شرح لمعة الاعتقاد - يوسف الغفيص

يوسف الغفيص

شرح لمعة الاعتقاد [1]

شرح لمعة الاعتقاد [1] لمعة الاعتقاد للإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله من الرسائل المهمة في تحقيق عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد بدأها المصنف بمقدمة قرر فيها مسألة الربوبية، ثم ذكر عقيدة أهل السنة في صفات الله تعالى، مستدلاًعلى ذلك بجملة من الآيات والأحاديث الدالة على إثبات الصفات، وقد ذكر هذه المسألة لكثرة المخالفين لأهل السنة فيها، من جهمية، ومعتزلة، وأشعرية، وماتريدية، ونحوهم من الفرق الضالة. ثم ذكر رحمه الله عقيدة أهل السنة في مسائل الاعتقاد الأخرى؛ كالقضاء والقدر، والإيمان، واليوم الآخر، وأشراط الساعة، وغيرها من المسائل.

مقدمة شرح لمعة الاعتقاد

مقدمة شرح لمعة الاعتقاد الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً. ثم أما بعد: فهذا البحث في تقرير مسائل على كتاب الموفق في مسائل أصول الدين، وبين يدي هذه الرسالة ذكرٌ شيء من شأن مصنفها، ونبذة عن أتباع المذاهب الأربعة في تقرير مسائل أصول الدين.

التعريف بالمؤلف

التعريف بالمؤلف هو الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي، المعروف بـ (الموفق)، وبـ ابن قدامة، وهذا نسب اشتهر به جملة من أهل العلم من هذا البيت وجلهم من الحنابلة، وهذا الإمام يعد من كبار أصحاب الأئمة الأربعة، وهو حنبلي المذهب، وإذا ذُكر من جاء بعد عصر الأئمة، فإن من كبار أعيان علماء المسلمين هو هذا الإمام، فهو إمام واسع من جهة: مسائل أصول الدين، وأصول الشريعة، ومسائل الفروع. وإذا نظرت في كتابه الذي وضعه في الفقه المقارن -وهو الكتاب المعروف بـ (المغني)، والذي شرح فيه الموفق "مختصر الخرقي" في الفقه الحنبلي- إذا نظرت في هذا الكتاب، عرفت ما لهذا الإمام من عظيم الشأن، وكذلك ما كتبه في مسائل أصول الفقه في الروضة، مما اختصره من كتاب المستصفى لـ أبي حامد الغزالي. فهذا الإمام على سعة من العلم بالفقه والسنن والآثار، فضلاً عما له من التحقيق في مسائل أصول الدين.

تفاوت أتباع الأئمة الأربعة في تقرير مسائل الأصول

تفاوت أتباع الأئمة الأربعة في تقرير مسائل الأصول إن المنتسبين إلى الأئمة الأربعة، الذين استقرت مذاهبهم في جمهور أمصار المسلمين -وهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - المتمذهبين بمذاهبهم في فقه الشريعة؛ هم في مسائل أصول الدين على طبقات: فهم المحققون لطريقة المتقدمين من الأئمة، وهم الذين وافقوا الأئمة في مسائل أصول الدين، وحققوا طريقتهم، كـ أبي عمر ابن عبد البر في المالكية، أو كـ ابن كثير في الشافعية، ومن هؤلاء في الحنابلة الموفق بن قدامة رحمه الله، فإنه -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما ذكر أصحاب الأئمة-: من المنتحلين لطريقة الأئمة على التحقيق في مسائل الأصول. وطبقة أخرى من أتباع الأئمة الأربعة -ممن ينتسب إلى الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة أو أحمد - مائلة إلى علم الكلام أو منتحلة لشيء من طرقه؛ فهناك طائفة من فقهاء الحنفية معتزلة، وأكثر فقهاء الحنفية على مذهب أبي منصور الماتريدي، وإنما كان ذلك؛ لأن أبا منصور الماتريدي نفسه كان حنفي المذهب، وطائفة من الحنفية أشاعرة محضة على طريقة المتكلمين من الأشاعرة، وكذلك الشافعية، فإن كثيراً من متأخريهم أشاعرة؛ لأن أبا الحسن رحمه الله إمام الأشعرية كان شافعي المذهب، وكذلك المالكية أكثرهم أشاعرة. أما الحنابلة فهم من أبعد الطوائف الفقهية الأربع عن علم الكلام، ومع ذلك فإن طائفة من علمائهم المتأخرين تأثروا بعلم الكلام؛ كـ أبي الوفاء ابن عقيل؛ فإنه درس في مطلع أمره على بعض شيوخ المعتزلة؛ كـ أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التبان المعتزليين، وكانا من أصحاب أبي الحسين البصري الحنفي، وإن كان ابن عقيل رحمه الله رجع عن طريقته هذه، وكتب: الانتصار لأهل الحديث. فالمقصود: أن أصحاب الأئمة الأربعة ليسوا شأناً واحداً، فمنهم المتمسك بآثار السابقين الموافق لطريقة الأئمة والسلف، ومنهم من تأثر بشيء من علم الكلام، أو انتحل شيئاً من طرقه المذمومة، ومنهم من هو بين ذلك، كما هي طريقة جماعة من شراح الحديث، الذين شرحوا الصحيحين والسنن وغيرها، فترى أن طائفة من هؤلاء عندهم مادة من التحقيق على طريقة السلف، وعندهم مادة من التأثر ببعض أصحابهم، فلا يلزم أن الواحد من الفقهاء لابد أن يضاف إلى مذهب معين. وإذا أردت الإجمال فإنه يصح أن يقال: إن الجمهور من أتباع الأئمة الأربعة منتسبون للسنة والجماعة، معظمون لطريقة السلف، وإن كانوا في تحقيقها على درجات، وأما من انفك عن طريقة السلف انفكاكاً مطلقاً، فإنهم قلة ممن انتسب لمذهب المعتزلة من فقهاء الأحناف، وإنما يقال ذلك؛ لأن سائر الأشاعرة ينتسبون لأهل السنة والجماعة، وكذلك سائر الماتريدية ينتسبون لأهل السنة والجماعة، وإن كان الانتساب وحده لا يكون كافياً، فإن الاعتبار في ذلك إنما هو بتحقيق المسائل؛ لا بمجرد الانتساب إلى مذهب من هذه المذاهب. فالمتحصل من هذا: أن أتباع الأئمة الأربعة من الفقهاء ليسوا على طريقة واحدة في مسائل أصول الدين، فمنهم المحقق، ومنهم دون ذلك، ومنهم المنتحل لمذهب تظهر في كثير من مسائله وأصوله المخالفة لطريقة السلف.

التعريف بالرسالة

التعريف بالرسالة وأما هذه الرسالة -وهي اللمعة في الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد- فهي رسالة فاضلة، جامعة لجملة من مسائل أصول الدين التي تنازع فيها أهل القبلة، وإذا ذكر أهل القبلة فالمراد بهم: سواد المسلمين من أهل السنة وغيرهم. وقد ذكر فيها المؤلف رحمه الله في رسالته هذه جملة من مسائل أصول الدين على طريقة مقاربة لطريقة الأئمة السالفين، حيث ذكر جملاً من أقوال السلف والأئمة، فضلاً عما يذكره من الدلائل الشرعية من كلام الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. والرسالة الواسطية المعروفة لـ شيخ الإسلام ابن تيمية قد وضعها الإمام ابن تيمية، على محاكاة هذه الرسالة للموفق، وإن كان شيخ الإسلام قد استظهر فيها أكثر في باب الاستدلال بالنصوص، وزاد عليها جملاً وأصولاً، كمسألة العلو والقدر فإنه أطال فيهما وفصل أكثر من الموفق رحمه الله. وقد وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معظماً لـ أبي محمد الموفق، حتى أنه قال: (لم يدخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من أبي محمد). فالمحصل: أن الفرق بين الرسالتين: (الواسطية واللمعة) ربما يتحقق في أن كلام الإمام ابن تيمية أكثر تفصيلاً، بخلاف الموفق فإن في كلامه إجمالاً، وإن كان إجمالاً لا ينقطع عن التفصيل والبيان في موضع آخر.

مكانة هذه الرسالة

مكانة هذه الرسالة تعد هذه الرسالة من الرسائل المهمة في تحقيق عقيدة السلف أهل السنة والجماعة، وإن كان بعض المعاصرين ممن تكلم على هذه الرسالة، قد بالغوا في التثريب على صاحبها في بعض المسائل، وذكروا أنه ليس محققاً لمذهب السلف أو طريقتهم، ونظروا في شيء من كلامه في مسألة التفويض وبعض الأحرف الأخرى. والتحقيق أن هذه الرسالة ليس فيها غلط صريح، وإنما يوجد في بعض المواضع قدر من الإجمال والتردد، وإذا قارنا بين هذه الرسالة وبين رسالة أبي جعفر الطحاوي -المعروفة بالعقيدة الطحاوية- فإن رسالة الموفق أشرف منها، وأبعد عن الغلط في بعض المسائل، أما الطحاوي رحمه الله فقد غلط في بعض مسائل الإيمان غلطاً صريحاً؛ لأنه حاكى مذهب أبي حنيفة في مسألة الإيمان محاكاة تامة، ونقل عن بعض أصحابه من الأشاعرة بعض الجمل المجملة في مسألة العلو، وإن كان لم يلتزم بنتائجها، إلى غير ذلك. مع أن رسالة أبي جعفر الطحاوي من الرسائل الفاضلة في مذهب أهل السنة والجماعة، لكن رسالة الموفق أقرب إلى طريقة أهل الحديث منها. والمقصود من هذا: أن اللمعة للموفق ليس فيها غلط محض، وإنما فيها بعض المواضع المجملة المحتملة.

أهمية الرسالة من خلال منهج مؤلفها

أهمية الرسالة من خلال منهج مؤلفها إذا ابتدأت بقراءة هذه الرسالة فإنك تجد أن مؤلفها ذكر في مطلعها جملاً عامة في تقرير مقام الربوبية، ولهذا يصح أن نقول: إن من فضائل هذه الرسالة أن فيها تقريراً للمعتقد على التحقيق، فإنها ليست مادة من الأحرف التي تقرر جملة من النظر أو التصورات فحسب، بل فيها ذكر لشيء من الحقائق الإيمانية، التي يترتب على قراءتها -فضلاً عن التأمل فيها- التحقيق للإيمان ظاهراً وباطناً، ولهذا ذكر فيها جملاً من التعظيم لمقام الربوبية، ومقام الألوهية، ومقام النبوة والرسالة، مما يتحقق به قدر من التأصيل للتلازم بين الظاهر والباطن في مسألة الإيمان. والذي درج عليه أكثر المتأخرين أنهم إذا صنفوا في مسائل الاعتقاد يذكرون الجمل التي كثر النزاع فيها بين أهل القبلة فقط، دون ربط هذه الجمل بشيء من الحقائق الإيمانية. وبعد هذه المقدمة الوجيزة نشرع في تقرير مسائل هذه الرسالة تقريراً موضوعياً.

شرح مقدمة لمعة الاعتقاد

شرح مقدمة لمعة الاعتقاد قال الموفق رحمه الله: [بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد، لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:5 - 8]، أحاط بكل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110]]. هذه عبارات مجملة في تقرير مقام الربوبية، وهي وأمثالها مما يذكر في كتب أصول الدين، وليس فيها شيء من النزاع بين المسلمين، بل جميع المسلمين يقرون بهذه الجمل من حيث معناها الكلي، وإن كانوا على درجات متفاوتة في تحقيقها، بحسب قربهم من السنة وهدي صاحبها، وإنما مبتدأ التقرير المقصود سيأتي في كلام الموفق رحمه الله عند قوله: (موصوف بما وصف به نفسه).

مواضع الاتفاق والافتراق بين طوائف المسلمين في مسائل الاعتقاد

مواضع الاتفاق والافتراق بين طوائف المسلمين في مسائل الاعتقاد لقد بدأ المصنف بذكر مسألة الصفات، وهي فرع عن مسألة الربوبية؛ لأهميتها وحصول النزاع فيها، ولهذا فإن العلماء يقولون: إن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، رغم أن توحيد الأسماء والصفات هو من جملة توحيد الربوبية، والذي درج عليه كثير من أهل العلم قبل ذكر هذا التقسيم، أنهم يقسمون التوحيد إلى: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والقصد، ويجعلون توحيد المعرفة هو توحيد الربوبية، وباب الأسماء والصفات متضمن له. وسواء قسموا التوحيد إلى قسمين أو إلى ثلاثة أقسام، فهذا كله اصطلاح لا مشاحة فيه، إذا صحت المعاني واتفقت، فمثل هذه المصطلحات ليست من السنة اللازمة التي يجب على جميع المسلمين الالتزام بها، وإنما الذي يجب على المسلمين أن يلتزموا به هو: تحقيق التوحيد. وعلى كل حال، فجملة توحيد الربوبية ليس فيه نزاع بين المسلمين، وإن كانوا يختلفون في تحقيقها بحسب قربهم من السنة. وكذلك جملة توحيد الألوهية، وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ليس فيه خلاف بين فرق المسلمين، -أعني: الخلاف النظري- فلا يوجد هناك طائفة من طوائف المسلمين تقرر حقائق الشرك. بل مناط هذا التوحيد الذي مقصوده إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، وأن من صرف عبادة لغير الله فقد كفر وأشرك - هو قدر مجمع عليه بين سائر طوائف المسلمين: من أهل السنة، والمتكلمين؛ معتزلتهم وأشعريتهم إلى غير ذلك. وإن كان هذا الكلام لا يلزم منه أن الطوائف الخارجة عن السنة والجماعة تكون محققة لهذا المناط، بل ثمة صور من الشرك تقع عند جملة من الطوائف: كغالية الشيعة، وغالية الصوفية، فإن بعضهم يقع في الشرك الأكبر، ولكن من حيث المناط النظري ليس بين المسلمين نزاع في توحيد الألوهية. وقد قال كثير من أهل العلم أن المتكلمين -ولا سيما المعتزلة والأشاعرة الغالية في علم الكلام- لا يهتمون بذكر مسألة توحيد الألوهية، وهناك من يقول: إنهم لا يعرفونها، وهذا فيه تجاوز، بل توحيد الألوهية معروف عند المعتزلة والأشاعرة، لكن عندهم تقصير في تقريره وتحقيقه، وفي بيان أنه أول الواجبات .. هذا كله متحقق، ولكنهم موافقون في أصله، فإن عدم ذكر هذا التوحيد في كتبهم فليس معناه أنهم لا يقولون به ولا يعرفونه؛ لأن إفراد الله بالعبادة مستقر عند عامة طوائف المسلمين، وإن كان هذا الاستقرار تدخل عليه هفوات إلى حد الشرك الأكبر عند قوم من غالية الشيعة والمتصوفة، أما جماهيرهم وعامتهم فإنهم يثبتون أصل التوحيد ويحققونه من جهة كونه أصلاً. وخلاصة القول: أن توحيد الألوهية من حيث الأصل مُسلم به عند سائر المسلمين، ولا أحد من المسلمين يقول: إن صرف العبادة لغير الله صحيح، أو مما يؤذن فيه، أو مما يسوغ. وإن كان أهل البدع قد فتحوا المجال للأقوال والأفعال الشركية بتوسعهم في باب التأويل، ولا سيما عند الطائفتين اللتين سبق ذكرهما. وأما ما يتعلق بباب الأسماء والصفات، فإن المسلمين اختلفوا في مناطه اختلافاً معروفاً، وإن كان أصل بابه مجمعاً عليه بين المسلمين. فإن قيل: فما الفرق بين أصل بابه وبين مناطه؟ قيل: المراد بأصل باب الأسماء والصفات هو: أن الله سبحانه وتعالى مستحق للكمال، منزه عن النقص، وهذا القدر مجمع عليه بين سائر طوائف المسلمين، ولا أحد من المسلمين يقول: إن الله موصوف بشيء من النقص؛ لا معتزلة، ولا أشاعرة، ولا ماتريدية؛ فهو قدر مجمع عليه، ولا يقول بمعارض هذا الأصل إلا زنديق كافر؛ فلو قال قائل: إن الله يوصف بما هو نقص، أو قال: إن الله ليس مستحقاً للكمال والتمام، فإنه لا يمكن أن يكون مسلماً ينتسب لطائفة من طوائف المسلمين، حتى ولو كانت طائفة بدعية. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد اتفق المسلمون على أن الله سبحانه مستحق للكمال منزه عن النقص، وإنما اختلفوا في تحقيق المناط، ومعنى اختلافهم في تحقيق المناط أن المسلمين اختلفت طوائفهم: ما هو الكمال؟ وما هو النقص؟ فالذي عليه الصحابة رضي الله عنه والأئمة من بعدهم أن تحقيق الكمال هو بإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأن ينفى عنه سبحانه وتعالى كل نقص، مما صرح الله بذكره في كتابه أو لم يصرح بذكره، فهذا هو الكمال عند أهل السنة والجماعة. وذهبت المعتزلة إلى أن الكمال: هو في نفي الصفات. وذهبت الأشاعرة إلى أن الكمال في نفي صفات الأفعال التي يسمونها: حلول الحوادث إلى غير ذلك من الطرق التي ابتدعت، وحصل بها شر، وفتنة، وبلاء، وغلط في مسائل أصول الدين عند المسلمين. ولكن مع ما يقرر من غلط هذه الطوائف، وخروجها عن السنة والجماعة إلى أقوال محدثة منكرة -كثير منها يصل إلى حد الكفر من حيث هو قول، وإن كان القائل به لا يلزم أن يكون كافراً- فإن أصل هذا الباب كان متفقاً عليه بين المسلمين، وإنما حصل الخلاف بدخول مادة التأويل.

التسلسل التاريخي لحصول النزاع في مسائل أصول الدين بين المسلمين

التسلسل التاريخي لحصول النزاع في مسائل أصول الدين بين المسلمين جاء النبي صلى الله عليه وسلم بتقرير مسائل أصول الدين، وذكر مسائل الفروع، وأحكم الشريعة عليه الصلاة والسلام وأكملها، وذهب وتوفي على هذا التمام والكمال الذي قال الله فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، ومضى الناس على هذا في خلافة الصديق رضي الله عنه، ثم جاءت خلافة عمر على مثل ذلك، ثم في آخرها ظهرت مقدمات الفتنة، وهي مقتله رضي الله عنه، فإن حذيفة رضي الله عنه لما ذكر الفتنة الكبرى لـ عمر رضي الله عنه -كما في الصحيح- قال: (إن بينك وبينها باباً مغلقاً) ولما سأله عمر: (أيفتح الباب أم يكسر؟ قال حذيفة: بل يكسر)، وكان كسره هو مقتل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه. ثم لما كانت خلافة عثمان رضي الله عنه فكثر الشر والفتنة من مسلمة الفتوح، من أهل العراق وغيرهم. ثم جاءت خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فزادت الفتنة، وحصل ما حصل مما هو معروف، وكان أول نزاع بين المسلمين في مسائل أصول الدين هو في مسألة الإيمان: ما هو الإيمان؟ ومتى يكون الرجل مؤمناً؟ ومتى يكون مسلماً؟ ومتى يكون كافراً؟ وأول من أظهر المخالفة والخروج عن السنة والجماعة هم الخوارج، وقد حدَّث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بشأنهم، قال الإمام أحمد رحمه الله: «صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه». وحديثهم متواتر، فقد روى مسلم في صحيحه عشرة أوجه من حديث الخوارج، وأخرج البخاري طرفاً منها، وهو حديث متفق عليه بين أهل العلم بالحديث من حديث علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وجماعة من الصحابة، وذلك في قصة قسم النبي صلى الله عليه وسلم لذهب من اليمن، فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: (اعدل يا محمد! فإنك لم تعدل! فقام خالد بن الوليد -وفي رواية في الصحيح: عمر بن الخطاب - وقال: دعني أضرب عنقه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعله أن يكون يصلي، قال: وكم من مصلِّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! قال عليه الصلاة والسلام: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم، ثم نظر إليه وهو مقفٍ، فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وفي رواية: (قتل ثمود)، وفي رواية: (قاتلوهم فإن لمن قاتلهم أجراً عند الله)، وفي رواية: (لو يعلم المقاتل لهم ما أعد له من الأجر، لنكل عن العمل). وخرج هؤلاء في خلافة علي بن أبي طالب، وقالوا: إن مرتكب الكبيرة من المسلمين كافر مخلد في النار. ثم قارب الخوارج المعتزلة بعد ذلك، ثم ظهر ما يقابلهم، وهم طوائف المرجئة، الذين صاروا على النقيض من مذهب الخوارج والمعتزلة. والمرجئة طوائف، وقد ذكر الأشعري في مقالاته أنهم ثنتا عشرة طائفة، أشدهم إرجاءً جهم بن صفوان، وأبو الحسين الصالحي، وأخفهم إرجاءً مرجئة الفقهاء؛ أتباع حماد بن أبي سليمان الإمام السلفي الفقيه المعروف، لكنه زلَّ رحمه الله وغلط في مسألة الإيمان، وإلا فهو من أئمة السنة والجماعة، وغلطه -كما قال شيخ الإسلام - من بدع الأقوال وليس من بدع العقائد، وتابعه على غلطه أبو حنيفة، وعلى هذا اشتهر قول مرجئة الفقهاء بتقلد أبي حنيفة له، فشاع في أتباعه من الحنفية. ولما مضت خلافة الخلفاء الأربعة الراشدين، وجاءت إمارة بني أمية، ظهرت بعض الفرق؛ ففي الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبني أمية -أثناء خلافة يزيد بن معاوية وبعدها- خرجت القدرية في العراق، وهم قوم يقولون: لا قدر، والأمر أنف، وجملة مذهب هؤلاء: أنهم ينكرون خلق أفعال العباد، وغلاتهم ينكرون علم الرب بها قبل وقوعها من العباد. وهؤلاء القدرية الغلاة المنكرون لعلم الرب هم قوم من الزنادقة من أهل فارس، وإنما أظهروا الإسلام نفاقاً، وليسوا من المسلمين في شيء، وقد أجمعت المعتزلة القدرية -لا نقول أهل السنة- على تكفير هؤلاء الغلاة، فضلاً عن إجماع جملة طوائف المسلمين. وأما غير الغلاة من القدرية فإنهم أهل بدعة، وقولهم كفر، وإن كانوا ليسوا كفاراً، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وهذا النوع من القدرية ما علمت أحداً من السلف نطق بتكفيرهم). فالمقصود: أن الأصل الثاني الذي حصل فيه نزاع هو القدر، فظهرت القدرية، وقابلتهم الجبرية الذين يقولون بجبر العباد، وكان هذا في آخر عصر الصحابة، وبعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين. وأما المسائل الإلهية فإن عصر الصحابة انقرض ولم يحصل فيها نزاع بين أهل القبلة. وفي المائة الثانية بعد عصر الصحابة؛ ظهر قوم ينتحلون علم الكلام، وهو علم مولَّد من فلسفة اليونان وغيرها من الفلسفات، وأظهروا تعطيل الصفات؛ كـ الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وأمثالهمها. فهؤلاء القوم ضلوا في هذا الباب ضلالاً مبيناً، ولهذا كان السلف رحمهم الله يرون أن قول الجهمية كفر، وقد أجمع السلف على جملة من أقوال الجهمية أنها كفر، وإن كانوا لا يلتزمون تكفير أعيانهم. فلكون هذه المسألة هي أشرف المسائل التي حصل فيها النزاع؛ قصد المؤلف رحمه الله إلى تعظيم شأنها، وذِكرها على التفصيل في مبدأ رسالته.

شرح لمعة الاعتقاد [2]

شرح لمعة الاعتقاد [2] عقيدة أهل السنة في صفات الباري جل وعلا تعتبر من أخص أصولهم، فهم يؤمنون بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، مخالفين في ذلك مسلك المعطلة الذين عطلوا صفات الله وتأولوها على معان مجازية، ومخالفين -ثانياً- مسلك المشبهة الذين يشبهون صفات الله بصفات خلقه، ومخالفين -ثالثاً- مسلك المفوضة الذين يقولون بالعمل بالألفاظ مع السكوت عن معانيها.

عقيدة أهل السنة في صفات الباري سبحانه وتعالى

عقيدة أهل السنة في صفات الباري سبحانه وتعالى قال الموفق رحمه الله: [موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم]. أي أن الله جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ولهذا كان من أخص أصول أهل السنة والجماعة في هذا الباب هو: الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. قال الإمام أحمد: «نصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث». وأحياناً يقع إشكال لدى بعض طلبة العلم في بداية الطلب؛ فإنهم تارة يقولون: يوصف الله بما وصف به نفسه في كتابه أو سنة نبيه، وتارة يقولون: الكتاب والسنة والإجماع. وهذا ليس فيه إشكال؛ لأنه لا ينعقد الإجماع إلا تبعاً لنص، ولهذا لا فرق بين أن يقال: الكتاب والسنة، أو يقال: الكتاب والسنة والإجماع. وقد جاءت صفات الله سبحانه وتعالى في الكتاب والسنة بالنفي والإثبات؛ كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فهذا نفي .. {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وهذا إثبات، ومن قواعد باب الأسماء والصفات: أن الله موصوف بالنفي والإثبات. فإن قيل: ما الفرق بين المقامين؟ قيل: مقام الإثبات أصل ذكره في القرآن والحديث على التفصيل، وأما مقام النفي فإن الأصل في ذكره الإجمال، ولهذا فإن الله تعالى فصل ذكر الأسماء والصفات، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في القرآن في هذا الباب إثبات مجمل، ونفي مفصل، لكننا نقول: إن الأصل في النفي هو الإجمال .. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وإنما أُجمل النفي كهذا الحرف من كتاب الله؛ لأنه أبلغ في تحقيق الكمال والتنزيه من المفصل، فإن قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] أي: ليس كمثله شيء موجود أو متخيل أو مفروض في الذهن، تعالى سبحانه وتعالى عن كل شيء، فهذا عموم تام في النفي. وكذلك فُصل في الإثبات؛ لأنه أبلغ في تحقيق الكمال، ولأنه ليس من المستحسن الاستطراد في تفصيل النفي، أو الإجمال في ذكر الإثبات، وإنما كان ذكر مجمل الإثبات لبيان شموله وتمامه، قال الله تعالى في ذكر مجمل أسمائه: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180] وهذا إثبات مجمل، وأما المفصل في أسماء الله، فهو كقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} [الحشر:23] الآية، والصفات مفصلها كقوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] .. {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119]، وكل اسم ذكر في القرآن فإنه يتضمن صفة، وهذا كله تفصيل للصفات، ومن المجمل في الصفات قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] أي: الوصف الأكمل، وهذا إجمال في إثبات الصفات. إذاً: الأسماء والصفات ذكرت مجملة ومفصلة، وذكرت مثبتة ومنفية، فالنفي المجمل هو الأصل، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، والنفي المفصل قليل كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] .. {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، ولهذا فإن كل نفي مفصل يتضمن ثبوتاً، وليس في القرآن ولا السنة نفي مفصل يقصد به النفي المحض، فمثلاً قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] لا يقصد به النفي المحض، بل جاء متضمناً لثبوت الكمال: كمال الربوبية والقيومية، ولهذا كانت هذه الآية -على طريقة طائفة من مثبتة الرؤية: كأهل السنة، ومحققي الأشاعرة كـ الأشعري وغيره- دليلاً على إثبات الرؤية، فهذا هو المستعمل. أما من حيث الإثبات فالأصل فيه هو التفصيل، ولا يثبت لله سبحانه وتعالى شيء من الأسماء أو الصفات إلا ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو باب توقيفي على التفصيل، فلا يجتهد في إثبات اسم أو صفة، بل هو موقوف على تفصيل النصوص له، وأما النفي فهو في الجملة توقيفي كذلك، لكن ثمة معنىً مهم ذكره ابن تيمية رحمه الله، وهو أن يقال: إن الله منزه عن كل نقص؛ فهل يلزم أن هذا النقص الذي ينزه الرب عنه قد صُرح بنفيه في القرآن أو السنة؟ الجواب: لا يلزم، فصار المقام الأول: مقام الإثبات؛ لا يمكن أن نثبت لله اسماً أو صفة ليس في الكتاب والسنة. والمقام الثاني: مقام النفي؛ يمكن أن ينفى عن الله نقص لم يصرح بنفيه في القرآن. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولا يقتصر في باب النفي على ما ذكر تفصيلاً في القرآن أو في السنة، فإنه يسير، بل كل نقص فإنه ينفى عن الله). فمثلاً: لا يوجد في كتاب الله تصريح بنفي الجهل، وذلك لأن ذكر العلم صفة، واسمه له سبحانه وتعالى (العليم) يدل على نفي الجهل. ومن هنا استخلص العلماء قاعدة وهي: (أن كل إثبات يتضمن نفي ضده) وهذه قاعدة مطردة؛ لأن المتقابلين يمتنع اجتماعهما في العقل، ولهذا إذا قال قائل: لِمَ لَمْ يذكر الرب سبحانه وتعالى في كتابه تنزهه عن الجهل وغيره من صفات النقص؟ قيل: هذا مذكور على طريقة من التمام والبلاغة، وهو أنه ذكر إثبات المقابل، فعلم أن ضده يلزم أن يكون منفياً عنه، ومبايناً له سبحانه وتعالى. إذاً: نخلص إلى قاعدة وهي: أن باب الأسماء والصفات باب توقيفي، وأنه متحصل بالإثبات والنفي على القاعدة السالفة.

طريقة أهل السنة في إثبات الصفات

طريقة أهل السنة في إثبات الصفات قال الموفق رحمه الله: [وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل]. أبان الموفق رحمه الله في جمله السالفة وفي شرحها فيما بعد، أن طريقته في باب الأسماء والصفات هي طريقة الأئمة، وأن كل ما جاء في القرآن أو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من صفات الله، فإنه يجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل، وهذه القاعدة متفق عليها بين أئمة أهل السنة والجماعة، وحروفها التي ذكرها في هذه القاعدة هي في الجملة حروف بيِّنة. قوله رحمه الله: (وكل ما جاء في القرآن، أو صح عن المصطفى عليه السلام) عبر رحمه الله عن السنة، فقال: «أو صح» لأن في الأحاديث -كما هو معروف ومستقر- قدراً من التردد في ثبوت بعضها، والمعتبر هنا هو ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. نقول: إن الاستدلال بالقرآن بين، وأما السنة فإن المتكلمين أوردوا كلاماً إنما نورده هنا ونناقشه لكونه دخل على بعض الأصوليين والفقهاء، بل وبعض الحفاظ المتأخرين من أهل الحديث، وهو ما يتعلق بتقسيم السنة إلى متواتر وآحاد، ثم رتبوا على هذا التقسيم فروعاً كثيرة. والتقسيم إذا كان مجرد اصطلاح فإنه لا يمنع؛ لأنه لا مشاحة في الاصطلاح. ولكن من أين جاء هذا التقسيم؟ وما هو مورده؟ وهل هو مجرد اصطلاح فعلاً، أم له شأن آخر؟ بعض أئمة السنة المتقدمين كـ الشافعي رحمه الله يستعمل لفظ التواتر في كلامه، لكن هذا التقسيم من حيث الحد -أي: التعريف له- منزعه من نظار المعتزلة، ثم دخل على متكلمة الأشاعرة، وعلى من كتب في علم أصول الفقه، وليس غريباً أن يدخل في كتب أصول الفقه؛ لأن أكثر من كتب في علم أصول الفقه هم من علماء الكلام؛ كـ أبي الحسين البصري في المعتمد وهو حنفي، وكـ أبي المعالي الجويني في البرهان وهو شافعي، وكـ أبي حامد الغزالي في المستصفى وهو شافعي، ومحمد بن عمر الرازي في المحصول وهو شافعي، وبعض كتب المالكية التي بنيت على علم الكلام، فكتب أصول الفقه فيها مادة كثيرة من علم الكلام، وكتابها ومؤلفوها من المتكلمين. يقول أصحاب هذا التعريف: إن المتواتر ما رواه جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، والآحاد ما عدا ذلك .. ثم اختلفوا في هؤلاء الجماعة: كم عددهم؟ والذي عليه أكثرهم أنهم عشرة أو ما يقاربهم .. فهب أن المتواتر ما رواه عشرة ابتداءً؛ فعليه: لا يكون الحديث متواتراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا رواه من الصحابة عشرة، ورواه عن كل واحد من العشرة عشرة، فيكون العدد في الطبقة الثانية مائة، ورواه عن كل واحد من المائة عشرة، فيكون العدد في الطبقة الثالثة ألفاً، فهذا هو المتواتر، أما إذا لم يكن كذلك فإنه يكون آحاداً. لقد وضع المتكلمون من المعتزلة هذا الحد، وقالوا: لا يحتج في العقائد إلا بالحديث المتواتر، وحقيقة هذه النظرية الكلامية التي ابتدعوها ومؤداها أن السنة لا يحتج بها في مسائل أصول الدين، وحقيقة الأمر أن المعتزلة أنفسهم ليسوا أهل رواية ولا أهل علم بالحديث، ولما دخل هذا الكلام على الأصوليين من المتكلمين، وشاركهم بعض أصحابهم من الفقهاء، وممن كتب من الحفاظ في مصطلح الحديث؛ بحثوا عن حديث متواتر بالشرط المذكور آنفاً، أي: رواه عشرة من الصحابة أو أكثر، وعنهم مائة أو أكثر، وعنهم ألف أو أكثر، فقالوا: ليس له إلا مثال أو مثالان أو ثلاثة، بل قال بعض الحفاظ المحققين: «إن هذا الحد ليس له مثال منضبط»، وإن أئمة الحديث -كـ البخاري وابن معين وابن المديني وأمثال هؤلاء- لم يكونوا يعتنون بضبط مثل هذا أصلاً، ولا يعدونه من مقصودهم، ولا يسمونه متواتراً. وحتى لو فرضنا جدلاً أن عشرة أحاديث مثلاً قد انضبط تواترها على هذه الطريقة، فمعناه: أن عامة السنة لا يحتج بها. وعليه فهذا الحد للمتواتر والآحاد -وإن كان موجوداً في كتب المصطلح، وذكره بعض الحفاظ الفضلاء؛ كـ ابن الصلاح، وابن حجر وأمثالهما- هو حد مخترع من المعتزلة، ويجب تركه وإنكاره؛ لأن مؤدَّاه الطعن في تحقيق النبي صلى الله عليه وسلم لمسائل أصول الدين، وأنه لم ينضبط نقل الصحابة لها. مسألة: هل المتواتر يفيد العلم، والآحاد لا يفيد إلا الظن؟ الجواب: هذه مسألة نظرية، وفيها تفصيل وخلاف، ذكره ابن حزم وابن تيمية وجماعة، ولكن الذي يصح أن يقال عنه: إنه متواتر -وهو مراد الشافعي وأمثاله من المتقدمين- هو ما اتفق المحدثون عليه، أو استفاض ذكره في السنة، واستقر قبوله عند أهل العلم؛ فهذا كله يسمى متواتراً، كحديث جبريل، فإنه حديث تُلقي بالقبول، وكحديث: (إنما الأعمال بالنيات ...)، فإنه غريب في مبدئه، وإن كانت الأمة قد تلقته بالقبول، وأجمع المحدثون على ثبوته. فما استفاض ذكره من النصوص، وتوارد القبول عليه عند أئمة أهل الحديث، فهذا يسمى: متواتراً، وهذه التسمية -بهذا الاعتبار وعلى هذا التعريف- مناسبة للشرع واللغة والعقل، وأما النظرية التي وضعها المتكلمون، ودخلت على بعض المتأخرين، فهي نظرية باطلة، لا يمكن أن يعتبر بها شيء؛ لأن محصلها ترك الاحتجاج بالسنة في مسائل العقائد، وهذا هو مذهب الغلاة من أهل البدع.

وجوب الإيمان بنصوص الكتاب والسنة

وجوب الإيمان بنصوص الكتاب والسنة قوله رحمه الله: «وجب الإيمان به» أي: بما جاء في كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، الإيمان بهذه النصوص وما دلت عليه، والإيمان: هو التصديق والقبول المستلزم للعمل، أو المتضمن للأعمال، وهذا هو معنى الإيمان الشرعي، وليس مجرد المعرفة فقط، فإن المعرفة تقع من غير المسلمين؛ فقد قال الله تعالى حاكياً عن اليهود: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] وإن سمَّى الله سبحانه وتعالى اتِّباع ما بعث به نبيه عليه الصلاة والسلام علماً ومعرفة، إلا أن الغالب -وهو الأصل- أن هذا يسمَّى إيماناً؛ فالإيمان إن لم يكن متضمناً للأعمال الظاهرة والباطنة، فإنه مستلزم لها؛ إذا ما قيل: إن الإيمان من جهة أصله يسمَّى التصديق. ولهذا فإن السلف رحمهم الله لما عرفوا الإيمان قالوا: هو قول وعمل، وهذا لازم من جهة الشرع، ومن جهة الدلائل فإنه لا يكون مؤمناً بمحض التصور الذي هو المعرفة فقط، بل ولا بد أن ينقاد القلب، ويحصل بذلك أثر على الظاهر. قوله رحمه الله: «وتلقيه بالتسليم والقبول» أي: لا يتعرض لتأويله، ففي إشارة إلى الرد على من اشتغل بتأويل نصوص الأسماء والصفات، فإن هذا نوع من ترك التسليم والقبول، ولهذا قال: «وترك التعرض له بالرد» وكأنه أشار بمسألة الرد إلى طعن خلق من المتكلمين فيما يسمونه من الأحاديث آحاداً، وإلا فليس من المسلمين من رد شيئاً من كلام الله أو كلام نبيه صلى الله عليه وسلم أو طعن فيه؛ إذا بان له أنه صح عنه عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا الرد لا يكون إلا كفراً وزندقة وخروجاً من الملة.

التأويل في اصطلاح المتكلمين

التأويل في اصطلاح المتكلمين قوله رحمه الله: «والتأويل» أي: ترك التأويل له، والتأويل: لفظ مجمل ذكر في الكتاب والسنة على معنى الحقيقة، وذكر على معنى التفسير، وأما التأويل الذي قصد المصنف إلى إبطاله، فهو: ما اصطلح المتكلمون عليه، من صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لقرينة، أو صرف اللفظ عن ظاهره إلى مؤوله لقرينة أو صارف .. وهذا هو التأويل في اصطلاح المتكلمين. ولفظ التأويل الذي ذكر في الكتاب والسنة على غير هذا المعنى، بل على معنى الحقيقة، كقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف:53] أي: حقيقته، أو يراد بالتأويل التفسير، كقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] في حالة الوقف على كلمة (العلم)، ومنه قول ابن جرير وأمثاله: (القول في تأويل قوله تعالى). ومنه قول الإمام أحمد: (ويتأولون القرآن على غير تأويله). وقالت عائشة رضي الله عنها -كما في الصحيحين-: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن)، وقال سفيان بن عيينة: (السنة تأويل الأمر والنهي)، أي: تحقيقها. فالتأويل على المعنى الشرعي: إما الحقيقة، وإما التفسير للكلام. وأما التأويل بمعنى صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لقرينة فهو تعريف المتكلمين، وهو مبني على مسألة الحقيقة والمجاز.

مسألة الحقيقة والمجاز

مسألة الحقيقة والمجاز هي مسألة نظَّر لها اللغويون من المعتزلة. وقد اعتنى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما بإبطال مسألة المجاز؛ لأن أصل تقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز إنما هو من كلام أهل اللغة من المعتزلة؛ لنصر مذهبهم الذي حارب ظاهر النصوص في تقرير مسائل الأسماء والصفات. وظاهر من تعريف التأويل أن الكلام عندهم: ظاهر ومؤول، وحقيقة ومجاز، فكأن المعنى أن السياق من كلام الله أو كلام رسوله له معنيان: معنى ظاهر، ومعنى مؤول، أو معنى حقيقة ومعنى مجاز، وهذا كما قال شيخ الإسلام: إنه ممتنع في العقل، فإن المتكلم إذا كان مريداً إرادة معينة وكان كلامه فصيحاً، فإنه لا يريد بكلامه في نفسه إلا معنىً واحداً، وإذا تُردد في فهمه، أو تعدد فهم السامعين له، فهذا التردد من الفاهمين، وليس من صاحب الكلام نفسه؛ ولهذا فإن كل كلام الباري سبحانه وتعالى المذكور في القرآن، أو كلام النبي عليه الصلاة والسلام، هو في مراد الله ورسوله على معنىً واحد، ولا يصح أن يقال: إن له ظاهراً ومؤولاً، أو له حقيقة ومجازاً، فمن مثل هذا الضلال ظهرت بدع الباطنية وأمثالهم. وإن كان المتكلمون لا يقولون: إن ثمة ظاهراً أو باطناً، فهذا تقسيم عند من يأخذون مبدأ الإشراق أو مبدأ التصوف أو مبدأ التسليم بالحقائق دون عرضها على العقل من غلاة الشيعة والصوفية والإسماعيلية وغيرهم.

إبطال القول بالمجاز

إبطال القول بالمجاز المتكلمون أصحاب النظر العقلي يقسمون كلام الله سبحانه وتعالى إلى ظاهر ومؤول. فالظاهر: هو ما يظهر من الكلام. وأما المؤول: فهو المعنى الذي دلَّ عليه حكم العقل، وهذا تناقض؛ لأنه يلزم منه أن الظاهر لم يدل عليه حكم العقل، وهذه مسألة يطول شرحها، لكن يمكن أن نلخصها فنقول: إن هذا التقسيم من جهة الأصل بدعة في الشرع، ثم هو فوق كونه بدعة في الشرع هو ممتنع في العقل؛ لأن المتكلم إذا تكلم بكلام فإنه يريد بكلامه معنىً في نفسه، وهذا في سائر كلام بني آدم -ولله المثل الأعلى- فسائر المتكلمين إذا تكلموا فإنهم يريدون بكلامهم هذا معنىً واحداً، ويمتنع أن يكون أحدهم مريداً لأكثر من حقيقة، ولا سيما إذا كانت الحقائق بينها اختلاف أو تضاد، فمثلاً لو قال شخص: جاء زيد، يمتنع أن يكون أراد في نفس الوقت أنه جاء وأراد أنه لم يجئ، وكما نبه شيخ الإسلام ابن تيمية في أول الرسالة التدمرية: (أن باب الأسماء والصفات يدور بين الإثبات والنفي) أي: أنه باب خبري، ومعنى هذا: أن الخبر القرآني إما أن يراد به إثبات شيء، وإما أن يراد به عدم إثباته، فمثلاً: قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] إما أن يراد أن الله كلمه، وإما أن يراد عدم ذلك. إذاً: يمتنع أن المتكلم يتكلم بكلام ويريد به جملة من الحقائق بينها اختلاف وتضاد، وفوق هذا كله تكون هذه الحقائق المتضادة بعضها ظاهر وبعضها يحتاج إلى تأويل، وعليه فهذا التقسيم ممتنع أيضاً من جهة العقل. بل الصواب عقلاً وشرعاً أن كلام الله سبحانه وتعالى واحد من جهة المعنى، وأن الله أراد به معنىً واحداً.

اختلاف السلف في فهم نصوص القرآن والسنة لا يدل على تقسيمها إلى ظاهر ومؤول

اختلاف السلف في فهم نصوص القرآن والسنة لا يدل على تقسيمها إلى ظاهر ومؤول إذا قيل: إن في آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تردد العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم في فهم معناها على أقوال؛ فمنهم من فهم من الآية الوجوب، ومنهم من فهم من الآية الاستحباب، أو غير ذلك، فمثلاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد في الصحيح: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) فهم طائفة من أهل العلم أن غسل الجمعة فرض عين، وأنه واجب لا بد منه، ويلحق الإثم بتركه، وفهم الجمهور -وهو الصحيح- أن غسل الجمعة ليس واجباً على التعيين، وأن كلمة (واجب) لا يراد بها الوجوب الاصطلاحي. والقصد أن العلماء اختلفوا في فهم الأدلة، فما الجواب عن هذا. يقال: الاختلاف الذي وقع بين علماء السلف في فهم بعض آيات القرآن وبعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع إلى ذات الكلام، بمعنى: أنهم يتفقون أن الكلام إنما يراد به معنىً واحد، فهم متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد من حديثه حكماً واحداً؛ إما الوجوب وإما الاستحباب، لكن اختلفوا في تعيين هذا الحكم؛ فالاختلاف يرجع إلى مادتهم الاجتهادية، ولكن باب الأخبار -والذي منه باب الأسماء والصفات- ليس كباب الأمر والنهي، فباب الأخبار لا يرد عليه ذلك؛ لأنه إما أن يثبت الشيء وإما أن ينفى، فقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر:22] هذا إسناد صريح من جهة لغة العرب، ويمتنع أن يفهم أحد من لفظ المجيء إذا أضيف إلى معين أكثر من حقيقته الظاهرة؛ فإذا قال شخص -ولله المثل الأعلى-: جاء زيد، لم يتردد العقلاء في فهم هذه الجملة بأي لغة عبر بها، فهم يفهمون أن رجلاً يسمى زيداً قد جاء مجيئاًَ يختص به ويناسبه. إذاً: تقسيم الكلام إلى ظاهر ومؤول غلط من أصله؛ فهم بنوه على وجه زعموا أنه من اللغة، وهو: أن اللغة تنقسم إلى حقيقة ومجاز، وهذه المسألة كثر فيها الجدل، ولكن يمكن أن يلخص فيها تقرير يسير فيقال: تقسيم الكلام في القرآن والسنة إلى حقيقة ومجاز يقع على أحد وجهين؛ فإن أريد به الوجه اللفظي الاصطلاحي فهذا لا مشاحة فيه؛ فمثلاً: قوله تعالى: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] من قال: إن هذا من باب المجاز في اللغة. وأراد أن العرب تحذف المضاف وتقيم المضاف إليه مقامه، وأن هذا مما تجوزه اللغة، أو من مجازات لغتهم، وأن المراد أهل القرية، فهذه التسمية اصطلاحية. إذاً: تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز إن كان من عوارض الألفاظ؛ فهو اصطلاح لا بأس به. وإن كان هذا التقسيم من عوارض المعاني، فهذا هو المشكل، وهو المستعمل عند اللغويين من المعتزلة، وشاع في كلام الأصوليين وغيرهم على معنىً قالوا فيه: الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، وهذا تعريف للحقيقة والمجاز مشهور عندهم.

