كان بعضها قد يفيد تحسين المعنى، لكن تحسين اللفظ مقصودٌ بالذات، وتحسين المعنى يكون تابعًا له فليس مقصودًا، فلا يفهم طالبٌ من كون التحسين هنا وقع باللفظ أنه لا علاقة له بالمعنى البتة، لا، ليس هذا المراد، وإنما المراد أن بعض المحسنات اللفظية القصد الأول فيها هو اللفظ ولا شك أنه قد يؤثر في المعنى فتأثيره في المعنى لا يخرجه عن كونه لفظيًا ويجعله من القسم الثاني، بل هو لفظيٌ لأن المراعى فيه أولاً وبالذات هو اللفظ. أي راجع إلى تحسين اللفظ أولاً وبالذات، أي وإن كان بعضها قد يفيد تحسين المعنى لكن تحسين اللفظ مقصودٌ بالذات، ومعنوي الذي أشار إليه في البيت الثالث (وَالمَعْنَوِيُّ) أي القسم الثاني معنوي، ومن اسمه نسبةً إلى المعنى، لفظيٌّ الياء هذه ياء النسبة، ومعنويٌّ هذه الياء ياء النسبة. إذًا هو منسوبٌ إلى المعنى، والقول فيه كالقول في سابقه، أن يكون الأصل المراعى فيه هو المعنى، وقد يفيد في اللفظ. إذًا القصد الأول هو المعنى، (وَالمَعْنَوِيُّ) أي راجع إلى المعنى أولاً وبالذات وإن كان قد يفيد بعضها تحسين اللفظ أيضًا، وقدَّم اللفظ هنا لَفْظيٌّ كَتَجْنيسٍ وَرَدْ ... وَسَجَعٍ أَوْ قَلْبٍ وَتَشْرِيعٍ وَرَدْ

قدَّمَ اللفظي على المعنوي لطول الكلام على المعنوي لأنه لم يذكر في اللفظي إلا خمسة فقط، اثنين في الشطر الأول التجنيس والرد، والسجع والقلب والتشريع هذه خمسة أنواع من اللفظيّ، ثم ذكر المعنويّ .. إلى آخر الأبيات، فطُول الكلام في المعنوي لذلك أَخَّرَهُ وعنده قاعدة أن الذي يقل الكلام فيه يُقَدَّمُ على ما يطول الكلام فيه، ولا يلزم أن يكون أهم منه لأن المعنوي أهم، فلما أَخَّرَهُ؟ نقول: أَخَّرَهُ لطول الكلام فيه. قال: (كَتَجْنيسٍ)، (لَفْظيٌّ كَتَجْنيسٍ)، (كَتَجْنيسٍ) إيش إعرابه؟ وذلك (كَتَجْنيسٍ) يعني يكون خبر مبتدأ محذوف، (لَفْظيٌّ، (ضَرْبَانِ) وهو (لَفْظيٌّ)، أولهما (لَفْظيٌّ كَتَجْنيسٍ)، وذلك أي اللفظي (كَتَجْنيسٍ) إذًا خبرٌ لمبتدأ محذوف، وما بعده يكون معطوفًا على تجنيسٍ بالخفض، (كَتَجْنيسٍ) بين اللفظين ويسمى جناسًا ومجانسةً، يعني التجنيس يسمى جناسًا ومجانسةً (كَتَجْنيسٍ) وهو تشابه اللفظين في التلفظ، يعني في النطق، بأن يكونا في اللفظ لفظًا واحدًا هذا نوعٌ وهو التام، وقد يكون ثم نقصٌ وتغايرٌ كما سيأتي وهذا ما يسمى بالناقص، ثم الجناس. إذًا عرفنا الجناس أنه تشابه اللفظين في التلفظ، ثم الجناس نوعان تامٌ وغير تام. يقابل التام الناقص، فالتام المراد به أن يتفقا في أنواع الحروف وأعدادها وهيئاتها وترتيبها هذه كلها أربعة أشياء، لا بد أن يتفق اللفظان في هذه الأمور الأربعة، ثم إن كان من نوعٍ واحدٍ كاسمين سُمِّيَ متماثلاً، مثاله قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] الساعة غير ساعة، إذًا ساعة وساعة اتفقا في اللفظ [تشابه اللفظين] تشابه اللفظان في الحروف وعددها وترتيبها ونوعها، نقول: هذا الساعة الأولى المراد بها القيامة، {غَيْرَ سَاعَةٍ} المراد بها الجزء من الزمن، فاتحدا في اللفظ واختلفا في المعنى، ولا يمكن أن يكون متحدين في المعنى لصار مشتركًا، فحينئذٍ نقول: إن كان من نوعٍ واحدٍ كاسمين سميت متماثلة، وإن كان من نوعين سُمِّيَ مُسْتَوْفَى، ومنه قوله: ما مات من كرم الزمان فإنه ... يحيا لدى يحيى بن عبد الله يحيى لدى يحيى، يحيى الأولى فعلٌ، ويحيى الثانية اسمٌ، إذًا اتفقا في اللفظ واختلفا في النوع، الأول فعل والثاني اسمٌ يُسمى ماذا؟ جِنَاسًا تامًا مُسْتَوْفَى، والساعة وساعة يسمى جناسًا تاماً متماثلاً. ومن الجناس التام المركب وهو ما كان أحد لفظيه مركبًا، يعني المضاف والمضاف إليه والكلمة الثانية تكون مفردة، فإن اتفقا في الخط سُمِّيَ متشابهًا كقوله: إذا مَلَكَ لم يكن ذَا هبة فدَعْهُ فدولته ذاهبة [ها ها]، إذا ملك لم يكن ذا هبةٍ يعني صاحب هبة، ذا هبةِ، فدعه فدولته ذاهبة، لاحظتم؟ ذا هبةٍ في اللفظ والخط، واللفظ لا شك أنهما مختلفان، وأما من حيث الكتابة ذا هبة، ذاهبة متفقان هذا يسمى مركبًا لأن أحد اللفظين مضاف ومضاف إليه وهو قوله: ذا هبة، ذا هبةٍ يعني عطاء، وإن لم يتفقا في الخط سُمِّيَ مفروقًا كقوله: كلكم قد أخذ الجام ولا جام لنا ... ما الذي ضر مدير الجامِ لو جاملنا

جام لنا جاملنا اتفقا في بعض الحروف واختلفا في الخط سُمِّيَ ماذا؟ مفروقًا هذا يسمى جناسًا تامًا مركبًا مفروقًا، وغير التام يقابل التام الناقص وهو ما اختلف اللفظان فيه نحو قوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 29، 30]. زيد {الْمَسَاقُ} فيه الميم مساق هو الساق وزيد فيه الميم اختلفا في بعض الحروف هذا يُسمّى جناسًا ناقصًا غير تام، هذا ما يتعلق بقوله: (كَتَجْنيسٍ وَرَدْ) يعني وردٍّ، هذا النوع الثاني من اللفظ، والمراد به رد العجُز على الصدر، ويقع في النظم والشعر، ففي النثر أن يَجعل أو يُجعل أحد اللفظين في أول الفقرة والآخر في آخرها، يعني يتفقان يجمع اللفظين اشتقاقٌ أو شبه الاشتقاق، تقع إحدى اللفظتين في أول الكلام، واللفظة الآخرة التي تجامعها في الاشتقاق في آخر الكلام: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]. {وَتَخْشَى}، {أَن تَخْشَاهُ} وقعت تخشى وتخشى في أول الكلام وفي آخره يقال فيه: رد الْعَجُز على الصدر، رد العجُز يعني: الأخير آخر الفقرة على أوله، وفي الشعر أن يكون أحدهما في آخر البيت والآخر قبله كقوله: سريعٌ إلى ابن العم يلطم وجهه ... وليس إلى داعٍ ندا بسريعٍ سريعٌ، وليس إلى داعٍ ندا بسريعٍ، إذًا اتفقا في أول البيت وفي آخره. (وَسَجَعٍ) أي ومن اللفظ ما يُسمى بالسجع: وهو توافق الفاصلتين من النثر على حرفٍ واحدٍ، يعني يتفقا في آخر فاصلتين كل واحدةٍ من الكلمتين تختم بحرفٍ متحد، توافق الفاصلتين من النثر على حرفٍ واحد. قال السكاكي: هو في النثر كالقافية في الشعر. كالقافية هو كون آخر البيت على حرفٍ واحد وهو ثلاثةُ أضرب، ثلاثة أنواع السجع - ويهتم به كثير من البيانيين بل بعضهم ألف فيه رسائل صغيرة -: الأول: المطرف. ما يسمى بالمطرف إن كان مختلفين في الوزن نحو قوله تعالى: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح: 13، 14]. {وَقَاراً} فَعَالاً {أَطْوَاراً} أَفْعَالاً اتفقا واختلفا، اتفقا في الحرف الأخير لكنهما اختلفا في الوزن. والثاني: المرصع: وهو ما استوت فواصله في الوزن والتقفية، وكان كل ما في إحدى الفقرتين أو جله من الألفاظ مثل ما يقابله من الأخرى. يعني يتقابلان في كل كلمة يقابلها كلمةٌ أخرى، يعني لا تكون إحدى الجملتين أطول بكثير من الجملة السابقة. مثاله قول الحريري: فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه ... ويقرع الأسماع بزوجر وعظه هنا الوزن المراد به الوزن العروضي يعني: ما يقابل الحركة بالحركة، والساكن بالساكن. فهو يَطْبَعُ الأَسْجَاعَ، يَقْرَعُ الأَسْمَاعَ. بِجَوَاهِرِ لَفْظِهِ، بِزَوَاجِرِ وَعْظِهِ اتفقا أو لا؟ اتفقا، إذًا يُسمى ماذا؟ يُسمى مُرَصَّعًا استوت فواصله، لو حصل تغيير يسير في الثانية ولا يكون كثيرًا لا يضر فيبقى على حاله.

الثالث: المتوازي: وهو أن تستوي الفاصلتان في اللفظ ولم توافق سائر ألفاظ إحداهما ولا جل ما يقابلها من أختها في الوزن والتقفية، بمعنى أن آخر الكلمة تكون متحدة لكن الجل يختلف، ما احترزنا به عن الْمُرَصّع هو الْمُتَوَازِي، قلنا: المرصع استوت الفواصل وكان كل ما في إحدى الْفِقْرَتَيْنِ أو جُلّه من الألفاظ مثل الأخرى، إن نقص عنه بأن كان يسيرًا فهو داخلٌ في المرصع، إن كان كثيرًا فهو المتوزاي، ولذلك كل ما لم يكن مطرفًا أو مرصعًا فهو المتوازي، يعني كـ ما لا يقبل علامة الاسم ولا الفعل حينئذٍ يكون من المتوازي أن تستوي الفاصلتان في اللفظ ولم توافق سائر ألفاظ إحداهما ولا جُلّ ما يقابلها من أختها في الوزن والتقفية. نحو قوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ}. [الغاشية 13، 14] اتفق الفاصلتان في الوزن والتقفية دون غيرهما لاختلاف سرر، وأكواب فهي متفقة في الوزن {سُرُرٌ}، {وَأَكْوَابٌ} مختلفة في كل من الوزن والتقفية هذا ما يتعلق بالسجع بأنواعه الثلاثة. (أَوْ قَلْبٍ) أي من اللفظ القلب، و (أَوْ) هنا بمعنى الواو، وهو قلب حروف الكلام على ترتيب بحيث لو افتتح من آخره لأوله لخرج النظم الأول بعينه، وهذا لا فائدة فيه، يعني تقرأ الكلام من أوله إلى آخره وتعكسه هو بعينه: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] إذا قرأت بالعكس ربك فكبر، وما الفائدة {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} [الأنبياء: 33] سلس، سلس تأتي بالعكس، ما الفائدة؟ على كلٍّ سمَّوْهُ قلبًا (وَتَشْرِيعٍ وَرَدْ) أي جاء ويسمى التوشيح والقافيتين، وهو بناء البيت على قافيتين يصح المعنى عند الوقوف على كلٍ منهما، يعني لك أن تقف في بعض قوافي، وينتقل إما أنه ينتقل إلى تفعيلاتٍ أخرى في الوزن نفسه في البحر نفسه أو ينتقل إلى بحرٍ آخر، حينئذٍ نقول: هذا يسمى توشيح. يا خاطب الدنيا الدنية إنها ... شرك الردى وقرارة الأكدار دارٌ متى أضحكت في يومها ... أبكت غدًا بُعْدًا لها من دار لو وقفت عند قوله: يا خاطب الدنيا الدنية إنها شرك الردى، دارٌ متى أضحكت في يومها أبكت غدًا. صار بيتًا آخر، [وأما المعنوي]، هذا ما يتعلق باللفظ وذكر فيه خمسًا: التجنيس. ورد العجُز على الصدر. والسجع. والقلب. والتشريع.

(وَالمَعْنَوِيُّ) من وجوه تحسين الكلام أشار إلى كثير منها لأنها أهم، وفيها ما لا فائدة فيه كذلك، فقال: (وَالمَعْنَوِيُّ وَهْوَ) أي المعنوي ... (كالتَّسْهِيمِ) وذلك كالتسهيم، والمعنوي كالتسهيم، لو قال: كذلك لصار كالتسهيم خبر المعنوي لكن لما قال: (وَهْوَ) المعنوي عطفٌ على ... (لَفْظيٌّ) والمعطوف على المرفوع مرفوع، وهو أي المعنوي هذا مبتدأ ... (كالتَّسْهِيمِ) خبر لـ (هْوَ). (كالتَّسْهِيمِ) ويسمى الإرصاد عند القزويني: وهو أن يجعل قبل العجُز من الْفِقْرة وهي من النثر بمنزلة البيت من الشعر، أو البيت ما يدل عليه إذا عرف الرَّوْيّ يعني يجعل في أول الكلام ما يدل على آخره لكن بشرط أن يعرف الرَّوْي يعني الحرف الأخير، تعرف أن هذه مختومًا بالنون حينئذٍ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. [العنكبوت: 40] يعني أنت تكمل الآية إذا علمت أولها هذا يسمى تسهيمًا. ومنه قوله: إذا لم تستطع شيئًا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع هذا يسمى تسهيمًا أن يُجْعَلَ قبل العجُز قبل ختام الكلام ما يدل على الخاتمة بشرط أن يُعْرَفَ الرَّوْي بأي شيءٍ كان، والجمع وهو أن يُجْمَعَ بين متعددٍ في حكمٍ، تأتي بمتعددٍ وتحكم عليهم بحكمٍ واحدٍ كقوله تعالى: ... {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] حكم على ماذا؟ على متعددٍ، إن الشباب والفراغ والْجِدَى مفسدةٌ. حكم على متعددٍ بحكمٍ واحدٍ مفسدةٌ للمرء أَيَّ مفسدة (وَالتَّفْرِيقِ) وهو إيقاع تباين بين أمرين في المدح أو غيره، يعني تأتي بتقابل بين أمرين كلٌّ منهما له حكمه الخاص فتفصل كاسمه (التَّفْرِيقِ) تَفْرِق بينهما تذكر الأول وحكمه والثاني وحكمه: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12] فصل بين متباينين وبَين حكم كلٍّ منهما، وهذا مثال غير المدح وفي المدح كقول الشاعر: ما نوال الغمام وقت ربيعٍ ... كنوال الأمير يوم سخاء فنوال الأمير بدرة عينٍ ... ونوال الغمام قطر ماء ما نوال: أي الجود. الغمام: السحاب. وقت ربيعٍ: يعني زمن سلطان نزول الغيث، كنوال الأمير يوم سخاء: يعني يقارن بين عطاء السحاب وبين عطاء الأمير، يقول: الأمير يعطي درة عين وهذه كناية عن عشرة آلاف درهم، ونوال الغمام قطر ماء قد لا يستفيد منها شيء فيقارن بين الأمرين، فجعل هذا حكمًا وهذا حكمًا، وقد أوقع التباين بين نَوَالَيْنِ. (وَالتَّقْسِيمِ) وهو ذِكْر متعددٍ، ثم إضافة ما لكلٍّ إليه على التعيين قول الشاعر: ولا يقيم على ضيمٍ يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الذل مربوط برمته ... وهذا يشج فلا يرثِي له أحد قسم ثم أبكى هذا على ذاك، [والقول بالموجب والقول بالموجب نعم]