إيراد عقلي على مسألة الحقيقة والمجاز

إيراد عقلي على مسألة الحقيقة والمجاز وهذا التعريف مشكل من أوجه كثيرة، ومن أخصها أنه يتضمن أن ثمة في الكلام استعمالاً ووضعاً؛ لأنهم قالوا: الحقيقة هي: اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، وما دام ثمة استعمال وثمة وضع، فلا يمكن أن يكون هذا التعريف صواباً أو ممكناً إلا إذا تحصَّل الإدراك للوضع والاستعمال، وأن بينهما افتراقاً. المستعمل هم العرب في كلامهم من الجاهليين، ومن أدرك فصيح اللغة بعدهم، وإذا كان الاستعمال هو استعمال العرب، فالوضع لمن إذا قيل: هو وضع العرب، امتنع أن ينفك الاستعمال عن الوضع، وهذه النظرية لا يمكن أن تكون صحيحة في العقل إلا إذا فرض أن ثمة وضعاً انضبط، ثم أعقبه استعمال، فإذا تناسب الاستعمال مع الوضع، سمِّي الكلام حقيقة، وإذا خرج الاستعمال عن الوضع سمِّي الكلام مجازاً، أما إذا كان الاستعمال هو الوضع، أو امتنع امتياز أحدهما عن الآخر، فإن التقسيم يكون غير ممكن في العقل. وهذا إيراد عقلي متين على مسألة الحقيقة والمجاز؛ ولهذا فإن المعتزلة خاصة ومن شاركهم في نظريتهم في هذا التقسيم، عنوا في مقدمات كتبهم بتقرير مسألة مبدأ اللغات، وكيف بدأت اللغة، وبدءوا يذكرون أقوالاً، ومع أن هذه المسألة تكلم عنها بعض المفسرين في مثل قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] فقيل: إنها لغة آدم، وقيل: كانت الجن تتكلم بها، وقيل: إلهام، وقيل: تعارف، وقيل غير ذلك، وهل العلم ممكن بهذه المسألة، أم لا؟ وعليه قد نقول: الراجح أن العلم بهذه المسألة غير ممكن، إلا إن جاء نص إلهي نبوي عن طريق الوحي بأن اللغة تحصَّلت بكذا وكذا، وإلا كان العلم بهذه المسألة متعذراً. وعليه تبقى مسألة الحقيقة والمجاز مسألة نظرية، أما إذا دخلت إلى عمق المعاني فهي مرفوضة وغلط؛ لكونها ممتنعة في العقل، وممتنعة التحصيل. وهناك سؤال وجه إلى المعتزلة وهو قوله تعالى: (وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ) ما المقصود بذلك؟ الحذاق منهم حاولوا الإجابة عن هذا السؤال فقالوا: إن الجدار مثلاً لا يسأل، أو القرية لا تسأل، وإنما المقصود أهل القرية، نقول: هذا لا مشاحة فيه، ولا أحد من العقلاء حتى من غير المسلمين، فضلاً عن العرب الذين سمعوا القرآن يفهم خلاف هذا، فجميع العقلاء إذا سمعوا مثل هذه الآية فهموا أن المقصود أهل القرية، وأن في الكلام حذفاً. ومحصَّل الجواب عن إشكال المعتزلة أن يقال: إن عامة ما جعلوه مجازاً هو في اللغة على أحد وجهين: الوجه الأول: أن يكون من باب الحذف، وهذا كثير في اللغة؛ وكثيراً ما يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه، وهذا لا إشكال فيه ألبتة، وهذا الحذف ليس خاصاً بلغة العرب، بل هو موجود في جميع ألسنة بني آدم؛ يحذفون المعلوم من الكلام اختصاراً، ولهذا قال ابن مالك في ألفيته: وحذف ما يعلم جائز كما ... تقول: زيد؛ بعد من عندكما؟ وفي جواب كيف زيد؟ قل: دنف ... فزيد استغني عنه إذ عرف فالمقصود: أن الحذف في الكلام شائع في جميع ألسنة بني آدم عامة، والعرب خاصة، وهو أنهم يحذفون بعض الكلمات المعلومة ضرورة، فمثلاً: إذا قال لك شخص: كيف زيد؟ أو كيف عمرو؟ فإنك تقول: صحيح أو حسن أو مريض، ولا يلزمك لغةً ولا عقلاً ولا نظراً أن تقول: زيد صحيح؛ لأنه إنما سأل عن زيد. وتسمية هذا الحذف مجازاً إذا قصد به -أن اللغة تجيزه- فهذا لا مشاحة فيه، وهذه هي تسمية أبي عبيدة معمر بن المثنى حين قال: وهذا من مجاز اللغة، أي: مما تجوزه اللغة، وورد مثل هذا عن الإمام أحمد أيضاً. الوجه الثاني: هناك نظرية عقلية وهي أن العرب وغيرهم يمتنع أن يحذفوا من كلامهم ما قصدوا به الإفهام؛ بل لا يحذفون من كلامهم إلا ما كان معلوماً ضرورة، فإذا رجعنا إلى كلام الله سبحانه وتعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم -والكتاب والسنة هما هدىً وبيان للناس- فما كان فيهما من حذف فهو على نسج كلام العرب؛ يلزم أن يكون المحذوف معلوماً ضرورة؛ كقوله تعالى: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] علم ضرورة أن المقصود أهل القرية، وهذا علم عقلي. أما أولئك المتكلمون فإنهم فسروا قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] من جنس قوله: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] ونحن نقول: هذا ممتنع؛ لأن الاتفاق العقلي واللغوي من شرطه أن يكون المحذوف معلوماً، وهو هنا ليس معلوماً، بل المحذوف ممتنع العلم. ومن لم يثبت مجيء الله سبحانه وتعالى على ما يليق به، وقال: إن الآية ليست على ظاهرها، أو أن هذا مجاز، أو أن هذه الحقيقة ليست مرادة، والمراد هو المجاز! يقال له: إن هذا خبر قصد تصديقه في القرآن، وإذا كان في الكلام حذف، فلا يفهم الكلام إلا إذا علم المحذوف، والعلم بالمحذوف ممتنع؛ لتعدد الإمكان؛ فإن منهم من يقول: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] أي: جاء أمره، ومنهم من يقول: جاءت ملائكته أو رحمته، ومنهم من يقول: أي: جاء قسطاسه أو جاء عدله؛ فصار تقدير المحذوف عند المخالفين متعدداً، والذي أراده الله حقيقة هو شيء واحدٌ، وفرق بين أن يجيء جبريل، أو تجيء جملة من الملائكة، أو يكون المقصود مجيء رحمته، أو ما إلى ذلك. إذاً .. هناك سؤال يوجه للمخالفين: ما الذي جعل التعيين لواحدٍ من هذه المتعددات أمراً متحققاً؟ فمن قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] أي: جاء أمره مثلاً، فإننا نقول له: قد يكون المقصود: جاء جبريل، وهذا على تأصيلكم؛ لأنكم جوزتم أن يكون الكلام في مثل هذه الحالة ليس على ظاهره. فالنتيجة إذاً: أنه لما تعدد المحذوف إمكاناً، عُلم أن الكلام على ظاهره وليس فيه حذف، وأن قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] أي: جاء هو سبحانه وتعالى مجيئاً يليق بجلاله. وذلك أن المحذوف من شرطه الضروري في جميع ألسنة بني آدم أن يكون معلوماً علماً بيِّناً، وعليه فليس في القرآن حذف إلا إذا استقر في فهم المخاطب ابتداءً أن في الكلام حذفاً، وإلا فإن السياقات تبقى على ظاهرها. ولفظ "الظاهر" لم يأت ذكره في القرآن على معنى الكلام، إنما جاء في مثل قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] وهذا باب آخر وهو باب العمل، ومع ذلك فلما اشتغل بعض الناس بلفظ "الظاهر" وغلوا في ذلك، قال أهل السنة: إن كلام الله وكلام رسوله قد يكون أحياناً على غير ظاهره، فمن قال هذا من هذا الباب فلا بأس بذلك، ولكن التقسيم لكلامه سبحانه وتعالى إلى ظاهر وباطن أو ظاهر ومؤول بدعة محدثة في الدين باطلة في الشرع. الوجه الثاني من أوجه ما جعلوه مجازاً: أن يكون ذلك لفظاً مشتركاً، أي: يُستعمل في أكثر من سياق ومعنى، كلفظ اليد، فإنها تستعمل ويراد بها الصفة المتعلقة بالحي، وتستعمل اليد ويراد بها النعمة، ومع أن هناك تناسباً بين معنى النعمة وبين معنى اليد الصفة؛ لأن النعمة إنما تعطى بهذه اليد. فلفظ (اليد) لفظ مشترك متعدد المعنى، ولما زجر أبو بكر الصديق رضي الله عنه عروة بن مسعود الثقفي في قصة صلح الحديبية -كما في الصحيح- قال عروة: من هذا؟ قالوا: هذا أبو بكر، فقال له عروة بن مسعود الثقفي: (لولا يد لم أجزك بها لأجبتك) أي: لولا نعمة، فهم يقولون: إنه من باب المجاز، ونحن نقول: كلا، هذا من باب الحقيقة، ولكن لو فرض جدلاً أن هذا يسمَّى مجازاً في اللغة فلا بأس. والمقصود: أن بعض الكلمات في اللغة متعددة المعاني باعتبار السياق، لكن ليس في كلام العرب سياق واحد يحتمل جملة من معاني الخطاب، ولا يقع ذلك إلا على أحد وجهين: إما أن يكون المتكلم ليس فصيحاً، وإما أن يكون السامع ليس تام الفهم والإدراك، وعليه فالعرب تُعِّرف اليد بمعنى النعمة، لكنها تفهم أنها هي المراد من خلال السياق؛ فالسياق نفسه يدل على ذلك، فالاعتبار بالسياقات وليس بأفراد الكلمات.

التفويض ومخالفته لطريقة السلف

التفويض ومخالفته لطريقة السلف قال المصنف بعد تقريره لهذه القاعدة في الصفات: [وما أشكل من ذلك -أي: في باب الصفات- وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله]. هذه المسألة من أشد ما أخذ على الموفق رحمه الله، وكما أسلفت فرسالته هذه ليس فيها غلط محض بيِّن، إنما فيها بعض الأحرف المحتملة، فهل هذه العبارة من المصنف تقرير للتفويض، أم لا؟ وقبل الجواب ينبغي أن يعلم أن الاعتبار دائماً يكون بتحقيق الحقائق، وأما أن هذا المعين من الناس يقول بهذا المذهب أو لا يقول به، فهو غير مهم، والمهم أن يكون بين لنا ومعلوم أن التفويض في الصفات طريق بدعيٌ لا أصل له في كلام السلف. فكما أن السلف رحمهم الله تركوا التأويل، وقالوا بوجوب البقاء على ظواهر النصوص، وأن النصوص معناها واحد، إلى غير ذلك، فإنهم تركوا قول المفوضة أيضاً، والمراد بالمفوضة: هم من زعموا أن هذه النصوص يُعمل بألفاظها وأما معانيها فليس هناك معنىً يُؤمن به، وإنما يفوض العلم بالمعنى إلى الله، وهذا مذهب غلط ومبتدع، وكما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إن قول المفوضة من شر أقوال أهل البدع".

مسالك أهل البدع تجاه صفات الله تعالى

مسالك أهل البدع تجاه صفات الله تعالى مذهب السلف في مقام الصفات هو الإيمان بالأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. وهناك ثلاثة مسالك بدعية: المسلك الأول: مسلك المعطلة والمؤولة؛ الذين عطلوا صفات الله وتأولوها على معانٍ سموها مجازاً، كقولهم: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] أي: جاء أمره، وقولهم: إن (استوى) بمعنى: (استولى) وهذا مذهب المعتزلة ومن وافقهم من متكلمة الصفاتية كالأشاعرة وغيرهم. المسلك الثاني: مذهب التشبيه، وهم من شبه الله بخلقه، شبه الخلق بصفات الخالق، والمشبهة أصلهم من أئمة الشيعة، ثم دخل على بعض الأحناف أتباع محمد بن كرام. وهذان المذهبان -أعني: مذهب التشبيه ومذهب التعطيل والتأويل- لم يشتبه على أحد من أصحاب السنة والجماعة من الفقهاء المبتعدين عن علم الكلام أنهما مذهبان مخالفان لمذهب السلف. المسلك الثالث: مذهب المفوضة، والتفويض هو الذي اشتبه على بعض الفقهاء التاركين لعلم الكلام فقالوا: إنه قول طائفة من السلف، فظنوا أن السلف مفوضة؛ أي: أنهم يقولون: إن هذه الألفاظ يُعمل بها، وأما معناها فيسكت عنه، وهذا التفويض لا شك أنه بدعة، وهو ممتنع عقلاً، وفي تقرير هذه المسائل يجب أن يظهر التوافق بين العقل والنقل، وأنه لا تعارض بينهما. وإنما كان التفويض ممتنعاً عقلاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما أراد بهذه الأخبار التعريف به، فإذا كان معناها غير مُدرك فإن المعرفة به سبحانه لن تكون ممكنة، ولأن الله سبحانه وتعالى أراد بذكر الخبر معنىً معيناً، كقوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] فهذا خبر متضمن لإثبات صفة السمع صراحة، وإذا لم يكن هناك فقه وفهم للصفة، فإن العلم بهذا الخبر يكون علماً ممتنعاً؛ فالتفويض لهذا قول متعدٍ، ولكن مع كونه بدعة أو متعذراً في الشرع والعقل، فإن طائفة من الفقهاء المبتعدين عن علم الكلام امتدحوه، وظنوا أنه طريق للسلف أو لطائفة منهم، ولذلك يمكننا أن نقول: التأويل طريق المتكلمين ومن وافقهم أو تأثر بهم، والتفويض طريق جماعة من الفقهاء والصوفية المعظمين للسنة والأئمة، ولكنهم لم يحققوا مذهبهم.

تبرئة المصنف من مذهب المفوضة

تبرئة المصنف من مذهب المفوضة مسألة: هل ابن قدامة يعتنق مذهب التفويض أم لا؟ يقال: هذه مسألة محتملة، ولكن الأظهر في طريقته رحمه الله أنه لا يوافقهم، وإن كانت بعض ألفاظه المجملة قد تشعر بشيء من ذلك، والدليل على أن الموفق رحمه الله ليس مفوضاً أنه جعل القاعدة في الأسماء والصفات هي الإثبات بالتسليم والقبول والإيمان، وترك التعرض لأدلة الصفات بالرد والتأويل؛ وهذا كله وغيره تقرير للإثبات المعروف عند السلف. ثم إن هذا التقرير الذي ابتدأ به هو الذي فصَّله في رسالته هذه وفي غيرها من رسائله التي كتبها في أصول الدين؛ فقد ذكر تفصيل الإثبات للقرآن وأنه كلام الله، وتفصيل الإثبات لصفاته الأخرى سبحانه وتعالى، ولهذا فإنه قال: [وما أشكل من ذلك] فبهذا يُعلم قطعاً أن الموفق ليس مفوضاً، إنما المحتمل أن يكون عنده شيء من التفويض، وفرق بين من دخل عليه شيء من التفويض وبين من طريقته في الأصل طريقة المفوضة. وعليه فما علَّقه بعض المعاصرين: من أن صاحب الرسالة يذهب إلى مذهب المفوضة، وهو مذهب مخالف لمذهب السلف لا شك أن هذا الكلام فيه مبالغة وخلط، فالحقائق يجب أن تكون معتدلة، أما أن مذهب المفوضة مخالف للسلف فنعم، لكن أن يفتات على إمام من الأئمة ويطعن فيه من باب ضبط السنة، فهذا ليس بلازم، فإنه يمكنك أن تضبط السنة من غير أن تطعن في أئمتها وحملتها. فالإمام ابن قدامة قال: [وما أشكل من ذلك] فدل على أن جمهور الأدلة في الصفات غير مشكل، والذي هو غير مشكل لم يذكر فيه تفويضاً إنما ذكر التفويض في المشكل، فدل على أن غير المشكل عنده على معناه الحقيقي، وأن المشكل ليس قاعدة مطردة، وهذا قدر لا بد أن يُضبط. ثم هذا المشكل الذي قال فيه المصنف ما قال، هل قصد أنه يفوض فيه تفويضاً بدعياً؟ نقول: هذا مبني على مراده بالمشكل، وهناك واقع لا بد من اعتباره، فالمؤلف جاء بعدما غلا كثير من الحنابلة في الإثبات؛ فهذه مسألة فيها شيء من التاريخية لا بد أن يُتصور ليُفهم مراده رحمه الله. والحنابلة -كقاعدة معروفة- إمامهم رحمه الله كان له من الاختصاص في الرد على المعتزلة الذين هم أساطين علم الكلام أكثر مما كان لغيره بسبب مسألة فتنة خلق القرآن، وقد جاء بعد عصر الأئمة الأربعة رجلان: أبو الحسن الأشعري وهو شافعي فقهاً، وأبو منصور الماتريدي، وهو حنفي فقهاً، وهذان الرجلان ليسا ممن يعارض الأئمة، بل ممن يؤمن بمنهج أهل السنة والجماعة كمنهج عام متأصل وقد انتسبا إليه، لكنهما على طريقة علم الكلام، فأنتجا -هما ومن سار على نهجهما- هذه المذاهب التي هي ملفقة من السنة والبدعة. ومن هنا دخل علم الكلام على كثير من الشافعية عن طريق الأشعري، كما دخل على كثير من الأحناف عن طريق الماتريدي. وأما الحنابلة فلم يظهر فيهم علماء متكلمون ينتسبون إلى الإمام أحمد فقهاً، ولكن فيما بعد ظهر من الحنابلة -كـ أبي الحسن التميمي وكـ أبي الفضل التميمي، وأمثال هؤلاء: كـ ابن عقيل وكالقاضي أبي يعلى زمناً من عمره- من تأثر بالكلابية والأشاعرة، وفي المقابل كان هناك قسم آخر من الحنابلة يبالغون في ضبط مذهب الإمام أحمد في الصفات والبعد عن التأويل وعلم الكلام إلى حد الزيادة، بمعنى: أنهم بدءوا يفصِّلون جملاً لم يفصلها السلف ولم يخوضوا فيها من باب تحقيق الإثبات، ومن هؤلاء أبو عبد الله بن حامد مثلاً. فتحصل من هذا أن طائفة من الفقهاء انتحلوا علم الكلام وبعض طرق أهل البدع، وطائفة أخرى في المقابل من أصحاب الأئمة -ولا سيما من الحنابلة- كان عندهم قدر من المبالغة في الإثبات لم تُعرف عن الأئمة رحمهم الله، فبدءوا يفصلون في أمور فيها قدر من الإجمال. والظاهر أن ابن قدامة رحمه الله كان يبتعد عن أهل هذه الطريقة، ويرى أن ما زاد عن كلام السلف والأئمة، فإنه يجب التوقف فيه، والمعاني التي يسأل عنها الناس مما زاد على تقرير السلف يفوض علمها إلى الله سبحانه وتعالى. وخلاصة الكلام أن المعاني التي تكلم فيها المتأخرون من المعظمين للسنة والجماعة وطريقة السلف، تنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: قسم من المعاني كان مستقراً عند السلف، وهو الذي دلت عليه ظواهر النصوص. - القسم الثاني: قسم متكلَّف أو مشتبه من المعاني، وبعض من رام التحقيق -كابن حامد مثلاً وبعض أتباع أصحاب المذاهب الأربعة- بالغوا في إثباته، حتى وصل في بعض الأحيان إلى حد التشبيه، أي أنه إذا قيل: إن الكرامية مجسمة أو مشبهة، فليس ذلك على إطلاقه؛ فـ ابن كرام لم يكن يقصد موافقة هشام بن الحكم من الشيعة في التشبيه، بل كان يذمه ويذم التشبيه، لكنه بالغ في الإثبات حتى ارتكب بعض التشبيه؛ فكأن ابن قدامة رحمه الله ينتقد الطائفتين: أهل التأويل من الحنابلة الذين تأثروا بالكلابية، وأيضاً من بالغوا في إثبات المعاني التي سئلوا عنها وكان الواجب أن يرد علمها إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الاحتمال الراجح، والاحتمال المرجوح: أن ثمة بعض الأحرف من الصفات مشكلة عند ابن قدامة، ويرى أنه يجوز فيها التفويض. ولكن على كلا التقديرين لا يمكن أن يقال: إن الموفق يذهب ذهاباً تاماً مطرداً إلى مذهب المفوضة، فهذا لا شك أنه قدر من التعدي والافتئات عليه رحمه الله.

شرح لمعة الاعتقاد [3]

شرح لمعة الاعتقاد [3] عقيدة أهل السنة في صفات الله: أن الله تعالى موصوف بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ويعتقدون أن آيات الصفات آيات محكمة يجب الإيمان بما دلت عليه من الصفات، وأنها صفات حقيقية لله تعالى تليق بجلاله سبحانه، ويثبتون ما دلت عليه من المعاني اللائقة بالله تعالى، وعليه فمن نسب إلى السلف أنهم يفوضون معاني الصفات فقد أخطأ عليهم، إنما كانوا يفوضون كيفية الصفات لا معانيها.

هل آيات الصفات من المحكم أو المتشابه؟

هل آيات الصفات من المحكم أو المتشابه؟ قال الموفق رحمه الله: [اتباعاً لطريقة الراسخين في العلم، الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]]. ألحق المصنف بعد ذلك ذكر ما يتعلق بالمحكم والمتشابه، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن القرآن كله محكم، وذكر أنه متشابه، وذكر أن منه آيات محكمات وأخر متشابهات. فأما إحكامه العام فهو ضبطه واستقامة معناه، وأنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأما تشابهه العام، فالمراد به أن بعض القرآن يُصدِّق بعضاً ويشبه بعضاً، كما تقول: هذه المسائل أشباه؛ لما بينها من التوافق والاشتراك. وأما المحكم الخاص والمتشابه الخاص المذكوران في سورة آل عمران في الآيات التي ذكرها المصنف هنا، فهما محل خلاف بين المفسرين. مسألة: هناك جملة من المتكلمين اعتبروا آيات الصفات هي المتشابه، ومنهم -وهم قلة من المتكلمين- من جعل آيات الصفات من المتشابه، وفرق بين الطريقتين، فأما من قصر التشابه على آيات الصفات فهم المتكلمون من أهل البدع، وأما من قال: إن آيات الصفات من المتشابه، فكلامه أيضاً لا أصل له، فآيات الصفات لا يجوز أن تُعد من المتشابه، وابن قدامة هنا وَهِمَ رحمه الله، لكن هذا الوهم ليس عقدياً، وإنما هو وهم تفسيري؛ لأنه لم يجعله مطرداً في سائر الصفات، إنما يقول: إن المشكل يكون متشابهاً فقط، والمتشابه يجب تفويضه إلى الله اعتماداً على هذه الآية. والصحيح أن آيات الصفات من المحكم، وليست من المتشابه، وإنما المتشابه ما أشكل أو تردد معناه، وعليه فقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] إذا كان الوقف على ذلك، فإن المتشابه: هو ما يمكن طائفة من أهل العلم فهمه، ويكون من جنس قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان: (الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس). وأما إذا كان الوقف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] وقوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] ابتداء جملة خبرها: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] فإن المتشابه حينئذٍ يراد به: الحقائق الغيبية التي اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها، كحقيقة العذاب والنعيم، وكحقائق كيفية صفاته سبحانه وتعالى، فهذه لا يعلمها إلا الله، وهي شيء مجهول للمخاطبين. ثم قال المصنف رحمه الله: [وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] فجعل ابتغاء التأويل علامةً على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أمَّلوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7]]. لم يقصد المصنف بهذا الكلام أن سائر آيات الصفات هي من المتشابه الذي يفوض عن معناه، والدليل على أنه لم يرد ذلك: أنه فصَّل في رسالته هذه -كما فصل في غيرها- ذكر الأسماء والصفات ومعانيها وما إلى ذلك، ولهذا لما ذكر الإمام ابن تيمية الحنابلة قال: "إنهم ثلاثة أقسام: قسم يميل إلى شيء من طرق المتكلمين كبعض التميميين كـ ابن عقيل وأمثاله. وقسم يبالغون في الإثبات ويزيدون فيه، كـ أبي عبد الله بن حامد ". ثم قال: "وقسم من أصحابنا محققون لطريقة الأئمة كـ أحمد وغيره، وطريقته هي طريقة أهل الحديث المحضة؛ كالشيخ أبي محمد "، ويقصد بالشيخ أبي محمد الموفق ابن قدامة صاحب هذه الرسالة، فحكم شيخ الإسلام عليه حكم عادل، ولهذا لو كان الموفق مفوضاً لما فات شيخ الإسلام ذلك، ولا سيما أن هذه الرسالة: "اللمعة" قد وضع ابن تيمية نفسه رسالته "الواسطية" على نسجها، ومن يتأمل رسالة الموفق ورسالة الإمام ابن تيمية، يجد تشابهاً بيناً بين الرسالتين، حتى أنه كرر بعض الأحرف، ورتب بعض المسائل على نفس المنوال. وكذلك العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، فإنه بعدما علّق على قول ابن قدامة: "وجب إثباته لفظاً" قال:" والمصنف رحمه الله إمام في السنة، وهو أبعد الناس عن مذهب المفوضة وغيرهم من المبتدعة، والله أعلم". اهـ.

عقيدة الإمام أحمد في آيات الصفات

عقيدة الإمام أحمد في آيات الصفات ثم قال المصنف رحمه الله: [قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا)، وإن الله يرى في القيامة، وما أشبه هذه الأحاديث: نؤمن بها ونصدق بها لا كيف ولا معنى، ولا نرد شيئاً منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم]. هذا الكلام نسبه الموفق للإمام أحمد رحمه الله، وإن ما ينسبه الحنابلة -أو غيرهم ممن ينسبون إلى أئمتهم هذا الكلام أو مثله- يكون على وجهين: فتارة يكون الكلام نصاً، وتارة يكون الكلام فهماً، وفي مذهب الإمام أحمد خاصة إشكال في نقل أصحابه عنه في العقيدة، وهذا الإشكال مُحصَّله أن جملة من الحنابلة فهموا مذهب الإمام أحمد في الصفات على حسب علمهم ومداركهم، ثم صار بعضهم يلخص فهمه وينقله على أنه من قول الإمام أحمد، ومن هؤلاء -كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية - أبو الحسن التميمي من الحنابلة؛ فقد صنَّف كتاباً في عقيدة الإمام أحمد، وجعل هذا الكتاب على لسان الإمام أحمد، فجعل يقول: وكان أبو عبد الله يقول .. ثم يأتي بجمل من فهمه هو، ويقول: وكان أبو عبد الله يذهب إلى كذا وكذا مما يراه هو، ولم ينقل ذلك بالرواية عن كبار أصحاب أحمد: كـ حنبل وعبد الله وصالح وأمثال هؤلاء، إنما هو فقه فقهه التميمي، فنقله على لسان الإمام أحمد محاكاة، والتميميون من الحنابلة في الجملة متأثرون بالكلاَّبية، بمعنى: أنهم يؤولون صفات الأفعال، ولهذا لما ذكر قول الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] قال: وكان أبو عبد الله يقول: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] أي: جاء أمره؛ فهذه الرواية من فقه التميمي في كلام الإمام أحمد، وكذلك الإمام البيهقي وهو شافعي لكنه يميل إلى طريقة الأشاعرة، وقد صنَّف في مناقب الإمام أحمد، فلما ذكر عقيدته نقل هذا الكلام، وجاء من هو أدرى بهذه الأمور ونقلها كما هي؛ كـ ابن كثير في البداية والنهاية؛ فإنه لما ترجم للإمام أحمد روى عن البيهقي أن الإمام أحمد كان يقول: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] أي: جاء أمره، وهناك أغلاط عند أبي الحسن التميمي أكثر من هذا في نقله لعقيدة الإمام أحمد، فإن مسألة المجيء قد يكون لها استثناء؛ لأن حنبل بن إسحاق روى عن الإمام أحمد أنه قال في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] جاء أمره، لكن جمهور تلامذة الإمام أحمد غلَّطوا حنبلاً في هذا؛ لتواتر النقل عن أحمد في إثبات الصفات الفعلية. والمقصود من هذا: أن هذا النقل الذي نقله ابن قدامة ليس نصاً عن الإمام أحمد، إنما هو فهم فهمه بعض الحنابلة عن الإمام أحمد فنقلوه. والإشكال في هذا النقل هو في قوله: (ولا معنى)، وأحسن ما يُجاب به عن ذلك أن يقال: إن هذا فهم فهمه طائفة من الحنابلة عن الإمام أحمد فقالوه، وهذا الفهم يكون بحسب قائله؛ فإن كان قائله محققاًَ عارفاً، فقد يكون توسع العبارة، وأراد بالمعنى: أي الذي اخترعه المتكلمون على معاني الصفات، أي: ولا معنى يخالف الظاهر. وإن كان القائل بذلك مفوضاً أو ممن يميل للتفويض، فقد أراد بذلك المعاني الظاهرة، وهذا غلط على الإمام أحمد، وتقويل له بما لم يقله. وينبغي لطالب العلم ألا يقف عن الأشياء التي لا تحتاج إلى وقوف، والإمام أحمد قد انضبط في مذهبه أنه يثبت الصفات الفعلية، وهو من أشهر الأئمة في هذا؛ فهو بريء من مادة التفويض للمعاني جملة وتفصيلاً، فهذا الذي نُقل عنه، ليس نصاً عنه بإسناد منضبط، إنما هو فهم فهمه بعض أصحابه، قد يكون ابن قدامة أو غيره، وعليه لا ينسب إليه هذا التقرير، كما أن هذا لا يدل على أن ابن قدامة يفوض تفويضاً عاماً كما سبق تقرير ذلك، ولهذا نقل عن الإمام أحمد مسألة النزول في هذا النص، وأنها مما يُؤمن به من الصفات.

عقيدة المصنف في صفات الباري جل وعلا

عقيدة المصنف في صفات الباري جل وعلا - قال الموفق رحمه الله: [ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه، لا نتعدى ذلك، ولا يبلغه وصف الواصفين، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت]. قوله هذا فيه تبرئة واضحة له من التفويض: (ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت) ولو كان الموفق مفوضاً لما أمكنه أن يقول هذا.

مذهب السلف تفويض الكيفية لا المعنى

مذهب السلف تفويض الكيفية لا المعنى قال الموفق رحمه الله: [ولا نتعدى القرآن والحديث، ولا نعلم كيف كُنْه ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن]. قوله: (ولا نعلم كيف كُنْه ذلك) وهذا النص براءة له من التفويض أيضاً؛ لأنه علَّق التفويض العام بالكيف لا بالمعنى، وجعله مطلقاً وليس خاصاً بشيء مشكل؛ أي: أن المصنف لما ذكر التفويض العام، التزمه بالكيف، قال: (ولا نعلم) أي: ونفوض، فماذا يفوض؟ هل يفوض المعاني؟ كلا؛ لأنه قال: (ولا نعلم كيف كُنْه ذلك)، فهو إذاً التزم التفويض العام في الكيفية، وهذا هو مذهب السلف كما قال الإمام مالك: "والكيف مجهول".

إثبات المراد لله ورسوله في نصوص الصفات دليل على إثبات المعنى

إثبات المراد لله ورسوله في نصوص الصفات دليل على إثبات المعنى قال الموفق رحمه الله: [قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: آمنت بالله وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله]. من شرف هذه الرسالة أن مؤلفها نقل فيها عن جملة من أئمة السلف؛ كنقله عن الإمام أحمد رحمه الله فيما سلف، وإن كان سبق الإشارة إلى أن النقل السالف عن أحمد رحمه الله ليس بالضرورة أن يكون من منصوصه، وفي الجملة فهو فهم فهمه أصحابه فعبروا به عنه. وهذا النقل عن الإمام الشافعي هو أيضاً نقل فاضل على ما فيه من الإجمال، فإن الجملة التي قالها الشافعي رحمه الله هي متحققة ابتداءً عند سائر أهل العلم، وليس فيها مادة من الاختصاص، فإنه قال: (آمنت بالله وبما جاء عن الله -أي: مما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم - على مراد الله، وآمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله). وهذه الجملة من الجمل المسلمة ابتداءً عند سائر الأئمة، وإنما ذكرها الشافعي ونقلها من نقلها عنه من أصحاب السنة والجماعة من الفقهاء والمصنفين في أصول الدين؛ لما فيها من الإشارة إلى ترك التأويل، ومخالفة طريقة أهل التأويل من المتكلمين، الذين تأولوا نصوص الصفات، فكأن هذا هو وجه إيرادها. والشافعي رحمه الله لا يقرر بكلامه هذا وجهاً من أوجه التفويض لمعاني الصفات، كما زعم بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي وبعض أصحاب أحمد، أن الشافعي بهذه الجملة يذهب إلى شيء من التفويض. وكما أسلفت فإن مسألة الصفات أشكلت على كثير من الفقهاء، حتى أنه ما من إمام من الأئمة الأربعة إلا ونسب إليه بعض أصحابه أو غيرهم شيئاً من التفويض، فـ أحمد نسب إليه قوله السالف في التفويض، والشافعي نسب إليه هذا القول ونحوه، ومالك رحمه الله لما قال جملته المعروفة: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)، نسب إليه شيء من التفويض. وكذلك الجمل المأثورة عن بعض المتقدمين من السلف كقولهم: (أمروها كما جاءت بلا كيف). وهذه جملة مروية عن مكحول، والزهري، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي .. وغيرهم. فهذه الجمل إذا تأملتها لا ترى فيها شيئاً من التفويض، بل قول الشافعي ليس فيه ذكر للتفويض بوجه، وإنما فيه تقرير لكونه رحمه الله يذهب إلى أن الإيمان على مراد الله ورسوله. بل يصح أن نقول: إن هذه الجملة ترد على المفوضة؛ لأن الشافعي رحمه الله بين أنه آمن بها على مراد الله، وعلى مراد رسول الله، فظهر أن لله ولرسوله مراداً من جهة المعنى في هذه النصوص، وإذا كان له سبحانه وتعالى مراد، ولرسوله مراد في خطابه، لزم أن هذا المراد مما يمكن فقهه وفهمه ووعيه. وكذلك قولهم: (أمروها كما جاءت بلا كيف) أيضاً فيه براءة من التفويض، وليس قولاً في التفويض؛ لأن قولهم: (أمروها كما جاءت) دليل على أنها تؤخذ على ظاهرها في المعاني المقتضية لها في لسان العرب. وقولهم: (بلا كيف) إنما نفوا العلم بالكيفية، وكونهم خصصوا الكيفية بنفي العلم دليل على أن المعنى من جهة أصله يكون معلوماً.

منهج السلف وأئمة الخلف عدم تأويل آيات الصفات

منهج السلف وأئمة الخلف عدم تأويل آيات الصفات قال الموفق رحمه الله: [وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم، كلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات، لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله، من غير تعرّض لتأويله]. قوله: [من غير تعرض لتأويله] أي: التأويل الذي أحدثه المتكلمون، وهو: صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز، أو صرف اللفظ عن الظاهر إلى المؤول، فهذا هو التأويل البدعي الذي أحدثه المتكلمون من المعتزلة وغيرهم في باب الأسماء والصفات.

شرح لمعة الاعتقاد [4]

شرح لمعة الاعتقاد [4] من أصول أهل السنة والجماعة: اتباع الكتاب والسنة وما أثر عن سلف الأمة، قولاً وعملاً واعتقاداً، وعدم مخالفة شيء من ذلك ببدعة أو محدثة في الدين، والتزام الوسطية وعدم التكلف والتنطع، مقتدين في ذلك بقول ابن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم.

التسليم المطلق لا يكون إلا لله ورسوله

التسليم المطلق لا يكون إلا لله ورسوله قال الموفق رحمه الله: [وقد أُمرنا بالاقتفاء لآثارهم، والاهتداء بمنازلهم، وحُذرنا المحدثات، وأُخبرنا أنها من الضلالات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)]. مقام السنة والاتباع يعتبر بأصلين: الأصل الأول: العلم. والأصل الثاني: التسليم. وهما المذكوران في قول الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فالتسليم الذي لا يبنى على العلم فإنه غير مقصود في الشريعة، ولهذا كان التسليم المطلق للأعيان بدعة حدثت في الإسلام، وأول من أحدثها الشيعة ثم الصوفية، فصاروا يسلِّمون لأئمتهم تسليماً مطلقاً، حتى اعتقد بعض طوائفهم عصمة الأئمة. إن التسليم المطلق بلا علم لأعيان أهل العلم فضلاً عمن دونهم ليس مقصوداً في الشرع؛ بل لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى، ولحكم نبيه صلى الله عليه وسلم، وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يراجع في قوله، حتى يكون على وفق مقاصد الشريعة. فهنا قوله تعالى: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65] فلا بد من مقام العلم ومقام التسليم، وهذان الأصلان هما مبنى السنة، فلابد أن يكون صاحب السنة والمقتدي بآثار السلف على علم وتسليم، ولا يمكن أن تقوم الحقائق في القلوب ويعظم شأنه سبحانه وتعالى إلا بالعلم الذي يصاحبه التسليم. وكذلك مقام العلم وحده الذي ينقطع عن التسليم، بل يقوم على الجدل ليس مقصوداً في الشريعة؛ ولهذا لم يعظم الله سبحانه وتعالى مقام الجدل ولا جعله منهجاً للمؤمنين، بل لم يذكر هذا المقام إلا في حق المجادلة للكفار، كقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ} [النحل:125] أي: جادل الكفار، وقوله: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] فمقام المناظرة والجدل لم يذكر في سياق المؤمنين، إنما ذكر في سياق قوم كفار. فلا بد من اعتبار هذين المقامين: مقام العلم وهو التحكيم، ومقام التسليم.

شرح بعض ألفاظ حديث العرباض بن سارية

شرح بعض ألفاظ حديث العرباض بن سارية أما حديث العرباض بن سارية الذي أورده المصنف فهو ثابت صحيح أخرجه الإمام أحمد وغيره، وفيه قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء) والخلفاء هم الأربعة الراشدون، وإن كان من بعدهم سموا في الإسلام: خلفاء، كخلفاء بني أمية، وخلفاء بني العباس إلى غير ذلك، وهو مما يسوغ، لكن فرق بين تسمية أبي بكر وعمر وعثمان وعلي خليفة، وبين تسمية من بعدهم، فهؤلاء الأربعة هم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في أمته، ومعنى أن أبا بكر خليفة، أي: أنه خليفة عن رسول الله، وكذلك عمر من بعده وعثمان وعلي، فكل واحد من هؤلاء عند خلافته هو خليفة عن رسول الله في الأمة. وأما من بعدهم فإذا سمي خليفة، فهو مستخلف على المسلمين كراع لهم، أو أمير، أو سلطان، فهذا هو الفرق بين الخلافتين، بين الخلافة النبوية، وهي التي لها سُنة، وبين ما جاء بعدها. وذهب بعض أهل العلم -كما في بعض كتب السير- وهو قول لبعض أهل العراق: أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله يعتبر خليفةً خامساً .. وهذا غلط، وقد أنكره جملة من الأئمة الكبار: كالإمام أحمد رحمه الله، وغيره، وذلك من جهتين: الجهة الأولى: أن عمر بن عبد العزيز بويع الخلافة المقصودة بعد زمن بعيد، والإمام أحمد رحمه الله لما بلغه قول بعض أهل العراق: إن عمر بن عبد العزيز هو الخليفة الخامس، تعجب من ذلك! وقال: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة)؟ ومقصوده رحمه الله: أن من جعل عمر بن عبد العزيز خليفةً خامساً فقد زاد عن الثلاثين؛ لأن الثلاثين سنة بقي منها أشهر بعد مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهذه الأشهر هي إمارة الحسن، إن كان له إمارة، على خلاف بين أهل العلم. وعمر بن عبد العزيز صاحب سنة، وأمير عدل، وإمام في العلم والورع إلخ، لكن لا يجوز أن يسمى خليفة خامساً، بل الخلفاء أربعة، وأما من بعدهم فهم سلاطين وملوك وأمراء. الجهة الثانية: أن معاوية بن أبي سفيان أفضل من عمر بن عبد العزيز بإجماع السلف؛ لأن معاوية صحابي؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "هو أفضل ملوك الإسلام بالاتفاق". فـ معاوية ملك وهو أول ملوك الإسلام وأفضلهم، وإن كان يسمى: خليفة، وهو أفضل من عمر بن عبد العزيز بلا شك، مع أن شيخ الإسلام استدرك وقال: "وإن كان بعض مقامات العدل، استقرت في خلافة عمر بن عبد العزيز، أكثر من استقرارها في خلافة معاوية؛ لكن هذا أوجبه حال السلطان إذ ذاك"، بمعنى: أن معاوية أدرك فتناً وحروباً، فكان لزمنه اختصاص، بخلاف عمر بن عبد العزيز فإن الأمور كانت مستقرة له في الجملة. ولكن الاعتبار بكليات الأمور واجتماعها وليس بجزء من آحادها.

حكم زيادة: (وكل ضلالة في النار)

حكم زيادة: (وكل ضلالة في النار) ورد في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن كل محدثة بدعة) أي: كل إحداث في الدين فإنه بدعة، سواء كانت بدعةً قولية، أو بدعةً عقدية، أو بدعة فعلية. وفي بعض أوجه الحديث الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبته به، وهو في الصحيح عن جابر بن عبد الله قوله صلى الله عليه وسلم: (أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). وفي السنن وغيرها زيادة: (وكل ضلالة في النار) وهذه الزيادة من جهة الإسناد فيها تردد، والإمام ابن تيمية يقول: "إنها شاذة". ويرى أن شذوذها من جهة متنها، قال: لأن الضلالة لا يلزم أن تكون في النار؛ فإن الإنسان قد يضل ويكون ضلاله مغفوراً له، بدليل قول الرسول عليه الصلاة والسلام -كما في حديث عمرو بن العاص في الصحيحين: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر). فزيادة: (وكل ضلالة في النار) هذا عموم، والحق أن الضلالة قد يكون صاحبها في النار؛ لكونه متعدياً بعدما تبين له الهدى، وقد لا يكون في النار، لكونه في محل اجتهاد، فيكون خطؤه مغفوراً واجتهاده مأجوراً.