والقول بالْمُوجِبِ، بالْمُوجَبِ يجوز فيه الوجهان. وهذا يعتني به الأصوليون أكثر، وهو ضربان، القول بالموجِب ضربان: أحدهما أن تقع صفة في كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم فتثبتها لغيره من غير تعرض لثبوته له وانتفائه عنه. يعني يتكلم متكلم فيأتي بصفة، ثم يُعلِّق عليها حكمًا يأتي المخاطَب والمتكلِّم الآخر فيأخذ هذه الصفة ويعلق عليها حكمًا آخر من غير تعرض للحكم الذي أثبته المقابل، لا بإثبات ولا بنفي، والمثال يوضح {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ} انظر عندنا حكم وعندنا وصف {الْأَعَزُّ} المتصف بالعزة رتب عليه حكم ما هو؟ الإخراج - انتبه شيئين - صفة وإخراج، {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} أخذ ماذا؟ الوصف، وسكت عن الحكم الذي هو الإخراج. قال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} حينئذ هنا ماذا صنع؟ أخذ الصفة رُتِّبَ عليها حكم في كلام المنافق، ثم أثبتها للمقابل وهم المؤمنون لله ورسوله والمؤمنون، وسكت عن قضية الإخراج، لكن اللفظ يدل عليها باعتراف المنافق، لأن هذا أمر مُسَلَّم وهو أن الأعز يخرج الأذل، ولكن ماذا صنعوا؟ ادَّعُوا العزة فالحكم كما هم، فالأعز هو الذي سيخرج الأذل، وثبتت العزة لله ورسوله إذا هم الذين سيخرجون المنافقين، فالأعز صفة وقعت في كلام المنافقين كناية عن فريقهم، والأذل كناية عن المؤمنين، وقد أثبت المنافقون لفريقهم إخراج المؤمنين من المدينة، فأثبت الله تعالى تلك الصفة التي عَلَّقُوا عليها الحكم لغير فريقهم، وهو الله ورسوله والمؤمنون ردًّا عليهم ولم يتعرض لثبوت حكم الإخراج لمن أثبت لهم العزة ولا لنفيه عنهم، لأن الغرض هو إبطال دعواهم، إثبات الحكم المعلق على تلك الصفة لأنفسهم، بل اللفظ وإن سكت الرب جل وعلا عن إثبات الحكم إلا أنه دالّ عليه باعتراف المنافقين، لأنهم رتبوا حكم الإخراج على من ثبتت لهم العزة، وأثبتها الله تعالى له ولرسوله وللمؤمنين، إذًا هم الذين سيخرجون المنافقين من المدينة. الثاني: حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلقه، وهذا ما يُسَمَّى بالأسلوب الحكيم، ومرّ معنا كما في قصة القبعثر مع الحجاج: (لأحملنك على الأدهم). قال: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب إلى آخر ما مرّ معنا. (وَالتَّجْرِيدِ). (وَالتَّجْرِيدِ) هذا الذي مر معنا أين؟ الأمس أين؟ أسأل بأين، .. نعم قلنا: مشاركة أمر لآخر تعريف التشبيه: مشاركة أمر لآخر في معنًى لا على وجه الاستعارة التحقيقية ولا على وجه الاستعارة بالكناية، وعرفنا المراد بالنوعين ولا على وجه (التَّجْرِيدِ)، وهو الذي معنا الآن.

(وَالتَّجْرِيدِ) وهو أن يُنْتَزَعَ من أمر ذي صفة آخر مثله فيها مبالغةً في كمالها فيه، يعني ينتزع يتخيل شيئًا مأخوذ من شيء آخر فيخاطبه أو يُعَلِّق عليه حكمًا أو نحو ذلك، وهو أقسام منها ما يكون بـ (من) التجريدية، هي (من) الابتدائية ويسمونها في هذا الموضع التجريدية نحو قولهم: لي من فلان صديق حميم. هو عينه. لي من زيد صديق حميم. كأنه أخذ من زيد شخصًا آخر ووصفه بكون صديق حميم هو عينه، يسمى ماذا؟ ويسمى تجريدًا، أن ينتزع من أمر من زيد مثلاً ذي صفة آخر مثله فيها، إذًا: لي من فلان صديق حميم. هو بعينه. أي بلغ من الصداقة حدًّا صح معه أن يستخلص منه آخر مثله فيها مبالغة في كمالها فيه. ومنها ما يكون بالباء التجريدية وهي الباء التي تفيد معنى مع. ومنها ما يكون بالباء التجريدية الداخلة على المنتزع منه، نحو قولهم: لأن سئلت فلانًا لتسألن به البحر. بالغ في اتصافه بالسماحة حتى انتزع منه بحرًا في السماحة، لتسألن بحرًا يعني انتزع من زيد الذي لا يَرُدّ أحدًا انتزع منه بحرًا، حينئذ صوره بصورة أخرى، وعندنا شيئان زيد من الناس وبحر هل هما متغايران؟ لا، هما شيء واحد، ومنها ما يكون بالفي الداخلة على المنتزع منه، نحو قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} [فصلت: 28] {لَهُمْ فِيهَا} أي في جهنم، هي دار الخلد {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} هذا مبالغة في شدة ما يكون لهم من الهول. ومنها ما يكون من غير توسط حرف نحو: ولأن بقيت لأرحلن بغزوة ... تحوي الغنائم أو يموت كريم هو نفسه استخلص من نفسه رجلاً ووصفه بكونه كريمًا يعني نفسه انتزع من نفسه كريمًا مبالغة في كرمه. ومنها مخاطبة الإنسان نفسه كقوله: لا خيل عندك تهديها ولا مال. لا خيل عندك يخاطب نفسه لكنه استخلص من نفسه شخصًا آخر، يعني يستحضر أنه شخص آخر قد يعاتبه قد يمدحه قد، قد .. إلى آخره، فانتزع من نفسه شخصًا آخر مثله في فقد الخيل والمال. (وَالجَدِّ) أي قصد في قالب الهزل، يعني يأتي بكلام يريد به (وَالجَدِّ) لكنه يأتي بصورة الهزل، هذا يُسمى ماذا؟ يُسمَّى جَدًّا في قالب الهزل والناس يستريحون لهذا، كقوله: إذا ما تميمي أتاك مفاخرًا ** فقل: [عِدّ] أو [عُدّ] عن ذا كيف أكلك للضب؟ إذا جاء مفاخر ردَّه إلى أمر آخر. (وَالطِّبَاقِ) ويُسمَّى المطابقة والتضاد والتكافؤ، وهو أي الطباق الجمع بين متقابلين في الجملة، أي سواء كان تقابل ضدَّيْنِ أو نقيضين أو عَدَمٍ ومَلَكَة، ويكون بلفظين من نوعٍ وهما اسمان، {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18]، {أَيْقَاظاً}، {رُقُودٌ}، تقابلاَ ضدّان، يعني النوم واليقظة لا يجتمعان، أو فعلين نحو {يُحْيِي وَيُمِيتُ} تقابلا أو لا؟ مقابلة بين ضدين، الإحياء والإماتة متقابلان، أو حرفين {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] لها وعليها متقابلان. إذًا التقابل يقع بين الاسمين، وبين الفعلين، وبين الحرفين. أو من نوعين نحو {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] {مَيْتاً} هذا اسم {فَأَحْيَيْنَاهُ} هذا فعل. والطباق قسمان:

طباق الإيجاب يعني الثبوت، والأمثلة التي سبقت كلها في طباق الإيجاب. وطباق السلب: وهو الجمع بين فعلين من نوع واحد، أحدهما مثبت والآخر منفي، أو أحدهما أمر والآخر نهي. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 6، 7]، {لَا يَعْلَمُونَ}، {يَعْلَمُونَ} جمع بين فعل واحدٍ، تارة نُفِي وتارة مُثْبَت، {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}، {فَلاَ تَخْشَوُاْ} هذا نهيّ {وَاخْشَوْنِ}. إذًا حصل هنا الجمع بين فعلين من نوع واحد أحدهما مثبت والآخر منفي، {لَا يَعْلَمُونَ}، {يَعْلَمُونَ} أو أحدهما أمرٌ والآخر نهيّ، هذا يُسمّى طباقًا. والتأكيد، والتأكيد أي تأكيد المدح بما يُشبه الذّمّ، أو العكس تأكيد الذّمِّ بما يشبه المدح. الأول الذي هو تأكيد المدح بما يُشبه الذّم أفضله - هو نوعان - أفضله وأحسنه وأبلغه أن يُستثنى من صفة ذم منفية عن شيء صفة مدح بتقدير دخولها فيها، يعني يأتي لفظ عام: ولا عيب. العيب صفة مدح أو ذَمّ؟ صفة ذَمّ، هنا مثبتة أو منفية؟ منفية، ولا عيب، إذًا هذا أولاً، صفة ذَمٍّ منفية، غير أن سيوفهم استثناء أو لا؟ أراد أن يستثني مما هو عيب، أليس كذلك؟ غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب، يعني إن كان فلول السيوف الذي هو كسرها يعني انكسرت من شدة الحرب والعزو حينئذ إن كان هذا عيب فهو داخل في قوله: ولا عيب. وهل هو داخل؟ الجواب: لا. إذا نقول: هذا يعتبر تأكيدًا بما يشبه الذّمّ لماذا؟ لأنه لما قال: ولا عيب فيهم غير، الأُذُن تنتظر ماذا؟ استثناء عيب قد وصفوا به. فلما جاء ما ذكره، هل هو عيب أم لا؟ يعني لو كان فيهم عيب لكان هذا، ولكنه ليس بعيب. أي إن كان فلول السيف عيبًا فأثبت شيئًا منه على تقدير كونه منه وهو محال، يعني قَدَّرَ أن ما بعد غير داخل في العيب وهو محال، لأن فلول السيف بقراع الكتائب هذا مدح، بل هو غاية المدح، فحينئذٍ قَدَّرَ كونه عيبًا وهذا محال، فهو في المعنى تعليق بالمحال، والمعلق بالمحال محال. والتأكيد فيه من أين جاء التأكيد هنا؟ جاء من جهة أنه كدعوى الشيء ببينة، والأصل في مطلق الاستثناء الاتصال فذكر أداته قبل ذِكْر ما بعدها يُوهِمُ إِخْرَاجَ شيء مما قبلها، فإذا وليها صفة مدح جاء التأكيد، لأنه إذا قال: ولا عيب فيهم غير جاءت الأداة. فالأصل أن الأُذُن تنتظر صفة ذَمٍّ، فإذا به قد جاء بصفة مدح، حينئذٍ جاء التأكيد، إذا لا عيب فيهم ثم أَكَّدَهُ بصفة مدح لو كانت عيبًا لكان هو العيب فيه.

والثاني تأكيد الذم بما يشبه المدح عكس السابق أن يُستثنى من صفة مدح منفية عن الشيء صفة ذمّ بتقدير دخولها فيه كالسابق، كقولك: فلان لا خير فيه إلا أنه يُسيء إلى من أحسن إليه. إلا، لا خير فيه إلا، الأُذُن تنتظر ماذا؟ صفة مدح لكنه قال: إلا أنه يُسيء. زاد الطين بِلَّه، فجاء بصفة ذم، هذا يُسمَّى ماذا؟ يُسمَّى تأكيدًا للذم بما يُشبه المدح، بكيف أشبه المدح؟ لأنه جاء بصفة الذم منفية ثم جاء بأداة الاستثناء، والأصل الاستثناء أنه متصل، إذا سيُخْرِج شيئًا، لكنه ما أخرج وإنما زاده تأكيدًا. والتأكيد من جهة التعليق بالمحال لأن المعنى في قولك: فلان لا خير فيه .. إلى آخره إن كأنه الإساءة المذكورة خيرًا فأُثبتت أو أَثبت شيء منه على تقدير كونها منه، وكونها منه محال فإثبات شيء من الخيل محال، ومن جهة أن الأصل في الاستثناء الاتصال فذكر أداته قبل ذكر ما بعده يوهم إخراج شيء مما قبلها، فإذا وليها صفة ذمّ جاء التأكيد، والأمر واضح، (وَالْعَكْسِ)، والعكسِ عطف على تجنيس، والعكس بالخفض، وهو أن يُقَدّم في الكلام جزء ثُمَّ يؤخر، نحو عادات السادات، سادات العادات هذا مثاله المشهور، عادات السادات، السادات العادات {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ... [الممتحنة: 10] عكسه، يأتي بالعكس. (وَالرُّجُوعِ) وهو العود إلى الكلام السابق بالنقض لنكتة لفائدة، نحو قوله: قف بالديار التي لم يُعْفِهَا الْقِدَمُ ... بلى وغَيَّرَهَا الأرواح والدِّيَمُ أخبر أولاً أن هذه الديار لم يُبْلِها تَقَادم الْعَهْدِ يعني قِفْ بالديار التي لم يعفها القدم، يعني لم يزلها القدم باقية كما هي، ثم قال: بلى، رجع نقض الحكم السابق، وغيرها الأرواح يعني الرياح، والدِّيَمُ يعني القطر من السماء، ثم نقض هذا الخبر بقوله: بلى وغيرها الأرواح. أي هبوبها، والدِّيم: أي القطر، والنكتة هنا إظهار التحيُّرِ كأنه أخبر أولاً بما لا تحقق له، ثم لما أفاق بعض إفاقة نقض الكلام السابق قائلاً: بل بلى عفاها القدم غير الأرواح والديم، إذًا يخبر أولاً ثم يأتي بما ينقضه آخرًا. (وَالإِيهَامِ) ويسمى التورية: وهي أن يُذكر لفظ له معنيان قريب وبعيد، ويراد البعيد. يأتي بلفظ يُراد به قريب وبعيد، يعني يطلق على شيء قريب، ويطلق على بنفس الوقت على شيء بعيد، يطلقه المتكلم يظن المخاطب أنه أراد القريب وهو يريد البعيد، مما أنتما؟ «من ماء». أراد به قرية ماء أو تسمى ماء، السائل فَهِمَ أنه اسم قرية وأراد به المتكلم أنه من ماء مهين، وبهذا سميت بالإيهام لاشتمالها على معنى القريب أيضًا، واتفقت كتب البلاغة هنا إذا أرادوا أن يستدلوا على التورية بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {اسْتَوَى} يعني استولى، وهذا تحريف للنصوص وليس من الإيهام في شيء، بل هو من أحكم المحكم كما قال ابن القيم رحمه الله. فهذا المثال باطل من أصله، حتى السيوطي أورده في شرح ((عقود الجمان)).

(وَاللَّفِّ وَالنَشْرِ). (اللَّفِّ وَالنَشْرِ) متقابلان، وهو ذكر متعدد على التفصيل والإجمال، يعني يُذكر أولاً متعدد، إما أن يفصله كذا وكذا، وإما أن يُجْمِلَهُ، ثُمَّ ذُكر ما لكلٍّ من غير تعيين ثقة بأن السامع يردّه إليه، فالأول ضربان الذي هو المفصل لأن النشر أما على الترتيب ترتيب اللفّ نحو قوله تعالى: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [القصص: 73] جمع بين أمرين متعددين {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} الأول للأول، والثاني للثاني، أليس كذلك؟ هذا يسمى لفًّا ونشرًا مرتبًا، يعني ذكر متعددين على الترتيب، ثم ذكر شيئين الأول يرجع إلى الأول والثاني للثاني. كقوله: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} يرجع إلى {اللَّيْلَ}، {وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} يرجع إلى {وَالنَّهَارَ}. وإما على غير ترتيبه كقوله: كيف أسلوا وأنتِ حقفٌ وغصنٌ ... وغزالٌ لحظًا وقدًا وردفًا الحقفُ هو الرمل المتراكم، وغصن وغزال، لحظًا وقدًّا وردفًا، لحظًا للغزال، وقدًّا للغصن، وردفًا للحقف، يعني بالعكس، هذا يُسمى غير مرتب الذي يُسمى بالْمُشَوَّش، وهنا معكوس الترتيب. والثاني هنا ذكر متعدّدًا على جهة التفصيل يعني الأول اللفّ ثم النشر، اللفّ أولاً قد يُلَفّ الشيء متعدّدًا الليل والنهار، حقف غصن غزال، ثم يأتي النشر، قد يكون الأول مجملاً لكنه متضمن لمتعدّد، كقوله تعالى: {وَقَالُواْ} الواو هنا في اللفظ هي شيء واحد لكنها دالة على متعدّد لأن المقصود به اليهود والنصارى {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} ... [البقرة: 111] تقدير الكلام وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، هذا يُسمَّى لفًّا ونشرًا، واللفّ هنا مجمل يعني الذي ذُكر أولاً مجمل لأنه دلّ عليه بالواو، أي: وقالت اليهود: لن دخل الجنة إلا من كان هودًا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى. فَلَفَّ بين الفريقين لعدم الإلباس الواو والثقة بأن السامع يردّ إلى كل فريق مقوله، يعني لا يحصل اللبس، لا يأتي آتٍ يقول: قالت النصارى لا يدخل الجنة إلا من كان هودًا. وقالت اليهود: لا يدخل الجنة إلا من كان نصارى؟ لا، لماذا؟ لما بينهما من عداوة، كل منهما يَدَّعِي أنه في الجنة ومقابله في النار، إذًا لا يمكن أن يختلف كأن وجه التسمية هنا الأول باللفّ أنه طوى فيه حكمه، لأنه اشتمل عليه من غير تصريح به، ثُمَّ لما صرَّح به في الثاني كأنه نشر ما كان مطويًّا فسُمِّيَ نَشْرًا. (وَالاِسْتِخْدَامِ) استخدام طيب هذا مفيد جدًا في التفسير، وهو أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما منصوص، ثم يأتي بضمير يعود على أحد المعنَيَيْنِ، يعني يأتي بلفظ له معنيان ثم يأتي ضمير يعود على أحد المعنَيَيْنِ، فالأول كقوله:

إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه، إذا نزل السماء رعيناه، أراد بالسماء إذا نزل السماء يعني نزل المطر، ورعيناه أراد به النبات، السماء يطلق ويراد به القطر ويطلق ويراد به النبات لكنه مجاز، أراد بالسماء الغيث، وبضميره في رعيناه النبات، وكلا المعنيين مجاز. والثاني نحو ماذا؟ قوله: أتينا غيثًا فرعيناه. أتينا غيثًا يعني نباتًا فرعيناه أي النبات، الأول مجازي والثاني حقيقي [نعم]. إذًا الاستخدام يكون على نوعين: إيراد لفظ له معنيان، الأول يراد به معنى ثم بضميره معنى آخر، أو يراد بأحد ضميريه أحدهما ثم بالآخر الآخر على التفصيل .. . (وَالسَّوْقِ) أي سوق معلومٍ مساق غيره، وهو ما يسمى بتجاهل العارف لنكتة كالمبالغة في المدح، يعني كأنه ما يعرف ويأتي بسلسال أو بسؤل أو نحو ذلك: ألمع برق سرى ضوء مصباح ... أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي كأنه ما يدري، فيستفسر ألمع برق؟ يعني ما يدري هل هذه الابتسامة التي وقعت هل هي لمع برق؟ أم ضوء مصباح؟ أم هي ابتسامة؟ هو يدري أنها ابتسامة، لكن أراد أن يبالغ في المدح فيأتي بهذا البيت، وكقوله: ليلاي منكنّ أم ليلى من البشر وما أدري ولست أُخال أدري أقوم آل حصن أم نساء. وهم رجال، يدري. (وَالتَّوْجِيهِ)، (وَالتَّوْجِيهِ) وهو إيراد الكلام محتمل لوجهين مختلفين كقول من قال لأعور: ليت عينيه سواء، ليت عينيه سواء هذا يحتمل، يحتمل أنه أراد أن تكون الصحيح ها كأختها فيصير دعاء عليه ليت عينيه سواء، ويحتمل أن تكون العوراء كأختها الصحيحة فحينئذٍ يكون دعاء له، يُسمى ماذا هذا؟ التوجيه: إيراد الكلام محتمل لوجهين مختلفين والسامع على حسب نيته. (وَالتَّوْفِيقِ). التوفيق هذا يسمى الموافقة والتناسب والتواقيع أيضًا، ويسمى مراعاة النظير: وهو جمع أمر وما يناسبه لا بالتضاد، يعني يجتمع أو يعطف شيئًا على شيء بين متناسبين بينهما مناسبة، لكن لا يكون بينهما مضادة {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} ... [الرحمن: 5 - 6] إذا بينهما .. النجم هنا النبات الذي لا ساق له، والشجر معلوم الذي له ساق، هنا متناسبان الشمس والقمر كل منهما كوكب الأول يكون مضيئًا في النهار، والثاني يكون مضيئًا في الليل ... {بِحُسْبَانٍ} جمع بينهما، والبحث وعَبَّرَ عنه القزويني بالمذهب الكلامي يسمى المذهب الكلامي البحث: وهو إيراد حجة للمطلوب على مذهب أهل البحث. يعني على طريقة أهل البحث، يسمونهم أهل الكلام بأن تكون بعد تسليم المقدمات مستلزمة للمطلوب، يعني تطبيقًا للقياس الذي مرَّ معنا: إِنَّ القِياسَ مِنْ قَضايا صُوِّرا ... مُسْتَلْزِماً بِالذَّاتِ قَوْلاً آخَرا

هو الذي يعنونه هنا، نحو قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فلم تفسدا فدل على أنه لا آلهة، واضح؟ واللازم وهو الفساد أي الخروج عن نظام منتفٍ، بدليل الواقع، فالملزوم وهو تعدُّد الآلهة كذلك منتفٍ، والتعليل أي وحسن التعليل: وهو أن يُدَّعَى لوصف علة مناسبة له باعتبار لطيفٍ غير حقيقي، يعني يأتي بفعل ما ويُعَلِّل لذلك الفعل بعلة مناسبة، لكنها غير حقيقية مناسبة عندهم قد تكون ممكنة وقد لا تكون ممكنة، كقول الشاعر: ما به قتل أعاديه ولكن ... يتقي إخلاف ما ترجو الذئابُ هذا من كرمه، ما به قتل أعاديه، هو ما يقتل الأعداء لكن لما كان قتل الأعداء إذا ماتوا جاءت الذئاب أكلت، لا يُرد أن يخيب الذئاب إذا سيقتل أعاديه [ها ها]. فإن قتل الأعداء في الغالب لدفع مضرتهم لا لما ذُكر من أن طبيعة الكرم غلبته، ومحبة صدق رجاء الراجين بعثته على قتل أعدائه لِمَا عُلِمَ من أنه إذا توجه للحرب صارت الذئاب ترجو اتساع الرزق عليها بلحوم من يُقْتَلُ من الأعداء. ما به قتل أعاديه ولكن ... يتقي إخلاف ما ترجو الذئابُ (وَالتَّعْليقِ). (وَالتَّعْليقِ): وعَبَّرَ عنه القزويني بالتفريع: وهو أن يُثْبَتَ لِمُتَعَلِّق أمر حكم بعد إثباته لمتعلق له آخر على وجه يُشْعِرُ بالتفريع، يعني يُرتب حكم على شيء، ثم يرتب الحكم عَيْنُه على شيء آخر بطريقة تُشعر أن الثاني فرع عن الأول وليس كذلك، كقوله: أحلامكم لسقام الجهل شافية ** [كما دمائكم] [كما دماؤكم] يجوز الوجهان كما دمائكم تشفي من الْكَلَبِ فَرَّعَ على وصفهم بشفاء أحلامهم عن داء الجهل، ووصفهم بشفاء دمائهم من داء الْكَلَبِ، وليس بلازم يعني ليس هناك تلازم بين كون الدماء تُشفي من الكلب وبين أن الأحلام لسقام الجهل شافية يعني العقول تشفي من الجهل. ثم قال الناظم: (الخَاتِمَةُ: فِي السَّرِقات الشِّعْرِيَّةِ) أي هذه خاتمة في الفن الثالث وهي السرقات الشعرية وما يتصل بها من الاقتباس والتضمين وغير ذلك.