تحقيق مذهب السلف

تحقيق مذهب السلف قال الموفق رحمه الله: [وقال عبد الله بن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم]. مقتضى الاتباع: هو الأخذ بآثار السلف، فيجب على كل مسلم أن يتبع سلف هذه الأمة، وإذا ذكر السلف فيراد بهم أهل القرون الثلاثة الفاضلة، الذين ذكر فضلهم النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عمران بن حصين في الصحيحين وغيره. وعليه: فصدر السلف وأفضلهم وأجلهم هم المهاجرون والأنصار، وهم الذين قال الله فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] فكونه سبحانه وتعالى رضي عنهم ورضوا عنه، دل على أن اتباعهم يكون واجباً، وأن السنة بعد رسول الله في أقوالهم، ولا يمكن أن غيرهم يختص بسنة لا توجد عندهم، فدل ذلك على أن هؤلاء هم أصحاب الهدي والسنة والاقتداء. أما من جاء بعد القرون الثلاثة الفاضلة فإذا سمي (سلفياً) فباعتبار اقتدائه بهم، فإن كلمة (السلف) تعني: القوم السالفون المتقدمون، وهم القرون الثلاثة الفاضلة. مسألة: متى يصح أن يقال عن قول أو فعل ما: إن هذا القول أو الفعل مذهب للسلف؟ الجواب: لقد نبه ابن تيمية على كثرة الغلط في هذه المسألة، وقال: "إنها مسألة عظيمة غلط فيها جملة من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم". يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "وهنا ثلاث طرق: طريقان معروفان للمحققين من أصحاب السنة، وطريق ثالث ذكره بعض الفقهاء، وأصله عن جملة من المتكلمين المنتسبين للسنة والجماعة. وهو عند التحقيق -يعني: الثالث- من طرق أهل البدع، وليس من طرق أصحاب السنة والجماعة". أما الطريقان المحققان لمعرفة أن هذا القول مذهب للسلف هما: - الطريق الأول: "أن يستفيض هذا القول ذكراً عند الأئمة ولا يذكر غيره". أي: أنك إذا نظرت أقوال الأئمة السالفين كالتابعين ومن بعدهم كالأئمة الأربعة وأمثالهم وجدت أن قولاً من الأقوال قد استفاض عندهم، ورأوا أنه هو السنة اللازمة، ولم يعرف عنهم خلافه، فإذا وجد مثل هذا واستفاض فإنه يكون مذهباً للسلف، وإذا كان مذهباً للسلف فالنتيجة أنه يجب اتباعه ولا يجوز مخالفته، ومخالفته بدعة وضلالة، كاستفاضة قولهم: إن القرآن ليس مخلوقاً، وأنه كلام الله، منزل من عنده .. وكاستفاضة قولهم: إن أفعال العباد مخلوقة لله .. فهذه جمل مستفيضة عن السلف والأئمة من أهل الحجاز والشام والعراق وغير ذلك". - الطريق الثاني: "أن يحكي من عرف بقدر من التحقيق من أهل العلم أن هذا إجماع للسلف، كالإجماع الذي يذكره محمد بن نصر، وأبو عمر بن عبد البر وأمثال هؤلاء، فهؤلاء -أي: من عرف من أصحاب الأئمة بالتحقيق والانضباط في السنة- إذا حكوا إجماعات في مسائل وقالوا: إن هذا إجماع للسلف؛ فإن هذا الإجماع إذا لم يكدر عليه شيء فإنه يكون طريقاً لمعرفة مذهب السلف". وأنت إذا تأملت الطريقين وجدت أنهما يرجعان في الجملة إلى الإجماع، فإن الإجماع إما أن يكون بتصريح عالم كـ محمد بن نصر أو كـ أبي عمر بن عبد البر أو أمثال هؤلاء، أو باستفاضة كلام من هو أجل من هؤلاء ممن تقدم بلا مخالف أو معارض منهم. فإذا نص عالم من الأئمة والأكابر المعروفين بالسنة على أن هذا إجماع، ولم يكدر عليه شيء، فهذا مذهب للسلف، أو تواتر هذا القول نقلاً عنهم واستفاض. فتحصل من هذا أن المعرفة بمذهب السلف ترجع إلى طريق واحد هو انضباط الإجماع، إما تواتراً معنوياً واستفاضةً للكلمة، أو تصريحاً من بعض الأعيان المعتبرين بأن هذا إجماع، ولو لم تستفض الكلمة بينهم. -الطريق الثالث: وهو المزلة، وللأسف فإن بعض المعاصرين من طلبة العلم وغيرهم قد يقعون في شيء منه، وهو طريق الغلط. يقول شيخ الإسلام: "إن هذا الطريق قد استعمله جملة من الفقهاء المنتسبين للسنة، المعظمين لطريق السلف وهو الفهم لكلام السلف، فإذا فهموا عن السلف كلاماً جعلوه مذهباً للسلف"، إذا فهموا جملة أو أعيان من السلف كلاماً جعلوه مذهباً للسلف. قال: "وهذا له اطراد في كلام كثير من الفقهاء، فمن فقه من كتاب الله معنىً في أبوب أصول الدين، وتبين له أن هذا ظاهر من كلام الله جعل هذا مذهباً للسلف؛ لأن السلف عنده لا يخرجون عن ظاهر القرآن". أي أنهم يقولون: عمن يقول عن قول من الأقوال: إنه مذهب للسلف مع أنه ليس فيه إجماع ولا استفاضة عن السلف، إنما فهم فهماً من قبل هذا الناظر، فهذا الفهم لما بان له باجتهاده أنه فهم منضبط، وأنه على وفق ظاهر النصوص، وأن النصوص تؤيده قال: إن هذا مذهب للسلف؛ لأن السلف لا يخرجون عن النصوص، فهو تحصيل لمذهب السلف بطريق الفهم وليس بطريق النقل، ومن هنا حملوا السلف ما لا يحتملوه. وهنا تقول: إن الطرق التي استعملت تنقسم إلى طريقين: الطريق الأول: تحصيل مذهب السلف نقلاً، وهذا صواب. الطريق الثاني: تحصيل مذهب السلف فهماً؛ لأن من قال عن قول ما: إنه مذهب للسلف؛ فمعناه أن اتباعه يكون واجباً، وأن غيره يكون بدعةً، وأن الاجتهاد ولو كان من عالم كبير وهو مخالف لمذهب السلف فإنه لا يكون سائغاً، بل اجتهاده مخالف للحق ابتداءً .. فهذا هو وجه التشديد في هذه الجملة. ومن ذلك مثلاً: لا يصح لقائل أن يقول: إن من السنة السلفية إسبال اليدين بعد الرفع من الركوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه وضع اليدين على الصدر بعد الرفع من الركوع .. وهذه مسألة خلافية، وكون العالم أو المجتهد أو الناظر أو حتى طالب العلم يذهب إلى أن هذا هو القول الراجح، وأنه ظاهر النصوص عنده .. هذا لا بأس به، لكن أن يجعله سنةً لازمة فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أيضاً أنه أسبل يديه بعد الركوع. والفقهاء الكبار: كـ أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة وأمثالهم، قالوا بأفهامهم في أقوال كثيرة، ومعهم ظواهر من النصوص قد تصل أحياناً إلى حد التصريح، ومع ذلك لم يعتبروا قولهم سنةً لازمة، بل اعتبروه قولاً، من ظهر له أن هذا القول موافق للقرآن وجب اتباعه، ومن لم يظهر له ذلك فلا يلزم اتباعه، ولا سيما أن مقام الظهور للحق في النصوص المحتملة مقام قد يتأخر ويختلف بحسب المجتهدين. فالمحصل: أن مذهب السلف الذي ينسب إليهم ليس هو الآحاد الفقهية، فالآحاد الفقهية: هي محل خلاف في الجملة بين السلف، إنما مذهب السلف الذي يجب اتباعه هو ما انضبط بالإجماع أو استفاض نقله عنهم سواء كان في المسائل العلمية أو العملية، وأما إذا لم ينضبط انضباطاً بيناً فلا يجوز نسبته إلى السلف كمذهب، وإنما يذكر على أنه قول لطائفة من السلف، أو أنه محل نزاع بينهم، أو ما إلى ذلك.

حكم الانتساب للمذاهب الأربعة

حكم الانتساب للمذاهب الأربعة بعض طلبة العلم من السلفيين توسعوا في تقرير مذهب السلف حتى قال بعضهم: إن الانتساب إلى المذاهب الأربعة يعد بدعة مخالفة لمذهب السلف، وهذا لا شك أن فيه تكلفاً؛ لأن هذه المذاهب نشأت من قرون متقدمة؛ ونستطيع أن نقول: إنه إلى عصرنا هذا، وقد مضى عشرة قرون في الأمة، وسائر العلماء من المحققين المعروفين من أهل السنة والجماعة، يقرون الانتساب إلى هذه المذاهب. وأما التعصب للأئمة كـ أحمد أو الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة، أو الادعاء بأن مذهبه هو الراجح على مذهب غيره، أو أن الواحد يترك الدليل لقول عالم من العلماء، سواء كان من الأئمة الأربعة أو غيرهم، فلا شك أن هذه الأوجه وأمثالها منكرة، لكن فرق بين هذا المقام وبين مقام الانتساب، فالانتساب مقام تراتيب علمية لا إشكال فيه، وما زال الأئمة حتى المعروفين بالتحقيق في السنة كـ ابن تيمية وغيره يقرون هذا الانتساب، ولم يظهر إنكاره إلا بعد القرن العاشر، ففيه بدء التصريح بإنكار هذا التمذهب، ولربما مال المنكرون إلى نفس القضية، أي: رجعوا إلى قدر من التمذهب بوجه آخر، فتركوا الانتساب لـ أحمد وانتسبوا للشوكاني، أو تركوا الانتساب لـ أحمد وانتسبوا لـ ابن حزم، أو ما إلى ذلك. فمسألة الانتساب للشيوخ الأعيان درج عليها المتقدمون، حتى الأئمة الأربعة قيل: إنهم كانوا ينتسبون لبعض شيوخهم ويقتدون ببعض أقوالهم، كما أن الكوفيين امتداد لفقه عبد الله بن مسعود وأصحابه. فهي مسألة تراتيب علمية، لا يعاب الناس بها، ولا يقال: من انتسب إلى مذهب من المذاهب الأربعة ففي سلفيته نقص، أو أنه ليس سلفياً، أو من شرط السلفي: ألا ينتسب إلى مذهب من المذاهب الأربعة .. هذا تكلف، وإن اجتهد به بعض أهل العلم: كالشيخ الإمام العالم الألباني رحمه الله .. فهذا اجتهاد للشيخ، يقدر عليه لكنه ليس بلازم، بل السلفية هي أن تقتدي بإجماعات السلف، وأما إذا انتسب منتسب لفقيه من الفقهاء الأربعة فهذا الانتساب لا بأس به بشروط أهمها: أن لا يتعصب له، وأن لا يترك الحق لقوله، وغيرها من الأمور المعلومة ضرورةً في دين الإسلام.

التزام وسطية السلف وترك التكلف والتشقيق

التزام وسطية السلف وترك التكلف والتشقيق قال الموفق رحمه الله: [وقال عمر بن عبد العزيز كلاماً معناه: قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم مُحَسِّر، وما دونهم مقصِّر، لقد قصَّر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدىً مستقيم]. الهدى المستقيم هو في وسطية الصحابة رضي الله عنهم، وقد قال الإمام ابن تيمية في الوصية الجامعة التي كتبها لأصحاب عدي بن مسافر الأموي، يقول فيها: "أنه ما من أمْرٍ أَمَر الله ورسوله به، إلا وصار فيه طرفان ووسط، فالوسط: هم أصحاب السنة والاقتداء، وأما الطرفان فهم: قوم إما أنهم أصحاب إفراط أو أصحاب تفريط، وعليه: فمقام التشقيق ليس من سنن السلف"، أي: مقام التكلف في تشقيق المسائل، والإلزام بما لم يكن إلزاماً عند السالفين، والتضييق لمسائل الخلاف التي كانت شائعةً زمن الأئمة كالصحابة والتابعين وأمثالهم. فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الطائفة المنصورة الناجية، كما في الحديث المتواتر عنه عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ...) وهم: أهل السنة والجماعة. ولو قال قائل: إن هذه الطائفة تطبق سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكان مصيباً. ولو قال آخر: هذه الطائفة تطبق الإسلام؛ لكان مصيباً أيضاً. إذاً: هذه الطائفة ليس فيها زيادة إلا أنها تحافظ على الإسلام كما جاء. ومن هنا: فمن أخص أسماء هذه الطائفة أنهم أهل السنة، وقبل كونهم أهل السنة هم أهل الإسلام، ولهذا فإن أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تسموا بالمسلمين، كقول الله عز وجل حاكياً عن إبراهيم قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128] فالأصل أن الإسلام هو الجامع لهذه الطائفة، وفي الحديث المروي عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وأنس، وهو حديث الافتراق المشهور، وإن كان فيه كلام، لكن الكثير من الحفاظ يقوونه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة) لم يكن بالضرورة مقصوداً أن الفرقة الناجية يجب أن تضيق، فالطائفة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، وهم أهل السنة والجماعة، لا ينبغي أن يُقصد إلى تضييقهم، أو أن تضاف قيود كثيرة، وشروط جديدة، لإخراج أكبر عدد من المسلمين من هذه الدائرة، فالسلفي هو: من اقتدى بالسنة النبوية بوجهها العام، واقتدى بإجماعات السلف، واختار ما بان له أقرب إلى الحق في خلاف السلف، فإن السلف كما أنهم مجمعون على مسائل، فإنهم مختلفون في مسائل. إذاً لا ينبغي أن تضاف قيود على تعريف السلفية، بل تبقى كما بقيت زمن الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم، ولا يسمى القول سنةً لازمةً إلا إذا انضبط في كونه إجماعاً.

الاعتبار بأقوال المتقدمين

الاعتبار بأقوال المتقدمين قال الموفق رحمه الله: [وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول]. من فقه طالب العلم أن يسلك في كل مسألة أقوال المتقدمين، ولا يغتر بالآراء المحدثة، ولا يأتي بقول لم يسبق إليه، وليكن دائراً بين التزام إجماعات المتقدمين، والترجيح في خلافاتهم، فمسائل الأصول أو المسائل العقدية هي الجملة الإجماعات المعروفة مذهباً للسلف، أما المسائل الخلافية، فهي غالباً ما تكون في مسائل الفقه.

تقسيم الأقوال الفقهية من حيث بحث الخلاف

تقسيم الأقوال الفقهية من حيث بحث الخلاف الأقوال الفقهية يمكن أن تقسم إلى خمسة أقسام، وهذا التقسيم إذا استوعبه طالب العلم تخلص من كثير من التعب وكثرة البحث والنظر في المسائل الفقهية:

مسائل حكي الإجماع فيها ولم يظهر فيها مخالف

مسائل حكي الإجماع فيها ولم يظهر فيها مخالف القسم الأول: مسائل فقهية في: الصلاة، والزكاة، والعبادات، والمعاملات، حُكي الإجماع عليها عند الفقهاء، ولم يظهر فيها مخالف، فهذه المسائل لا ينبغي كثرة البحث فيها ولا التردد عليها؛ لكونها مسائل قد انضبطت وظهرت.

مسائل حكي الإجماع فيها وعند التحقيق يوجد فيها خلاف يقارب الشذوذ

مسائل حكي الإجماع فيها وعند التحقيق يوجد فيها خلاف يقارب الشذوذ القسم الثاني: مسائل حكي الإجماع أو الاتفاق عليها، ولكن عند التحقيق نجد فيها طرفاً ووجهاً من الخلاف يقارب الشذوذ أحياناً، فهذا النوع من المسائل لا ينبغي لطالب العلم أن يذهب وقته في تكلف ضبط هذا الخلاف أو البحث عن أصله ودليله. والرد عليه، بل يعتبر قول السواد من أهل العلم من الفقهاء، والقول الشاذ يترك؛ لكونه خالف السواد من أهل العلم، حتى حكي الإجماع على خلافه.

مسائل ذهب فيها جمهور السلف إلى قول وخالفهم فيها طائفة من السلف

مسائل ذهب فيها جمهور السلف إلى قول وخالفهم فيها طائفة من السلف القسم الثالث: مسائل ذهب إليها الجمهور من السلف، وذهب طائفة قليلة من السلف إلى خلاف هذا القول، وتكون المسألة عند التحقيق خلافية بين السلف أنفسهم، لكن جمهورهم على قول، والطائفة الثانية -وهم الأقل- على قول آخر. فهذه المسائل لا يجب على طالب العلم أن يتبع قول الجمهور فيها، ولكن لا يعني هذا أن قول الجمهور يكون كقول غيرهم، وعلى هذا كثير من الأئمة: كـ ابن تيمية، وأبي عمر بن عبد البر، والشاطبي، وابن كثير، والذهبي، وغيرهم ممن علق مثل هذا الكلام، وأشد من هؤلاء كلهم ابن رجب رحمه الله. ومحصل كلامهم: أن الجمهور من أئمة السلف -أي: من أئمة الفقهاء المتقدمين- إذا ذهبوا إلى قول، وقد اتفق عصرهم واختلف مصرهم ففي الجملة -أي: في الغالب- أن هذا القول هو الصواب، كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله". فمثلاً: هناك أربعة أئمة يعدون أئمة الدنيا في زمانهم كما يقول ذلك ابن تيمية رحمه الله، وهم: الليث بن سعد في مصر، والأوزاعي في الشام، وسفيان الثوري في العراق وبلاد الري وما فوق العراق كبلاد فارس، والإمام مالك في الحجاز. فإذا اتفق هؤلاء الأربعة على قول، وسار عليه السواد الأعظم من بعدهم، ففي الغالب أن هذا القول يكون هو الصواب. وعلل شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك بتعليل نظري وهو شرعي أيضاً، قال: "لأنه يبعد أن الحكم الشرعي يخفى على جمهور السلف، ولا سيما إذا تعددت أمصارهم" ففرق بين أن يتوارد علماء العراق على قول، وبين أن يكون هذا التوارد مشتركاً بين العراقيين والحجازيين .. ؛ لأنه في الحالة الأولى: قد يقال: إن هذا مبني على سنة لم تبلغ أهل العراق، أو على سنة لم تبلغ أهل الحجاز أو مصر أو ما إلى ذلك، فأما إذا رأيت جمهور أئمة مصر والشام والحجاز والعراق ذهبوا إلى قول واستقروا عليه، فهذا القول -في الجملة- يكون هو الراجح. ويمكن أن يقال: إن هذا من طرق الترجيح لطالب العلم، ولا سيما في ابتداء طلبه للعلم، في الزمن الذي لا يستطيع النظر بدقة في الأدلة، ولو نظر في الأدلة لربما اغتر ببعض الظواهر. مثلاً: لو قلت لطالب علم مبتدئ: ذهب قوم إلى أن غسل الجمعة واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) أخرجه البخاري ومسلم، والقول الثاني: أن الغسل مستحب؛ لربما رجح القول الأول؛ لكونه يرى أن هذا هو ظاهر النص. إذاً .. طالب العلم ينبغي أن يكون عنده إدراك، ولا يقال: إن قول الجمهور ملزم، بل يقال: إنه يستأنس به في الجملة، ويكون مائلاً إلى الصحة، وهذا يعني أن طالب العلم لا يتجاوز قول الجماهير من السلف إذا انضبط إلا إذا بان له وجه من كتاب الله وسنة نبيه خلافه فلا شك أن النصوص مقدمة على أقوال الرجال ولو كانوا جمعاً غفيراً. والمراد بالجمهور: أي جمهور السلف، وأما جمهور الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة كجمهور الحنفية، أو جمهور الشافعية، أو جمهور المالكية، أو جمهور الحنابلة، فهؤلاء ليسوا بالضرورة يمثلون الجمهور من السلف، بل قد تكون هناك أقوال شاعت عند الفقهاء المتأخرين، وهي عند المتقدمين على خلاف ما شاعت عند المتأخرين، وهذا وإن كان قليلاً إلا أن له وجوداً.

مسائل اختلف فيها أئمة الفقهاء

مسائل اختلف فيها أئمة الفقهاء القسم الرابع: مسائل اختلف فيها أئمة الفقهاء -من أصحاب المذاهب الأربعة ومن قبلهم- ومن صاحبهم، فإذا اختلفوا في مسألة اختلافاً بيناً، أو اختلف من هو أجل من هؤلاء كلهم، وهم الصحابة، فهذه المسائل التي اختلف فيها الأكابر -مع اتفاق العصر واختلاف المصر- اختلافاً بيناً وترددوا فيها، حتى أن الإمام الواحد قد يُحكى عنه أكثر من قول في المسألة، فهذه المسائل ينبغي لطالب العلم أنه إذا رجح فيها أن لا يخفض ويرفع، إنما يرجح بقدر من حسن التأني والاختصار. فمثلاً: الماء إذا كان دون القلتين وخالطته نجاسة ولم يظهر تغيره، هل يكون نجساً أو طاهراً؟ هذه مسألة اختلف فيها كبار الأئمة، حتى أن مالكاً تردد فيها، كذا أحمد، ونقل عن الشافعي التردد، فهذه مسألة اختلف العلماء فيها نظرياً اختلافاً بيناً. فمثل هذه المسائل يرجح طالب العلم بحسب ما يظهر له من الأدلة، لكن لا ينبغي أن يبالغ ويغلط ويستطرد في تغليط أقوال السلف الأخرى والرد عليها. ومن باب الأولى أن طالب العلم إذا خرج عن قول الجمهور، لظاهر دليل وجب عليه التزامه، فيكون خروجه مأذوناً فيه، ولكن لا يصح له أن يطعن في قول الجمهور. وتعجب عندما تسمع بعض طلبة العلم يقرر ويقول: القول الأول قول الأئمة الأربعة وفلان، والقول الثاني قول ابن حزم، والراجح قول ابن حزم، وأما القول الأول فلا دليل عليه! ولو أخذنا المسألة بالعقل: هل يمكن أن السواد الأعظم من السلف والجمهور -بما فيهم الأئمة الأربعة- يذهبون إلى قول وليس عليه دليل؟! وهذا الأسلوب لا تجد أنه مستعمل في كلام العلماء أبداً أن قولاً من الأقوال التي عليها الجمهور من الأئمة، ثم يقال: هذا قول لا دليل عليه. ومسألة ظهور الأدلة الفقهية، أحياناً تكون مشكلة، فهي ليست كالسيرة، فمثلاً: الحائض إذا طهرت وقت العصر، هل تصلي الظهر؟ هذه مسألة خلافية، وقد سئل الإمام أحمد عنها، فقال: "تصلي الظهر والعصر". مع أنها لم تطهر إلا وقت العصر ولما سئل عنها أحمد قيل له: يا أبا عبد الله! من قال ذلك؟ قال: "عامة التابعين على هذا القول إلا الحسن ". هنا السؤال: كيف أطبق عامة التابعين على هذا القول؟ أنت كطالب علم أو كباحث معاصر قد لا تجد نصاً مباشراً على هذا القول، ومن هنا لا يجوز لك أن تقول: هذا القول لا دليل عليه؛ لأنه يورد عليك سؤال: هذا السواد من الأئمة الذين هم أعظم منا إمامة وعلماً من أين تواردوا على هذا؟ وكونك تقول: إن لهم دليلاً لكنه مرجوح .. لا بأس، لكن أن تقول: هذا قول لا دليل عليه .. هذه جملة منكرة، لا يجوز أن توصف بها أقوال الجماهير من الأئمة. ثم إن الأئمة أيضاً أخذوا فقه الشريعة استقراءً، فمثلاً: ابن عباس روى عنه مسلم في صحيحه، من رواية طاوس -وهو من أصحاب ابن عباس - عن ابن عباس أنه قال: "كان طلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلقة واحدة، فقال عمر: إن الناس استعجلوا في أمر لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم" من باب التعزير. والسؤال هو: هل هناك نص من القرآن أو السنة يقول: إن طلاق الثلاث بلفظ واحد يكون ثلاثاً؟ الجواب: ليس هناك نص صريح. قد يعجب طالب العلم اليوم من هذا! ولا عجب من ذلك إذا علم أن مسألة ظهور الأدلة الفقهية، ليست دائماً مسألة سهلة، كما عُوِّد عليها كثير من طلاب العلم اليوم، فقد يفهم الدليل بالاستقراء والاستنباط ونحو ذلك، مما كان يتميز به سلف الأمة. ولسنا بصدد الترجيح؛ إنما نريد أن نبين طريقة فقه السالفين. فذهب الجمهور بما فيهم الأئمة الأربعة، إلى أن طلاق الثلاث يعتبر ثلاثاً، وابن عباس يقول: [كان طلاق الثلاث على عهد رسول الله، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلقة واحدة ...] حتى إن ابن رجب رحمه الله لشدة قوته في هذه المسألة يقول: "اعلم أنه لم يصح عن أحد من الصحابة أو التابعين أو الأئمة المتبوعين أنه جعل طلاق الثلاث واحدة". فكأنه يميل إلى أن هذا القول مقارب للإجماع، وهو يقصد بذلك الرد على شيخ الإسلام ابن تيمية الذي انتصر لكون طلاق الثلاث واحدة. ومن الخطأ القول: إن الأئمة تركوا قول ابن عباس وأخذوا بتعزير عمر؛ لأنه سيقال: كيف يأخذون بتعزير عمر ويتركون فعل عمر الأول! ومن باب أولى: كيف يتركون فعل أبي بكر؟ ومن باب أولى كيف يتركون سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟! العجب في هذا: أن الأئمة تركوا رواية ابن عباس مع أنها في صحيح مسلم. إذاً: لا شك أنهم فهموا ما لم نفهم نحن لبعد عهدنا وزمننا. مثال آخر: روى أبو داود وغيره عن ابن عباس في الحج أنه قال: "من ترك نسكاً فليهرق دماً" هل قال ابن عباس: هذه سنة رسول الله أو أبي بكر؟ لا، ومع ذلك تجد أن السواد من الأئمة -بما فيهم الأئمة الأربعة- أطبقوا على أن من ترك واجباً في الحج فعليه دم، حتى حكي الإجماع على هذا القول، ومستندهم: قول ابن عباس. إذاً: ينبغي لطالب العلم أن يكون متفطناً لمسألة الدلائل، فلا يأتي لمسألة الطلاق مثلاً ويقول: قول الجمهور لا دليل عليه، ومخالف لما روى مسلم في الصحيح، وأيضاً قول ابن عباس في الحج، اجتهاد من الصحابي، والأصل براءة الذمة، وأن من ترك واجباً في الحج فليس عليه شيء .. فهذا اختصار مخل للفقه وليس ضرورة أن نقول: إن الراجح أن طلاق الثلاث ثلاث، أو إن الراجح أن من ترك واجباً فعليه دم، يمكن أن تقول: إن من ترك واجب لا يلزمه دم، لكن بقدر من حسن التأتي، وعدم اختصار المسائل وإسقاط فقه المتقدمين رحمهم الله.

مسائل لم يشتهر الخلاف فيها عند الأئمة أصلا

مسائل لم يشتهر الخلاف فيها عند الأئمة أصلاً القسم الخامس: خلاف لم يشتهر عند الأئمة أصلاً، إنما حكي أوجه في المذاهب الأربعة، فإذا قرأت في كتب الفقه تجد عبارة: وهذا وجه في مذهب الشافعي، وهذا وجه في مذهب أحمد، ونحو ذلك. ومعنى ذلك أنه قول لطائفة من أصحاب الأئمة، وأوجه الأصحاب، وهذه أكثرها محتمل، كما يقول مثلاً صاحب الإنصاف من الحنابلة: "ويحتمل كذا". أي: أن هذه مسألة لم ينص عليها الأصحاب قبل، فإذا وردت احتمل أن يقال فيها كذا. وأوجه الأصحاب أو التشقيقات الفقهية المتأخرة، لا ينبغي لطالب العلم أن يكثر التردد عليها، بل ينبغي له أن يعنى بحفظ مسائل الإجماع، ومسائل الخلاف المحفوظة بين الأئمة، وأما مسائل التشقيق المتأخرة فإن الأصحاب قد زادوا فيها في الجملة، وغرضهم في ذلك ضبط المذهب، أو الانتصار لها، وفي الغالب أنها ليست منضبطة كمذاهب للأئمة الأربعة. مثلاً: الحنابلة طبقات، لكنَّ المتأخرين منهم، معتبر المذهب عندهم ما قرره صاحب الإقناع والمنتهى، وصاحب الإقناع والمنتهى قيد المذهب الحنبلي بقيود كثيرة، حتى إن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقول: أكثر ما في الإقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد ونصه. فمسألة قيود الأصحاب ينبغي ألا تستهلك وقت طالب العلم، إنما يعنى بأقوال الأئمة المنضبطة، وبالخلاف المنضبط؛ لأن أوجه الأصحاب لا تناهي لها، فلو قرأت في التفريعات، كالإنصاف عند الحنابلة مثلاً، أو كتاب روضة الطالبين في فقه الشافعية، تجد أوجه الأصحاب لا تتناحى، وفي الغالب أنها تتعاكس، هذا يقول كذا، وهذا يقول كذا، هل معنى هذا أنها تسقط؟ لا، لكن نقول: هذه مرحلة متأخرة لطالب العلم.

شرح لمعة الاعتقاد [5]

شرح لمعة الاعتقاد [5] دلت نصوص الكتاب والسنة على إثبات الصفات لله تعالى إثباتاً حقيقياً يليق به عز وجل، فيجب إثباتها لله تعالى، مع تنزيهه سبحانه عن المثيل والشبيه والنظير، وعما يتخيله المتخيلون ويتصوره المتصورون، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

مناظرة السلف لأهل البدع

مناظرة السلف لأهل البدع قال الموفق رحمه الله: [وقال محمد بن عبد الرحمن الأدرمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها: هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها. قال: فشيء لم يعلمها هؤلاء أعلمته أنت؟ قال الرجل: فإني أقول: قد علموها. قال: أفوسعهم أن لا يتكلموا به ولا يدعوا الناس إليه، أم لم يسعهم؟ قال: بلى وسعهم. قال: فشيء وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه، لا يسعك أنت؟ فانقطع الرجل. فقال الخليفة -وكان حاضراً-: لا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم]. هذه مناظرة فاضلة، تندرج تحت قاعدة عامة، ذكرها مالك وغيره من السلف وهي: (أن كل صاحب بدعة فإنه مخصوم بالإجماع)؛ لأن البدعة: هي المخالفة لمذهب السلف، ومذهب السلف هو القول المجمع عليه. إذاً: يقال لكل صاحب بدعة إن بدعتك هذه مخالفة لإجماع السلف، واتباع السلف واجب؛ لقول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ} [التوبة:100] إلى آخر الآية. أما هذه المناظرة فقد رويت عن الدارمي، ورويت عن الإمام أحمد وغيره، ووجه روايتها عن الإمام أحمد، أنه حين ناظر المعتزلة في مسألة خلق القرآن، قال الإمام أحمد لـ ابن أبي دؤاد: "يا ابن أبي دؤاد! القرآن مخلوق -أي: قولكم معشر المعتزلة: القرآن مخلوق- أهذا من الدين أم ليس من الدين؟ " لابد أن ابن أبي دؤاد سوف يقول: من الدين؛ لأنه لو قال: ليس من الدين أسقط قوله. قال: "من الدين. قال أحمد: هذا الدين علمه الرسول وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعلموه؟ قال: علموه. قال الإمام أحمد: أين هو في كلامهم؟ ". وهكذا يقال لكل صاحب بدعة، فانقطع ابن أبي دؤاد، وقال: "أقلني يا أبا عبد الله " -هكذا تقول الرواية، وهي إخبارية في الجملة- قال الإمام أحمد: "أقلتك. فقال ابن أبي دؤاد: لا، ما علموه، فقال الإمام أحمد: دين لم يعلمه النبي والخلفاء جئت لتعلمه أنت؟! " فكان انقطاع ابن أبي دؤاد في الثانية أشد. ولما كان المجلس الثاني، قال ابن أبي دؤاد للإمام أحمد: "يا أحمد! القرآن ليس مخلوقاً -يعني أهل السنة يقولون: القرآن ليس مخلوقاً- أهذا من الدين؟ قال الإمام أحمد: من الدين. قال: عرفه النبي والخلفاء أو لم يعرفوه؟ قال الإمام أحمد: عرفوه. قال: أين هو في كلامهم؟ " أي: هات من السنة النبوية أو من كلام أبي بكر أو عثمان أو علي أو عمر، أنهم قالوا: القرآن ليس مخلوقاً، ليس هناك تصريح عن الرسول بهذه الكلمة: القرآن ليس مخلوقاً؟ ولا يعلم صحابي قالها، لكن هل انقطع الإمام أحمد؟ لا. ومن هنا تعلم قوة حجة علماء السنة؛ لأنهم على الحق، أما علماء العقل، فقد شُنع عليهم تشنيعات كثيرة، والله يقول في كتابه: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك:10] فالعقل نعمة خلقها الله ليعرف بها الحق لا ليكفر بها الناس، ولهذا قال الكفار عند مآلهم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك:10] والله يقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179] .. إلخ. والإمام أحمد لما أورد عليه ابن أبي دؤاد هذا الإيراد، أجاب مباشرةً بجواب عقلي مقنع، قال: "اسكتوا نسكت" ومعنى هذا الكلام: أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن هذا كلام الله، حيث يقول: (أعوذ بكلمات الله) والله يقول في القرآن: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ويقول الله في القرآن كثيراً: (أنزله) {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] .. إلخ. فقال الإمام أحمد: اسكتوا نسكت. أي: أن جملة المعتزلة، هي إثبات النفي: القرآن مخلوق، وجملة السلف: القرآن ليس مخلوق، جملة نفي. والإمام أحمد يقول: إنكم قلتم جملة إثبات ليس لها أصل في القرآن، فإذا كان ليس لها أصل في القرآن جئنا نحن لننفيها، والرسول ما نفاها؛ لأنه لم يتكلم بها أحد في زمانه، فلما جاء قوم وقالوا: بدعة. لزم صاحب السنة والحق أن ينفي، ولهذا قال: "اسكتوا نسكت" أي: إن لم تقولوا: القرآن مخلوق. لا نحتاج أن نقول: ليس مخلوقاً، كما أن الصحابة لم يحتاجوا ذلك. فهذا من فقه الأئمة في مناظراتهم، الذي يجب أن يستفيده طالب العلم؛ لبيان الحق، ودحض شبه أهل البدع. قال الموفق رحمه الله: [وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، والأئمة من بعدهم، والراسخين في العلم، من تلاوة آيات الصفات، وقراءة أخبارها، وإمرارها كما جاءت، فلا وسع الله عليه]. هذا التعليق من المصنف هو تبع لما سبق ذكره في كلامه، وما نقله عن الشافعي والأوزاعي والإمام أحمد في تقرير طريقة السلف، وأنهم يقفون على قدر ما ورد به الخبر في كلام الله أو كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا إشارة من وجه آخر إلى الرد على أهل التأويل من المتكلمين، الذين تأولوا آيات الصفات على غير ظاهرها، وعلى غير معناها المعروف من كلام الصحابة والأئمة، فاستحقوا أن يُدعى عليهم بالضيق؛ لأنه لم يسعهم طريق السلف الصالح.

ذكر بعض آيات الصفات

ذكر بعض آيات الصفات قال الموفق رحمه الله: [فمما جاء من آيات الصفات قول الله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27]، وقوله سبحانه وتعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وقوله تعالى إخباراً عن عيسى عليه السلام أنه قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، وقوله سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22]، وقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ} [البقرة:210]، وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119]، وقوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، وقوله تعالى في الكفار: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح:6]، وقوله تعالى: {اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [محمد:28]، وقوله تعالى: {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة:46]]. بعدما قرر الموفق رحمه الله المنهج الذي عليه السلف في هذا الباب، وذكر قاعدة السلف في باب أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته؛ ذكر الأدلة التي تصلح أن تكون أمثلة لذلك، وهذا هو الذي درج عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة الواسطية، فإنه حاكى الموفق في ذلك، إذ قرر الإمام ابن تيمية رحمه الله في الواسطية القاعدة والمنهج عند السلف في الأسماء والصفات، ثم قال: "وقد دخل في هذه الجملة ما ذكره الله في سورة الإخلاص"، وما بعد ذلك من سياقه للآيات. وعليه: فهذه الآيات قاعدتُها واحدة، وهي: أن كل ما ذكر الله سبحانه وتعالى من صفاته في كتابه فإنه حق على ظاهره، ولا يجوز تأويله بما يخالف هذا الظاهر.

تقسيمات المتأخرين للصفات

تقسيمات المتأخرين للصفات درج المتأخرون من أهل السنة الذين تكلموا في الصفات إلى تقسيم الصفات إلى قسمين: صفات ذاتية. وصفات فعلية. وقد ذكر المصنف صفة الوجه وصفة العلم، وصفة المجيء في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22]، وكذلك صفة الإتيان وغيرها من الصفات. وبعضهم يقول: إن الصفات تنقسم إلى: صفات ذاتية. وصفات خبرية. وصفات فعلية. وهذه التقاسيم هي من الاصطلاح الذي يوسع فيه، إذا كانت المعالم منضبطة بوجه صحيح، وإن كان هذا التقسيم ليس مقصوداً لذاته، أي: ليس هو من الحقائق المطردة، التي يقصد إلى ذكرها في كلام أهل السنة والجماعة. ولهذا لا يلزم أن يمتحن الناس ويُسألوا عن تقسيم أهل السنة للصفات؟ فإن أهل السنة المتقدمين من أئمة السلف لم يقسموا هذا التقسيم للصفات، لكن هذا تقسيم ذكره من ذكره من علماء السنة والجماعة المتأخرين، فذكره يكون على قدر هذه التوسعة، لا على قدر القصد إليه. ولهذا من استعمله ليضبط المعاني فلا بأس، ومن تركه وضبط المعاني بدونه فهذا هو الأولى؛ لأن هذا التقسيم فيه ألفاظ إضافية يدخلها شيء من الإشكال، فحين يقولون: الصفات الذاتية، قد يُفهم أن القسم الثاني أو الثالث ليس ذاتياً، وهذا المفهوم ليس مراداً له، ولكنه قد يتبادر إلى الذهن، وحين يقولون: الصفات الاختيارية، فكأنه يفهم أن ثمة صفات خلاف الاختيار. ولهذا نقول: هذا التقسيم هو اصطلاح، أما أن يقال: إن من قواعد السلف أنهم يقسمون الصفات إلى: ذاتية وفعلية، أو إلى خبرية وما يقابلها، فهذا فيه تردد؛ لأنك إن قلت: إن القسم الأول خبري، والثاني ليس خبرياً؛ أشكل على ذلك أن جميع الصفات خبرية، باعتبار أن الخبر جاء بها، الذي هو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فهي إخبار من الله، وإخبار من رسوله صلى الله عليه وسلم. ولهذا فإن هذا التقسيم لا يستعمل في كلام التابعين، أو أئمة السنة المتقدمين كالإمام أحمد وأمثاله.

إثبات الصفات حسب مجيئها في السياق

إثبات الصفات حسب مجيئها في السياق - هناك مسألة مهمة في صفات الله سبحانه وتعالى: وهي أن صفات الله سبحانه وتعالى تستعمل إثباتاً لله سبحانه وتعالى على وجه سياقها الذي وردت به في النصوص، لا على سبيل الإفراد. لأن بعض المتأخرين من طلبة العلم الذين يقررون مذهب أهل السنة والجماعة في الصفات درجوا على هذه الطريقة، وهذا ليس خاصاً بهؤلاء، بل درج عليه من الأئمة المتقدمين ابن مندة وغيره، وكذا بعض المتأخرين من أصحاب الأئمة، هؤلاء صار عندهم في تقرير الصفات: الفك لذكر الصفة عن سياقها، إلى قدر من الإفراد، وصاروا يقولون: إن من صفات الله: العلم، والسمع، والبصر، والمكر، والكيد، والغضب، وأمثال ذلك، فيجعلون الصفة منفكة على قدر من الإطلاق. والصواب: أن الصفة تثبت لله سبحانه وتعالى على وجه سياقها في كلامه أو كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وإذا تأملت آيات الصفات في كلام الله، وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وجدت أن الصفات تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: صفات مطلقة. القسم الثاني: وصفات مقيدة. ولهذا فإن الصفات المطلقة تثبت له سبحانه وتعالى إطلاقاً، وأما الصفات التي لم تذكر في القرآن أو في السنة إلا في سياق التقييد، فإنها لا تستعمل في مقام الإثبات له على الإطلاق، وإنما تستعمل تقييداً، وهذا هو أصل ضبط اللسان العربي؛ فإن لسان العرب من جهة فهم كلامهم، إنما يعتبر بالسياقات، ليس بآحاد الكلمات، ولهذا قال ابن مالك: كلامنا لفظ مفيد ... ... فلا بد أن يكون مركباً إما من فعل وفاعل، أو مما تحصل به الإفادة. فمثلاً: أن قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق:15 - 16]، وقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، مثل هذا السياق فيه تقييد؛ لأن الله لم يذكر المكر أو الكيد صفة له على الإطلاق، بل يعرف بالعقل والشرع أن ذكر المكر أو الكيد صفة لمعين على الإطلاق هو ذم وليس مدحاً. ولله المثل الأعلى، لو قيل عن عالم ما: وكان، حافظاً، ثقةً، مفسراً، فقيهاً، ماكراً، لما تأتى ذلك، ولكان القول بأنه ماكر قدح وليس مدحاً. فالذي أوجب ذكر هذه القاعدة: أن هذه الصفات، إذا فكت عن سياق التقييد الذي وردت فيه لم تكن مدحاً على التحقيق. ولهذا يجب أن يلتزم في هذه الصفات بالسياق القرآني، فما ذكره الله مطلقاً أثبت له على الإطلاق كصفة العلم. ويقال: ومن صفاته: العلم، ومن صفاته: القدرة والرحمة، والعزة، والحكمة .. إلى غير ذلك. وأما الصفات التي لم تذكر إلا مقيدة بوجه: كالمكر، والكيد، وأمثال ذلك، فهذا يستعمل على وجه ذكره في القرآن. ولهذا لا يصح أن يقال: ومن صفاته المكر على الإطلاق؛ لأن الله لم يذكر المكر صفة له إلا مقيدة، والمكر على الإطلاق ليس صفة مدح.

ذكر بعض أحاديث الصفات

ذكر بعض أحاديث الصفات قال الموفق رحمه الله: [ومن السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا)، وقوله: (يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة)، وقوله: (يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة)، فهذا وما أشبهه مما صح سنده، وعُدَّلت رواته، نؤمن به، ولا نرده، ولا نجحده، ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره]. قوله: [ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره] دليل على أن المصنف بريء من مذهب التفويض، وإن كان يشتبه في بعض جمله الأولى ما هو من ذلك. لكن ذكره لصفات الأفعال كالنزول والضحك وأمثالها، وإبانته رحمه الله لكونها على ظاهرها، ولا ترد بتأويل يخالف الظاهر؛ دليل على أنه يقر بمعناها، وأن مذهبه رحمه الله على مذهب الأئمة في هذا الباب.

التعطيل والتمثيل هما أساس الابتداع في الصفات

التعطيل والتمثيل هما أساس الابتداع في الصفات قال الموفق رحمه الله: [ولا نشبهه بصفات المخلوقين ولا بسمات المحدَثين]: المذاهب المعارضة لمنهج السلف في الصفات هي في الجملة مذهبان: مذهب التعطيل: وهو مذهب المؤولة، الذين عطلوا أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته. مذهب المشبهة: الذين شبهوا صفات الله بصفات خلقه. أما المعطلة من المتكلمين؛ كالجهمية والمعتزلة، ومن يشاركهم في شيء من هذا كالأشعرية والماتريدية، وإن كان ثمة فرق بين الأشعرية والماتريدية وبين أئمة الجهمية والمعتزلة، فإن الأشاعرة يثبتون جملة من الصفات، ويتأولون جملة أخرى، وكذلك الماتريدية يثبتون جملة من الصفات ويتأولون جملة أخرى، والأشاعرة طبقات، وليسوا على درجة واحدة، وبعضهم أقرب إلى السنة من بعض. وفي الجملة: الأشاعرة أقرب إلى السنة والجماعة من الماتريدية، والأشعري رحمه الله أقرب من أصحابه إلى السنة والجماعة، والقاضي أبو بكر الباقلاني أقرب من جملة أصحاب الأشعري، وهَلُمَّ جَرَّاً. فهم درجات في الجملة. ومما شاع عن مذهب الأشاعرة أنهم لا يثبتون إلا سبعاً من الصفات، والحقيقة: أن هذا هو مذهب لمتأخريهم، وأول من قرره وشرحه أبو المعالي الجويني، وإن كان أصل هذا المذهب قد ذكره البغدادي في كتبه، ثم درج عليه مَن بعد الجويني مِن الأشاعرة. وأما المتقدمون من الأشعرية كـ أبي الحسن إمام المذهب، والقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني، وابن فورك وأمثال هؤلاء فإنهم يثبتون هذه الصفات السبع ويثبتون جملة من الصفات الخبرية: كالوجه، واليدين، وأمثال هذه الصفات. فالمقصود: أن الأشاعرة ليسوا على وجه درجة واحدة، والاقتصار على إثبات سبع صفات هو مذهب غلاتهم كـ أبي المعالي الجويني ومَن بعده. وأما مذهب التشبيه، فأصله عن قوم من أئمة الرافضة، ثم دخل على جملة من الأحناف، أتباع محمد بن كرام السجستاني، ويقال: مذهب المعطلة هو مذهب المشبهة؛ لأن المعطل لم يقل بالتعطيل إلا بعدما شبَّه، أي: أنه قال بالتعطيل هروباً من التشبيه الذي ظنه لازماً من إثبات الصفات. - تنبيه: لم يذهب أحد من المسلمين إلى تعطيل الرب سبحانه وتعالى عن مطلق الكمال، وإنما أثبتوا ما هو من أحكام الصفات، مع نفيهم لقيامها بالذات، فهذا هو مراد السلف بقولهم: إن هؤلاء معطلة. وكذلك المشبهة لم يذهب أحد من المسلمين إلى أن شبه الله بخلقه على التمام، فإن هذا هو الشرك في الربوبية، ولا يقع من مسلم، أو ينتسب إلى دين الإسلام، ولكن عندهم قدر من التشبيه، فمن هنا سموا مشبهة، وإن وقع فهو على سبيل النادر، وهذا النادر حكم عليه أهل العلم بالكفر.

تنزيه الله تعالى عن المثيل والنظير

تنزيه الله تعالى عن المثيل والنظير قال الموفق رحمه الله: [ونعلم أن الله سبحانه وتعالى لا شبيه له ولا نظير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]]: هذه الآية من أشرف قواعد الصفات، وهي جامعةٌ لباب الصفات، فقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) تنزيه له سبحانه وتعالى عن التشبيه، (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) إثبات أسمائه وصفاته، فإن هذين الاسمين تضمنا جملة من الصفات؛ لأن السميع تضمن صفة السمع، وكذلك صفة الحياة؛ لأن السميع لابد أن يكون حياً، إلى نحو ذلك من التراتيب.

صفات الله خلاف كل ما يتصور في الذهن

صفات الله خلاف كل ما يتصور في الذهن قال الموفق رحمه الله: [وكل ما تُخُيِّل في الذهن، أو خطر بالبال، فإن الله تعالى بخلافه]. وهذا صحيح؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يحاط به علماً، وعليه يقال في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) سواء كان هذا الشيء موجوداً أو متصوراً أو مفروضاً في الذهن، ومهما عارض أو تخيل المرء في ذهنه من الفروضات لكل صفة من صفاته، فإن الله ينزه عن هذه الكيفية؛ لأن العقل يمتنع أن يتصور أو يتخيل إلا كنهاً وكيفاً ناقصاً، وعليه سمات المحدثات.

شرح لمعة الاعتقاد [6]

شرح لمعة الاعتقاد [6] من صفات الله تعالى وأقوال السلف الثابتة بالأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة: صفة الاستواء، وصفة العلو، وهما صفتان حقيقيتان لائقتان بالله تعالى، متضمنتان للكمال المطلق، وليس فيهما نقص بوجه من الوجوه، وقد أثبت أهل السنة هاتين الصفتين لله تعالى، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع، فبعضهم نفوها، وبعضهم أولوها، وبعضهم فوض معانيها، والحق هو ما عليه أهل السنة.

إثبات صفة الاستواء لله تعالى

إثبات صفة الاستواء لله تعالى قال: [ومن ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]] قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ذكر الله تعالى استواءه على عرشه في سبعة مواضع في كتابه، والاستواء على العرش هو من صفاته سبحانه وتعالى الثابتة في الكتاب والسنة والإجماع، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] المراد بالاستواء العلو؛ وهو علو مضاف في هذا المقام، وإن كان قد ورد ذكر العلو في مقام آخر على الإطلاق، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]. من هنا فإن علو الرب سبحانه وتعالى صفة أزلية، لم يزل سبحانه وتعالى علياً، وأما الاستواء على العرش المذكور في هذه الآيات، فهو بعد خلق العرش، والعرش مخلوق حادث بعد أن لم يكن، فالمقصود أن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: علا، وهذا هو المعنى الصواب المعروف عند جمهور السلف. وثمة بعض المعاني التي فسر بها الاستواء على العرش، فمنهم من قال: صعد، وهذا ليس بجيد في التفسير، ومنهم من قال: استقر، وهذا أبعد منه، وإن كان بعض أهل العلم من بعض أئمة اللغة كـ معمر بن المثنى يذهب إلى مثل هذا؛ لكنه ليس بفاضل؛ لأنه تعبير فيه توسع في حق الله سبحانه وتعالى، وأشد بعداً من هذين (صعد واستقر) ما قاله بعض متأخري أهل السنة أنه الجلوس على العرش! وهذا غلط، ولا يجوز أن يذكر في حقه سبحانه وتعالى، بل يقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: علا على العرش.

إثبات صفة العلو لله تعالى

إثبات صفة العلو لله تعالى قال الموفق رحمه الله: [وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك). وقال للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: أعتقها فإنها مؤمنة) رواه مالك بن أنس ومسلم وغيرهما من الأئمة]. أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله ...) فهو على جهة الدعاء، وقد رواه أبو داود، والحديث مُتَكَلَّم فيه؛ لكن من أهل العلم من قوَّاه، وهذا الحديث والآيتان مِن قبلِه وما ذكره بعده كحديث معاوية بن الحكم، كلها تدل على إثبات علو الرب سبحانه. وقد قال جملة من علماء السنة كبعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب أحمد كـ ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية: إن دلائل العلو في القرآن أكثر من ألف دليل. وهناك طريقة عند علماء السنة في الاستدلال على الصفات، وهي طريقة التنوع، فالعلو عندهم يثبت بجملة من الأدلة، منها: ذكره سبحانه وتعالى أنه في السماء، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]. ذكره سبحانه وتعالى لفوقيته، في مثل قوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]. ذكره سبحانه وتعالى لعروج الأشياء إليه، وذكره لصعود الأشياء إليه: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [المعارج:4]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]. ذكره سبحانه وتعالى للنزول كنزول الملائكة من عنده، وإنزاله للكتب، والأمر، والرحمة وغيرها، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4]، {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} [إبراهيم:1]. فجملة هذه الأدلة بتنوعها تدل دلالة قاطعة مطردة على إثبات العلو لله تعالى، وعلوه سبحانه وتعالى من أخص صفاته، وقد أجمع عليه السلف وكثير من الخلف، حتى من انتسب إلى بعض الطرق الكلامية كـ أبي الحسن الأشعري، وكـ عبد الله بن سعيد بن كلاب، فإن هذين وأمثالهما من المقاربين للسنة من المتكلمين يثبتون العلو، وأما نفي الأشاعرة المتأخرين للعلو فإن هذا مذهب دخل عليهم من المعتزلة، وقد صنف ابن كلاب كتابه: الصفات، ورد فيه على المعتزلة في مسألة العلو بالعقل والنقل. ومسألة العلو حكى الإجماع عليها جملة من الأئمة، حتى إن شيخ الإسلام ذكر في درء التعارض هذا الإجماع عن بضعة عشر إماماً من كبار أئمة أهل السنة والجماعة، فهي مسألة متواترة صريحة في كلام الله ورسوله، فضلاً عن كون علوه سبحانه وتعالى يثبت بالعقل، ويثبت بدليل الفطرة، فإن الله فطر الخلق على أنه سبحانه وتعالى في السماء. ويراد بكونه سبحانه وتعالى (في السماء) أي: أنه على السماء، وأما ما قد يتبادر إلى ذهن بعض الجهال أنه في سماء خلقها، كما تقول: إن الملائكة في السماء، فهذا مما ينزه عنه الرب سبحانه وتعالى، فإنه قد قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]، وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133]. إذاً قوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: على السماء، أو يراد بالسماء العلو، أي: من في العلو، وليس وسط السماء. أما قصة حديث الجارية، وهو حديث معاوية بن الحكم السلمي فقد رواه مسلم في صحيحه، في سياق فيه طول، وفي آخره: قال معاوية: (وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قِبَل أُحُد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسَف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظَّم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، قال: فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة). وهذا الدليل صريح في أنه سبحانه وتعالى في السماء، وصريح في جواز أن يسأل عنه سبحانه وتعالى بـ (أين)، وهذا ما منعه أهل البدع، قالوا: ولا يجوز أن يسأل عن الرب بـ (أين)، فيرد عليهم: إن أعلم الخلق به، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، قال للجارية وهي على قدر يسير من العلم: (أين الله؟ قالت: في السماء).

إقرار بعض المشركين بصفة العلو والرد على المعطلة

إقرار بعض المشركين بصفة العلو والرد على المعطلة قال الموفق رحمه الله: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ حصين: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة: ستة في الأرض، وواحداً في السماء، قال: من لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، قال: فاترك الستة واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين، فأسلم وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي)]. هذا الحديث داخل في أدلة إثبات العلو لله عز وجل، وفيه إشارة إلى أن المشركين كانوا في الجملة يقرون بأصول الصفات، وهذا من دلائل أهل السنة في ردهم على المعطلة، فالمعطلة تقول: إن إثبات الصفات على ظاهرها مخالف لدليل العقل. قال علماء السنة: إن القرآن نزل وعارضه المشركون بالتكذيب، وقالوا عن صاحبه الذي نزل عليه: إنه ساحر، وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25]، إلى غير ذلك، فالقصد أن آيات الصفات لو كان فيها ما يعارض دليل العقل لاعترض به المشركون. فإنه لم ينقل عن واحد من المشركين، لا من العرب ولا من اليهود ولا من النصارى؛ الذين بلغهم القرآن، أنه اعترض بدليل عقلي على صفة من الصفات، مع أنهم حاولوا الطعن في بعض أخبار القرآن من جهة العقل، كقول الله تعالى عن كافرهم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]، فهذا اعتراض بالعقل على مسألة البعث، ولما ذكر سبحانه البعث قال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7]؛ لكنه لم يذكر أنهم كذبوا بأسمائه وصفاته، فهذا يدل على أن المشركين لم يقع منهم الإنكار لشيء من أسماء الرب وصفاته في الجملة. فإن قال قائل: فقد أنكر سهيل بن عمرو اسم الرحمن في صلح الحديبية، كما جاء في الصحيح لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو: أما الرحمن فلا أدري ما هو، ولكن اكتب (باسمك اللهم))، فهذا ليس من باب المعارضة العقلية، بل من باب: أن سهيل بن عمرو ومن في دائرته من المشركين ما كانوا يعرفون أن هذا الاسم مضاف لله سبحانه وتعالى. فهذا نوع من الجهل وليس من المعارضة العقلية، والدليل على ذلك: أن المشركين كان منهم من يسمى بعبد الرحمن، كـ عبد الرحمن الفزاري، الذي قتله أبو قتادة الأنصاري في غزوة ذي قرد - كما في الصحيح- وكان امراً مشركاً، مات على الشرك. فالقصد أن قول سهيل بن عمرو: أما الرحمن فلا أدري ما هو، هو كما قال لا يدري ما هو، أي: أنه جاهل به وليس معارضاً له بالعقل، ولهذا لم ينكر سهيل أن الله رحيم؛ لأنهم كانوا يقرون بذلك، ولذلك قال عنترة: يا عبل أين من المنية مهرب ... إن كان ربي في السماء قضاها وفي الجملة فباب الربوبية قد أقر به المشركون. وتعلم أن الصفات والأسماء هي من أخص مقامات الربوبية، ولكن القول: إن مشركي العرب كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ليس على إطلاقه، بل الصحيح أنهم ليسوا محققين له، وإنما هم مقرون به في الجملة، وإلا فحال الجاهليين العرب بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بعثته؛ أنهم على قدرٍ من الغلط في توحيد الربوبية. ومن ذلك مثلاً: الاستقسام بالأزلام، أي: إمضاء الأمر أو عدم إمضائه، على ما يفعلونه في أقداحهم أو أزلامهم، وهذا طعن في توحيد الربوبية. ومن ذلك أيضاً: الطيرة، فهي لا تحقق توحيد الربوبية، إلى غير ذلك. وإن كان هذا في الجملة: من عوائد أهل الجاهلية وإلا فهم غالباً لا يصدقون بمسألة الأزلام. ولهذا روى البخاري في صحيحه عن عكرمة عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة وجد صورة إبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام قد وضعوها داخل الكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتلهم الله! أما لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط). ومما يروى عن امرئ القيس الشاعر الجاهلي المعروف، أن بني أسد عندما قتلت أباه ذهب يستقسم بالأزلام: هل يأخذ الثأر لأبيه أو لا يأخذ؟ فاستقسم الأولى، فخرج أنه لا يفعل، ثم الثانية، فخرج لا يفعل أيضاً، والثالثة كذلك، وكان عند العرب: أنه إذا ظهر المنع في الأول والثاني والثالث، ينقطع، فلما انتهت المحاولة الثالثة، وخرج أنه لا يفعل، قام وكسّر الأزلام، وقال: لو أنت قتل أبوك ما فعلت هذا. فكان فعلهم هذا يدل على عوائدهم، أكثر مما يدل على حقائق ما في نفوسهم، ومع ذلك فهو شرك.

أدلة إثبات العلو في الكتب المتقدمة

أدلة إثبات العلو في الكتب المتقدمة قال الموفق رحمه الله تعالى: [وفيما نقل من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة: إنهم يسجدون بالأرض، ويزعمون أن إلههم في السماء]. هذه إشارة من المصنف إلى أن توحيد الأسماء والصفات متواتر في سائر الكتب السماوية، لأن أصول الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحدة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- عن أبي هريرة: (نحن معاشر الأنبياء أبناء علات) والمقصود بأبناء العلات هم الإخوة من أمهات شتى وأب واحد، فأراد باتفاق أبيهم الاتفاق في أصل الدين، وأراد باختلاف أمهاتهم اختلاف شرائعهم. ولهذا فإن عقيدة الأنبياء واحدة وتوحيدهم واحد، ولا يمنع هذا أن يكون ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم فيه تفصيل لهذه العقيدة بما لم يقع مثله من التفصيل في غيره من الكتب. فلا شك أن الدلائل والتفاصيل المذكورة في القرآن، أكثر من التفاصيل المذكورة في الكتب السماوية الأخرى، وإن كانت كلام الله سبحانه وتعالى. قال الموفق رحمه الله: [وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا)، وذكر الخبر إلى قوله: (وفوق ذلك العرش، والله سبحانه فوق ذلك) فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف رحمهم الله على نقله وقبوله، ولم يتعرضوا لرده ولا تأويله ولا تشبيهه ولا تمثيله]. هذا كله داخل في مراد المصنف، إثبات صفة العلو لله عز وجل. وهنا ينبه إلى مسألة الآثار النبوية؛ كهذا الحديث الذي ذكره المصنف، وكحديث الأوعال في ذكر حملة العرش، وأمثال هذه الأحاديث، ينبه إلى أن الواجب في الاعتقاد: هو ما انضبط عند السلف من الأحاديث، وذكروه من مسائل أصول الدين. وأما تتبع الروايات في كتب الحديث على طريقة من الإفراد، كما تتتبع المسائل الفقهية، فهذا ليس مما ينبغي القصد إليه، لأن هذا مقام إخبار عن الرب سبحانه وتعالى، فلا ينبغي فيه أن يستطال في تتبع أحاديث فردة، قد تثبت وقد لا تثبت. ولهذا فإن إشارة المصنف في قوله: [مما أجمع السلف رحمهم الله على نقله وقبوله] إلى أنه ينبغي تتبع المجمع عليه كحديث النزول وأمثاله من الأحاديث.

أثر مالك في إثبات الصفات وتفويض كيفيتها

أثر مالك في إثبات الصفات وتفويض كيفيتها قال الموفق رحمه الله: [سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فقيل: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم أمر بالرجل فأُخْرِج]. جواب مالك قاعدة مطردة في سائر مسائل الصفات وهي من أجود المسائل، ولا تختص بمسألة الاستواء على العرش فقط، وفيها جمعٌ بين العقل والنقل، فإنه قال: [الاستواء غير مجهول]، وفي لفظ: [الاستواء معلوم]، أي: المعنى معلوم، وهذا بيّن في أن مالكاً وأمثاله من السلف لا يفوضون المعاني، بل يثبتونها؛ لأن العلم بالمعاني متحقق من جهة جملة اللغة. قوله: [والكيف غير معقول]، وفي وجه: [الكيف مجهول]، والأول أولى: [غير معقول] أوجه، فإن قوله: [الكيف مجهول] قد يفهم منه أنه يمكن أن يعقل ويمكن العلم به، والصواب: أن العلم بالكيف في حق المكلفين علم ممتنِع؛ لأن الله سبحانه لا يحاط به علماً، ولهذا كان اللفظ: [والكيف غير معقول] أتم من لفظ: [والكيف مجهول]. قوله: [والإيمان به واجب]: أي: التصديق به لفظاً ومعنىً؛ لأنه مذكور في القرآن، والقرآن إنما أريد به الحقائق والإيمان، لا مجرد الألفاظ. قوله: [والسؤال عنه بدعة]: أي: السؤال عن الكيف. وقد فسره بعض أهل التفويض من أصحاب مالك أنه قصد المعنى، أي: أن السؤال عن المعنى بدعة، وهذا غلط؛ لأنه قال: [والإيمان به واجب]، فما كان واجباً، صح السؤال عنه. وإنما قصد بقوله: [والسؤال عنه] أي: عن الكيفية؛ لأنها هي التي استشكل منها السائل، حيث قال: كيف استوى؟

شرح لمعة الاعتقاد [7]

شرح لمعة الاعتقاد [7] يعتقد أهل السنة والجماعة أن الله تعالى موصوف بصفة الكلام كما دل على ذلك الكتاب والسنة وأقوال السلف، وأنه سبحانه يتكلم بحرف وصوت مسموع، وأن كلامه متعلق بإرادته ومشيئته، فهو يتكلم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء، ويعتقدون أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.

إثبات صفة الكلام لله تعالى

إثبات صفة الكلام لله تعالى قال الموفق رحمه الله: [ومن صفات الله تعالى: أنه متكلم بكلام قديم]. أهل السنة يقولون: إن الله سبحانه وتعالى موصوف بهذه الصفة، وأنه يتكلم بحرف وصوت مسموع، وأن كلامه متعلق بمشيئته وإرادته، فهو يتكلم متى شاء بما شاء كيف شاء، كما يعتقد أهل السنة أن القرآن كلام الله حقيقةً وليس مجازاً. كما أن دلائل اتصاف الرب سبحانه وتعالى بالكلام متواترة في القرآن. فإن قيل: كيف يحصلون هذا؟ قيل: لأن كل آية نداء في القرآن يجعلونها دليلاً على إثبات الكلام؛ وذلك لأن المنادي لا بد أن يكون متكلماً، فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) هذه الآيات نداء، فيجعلونها من أدلة إثبات الكلام، وكذلك آيات القول: (وَقَالَ رَبُّكُمْ) فإذا أضيف القول إليه سبحانه دل على أنه متكلم، إلى أمثال ذلك. وقد خالف أهل السنة في هذه العقيدة الأشاعرة فقالوا: إنه معنى قائم بالنفس، ويرد عليهم بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]. فدل على أن الله تعالى تكلم بهذا الكلام بعد مجيء موسى لميقات ربه، وموسى حادث بعد أن لم يكن، وهذا الميقات متأخر عن زمنٍ سَلَفَ، إلى أمثال ذلك. فمع أن كلامه سبحانه أزلي، فهو مع ذلك متعلق بالإرادة والمشيئة. قوله: [بكلام قديم] هذا مما أخذه بعضهم على المصنف، أنه يقول عن الله: إنه متكلم بكلام قديم. وهذا مأخذ لفظي، فلو أن المصنف عبر بما هو أجود منه لكان حسناً. أما أنه يقال: إن كلامه هنا غلط بيِّن، وأنه من كلام أهل البدع ومصطلحاتهم معانيهم وما إلى ذلك، فهذا فيه تكلف، فإنه رحمه الله قال: [متكلم بكلام قديم]، أي: أن كلامه أزلي، وأراد بذلك الرد على بعض أهل البدع الذين يقولون: إن كلامه حادث بعد أن لم يكن، يريدون بذلك تعطيل أو تأويل صفة الكلام. وكلام الله صفة من صفاته بدلائل الكتاب والسنة، وبدليل العقل. أما دليل العقل؛ فلأن الله هو الإله المعبود فضلاً عن كونه الرب المدبر للكون يلزم منه أن يكون، متكلماً، ولو لم يكن متكلماً لما صح كونه رباً، ولا صح كونه إلهاً، هذا دليل عقلي. أما دلائل الكتاب والسنة، فهي أكثر من أن تحصر في هذا المقام، ومنها على سبيل المثال: قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف:148]. فكان الرد عليهم دليلاً شرعياً وعقلياً في نفس الوقت، وهو قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148]، وهذا نقض عقلي لألوهية العجل، فدل على أن الإله الحق لا بد أن يكون متكلماً. ولهذا فإن دلائل القرآن في الصفات وغيرها بعضها خبري وبعضها عقلي؛ فالخبر المحض كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وأما الدليل الخبري من جهة كونه قرآناً؛ ولكنه سياق عقلي، كمثل آية العجل، وكمثل قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} [إبراهيم:24]. فإذا ذكر هذه السياقات فهي أتم الأقيسة يقيناً في العقل، وهي الأمثلة المضروبة في القرآن .. {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الروم:28] إلى غير ذلك.

معنى سماع كلام الله

معنى سماع كلام الله قال الموفق رحمه الله: [يسمعه منه من شاء من خلقه، سمعه موسى عليه السلام منه من غير واسطة]. قوله: [من غير واسطة]، هذا رد على من قال: إن موسى سمع العبارة، أو خلق فيه الإدراك للمعنى الأزلي، كما يقول ابن كلاب]، وأمثاله، ممن يجعلون الكلام معنىً في النفس. قال الموفق رحمه الله: [وسمعه جبريل عليه السلام، ومن أذن له من ملائكته ورسله، وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه، ويأذن لهم فيزورونه]. حديث الزيارة ليس من الأحاديث المنضبطة في الصحة، إنما المنضبط هو لقاؤه سبحانه وتعالى ورؤيته وكلامه للمؤمنين، فهذه مذكورة في القرآن وصحيح السنة بينة منضبطة. وأما حديث الزيارة فقد جاء في المسند وغيره؛ ولكنه ليس من الأحاديث المنضبطة.

بعض الأدلة النقلية على إثبات صفة الكلام

بعض الأدلة النقلية على إثبات صفة الكلام قال الموفق رحمه الله: [قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164]، وقال سبحانه: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]، وقال سبحانه: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253]، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51]، وقال سبحانه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه:11 - 12]، وقال سبحانه: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14]، وغير جائز أن يقول هذا أحدٌ غير الله]. أي: وهذا الكلام يمتنع أن يكون المتكلم به غيره سبحانه وتعالى؛ لأن الله نسبه لنفسه مباشرة، فقال: (أَنَا رَبُّكَ)، (أَنَا الله)، (إِلَّا أَنَا). قال الموفق رحمه الله: [وقال عبد الله بن مسعود: (إذا تكلم الله بالوحي، سمع صوته أهل السماء) روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراةً حفاةً غرلاً بهماً، فيناديهم بصوت يسمعه مَنْ بَعُدَ كما يسمه مَنْ قَرُبَ: أنا الملك، أنا الديان) رواه الأئمة واستشهد به البخاري. وفي بعض الآثار: أن موسى عليه السلام ليلة رأى النار، فهالته ففزع منها، فناداه ربه: يا موسى! فأجاب سريعاً استئناساً بالصوت، فقال: لبيك، لبيك، أسمع صوتك ولا أرى مكانك، فأين أنت؟ قال: (أنا فوقك، وأمامك، وعن يمينك، وعن شمالك)، فعلم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى، قال: كذلك أنت يا إلهي، أفكلامَك أسمع، أم كلامَ رسولك؟ قال: (بل كلامي يا موسى)]: هذا الأثر ليس صحيحاً من جهة السند، ولا يحتاج إلى ذكره؛ لأن هذا بيِّن في القرآن في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]. فكونه حصل السؤال والجواب، وأدرك موسى هذا الجواب دليل على أنه سمع كلام الرب سبحانه وتعالى، ولا يلزم منها التصحيح لمثل هذا الأثر، الذي لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك هو بيّن في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164]، وقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} [طه:14].

القرآن كلام الله

القرآن كلام الله قال الموفق رحمه الله: [ومن كلام الله سبحانه: القرآن العظيم، وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود]. القرآن كلام الله: وهذا اصطلاح شرعي صريح، كقول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]. قوله: (مُنَزَّل): وهذا أيضاً لفظ شرعي صحيح، وقد ذكر الله تعالى أن كتابه منزل في غير سورة من القرآن، كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3]، وقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] إلى غير ذلك. قوله: (غير مخلوق): هذا الحرف ليس في الكتاب ولا السنة، وإنما قاله السلف نفياً لبدعة الجهمية. قوله: (منه بدأ): هذه الجملة بحرفها ليس لها ذكر في النصوص، وقد وصف بها السلف القرآن وأرادوا بها أنه كلام الله حقيقةً، (منه بدأ)، أي: أنه هو الذي تكلم به حقيقةً بحرف وصوت، وليس كلاماً لجبريل ولا لغيره من الملائكة. قوله: (وإليه يعود): هذا فسر بأكثر من تفسير، من أخصها: أنه يُرفع من صدور الرجال في آخر الزمان، حين يترك العمل به، فلا تبقى منه آية.

وصف كلام الله وفضله وبعض أحكامه

وصف كلام الله وفضله وبعض أحكامه قال الموفق رحمه الله: [وهو سور محكمات، وآيات بينات، وحروف وكلمات، من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، له أول وآخر، وأجزاء وأبعاض]. قوله: [له أول وآخر]: هذا رد على الأشاعرة وأمثالهم الذين قالوا: إن الكلام واحد، وإنه معنىً يقوم في النفس. قوله: [وأجزاء وأبعاض ...] إلخ: هذا من التفصيل الذي ليس بلازم؛ فإنه كان يكفي أن يقال: إن له أولاً وآخراً، أو نحو ذلك من التعبيرات التي يكتفى بها. قال الموفق رحمه الله: [متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، ومسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، فيه محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، وقوله تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88]، وهذا هو الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} [سبأ:31]. وقال بعضهم: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25]، فقال الله سبحانه: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26]. وقال بعضهم: هو شعر، فقال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69]، فلما نفى الله عنه أنه شعر، وأثبته قرآناً، لم يبق شبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو كلمات وحروف وآيات، لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد: إنه شعر. وقال عز وجل: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]، ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يُدرى ما هو، ولا يُعقل. وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس:15]، فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم. وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77 - 79] بعد أن أقسم على ذلك]. قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] هل الضمير يعود على القرآن أم يعود على الكتاب المكنون وهو اللوح المحفوظ؟ هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم. والصحيح أن الخلاف في مسألة لزوم الطهارة من الحدث في مس المصحف ليس فرعاً عن الخلاف في هذه الآية، فإن كثيراً من السلف جعلوا الضمير في قوله: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة:79] يعود على الكتاب المكنون؛ وهو اللوح المحفوظ، وهذا هو الصحيح في تفسير الآية، ومع ذلك فإن هؤلاء يذهبون إلى أنه لا يجوز للمحدث أن يمس القرآن. إذاً .. الخلاف في مسألة مس المحدث للقرآن، ليس فرعاً عن تفسير الآية. وفي الجملة فالذي عليه الجمهور -وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم- أن القرآن لا يجوز مسه للمحدث، بل لا بد له من الطهارة. وذهب طائفة كـ ابن حزم والشوكاني إلى جواز مسه للمحدث حدثاً أصغر، ومستند قول الجمهور هو حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب له كتاباً وفيه: (وأن لا يمس القرآن إلا طاهراً) وهذا كتاب محفوظ صحيح، قال الإمام أحمد: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتبه له، فهو كتاب معروف منضبط، وفيه مسائل كثيرة جرى الفقهاء من الأئمة على العمل بها، وبذلك تثبت صحة مستندهم.

معنى الحروف المقطعة في القرآن

معنى الحروف المقطعة في القرآن قال الموفق رحمه الله: [وقال تعالى: {كهيعص} [مريم:1]، {حم} [الشورى:1] * {عسق} [الشورى:2]،وافتتح تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة] قوله: [بالحروف المقطعة] كقوله: {الم} [البقرة:1] وأمثالها، اختلف في المراد بهذه الحروف والصحيح أن معناها أن يرد أمر العلم والحكمة بها إلى الله؛ لأنه لا يستطاع تفسيرها من جهة مفاد كلمات العرب، وكلمة: (الم) ليس لها مفهوم عند العرب إذا انطقت مقطعة، وإنما يعرفون كلمة مثل: قام، أو جاء، أو ما إلى ذلك، أما (الم) فهذه ليست حروفاً معروفة عند العرب بمعنى، وإنما هي حروف مجتمعة -وإن كانت حروفاً عربية- ابتدأ الله بذكرها في القرآن لحكمة أرادها سبحانه وتعالى، ولهذا لم يقف عندها الصحابة رضي الله عنهم على هذا الوجه من الإشكال.

تدبر القرآن وإعرابه

تدبر القرآن وإعرابه قال الموفق رحمه الله: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فأعربه، فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولَحَن فيه، فله بكل حرف حسنة) حديث صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة السهم لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه)، وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: [إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه]، وقال علي: [من كفر بحرف منه فقد كفر به كله] واتفق المسلمون على عد سور القرآن، وآياته، وكلماته، وحروفه. ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة، أو آية، أو كلمة، أو حرفاً متفقاً عليه، أنه كافر، وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف]. يُنهي المؤلف رحمه الله هذه المسألة بهذا التقرير، وهو إبانة لكون القرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا كما سلف أنه متواتر في الدلائل الشرعية، وفي إجماع السلف الصالح رحمهم الله.

شرح لمعة الاعتقاد [8]

شرح لمعة الاعتقاد [8] ثبت بالأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة أن المؤمنين يرون ربهم سبحانه وتعالى يوم القيامة بأبصارهم، ويرونه سبحانه وهم في الجنة، وهذا هو ما يعتقده أهل السنة والجماعة، ولم يقل بنفي الرؤية إلا المعتزلة، وقد استدلوا بما ليس لهم فيه دليل. أما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة الإسراء والمعراج فهي مسألة فيها خلاف مشهور، والصواب: أنه لم يره ببصره.

رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة قال الموفق رحمه الله: [والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه، ويكلمهم ويكلمونه]. ذِكر المصنف لمسألة رؤية الله سبحانه وتعالى داخل في تفصيل ذكره للصفات؛ لأن من صفاته سبحانه أنه يُرى يوم القيامة. ورؤية المؤمنين لربهم في الآخرة تكون في مقامين: الأول: في عرصات القيامة. والثاني: بعد دخولهم الجنة، وهما من مسائل الإجماع المتفق عليهما بين السلف. وظاهر النصوص أن رؤيتهم له سبحانه وتعالى بعد دخولهم الجنة تكون أتم من تلك التي تقع في عرصات القيامة، فالرؤية بعد دخول الجنة هي المذكورة في قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وقد فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزيادة في الآية كما في صحيح مسلم وغيره، قال: (هي النظر، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم) وهذا من معاقد الإجماع الذي دل عليه الكتاب والسنة.

أدلة القرآن على رؤية الله تعالى في الآخرة

أدلة القرآن على رؤية الله تعالى في الآخرة الدليل الأول: من أخص أدلة القرآن التي استدل بها السلف على ثبوت رؤية المؤمنين لربهم وأصرحها قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. الدليل الثاني: قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وإن كان لفظ الزيادة لفظاً مجملاً إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الزيادة بالنظر إلى وجهه سبحانه وتعالى. الدليل الثالث: قوله تعالى عن الكفار: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، ومفهوم المخالفة من الآية: أن المؤمنين لا يحجبون عن الله يوم القيامة، كما ذكر ذلك الشافعي ومالك وجملة من السلف. الدليل الرابع: قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44]، فإن اللقاء إذا قُرن بالتحية تضمن النظر والرؤية معاً، وقد روى أبو عبد الله ابن بطة عن ثعلب -وهو من أئمة اللغة- الإجماع على أن اللقاء إذا قُرن بالتحية فإنه يستلزم أو يتضمن الرؤية. الدليل الخامس: قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] فإن المنفي هنا هو الإدراك، والإدراك قدر زائد عن أصل الرؤية، ولا يلزم من الرؤية للشيء الإدراك له والإحاطة به، فإنك تقول -ولله المثل الأعلى-: رأيت السماء، ومع ذلك لم تدركها، وتقول: رأيتُ القادم من بعيد. وأنت لم تدركه: أهو زيد أم عمرو؟ أرجل أو امرأة؟ فإن من رأى قادماً من بعيد لا يرى إلا شخصه، ولا يميز من هو، أو ما يكون، فإذا قال: رأيت هذا القادم، فإن قوله صحيح، ولكن لا يمكن أن يقول: أدركته. فلما قال تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) دل على أنه يُرى ولكن لا يدرك، فإنه لو كان سبحانه وتعالى لا يرى مطلقاً، ولا يراه المؤمنون؛ لما لزم نفي الإدراك، فإن الأصل إذا كان منتفياً فإن ما فوقه يكون منتفياً من باب أولى. فإذاً: قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) دليل على ثبوت الرؤية، ووجه ذلك: أنه لما خص القدر الزائد على أصل الرؤية في النفي، دل ذلك على أن ما دونه -أي: ما دون الإدراك وهو أصل الرؤية- يكون ثابتاً وممكناً. ومما يوضع في الاعتبار: أن في كتاب الله جملة من الدلائل هي محل تردد في الاستدلال بها على الرؤية بين أهل السنة؛ كقوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] وهذه الآية مختلف في صحة الاستدلال بها، فمن استدل بها رأى أن لفظ "مزيد" المراد به: الزيادة المفسرة بالسنة، ومن لم يذهب إلى هذا التفسير قال: يمكن أن يكون المزيد المذكور في هذه الآية ليس هو المراد بالزيادة في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26].

أدلة السنة على رؤية الله تعالى في الآخرة

أدلة السنة على رؤية الله تعالى في الآخرة وأما السنة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متواترة في رؤية المؤمنين لربهم، رواها ثلاثون صحابياً تقريباً وعلى رأسهم العشرة المبشرون بالجنة وغيرهم، وثمة جملة من الأحاديث متفق عليها بين البخاري ومسلم، وجملة من أفرادهما، وجملة في السنن والمسانيد، فأحاديث الرؤية تلقتها الأمة بالقبول -كما ذكر ذلك الإمام أحمد وغيره- ومن أصرحها: حديث أبي هريرة وأبي سعيد في سياق طويل في الصحيحين أن أناساً قالوا: (يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضامون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا، قال: هل تضامون في رؤية الشمس صحواً ليس دونها سحاب؟ قال: فإنكم سترون ربكم كذلك لا تضامون في رؤيته). إلى غير ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة في كلام الله ورسوله على أن المؤمنين يرون ربهم وهو إجماع متحقق عند السلف.

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ببصره ليلة المعرج أم لم يره؟ هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين متأخري أهل السنة، وهم فيها على قولين: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج ببصره. الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ببصره. والذي يميل إليه أتباع الأئمة من المتأخرين: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، ولكن هذا المذهب وإن اشتهر عند المتأخرين -حتى قيل: إنه قول جمهورهم- إلا أنه غير معروف عند الصحابة رضوان الله عليهم، وغريب عند الأئمة المتقدمين .. بل حُكي الإجماع على خلافه، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ببصره، وممن حكى الإجماع على ذلك: الإمام الدارمي رحمه الله. قد نقله عنه الموفق في المناظرة في مسألة الصفات، وهذا هو المشهور في مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من السلف، وسواء قيل: إن هذا إجماع منضبط صحيح، أو قيل: إنه إجماع سكوتي، فإنه لم يصح عن واحد من الصحابة أنه قال: إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وإنما جواب الصحابة على أحد وجهين: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يره. والثاني: أنه رآه بفؤاده. فالأول جواب عائشة رضي الله عنها ومن معها، والثاني: جواب ابن عباس رضي الله عنهما ومن أخذ بقوله. وعند التحقيق يظهر أن جواب ابن عباس رضي الله عنهما ليس معارضاً لجواب عائشة رضي الله عنها، بل يمكن أن يقال: إن جواب ابن عباس مؤيد لجواب عائشة رضي الله عنها؛ من جهة أن ابن عباس لما قصر الرؤية على الفؤاد دل على أن ما فوقه -وهي الرؤية البصرية- غير متحصلة. أما المتأخرون فإنهم فهموا من كلام ابن عباس الإثبات للرؤية البصرية؛ لأن أصحاب ابن عباس يروون تارة الإطلاق، وتارة التقييد بالفؤاد، فصار من المتأخرين من يقول: إن ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وهذا غلط عليه؛ لأنه إنما كان يقول: رآه بفؤاده، ولم يقل: رآه ببصره. وتفسير المتأخرين لمذهب ابن عباس بهذا لا يغر طالب العلم، ويوضح هذا ما يقع في كتب بعض الشراح -كشراح الصحيح وغيره- من القول بإثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، وأن هذا هو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة، أو يقولون: هو أحد قولي ابن عباس، بل الصواب أن ابن عباس له قول واحد فقط، ونسبة القول الثاني إليه غلط عليه، والتحقيق: أن قول ابن عباس لرؤية النبي بفؤاده يدل على نفي الرؤية البصرية وليس على إثباتها. ومن الحنابلة من حكى عن الإمام أحمد القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وهذا كما قال شيخ الإسلام وغيره: غلط على الإمام أحمد، والصواب أنه إنما كان يجيب بجواب ابن عباس وعائشة، مما يدل على عدم التعارض بين الجوابين عنده. وعلى كل تقدير يقال: الصواب ما عليه الجماهير من الأئمة المتقدمين؛ ولذا حُكي الإجماع عليه منهم، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه عز وجل ببصره. وإذا قيل: رآه بفؤاده، فهذا قول ابن عباس ومذهب جملة من الصحابة رضي الله عنهم، بل أكثر أهل السنة -كما قال شيخ الإسلام - يقولون بقول ابن عباس، وأن رؤية الفؤاد ليست هي الرؤية البصرية. مسألة: هل تعتبر مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه من مسائل الأصول التي يضلل فيها المخالف؟ الجواب: ليست من مسائل الأصول، وإن كان القول بإثبات الرؤية البصرية يعد قولاً غريباً لا ينبغي أن يصار إليه، ولاسيما أن القول الذي عليه عامة السلف والجماهير من أئمة السنة هو ظاهر القرآن وصريح السنة. أما أنه ظاهر القرآن فلقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]، وقول الله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18]، فهاتان الآيتان تدلان دلالة ظاهرة -وإن لم تكن صريحة- على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ببصره. ووجه ذلك: أن الله لما ذكر مسرى نبيه صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك على جهة النعمة والامتنان عليه، وكان المقام مقام ذكر لأجل ما امتن به عليه؛ لذا فهو رأى من آيات ربه الكبرى، فقال: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ} [النجم:18] .. وقال: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1]؛ فذكر حاله في مقدمه، وحاله بعد منتهاه، ومع ذلك لم يقع ذكر الامتنان إلا على رؤية الآيات. قال شيخ الإسلام: "فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه وتعالى لكان إظهار الامتنان عليه برؤيته له أولى من الإظهار لرؤية الآيات، فلما اقتصر ذكر القرآن على رؤية الآيات؛ دل على أنه لم يحصل له ما هو فوق هذا المقام وهو رؤيته لربه عز وجل". وأما السنة: فقد روى مسلم عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نوراً) وفي رواية أخرى لـ مسلم أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه)، وهذان الوجهان، قيل: إنهما محفوظان كلاهما، إلا أن الإمام أحمد في بعض أجوبته وكذا جملة من أئمة الحديث ينزعون إلى أن المحفوظ هو أحد هذين الوجهين، والمسألة فيها سعة. والمقصود بقوله: (نور أنى أراه) إشارة إلى النور الذي حال دون رؤيته لربه سبحانه وتعالى، وهذا النور -والله أعلم- هو حجابه سبحانه وتعالى؛ فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه سلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الوجه الآخر: (رأيت نوراً)، أي: أنه رأى هذا الحجاب.

رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة

رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة مسألة: هل المنافقون والكفار من أهل الأوثان وأهل الكتاب يرون ربهم في موقف القيامة كما يراه المؤمنون أم لا؟ الجواب: أولاً: يقال: هذه المسألة ليست من مسائل الأصول، وأصلها هو مسألة رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة. ثانياً: أي المسألتين أقوى مقاماً عند أهل السنة: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه جل وعلا أو رؤية الكفار؟ قيل: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه أقوى؛ لأن الصحابة فمن بعدهم لهم فيها قول معروف، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وهذا مما دل عليه ظاهر القرآن والسنة الصحيحة، وأما رؤية الكفار لربهم فإن شيخ الإسلام قال: "إن الصحابة لم يحفظ عنهم قول معروف فيها، وإنما تكلم فيها الناس بعد الصحابة". وعلى كل حال فلأهل السنة فيها أقوال: الأول: أن الكفار يرون ربهم، وإن كانت ليست رؤية نعمة وامتنان. الثاني: أن المنافقين يرون ربهم دون بقية الكفار. الثالث: أنه يراه المنافقون وغُبرات من أهل الكتاب، كما جاء في بعض الروايات في الصحيح. الرابع: أن الكفار جميعاً لا يرون ربهم، وهذا هو ظاهر مذهب الأئمة، وهو الذي عليه الجمهور من أصحاب أحمد، وهو ظاهر القرآن في قول الله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، والذي يميل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -وإن كانت هذه المسألة من المسائل التي خالف فيها ابن القيم ابن تيمية رحمه الله - وخالفه ابن القيم فذهب إلى أن الكفار يرون ربهم، ويجعل هذا عاماً في سائر الكفار، ويستدل على ذلك بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، واستدل ابن القيم على ذلك بقوله: إن اللقاء عند العرب -كما ذكره ثعلب - يفيد الرؤية. وهذا الاستدلال مما فات ابن القيم، فإن ثعلباً لما أورد هذا الكلام أراد به اللقاء المذكور في قول الله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44]، واللقاء المذكور في هذه الآية ليس هو المذكور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، فإن اللقاء في الآية الأولى قُرن بذكر التحية والسلام، وأما اللقاء هنا فهو مطلق، والذي حكى ثعلب الإجماع عليه من هو المقرون بالتحية والسلام، وثعلب عندما ذكر كلام أهل اللغة عند قوله تعالى: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ)، قال: إن العرب إذا ذكرت اللقاء مع التحية فإنه يفيد البصر والرؤية، وأما اللقاء المطلق فإنه لا يفيد ذلك، وهذا أمر معروف بالعقل والحس أن اللقاء المطلق لا يستلزم أو يتضمن النظر أو الإبصار، فما استدل به ابن القيم ورآه دليلاً قوياً فيه نظر؛ ولذا قال الجمهور من محققي أهل السنة كأمثال شيخ الإسلام -وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد -: إن الكفار لا يرون ربهم. وهذا هو الصواب والأظهر في هذه المسألة، وإن كانت بعض روايات الحديث في السنة النبوية قد تشعر بأن الكفار يرون ربهم، ولكنها ورادة في مسألة أخرى. وأما رؤيته سبحانه وتعالى لغير النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج -على الخلاف السابق- فهذا مما أجمع عليه عامة المسلمين بأنها لن تقع لأحد في الدنيا، ولم يدع شيء من ذلك إلا أهل الخرافة الذين يدعون أنه يُرى قبل الموت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت).

أدلة المعتزلة على نفي الرؤية

أدلة المعتزلة على نفي الرؤية

استدلالهم بقصة موسى والرد عليهم

استدلالهم بقصة موسى والرد عليهم موسى عليه الصلاة والسلام لما سأل ربه عز وجل الرؤية قال له: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، وهذا ليس نفياً مطلقاً للرؤية إنما هو نفي للحال، فإن موسى كان يسأل ربه أن يراه في الدنيا لا أن يراه في الآخرة أو الجنة. والنفي إنما وقع على طلب الدنيا، لذا كان قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] لا يصح دليلاً للمعتزلة والجهمية ومن وافقهم على نفي الرؤية، فهم يقولون: إن (لن) تفيد التأبيد، وهذا ليس صحيحاً، فإن (لن) لا تستلزم التأبيد وإن كانت قد تقتضيه، بمعنى: أن إفادتها لذلك إنما هو بحسب السياق، وفي شعر العرب وأقوالهم سياق فيه ذكر (لن) من النفي الذي يتضمن التأبيد وفي كلامهم سياق آخر فيه ذكر (لن) بالنفي الذي لا يتضمن التأبيد. والقول الصواب إذا قيل لك: هل (لن) تقتضي تأبيد النفي؟ الجواب: قد تستلزم التأبيد وتقتضيه وقد لا تستلزمه وإن كانت تقتضيه؛ لأن البعض إذا أراد الرد على المعتزلة قال: إن (لن) لا تفيد التأبيد مطلقاً، وهذا غير صحيح. ومما يدل على أنها لا تستلزم التأبيد في سائر المقامات: أنها لو كانت تستلزم التأبيد في سائر السياقات لما جاز تحديد أو تقييد الفعل بعدها بغاية، وقد جاء تحديد الفعل بعدها في كلام العرب وفي القرآن بغاية، مثل قول الله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:80]، فهذا يدل على أن (لن) في هذا السياق لا تستلزم التأبيد وإن كانت قد تقتضيه، ومثل هذا سياق قصة موسى؛ لأن السؤال من موسى عليه الصلاة والسلام إنما كان عن الحال. ومن الجواب في هذه الآية نفت المعتزلة والإباضية وغيرهما ممن دخلت عليهم شبه أقوال الجهمية، رؤية الله تعالى، بل ويعدون إثباتها نقصاً، ويقولون: إن هذا هو المذهب الحق الذي ذكره الله في القرآن في قوله: (لَنْ تَرَانِي). وهنا سؤال موجه إليهم: إذا كان إثباتها نقصاً في حق الله، وأن من كماله ألا يرى، وأن من يقول: إنه يُرى مشبه منقص لله سبحانه وتعالى عن كماله .. إذا كان الأمر كما قالوا؛ فإنه يلزم أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام أحد رجلين: -إما أنه جاهل بما هو كمال لله- وإما أنه كان متعدياً على ربه. فإن قالوا: إنه متعدٍ. فهذا طعن في رسالته وفي ذكر الله له بالثناء. وإن قالوا: إنه كان جاهلاً، فإن جهله هنا إسقاط لرسالته ولنبوته ولاصطفائه؛ إذ كيف يكون جاهلاً بتوحيد الله؛ لأن القول هنا في الصفات قول في التوحيد، والمعتزلة يعدون قولهم بنفي الصفات توحيداً لله، وهو الأصل الأول من أصولهم الخمسة: التوحيد. إذاً .. يمتنع أن يكون موسى جاهلاً بما هو من أصول التوحيد .. أو توحيد العلم والمعرفة، وهو ما يليق بالله وما لا يليق به، ولهذا لا ترى أن الله عاتب موسى على سؤاله، بينما نوح عليه الصلاة والسلام لما سأل ربه مسألة ليست من الأصول المطردة في أصل معرفته سبحانه، وهو نجاة ابنه، قال الله له: {فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]، فهل قيل لموسى مثل ذلك، مع أن مسألة موسى أكبر من مسألة نوح، فدل هذا على أن سؤال موسى ممكن أصلاً وشرعاً، ولكنه أمر يتعلق بمشيئة الرب وإرادته، وبه تكون المفاضلة بين المؤمنين وغيرهم في الجنة.