السرقات معلومة لا يحتاج إلى التعريف [ها ها] وهي جمع سرقة، السرقة كما تكون في الأموال تكون في الأفكار، نعم تكون في الأفكار، وهي السرقة هنا أن يأخذ الشاعر كلام شاعر تقدم عليه، واتفق أهل البديع هنا إن كان في الغرض على العموم كالوصف بالشجاعة والسخاء فلا يسمى سرقة، يعني: لو تكلم شاعر ووصف أو مدح الكرم، وجاء متأخر فمدح الكرم ليس عندنا سرقة لماذا؟ لأن الكرم هذا مُشاع ليس لأحد، ومثله في وجه الدلالة المشترك في معرفته لتقرر ذلك في العقول والعادات، كذلك ما يطلق من العبارات لو أطلق حاتمًا على زيد من الناس أطلقه متقدم وأطلقه متأخر لا نقول المتأخر قد أطلق حاتمًا على زيد لكرمه وجوده إذا هذه سرقة، نقول: لا، وجه الدلالة هنا في إطلاق العلم هذا مشاع ليس مختصًا بأحد من الناس لتقرر ذلك في العقول والعادات، وإن لم يشترك الناس في معرفة وجه الدلالة جاز أن يُدَّعَى فيه السبق والزيادة، يعني ما نحكم أن الثاني مما اختص به، يعني هذا التركيب انفرد به المتنبي أو الفرزدق أو جرير هذا التركيب بعينه في الدلالة على شيء ما، وجاء متأخر فإذا به يأتي بالتركيب نفسه، لا نَدَّعِي السرقة إلا إذا علمنا بأن الثاني نص على ذلك، وإذا لم نعلم حينئذ نقول: هذا يشبه ذلك وذاك متقدم، فلازمنا وإنما الفضل للمتقدم، جاز أن يُدَّعَى فيه السبق والزيادة بأن يحكم بين القائلين فيه بالتفاضل بأن يقال: زاد أحدهم على الآخر، أو نقص منه. السرقات ظاهر وغير ظاهر، السرقات نوعان: ظاهر، وغير ظاهر. الظاهر يُعَنْوَنُ لها بالجلية سرقة جلية واضحة كالشمس في كبد السماء. وغير الظاهر الخفي حينئذ لها أحكام تتعلق بها. ظاهر وهي سرقة الجلية وهي ضابطها: أن يأخذ المعنى كله، إما بلفظه كله أو بعضه، أو وحده. هنا عندنا معنًى ولفظ، المعنى كله وهذا لا إشكال فيه، ثم قد يأخذ اللفظ كله أو بعض اللفظ أو يأخذ المعنى وحده، فإن أخذ اللفظ كله من غير تغيير يعني تغيير للفظه لكيفية التركيب والتأليف الواقع بين مفردات سُمِّيَ [انتحالاً] ونسخًا، يسمى نسخًا، إذا أخذا المعنى كله باللفظ كله هذا يُسَمَّى نسخًا، يعني فيه معنى النقل، النسخ نقل أو إزالة كما حكوه عن أهل اللسان .. إذًا من معاني النسخ في لسان العرب النقل، هنا نقله بكماله وهو مذموم كما قال الناظم هنا، (فالنَّسْخُ ** يُذَمُّ) السرقات ظاهر قسمان منه ظاهر جلي، ثم جاءت الفاء فاء الفصيحة ما هو هذا الظاهر؟ (فالنَّسْخُ ** يُذَمُّ) ما هو النسخ؟ أخذ المعنى كله بلفظه كله من غير تغيير للنظم، يُسمّى ماذا؟ يُسمَّى نسخًا، ما حكمه عندهم؟ مذموم بدون تفصيل، ولذلك قال: ... (فالنَّسْخُ ** يُذَمُّ) والفاء فاء الفصيح، فالنسخ أخذ المعنى كله مع جميع اللفظ، يعني أخذ البيت بنفسه وادَّعَاه له، كما حُكِيَ عن عبد الله بن الزبير أنه فعل ذلك بقول مَعَن [وفي الحاشية هناك يقول مُعَن] ابن أوس إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل ويركب حد السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مذحل هذه قصيدة لمعن بن أوس أولها: لعمرك ما أدري وإن لأوجل ... على أينا تعد المنية أول

البيتان موجودان في هذه القصيدة، فادعاه عبد الله بن الزبير أنه له، ثم لما أورد معهما جاء في القصة: أنت يا أخي بالرضاعة ولا فرق بيننا. حينئذ نقول: هذا يُسمّى نسخًا لأنه أخذ المعنى كله بلفظه وهو مذموم. وإن أخذ اللفظ كله مع تغيير لنظمه غير فيه بعض المفردات، أو أخذ بعض اللفظ لا كله سُمِّيَ إغارة ومسخًا. الأول نسخ، والثاني مسخ، ولذلك قال: لا إن استطيع المسخ، حينئذ يكون ماذا؟ يكون فيه تفصيل، المسخ إن أخذ اللفظ كله ولا شك أنه مع المعنى لكنه غَيَّرَ فيه، أو أخذ بعض اللفظ لا كله سُمِّيَ إغارة ومسخ. حينئذ لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون الثاني أبلغ من الأول، أو دونه، أو مثله. يعني إذا أخذ المعنى كله وأخذ اللفظ بعض اللفظ ولا بد أن يزيد أو يغير في اللفظ، فحينئذ إما أن يكون الثاني الذي سميناه مسخًا أبلغ من الأول، أو يكون دونه والأول أبلغ، أو يكون مثله سيان يكون سيان. فإن كان الثاني أبلغ من الأول لاختصاصه بفضيلة لا توجد في الأول كحسن السبك أو الاختصار أو الإيضاح أو زيادة معنى فممدوح، هذه سرقة ممدوحة إذا ممكن أن تقول: ما هي السرقة التي مدحها بعض أهل العلم؟ هي السرقة التي تُسمى مسخًا ويكون الثاني أبلغ من الأول. فالثاني مقبول كما أشار إليه الناظم بقوله: (لاَ إِنِ اسْتُطِيعَ المَسْخُ) فلا يذم، لا هذا عطف على قوله يذم، فالنسخ يذم مذموم هو أي النسخ لا يذم (إِنِ اسْتُطِيعَ المَسْخُ)، أو لا (إِنِ اسْتُطِيعَ المَسْخُ) فلا يذم، وهذا متى؟ إذا كان أبلغ من الأول، مثاله: من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج الفاتك الشجاع القتال، اللهج الحريص على القتل. وقول سَلْمٍ بعده: من راقب الناس ما تهمن ... وفاز باللذة الجسور فبيت سَلْمٍ قالوا: أجود سبكًا وأخصر لفظًا، هو أخذه من سابقة لكنه حذف بعض الألفاظ وسار أبلغ من الأول، هذا يسمى مسخًا لكنه ممدوح ولا يذم، لماذا لكونه أبلغ من الأول. وإن كان الثاني دون الأول لفوات فضيلة توجد في الأول فالثاني مذموم، إذا كان دونه فالثاني مذموم، فهو داخل في قوله: و (النَّسْخُ ** يُذَمُّ) الحكم واحد، وإن كان مثله فالثاني أبعد من الذم الفضل للأول، وإذا أخذ المعنى وحده سُمِّيَ إلمامًا وسلخًا كما قال الناظم: (وَالسَّلْخُ مِثْلُهُ) إذًا نسخٌ ومَسْخٌ وسلخٌ، أليس كذلك؟ النسخ أخذ المعنى كله بجميع لفظه. المسخ أخذ المعنى كله ببعض لفظه، أو كل اللفظ مع تغيير. السلخ هنا فيه معنى السلخ كالشاة تسلخ، ماذا صنع؟ أخذ المعنى كله وكساه لفظًا من عنده يسمى سلخًا (وَالسَّلْخُ مِثْلُهُ) سُمِّيَ إلمامًا وسلخًا كما أشار إليه بقوله: (وَالسَّلْخُ) وهو كشف الجلد عن الشاة ونحوها فكأنه كشط عن المعني جلدًا وألبسه جلد آخر فإن اللفظ للمعنى بمنزلة اللباس. وقوله (مِثْلُهُ) أي مثل المسخ في انقسامه إلى ثلاثة أقسام، لأن الثاني إما أبلغ من الأول، أو دونه، أو مثله. والذم إنما يتوجه إلى أي شيء؟ إذا كان دونه، وأما إذا كان أبلغ فهو ممدوح، وإذا كان مثله حينئذ أبعد عن الذم والفضل للأول.