استدلالهم بقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) والرد عليهم

استدلالهم بقوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) والرد عليهم أما قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، فإن المعتزلة استدلوا بهذه الآية أيضاً على نفي الرؤية، والصواب أنها دليل على إثبات الرؤية؛ لأن المنفي هو الإدراك، والإدراك ليس هو مطلق الرؤية، بل هو قدر زائد على أصل الرؤية، ولما سأل رجل ابن عباس: إن الله يقول: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)، ويقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وكأن الرجل وجد بين الآيتين شيء من التعارض، فالآية الأولى تنفي والثانية تثبت. قال ابن عباس: (يا هذا! ألست ترى السماء؟ قال: بلى، قال: أتدركها كلها؟ قال: لا، قال: فالله أعظم). كل أحد من بني آدم يقول: إنه يرى السماء، لكن هل أحد منهم يستطيع أن يقول: إنه يدرك السماء طولاً وعرضاً وامتداداً وماهيةً ونفوذاً إلى آخره؟ كلا. إذاً: من طريق العقل والحس والنظر يتضح أن الإدراك ليس هو محض أو مطلق الرؤية. قال الموفق رحمه الله: [قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] * {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فلما حجب أولئك في حال السخط، دَلَّ على أن المؤمنين يرونه في حال الرضا، وإلا لم يكن بينهما فرق]. هذا الاستدلال ذكره الشافعي ومالك وجملة من السلف، على أن قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] دليل على إثبات الرؤية. قال الموفق رحمه الله: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته). حديث صحيح متفق عليه]. قوله: (لا تضامون في رؤيته) أي: لا يحتاج الناس في هذا الموقف وانضمام بعضهم إلى بعض إلى الزحام، وهذا بين كما في حديث أبي رزين، لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رؤية ربه- قال بعض الأعراب: (يا رسول الله! كيف وهو واحد ونحن كثر؟ قال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر كلكم يراه مخلٍّ به وهو واحد) فالناس يرون الشمس والقمر ولا يزدحمون عليه، ولا يدفع بعضهم بعضاً لرؤيته، فهذه آية يسيرة من آيات الله فكيف بالله سبحانه وتعالى؟!

طعون المعتزلة في أحاديث الرؤية والرد عليهم

طعون المعتزلة في أحاديث الرؤية والرد عليهم قال الموفق رحمه الله: [وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، لا للمرئي بالمرئي، فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير]. هنا طعنت المعتزلة في هذه الأحاديث، فقالوا: إن حديث: (إنكم سترون ربكم) من أحاديث التشبيه؛ لأن فيه: (كما ترون القمر)، (كما ترون الشمس). وهذا غلط وجهل بمقتضى الكلام، فإن التشبيه هنا ليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، أي: ليس تشبيهاً لله بالقمر أو بالشمس وإنما هو تشبيه لفعل الرائين. فالحديث ليس فيه تشبيه للمرئي بالمرئي، أي: تشبيه الله بالشمس أو القمر، تعالى الله عن ذلك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وإنما فيه تشبيه للرؤية بالرؤية، والرؤية الأولى التي لله والرؤية الثانية التي للقمر كلاهما من فعل بني آدم، وأفعال بني آدم يجوز التشبيه بينها. فإذاً .. هذا تشبيه لفعل الرائين بعضهم ببعض، وليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، وهذا من جهالات المعتزلة ومن وافقهم على هذه المادة في هذا الباب، ولهذا فإن أكبر قضاة المعتزلة في زمانه وهو القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني الذي كتب المغني في أصول المعتزلة إملاءً مع سعة علمه بالنظر والعقليات والجدل -وهذا ليس خاصاً به بل هو شأن المعتزلة عامة، فهم من أجهل الناس بالسنن والآثار- وهذا المعتزلي لما أراد الرد على أدلة أهل السنة من الحديث، قال: إنهم يستدلون بحديث رواه جرير بن عبد الله البجلي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم سترون ربكم)، قال: وهذا حديث تفرد به جرير بن عبد الله، وتفرد به عن جرير .. ثم ساق الإسناد، وقال: هو حديث آحاد، وفيه مادة من التشبيه. وهذا كله جهل منه؛ لأن الحديث لم يتفرد به جرير، بل حديث الرؤية في سائر ألفاظه رواه أكثر من ثلاثين رجلاً من الصحابة، ورواية أبي سعيد وأبي هريرة أشهر عند المحدثين من رواية جرير بن عبد الله رضي الله عنهم، فهذه مجموعة من جهالات القاضي عبد الجبار المعتزلي.

شرح لمعة الاعتقاد [9]

شرح لمعة الاعتقاد [9] تعتبر مسألة القدر من المسائل التي كثر النزاع فيها بين أهل القبلة، وكان موقف أهل السنة في هذه المسألة موقفاً وسطاً بين القائلين بأن للعباد مشيئة مستقلة عن مشيئة الله تعالى، وهم القدرية، وبين القائلين بأن العباد لا مشيئة لهم ولا إرادة، وهم الجبرية.

عقيدة أهل السنة في القضاء والقدر

عقيدة أهل السنة في القضاء والقدر قال الموفق رحمه الله: [ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125]]. هذا الفصل عقده المصنف رحمه الله لتقرير أصل خاص من أصول الدين، وهو: قدر الله سبحانه وتعالى، والإيمان بقدر الرب سبحانه وتعالى أصل من أصول الإيمان، كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)، وقال ابن عباس: (القدر نظام التوحيد). والقدر هو: فعل الله سبحانه وتعالى وقضاؤه وإرادته ومشيئته في سائر ما يقع في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء؛ فلا يقع شيء إلا بإرادته ومشيئته، وهذا الأصل مجمع عليه بين المسلمين، ولم يقع النزاع فيه من جهة أصله، بل حتى عامة الكفار الذين يقرون بالربوبية يقرون بهذا القدر من حيث الجملة، وأما عند التحقيق فإنه لا يحقق جانب توحيد الربوبية فعلاً إلا مسلم مؤمن بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وفرق بين الإيمان بالربوبية المجمل عند المشركين، وبين الإيمان المفصل بالربوبية عند المسلمين. تعتبر مسألة القدر من المسائل التي كثر النزاع فيها بين أهل القبلة، وهل أفعال العباد من قيام وقعود وطاعة ومعصية داخلة في قدر الله وقضائه؟ أم أنها مختصة بالعباد؟ بمعنى هل يقال: إن هذه الأفعال بإرادة الله ومشيئته وخلقه، أم أن العباد يستقلون بها؟ أم يقال: إن العباد قد أجبروا على أفعالهم ولا إرادة لهم ولا مشيئة أمام إرادة الله ومشيئته؟

تقرير أصول مذهب أهل السنة في باب القدر

تقرير أصول مذهب أهل السنة في باب القدر اشتهر في كلام جملة من متأخري أهل السنة أن مراتب القدر أربعة: المرتبة الأولى: علم الرب سبحانه وتعالى بأفعال العباد. المرتبة الثانية: كتابته لها. المرتبة الثالثة: إرادته ومشيئته عز وجل. المرتبة الرابعة: خلقه لأفعال العباد. وهذا ترتيب صحيح، ولكن إذا أردنا الكمال في تقرير مسألة القدر فإن الأولى أن يقال: إن هذه المسألة محصلة بأصول سبعة عند السلف، وممن نص على هذه الأصول الإمام ابن تيمية رحمه الله، وهي كما يلي: الأصل الأول: الإيمان بعموم علمه سبحانه وتعالى بكل شيء في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء؛ فعلم ما كان وما سيكون، وقد دخل في عموم علمه: علمه سبحانه وتعالى بأفعال العباد قبل كونها، فيعلم ما هم فاعلون، وما تصير إليه أمورهم وأحوالهم، وهذا أصل شرعي عقلي فطري من أنكره فإنه زنديق كافر، وهو مما لم ينكره أحد من المسلمين، حتى أن القدرية المعتزلة أقروا بهذا الأصل إجمالاً. فإن قيل: إن غلاة القدرية أنكروا هذا الأصل. قيل: إن المراد بالغلاة هم من ينكر علم الرب بما يكون من أفعال العباد، ويقولون: إنه لا يعلمها إلا عند وقوعها، وهؤلاء ليسوا مسلمين، بل زنادقة منافقون، وإن زعموا الانتساب للإسلام، وكفرهم أعظم من كفر اليهود والنصارى؛ لأن في قولهم هذا إبطال لمقام الربوبية والألوهية؛ لأن الإله المعبود لابد أن يكون هو الرب المتفرد بالملكوت والتدبير والعلم والإرادة. فإن قيل: هذا القول ما منشؤه؟ قيل: هذا قول قوم من غلاة الفلاسفة الملاحدة نقل إلى من يزعم الانتساب إلى الإسلام، وأما حكم القائلين به فهو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "منافقون نفاقاً علمياً في انتسابهم للإسلام، وإلا فهم قوم زنادقة" وقد أجمع السلف على تكفيرهم بأعيانهم، ولا يلزم أن تقام عليهم الحجة؛ لأن الحجة قائمة عليهم ضرورة، فإن هذه المسألة لا يمكن أن يحصل فيها اشتباه لكونها مستقرة بالفطرة والعقل والشرع. الأصل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى كتب في الذكر (اللوح المحفوظ) كل شيء، وقد دخل في عموم كتابته سبحانه وتعالى كتابته لأفعال العباد، وفي حديث عبد الله بن عمرو في الصحيح: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة). مسألة: هل الكتابة لأفعال العباد أصل عرفناه بالعقل والشرع أم بالشرع فحسب؟ الجواب: بالشرع، وإن كان العقل بعد خبر الله بها لا ينفي شيئاً من ذلك؛ فإن العقل لا يعارض النقل. وهذا الأصل أقر به سواد المسلمين، ولم ينكره إلا قوم من غلاة القدرية، وهو دون الأصل الأول في المقام. الأصل الثالث: الإيمان بعموم إرادة الله تعالى ومشيئته النافذة، فلا يقع شيء في ملكوت السماوات والأرض إلا وقد أراد الله سبحانه وتعالى وقوعه بمشيئته، وقد دخل في عموم إرادته ومشيئته إرادته لأفعال العباد طاعة أو معصية، خيراً أو شراً، عبادة أو عادة. الأصل الرابع: الإيمان بأن الله خالق كل شيء، وقد دخل في عموم خلقه سبحانه وتعالى خلقه لأفعال العباد؛ لأن الشيء إما أن يكون خالقاً وإما أن يكون مخلوقاً، ولا شك أن الخالق هو الله وحده وما سواه مخلوق. وهذا من طرق جدل المعتزلة والقدرية المنكرين لخلق أفعال العباد، أن يقال لهم: ما من شيء موجود إلا وهو أحد أمرين: إما أن يكون خالقاً، وإما أن يكون مخلوقاً، فإذا كان لا يوصف بأنه خالق إلا الله تعالى لزم أن يكون كل ما سواه مخلوق، والعباد ليسوا خالقين، وإنما هم أهل فعل كما وصفهم الله بأنهم فاعلون مصلون مزكون صائمون إلى أمثال ذلك من الأفعال. وقد أنكرت القدرية من المعتزلة وغيرهم الأصل الثالث والرابع، وهذه هي البدعة التي اشتهرت عند طائفة من أهل القبلة، وهي: القول بأن أفعال العباد لم يردها الله، ولم يشأها، ولم يخلقها. الأصل الخامس: الإيمان بأن للعباد مشيئة وإرادة في أفعالهم لكنها تابعة لمشيئة الله وإرادته، والإيمان بأن هذه الإرادة والمشيئة على الحقيقة وليست على المجاز كما يقول بعض الأشاعرة، فإن الله أثبت إرادة العباد في مثل قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]، {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، فذكر أن إرادتهم متنوعة ومتعددة، وذكر أن أصحاب الآخرة بإرادتهم، وأصحاب الدنيا بإرادتهم، وهذا المقام -أعني: مشيئة العباد- ينكره الجبرية القائلون: إن العباد مجبورون على أفعالهم، وكذا ما يقوله أهل الكسب من الأشاعرة. وأما قول السلف فيها فهو قول وسط بين طائفتين: الطائفة الأولى: القدرية تقول: إن للعباد مشيئة مستقلة عن مشيئة الله وإرادته. الطائفة الثانية: الجبرية تقول: إن العباد لا مشيئة لهم ولا إرادة. وأهل السنة يقولون على قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29]: إن للعباد مشيئة وإرادة ولكنها تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى وإرادته. الأصل السادس: الإيمان بعموم حكمته سبحانه وتعالى، وأن سائر أفعاله لحكمة، فعذاب المعذبين وثواب المصلين الطائعين المؤمنين، وما يقع في الكون من الحوادث وإن ظهر لبعض الناس أنها شر فإن الشر لا يضاف إليه سبحانه وتعالى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)؛ فكل ما يقع في هذا العالم من الحوادث فإنها لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى، ولا يكون في ملكه وملكوته سبحانه شراً محضاً لا خير فيه بوجه من الوجوه، أو لا يستلزم خيراً؛ فإن سائر ما يقع إما أن يكون خيراً محضاً، وإما أن يكون متضمناً أو مستلزماً للخير. مثال ذلك: قتال الكفار للمسلمين، فأصل فعل الكفار شر، لكنه استلزم خيراً وهو مجاهدة المسلمين لهم، وإقامة ذكر الله، وإعلاء كلمته، إلى أمثال ذلك. وهنا يقال: إن كل ما يقع في هذا العالم فإما أن يكون خيراً محضاً كبعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون متضمناً للخير كالولد، ولهذا جعلهم الله نعمة وجعلهم فتنة، وإما أن يكون مستلزماً للخير وإن كان في مبدئه أو في ظاهره شيء من الشر، ولهذا لما طعن على عائشة رضي الله عنها، ورماها المنافقون بالزنا، وكان في ظاهره ومبدئه شر وتعدٍ نزهها الله في كتابه، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]؛ لأن به حصل شيء من المنافع لهم، منها: امتياز المؤمنين عن غيرهم، ومنها: تبرئة أم المؤمنين وتفضيلها وتقديمها. وهذا ظاهر، وهذا هو معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك)، وهذه الكلمة تكلف بعض الشراح حتى أهل السنة المتأخرين في شرحها، وهي من البينات والهدى الذي لا إشكال فيه؛ فالله سبحانه وتعالى منزه عن الشر، ولا يضاف إليه الشر بحال من الأحوال، وكل ما يقع في هذا العالم مما ظاهره الشر ففيه مصلحة وخير من وجه آخر. الأصل السابع: الإيمان بأن العباد مأمورون بما أمرهم الله به، منهيون عما نهاهم الله عنه، ولا حجة لأحد من الخلق على الله، بل لله الحجة البالغة على خلقه. وهذا المقام هو ما يسمى بمقام الجمع بين الشرع -أمر الله ونهيه- وبين القدر، وأن القدر ليس حجة على إسقاط الأمر والنهي، وهذه المسألة -أعني: مسألة الاحتجاج بالقدر على المعصية- يأتي الكلام فيها إن شاء الله. هذه هي الأصول السبعة الجامعة لمسألة أفعال العباد ومقامها في قدر الله وقضائه، وهي أصول أجمع عليها السلف، ومنها يظهر لنا أن السلف خالفوا بها غلاة القدرية في الأصل الأول والثاني، وخالفوا مجمل القدرية من المعتزلة وغيرهم في الأصل الثالث والرابع، وخالفوا الجبرية والقدرية وبعض الأشاعرة في الأصل الخامس، وخالفوا الجبرية الذين ينفون الحكمة في أفعال الله في الأصل السادس، وخالفوا المنحرفة من الصوفية الذين لم يحققوا الجمع بين الشرع والقدر في الأصل السابع، فهذه الأصول هي امتياز أهل السنة عن سائر طوائف أهل البدع في مسألة أفعال العباد ومقامها في قدر الرب سبحانه وتعالى.

الخير والشر بالنسبة للمقدور وعاقبته

الخير والشر بالنسبة للمقدور وعاقبته قال الموفق رحمه الله: [وروى ابن عمر أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، فقال جبريل: صدقت) رواه مسلم]. هذه الرواية من حديث ابن عمر حدث بها عن أبيه عمر رضي الله عنهما، وهذا هو حديث جبريل المعروف، وقد اتفق العلماء على قبول هذا الحديث وصحته، وفيه ذكر أصول الديانة. فإن الإيمان والإسلام والإحسان، ولما ذكر الإيمان ذكر جملة من الأصول التي يقع بها التصديق، ويقع بها اعتبار القلب، ولما ذكر الإسلام ذكر فيه أصول الشرائع الظاهرة، وهي: الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج، ولما ذكر الإحسان ذكره على مقام تحقيق العبادة والديانة؛ ولهذا يقال: إن هذا الحديث جامع لمسائل أصول الدين، فقد ذكر فيه الأصول القلبية الباطنة والأصول العملية الظاهرة، وكذا ذكر العبادة ومنهجها الشرعي بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه)، فهذا الحديث جامع لسائر مسائل أصول الدين. ويريد المصنف بذكره له هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من أصول الإيمان الإيمان بالقدر خيره وشره، ولا يراد من ذلك أن في أفعال الرب سبحانه وتعالى شر محض، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)، وهذا الشر باعتبار حال الفعل، وباعتبار حال الفاعل، فإن الفعل في نفسه يسمى شراً، ومعلوم بإجماع أهل السنة أن الخالق لأفعال العباد هو الله، إلا أنه ليس معناه أن الله هو الفاعل لها، تعالى الله عن ذلك، بل الفاعل للفعل هو العبد، والمصلي والصائم والمزكي والمجاهد، وفي المقابل: السارق والزاني وشارب الخمر هم العباد، فأفعال العباد هي أفعالهم، وإن كان الله سبحانه وتعالى خالق لها، فثمة فرق بين مقام الخلق لأفعال العباد، وبين مقام أن العباد فاعلون لأفعالهم، ولذلك ما عبر به بعض الشراح من أن أهل السنة يقولون: إن الله هو خالق أفعال العباد، وأنه الفاعل لها، فهذا ليس صحيحاً، فإن كلمة الفعل لم تستعمل عند السلف إنما يستعملون كلمة الخلق؛ لأنها الكلمة الشاملة في القرآن، أن الله هو الخالق لكل شيء، وأما كلمة الفعل فإنها معلقة بالإرادة في قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16]، ولهذا فالفعل من جهة أفعال العباد هو أفعال العباد، ولهذا وصفهم الله بأنهم: {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} [التوبة:112]. إذاً: ليس في أفعال الله سبحانه ولا في خلقه ما هو من الشر المحض بل هو من جنس قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، فإنه وإن رميت عائشة رضي الله عنها بالزنا إلا أنه من الإفك والباطل والشر، ولهذا قال الله في كتابه: (لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ)، فهو مضاف، مما يدل على أن أوجه الإضافة تتعدد، فالفعل باعتبار ما وقع من بعض الإضافات يكون شراً، وباعتبار حال سواد المسلمين ليس شراً، ولهذا لم يقل: (لا تحسبوه شراً) وإنما قال: (لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ) فهذه إضافة تبين المقصود بذلك. ثم إن كلمة (الشر) في استعمال أهل اللغة، واستعمال صاحب الشريعة محمد صلى الله عليه وسلم أعم من كلمة (الشر) الذي يراد بها الفجور والفسوق، كما جاء في حديث ابن مسعود: أنهم أدركوا حية بمنى وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتدرها القوم ليقتلوها، فذهبت فلم يدركوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وقاها الله شركم كما وقاكم شرها) فقوله: (وقاها الله شركم) مع أن قتلهم إياها لم يكن شراً على معنى الفسوق أو الفجور أو ما إلى ذلك. قال الموفق رحمه الله: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره)، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت)]. هذا الدعاء رواه الإمام أحمد وغيره وهو حديث حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الحسن بن علي رضي الله عنهما ذلك، وفي جملة هذا التعليم من النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (وقني شر ما قضيت)، وهذا يرجع إلى القاعدة السابقة في تفسير معنى الشر، وأن الله سبحانه لا يضاف إليه الشر، وإنما الشر يكون باعتبار الفعل، أو باعتبار الفاعل، ولذلك ما من أمر هو شر باعتبار الفعل إلا ويمكن إضافته بوجه آخر يكون خيراً، وهذا هو الذي جاء ذكره في القرآن والسنة.

حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية

حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية قال الموفق رحمه الله: [ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه]. من أصول أهل السنة الجمع بين الشرع والقدر، وهذا من أشرف الأصول في الديانة؛ فإن من أسقط الشرع بالقدر فهذا حجته من جنس حجة المشركين الذين قالوا فيما ذكره الله عنهم في غير مقام في القرآن: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148]، فهذا هو معنى إسقاط الشرع بالقدر، أي: أنهم قالوا: إن الله سبحانه وتعالى هو الذي كتب علينا الشرك، وقدره علينا، وسبق هذا القضاء والقدر قبل أن يخلق الخلق، فهل أن الله كتب عليهم الشرك وقدره، وعلم أنهم سيشركون، هذا صحيح؛ لكنهم جعلوا هذا العلم المسبق وهذه الإرادة والمشيئة والكتابة السابقة جعلوها حجة لهم على الله؛ وقد سمى الله هذا الاستدلال من المشركين في كتابه كذباً، قال الله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام:148]، والتكذيب هنا يراد به أحد أمرين: - إما أن هذه الحجة لا تعد حجة بل هي كذب. - وإما أن هذا هو طريق تكذيب من كان قبلهم. وعلى المعنيين فإن هذه الحجة إما أن تكون كذباً مطابقاً أو متضمناً، أو مستلزماً للكذب. ووجه كونها كذباً؛ لأنها خلاف ما في نفوسهم، وفيها هوى. وقد يقول قائل: لعلها حجة قد اقتنعوا بها؟ والصواب ليس كذلك، بل هي خلاف ما في نفوسهم من جهة أنهم يعلمون أن القدر والمشيئة في قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] مختصة بسائر أحوالهم لا بشركهم فقط، فكما أن شركهم بقدر وبمشيئة الله وعلمه، فكذلك أكلهم وشربهم ونكاحهم وتوارثهم، وقتالهم وقتلهم .. إلى آخر أمورهم. ولا بد أن يعلم أن من أقر بالقدر من المشركين أقروا به في الجملة، لا على التحقيق والتفصيل، فإن التحقيق والتفصيل دائماً لا يقع إلا لأتباع الأنبياء. مسألة: الإقرار بالقدر هل يراد به في مسائل الشرائع؟ أم في سائر أفعال العباد خيرها وشرها؟ أم يختص في مسائل التكليف والتشريع؟ أم أن القدر يعم جميع أفعال العبد؟ الجواب: إن القدر يعم جميع أفعال العباد، ولذلك من جعل القدر حجة على ما يريد لا يسلم له ذلك، كمن جعل القدر حجة على ترك التوحيد، كما هي حجة المشركين، أو حتى على ترك بعض الشرع، كما هي حجة بعض العصاة، مما يزينه الشيطان لهم يقال له: لمَ لم تصلِّ؟ فيقول: هذا قدر الله. ويقال للسارق: لم سرقت؟ فيقول: إن الله قدر عليَّ ذلك. فقوله: "إن الله كتب عليَّ ذلك قبل أن أخلق"، صحيح أنه كتب على هذا السارق أنه سيسرق، وعلم سبحانه وتعالى قبل خلقه أنه سيسرق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض ...) إلخ، ولكن الغلط في كونه جعل القدر السابق حجة على ترك الشرع. فإن من يعرض له هذا في بعض الواجبات من عصاة المسلمين، لو قيل له: إن فلاناً قتل ابنك، وأنه لا يحق لك أن تجازيه أو تعاقبه على قتله؛ لأن قتله لابنك كان قدراً، كان بين أحد أمرين: إما أن يسلم أن هذا قدر ولا يجازيه، وإما العكس فيكون من باب القناعة في النفس أن القدر ليس حجة لأحد، فإذا كان القدر ليس حجة للقائل في قتل القتيل، فكيف يكون القدر حجة للعاصي على ترك أمر ربه. ولهذا يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (إن الاحتجاج بالقدر لم يذهب إليه عند التحقيق واحد -ليست طائفة- من العقلاء) لماذا؟ لأن الشخص لو احتج بالقدر وطبقه باطراد ربما يكون عند الناس أبلغ ممن هو في درجة الجنون، حتى المجنون لا يرضى بهذا؛ لأنه يلزمه أمور كثيرة، من يضربه يلزم أن يقر بالضرب؛ لأن الضارب إنما ضرب قدراً، ويلزمه أن من قتل ولده لا يجازيه؛ لأن القتل كان قدراً، وأن من سرق ماله لا يجازيه؛ لأن من سرق ماله إنما سرق قدراً، وهلم جراً، فلا تجد شيئاً إلا وهو داخل في القدر. إذاً: إذا كان القدر ليس حجة للعباد بعضهم على بعض، فمن المتعذر عقلاً أن يكون القدر حجة لأحد من العباد على الله. قاعدة: ما من أصل من الأصول تقرر ثبوته إلا وثبوته بالشرع والعقل، وما من معنىً تقرر نفيه بالضرورة الشرعية إلا ويعلم نفيه بالعقل، لكن دلائل الشرع في الجملة هي على قدر من التفصيل، بخلاف دلائل العقل فقد يلحقها في كثير من المقامات قدر من الإجمال. فمثلاً: مسألة الاحتجاج بالقدر هي حجة داحضة، وليست بشيء لا عقلاً ولا شرعاً، ويلزم من ذلك: أن يكون عذاب المشركين والجهاد من المسلمين للمشركين، وغير ذلك من الأحكام الكونية والشرعية .. يلزم على هذا أن تكون ظلماً، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك.

المقصود بإقامة الحجة على الخلق

المقصود بإقامة الحجة على الخلق قال الموفق رحمه الله: [بل يجب أن نؤمن ونعلم أن لله علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثة الرسل، قال الله تعالى: {لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]]. الحجة قامت بالرسل والقرآن، وفي كتاب الله تقرير كثير في كون الحجة إنما تكون بالرسل عليهم الصلاة والسلام، ولهذا من لم يدرك رسالة ولا نبوة، وانطمست عليه المعالم؛ فهذا يفوض أمره إلى الله، كأهل الفترة الذين ماتوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدركوا توحيداً صريحاً ولا شريعة صحيحة، ولا يقال: إنهم في الجنة أو النار، بل يقال: إن مردهم إلى الله تعالى، ولا يشكل على ذلك ما ثبت في الصحيح أن رجلاً قال: (يا رسول الله! أين أبي؟ قال: في النار، فلما ولى قال: إن أبي وأباك في النار)، فهذا الحديث فيه أن أباه عليه الصلاة والسلام في النار، مع أنه توفي في الفترة، فهل هذا يدل على أن سائر من كان حاله كحال أبي النبي ومن كان في الفترة يكون في النار؟ الجواب: لا، هذا قياس فاسد، بل الصواب: أن هذا خبر مختص بأبي الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما بقية أهل الفترة فإنه لا يلزم فيهم ذلك، بل أمرهم إلى الله، مع أنهم كانوا في حقيقة حالهم يرتكبون الشرك الأكبر، لكن لا يقال: إنهم في النار؛ لأن الله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]، ويقول: {لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، فالرسل لا بد من قيام حجتهم، ولا تقوم الحجة -كما يقرره بعض المتأخرين- بالفطرة السابقة المذكورة في قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، أو بالعقل؛ مع أن الفطرة والعقل يدلان على التوحيد والإيمان، لكن حجة الله لا تقوم على العباد إلا بالرسالة.

أسباب الخلاف في العذر بالجهل

أسباب الخلاف في العذر بالجهل وهنا مسألة وهي: استعمال الأسماء في القرآن، ودلالتها على المقصود، ويتفرع عنها: هل الجهل حجة أم ليس بحجة؟ الجواب: هذا فيه تفصيل، وكما يقرر ابن تيمية رحمه الله: "أن جمهور الأسماء أصبحت عند المتأخرين مجملة، وصار يراد بها أكثر من معنى". من يقول: إن الجهل ليس عذراً أو ما إلى ذلك. ما دليله؟ الجواب: دليله أن ينظر في مواضع من كتاب الله فيجد أن الله وصف الكفار الذين توعدهم بالنار والعذاب والخلود في النار، مع أنه وصفهم بالجهل، كقول الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، فيقول بعض من يقرر هذه المسائل: إن هؤلاء وافوا ربهم بالكفر وعلى هذا الشرك، فدخلوا النار، مما يدل على أنهم ما عقلوا ولا انضبط سمعهم، فتكون نتيجة مثل هذا النظر في كلام الله: أن الكفار حكم الله عليهم بالخلود في النار مع أنهم جاهلون، وليسوا على عقل وسمع حقيقي أو تام للقرآن. وهذا غلط في الفهم، وليس الذي يراد بآيات الكتاب هذا المعنى. ونجد في الطرف الآخر من المسألة من يبالغ في تقرير مسألة الحجة، وأن الكفر لا بد له من كذا وكذا، ثم يضع شروطاً متكلفة في ثبوت الكفر، ويستدل في مقابل القول الأول بأن الله وصف الكفار بالجهل وعدم العقل، وأن ثمة آيات من كتاب الله فيها وصف الكفار بالمعرفة التي تقابل الجهل، كقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، وقال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14]. وهنا يقع نوع من التردد عند من يجمع المقامين، إلا أن من ينظر إلى المسألة من زاوية واحدة ولا يتصور السياق الثاني. إذا قيل له: ما حكم أهل الفترة؟ يقول: في النار. فيقال: لكن ما بلغتهم الحجة؟ فيقول: لا، الحجة الفطرة السابقة، والعقل، ولا يلزم العلم. فيقال: متى تقوم الحجة على الإنسان؟ فيقول: بمجرد أن يسمع آية من القرآن ولا يسلم بها فإنه تقوم عليه بها الحجة. فيقال: هل يلزم المعنى؟ فيقول: لا يلزم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد أن يسمع العرب منه آية من القرآن أو دعوة واحدة كان يكفيهم سواء عقلوا أو لا. فيقال: هذا تخرص، ما معنى أن القرآن حجة على الناس؟ وما معنى أنه بينات من الهدى والفرقان؟ وأن العرب كانوا يدركون جملة أن الدعوة تدعو إلى توحيد الله؛ ولذا قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص:5]؟ فيقال جواباً لهذا: هم كانوا مدركين ومتصورين له على التمام، فهم قبل البعثة كانوا إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فكان هدف النبوة أو مقصودها واضحاً أمامهم، دعك من كونهم لم يتصوروا جملة الشرائع وما إلى ذلك، لكن مقصود الديانة الأول الذي به يحصل الدخول في الإسلام كان مقصوداً واضحاً، وهو أن الله هو الواحد المعبود، وهم يفهمون هذا ويطبقونه أحياناً إذا ركبوا في الفلك. يقول ابن المنذر: "إن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب العرب بالإسلام ولم يسأل من عقل ومن لم يعقل، وكان يقاتل الكفار وهو لم يتأكد هل قامت عليهم الحجة أو لم تقم عليهم الحجة". ومسألة قيام الحجة ليس معناها أنك تتكلم مع كل شخص وحده: هل قامت عليه الحجة أو لم تقم؟ فالمعنى الذي يراد في سائر النبوات والشرائع: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فهذا هو المقصود ذكره، وهو متحقق عند جملة الكفار الذين بعث فيهم الرسل، ولكنهم كذبوا به ولم يأتمروا بأمره. إذاً .. مسألة العلم أصل في ثبوت الإيمان، وكما أن العلم يكون أصلاً في ثبوت الإيمان فإنه لا بد من اعتباره في ثبوت الكفر، كما ينبغي أن تعلم أن الأسماء في كتاب الله فيها تنوع بحسب السياق، ولا يجوز قطع الآيات عن سياقها، وكذلك لا بد من اعتبار القدر المراد في مراد الله ورسوله بالأسماء وبين مراد أهل الاصطلاح الذي قد يكون وجهاً في اللغة لكن اللغة تجيزه ولا توجبه، مثل الجهل ماذا يراد به في كتاب الله؟

حقيقة الجهل في كتاب الله

حقيقة الجهل في كتاب الله الجهل يراد به أكثر من وجه، فأحياناً يكون الجهل عدم معرفة العلم الإدراكي، كشخص حديث عهد بالإسلام لا يعرف أن صيام عاشوراء مشروع، فهذا تسميه فوات علم الإدراك لا القبول. وأحياناً يراد بالجهل في كتاب الله -وهو الغالب على مسائل الكفر والإيمان والمخالفة- فوات علم القبول، ألا ترى أن الله يقول: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17] فالسياق هنا من جهة بلاغة اللغة فيه قصر وحصر بـ: (إنما)، فالله قصر التوبة على من يعمل السوء بجهالة، ومفهوم هذا السياق أن من لم يعمل السوء بجهالة لا يتاب عليه، والمفهوم ليس له وجود. لأنه لا يمكن أن يوجد شخص يعمل السوء إلا وهو يعمله بجهالة؛ خصوصاً إذا فسرنا الجهالة بفوات علم القبول، ولهذا قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن هذه الآية فقالوا: [كل من عصى الله فهو جاهل]، أي: كل من ترك الائتمار بالعلم الذي عرفه فقد سمي جاهلاً؛ لأن العلم النظري له لوازم، وإذا عدم اللازم عدم الملزوم. تقول مثلاً: العلم في تحريم السرقة له لازم شرعي وهو الكف عن السرقة، فإذا ما سرق وهو يقول: إني أعلم أن السرقة حرام ترك اللازم، وفوات اللازم يستلزم فوات الملزوم، ولهذا يصح أن يسمى جاهلاً، ولهذا فإن العلم في كلام الله يراد به تارة علم القبول، وتارة يراد به علم الإدراك والمعرفة واليقين كذلك، ولهذا لما قال الله عن اليهود: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، هذا علم إدراك. وهنا قاعدة: كل علم أو معرفة أو يقين وصف به جنس من الكفار فيراد به علم الإدراك، وكل علم ذكر في القرآن أو السنة مضافاً إلى المؤمنين فهو علم القبول. ولهذا جاء في صحيح مسلم وغيره عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة) وهذا الحديث عام يخصصه حديث ابن مسعود: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) وحديث أبي أمامة الحارثي: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)، فنحن إذا وضعنا هذه السياقات أمام سياق: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)، هل يقال: الوعيد يراد به التغليظ وليس الحقيقة؟ أو يقال -كقول المتأخرين-: هذا له شروط، فإذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع حصل الوعد؟ الجواب: لا. بل أحاديث الوعد على ظاهرها، وأحاديث الوعيد على ظاهرها، لكنها تحتاج إلى تأمل لطيف من جهة اللغة، ولهذا لم يقع هذا الإشكال لصحابي واحد؛ لأنهم كانوا يفقهون اللغة، ويدركون مراد صاحب الشريعة. فقوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)، جملة (وهو يعلم) حالية .. لكن قد يرد إشكال وهو أن صاحب الكبيرة قال الله فيه: (بِجَهَالَةٍ) إذاً: اجتمع له مقام من العلم ومقام من الجهل، فإذا كان بمعصيته جاهلاً يكون علمه ناقصاً؛ فإذا نقص علمه تأخر ثوابه بحسب النقص، وقد يعذب وقد لا يعذب، ولكنه يؤخر عن الجنة .. إلخ. إذاً .. معنى الحديث أنه قد يعذب إذا ما قصر في العلم، لكن لا بد أن يعلم أنه لا يوجد في الشريعة من يحقق هذا العلم ثم يدخل النار، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) فإن معناه: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، لكن عندما يزول أثرها عن القلب إما بالتوبة، أو بحسنات ماحية، عندها يدخل الجنة. يقول ابن تيمية: "لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة) كان لفظه واضحاً ولا يحتاج إلى تأويل، أي: أنه إذا دخل الجنة لا يدخل وفي قلبه أثر ذنب من الذنوب التي سماها الشارع، وما زال الأثر إلا بسبب توبة، أو زال بحسنات ماحية، كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، أو زال بالشفاعة .. إلى غير ذلك من المكفرات".

مسألة تكفير الكبائر بالحسنات الكبيرة

مسألة تكفير الكبائر بالحسنات الكبيرة الحسنات الكبيرة كالحج والجهاد تكفر الكبيرة اطراداً والتوبة الخاصة تكفر الكبائر عروضاً، وفي هذا الحديث: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) والحديث متفق عليه. وكثير من المتأخرين يرون هذا في الصغائر، وهذا ليس بصحيح، ومن يحكي إجماع السلف على ذلك فقد غلط كما نبه على ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله. نعم! السلف أجمعوا على أن لا يقال: إن الحسنات تطرد بتكفير الكبائر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة .. كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر) وهذا ليس مشكلاً ودليلاً على أن الصلاة لا تكفر الكبائر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هنا التكفير المطرد، وهذا الحديث هو الذي أشكل على أكثر المتأخرين، وفسروا حديث: (من حج فلم يرفث ...) أنه في الصغائر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه ...) في الصغائر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن العاص: (الهجرة تهدم ما كان قبلها) في الصغائر، و: (الحج يهدم ما كان قبله) في الصغائر، بل الله يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، يقولون: في الصغائر. من أين هذا؟ ومن زعم أن هذا إجماع السلف فقد غلط، إنما السلف أجمعوا على أن التكفير المطرد يكون بالتوبة، وأما التكفير العارض فيكون بأسباب كثيرة، ومنها: الحسنات؛ كالصلاة والجهاد والحج إلخ. وأما قوله: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما) فالشارع هنا يذكر التكفير المطرد؛ لأنه يقول: كفارة لما بينهما، هل قال: لبعضها، أو قال: لما قد يعرض؟ أو قد تكفر؟ إنما قال: (كفارة لما بينهما)، وهذا تكفير مطرد عام للصغائر ولا شك، لكن هل يمنع أن الصلاة تكفر كبيرة من الكبائر؟ لا يمنع ذلك، وليس في القرآن ولا السنة نفي ذلك، بل في الكتاب والسنة تقرير ذلك، كما في الصحيح عن عمرو بن العاص لما أتى يبايع الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يده، قال عمرو: (فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟! قال: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قال: أن يغفر لي) فهل كان عمرو بن العاص يسأل عن مغفرة الصغائر أم كان يسأل عن تكفير الجرائر الكبرى؟ وهل كان في قاموس الجاهليين مسألة الصغائر والكبائر، وهل كان عمرو بن العاص يقتنع أن الإسلام يكفر الشرك والكبائر، ولم يبق إلا الصغائر لذا أراد أن يشترط تكفيرها؟! لا. بل قال عليه الصلاة والسلام: (يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله) الإسلام هو التوحيد، لكنه قال بعد ذلك عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: (الهجرة تهدم ما كان قبلها، والحج يهدم ما كان قبله) هذا كلام على الحقيقة، ومن قال من المتأخرين: هذا طمأنة لنفس عمرو فهو مخطئ على الشارع، إذ كيف يكون طمأنة لنفس عمرو وهو لا حقيقة له؟ بل هو طمأنة لنفس عمرو مع كونه على الحقيقة. أما المتأخرون في الغالب فإنهم يشتغلون بفرضيات نظرية لا وجود لها في الخارج، فلو حقق الحج أركان الإسلام بصدق ظاهراً وباطناً هل هو من أصحاب الكبائر؟ لا. يستحيل أن يوجد مثل هذا في الواقع، فالنبي صلى الله عليه وسلم تكلم عن قراءة الخوارج، وقال: (يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم)، مع أنه قال: (وقراءتهم خير من قراءتكم) أي: من جهة الأحوال الظاهرة التي قد يراها الناس، وقال: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم)، ومع ذلك فإن الأعظم والأضبط في الإيمان وتحقيقه هم الصحابة رضي الله عنهم، فصلاة الصحابة وصيامهم وقراءتهم هي المحققة والمؤثرة، فقضية الاعتبار بالظواهر تتمثل في أهل البدع، فهو يحسن الصلاة، أو الحج، إلا أنه يأتي الكبائر. فالتحقيق تحقيق في الظاهر وتحقيق في الباطن، وتحقيق الباطن معناه ثبوت أمرين: الأمر الأول: متابعة السنة، وصاحب البدعة ليس على سنة في كثير من أفعاله. الأمر الثاني: الإخلاص لله، وهذا هو العمل الحسن المذكور في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2]، أي: يكون خالصاً صواباً، ظاهراً وباطناً، ولذلك يقول الله في القرآن: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]؛ لأن من حققها نهته. فهذه المعاني يجب أن تفقه في القرآن، لأن القرآن يصدق بعضه بعضاً، والسنة كذلك، وكل حديث نطق به الرسول فهو على ظاهره، لكن يحتاج إلى قدر من التأمل والاعتبار، وأما فرض ظهور التعارض كثيراً في كلام الرسول كما هو دارج على ألسنة كثير من المتأخرين فلا. والأصل في هذا: أن من أشكل عليه بعض الأحاديث فعليه الرجوع إلى المجتهدين فيسأل عنها، أما أن تصنف أحاديث كثيرة، ويقال: ظاهرها التعارض كأحاديث الوعد والوعيد. فهذه من بدع المبتدعين، فالأحاديث ليس ظاهرها التعارض لا ظاهراً ولا باطناً، ولذلك تجد نوعاً من الأحاديث سماها أئمة السنة من المتقدمين: هذا ظاهره التعارض، نعم! قد تشكل على بعض المجتهدين، فيكون ظاهر الأحاديث عنده هو فقط، لكن أن تقرر للمسلمين أن أحاديث كذا وكذا ظاهرها التعارض، وأن كل مسلم يفترض أن يؤمن بهذه الحقيقة، هذا غير صحيح، الأصل أنه لا يوجد تعارض بين حديث وحديث أو آية وحديث، لكن من عرض له هذا التعارض فلا يجعل هذا سنة في الأحاديث.

امتناع الجبر حسا وشرعا

امتناع الجبر حساً وشرعاً قال الموفق رحمه الله: [ونعلم أن الله سبحانه وتعالى ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحداً على معصية، ولا اضطره إلى ترك طاعة]. هذا مدرك بالحس، فمن يقع في معصية يشعر أنه مجبور عليها، أليس للإنسان حساً فلا يفعل فعلاً سواء كان خيراً أو شراً، طاعة أو معصية، عادةً أو عبادة، إلا وهو يشعر أنه ممكن أن يفعل وممكن أن لا يفعل. إذاً: الجبر أمر ممتنع في الحس، وإذا تأمل الإنسان ذلك الحس وجد أنه ليس هناك أحد مجبور، بل الله سبحانه وتعالى من حكمته ولطفه أن جعل القدرة والإرادة إذا عدمت سقط التكليف .. بل لو نقصت القدرة والإرادة نقص التكليف؛ فالمميز من الصبيان الذي لم يبلغ مع أنه قادر وله إرادة، لكن قدرته وإرادته لم تستتم فإنه لا يكلف. إذاً: مسألة الجبر ممتنعة بالعقل، ولا يمكن أن يتبادر إلى عقل الإنسان أنه مجبور، بل كل إنسان يرى من نفسه أنه يقدر على الفعل والترك سواء بسواء، وإنما هي شبهة من إبليس زينها للبعض كما زينها للمشركين ولكثير من الفساق في بعض المعاصي، فهي حجة شيطانية، ولذلك فإنها ترد في ترك الطاعات فقط لا في فعل المعاصي، فلم يقل الشيطان له يوماً من الدهر: أنت مجبور على الخير وترك الشر مع أنها ممكنة.

الجمع بين كون الفعل مخلوقا لله وكسبا للعبد

الجمع بين كون الفعل مخلوقاً لله وكسباً للعبد قال الموفق رحمه الله: [قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17]؛ فدل على أن للعبد فعلاً وكسباً]. للعبد فعل وكسب، قال الله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، والتعبير بلفظ الكسب لا بأس به، لكنه ينهى عنه إن اقتصر على أفعال العباد فقط؛ لأن هذا يكون فيه مشاركة لمذهب الأشاعرة الذين يقولون: أفعال العباد كسب لهم، ثم يفسرون الكسب تفسيراً جبرياً في الغالب، وأما مجرد التسمية لأفعال العباد بأنها كسب لهم ضمن مجموعة أسماء فهذا لا ينكر، ومن غلَّط الموفق رحمه الله وقال: "إن من أغلاطه أنه قال: إن للعبد فعلاً وكسباً وهذا من كلام الأشاعرة، نقول له: هذا غير صحيح؛ ففي كتاب الله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)، إنما الغلط أن يقتصر على لفظ الكسب في تسمية أفعال العباد، والموفق رحمه الله إنما أراد بها مرادها الشرعي، أي: من اكتسابه وتحصيله وليس من إجبار الله للعباد أو من إكراهه لهم. هذا استعمال لا بأس به؛ لأنه مخالف للأشاعرة حيث يقولون: إن العبد ليس له فعل على الحقيقة وإنما له كسب، فلما جمع المصنف الاسمين دل على أنه ينفي استعمال الأشاعرة. قال الموفق رحمه الله: [يجزى على حسنه بالثواب، وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره]. قوله: (وهو واقع) أي: أفعاله وكسبه واقعة بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره.

شرح لمعة الاعتقاد [10]

شرح لمعة الاعتقاد [10] يعتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا أصل من أصول الدين عند أهل السنة، وقد خالفهم في ذلك بعض الفرق الضالة، كالخوارج والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف الشيعة، وهؤلاء هم الوعيدية، وخالفهم كذلك المرجئة الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، وهم في ذلك طوائف ودرجات.

عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان

عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان

أركان الإيمان

أركان الإيمان قال الموفق رحمه الله: [والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان]. القول في مسمى الإيمان هو أول أصل حصل فيه نزاع بين أهل القبلة، والمراد بأهل القبلة؛ هم السواد من المسلمين من أهل السنة أو غيرهم. وهذا الخلاف ظهر في خلافة علي بن أبي طالب، لما أظهر الخوارج القول بأن مرتكب الكبيرة كافر، وأنه مخلد في النار، وهذا مبني على قولهم الباطل في مسمى الإيمان. وأئمة السلف رحمهم الله أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل، وإنما اختلفت ألفاظهم وحروفهم، فالجمهور من أئمة السلف قالوا: الإيمان قول وعمل، وبعضهم قال: الإيمان قول وفعل، كما عبر بذلك البخاري في الرواية المشهورة عنه في صحيحه .. ومنهم من عبر بأن الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، كما هو التعبير الذي ذكره المصنف، وهو قول الشافعي وجماعة من السلف، وهذا التعبير الثالث هو المشهور في كلام المتأخرين من أهل السنة. ومن التعابير السلفية أيضاً ما ذكره بعض عباد السلف ونساكهم؛ كـ سهل بن عبد الله التستري أنه قال: "الإيمان قول وعمل ونية واتباع للسنة". وهذه التعابير السلفية وغيرها هل الخلاف بينها لفظي، أم خلاف تنوع، أم خلاف تضاد؟ نقول: الاختلاف بينها لفظي والخلاف اللفظي تكون فيه المعاني من جهة مراد أصحاب الألفاظ معانٍ واحدة لا فرق بينها، ولا اختصاص لواحد منها عن الآخر، أما خلاف التنوع فلا تكون المعاني يصدِّق بعضها بعضاً، ولكن بينها اختصاص، كأسماء الله سبحانه وتعالى، فهي متعددة: السميع، البصير، العزيز، الحكيم فتجد أن كل اسم يختص بمعنى لم يذكر في الآخر بنفس الدرجة، وإن كان قد يكون لازماً في الاسم الآخر .. وهلم جراً. إذاً .. تعابير السلف في مسمى الإيمان الاختلاف بينها لفظي محض. فإذا قيل: أي هذه التعابير أجمع وأحكم من جهة التعبير؟ قيل: أحكمها ما عبر به جمهورهم، وهو قولهم: الإيمان قول وعمل؛ وهذه الجملة أحكم من التعبير الذي ذكره الموفق رحمه الله. لأن فيها إبانة لتضمن العمل للظاهر والباطن، والقول الظاهر والباطن، كما أن فيها إشارةً إلى التلازم بين الظاهر والباطن، فإن العبارة التي ذكرها المصنف هي الصحيحة، لكن حين يقال: الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان. فإن هذا يُفهم منه أن الجنان -الذي هو القلب- ليس فيه إلا الاعتقاد، وأن الأعمال هي أعمال الجوارح، مع أنك تعلم أن الأعمال القلبية في الجملة أجل وأعظم من أعمال الجوارح الظاهرة التي أعمال الأركان. والمتكلمون من السلف يقصدون دخول أعمال القلب في الإيمان، لكن هذا التعبير فيه اختصار، ولذلك نقول: إن التعبير الذي يقول: الإيمان قول وعمل أتم وأحسن، وهو الذي عبر به جمهور السلف. لكن قد يقول قائل: إن هذا التعبير ليس فيه ذكر للاعتقاد. نقول: لما قال السلف: الإيمان قول وعمل. أرادوا بالقول: قول القلب وقول اللسان، وأرادوا بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح. أما قول القلب: فهو كل تصديق شرعي أخبر الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم به. وقول اللسان: النطق بالشهادتين وغيرها مما يكون باللسان. وعمل القلب: هو حركته بهذا التصديق بأعماله المناسبة له، مثل: المحبة، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل وغير ذلك. وعمل الجوارح: كالصلاة والطواف بالبيت، والحج إلى غير ذلك من الأعمال الظاهرة. والأعمال القلبية ثبوتها في النفس من جنس ثبوت الأعمال الظاهرة، فإن كل عاقل يدرك ما في قلبه من المحبة أو الخوف أو الرجاء أو التعظيم أو الإنابة أو الاستعانة أو غير ذلك من أعمال القلوب، بل إن ثبوت أعمال القلوب أخص من ثبوت أعمال الجوارح؛ ولذلك ليس هناك في الشريعة عمل واحد من أعمال الجوارح إلا وهو مبني على عمل القلب، فإذا تجرد أي عمل ما من أعمال الجوارح الشرعي عن القلب تصديقاً وعملاً لا يصير عملاً شرعياً، فقد يكون نفاقاً كالمنافق إذا أظهر الصلاة وليس في قلبه التصديق، وقد تكون صورته صورة العمل الشرعي وهو ليس شرعياً، كشخص اغتسل من الجنابة أو لغسل الجمعة أو نحو ذلك مما شرع الغسل له كدخول مكة، فإذا اغتسل على قصد التقرب، قيل: غسله عبادة مشروعة، وإذا اغتسل تبرداً أو تنظفاً فهذا ليس من العبادات المقصودة لذاتها. إذاً: عمل القلب أثبت من أعمال الجوارح، وذلك لأنه لا يمكن أن يوجد عمل من أعمال الجوارح إلا وهو مبني على عمل القلب وتصديقه، فهذا التعبير الذي عليه الجمهور من السلف هو الصواب من جهة إحكام الألفاظ، وإلا فمعاني السلف كلها متفقة.

زيادة الإيمان ونقصانه

زيادة الإيمان ونقصانه قال الموفق رحمه الله: [يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان]. هذا التعبير (يزيد وينقص) اختلف كلام السلف فيه اختلافاً لفظياً. منهم من يقول: يزيد وينقص. وهذا هو الذي عبر به جمهورهم. ومنهم من يقول: إن الإيمان يتفاضل، وهذا تعبير عبد الله بن المبارك وجماعة من السلف. ومنهم من يقول: إنه يزيد، ويسكت عن لفظ النقصان، وهو أحد أجوبة مالك، وإلا فعن مالك جواب بالتصريح بلفظ الزيادة والنقصان، ولذلك نرى طائفة من المالكية وبعض من تكلم عن مذهب مالك في الإيمان من المرجئة وبعض أهل السنة المتأخرين ولا سيما الشراح قالوا: إن مالكاً في إحدى الروايتين عنه يذهب إلى زيادة الإيمان، ولكنه لا يقول بنقصانه، ثم منهم من يقول: إنه ينفي نقص الإيمان، ومنهم من يقول: إنه يتوقف في نقص الإيمان، وكلا الفهمين لقول مالك غلط، فإن مالكاً رحمه الله إنما توقف في لفظ النقصان؛ لأن لفظ النقصان لم ينطق به القرآن، إنما في القرآن ذكر زيادة الإيمان وليس فيه ذكر نقصه، والتوقف في اللفظ لا يستلزم التوقف في المعنى؛ فضلاً عن نفي معناه. فمن هنا قال مالك رحمه الله في بعض جواباته قطعاً لشبهة المرجئة وغيرهم الإيمان: يزيد. ومن أقر بالزيادة لزمه أن يقر بالنقصان، ولهذا إذا قلت: ما دليل السلف على نقص الإيمان؟ قيل: الأدلة على زيادته؛ ولهذا سئل الإمام أحمد: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: نعم. قيل: أين هو في كتاب الله؟ فذكر الآيات التي فيها ذكر زيادته، قيل: ونقصه؟ قال: كما يزيد ينقص، أي: إذا سلم بزيادته لزم ضرورةً عقلية أنه ينقص، فهذا من فقه الإمام مالك رحمه الله. ومن التعبيرات الشائعة عند المتأخرين أنهم يقولون: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهو في الغالب يرتبط بالتعبير الذي يقول: الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان إلخ. وأتم هذه التعبيرات من يقول: يزيد وينقص؛ وذلك لأنك أعدت الزيادة والنقصان على جميع موارد الإيمان، بخلاف ما إذا عبرت بكلمة (يتفاضل) فإنها أقل في التحصيل والتفصيل من عبارة (يزيد وينقص)، وإن كانت صحيحة لكنْ فيها إجمال، وعبارة: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) صحيحة، لكن قد يتبادر منها أن زيادة الإيمان ونقصانه متعلق بأعمال الجوارح، وهذا ليس صحيحاً، بل الإيمان يزيد وينقص في سائر موارده، وإن كان يُقصد بالطاعة: الظاهرة والباطنة، لكن الناس غالباً يتبادر إلى ذهنهم الطاعات الظاهرة والمعاصي الظاهرة، ولذلك يُقال: يزيد وينقص؛ ليبين أن هذا شمول وعموم؛ وإلا فلا شك أن التعبير بأن الإيمان يزيد بالطاعة تعبير صحيح. ودليل القول بزيادة الإيمان ونقصانه: الكتاب والسنة والإجماع، وما من أصل من أصول السلف إلا ودليله الكتاب والسنة والإجماع. أما المخالفون لقول السلف في هذه المسألة فهم على قسمين: القسم الأول: الوعيدية من الخوارج والمعتزلة ومن يشاركهم من بعض طوائف الشيعة الذين تأثروا بقول المعتزلة وذهبوا إلى طريقتهم من الزيدية، هؤلاء يقولون: إن الإيمان قول وعمل، وهو عندهم لا يزيد ولا ينقص، فمن ترك واجباً من واجبات الإيمان فقد عدم الإيمان، وإذا عدم الإيمان يسمونه إما كافراً كما تقول الخوارج، وإما فاسقاً قد عدم الإيمان، وأخذ منزلة الفسق المطلق كما هي طريقة المعتزلة. وقول الوعيدية لا شك أنه قول غلاة المسلمين، وهم الخوارج الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشأنهم، وقولهم بدعة وضلالة وخروج عن السنة والهدى. القسم الثاني: المرجئة، والإرجاء هو مسلك في الإيمان؛ وكل من سلك مادة هذا المسلك سمي من المرجئة، وقد قال أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين: "إن المرجئة ثنتا عشرة فرقة، منهم الغلاة، ومنهم دون ذلك". فغلاة المرجئة هم الجهمية الذين يقولون: الإيمان هو العلم والمعرفة، وأخف المرجئة إرجاءً هم من يسمون بمرجئة الفقهاء. إذاً: بقية الأقوال في الإيمان كلها بدع وضلال، وأصحابها ليسوا من العارفين بالسنة ولا من أهلها، وإنما هم من أئمة البدعة والضلالة، باستثناء القول الذي يوصف بأنه قول مرجئة الفقهاء، هذا هو القول الذي نحتاج أن نقف معه. مرجئة الفقهاء: هم قوم من علماء السنة والجماعة من أهل الكوفة، كانوا على عناية بالفقه أكثر من عنايتهم بالحديث والأثر وذلك لما صاحب حال الكوفة في ذلك الزمان من اشتهار الفقه وعدم اشتهار الرواية، فكانت الرواية في بعض الأمصار العراقية والشامية والحجازية أكثر مما وقع لأهل الكوفة؛ ولهذا غلب على أئمة الكوفة القياس والفقه والرأي. والمقصود: أن طائفة من علماء أهل السنة والجماعة غلطوا في هذه المسألة، وقالوا: الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وأعمال الجوارح لا تسمى إيماناً، فهم لا يدخلون أعمال الجوارح في مسمى الإيمان، ولهم نتائج أخرى في قولهم، لكن هذا هو أخص ما ذهبوا إليه. والذي ابتدع هذا القول هو حماد بن أبي سليمان، وقد كان من كبار فقهاء الكوفة، ومن علماء أهل السنة والجماعة، ولكنه أخطأ في هذه المسألة وخالف غيره من السلف، بل وخالف شيوخ الكوفة من قبله، وخالف شيخه إبراهيم النخعي، الذي كان شديداً على الإرجاء والمرجئة، وأشهر من تقلد هذا المذهب بعد حماد هو الإمام أبو حنيفة النعمان صاحب المذهب المعروف، فبتقلد أبي حنيفة لقول حماد اشتهر هذا القول؛ لكثرة أصحاب أبي حنيفة وشيوعهم فيما بعد. إذاً: قول مرجئة الفقهاء هو إخراج الأعمال الظاهرة عن مسمى الإيمان، لكنهم يجعلونها براً وتقوىً وطاعة إلى غير ذلك، فهم يسمونها إسلاماً، لكنهم لا يجعلونها داخلة في مسمى الإيمان، ويحتجون ببعض الدلائل التي يأتي التنبيه إليها، كقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277] فقالوا: إن الله فرق بين الإيمان والعمل إلى نحو ذلك من استدلالاتهم. ومرجئة الفقهاء لم يطعنوا في أحاديث الصحابة كما تطعن الخوارج، ولم يستدلوا بعلم الكلام كما يستدل به المرجئة الغالية كـ الجهم بن صفوان وأمثاله، بل كان استدلالهم من جنس استدلال السلف، كما أنهم لم يعرفوا ببدعة أخرى. وقولهم هذا لا يسمى اجتهاداً مما يسوغ فيه الاجتهاد بل هو بدعة مخالف للإجماع؛ وشيخ الإسلام ابن تيمية له سياقان في هذه المسألة: فتارة يقول: والجمهور من السلف يقولون: الإيمان قول وعمل، وخالف في ذلك حماد بن أبي سليمان ومن وافقه من فقهاء الكوفة، وبهذا السياق عند ابن تيمية قد يفهم البعض أنه قول الجمهور. وهناك سياق آخر يقول فيه: وقد أجمع السلف على أن الإيمان قول وعمل، وحكى هذا الإجماع غير واحد كـ وكيع وعبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد والشافعي إلخ. وليس بين سياقي كلام شيخ الإسلام شيء من التعارض؛ لأننا إذا أردنا تقرير دليل السلف على قولهم: الإيمان قول وعمل، وأن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان، قيل: دليلهم الكتاب والسنة والإجماع. أما حماد بن أبي سليمان ومن وافقه فهم مخصومون بالإجماع قبلهم؛ من الصحابة ثم التابعين إلخ، وقبل حماد ليس هناك اختلاف بين أهل السنة، وحكاية إجماع السلف لا تستلزم أن حماداً ليس من أهل السنة؟ فـ شيخ الإسلام رحمه الله إذا أراد تقرير الدليل على قول السلف قال: وهو إجماع عند السلف، وإذا أراد بيان حقيقة حماد ومن معه ومقامهم عند أهل السنة قال: إنه قول الجمهور؛ فليس بين كلام شيخ الإسلام رحمه الله شيء من التعارض. وبدعة حماد ليست من بدع العقائد المغلظة، وإنما هي من بدع الأقوال والأفعال، كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فالسلف عدوا قوله بدعة وذموه ذماً شديداً على قوله، وذموا مقالته، لكنهم لم يخرجوا حماداً ومن وافقه من دائرة السنة والجماعة بهذا القول. وهذا من فقه السلف، وبه تعرف أن من زل في بدعة ما قد لا يخرج من دائرة أهل السنة، وأحياناً قد تكون بدعةً يسيرة، وأحياناً قد تكون بدعة فعلية وبدعة قولية؛ بمعنى أن لا تقارن أبداً ببدعة من أخرج العمل عن مسمى الإيمان، ومع ذلك تجد من يتعجل ويصف من خالف في هذه البدعة المعينة -التي ليست بقدر بدعة حماد - مباشرة بخروجه من دائرة أهل السنة، ويصفه بأنه من أرباب البدعة، ومن دعاة الضلال، ويشنع عليه، والسلف رحمهم الله ذموا حماداً ومقالته، لكن بقي لهم بقية أنهم يجعلونه من أئمة السنة والجماعة وإن كان قوله بدعة.

مسميات الإيمان في الكتاب والسنة

مسميات الإيمان في الكتاب والسنة قال الموفق رحمه الله: [قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] فجعل عبادة الله تعالى، وإخلاص القلب، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة كله من الدين]. قد يقول قائل: إن هذه الآية ليس فيها ذكر لاسم الإيمان، وإنما فيها ذكر لاسم الدين. قيل: هذه الآية كثر استدلال السلف بها على مسمى الإيمان؛ وذلك من جهة أن الدين إذا أطلق يراد به الإيمان، ومن الممتنع أن يكون الدين تمامه ليس بتمام الإيمان. وهذه الآية إنما ذكروها؛ لأن فيها ذكراً لإخلاص القلب، وذكراً للأعمال الظاهرة والباطنة، ومن هنا يقال: إن استدلال السلف رحمهم الله -في سائر مسائل أصول الدين عامة، وفي هذا الأصل بوجه خاص -هو من باب التنوع في الاستدلال؛ ولهذا فإن ذكر اسم الإيمان في الكتاب والسنة هو ذكر متعدد من جهة السياقات ومرادات المعاني. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الاسم الواحد يثبت وينفى بحسب السياق المقارن له، قال: والإيمان استعمل مطلقاً واستعمل مقيداً". مثلاً: قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] وبعدها أوصاف ظاهرة وباطنة، كما وصف الله المؤمنين في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] وهذا عمل القلب، {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} [الأنفال:2] أي: زادتهم تصديقاً في القلب، وزادتهم إيماناً في أعمالهم أيضاً، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] وهذا في القلب .. {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:3] وهذه هي أعمال الجوارح. إذاً: قد يذكر الله الإيمان ويدخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، والأقوال الظاهرة والباطنة، وهذا الإيمان المطلق في كتاب الله هو الإيمان الواجب. وأحياناً يذكر اسم الإيمان على التصديق اللازم للدخول في الدين، وإن كان صاحبه مقصراً في الزكاة أو الصلاة أو في كثير من الواجبات، ومع ذلك يذكر هذا الاسم؛ كقوله تعالى في كفارة القتل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ولا يراد بالرقبة المؤمنة هنا الذي ذكره الله في أول سورة (المؤمنون)، أنه لا بد أن يكون خاشعاً، معرضاً عن الجهل إلخ. ولو كان المعتَق فاسقاً فإنه يصح عتقه بالإجماع، مع أن الله يقول: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي: محققة لأصل الإيمان، وإن كانت قد تكون مقصرةً في واجباته التي لا تخالف أو لا تسقط أصلاً. وهذه قاعدة مهمة في معرفة الأسماء؛ لأن غلط الغالطين حتى من أهل السنة المتأخرين والمعاصرين في مسائل التكفير وغيرها، تراهم يجدون استعمالاً في كتاب الله فيجعلونه مطرداً عاماً، مع أن ثمة استعمالات في القرآن قد تعارض هذا الاستعمال في الظاهر، والصواب: أنه ليس بين القرآن تعارض أبداً، ولا يمكن أن يكون ذلك؛ لأن الله يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] فيمتنع أن يكون فيه اختلاف وهو كلامه سبحانه وتعالى. كما أنك تجد ذلك في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسماً -أي: مالاً- فقلت: يا رسول الله! أعط فلاناً فإنه مؤمن قال: أو مسلم. أقولها ثلاثاً ويردها علي ثلاثاً: أو مسلم، ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار) فالنبي صلى الله عليه وسلم منع سعداً أن يسمي هذا الرجل مؤمناً، مع أن الرجل عنده أصل الإيمان، وإلا لما زكاه سعد. وفي قصة الجارية حين قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة) فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى الجارية مؤمنة، مع أن الجارية إنما أجابت جوابين: أن الله في السماء، وأن محمداً رسول الله، والرجل الذي زكاه سعد يؤمن بأن الله في السماء، وأن محمداً رسول الله، ولو كان لا يؤمن برسول الله ولا يؤمن بأن الله في السماء، فلا يجوز أن يسمى مسلماً. إذاً: الذي جعل الرسول عليه الصلاة والسلام يمنع سعداً من إطلاق اسم الإيمان على هذا الرجل، وقد أعطاه الجارية، يقال: إن إيمانها أقل من إيمان الرجل الذي ذكره سعد، فإن ظاهر الحال أن هذا الرجل كان من القاصدين إلى الخير والمعروفين به حتى زكاه سعد ولم يزك غيره، ولأن المقام في قصة سعد مقام ثناء ومدح، وإذا ذكر الثناء والمدح فلا يُثنى ولا يمدح إلا من بان استمامه لواجبات الإيمان، وإذا ذكر مقام الأحكام الدنيوية كالعتق والميراث والولاية ونحو ذلك فإن ذلك الشخص يسمى مؤمناً. ولهذا فإن كل من كان مسلماً حقاً فإنه لا بد أن يكون مؤمناً، فإن الناس أحد ثلاثة: إما مؤمن ظاهراً وباطناً، وإما كافر ظاهراً وباطناً، وإما المنافق المسلم في الظاهر والكافر في الباطن، والله يقول: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] فهم إذا أسلموا حقاً لا بد أن يكون معهم أصل الإيمان؛ لأنهم إن عدموا الإيمان كفروا. إذاً: لماذا قال الله تعالى: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] وقال: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14]؟ لأن الأعراب قالوا هذا من باب التزكية، والثناء، والإيمان كتحقيق ليس سهلاً، ليس كل من قال الإسلام وصدق به يكون محققاً للإيمان، فإن الدين طبقات ودرجات؛ ولذلك فإن كل شخص من المسلمين مهما كثرت جرائره وكبائره وعظائمه مادام أن معه أصل التوحيد والإسلام يسمى مسلماً، ويسمى فاسقاً لما معه من الفسق، وهل يسمى مؤمناً أو لا يسمى؟ قيل: فيه تفصيل ففي مقام الدعوة والمخاطبة بالحق يسمى مسلماً، وفي مقام أحكام الدنيا كالزواج والمواريث والعتاق ونحوها يسمى مؤمناً، ولا غضاضة في ذلك؛ لأن معه أصل الإيمان، أما ما يقرره بعض متأخري أهل السنة حين يقولون: الفاسق صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمناً بحال .. فهذا غلط، بل يجوز تسميته مؤمناً في مقامات، ألا ترون أن الله يقول في القرآن: (يأيها الذين آمنوا) كثيراً، يخاطب به سائر المسلمين من بر وفاجر، ولما ذكر الله الاصطفاء العام قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] المصطفون من هم؟ قال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32]. وعليه: إذا قيل: أصحاب الكبائر أيُّ الأسماء هي الأصل فيهم؟ نقول: العصاة من أهل الكبائر الأصل فيهم أنهم يسمون مسلمين، وهذا هو الغالب على المسلمين، وإلا يلزم على هذا أن يفسق جماهير المسلمين؛ لأنه لا يسلم أحد من ارتكاب كبيرة، ولذلك فإنما الله سمى عباده والذين يتبعون أنبياءه سماهم مسلمين كما قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] فالإسلام هو اسم أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، سواءً كانوا أهل كبائر أو غير أهل كبائر، ولكن إذا أريد ذكر كبيرته أو إسقاط ما أوجبت الشريعة إسقاطه كإسقاط ولاية بعض العصاة، قيل: هذا سقطت ولايته لكونه فاسقاً، وهو لا يتناسب أن تقول: سقطت ولايته لكونه مسلماً؛ لأنه تضاد في الترتيب. فإذاً: إذا أريد بيان ما عند الرجل من المعصية بأن اقتضت المصلحة والسياق ذلك سمي فاسقاً، وإذا اقتضت المصلحة والسياق في مقامٍ آخر سمي مؤمناً؛ وإذا أريد الأصل العام في التسمية قيل: الأصل العام هو الإسلام، ولذلك ما يتداوله البعض كثيراً: الفساق .. والفساق، فهذا ليس عدلاً، ولا انضباطاً على السنن والآثار المذكورة في كتاب الله، وأنت لا ترى في كتاب الله ذكر الفسق في الغالب إلا ويراد به الكفر، وإن كان أحياناً يستعمل في ما دون ذلك، كقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات:6] فسمي فاسقاً لأن المقام يستدعيه؛ ولهذا لو أن شخصاً كذب على شخص وأراد الآخر تنزيه نفسه أو تنزيه غيره عن هذا الكذب يقول لمن حدث بهذا الكلام: الذي جاءك بهذا الكلام رجل فاسق، وهذا المقام مناسب، أما أنه لا يُعرف إلا بهذا الاسم فهذا ليس بصحيح، بل العدل والسنة أنه يسمى مسلماً؛ لأن هذا هو الأصل فيه؛ ولأن ما عنده من الحسنات أعظم مما عنده من السيئات قطعاً، ولأن حسنة التوحيد أجل من سائر ما عنده من السيئات والمعاصي. فعليه: يكون اسم الإيمان يستعمل في مقام، والفسق في مقام، والإسلام في مقام هو الأصل فيه.

شعب الإيمان

شعب الإيمان قال الموفق رحمه الله: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) فجعل القول والعمل من الإيمان]. هذا الحديث يعتبر من أشرف الدلائل عند السلف على مسألة الإيمان، وأصله في الصحيحين، وهو بهذا السياق رواه مسلم في صحيحه، وقد رواه البخاري مجملاً: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة)، وفسره مسلم في هذه الرواية، قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان). من خصائص هذا الحديث مسائل: المسألة الأولى: أن الحديث فيه بيان لكون الإيمان متعلقاً بالقلب واللسان والجوارح، فإنه قال: (فأعلاها قول لا إله إلا الله) وهذا دليل على أن الإيمان يكون باللسان خلافاً لغلاة المرجئة، وفي قوله: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) فيه بيان لكون الإيمان يتعلق بأعمال الجوارح، (والحياء شعبة من شعب الإيمان) فيه دليل على أن أعمال القلوب تدخل في مسمى الإيمان. المسألة الثانية: فيه أن سائر الأعمال المشروعة تدخل في مسمى الإيمان، سواء كانت واجبة أو ركناً أو مستحبة، فإن إماطة الأذى عن الطريق ليست من الواجبات في سائر المقامات، ومع ذلك جعلها الشارع من شعب الإيمان. المسألة الثالثة: أن هذا الحديث يمنع التأويل فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) فدل على أن كل ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا فهو إيمان على الحقيقة ليس من باب المجاز، لأنه قال: (والإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون) على اختلاف الرواية، فدل على أن هذه الشعب كل واحد منها يسمى إيماناً ولا بد، وإذا دخلت الأعمال المستحبة باسم الإيمان فمن باب أولى دخول الواجبات والفرائض الكبرى.

أصل الإيمان وكماله

أصل الإيمان وكماله قال الموفق رحمه الله: [وقال تعالى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة:124]، وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً} [الفتح:4]]. هذه أدلة على زيادة الإيمان، وأن الله سبحانه وتعالى ذكر زيادة الإيمان في كتابه ذكراً محكماً، والإيمان يزيد من جهة التصديق، ويزيد من جهة أعمال القلوب، ويزيد من جهة أقوال اللسان، ويزيد من جهة أعمال الجوارح، فالإيمان في سائر هذه الموارد يزيد وينقص، وهذا يدلك على أن الإيمان له أصل وكمال وأصله: ما يقع به الدخول في الدين. فإذا قيل: ما معنى نفي الشارع للإيمان؟ قيل: نفي الإيمان عن شخص مسلم يكون سببه أنه ليس محققاً لواجبات الإيمان المطلق، فإن من لم يحقق واجبات الإيمان المطلق المذكورة في قول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] .. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] إلى آخر الآيات، فإن اسم الإيمان ينفى عنه حال فعله للكبيرة أو حال ذكر التزكية له. والله سبحانه وتعالى في كتابه قد نفى اسم الإيمان لمن معه أصل الإيمان وهو من المسلمين في أحد مقامين: إما أن يكون المقام نفياً للتزكية؛ كقوله الله تعالى: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] فهم أرادوا أن يسووا بالمهاجرين والأنصار، والقوم في الغالب على أقل من هذا، فقال الله: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) أي: لم تؤمنوا الإيمان المطلق الواجب، {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] أي: لم يتحقق؛ لأن الإيمان إذا تحقق بالقلب تحقق في أعمال الجوارح الظاهرة. إذاً: ينفي الله أو رسوله عليه الصلاة والسلام اسم الإيمان عن قوم ذكروا التزكية وهم ليسوا من أهل تحقيقها، أو ينفي الإيمان عن صاحب كبيرة أثناء إصراره على كبيرته وقبل توبته منها، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أبي هريرة: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه بها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن). وهنا لم النبي يرد عليه الصلاة والسلام أنه تجرد من الإيمان كله، حتى من قال من بعض المتأخرين على هذا الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أنه عند الزنا يعدم الإيمان، ثم إذا انتهى من الزنا أو من كبيرته أو من سرقته رجع إليه الإيمان، هذا قول فهمه غلط من كلام أبي هريرة وابن عباس، وهما لم يردا أنه حال الزنا يعدم الإيمان، ثم يرجع الإيمان إليه، هذا كجدل عقلي -أيضاً- ممتنع، ويلزم عليه أنه لو مات حال شرب الخمر أو حال السرقة يكون كافراً، ويلزمه أن يكون خرج من الإسلام إلى الكفر ثم رجع إليه، وهذا لم يرد عن أحد من الصحابة. والشاهد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد نفي أصل الإيمان، والدليل على ذلك من السنة حديث أبي ذر في الصحيحين، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم عليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا هو وأني رسول الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة -وفي رواية: -إلا حرم الله عليه النار- قال أبو ذر: يا رسول الله! وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق. قال: وإن زنا وإن سرق. قال: وإن زنا وإن سرق. قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر). إن فقه الأسماء الشرعية في القرآن من أجل الفقه، فهو لا يؤخذ مقاماً واحداً، ومن يأخذ مقاماً واحداً فتلك طريقة أهل البدع، فتجد من يقول: الجهل ليس عذراً في التكفير، ويستدل بقول الله تعالى: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ونقول له: إن الله وصف كل من خالف الرسول بأنه من الجاهلين. وقال في موضع آخر: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] مع أنهم جاهلون، ودخلوا في اسم الجاهلين في الآية الأخرى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] إلخ. إذاً .. لا بد من جمع مقامات القرآن وسياقاته؛ حتى لا يقع تعارض في الفهم بين كلام الله، أو يؤخذ بعضه ويترك بعضه كما صنعت الخوارج والمرجئة، هؤلاء أخذوا أحاديث آيات وأحاديث الوعيد، وهؤلاء على العكس.

أهل الكبائر لا يخلدون في النار

أهل الكبائر لا يخلدون في النار قال الموفق رحمه الله: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال ذُرة أو خردلة أو ذَرة من الإيمان) فجعله متفاضلاً]. هذا الحديث متواتر الرواية عن جماعة من الصحابة أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وهذا دليل على أن الإيمان له كمال وله أصل، وأنه يزيد وينقص، وهو دليل على أن سائر أهل الكبائر لا يخلدون في النار وأن معهم أصل الإيمان ولا بد.

مسألة الاستثناء في الإيمان

مسألة الاستثناء في الإيمان الاستثناء في الإيمان، وهو قول الرجل: هو مؤمن إن شاء الله، وهذه المسألة ليست من مسائل الأصول عند السلف، ولكن بعض أهل البدع تكلم فيها على مبنى أقوالهم البدعية، فهنا يقال: إن قولهم بدعة. إذاً .. هل السنة الاستثناء في الإيمان، أم عدم الاستثناء؟ قيل: هذا بحسب المراد والمقام، فمن قصد أنه مؤمن -أي: محقق للإيمان- فلا بد أن يقول: إن شاء الله؛ لأن تحقيق الإيمان لا يجوز لأحد الجزم به، ولا يجوز لأحد أن يزكي نفسه أنه حقق الإيمان تحقيقاً كاملاً. وكذلك إذا أريد الخاتمة، فإنه يُستثنى في الإيمان؛ لأن الإنسان لا يدري بماذا يختم له. فإذا أريدت هذه المرادات فيكون السنة ذكر الاستثناء، وأما إذا أريد أصل الإيمان فإن ذكر الاستثناء لا يلزم؛ ولهذا إذا قال شخص عن فلان: هذا الرجل مؤمن. لا يلزمك أن تقول: قل: إن شاء الله؛ لأنك إنما تتكلم عن أصل الإيمان، وأصل الإيمان يجزم به. والصواب أنه يجوز تقييده بالمشيئة، ومشيئة الله تعالى لا تعني التردد، قال الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح:27] مع أن دخولهم كان متحققاً. إذاً: تعليق الأمر بمشيئة الله لا يلزم منه التردد، ومسألة الاستثناء في الإيمان تكون بحسب المقام والمراد، فتجوز في مقام، وتجب في مقام، وتمنع في مقام، فهي مسألة واسعة على هذه المرادات، ومن هنا تنوع جواب السلف فيها رحمهم الله.

الفرق بين الإسلام والإيمان

الفرق بين الإسلام والإيمان لا شك أن اسم الإيمان أشرف وأعظم وأجل من اسم الإسلام، والدليل عليه قوله تعالى: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( أو مسلم ...) إلى غير ذلك، فدل على أن الإيمان أعلى وأتم. ومع ذلك فإن كل مؤمن يكون مسلماً، ولكن هل كل مسلم يكون مؤمناً؟ نقول: هذا فيه تفصيل؛ فإن أريد أصل الإيمان فنعم، وإن أريد تمامه فلا يلزم؛ فالإسلام المطلق هو الإيمان المطلق، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] .. {هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ} [الحج:78] وفي قول الله تعالى عن إبراهيم: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128]. أما من قال: اسم الإسلام أشرف أو مساوٍ لاسم الإيمان لقول الله عن إبراهيم: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ولم يقل: مؤمنين، فهذا غلط في الفهم؛ فإن قوله: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) الإسلام هنا هو الإسلام المطلق، وإذا ذكر الاسم المطلق فليس هو الإسلام المذكور في قول الله تعالى: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] الإسلام المطلق هو الإيمان. إذاً .. اسم الإيمان يكون مطلقاً ويكون مختصاً أو مقيداً؛ وكذلك اسم الإسلام، يكون مطلقاً كقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] ويكون مختصاً أو مقيداً كقول تعالى: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا). وهذان الاسمان هما من أسماء الديانة، ولكن اسم الإيمان أتم، قال بعض المتأخرين: إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، وهذا ليس بمطرد ولا لازم.

شرح لمعة الاعتقاد [11]

شرح لمعة الاعتقاد [11] من أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، فيجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن اليوم الآخر وما يتعلق به، كالقبر وعذابه ونعيمه، وكالبعث والنشور، والحساب والجزاء، والجنة والنار، ونحو ذلك، وهذه الأمور من الغيبيات التي لا مجال للاجتهاد فيها؛ بل يجب الإيمان والتسليم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها.

مسائل في الإيمان باليوم الآخر

مسائل في الإيمان باليوم الآخر قال الموفق رحمه الله: [ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وصح به النقل عنه فيما شاهدناه، أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه]. كلام المصنف هنا يتعلق بما يسمى عند المتأخرين بالسمعيات، فإنهم إذا ذكروا مسائل اليوم الآخر وما يتعلق بالمغيبات سموا هذا القسم بالمسائل السمعية، وهذه التسمية مستعملة في كلام متكلمة أهل الإثبات، والصفاتية المنتسبين للسنة كالأشاعرة وأمثالهم، وهذه التسمية مستعملة أيضاً في كلام بعض أهل السنة المتأخرين، وأما المتقدمين من السلف فإنهم لم يخصوا هذا الباب بهذه التسمية، فإن هذه التسمية أحسن ما يقال فيها: إنها مما يتوسع في شأنه إذا بيّن المراد به على وجه صحيح، وإلا فإن هذه التسمية ليست مقصودةً لذاتها، ولا ينبغي القصد إليها، لأن القصد إليها ليس من التحقيق لذكر أصول السلف أو فصولهم في مسائل أصول الدين، بل التحقيق لمذهب السلف إنما يكون بذكر حقائق أقوالهم، المقولة في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمعوا عليه، وإن لم ينطق بمثل هذه التقاسيم التي قد تتضمن مفهوماً، وإن لم يكن مراداً إلا أنه قد يكون مشكلاً على كثير من الخاصة والعامة. وهي تشابه تلك التقاسيم المقولة في باب الأسماء والصفات، فإنك تجد في كلام المتأخرين أن الصفات تنقسم إلى: ذاتية وفعلية، أو إلى صفات اختيارية وخبرية وما إلى ذلك. إذاً: تسمية ما يتعلق بالمغيبات واليوم الآخر وأمثال ذلك بالسمعيات هي تسمية متأخرة، وهذا أحسن ما يقال فيها، وإلا فجميع أصول الدين معلومة بالسمع: (الكتاب والسنة). وإذا قيل: إن جملة الأصول يُعلم قدرها الكلي وبعض مقاماتها التفصيلية بالعقل، وأن هذا باب خبري محض فهذا ليس على اطراده، فإن دلائل العقل قد تذكر فيما هو من هذا المقام، فإن الله سبحانه وتعالى لما ذكر البعث ذكر له دليلاً من العقل، بمثل قول الله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79]. فتخصيص هذا الباب بهذا الاسم فيه قدر من التحكم.

حكم الإيمان باليوم الآخر وما يتعلق به

حكم الإيمان باليوم الآخر وما يتعلق به قال الموفق رحمه الله: [يجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه]. مراده بذلك: جميع ما جاء ذكره في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما قال: بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: بما جاء في كلام الله ورسوله .. لأن هذا من باب التجوز في العبارات، وإلا فإذا قيل: يجب الإيمان بما في كتاب الله؛ لزم من ذلك وجوب الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثله إذا قيل: يجب الإيمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا التعبير يدل من باب اللزوم والضرورة على أنه يجب الإيمان بما أخبر به في كتاب الله سبحانه وتعالى. أما ما يتعلق باليوم الآخر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإيمان به من أصول الإيمان، كما في حديث جبريل قال ( وتؤمن بالبعث الآخر) وفي رواية أخرى: (وتؤمن بلقائه) أي: بلقاء الله، وهو كثير في كلام الله سبحانه وتعالى في القرآن وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ويراد باليوم الآخر: ما يقع بعد الموت في القبر من الفتنة والسؤال والعذاب والنعيم، وذلك داخل في عموم هذا المقام.

حكم التفقه والاجتهاد في هذا الباب

حكم التفقه والاجتهاد في هذا الباب هذا الباب وأمثاله لا يدخله التفقه ويقال فيه بالاجتهاد، فالناظر إلى دلائل الإسلام يجد أن منها ما هو تقرير لكليات من الأصول العلمية، وهذا لا يقال فيه بالتفقه القابل للاجتهاد والظن، واختلاف أقوال المجتهدين وما إلى ذلك، وإنما يوقف فيه على الصريح من الخبر، فما جاء عن الله أو صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يقال به، ويكون الإيمان به واجباً ولازماً. وأما ما كان من المعاني محتملاً؛ فإنه لا ينبغي القصد إلى الجزم به إثباتاً أو نفياً، وإن كان من يثبته أو ينفيه يمكنه أن يستدل على إثباته أو نفيه بنوع من الاستدلال، أي: أن الإثبات والنفي في هذه المقامات لا يكون إلا بدليل صريح، وأما إذا تعذر الدليل الصريح فإنه لا يصار إلى الإثبات أو النفي، فإن المقام هنا ليس مقام الأفعال التكليفية، فأنت إذا جئت إلى مسائل الصلاة والزكاة والحج أو إلى مسائل المعاملات والشهادات ونحوها؛ وجدت هذا النوع من المسائل أحياناً يستدل على مسائله بوجه من الاستدلال ليس لازماً، وإنما هو وجه ممكن محتمل، ومع ذلك فإن هذا النوع من الاستدلال إذا لم يمكن إلا هو فإنه يكون صحيحاً؛ لأن المسألة لا بد فيها من حكم؛ لأنها مسألة تكليفية، فمثلاً: لحم الإبل هل ينقض الوضوء أو لا ينقض الوضوء؟ هذه المسألة ليس فيها نصوص صريحة قطعية، وإنما فيها نصوص محتملة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن سمرة لما قيل له: (يا رسول الله! أنتوضأ من لحم الغنم؟ قال: لا. قيل: أنتوضأ من لحم الإبل؟ قال: نعم) وفي رواية أخرى: (إن شئت)، فهل قوله صلى الله عليه وسلم: (نعم). أراد به الوجوب أم الاستحباب؟ هذا محل نزاع بين الفقهاء، فذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة إلى عدم نقض الوضوء بلحم الإبل، وذهب الإمام أحمد رحمه الله في أصح الروايتين عنه وهي مذهبه إلى أن لحم الإبل ناقض للوضوء. فالاستدلال بهذا الحديث ليس استدلالاً قطعياً، ولذلك لا بد من الترجيح، ولا يمكن لقائل أن يقول: إن هذه المسألة لا نقول فيها بشيء، لأنه ليس عندنا دليل قاطع فيها، فمسائل التكليف يعتبر فيها التفقه والاجتهاد أخذاً بالعمومات أو الخصوصيات ترجيحاً أو جمعاً، أو غير ذلك من طرق الاستدلال والترجيح. لكن في باب أصول الإيمان والخبريات المحضة، كالإيمان باليوم الآخر ومسائله مما يكون في القبر من عذاب أو نعيم، أو ما بين يدي يوم القيامة كأحاديث عذاب القبر وأشراط الساعة، هذا لا يقال فيه بالتفقه والاجتهاد، بل يوقف فيه على صريح النص، فإذا ثبت صريح النص قيل به، وإذا لم يثبت أو لم يكن صريحاً لزم السكوت. وعلى طالب العلم أن يفقه الأمور المتعلقة بما يكون بين يدي قيام الساعة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدث بأحاديث كثيرة أن بين يدي الساعة فتناً، وذكر جملةً من هذه الفتن على التفصيل، وذكر جملةً منها على الإجمال. وهذه الفتن منها ما هو ثابت بالسنة الصحيحة المتفق عليها أو المستفيضة الصحة عند الأئمة، كأحاديث اتفق عليها الشيخان، أو لم يتفقا عليها، ولكنها أحاديث انضبطت صحتها عند أئمة الحديث .. فهذا قدر. وثمة أحاديث في الفتن التي تكون بين يدي الساعة فيها أوصاف لبعض الأمصار أو لبعض الأعيان من الناس، أو لبعض الأفعال، أو لبعض الأحوال، وتجد أن هذه الأحاديث ليست من الأحاديث البينة صحتها، بل هي إلى الضعف أقرب، وإن كانت قد تقبل التحسين بوجه ما. وهنا إشكال: وهو أن بعض السالكين من طلبة العلم أو الباحثين في مسائل أحاديث الفتن يعنون بجبر هذه الأحاديث وتقويتها، كأنهم يبحثون في مسألة فقهية تكليفية، احتيج إلى تقرير هذا الدليل وإلى جبره فيها مع مجموع أدلة أخرى، فيصير تحت هذا التحصيل الجزم بثبوت مثل هذه الفتن، وأشد من ذلك حين يصار إلى تفصيل تحقيقها، فربما استقرئت بعض الحوادث القائمة أو المستشرفة القيام على أنها هي التي حدَّث بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث كذا وحديث كذا، كاستشراف كثير من الناس لأحاديث المهدي وما يتبعها، وما يقارن خروج المهدي من الأحوال والفتن وما إلى ذلك. وهذا ليس من الانضباط السليم في المنهج الشرعي العلمي. وأشد من ذلك حينما تستقرأ الفتن التي بين يدي الساعة من كتب بني إسرائيل التي أحسن ما يقال فيها كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) فالشارع قد بين أن ما في كتبهم لا يصدق ولا يكذب، وإن قال عليه الصلاة والسلام: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) لكن التحديث ليس هو التصديق وبناء الأحوال أو الأقوال أو الأفعال على مثل هذه النصوص. هذا فضلاً عن أن مراده صلى الله عليه وسلم بما في كتب أنبيائهم أو المنسوبة إلى أنبيائهم التي دخلها التحريف، وليس مراده صلى الله عليه وسلم بذلك ما كتبه بعض أحبارهم ورهبانهم ورجال الدين عندهم من متأخريهم، فإن كثيراً من هذا الكلام اخترعه وابتدعه بعض متأخري رجال النصرانية واليهودية، وكذبوا على أنبيائهم وعلى أصحابهم المتقدمين في ديانتهم. فهذا الباب لا بد من ضبطه على هذا الاعتبار، ولا ينبغي لطالب العلم أن ينتظر التفصيل في غير ما صرح النص بتفصيله؛ ولهذا يوقف في هذه الأحاديث على قدرها التي ذكرت من التعبير، وأما ما فوق ذلك فإنه لا يقال فيه لا بإثبات ولا بنفي.