(وَغَيْرُ ظِّاهِرِ) هذا يقابل قوله ظاهر (َغَيْرُ ظِّاهِرِ) يعني السرقة الخفية، وهو السرقة الخفية وهو أن يغيِّر المعنى بوجه لطيف بحيث لا يظهر أنه مسروق إلا بعد تأمل. وهذا النوع يختلف عن السابق، والسابق فيه تفصيل من حيث الذم والمدح والقبول والرد. السرقة الخفية كلها ممدوحة بمعنى أنك تستطيع أن تأخذ قصيدة وتغير الألفاظ ويبقى المعنى حينئذ هذا يُسمى سرقة خفية وهو ممدوح، بحيث لا يظهر أنه مسروق إلا بعد تأمل وهو محمود. وتغيير المعنى من وجوه، منها نقله، أي أن ينقل المعنى إلى محل آخر كما قال الناظم: (كَوَضْعِ مَعْنًى فِي مَحَلِّ آخَرِ) [في مكان آخر] نسختان، (كَوَضْعِ مَعْنًى فِي) مكان (آخَرِ) أي في محل معنى آخر، كقول البحتري: سُلِبوا وأشرقت الدماء عليهم ... محمرة فكأنهم لم يُسْلَبُوا هذا سلبوا يعني ثيابهم فكأنهم لم يسلبوا لأن الدماء غطت أجسادهم كأنها ثياب عليهم فكأنه لم يسلبوا، سُلِبُوا من الثياب لكن جلودهم قد سترت بالدماء. قال أبو الطيب: يبس النجيع عليه وهو مجرد ... من غمده فكأنما هو مغمد النجيع من الدم ما كان يضرب إلى سواد، وقوله: (عَلَيْهِ) أي على السيف، فكأنما هو مغمد، لأن الدم اليابس في منزلة غمد له فقد نقل المعنى من الجرحى والقتلى إلى السيف، أخذ المعنى نفسه يعني: سلبوا كأنهم لم يسلبوا جعله لسيف سلبوا كأنهم لم يسلبوا. ومن وجوه نقل المعنى أن يتشابه المعنيان أي معنى البيت أول ومعنى البيت الثاني كما أشار إليه الناظم بقوله: (أَوْ يَتَشَابَهَانِ) يعني في المعنى، معنى البيت الأول ومعنى البيت الثاني، كقول جرير: فلا يمنعك من أَرَبٍ لحاهم ... سواء ذو العماء والخمار سواء ذو العمائم والخمار يعني الرجال منهم والنساء سواء كل منهم ضعيف، وقول أبي الطيب: ومن في كفة [منهم] قناة ... كمن في كفه [منهم] خضاب قناة يعني السيف، استوى من في يده سيف ومن في يده خطاب. إذا (أَوْ يَتَشَابَهَانِ) يعني في المعنى البيت والبيت، ومنه أن يكون المعنى الثاني أشمل من المعنى الأول كما أشار إليه بقوله: (أَوْ ذَا) يعني البيت الثاني أشمل من معنى البيت الأول، كقول جرير: إذا غضبت عليك بنو تميم ... وجدت الناس كلهم غضابى وقول أبي نِوَاس: ليس على الله بمستَنْكَرٍ ... أن يجمع العالم في واحد فالأول اختص ببعض العالم وهو الناس وهذا شملهم وغيرهم أن يجمع العالم ما قال الناس، العالم الناس وغيرهم. (وَمِنْهُ) أي من غير الظاهر (قَلْبٌ) وهو أن يكون معنى الثاني نقيض معنى الأول، (قَلْبٌ) يعني يقلب الثاني [شعل] الثاني معنى البيت السابق يكون نقيضه ضده، كقول أبي الشيص: أجد الملامة في هواك لذيذة ... حب لذكرك فليلمني اللُّوَّمُ وقول أبي الطيب: أأحبه وأحب فيه ملامة ... إن الملامة فيه من أعدائه هنا ماذا؟ وما يكون من عدو، عدو الحبيب يكون مبغوضًا لا محبوبًا هذا نقيض معنى بيت أبي الشيص [الأول استعملها في العداوة، والثاني] الأول استعملها في المحبة والثاني استعملها في العداوة.

قال الناظم: (وَاقْتِبِّاسٌ يُنْقَلْ). (وَاقْتِبِّاسٌ يُنْقَلْ) أي مما يتصل بالكلام في السرقات الشعرية الكلام في اقٌتباس، إذا (وَاقْتِبِّاسٌ يُنْقَلْ) أي مما يتصل بالكلام السرقات الشعرية الكلام في الاقتباس، وهو اصطلاحًا تضمين الكلام نثرًا أو نظمًا شيء من القرآن أو الحديث لا على أنه منه، أن يضمن الكلام شيئًا من القرآن أو من الحديث لا علا أنه منه، يعني لا يقول قائل: قال الله أو قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل ينسب القول. هكذا حينئذ يسمى اقتباسًا، إن صَرَّحَ فليس باقتباس وإنما هو شيء آخر، كقول الحريري: فلم يكن كلمح البصر أو هو أقرب حتى أنشدك فأغرب أقرب أغرب فلم يكن {كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] هذا نص قرآني لم يقل قال الله تعالى هذا يُسمَّى اقتباسًا فحينئذ جاء بالآية أو جز منها ولم ينسبه لقائله، والقول الآخر: إن كنت أزمعت على هجرنا ... من غير ما جرم فصبر جميل وإن تبدلت بنا غيرنا ... فحسبنا الله ونعم الوكيل [ها ها] وقول الحرير: قلنا: شاهت الوجوه نص حديث «ألا شاهت الوجوه». وقبح اللكع ومن يرجوه ولا بأس بتغيير يسير للوزن أو غيره كقوله: قد كان ما خفت أن يكون ... إنَّا إلى الله راجعون إنا إليه، إنا لله وإنا إليه بدّل وغَيّر، لكنه تعيير يسير من أجل الوزن هذا لا يُخِلُّ بالاقتباس، وإنما لو كان التغيير كثيًرا خرج عن كونه اقتباسًا، إذا لا بأس من التغيير اليسير لأجل الوزن أو غيره، ولا يخرجه عن كون اقتباسًا، وأما إذا كان كثيرًا فحينئذ خرج، إذًا لا يجوز التغيير اللفظ الكثير، والمعني هذا لا إشكال فيه، أنه لو غير المعنى لخرج عن كونه اقتباسًا (وَمِنْهُ تَضْمِيْنٌ)، أي مما يتصف بالسرقات الشعرية (تَضْمِيْنٌ) يعني ما يسمى بالتضمين، وهو أن يضمن الشعر شيئًا من شعر الغير مع التنبيه عليه أنلم يكن مشهورًا عن البلغاء، فإن كان مشهورًا فلا احتياج إلى التنبيه، وبهذا يتميز عن السرقة. إذا السرقة ليست فيه تنبيه، ويعني يأتي بلفظ يشير إلى أنه ليس من شعره، وذلك إذا لم يكن مشهورًا، وأما إذا كان مشهورًا فلا إشكال فيه، كقول الحرير: على أني سأنشد يوم بيع ... أضاعوني وأي فتى أضاعوا سأنشد، المصراع الثاني (أضاعوني وأي فتى أضاعوا) ليس للحريري [دل على] هذا يسمى تضمينًا المصراع الثاني يسمى تضمينًا، ودل على ذلك في قوله: سأنشد يعني: وضع علامة تدل على ذلك وأحسنه ما زاد على الأول لنكتة كالتورية والتنبيه، يعني لو زاد عن الأول فهو حسن، واغْتُفِرَ التغيير اليسير ويسمى تضمين البيت فأكثر استعانة، التضمين المصراع فما دونه إبداعًا ورفوًا. يعني إذا ضَمَّنَ البيت فأكثر يُسَمَّى استعانة، والمصراع يعني نصف البيت فما دونه حينئذ يسمى إبداعًا ورفوًا (وَتَّلْمِيحٌ) أليس كذلك؟ (وَمِنْهُ تَضْمِيْنٌ وَتَّلْمِيحٌ) بالرفع عطف على (تَضْمِيْنٌ)، (وَتَّلْمِيحٌ) بتقديم اللام على الميم من لَمِحَهُ أو لَمَحَهُ إذا أبصره ونظر إليه، لمح إذا أَبْصَرَ ونظر إليه، وهو الإشارة إلى قصة أو شعر أو مثل من غير ذكره، يعني يشير في البيت بقصة بكلمة ولا يذكر القصة، كقوله:

فو الله ما أدري أأحلام نائمٍ ... أَلَمَّتْ بِنَا أَمْ كَانَ في الرَّكْبِ يُوشَعُ إشارة إلي قصة يوشع عليه السلام واستيقافه الشمس. وكقوله: لعمرو مع الرمضاءِ والنَّارِ تُلْتَظَى ... أَرَقٌّ وأَحْفَى منك في ساعة الْكَرَبِ لعمرو مع الرمضاء هذا إشارة إلى بيت مشهور والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار وكقولك لشخص تعدد السيادة والتصدر قبل أوانهما لا تَعْجَلْ تُحْرَمْ. تُشِير إلى قولهم: من تعجل شيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. (وَحَلّ) يعني وحلٌّ وهو أن ينثر اللفظ، الحلّ ضد الْعَقْدِ عندنا أمران: عَقْدٌ: وهو نظم النثر. وحَلّ: وهو نثر النظم. يعني يأتي إلى النظم فينثره هذا يسمى ماذا؟ يُسمَّى حَلاًّ، أن ينثر النظم كقول بعض المغارب: فإنه لَمَّا قَبُحَتْ فَعَلاتُهُ، وحَنْظَلَت نَخَلاتُه، لَمْ يَزَلْ سُوءَ الظَّنِّ يَقْتَادُهُ، ويُصَدِّقُ الذي يَعْتَادُهُ. حلّ قول أبي طيب: إذا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ ... وصَدَّقَ ما يَعْتَادُ مِنْ تَوَهُّمِ يعني جاء بالبيت على جهة أسجاع، وشرط كونه مقبولاً أن يكون سَبْقُهُ حسنًا لا يتقاصر على ذلك النظم بأن يكون مسجَّعًا والألفاظ جَزِلَة وأن يكون وَاقِعًا مَوْقِعَهُ بأن تكون ألفاظه مطابقًا معناها للمقام، إذًا حل النظم لا بأس به، حلّ نثر النظم لا بأس به. (وَمِنْهُ عَقْدٌ)، (وَمِنْهُ عَقْدٌ) أي مما يتصل بالكلام على السرقة العقد، العقد هذا خبر أو مبتدأ؟ مبتدأ متأخر، ومنه خبر مقدم، أي مما يتصل بالكلام على السرقات العقد، وهو نظم النثر لا جعل طريق الاقتباس، فإن كان فيه شيء من القرآن أو من السنة دون نسبتهما إلى القائل فهو اقتباس، فإن لم يكن كذلك انتفي شرط الاقتباس فهو (عَقْدٌ) كقوله: مَا بَالُ مَنْ أَوْلُهُ نُطْفَة، وجِيفَةٌ آخره يَفْخَرُ. عَقَدَ قول علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ويُذْكَر حديثًا: وما لابن آدم والفخر وإنما أوله نطفة، وآخره جيفة. وهذا كثير تجده في أدب الطلب.

(وَالتَّأَنُّقٍ انْ تَسَل) بحذف الهمزة (وَالتَّأَنُّقُ) يعني مما ينبغي العناية به (التَّأَنُّقُ)، (انْ تَسَل) عنه فينبغي للمتكلِّم شاعرًا كان أو كاتبًا أن يَتَأَنَّقَ أي يفعل فعل التَّأَنُّقِ في الرياض من تتبع الأَنَقِ والأحسن، الأنق هو الأحسن عطف تفسير في أول كلامه وآخره، فالأول التأنق في أول الكلام موجب لإقبال نفس السامع، والثاني يعني في آخر الكلام يزيدها إقبالاً على ما مضى وجابر لما يقع قبله من التقصير في التعبير، وهذا يحتاجه الخطباء منكم، فالأول يكون بحسن الابتداء وأشار إليه بقوله (بَرَاعَةُ اسْتِهْلاَلِ)، وهو أن يقدم في أول كلامه ما يُشعر بالمقصود، يعني إذا أراد في المقدمة الخطبة يأتي: إن الحمد لله، والحمد لله، ويأتي بما يُشعر بالحديث عنه سيتكلم في الربا يأتي بآية تدل على الربا، إشارة إلى ما سيق الكلام لأجله كقوله بالتهنئة بُشْرَى فقد أنجز الإقبال ما وعد، إذًا بُشرى ما بعده فيه بشارة، ومن محاسن الابتداء صنعة الانتقال من المطلع إلى المقصود، يعني إذا أتى بالمقدمة كيف يدخل في المقصود؟ كيف ينتقل؟ لا بد من كلمة ينتقل بها يخرج على المقدمة إلى المقصود يُسَمَّى صَنْعَة الانتقال، وهو الذي عناه بقوله: (بَرَاعَةُ اسْتِهْلاَلِ) بانتقال، يعني صنعة الانتقال من المطلع، المطلع هو (بَرَاعَةُ اسْتِهْلاَلِ) إلى المقصود بالحديث، وهو ما أشار إليه بقوله: (انْتِقَالِ) وهو ثلاثة أقسام: الأول: التخلص، يُسمى التخلص: وهو الانتقال مما افتتح به الكلام إلى المقصود مع رعاية المناسبة بينهما. الثاني: الاقتضاء. وهو الانتقال إلى ما يلاءمه. الثالث: فصل الخطاب. هذا هو الأشهر، وهو لفظ: أما بعد. وهو السنة، وهو متوسط بينهما، واتفق البيانيون على أن فصل الخطاب هو: أما بعد، لا خلاف عندهم في هذا. ومنه هذا، وإن للمتقين. هذا، وإن، هذا تقوم مقام أما بعد، هذا، وفي الأسماء ما لا ينصرف. وثالث المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها الانتهاء، وعبر عنه الناظم بقوله: (حُسْنُ الْخِتَام) يعني من (حُسْنُ) الكلام ختمه بما يشعر بتمامه بحيث لا يكون بعده للنفس تشوق، كقوله: بَقِيتَ بَقَاءَ الدَّهْرِ يا كهف أهله ... وهذا دُعَاءٌ للبرية شاملُ لأن مما يختم به الدعاء، فإذا دعا علمت أنه قد ختم، وانتهى المقال. وانتهى المقال هكذا المقال. وانتهى المقال هذا من (حُسْنُ الْخِتَام) لأنه جاء بكلمة انتهى، و (المَقَالِ) بمعنى القول، يعني انتهى النظم على هذا الذي ذكره الناظم رحمه الله تعالى، ونحن كذلك نكون قد انتهينا بقوله: انتهى ... (مُنْتَهَي المَقَالِ) من التعليق والشرح لهذا المتن. وقلنا: هو يعتبر متنًا مختصرًا أَجْمَلَهُ في مئة بيت يَشْتَغِلُ به من لا عناية له بـ ((الْجَوْهَرِ الْمَكْنُون))، وأما من له رغبة فـ ((الْجَوْهَرِ)) أحسن وأكمل وأعلى درجة من هذا النظم. هذا النظم مختصر وبه خلل كبير، وخاصة في علم البيان، والله أعلم. وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1