الإيمان بمعجزة الإسراء والمعراج

الإيمان بمعجزة الإسراء والمعراج قال الموفق رحمه الله: [مثل حديث الإسراء والمعراج]. الإسراء ذكره الله في كتابه صريحاً، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] وأما المعراج فإنه متضمن الذكر في كلام الله سبحانه، ولكن جاء تفصيله في كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين وغيرهما من رواية جماعة من الصحابة كـ أبي ذر، وأبي هريرة، ومالك بن صعصعة وغيرهم. والنبي صلى الله عليه وسلم قد أسري به من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، ثم عرج به عليه الصلاة والسلام إلى السماء، وكان مسراه يقظةً لا مناماً، وهذا الذي درج عليه أئمة السلف رحمهم الله، وهو الذي حدث به الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، فإن ما كان حديثه صلى الله عليه وسلم عن وقوع هذا على سبيل اليقظة. وأما أن هذا -كما يزعم بعض من ينكر ذلك- يخالف العقل فليس بصحيح، بل هذه قدرة الله، والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، ألم تر إلى كلام الله سبحانه وتعالى في قصة سليمان عندما قال عفريت من الجن: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39] فكان هذا من قدرات الجن. وهنا قاعدة لا بد للمسلم أياً كان مقامه أن يتفطن لها، وهي: أن العقل لا يعارض النقل، وأما الشبهات التي أثيرت على الإسلام عند الماديين أو الشيوعيين أو بعض المنتسبين للإسلام ممن أبطلوا بعض الحقائق الشرعية باسم العقل أو ما إلى ذلك، فإنه ليس هناك تعارض في مسألة واحدة بين العقل والنقل، ولكن يفرق بين ما يسمى بالضرورة العقلية والضرورة الحسية المعينة، فالضرورة العقلية لا تخالف النقل، لكن الحس المعين قد يقع، ولكن هذا الحس ليس محكماً ولا معتبراً. مثال ذلك: لو قال قائل: كيف يعذب الإنسان أو ينعم في قبره مع أنه مطمور في هذا التراب، فهذا مما يخالف العقل؟ نقول: الصحيح أنه لا يخالف العقل، لكنه يخالف الإدراك الحسي، والإدراك الحسي ليس معتبراً، ولا تقاس به النصوص، وإلا لما أمكن الإيمان بحقائق الأسماء والصفات وغير ذلك؛ لأن الكيف مجهول كما قال السلف. كذلك النائم يرى في منامه نعيماً ويتنعم به، مع أن من يشاهده لا يشاهد أنه تأثر بشيء، وقد يرى هو نفسه في ليلة أخرى أنه يعذب ويتألم بهذا العذاب، وربما قام كريه النفس، متأثر بما مسه من النصب أو العذاب أو ما إلى ذلك في منامه، وهذه أمور مشاهدة عند جملة من بني آدم، فهذا دليل عقلي على إمكان ما يقع في القبر من النعيم والعذاب. ولو أن إنساناً غمر في الماء ساعةً فإنه يموت؛ لأنه لم يستطع التنفس، لكن حيوانات البحر إذا أخرجت من الماء ماتت؛ لأنها لم تستطع التنفس. إن وجود هذا التعاكس يبين أنه ليس هناك ضرورات حسية مطردة، بل إنها إذا انتقلت إلى عالم حس آخر تغيرت، أما الضرورة العقلية فهي ثابتة، وهي لذلك لا تخالف النقل. قال الموفق رحمه الله: [وكان يقظةً لا مناماً، فإن قريشاً أنكرته وأكبرته ولم تنكر المنامات]. هذا من فقه الاستدلال؛ فإن قريشاً أنكرت معراج النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان مناماً لما أنكرته على التخصيص. قال الموفق رحمه الله: [ومن ذلك أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فرد عليه عينه]. هذا الحديث ثابت في الصحيح، وهنا أراد المصنف أنه يؤمن به على ظاهره، ولا يجوز أن يتكلف فيه بتأويل، كأن يقال: إن هذا كان مناماً، كما فسره بعض المتأخرين من أهل البدع، والصواب: أنه على حقيقته.

شرح لمعة الاعتقاد [12]

شرح لمعة الاعتقاد [12] مما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر: الإيمان بأشراط الساعة، أي: علاماتها التي تكون قبل قيامها، وهي تنقسم إلى: صغرى وكبرى، فالصغرى تظهر قبل قيام الساعة بوقت طويل، وقد ظهر كثير منها، وأما الكبرى فلا تظهر إلا قرب قيام الساعة، وهي: خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها.

الإيمان بأشراط الساعة

الإيمان بأشراط الساعة قال الموفق رحمه الله: [ومن ذلك أشراط الساعة]. التسمية بأشراط الساعة ثابتة في كلام الله سبحانه وتعالى، وقد قسم أهل العلم أشراط الساعة إلى: كبرى وصغرى وهذا تقسيم واسع، ولكنه ليس بالضرورة أن يكون تقسيماً مقصوداً لذاته، فإنه قد يتعذر على كثيرين التمييز بين العلامات الصغرى من العلامات الكبرى، فإذا اعتبروا ذلك بالزمان أشكل، وإذا اعتبروا ذلك بالماهية أشكل ربطه إلخ. فإذا قلت: إن هذه الآيات منها ما هو آيات كبرى، ومنها ما هو آيات دون ذلك، فهذا لا بأس به، وأما التزام التعيين بأن المتقدم هي العلامات الصغرى والمتأخر هي العلامات الكبرى، فهذا ليس صحيحاً، فإنها لا تقاس بالزمان، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث بين يدي الساعة كما ثبت عنه ذلك في الصحيح، قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، وفي لفظ الترمذي: (بعثت أنا والساعة نستبق، كادت أن تسبقني فسبقتها).

الإيمان بخروج الدجال

الإيمان بخروج الدجال قال الموفق رحمه الله: [مثل خروج الدجال]. الدجال: هو كافر من الكفار من ولد آدم، وليس كما يزعم بعض أهل البدع أنه مخلوق مختص، بل هو من ولد آدم جعل الله له هذا المعنى الذي يصير إليه من فتنة الناس. وقد أشكل أمر الدجال في ابتداء الأمر على جملة من الصحابة، واطرد هذا الإشكال على كثير من أهل العلم بخصوص ابن صياد، وقد كان رجلاً من اليهود، حتى أن عمر بن الخطاب ظن أنه هو الدجال، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم كذاباً وأفاكاً، والذي عليه الجمهور وهو الصواب: أن ابن صياد لم يكن هو الدجال المراد بآخر الزمان، وإنما كان منافقاً كذاباً، وقد أظهر الإسلام -كما في حديث أبي سعيد الخدري في الصحيح- ولكن لم يكن صادق الديانة، بل كان من المنافقين وعلى دين أهل الكتاب.

الإيمان بنزول عيسى عليه السلام

الإيمان بنزول عيسى عليه السلام قال الموفق رحمه الله: [ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله]. عيسى عليه الصلاة والسلام هو من أولي العزم من الرسل، رفعه الله إليه ولم يمت، بل رفع إلى السماء الثانية؛ ولهذا لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم رأى عيسى في السماء الثانية ومعه يحيى بن زكريا، ولهذا قال: أو قال: (رأيت ابني الخالة: عيسى ويحيى). وهذه هي عقيدة المسلمين في عيسى عليه السلام، خلافاً لعقيدة اليهود والنصارى. هذا النبي الكريم ينزل آخر الزمان بعد خروج الدجال، فيقتل الدجال ويحكم في المسلمين بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وسنته، ولقد جاءت قصة نزول عيسى في الصحاح، وفي صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان في سياق طويل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه الدجال، وأنه يخرج ويمكث في الأرض أربعين يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، وأنه أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية إلى آخر ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الدجال. فينزل عيسى عليه الصلاة والسلام فيتبع الدجال فيقتله في فلسطين، وكان نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في دمشق كما في حديث النواس بن سمعان قال: (فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهربتين، واضعاً يديه على أجنحة ملكين، كأن رأسه يقطر ماءً، إذا طأطأ رأسه تحدر منه جمان كاللؤلؤ) وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صفة موسى وعيسى فيما جاء عنه في الصحيحين وغيرهما.

الإيمان بخروج يأجوج ومأجوج

الإيمان بخروج يأجوج ومأجوج قال الموفق رحمه الله: [وخروج يأجوج ومأجوج]. قيل: إنهم ليسوا من بني آدم، وهذا قول ضعيف، والذي عليه الجمهور أنهم من بني آدم، وهم من أمم الكفر كثيرو النسل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين عن أبي سعيد: (يقول الله: يا آدم! أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فاشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا ذلك الرجل؟! قال: أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجل). وقد اشتغل بعض المتأخرين في تعيينهم، فبعضهم ذكر أنهم أهل الصين، وهذا من التكلف، فليس المقصود أن يعينوا بمقام أو بزمان معين، إنما الذي ينبغي أن يعرف أنهم قوم من بني آدم من الكفار، وهم موجودون، والدليل على وجودهم ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وأشار إلى السبابة وحلقها). لكن إذا قيل: هؤلاء قوم كثر فأين هم الآن؟ قيل: لا يلزم أنهم قبل ميعاد خروجهم على هذا الحد من الكثرة، فإن خروجهم في آخر الزمان، ولربما أنه في آخر الزمان يهلك كثير من الناس ويكثر هؤلاء القوم ويكثر نسلهم، ثم يكون خروجهم. وإذا قال قائل: نحن الآن في آخر الزمان وليسوا هم الأكثر، إلا إذا فسرناهم بأجناس الكفار من النصارى في أوروبا وأمريكا، كما ذهب إلى ذلك بعض المعاصرين؛ فهذا أيضاً ليس بصحيح، وأقل ما يقال فيه: إنه قول بلا علم، فإن هؤلاء الكفار من النصارى واليهود لا يظهر من النصوص أنهم هم الذين يرادون بذلك. وإذا قيل: هم في آخر الزمان، فأين هم وأين كثرتهم؟ قيل: وما يدريك أنك في آخر الزمان الذي معناه أنك بين يدي سنوات على قيام الساعة أو على خروجهم، أما إذا أريد بآخر الزمان، أن هذا الأمة في آخر الزمان فنبيها يقول: (بعثت أنا والساعة نستبق) فالنبي عليه الصلاة والسلام كان في آخر الزمان، أي في أيام الله التي قضاها لعباده في هذه الأرض قبل اليوم الآخر الذي يجمع فيه الناس. ولذلك لا يصح أن يقال: إن الفتن بين أيدينا، وانتظروا خروج الدجال، وانتظروا خروج يأجوج ومأجوج .. وليس المقصود أن نقول: إنها بعيدة، وإنما المقصود أن يقال: الله أعلم، ولا يجوز أن يظن أن الأمور بين يديه، كما لا يجوز أن يظن عكسه، إنما الذي يجب أن يقال: الله أعلم. وقد يقع هذا حتى من بعض أهل العلم، ففي القرن التاسع قال بعضهم: إن بين يديهم المهدي، وظنوا أن المهدي هو الذي يختم القرن العاشر، وأن الأمة لن تتجاوز القرن العاشر، ثم سلفت الأمة بعدهم ما يقارب الخمسة قرون. وأحياناً يصنف بعضهم كتاباً في مثل هذه المسألة الغيبية، مثل من يستدل بحديث ابن عمر الثابت في البخاري وغيره لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا إلى نصف النهار، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر، ثم أوتينا القرآن إلى غروب الشمس) فبدءوا يقارنون: كم مدة اليهود، وكم مدة النصارى، وكم ما بين العصر وغروب الشمس؟ فتحصل من هذا أن هذه الأمة بقي عليها كذا من السنوات هذا كله من السفسطة والجهل والتعدي على أحكام الله، والساعة لا يعلم موعدها إلا الله سبحانه وتعالى. إذاً .. هذه الأمور لا ينبغي أن يتقدم فيها بين يدي الله ورسوله .. هذه جهة. الجهة الثانية: ما الفائدة من هذه الفروضات؟ فمن يسأل عن المهدي: ما الذي هل سيأتي بجديد؟ هذه المسائل ليس عند الناس إلا قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الكتاب محفوظ بحفظ الله له، وكذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أصلها لا بد أنها محفوظة. فإذاً: الناس ليسوا محتاجين إلى أن ينتظروا أحداً قادماً، وهذه الأمة لم يرد لها الله ولا حتى غيرها من الأمم أنها تنتظر موعوداً، بل انتظار الموعود من البدع التي أدخلت على المسلمين عند بعض طوائفهم، فجاءوا ببدعة الانتظار لبعض أوليائهم وأئمتهم.

الإيمان بخروج الدابة

الإيمان بخروج الدابة قال الموفق رحمه الله: [وخروج الدابة]. هي دابة خلقها الله تعالى، وهي من أمارات الساعة الكبرى، تكتب في جبين من أدركته: إما مسلماً أو مؤمناً وإما كافراً، فالناس يهربون منها فيصيرون إليها، ولم يذكر لها النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الاختصاص.

الإيمان بطلوع الشمس من مغربها

الإيمان بطلوع الشمس من مغربها قال الموفق رحمه الله: [وطلوع الشمس من مغربها وأشباه ذلك مما صح به النقل]. الشمس تطلع من مشرقها، وإذا جاء ميعادها خرجت من مغربها، وحينئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل.

شرح لمعة الاعتقاد [13]

شرح لمعة الاعتقاد [13] عذاب القبر ونعيمه حق بإجماع أهل السنة وبصريح الكتاب والسنة، وهو يقع على الجسد والروح، خلافاً لبعض المبتدعة الذين قصروا عذاب القبر ونعيمه على الروح دون الجسد.

الإيمان بعذاب القبر ونعيمه

الإيمان بعذاب القبر ونعيمه قال الموفق رحمه الله: [وعذاب القبر ونعيمه حق]. عذاب القبر ونعيمه حق بإجماع أهل السنة وبصريح الكتاب والسنة، وهو على الجسد والروح، ومن قال: إن العذاب يكون على الروح فقط، وأن الجسد بعد الموت لا يمسه شيء من العذاب؛ فهذا من أقوال أهل البدع، وأصله من أقوال المعتزلة، وإن زعمه بعض أصحاب الأئمة قولاً لطائفة من أهل السنة فهذا غلط عليهم، بل الصواب المجمع عليه بين الصحابة والتابعين والأئمة: أن عذاب القبر ونعيمه على الروح والجسد، وإن كان ماهية الاتصال للروح بالجسد بعد الموت ليست كماهية اتصال الروح بالجسد قبل الموت. فإذا قال قائل: وكيف تتصل الروح بالجسد بعد الموت؟ قيل له: وهل أنت أدركت كيف تتصل الروح بالجسد قبل الموت؟ الذي يدركه الناس أن الروح موجودة وأنها محركة للجسد، هذا علم ضروري حسي، أما ماهية هذه الروح وكيف تتصل، وكيف تفارق إلخ فكما قال الله تعالى: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85]. وفوق ذلك: الآيات المشاهدة في يقظة الإنسان وفي منامه تدل على صدق الآيات الغيبية مما قضى به الله سبحانه وتعالى مما يكون في القبر من النعيم والعذاب على الروح والجسد. قال الموفق رحمه الله: [وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه، وأمر به في كل صلاة]. قوله: (وأمره به في كل صلاة) أي: أمر بالاستعاذة من عذاب القبر، وهل ذلك على سبيل الوجوب أم على سبيل الاستحباب؟ الجمهور على أنه مستحب، وهو الصحيح، وهناك رواية عن الإمام أحمد وهي المرجحة عند متأخري أصحابه أن ذلك على الوجوب. قال الموفق رحمه الله: [وفتنة القبر حق]. فتنة القبر هي ابتلاء الإنسان في قبره بالسؤال، يسأل عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه صلى الله عليه وسلم، فالمؤمن يجيب جواباً حقاً، والمنافق والكافر يتعذر عليه الجواب. قال الموفق رحمه الله: [وسؤال منكر ونكير حق]. هذان هما الملكان، وقد سميا في حديث جاء في المسند وغيره بهذا الاسم، وقد ذكر الإمام أحمد ذلك واحتج به. وأما لماذا سموا بذلك. فلأن يقال: هذا مبني على ثبوت النص بذلك، فإن بعض أهل العلم لا يصحح هذه التسمية بثبوتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ثبوت أمر الملكين ثبوت بين صريح، لكن هل يسمى منكر ونكير؟ هذه مسألة أخرى. وإذا كان كذلك؛ فلِمَ سموا بذلك؟ يقال: الله أعلم بذلك. ويمكن أن يقال: إن هذا من باب ما يقع في مقامهما من الشدة والفتنة وما إلى ذلك.

شرح لمعة الاعتقاد [14]

شرح لمعة الاعتقاد [14] مما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالبعث والنشور بعد الموت، والنفخ في الصور، ونصب الموازين، والحوض، والصراط والمرور عليه، والإيمان بالشفاعة، وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وهي أنواع، أعظمها: الشفاعة العظمى، وهي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم.

الإيمان بالبعث

الإيمان بالبعث قال الموفق رحمه الله: [والبعث بعد الموت حق]. أي: بعث الناس من قبورهم، فإن جميع الناس يبعثون من قبورهم أو من مكان موتهم، وإن تفرقت أجزاؤهم وأجسادهم إما في البحر أو في ما شاء الله من الخلق، فإنهم يجمعون في يومهم الموعود ويحشرون إلى ربهم سبحانه وتعالى كما هو صريح في كلام الله ورسوله.

النفخ في الصور

النفخ في الصور قال الموفق رحمه الله: [وذلك حين ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور، فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون]. قوله: (من الأجداث) أي: من القبور، أو من مكان موتهم ورفاتهم.

الإيمان بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة

الإيمان بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة قال الموفق رحمه الله: [ويحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً]. هذا متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في الصحيحين وغيرهما، وقد اتفق أئمة الحديث على أن الناس يحشرون يوم القيامة على هذه الحال، وقوله: (غرلاً) أي: ليسوا مختنين. قال الموفق رحمه الله: [فيقفون في موقف القيامة]. قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [إبراهيم:48] فالأرض ستبدل، ولا يمكن أن يقال: هي الشام أو غيرها، وإن كان هناك دلائل على أن أرض الشام لها اختصاص من جهة جمع الناس ليوم الحساب. قال الموفق رحمه الله: [حتى يشفع فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويحاسبهم الله تبارك وتعالى]. هذا مقام الشفاعة العظمى، وقد أجمع المسلمون على ثبوتها من أهل السنة وأهل البدعة، ولم يخالف فيها أحد، وهذه الشفاعة هي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف أن يقضي ويفصل الحساب بينهم، وقد تواترت عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وحديثها في الصحيحين وغيرهما من رواية جماعة من الصحابة كـ أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بلحم، فرفع إليه الذراع فكانت تعجبه، فنهس منها نهسةً، ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون لم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم؟ فيأتون آدم فيعتذر عن الشفاعة، فيأتون نوحاً فيعتذر، فيأتون إبراهيم فيعتذر، فيأتون موسى فيعتذر، فيأتون عيسى فيعتذر، ثم يأتون محمداً صلى الله عليه وسلم، قال: فأنطلق، فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد قبلي، ثم قال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي. فيقال: أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى)، وهذا الحديث له طرق في الصحيحين وغيرهما. والشفاعة العظمى دل عليها ظاهر القرآن كما في قوله تعالى: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] فإن المقام المحمود في تفسير السلف هو شفاعته صلى الله عليه وسلم.

الإيمان بنصب الموازين يوم القيامة

الإيمان بنصب الموازين يوم القيامة قال الموفق رحمه الله: [وتنصب الموازين، وتنشر الدواوين]. هذا كله حق على ظاهره كما دلت على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة، قال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102 - 103]، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [الأنبياء:47] وهذه الموازنة إذا ذكرت الموازنة على صيغة المقارنة فيراد بها الموازنة بين التوحيد والكفر، فقوله: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) أي: بالإيمان، (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) أي: بالشرك. وما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله وتبعه عليه ابن القيم في أهل الكبائر من المسلمين حين قالوا: إن أهل الكبائر من المسلمين ثلاثة أقسام: قوم فضلت -أي: زادت -حسناتهم على كبائرهم، قالوا: فهؤلاء لا يعذبون، ولا يمسهم شيء من الوعيد مع ما عندهم من الكبائر، بل يصيرون إلى الجنة ابتداءً. - وقوم تساوت حسناتهم مع كبائرهم من سيئاتهم، فهؤلاء لا يعذبون ولكنهم لا يدخلون الجنة ابتداءً، بل يحبسون عن الجنة زمناً ثم يدخلون إياها. - وقوم زادت كبائرهم وسيئاتهم على حسناتهم، فهؤلاء هم الذين يعذبون في النار قدراً ثم يدخلون الجنة. ويعد ابن حزم أول من فصل هذا التفصيل ونسبه لأهل السنة، وجاء ابن القيم رحمه الله فزاد على ذلك ما هو أشد من التصريح، فقال في هذه المسألة: "ومسألة الموازنة لا يعرف الحق فيها كثير من الناس"، وقال: "بل كثير من المنتسبين للسنة لا يعرفون إلا قول المرجئة، وأما قول الصحابة والتابعين فإنهم لا يعرفونه، وهو: أن أهل الكبائر على ثلاثة أقسام". ثم ذكر هذا التقسيم، فجعله ابن القيم رحمه الله قولاً للصحابة والتابعين، وجعل خلافه قول المرجئة. وهذا كله لا أصل له، وإن كان تكلم به ابن القيم رحمه الله فهذا ليس صحيحاً، ولم يعرف في كلام أئمة السنة المتقدمين هذا التفصيل، وابن القيم رحمه الله إنما نقل هذا عن أبي محمد ابن حزم في كتاب (الفِصَلَ)، مع أن ابن حزم أخف في التعبير والجزم من ابن القيم، فـ ابن القيم في طريق الهجرتين زاد في التعبير، وجزم أنه مذهب جميع الصحابة إلخ، وقد استدل ابن القيم بعموم قوله تعالى: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ)، وقوله: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) وهذا ليس وجه في القياس صحيح، فإن المقصود بهذه الآيات الإيمان والكفر، وهذا صريح في سياقها، ولهذا قال: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون:103 - 106]، فالسياق صريح في المؤمنين والكفار، فاستدلاله رحمه الله ليس في مقامه. ثم استدل بأن طائفة من الصحابة كـ جابر بن عبد الله وابن مسعود قالوا في أهل الأعراف الذين ذكرهم الله في سورة الأعراف: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف:46] إلخ، قال: إن أهل الأعراف هم من استوت حسناتهم مع سيئاتهم، وأنهم يحبسون عن الجنة. أولاً: هذا ليس إجماعاً للصحابة، بل إن صح فهو تفسير لعدد من الصحابة قد لا يصلون إلى العشرة، وروي عن ابن عباس، واختلف قول ابن عباس في ذلك عن ابن مسعود. ثانياً: أن هذا غير منضبط صحته عن الصحابة، ولهذا فإن ابن جرير رحمه الله منهجه في التفسير أنه إذا فسر الآيات وللصحابة قول؛ لا يعارضه، لكنه هنا لما ذكر قول ابن عباس وابن مسعود وجابر بن عبد الله ذكر أقوالاً ثمانية في الأعراف، وهذا مما يدلك على أن أهل الأعراف ليس فيهم إجماع: أنهم من تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، بل السلف مختلفون فيهم. وقال ابن جرير: "الصواب أن الله أعلم بشأنهم"، ولم يجزم بأنهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم. إذاً: هذا التفصيل من ابن القيم وابن حزم ليس صحيحاً، وقد دخل على ابن القيم رحمه الله قدر من كلام ابن حزم بعض المسائل، وهذه من أخصها. ومن الذي يستطيع أن يجزم بأن من زادت سيئاته ولو بواحدة أنه يعذب في النار؟ لا يمكن لأحد أن يجزم به، وليس في كتاب الله ذكر ذلك، وإنما الذي في الكتاب وأجمع عليه السلف هو الإيمان بالموازنة، والإيمان بالشيء المجمل لا يستلزم العلم به مفصلاً، والموازنة مردها إلى عدل الله ورحمته وحكمته. وقد وصف ابن تيمية رحمه الله القول الذي انتصر له ابن حزم وابن القيم فقال: "هذا قول طائفة من المنتسبين إلى السنة من أصحابنا وغيرهم". وهذا تهوين منه لهذا القول، وأنه ليس من الأصول المجمع عليها عند الصحابة كما يقول ابن القيم رحمه الله. إذاً .. أن هذا قول غلط، والصواب التوقف، فيقال: الإيمان بالموازنة أصل، ولكن هذا مرده إلى عدل الله وحكمته ورحمته، والله سبحانه وتعالى هو الذي يحكم بين العباد، ولا يوصف بهذا الوصف المفصل، بل يقال على قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47] والقسط هنا صفة لهذه الموازنة، وهذا من لطيف اللغة. أن القسط مفرد مذكر، والموصوف جمع، مع أن القاعدة أن الصفة تطابق الموصوف، لكن هذا الأسلوب هو السليم في اللغة، تقول: هذه المقالات الغلط، والجواب عن هذا أن النعت هنا مصدر، ولهذا قال ابن مالك: ونعتوا بمصدر كثيرا ... فالتزموا الإفراد والتذكيرا

الحوض والآثار الواردة فيه

الحوض والآثار الواردة فيه قال الموفق رحمه الله تعالى: [ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حوض في القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأباريقه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً]. كذلك مما يجب الإيمان به حوضه صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، وهذه الجمل التي ذكرها المصنف في صفة هذا الحوض جاءت صريحة في السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر حوضه في أحاديث متواترة تواتراً معتبراً في الشرع والعقل واللغة واعتبار الأئمة، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما من غير وجه، وإذا قيل: هل ورد ذكر الحوض في القرآن؟ الجواب: نعم. ورد ذكره في القرآن على قدر من الإجمال كذكر مقام الشفاعة، فإن الله تعالى قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]. وفي الصحيح عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً وهو يضحك، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟! قال: أنزلت عليَّ آنفاً سورة، ثم قرأ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] حتى ختم السورة، فقال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً) فذكر الكوثر في كتاب الله يتضمن ذكراً للحوض بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآية. وعليه فإنه يقال: إن حوضه صلى الله عليه وسلم مما أجمع السلف على الإيمان به، وصفته كما ذُكر في حديث أبي ذر وجابر بن سمرة وأبي هريرة وجماعة من الصحابة: أن طوله شهر، وعرضه شهر، وآنيته عدد نجوم السماء، وهكذا وصفه صلى الله عليه وسلم تارة بالمقدار الزماني، كقوله: (طوله شهر وعرضه شهر) وتارة بالمقدار المكاني، كقوله صلى الله عليه وسلم: (حوضي ما بين مقامي هذا إلى صنعاء اليمن)، وكقوله: (ما بين جرباء إلى أذرع) وهما بلدان في الشام إلى غير ذلك، فهذه أوصاف عرض حوضه صلى الله عليه وسلم كما ذكر. وإن كان بعض شراح الأحاديث وقع عندهم شيء من التكلف في مقدار الحوض كما يقع أحياناً في لزوم الجواب عن مثل هذه التساؤلات: فمنهم من قال: إنه ابتدأ بمقدار ثم زيد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما جاءه الوحي بزيادة في قدر هذا الحوض حدَّث به، فهذا هو وجه تعدد الروايات على قدر من الزيادة في بعضها دون بعض .. إلى آخره، هذا فيما يظهر قدره من التكلف. والعرب إذا تكلمت بمثل هذا الكلام لم ترد بالضرورة الأقيسة الرياضية والهندسية الدقيقة المطردة من كل وجه، إنما هو إشارة إلى معنىً عام. فهذا الاستدراك في أصله ليس له موجب، وإنما يُعمل بهذه الأحاديث على إطلاقها. ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أن قوماً يذادون عن حوضه كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح، قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وددت أنا قد رأينا إخواننا، قلنا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد) ولهذا من أدركه وآمن به يسمى صاحباً له، ومن لم يدركه يسمى من إخوانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. (قلنا: يا رسول الله! كيف تعرف من لم يأتِ بعد من أمتك؟ قال: أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ثم قال: ألا ليذادُّن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم! ألا هلم! فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً) وفي رواية في البخاري قال: (فأقول: أصحابي أصحابي، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك).

استدلال الشيعة بحديث الحوض على ردة الصحابة والرد عليهم

استدلال الشيعة بحديث الحوض على ردة الصحابة والرد عليهم تمسك بعض الشيعة بلفظ (أصحابي) في الحديث السابق، وزعموا أن هذا دليل على ما حصل من نفاق وردة الصحابة، أو مروقهم عن هديه وسنته إلى آخره. والجواب أن نقول: هذا ليس بشيء، فإن قوله: (أصحابي) لا يراد بالصاحب هنا الأصحاب الذين حققوا الصحبة، وإنما يراد من هم في ظاهر أمرهم من الأمة. وفي كتاب الله تارة يدخل المنافق في عموم المسلمين، وتارة يخرج منهم، كقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:18] فجعلهم مضافين إلى المؤمنين، قال: {وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ} [الأحزاب:18] فذكر اسم الأخوة هنا، مع أن المنافق عند التحقيق ليس أخاً للمؤمن، {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] .. {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] فهذا التمييز في كتاب الله لا ينافي الجمع في مكان آخر، فالتمييز في مثل قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ومثل قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة:56] هذا تمييز لا ينافي الجمع المذكور في مثل قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:18].

الصراط وأحوال الناس فيه

الصراط وأحوال الناس فيه قال الموفق رحمه الله: [والصراط حق يجوزه الأبرار، ويزل عنه الفجار]. ومما يجب الإيمان به الصراط، وهو يُنصب على متن جهنم، ويمر عليه الناس، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71] أي: يرمون على الصراط، وهذا هو التفسير الصحيح للآية. وأما من قال: إن الورود هو لفحة من لفحات النار فهذا ليس صحيحاً، فإن المؤمنين الأبرار المتقين من الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين لا يمسهم شيء من أثر النار وإن كانوا يمرون على الصراط. وقد جاء في حديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن العباد يمرون على الصراط، فيمر أولهم على صورة القمر، ثم ذكر أحوالهم في المرور، ومقدار مرورهم، كمرور الريح، وكأجاود الخيل والركاب .. وما إلى ذلك، ومنهم من يخطف وهو على الصراط فيقع في نار جهنم .. ومنهم من يتعثر فيلحقه مقام من مقامات الشفاعة، وذكر عليه الصلاة والسلام أن الأمانة والرحم تقومان على جنبتي الصراط، وأن الأنبياء والمرسلين يقولون: اللهم سلِّم سلِّم. فهذه بعض مواقف الصراط يجب الإيمان بها على ظاهرها، كما يجب الوقوف على نصها الصريح فقط، وأما المعنى الذي لم يتضمنه النص الصريح مما يفرض العقل الاستفصال عنه فإن الواجب السكوت عنه. وأيضاً: ثبت الصراط على وجه التحديد، وكذلك بعض مسائله، وقد روي فيه روايات منكرة في بعض كتب الرواية -ولا سيما في كتب الوعظ وذكر الجنة والنار والمآلات وما إلى ذلك- ذُكر في الصراط روايات منكرة في صفته وهيأته وما إلى ذلك، فهذا يعتبر فيه الثابت ثبوتاً بيناً، وأما ما تردد في ثبوته فإنه يسكت عنه.

الشفاعة وأنواعها

الشفاعة وأنواعها

الشفاعة العظمى

الشفاعة العظمى قال الموفق رحمه الله: [ويشفع نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر، فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحماً وحمماً، فيدخلون الجنة بشفاعته]. شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وله صلى الله عليه وسلم شفاعات أعظمها وأجلها الشفاعة العظمى، وهي: شفاعته في أهل الموقف أن يُفصل بينهم، وقد أجمع المسلمون سُنيِّهم وبدعيِّهم على هذه الشفاعة، وذكرها في السنة متواتر، وقد ذكرت مجملة في القرآن كما قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] فإن المقام المحمود هو الشفاعة العظمى.

الشفاعة لأهل الكبائر

الشفاعة لأهل الكبائر وله صلى الله عليه وسلم شفاعات كشفاعته في أهل الكبائر وهي على وجهين: الوجه الأول: شفاعته فيمن دخل النار من أهل الكبائر أن يُعجَّل خروجه منها، وهذا أفصح من أن تقول: أن يخرج منها؛ لأن معنى ذلك أن الشفاعة لو لم تدركه لبقي، وهذا غير صحيح، فإن جميع من يخرج من النار لا يخرجون بشفاعة الأنبياء وإنما يخرجون من النار بوعد الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يُخلَّد في النار إلا من كفر به. فإذا قيل: إن صاحب الكبيرة ليس مخلداً في النار، فما معنى الشفاعة له؟ قيل: معناها أن يعجل خروجه منها قبل استتمام عذابه الذي قضاه الله وعيداً عليه، فهذا هو معنى الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم، وليس معناه: أن الشفاعة لو لم تدركه لبقي مخلداً في النار، فإنه لا يخلد في النار إلا الكفار. وهذه الشفاعة ثابتة بحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي سعيد الخدري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس منكم أصابتهم النار بذنوبهم أو بخطاياهم فأماتهم الله إماتة، حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ...) إلى آخره. فهذه الأحاديث واردة من حديث أبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة في الصحيحين وغيرهما تدل دلالة صريحة على ثبوت الشفاعة، وخروج أهل الكبائر من النار، وفيها تصريح بدخول طائفة وخروجها، هذا وجه في شفاعته منصوص عليه في صريح السنة. الوجه الثاني: شفاعته فيمن استوجب النار من أهل الكبائر أن لا يدخلها، وهذا يدل عليه عموم أحاديث الشفاعة، كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيح: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) وفي حديث يرويه سبعة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وإن كان هذا الحديث فيه كلام، لكن من أهل العلم من اعتبره. والشاهد من هذا أن عموم شفاعته لأهل الكبائر تدل على أنه يشفع فيمن استوجب دخول النار أن لا يدخلها، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام شفع فيمن دخل النار فلا شك أن من لم يدخل النار أقرب إلى هديه وسنته ممن دخلها، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، ولا شك أنهم أقرب إلى العفو والرحمة ممن دخل النار، وعليه فإن هذه الشفاعة ثابتة وداخلة في كلام السلف، وما ذكره بعض أهل العلم كالإمام ابن القيم رحمه الله عندما قال: "وهذا النوع من الشفاعة ليس فيه صريح إلى آخره"، فهذا ليس على إطلاقه، بل هذه الشفاعة ثابتة بإجماع أهل السنة والجماعة، فإن السلف إذا ذكروا الشفاعة لأهل الكبائر أرادوا بها هذا وهذا، وإن كان النوع الأول جاء تفصيله في النصوص أكثر. وهذا النوع من الشفاعة أنكره الخوارج والمعتزلة بناءً على أصلهم الفاسد: أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، وأقر بها جمهور المسلمين، وهي إجماع عند أهل السنة والجماعة. وإذا قيل: هل جاء ذكرها في كلام الله؟ الجواب: جاء ذكرها في القرآن مجملاً، فذكر الشفاعة التي يأذن الله بها لمن يشاء ويرضى. وهذه الشفاعة ليست خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تكون له ولغيره من الأنبياء والمرسلين ومن شاء الله من الصديقين والصالحين، ولكن قيل: كل شفاعة ليست خاصة فإن حظه صلى الله عليه وسلم ومقامه فيها أتم من مقام غيره، ومقامه في هذه الشفاعة أتم من مقام سائر الأنبياء فضلاً عمن دونهم.

الشفاعة لأهل الجنة بتعجيل دخولهم ورفع درجاتهم

الشفاعة لأهل الجنة بتعجيل دخولهم ورفع درجاتهم ومن شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة أن يعجل دخولهم ويرفع درجاتهم، فهذان وجهان من الشفاعة لأهل الثواب، وهذه الشفاعة أقر بها المعتزلة والخوارج في الجملة، وليس فيها نزاع مشهور بين أهل القبلة، وإن كان بعض غلاة أهل البدع أنكرها كما قال ذلك شيخ الإسلام: "ونقل بعض الغلاة من الوعيدية الإنكار لمثل هذا النوع من الشفاعة، وإذا قيل -أي: إنكارها- ففي الغالب أن إنكارها على أصول المعتزلة أظهر منه على أصول الخوارج؛ لأن المعتزلة يعتبرون في أصولهم: أن الثواب والعقاب على مبدأ المعاوضة، ومن هنا يمتنع عندهم الزيادة والنقص فيه؛ ولهذا يترددون في مسألة الزيادة والنقصان فيه لأنهم يعتبرونه من باب الظلم، إذا زيد أحد فإنه نقص لغيره، أو عدم عدل مع غيره .. إلخ". أما جمهور المعتزلة فهم يثبتون هذا النوع من الشفاعة، وهو الذي عليه جمهور المسلمين وهو إجماع لأهل السنة. إذاً: هذه الشفاعة الثالثة يقال فيها ما يقال في الثانية: أنها ليست خاصة برسول الله، بل تكون له ولغيره، ولكن مقامه أتم.

شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب

شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب وهذه الشفاعة خاصة به صلى الله عليه وسلم وخاصة بـ أبي طالب، وهذا خاص به وخاص لـ أبي طالب، فليس هناك نبي أو رسول أو غيرهم يشفع لكافر، فإن الكفار محجوبون عن الشفاعة، كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] أما أبو طالب فإن النبي صلى الله عليه وسلم اختصه بهذه الشفاعة وعداً من الله. وإذا قيل: إن هذا الحديث معارض لظاهر القرآن! قيل: هذا ليس صحيحاً، إنما هذه حالة مخصوصة لـ أبي طالب، والذي ذكر في القرآن هو مسألة العذاب من جهة رفعه، وأما من جهة درجات العذاب فإن هذا لم يذكر شأنه في القرآن، وأبو طالب لم يحصل له بالشفاعة رفع العذاب عنه وإنما حصل له قدر من ماهية العذاب، ولهذا فإن العباس لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم، هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار). وهنا سؤال هل النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه الشفاعة لـ أبي طالب وأن يخفف عنه العذاب فأجابه الله إلى ذلك فخفف عنه العذاب، أم أن الأمر هو أن الله قضى لـ أبي طالب هذا القضاء بسبب حاله مع الرسول صلى الله عليه وسلم؟! الجواب: لا يلزم أنه سأل ربه ذلك، لكن الله أخبره أن عمه على هذا القدر من العذاب بسببه، ولولا مقامه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان على هذا القدر، بل كان أشد. ونقول: إن الأصل والمناسب لأصول الشريعة أن هذا هو قضاء الله، إلا إذا جاء نص صريح في السنة النبوية يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع وسأل ربه لعمه سؤالاً مختصاً فأجيب إليه، فإن قوله عليه الصلاة والسلام للعباس لما سأله لا يلزم منه أنه حصل هذا عن عن سؤال، إنما كان هذا عن إخبار من الله للنبي في شأن عمه، وبين الله لنبيه أن هذا بسبب حاله مع رسول الله. إذاً .. الأصل وظاهر بعض النصوص في الصحيحين وغيرهما أن هذا كان من قضاء الله المحض الذي ليس فيه شفاعة، ولكنه قرن بسببه صلى الله عليه وسلم، فما درج عليه شفاعته لـ أبي طالب فلا نجزم فيها بنفي، لكن نقول: هذا معتبر بثبوت النص، فإن ثبت نص صريح في أن النبي شفع له قيل: هذه شفاعة أجيب إليها. وإن لم يثبت قيل: هذا قضاء الله، ولكن ذكر سببه وهو مقامه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الفهم إذا لم يوجد نص هو الذي يصار إليه ولا يعدل إلى غيره، وكما هو مذكور في الحديث أنه ليس إخراجاً من النار وإنما هو تخفيف من شأن عذابه، وهذا دليل على أن أبا طالب كان كافراً خلافاً لما زعمته بعض طوائف الشيعة أنه أسلم إلى آخره، فإن هذا كله من الكذب الذي ليس بشيء. وباختصار: فإن مسألة أبي طالب تحتاج إلى تعمق وتتبع للنصوص، فإذا لم يصح فيها نص بذكر الشفاعة فلا تعد من مسائل الشفاعة وإنما تعد من قضاء الله المختص بـ أبي طالب، وأما إبراهيم فإنه يشفع لأبيه فلا يشفعه الله فيه كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول إبراهيم لأبيه: ألم أقل لك: لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله له: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم! انظر ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ -أي: أن صورة آزر تقلب إلى سبع- فيقول إبراهيم: بعداً بعداً، فيؤخذ بقوائمه إلى النار) فلا تقبل شفاعة نبي أو رسول في أحد من أقاربه أو من غيرهم، إنما هذا خاص بـ أبي طالب. والأظهر أنه قضاء من الله سبحانه وتعالى وليس عن شفاعة، وهذا هو الأنسب في الأصول، وهو المناسب لظاهر القرآن في قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وقوله تعالى في شأن أبي طالب: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113] وإن كان هذا في الاستغفار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي) وكذا في قصة نوح مع ابنه. ولهذا لك أن تقول: إن فيه خصوصية لـ أبي طالب؛ لأن قائلاً قد يقول: وغيره من الكفار الذين لهم بعض الحسنات هل يخفف عذابهم بحسناتهم كمن يبذل المال أو الماء أو العتاق أو يبذل في بعض وجوه الخير؟ الجواب: النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أنس الذي رواه مسلم وغيره: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها) والمراد بالحسنة هنا: لا يلزم أن الكفار ما يعرفون الخير، فالله يقول: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] وهذه كلها أوجه من الخير تصدر من المسلم والكافر، ولهذا قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114] أي: في الآخرة، ولهذا فإن الكافر قد يفعل الخير على مثل هذا الوجه. أبو طالب لم تكن حسنته لوجه الله سبحانه وتعالى، إنما كانت حسنة مع رسول الله من أجل القرابة والصلة والسؤدد .. إلى آخره من أوجه المقاصد عند أبي طالب، لم يجز عليها في الآخرة.

شبهة المعتزلة في نفي الشفاعة والرد عليها

شبهة المعتزلة في نفي الشفاعة والرد عليها قال الموفق رحمه الله: [ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات، قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28] ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين]. قوله: (والمؤمنين) ليس المراد أن جملة أعيان المؤمنين يشفعون، فإن هذا ليس بلازم، وإنما من يقضي الله له سبحانه وتعالى بمقام من الشفاعة بشرط إذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع له. وقد استدل الخوارج والمعتزلة على نفي الشفاعة بقوله: {إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، حيث قالوا: وهذا دليل على أنها لا تكون لأهل الكبائر، بل تكون لأهل الثواب في رفع الدرجات ونحو ذلك؛ لأن شرطها أن يأذن الله ويرضى، الإذن للشافع والرضا عن المشفوع له. قالوا: وصاحب الكبيرة ليس مرضياً عند الله لكبيرته، وإنما المرضي عنده صاحب الثواب؛ فهذا هو الذي يشفع له في رفع درجاته، فإن الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه الأبرار الصالحون الذين ذكرهم في مثل قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:18] .. {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، فالفجار والفساق وأهل الكبائر ليسوا ممن رضي الله عنهم! ويجاب على ذلك بأن يقال: إن الأسماء والأوصاف والإضافات في كتاب الله بحسب مواردها، فالرضا هنا يراد به عن أصل التوحيد، فإن صاحب الكبيرة هل يقال: إن الله لم يرض عنه مطلقاً، أم أن الله رضي عنه توحيده وإسلامه الأصل؟ فبقدر ما يقال: إنه ممن غضب الله عليه إلا أن له حالة من الرضا، فإذا كانت كبيرته موجبة لغضب الله فإن حسنته موجبة لرضاه، فمن قال: إنه قد غضب عليه بالكبيرة، قيل: فلم لم يرض عنه بالطاعة؟ لماذا رضي الله عن الصحابة؟ لأنهم أصحاب حسنات. ولماذا غضب على الكفار؟ لأنهم أصحاب سيئات محضة. فإذا اجتمعت حسنة وسيئة فمن قال: إنه يستحق الغضب قيل: أليس بأولى أن يستحق الرضا؟ فإن موجب الغضب هو السيئة، وموجب الرضا هو الحسنة، وصاحب الكبيرة كما أن له سيئة إلا أن له حسنة أعظم من سيئته. إذاً .. قوله: (ويرضى) إبانة لامتناع الشفاعة في حق الكفار، وهو معنى قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48].

شرح لمعة الاعتقاد [15]

شرح لمعة الاعتقاد [15] يجب الإيمان بالجنة والنار، وأنهما مخلوقتان الآن، وأنهما لا تفنيان أبداً، فأهل الجنة فيها خالدون، وأهل النار فيها خالدون، والقول بفنائهما أو بفناء النار فقط قول مبتدع محدث لا دليل عليه من الكتاب ولا من السنة، وأول الأمم دخولاً الجنة هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، صاحب اللواء المعقود، والحوض المورود، والمقام المحمود.

الإيمان بالجنة والنار

الإيمان بالجنة والنار قال الموفق رحمه الله: [والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، فالجنة مأوى أوليائه، والنار عقاب لأعدائه]. الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن، وغلط من قال من أهل البدع: إنهما تنشآن عند موافاة الناس لربهم، بل الصواب الذي قضت به النصوص وأجمع عليه السلف: أن الجنة والنار مخلوقتان، والنبي عليه الصلاة والسلام أُري ذلك في يقظته ومنامه، وجاء ذكر ذلك في الكتاب والسنة على التفصيل. ومسألة دوام الجنة أمر مجمع عليه بين السلف إجماعاً قطعياً، ومن شذ فيه فإنما هو من ضلالات وغلو من قد يفرض ضلاله أو شذوذه من أهل البدع. وأما النار، فإنها دائمة كدوام الجنة، وكان جهم بن صفوان لا يذهب إلى دوامها، وكذلك أبو الهذيل العلاف، وإن كان بين القولين فرق معروف في كتب المتكلمين، فهذان القولان من أقوال أهل البدع. وهناك قول ثالث انتصر له ابن القيم رحمه الله في كتابه: حادي الأرواح. لابد لنا أن نعرف أن بين هذه الأقوال اختلافاً بيناً، فأشذها قول الجهم، ثم أقل منه قول أبي الهذيل العلاف، وهذان القولان من أقوال أهل البدع المعروفة، وابن القيم ذكر قولاً نذكره في مسألتين: المسألة الأولى: أن القول الذي أشار إليه ابن القيم ليس قول أبي الهذيل ولا قول الجهم بن صفوان، ولهذا من رد على ابن القيم رحمه الله وقال: إن قوله هذا هو قول أبي الهذيل وجهم بن صفوان، هذا غلط على ابن القيم وزيادة عليه رحمه الله، والعدل واجب، والإنصاف لازم. المسألة الثانية: أن ما جمعه ابن القيم في كتابه: (حادي الأرواح) من الآثار والأدلة فيه زيادة، فإن صح فهو اجتهاد من ابن القيم، أن عمر وجماعة من الصحابة وكبار أئمة التابعين كانوا يقولون بهذا القول، وهذا عليه ظواهر النصوص .. إلى آخره، وافترق عليه السلف .. والجمع بين الفريقين .. إلى آخر تعبيرات ابن القيم رحمه الله. فالمسألة لم تكن بهذا القدر أبداً عند السلف ولهذا لم ينتشر الخلاف فيها في كتب أهل السنة الأولى، ففيه تصوير زائد في المسألة، وإنما هذا قول يسير من أهل العلم فهموا هذا الفهم، وابن القيم مال إليه في هذا الكتاب ميلاً أو مقاربة أكثر منه إلى التصريح، فإنه يُقدم ثم يحجم رحمه الله عن التصريح والجزم. وفي كتابه: (الوابل الصيب) عندما ذكر هذه المسألة نص على أن مذهب أهل السنة والجماعة: أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان ولا تبيدان، وهذا قول مجمل، فهل ابن القيم رحمه الله اعتبر القول الذي ذكره في الوابل وكان متردداً في القول الثاني الذي ذكره في حادي الأرواح؟! المسألة الثانية: أن ذكر ابن القيم رحمه الله لآثار سلفية، وانقسام أهل السنة .. إلى آخره، المسألة ليست بهذا القدر، لم ينتشر الخلاف فيها في كتب أهل السنة الأولى ولا بين السلف، إنما ظاهر كلامهم المنقول عنهم -وهو الدوام- كما هو ظاهر كتاب الله وسنة نبيه. مسألة: هل يقول ابن تيمية رحمه الله بفناء النار؟ كتب شيخ الإسلام رحمه الله ليس فيها ذكر لهذا القول أبداً، وإنما هناك رسالة محققة منسوبة لـ شيخ الإسلام ابن تيمية فيها جزم وتصريح بهذا القول، ونسبتها إليه لا تصح فهو غلط. وشيخ الإسلام في كتبه نص في مواضع كثيرة على أن الجنة والنار لا تبيدان ولا تفنيان، وذكر أن هذا إجماعاً عند أهل السنة والجماعة، وأن خلافهم من أقوال أهل البدع، وما نطق بحرف واحد في كتبه المعتبرة المضبوطة عنه بأن النار تفنى. وعلى فرض الجدل أن ابن القيم أو ابن تيمية رحمه الله يقول بفناء النار، فهذا اجتهاد قد انفردا فيه، وفاتهم فيه شيء، وأمره يسير، ولا يكون من المسائل المشكلة على طالب العلم.

أهل الجنة والنار مخلدون

أهل الجنة والنار مخلدون قال الموفق رحمه الله: [وأهل الجنة مخلدون: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف:74] * {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75] ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: (يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت)]. هذه المسألة من الأحكام الغيبية التي يجب الإيمان بها من أن الموت يؤتى به في صورة كبش، وهذا من جنس قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي أمامة في الصحيح: (تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف) مع أن القرآن -ومنه سورة البقرة- هو كلام الله، فهذا ليس معناه أن كلام الله ينقلب إلى أعيان مخلوقة، فإن كلامه سبحانه وتعالى صفة من صفاته في هذه الدنيا، وإذا قام الناس إلى ربهم سبحانه، فإنه يجيء ثوابهما؛ لأن صفات الله سبحانه وتعالى لها أثر، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بها يتراحم الناس، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأبقى تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة). فصرح في الحديث بلفظ (الخلق) مع أن رحمة الله صفة من صفاته ليست مخلوقة، وهذه قاعدة أشار إليها شيخ الإسلام، -وإن كانت الرواية الأولى في صحيح مسلم ليس فيها ذكر الخلق، إنما فيها: (إن لله مائة رحمة). ومنهم من قال بشذوذ رواية (للخلق)، وهذا لا موجب له من جهة المتن، فإن ابن تيمية رحمه الله ذكر قاعدة وهي: "أن الاسم قد يذكر ويراد به الفعل الذي هو الصفة، وقد يذكر الاسم ويراد به المفعول"، وهذا أثر من آثار هذا الاسم، كتسمية المطر من رحمة الله، فهذا أثر عن رحمة الله سبحانه وتعالى.

الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من أركان الإسلام

الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من أركان الإسلام قال الموفق رحمه الله: [ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين، لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته، ولا يقضى بين الناس في القيامة إلا بشفاعته]. هنا مسألة تكلم عنها كثير من المتأخرين من أهل العلم، وهي: من شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله، فهل يقال: إنه بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الإسلام ويعتبر مسلماً، أم يقال: إنه لا يدخل الإسلام إلا بالشهادتين معاً؟ الجواب: لا يثبت الإيمان والإسلام إلا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لكن هل يلزم على هذا أن من قال: لا إله إلا الله وقصد بها الدخول في دين الإسلام، والبراءة من الكفر، وهو على إقدام في قلبه بذكر شهادة أن محمداً رسول الله، وبمن جاء به نبياً رسولاً، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، من قال هذه الكلمة وقصد معنى شهادة أن محمداً رسول الله في ضمنها؛ فإن هذا دخل في الإسلام إجماعاً، وما حَكَمَ من المتأخرين بخلافه فليس بصحيح؛ لأن لا إله إلا الله تتضمن الدين كاملاً، ولهذا يقال: من كفر برسول الله فقد كفر بالله، إذاً: يحمل حسب المعاني القائمة في القلب. أما من قال: لا إله إلا الله ولم يقصد الإيمان برسوله، وإنما قال: أنا أؤمن بالتوحيد دون أن يلزم بشريعة محمد ويكون على شريعة غيره أو ما إلى ذلك، هذا لم يكن مسلماً، وكثير من المتأخرين يقول: لأنه لم يصرح بشهادة أن محمداً رسول الله .. ، والصواب أنه كفر؛ لأن قوله: لا إله إلا الله ليست صحيحة، فإن من يقول: لا إله إلا الله ولا يؤمن برسول الله شهادته بالتوحيد شهادة باطلة؛ لأن معنى لا إله إلا الله: أن الله هو المعبود وحده بما شرع، فمن يقول بالتوحيد دون شريعة محمد فحقيقة قوله: أن الله معبود عنده بما يهواه، وليس بما شرع الله، والتوحيد شريعة وإخلاص، ولهذا فإن من عبد الله بهواه لا يكون عابداً له، وكذا كل من انسلخ من الشريعة لم يكن محققاً للإخلاص والتوحيد، إلا أصحاب الشرائع النبوية، ولهذا فإن من فسدت شريعته في أصولها فسد توحيده كاليهود والنصارى، فإنه لما فسدت شريعتهم دخل عليهم الشرك، وهكذا. أيضاً: كلمة لا إله إلا الله تتضمن الرسالة النبوية، وكلمة الرسالة النبوية تتضمن التوحيد، وعليه فإذا قيل: هل يدخل الإسلام بلا إله إلا الله أو بالثانية معها؟ قيل: هذا بحسب المقامات والمعاني، ولهذا من يقول من المتأخرين: إنه لا بد من ذكر محمد رسول الله. نقول: نعم، لا شك أن من لم يؤمن برسول الله فهو كافر، وأن الشهادة له صلى الله عليه وسلم بالرسالة واجبة معنىً ولفظاً، وركن في الإسلام، فالإسلام بني على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فمن أركان الإسلام النطق بالشهادتين معاً، من لم ينطق بهما، أو امتنع عن النطق بشهادة أن محمداً رسول الله، وقال: هي قائمة في قلبه لكنه لا يريد أن ينطق بها فإنه يكون كافراً. لكن من قصد النطق بالابتداء الأول (لا إله إلا الله) فهذا من جنس قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أسامة بن زيد لما أدرك الرجل في القتال، فقال الرجل: لا إله إلا الله عندما رفع عليه أسامة السيف وكان الرجل يقاتل المسلمين فقتله أسامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟! فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!)، ومثله حديث المقداد بن الأسود لما قال: (أرأيت يا رسول الله إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله؟! قال: لا، قلت: فإن قتلته؟ قال: إن قتلته فإنك بمنزلته قبل أن تقتله، وإنه بمنزلتك قبل أن يقول كلمته التي قال) مع أن الرجل قال: أسلمت لله. إذاً: مسائل الابتداء ليست هي مسائل الثبوت الثاني، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعمه كما في حديث سعيد بن المسيب الذي في الصحيحين: (يا عم! قل: لا إله إلا الله) هل أراد النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكفيه ولو لم يؤمن بالرسالة؟! كلا، فإن هذه المسألة فيها تفصيل لفظي، وأما معانيها فإنها متفقة.

شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام في تعجيل القضاء بين العباد يوم القيامة

شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام في تعجيل القضاء بين العباد يوم القيامة قال الموفق رحمه الله: [ولا يقضى بين الناس في القيامة إلا بشفاعته]. يقصد المصنف بذلك الشفاعة العظمى، وهذه الكلمة لو لم يعبر بها المصنف لكان أشرف، فإن التعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم لا يجب أن يكون على حقوق الله. فقوله: (ولا يقضى بين الناس في القيامة إلا بشفاعته) الصواب: أنه يقضى بينهم ولو لم يشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى ما جاء بهم للفصل يوم الحساب إلا ليقضي بينهم، لكن هذا من تعجيل القضاء، فإذا قيل: هل شفاعته هي التي استوجبت القضاء، أم استوجبت تعجيله؟ نقول: هذه أحكام الله وحقوقه سبحانه وتعالى، لا يجوز أن يُصرف منها شيء لنبي من الأنبياء أو لرسول من الرسل. فتعبير المصنف فيه إجمال لو لم يعبر به لكان أجود. إذاً .. يقضي الله بين الناس قضاءً، وهذا وعد الله وقدره السابق، لكن إنما كانت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم سبباً للتعجيل.

أمة محمد صلى الله عليه وسلم أول الأمم دخولا الجنة

أمة محمد صلى الله عليه وسلم أول الأمم دخولاً الجنة قال الموفق رحمه الله: [ولا يدخل الجنة أمة إلا بعد دخول أمته]. النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يدخل الجنة كما في الصحيحين عن أنس: (آتي يوم القيامة باب الجنة فيستفتح، فيقول خازنها: من أنت؟ فيقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك) وكذلك أمته هي أول الأمم دخولاً الجنة. وقوله: (لا يدخل الجنة أمة إلا بعد دخول أمته) هذا فيه قدر من الإجمال، ولا يلزم من هذا أن سائر طبقات هذه الأمة يدخلون قبل دخول بقية الأمم، فإن الأمم الأخرى فيهم الأنبياء، ولا شك أن الأنبياء مقامهم أشرف حتى من مقام الصحابة، وكذلك فيهم قوم صالحون وصديقون أفضل من كثير من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن في أتباع محمد السابق بالخيرات .. والمقتصد .. والظالم لنفسه .. وصاحب الكبائر .. إلى آخره. إذاً .. أمة النبي صلى الله عليه وسلم أول من يدخلون الجنة من جهة ابتداء الأمم لا من جهة كل الأفراد والأعيان، فهذا أمر ممتنع، ومثل هذه اللزومات في كلام بعض أهل العلم فيها تكلف، ككلام ابن حزم رحمه الله لما قال: إن نساء الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل من العشرة المبشرين بالجنة؛ لأنهن نساؤه في الدنيا والآخرة، وإذا كن نساؤه في الجنة سيكن معه في درجته، ودرجته لا يبلغها العشرة المبشرون بالجنة! وهنا قيمة تكلف وظاهرية محضة من ابن حزم؛ لأنه لو لزم هذا المعنى للزم أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الأنبياء والمرسلين، فمثل هذه الأمور قياسات لا وجه لها.

من خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم

من خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم قال الموفق رحمه الله: [صاحب لواء الحمد، والمقام المحمود، والحوض المورود، وهو إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم]. هذه من خصائصه وفضائله صلى الله عليه وسلم، وفضائله وخصائصه صلى الله عليه وسلم أكمل من فضائل غيره في الدنيا والآخرة، ولكن مع ذلك يكون بعض المرسلين لهم مقامات يختصون بها، كعيسى فإن الله رفعه إليه، فهذا اختصاص في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام، ولا شك أنها منزلة لم يؤتها غيره من الأنبياء والمرسلين. يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة العرش -وفي وجه: بساق العرش- فلا أدري أفاق قبلي، أم جوزي بصعقة الطور) فهذا من مقامات التشريف لموسى، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم) فهذه تشريفات مختصة بالأنبياء. إذاً: لا يظن أن مقام الأنبياء أو أولي العزم من الرسل مؤخر على كل تقديم، بل هناك مقامات، ولكن الاعتبار بالتفضيل العام الشامل، وهذا هو معنى قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253].

شرح لمعة الاعتقاد [16]

شرح لمعة الاعتقاد [16] أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي خير الأمم، وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام، وهم في الفضل والمنزلة متفاوتون، فأفضلهم الخلفاء الراشدون، وأفضل الخلفاء أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ثم يليهم في الفضل باقي العشرة المبشرين بالجنة.

فضائل أمة محمد صلى الله عليه وسلم

فضائل أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال الموفق رحمه الله: [أمته خير الأمم، وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام]. هذا الفصل فيه ذكر لمقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته، وقد سبق شيء من ذلك وهو في قوله في هذا المقام [أمته خير الأمم] وهذا مجمع عليه، وهو صريح في كتاب الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ولكن هذا لا يستلزم أن يكون أعيان هذه الأمة خيراً من أعيان غيرهم، فإن هذا التفضيل إنما هو باعتبار الجنس ولا باعتبار الواحد من الأعيان، فإن في أعيان أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من هو خير من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. فأمته باعتبار جنسها ومجموعها هي خير الأمم وأشرفها وأزكاها على الله تعالى، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم من خصائصها وفضائلها: (أنهم يوافون نصف أهل الجنة) كما ثبت ذلك في الصحيحين في حديث أبي سعيد، وجاء من حديث عبد الله بن مسعود (أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قال: فحمدنا الله وكبرنا، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قال: فحمدنا الله وكبرنا. قال: والذي نفسي بيده: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة) وفي رواية: (شطر أهل الجنة)، فلا شك أنهم أقرب الأمم إلى ربهم. ومن فضائلهم: أنهم أكثر الأمم دخولاً الجنة، وهم يوافون نصف أهل الجنة، وقد جاء في حديث في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً، توافي هذه الأمة ثمانون منها) فهل هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم هنا ذكر أنهم ثلثا أهل الجنة أم أن هذا على معنى أنهم نصف أهل الجنة؟! من أهل العلم من قال: إن في هذا الحديث الذي رواه أهل السنن زيادة، فإن قوله: (أهل الجنة مائة وعشرون)، وهذه الأمة (ثمانون) فدل على أنهم على قدر الثلثين، وحقيقةً هذا ليس بلازم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر الصفوف، وهذا الفرض (الثلثان) مبني على تساوي الصفوف في العدد، وهذا الله أعلم به. إذاً: نقف حيث وقف النص، فيقال: إنهم نصف أهل الجنة، وأن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً ولهذه الأمة ثمانون منها، هل هذا زيادة أو ليس بزيادة؟ هذا أمره إلى الله.

أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم خير الأصحاب

أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم خير الأصحاب قال الموفق رحمه الله: [وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام]. أيضاً أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هم أفضل أصحاب نبي، فإن للأنبياء عليهم الصلاة والسلام أصحاباً، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن مسعود في الصحيح: (ما من الأنبياء نبي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بهديه، ثم تخلف من بعدهم خلوف) فذكر عليه الصلاة والسلام أن كل نبي له أصحاب وحواريون. وهذا باعتبار الجنس، وإلا ففي حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر مقام العرض قال: (ورأيت النبي وليس معه أحد) وظاهر النص يدل على أن بعض الأنبياء لم يصدقهم أحد ولا أتباع لهم، مع أنه قال في حديث ابن مسعود: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب).

فضل الخلفاء الراشدين

فضل الخلفاء الراشدين قال: [وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى رضي الله عنهم أجمعين]. أفضل أمته صلى الله عليه وسلم هم أصحابه، وأفضل أصحابه هم الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي. وهكذا وصفهم المصنف بهذه الصفات ورتبهم، وسلسلتهم على هذا القدر من الترتيب هو إجماع أهل السنة والجماعة، ولم يجادل في تفضيل أبي بكر وعمر إلا الرافضة الشيعة بوجه عام، فإن من الشيعة من يُثبت شأن أبي بكر في الجملة، لكنه يفضل علياً على أبي بكر وعمر، وهذا عليه جمهور الزيدية من الشيعة الذين يفضلون علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر. فتفضيل أبي بكر على سائر الصحابة هو إجماع أهل السنة، ولم ينازع في ذلك إلا الشيعة وبعض المعتزلة الذين ليس بالضرورة أن يفضلوا علياً أو غيره عليه، وإنما قد يقطعون مسألة التفضيل، وهذه طريقة من طرق غلاة المعتزلة: لا يرون تعيين الفاضل على المفضول. وقوله: [ثم عمر الفاروق] سمي بذلك لأنه كان فاروقاً في الحق، وأما ما يقال: إن الله فرق به بين الحق والباطل، وأنه بعد إسلامه جاهر الناس بالدعوة إلخ فلا شك أن إسلام عمر كان له أثر من ذلك، لكن هل هذا الاسم على هذا الوجه فيه تلازم؟ هذه مسألة ليست محررة على هذا المقدار. وقوله: [ثم عثمان ذو النورين] وهو زوج بنتي النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا سمي ذو النورين. وقوله: [ثم علي المرتضى] وهذا الوصف يسير لا جدل فيه ولا غلط، فإن علياً ممن رضي الله تعالى عنه، وهو من السابقين الأولين، فهذا مقصود المصنف بهذه الجملة، وليس هو من أوصاف الشيعة في شأن علي بن أبي طالب. قال الموفق رحمه الله: [لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أفضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي. فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره)]. هذا فيما يظهر ليس منضبطاً من جهة الرواية، فالمحفوظ عن ابن عمر أنه يقول: [كنا نقول على عهد رسول الله: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر] وأما أن فيه هذا التسلسل إلى آخره فلا أذكر أن هذا صحيح عن ابن عمر.

التفضيل بين عثمان وعلي رضي الله عنهما

التفضيل بين عثمان وعلي رضي الله عنهما وأما مسألة عثمان وعلي فلم تكن من المسائل القطعية البينة في صدر هذه الأمة؛ ولهذا كان فيها قدر من النزاع، أيهما أفضل: علي بن أبي طالب أم عثمان بن عفان؟ وهذه من المسائل التي فيها قدر من الاجتهاد، ولكن لك أن تقول: إن أمر الخلفاء الأربعة مبني على مسألتين: المسألة الأولى: مسألة الخلافة. المسألة الثانية: مسألة التفضيل. أما مسألة الخلافة فالإجماع منعقد ومطرد أن الخليفة الأول: أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علياً. أما مسألة التفضيل بين علي بن أبي طالب وعثمان، فكان قوم يذهبون إلى أن علي بن أبي طالب أفضل من عثمان، والجمهور يذهبون إلى أن عثمان أفضل، وقوم يتوقفون. والحق أن هذه المسألة في مبدئها لم تكن من المحكمات، فإن الذي كان مستفيضاً ومستقراً عند الصحابة في زمن الرسول وبعده هو تفضيل أبي بكر وعمر على سائر الصحابة، مع العلم بأن أبا بكر أفضل من عمر. أما مسألة عثمان وعلي فلم تكن من المسائل البينة المستفيضة المحكمة؛ ولهذا تنازع فيها طائفة من السلف، فكان طائفة يذهبون إلى تفضيل علي بن أبي طالب، وطائفة يذهبون إلى تفضيل عثمان، وطائفة يتوقفون. وإذا قلت: النصوص هي الحكم، فالنصوص ليست صريحة في تفضيل أحدهما كالنصوص المستقرة في شأن أبي بكر وعمر. وإذا قيل: إن الصحابة أجمعوا على تفضيل عثمان على علي، وقالوا: من لم يقدم عثمان في التفضيل فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار؛ لأن المهاجرين والأنصار قدموه في الخلافة، وما قدموه إلا لكونه الأفضل. وهذا الاستدلال فيه نظر من عدة أوجه: الجهة الأولى: أن المهاجرين والأنصار كان عندهم قدر من التردد في التقديم، والدليل على ذلك: أن عمر جعل الخلافة في ستة من الصحابة، وهؤلاء الستة كل منهم وضع حقه لواحد، فأحدهما وضع حقه لـ عثمان، والآخر وضع حقه لـ علي، فدل على أن من الصحابة الستة الكبار من كان يرى تقديم علي بن أبي طالب على عثمان. الجهة الثانية: أنه لو كان مستفيضاً عند الصحابة التقديم لـ عثمان لكان أولى بهذا التسليم علي بن أبي طالب، وما كان له، وما كان من شأنه أنه يكابر في الحق، فلو كان مستقراً عنده من السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان هو الأفضل وهو المقدم لما نازعه في مسألة الخلافة، فإن علياً لم يتنازل عن الخلافة. الجهة الثالثة: أن الأمر لما انحصر فيهما، وبدأ يشاور المسلمين في الخلافة، رأى أن أكثر المسلمين يقدمون عثمان، فهل هذا إطباق عند كل أعيانهم أم أنه أخذ الأمر بالأكثر؟ ظاهر الأمر أنه أخذ الأمر بالأكثر. الجهة الرابعة: أن آل البيت كانوا في ابتداء الأمر ينازعون في قضية أبي بكر قبل أن يتبين لهم الحق يظن فهل يظن أن آل البيت سيقدمون عثمان على علي؟! هذا بعيد، واضح أن آل البيت كانوا يرون أن لهم الخلافة من جهة أنهم آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: هذا الاستدلال ليس بمحكم؛ لأنه ليس بمستتم استتماماً تاماً. مسألة: أنه لو سلم جدلاً أن الصحابة أطبقوا إطباقاً كلياً على تقديم عثمان في الخلافة، فإن التقديم في الخلافة لا يستلزم التقديم في الفضل، فإن الخلافة معتبرة بالديانة والقوة، أي: حسن الأمانة الإدارية، وليست الأمانة الدينية، ولعل المسلمين كانوا يرون في عثمان من هذا الوجه أميز منه في شأن علي بن أبي طالب، وهذا لا يلزم أن يكون من جهة فضيلته الشرعية ليس مماثلاً أو مقارناً له أو ما إلى ذلك. إذاً: هذه المسألة ليس فيها نص محكم في تقديم عثمان على علي، ومن بابٍ أولى ليس فيها نص محكم في تقديم علي بن أبي طالب على عثمان، فهي مسألة فيها قدر من التردد، والجمهور على تقديم عثمان. لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: "وبعد ذلك استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان "، فهذا هو الذي يقال، لكن الاختلاف الأول حاصل، وهو اجتهاد باق لا ينكر على من خالف فيه -أي: من قال: إن علياً أفضل من عثمان، وعثمان مقدم في الخلافة- فهذا اجتهاد طائفة من السلف، وإن لم يُقَل: إنه راجح، فهذه مسألة أخرى. ولهذا فإن الصحيح في مذهب الإمام أحمد: أن من قدم علياً على عثمان في الفضل فهذه مسألة اجتهاد لا يبدع فيها المخالف، وإن كان الإمام أحمد حكي عنه رواية أخرى بتبديع المخالف، وهذا ليس بمحكمٍ في مذهبه، بل الصواب في مذهبه ما حكيناه سابقاً وهو الذي نصره شيخ الإسلام وإن كان الجمهور من أهل السنة -وهو الذي استقر عليه أمرهم- هو التقديم لـ عثمان، وهذا هو الراجح من جهة الترجيح، لكن من خالف في ذلك لا يسمى مبتدعاً. قال الموفق رحمه الله: [وصحت الرواية عن علي أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت لسميت الثالث)]. من هو الثالث؟ الله أعلم. وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها في الصحيح أنها كانت ترى لـ أبي عبيدة بن الجراح مقاماً، فترى أنه كان المستحق لثالث الخلفاء، فهذا فيما يظهر مقام تردد بين الصحابة رضي الله عنهم، لكن المجمع عليه عند أهل السنة والجماعة أن أفضل هذه الأمة أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان وعلي، فهؤلاء الخلفاء الأربعة هم أفضل الأمة بالإجماع وأفضل من أبي عبيدة بن الجراح، وما أشارت إليه عائشة لم يكن في مسألة التفضيل إنما كان في الخلافة، ومسألة الخلافة تختلف عن مسألة التفضيل. وأيضاً عمر لو كان مستقراً عنده أن ثمة تلازماً بين الفضل وبين الخلافة لجعلها في الفاضل عنده، سواء كان علياً أو عثمان، فما الذي جعله يجعلها في ستة؟ لأنه ليس هناك تلازم بين تفضيل المعين من جهة ديانته وبين صلاحيته أو تقديمه في مقام الخلافة، فالمقام فيه اشتراك لكن فيه امتياز.

أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين أبو بكر الصديق

أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين أبو بكر الصديق قال الموفق رحمه الله: [وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر)]. وهذا لا شك فيه: أن أبا بكر أفضل بني آدم بعد الأنبياء والمرسلين. قال الموفق رحمه الله: [وهو أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لفضله وسابقته، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة]. إجماع الصحابة على ذلك من المهاجرين والأنصار، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يستخلف أبا بكر في حياته، وكان يرد إليه كثيراً من الأمور، وهذا صريح في أنه أهل للخلافة من بعده، فقد استخلفه في الصلاة، وفي شورى الرأي وما إلى ذلك. فواضح من هدي رسول الله عليه الصلاة والسلام أن أخص الناس به أبو بكر، وجدال الشيعة في هذا الباب من المجادلة بالباطل، وآل البيت رضي الله تعالى عن صالحهم ممن كان من الصحابة أو من بعدهم ليس لهم حق من جهة الاختصاص بالخلافة، بل الخلافة معتبرة في ما اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم في قريش، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش). قال الموفق رحمه الله: [ثم من بعده عمر لفضله وعهد أبي بكر إليه، ثم عثمان لتقديم أهل الشورى له]. قوله: (لتقديم أهل الشورى له) هذه مسألة فيها بعض التردد، وإنه استدلال ليس بمحكم على التمام. قال الموفق رحمه الله: [ثم علي لفضله وإجماع أهل عصره عليه، وهؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)]. قوله: (وهؤلاء الخلفاء) أي: هم خلفاء الرسول في أمته، أما من كان من بعدهم فإذا سمي خليفة فبمعنى أنه مستخلف على المسلمين سلطاناً وملكاً، وهذا هو الفرق بين الاسمين من جهة المعنى، وإن كان بينهما اشتراك في اللفظ.

معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز

معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز قال الموفق رحمه الله: [وقال صلى الله عليه وسلم: (الخلافة من بعدي ثلاثون سنة) فكان آخرها خلافة علي]. بقي في هذه الثلاثين بضعة أشهر فقال بعض أهل العلم: إنها في إمارة الحسن بعد أبيه. والصواب أن هذا ليس بلازم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (ثلاثون سنة) لا يلزم من ذلك -في استعمال كلام العرب- أن تكون على التمام بسائر أيامها، وإنما هذا مثل ما حلف النبي عليه الصلاة والسلام أن لا يدخل على بعض أهله شهراً، قالت أم سلمة -كما في الصحيح-: (فلما مضى تسع وعشرون يوماً غدا عليهم أو راح، فقيل له: يا رسول الله! قال: إن الشهر يكون تسعةً وعشرين) مع أنه لم ير الهلال، إنما حلف شهراً في عرض شهرين، فلما أمضى ما بين الشهرين تسعاً وعشرين غدا عليهم أو راح، فهذا أمر مما تسوغه اللغة. ولهذا تعلم أن قوله: (الخلافة من بعدي ثلاثون سنة) لا يصح أن يقال: إن عمر بن عبد العزيز خليفة خامس، بل هذا من كلام بعض أهل العلم من العراقيين، وقد أنكره كبار المحققين كالإمام أحمد وأمثاله، وهو مخالف لحديث سفينة وهو حديث احتج به أحمد وغيره من أئمة السنة على معنى صحته. المقصود: أن عمر بن عبد العزيز خليفة عادل على هدي الخلفاء، لكن القول: إنه خليفة خامس ليس بذاك، إنما خلفاء الرسول في الأمة هم هؤلاء الأربعة فقط، وإن بقي شيء من هذه الخلافة النبوية فهي إمارة الحسن بن علي بن أبي طالب، ومعاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز، وأتم علماً وهدىً وتقوىً إلخ، وإن كانت من جهة مسيرة الرعية حصلت في زمن عمر بن عبد العزيز من العدل والاستقرار أكثر مما حصلت في زمن معاوية، وهذا ليس سببه معاوية، إنما سببه الأحوال التي كانت مقارنة، فـ عمر بن عبد العزيز جاء والملك مستتب مستقر إلخ، فكان العدل فيه يسيراً وسهلاً، بخلاف معاوية فإنه جاء لقوم بينهم تنازع، وقد نازعه أكابر القوم كـ ابن الزبير، وعبد الله بن عمر -وإن كان مستتراً بالمنازعة- والحسين بن علي جاهر بها إلى غير ذلك، فضلاً عن المنازعة السالفة عليه من علي بن أبي طالب وكبار الصحابة، ففرق بين الحالين، ولو كان أحد أولى بالخلافة الخامسة لكان أولى بها معاوية. ومن يقول: إن عمر بن عبد العزيز أعلم .. فقد غلط أيضاً، فإن معاوية أفقه وأعلم من عمر بن عبد العزيز، ولا إشكال في هذا.

الشهادة للعشرة بالجنة وكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم

الشهادة للعشرة بالجنة وكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم قال الموفق رحمه الله: [ونشهد للعشرة بالجنة كما شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة)]. هؤلاء هم العشرة المبشرون بالجنة، ولا يعني ذلك قصر البشارة النبوية عليهم، بل كل من شهد له النبي عليه الصلاة والسلام يقال: إنه في الجنة؛ وهذا متفق عليه بين أهل السنة، وإن كان حصل بين الإمام أحمد وابن المديني خلاف لفظي، فإن ابن المديني كان يقول: من قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم إنه في الجنة أقول: إنه في الجنة، ولا أشهد. فقال الإمام أحمد: إذا قلت فقد شهدت، فكان هناك تردد من ابن المديني في اللفظ. قال الموفق رحمه الله: [وكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها، كقوله: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) وقوله لـ ثابت بن قيس: (إنه من أهل الجنة)]. وأيضاً: شهادته لـ عكاشة بن محصن أنه من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فهذا أمر مشهور عن طائفة من الصحابة عينهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأما من سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو من سواد الأمة من أصحابه وغيرهم فهؤلاء يتوقف في شأنهم، فيرجى للمحسن ويخاف على المسيء. لكن ثمة مسألة حصل فيها قدر من النزاع بين أهل السنة: من استفاض ذكره والثناء عليه في الأمة من الأئمة والعلماء وأمثال هؤلاء هل يجزم أو يشهد لهم بالجنة، أم يتوقف فيهم كما يتوقف في من لم يستفض ذكره؟ هذا فيه قولان: الجمهور يرون التوقف، وأن الاستفاضة بالثناء لا تستلزم الشهادة بالتعيين، وهذا هو الصحيح. القول الثاني: أن من استفاض ذكره يُشهد له بالجنة، ويستدلون على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار) وهذا الاستدلال ليس بمحكم؛ لأن مراده صلى الله عليه وسلم أن الثناء أو الشهادة من موجبات الموافقة للحقائق في نفس الأمر عند الله تعالى، وليس معناه: أن من أثني عليه بخير لزم أنه مشهود له بالجنة، فهذا ليس داخلاً في نص الحديث ولا تضمنه، هذا مقام آخر لم يتضمن الحديث ذكراً له.

شرح لمعة الاعتقاد [17]

شرح لمعة الاعتقاد [17] من عقيدة أهل السنة والجماعة: عدم الجزم والشهادة لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار، إلا من جزم له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وعدم تكفير أحد من أهل القبلة بذنب يرتكبه إلا أن يكون الذنب شركاً وكفراً.

لا نجزم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار

لا نجزم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار قال الموفق رحمه الله: [ولا نجزم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار، إلا من جزم له الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء]. هذه قاعدة مطردة: أن من لم يشهد له النبي عليه الصلاة والسلام لا يجزم له بشيء من ذلك، ولا سيما الجزم بالنار، وهنا يقال: حتى من كفر من أهل البدع اجتهاداً، كأن يناظر أحد من علماء السنة مبتدعاً فيذهب إلى تكفيره، فلا يلزم ذلك بأن نجزم أنه من أهل النار، فهذا مقام آخر، فقد يكون هذا الاجتهاد في تكفيره ليس اجتهاداً صحيحاً في نفس الأمر.

ضابط تكفير أهل القبلة

ضابط تكفير أهل القبلة قال الموفق رحمه الله: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب]. هذه الجملة من جمل المتأخرين التي يقال: إن فيها إجمالاً، فإن قولهم: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) كلمة مجملة، فإن الذنب يدخل فيه الشرك الأكبر كما في الصحيحين: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) فسماه ذنباً. وإن كان قد يعتذر عن المصنف أن مراده من برئ من الشرك؛ لقوله: (من أهل القبلة)، فكأن هذه التسمية تخصيص للذنب بالكبائر وما دونها. أما أن يقال: إنها غلط .. أو إنها من عبارات المرجئة .. أو ما إلى ذلك .. فهذا ليس صحيحاً، وإنما هو من التكلف والزيادة، وأعظم ما يقال فيها: إنها جملة مجملة. وقطعاً: المصنف وغيره وكذلك المرجئة وعامة المسلمين لا يقولون: إن المسلم لا يكفر بذنب، فهذا ممتنع من المصنف أو المرجئة، فهم يذهبون إلى أن من أشرك بالله وكفر به فإنه يكون كافراً.

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة قال الموفق رحمه الله: [ولا نخرجه عن الإسلام بعمل]. هذه أيضاً جملة مجملة؛ فإن تارك الصلاة كافر عند جمهور من السلف، وكذلك تارك الزكاة المقر بوجوبها فيه نزاع، وتارك الصوم فيه نزاع، وتارك الحج فيه نزاع. وابن قدامة رحمه الله يذهب إلى أن تارك الصلاة ليس كافراً، ومن باب أولى عنده تارك الزكاة وتارك الصوم وتارك الحج، فما دام أنه مقر بالوجوب فعنده لا يكفر أحد بترك الصلاة أو بترك الزكاة أو بترك الصوم أو بترك الحج. وابن قدامة ممن يستدل بالإجماع على عدم كفر تارك الصلاة، وإذا قيل له: ما الإجماع؟ يقول: إن تارك الصلاة لو كان كافراً لما صلي عليه، ولما دفن في مقابر المسلمين، ولما ورث وما إلى ذلك. ولم ينقل أن واحداً من المسلمين تركت الصلاة عليه، أو لم يدفن في مقابر المسلمين، أو منع من التوارث بحجة أنه تارك للصلاة. قال: فعدم إجراء أحكام الكفار عليه، دليل على أن أهل العلم كانوا يذهبون إلى عدم تكفيره، ولو كانوا يذهبون إلى تكفيره لأخذ بهذه الأحكام، ولو أخذ بهذه الأحكام لنقل؛ ومن هنا ظن رحمه الله أن المسألة فيها وجه من الإجماع على عدم كفره. ومسألة تارك الصلاة هل فيها إجماع أو ليس فيها إجماع؟ نتناول هذه المسألة من عدة مسالك: المسلك الأول: حكى إسحاق بن إبراهيم الحنظلي من الأئمة المتقدمين الإجماع على أن تارك الصلاة كافر، وأيوب السختياني يقول: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه. وعبد الله بن شقيق يقول: كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من العمل تركه كفر إلا الصلاة. هذا مسلك جماعة من السلف: أنهم كانوا يذهبون إلى تكفير تارك الصلاة، ويرون أن كفره إجماع. المسلك الثاني: ذهب طائفة من السلف إلى كفر تارك الصلاة، ولكنهم لا يعتبرون كفره بالإجماع، وإنما بظواهر الأدلة. المسلك الثالث: الذين لا يعتبرون كفره، وهؤلاء بنوا المسألة على فرعين: الفرع الأول: منهم من بنى المسألة على عدم ظهور الدليل على كفره كـ مالك والشافعي والزهري. الفرع الثاني: ومنهم من بنى عدم كفره على كون الصلاة عملاً، والعمل لا يكفر تاركه، فهذا لا شك أنه من أصول المرجئة، وقد كان يعلل بمثل ذلك -في عدم تكفير تارك الصلاة- حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأمثاله من فقهاء الكوفة المرجئة. فإذا قيل لك: من لم يكفر تارك الصلاة هل قوله من أقوال المرجئة؟ الجواب: فيه تفصيل: إن بنى عدم تكفيره على أن الصلاة عمل ولا يكفر تارك العمل، فهذا من المرجئة. وإن بنى ذلك على أن الدليل لم يظهر بكفره، ويقول صاحب هذا القول: إن العمل أصل في الإيمان، وداخل في مسماه، ولكنه لا يكفر بترك فريضة واحدة كالصلاة، فهذا ليس من أصول المرجئة ولا من طرقهم ولا من آثارهم، وقد كان مالك بن أنس رحمه الله والشافعي وقبلهم الزهري يذهبون إلى عدم كفر تارك الصلاة، ويبنونه على عدم ظهور الأدلة لا على أن الصلاة عمل، فإن مالكاً والزهري والشافعي من أشد الناس على المرجئة، ويرون العمل أصلاً في الإيمان. فهذا وإن كان اجتهاداً مرجوحاً فإن الصواب الذي عليه الجمهور من السلف والمحققون من المتأخرين من أهل السنة كـ شيخ الإسلام أن تارك الصلاة كافر، وهذا هو ظاهر النصوص كحديث جابر بن عبد الله وبريدة وأمثالها، وهو ظاهر مذهب الصحابة في كلام عبد الله بن شقيق. وعليه: فالأظهر أن حكاية الإجماع ليست منضبطة، فإن الزهري خالف وهو أعلم بأقوال الصحابة من إسحاق. ثم إن كلام إسحاق بن إبراهيم رحمه الله فيه إشكال، فإنه قال في كلامه الذي رواه محمد بن نصر عنه وغيره: "أجمع أهل العلم من زمان رسول الله إلى زماننا هذا أن من ترك صلاةً واحدة حتى خرج وقتها أنه كافر" مع أن جمهور المكفرين لتارك الصلاة لا يكفرون بصلاة واحدة، ففي كلامه بعض الإشكال وقد يخرج هذا القول على أن إسحاق كان يرى الإباء، أي: من أبى قضاء الصلاة وامتنع، والممتنع كافر عند السلف بالإجماع، كمن دعي إلى الصلاة وقيل له: صل وإلا قتلت فقدم القتل على الصلاة فهذا يقتل مرتداً بإجماع السلف، ولا يكون ذلك إلا عن زندقة كما قال ذلك شيخ الإسلام. فالمسألة محتملة، وكلام عبد الله بن شقيق الأظهر أنه إجماع سكوتي، والإجماع السكوتي حجة محتملة وليس حجةً قطعية؛ لأنك إن قلت: إن فيها إجماعاً قطعياً مثل إجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل؛ لزم من ذلك أن مخالفة الزهري ومالك خروج عن الإجماع القطعي؛ لأن من خالف الإجماع القطعي فقوله بدعة ولا شك، ويجب الإنكار عليه إلى غير ذلك. وأما ما يقال: إن مالكاً أو الشافعي لم يثبت عنه ذلك، بل هذا من كلام الشافعية نسبةً إلى الشافعي، أو المالكية نسبةً إلى مالك. فنقول: هذا ليس صحيحاً من وجهين: الوجه الأول: أن المالكية تواردوا نسبة هذا القول إلى مالك، والشافعية تواردوا نسبة هذا القول إلى الشافعي، وإن كان من الشافعية وغيرهم كـ الطحاوي حكى عن الشافعي قولاً آخر لا بأس به. فتوارد المالكية والشافعية في ذكر مذهب الشافعي ومالك يمتنع أن يكون غلطاً، والأصحاب قد يخطئون على الإمام إذا كانوا جماعات أو أفراداً، أما إذا أطبقوا فمن الممتنع أن يغلطوا على إمامهم. الجهة الثانية: أن كبار المحققين المعروفين بضبط الفقه والخلاف، بل يعد عند العلماء من أضبط الناس لفقه السلف كـ محمد بن نصر المروزي ذكر الخلاف عن مالك والشافعي في عدم تكفير تارك الصلاة مع أنه ذكر إجماع إسحاق، فكان يقول: "من السلف من كان يرى هذه المسألة إجماعاً"، ثم ذكر كلام إسحاق وأيوب السختياني، وأثر عبد الله بن شقيق، ثم يقول: "ومن السلف من كان يراها خلافاً". ثم ذكر رأي الزهري ومالك والشافعي.

حكم تارك الزكاة

حكم تارك الزكاة مسألة الزكاة لا شك أنها مسألة خلاف، وكذلك الصوم والحج، وهذه قطعاً ليس فيها إجماع، وحتى عبد الله بن شقيق ألم يقل: "كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من العمل تركه كفر إلا الصلاة" فظاهر كلام ابن شقيق أن الزكاة عند الصحابة لم يستقر أمرها على الكفر؛ لأنه يقول: (إلا الصلاة) وهذا لا يعني أن الصحابة أجمعوا على عدم كفر تارك الزكاة كما يقوله بعض أصحاب الأئمة، بل الصواب: أن مسألة الزكاة خلافية بين الصحابة، وكذلك الصوم والحج. هنا مسألة وهي: من امتنع عن الزكاة وقاتل عليها فحكمه أنه مرتد، كالممتنعين عن أداء الزكاة الذين قاتلوا الصحابة في زمن أبي بكر الصديق، فالممتنعون المقاتلون على منع الزكاة كفار مرتدون كما حكاه أبو عبيد مذهباً للصحابة، وليسوا بمنزلة من ترك الزكاة وهو فرد من أفراد المسلمين في وسطهم، ولم يقاتل، ولم يمتنع بطائفة. وقد كان مالك بن أنس رحمه الله يقول: "إن تارك الزكاة ليس كافراً"، ولما سُئل عن الممتنعين في زمن أبي بكر قال: "إنهم مرتدون"، فواضح عند السلف التفريق بين الترك المفرد وبين الامتناع أو الاجتماع على الإباء ونحوه.

شرح لمعة الاعتقاد [18]

شرح لمعة الاعتقاد [18] من عقيدة أهل السنة والجماعة: إقامة الحج والجهاد مع الإمام والسلطان براً كان أو فاجراً، ويعتقدون أن صلاة الجمعة والجماعة جائزة خلف السلطان وإن كان فاجراً فاسقاً.

الحج والجهاد مع السلطان برا كان أو فاجرا

الحج والجهاد مع السلطان براً كان أو فاجراً قال الموفق رحمه الله: [ونرى الحج والجهاد ماضيين مع طاعة كل إمام براً كان أو فاجراً]. المعروف في القرون الماضية: أن الإمام هو الذي يقود مسيرة الحج، ومنهج أهل السنة هو لزوم الحج مع الإمام براً كان أو فاجراً بأن لا يختلف عليه في مواقيت الحج، فإذا ما قرر السلطان أن الوقوف بعرفة لمن معه من العلماء المجتهدين في يوم كذا وكذا؛ لزم جميع الحجاج أن يلتزموا بذلك. وكذلك الجهاد فإن راية السلطان ولو كان فاجراً تجب موافقتها ولا يجوز الخروج عنها في مقام الجهاد.

حكم الصلاة خلف السلطان الفاجر

حكم الصلاة خلف السلطان الفاجر قال الموفق رحمه الله: [وصلاة الجمعة خلفهم جائزة]. صلاة الجمعة خلف السلطان ولو كان فاجراً جائزة، حتى ولو لم يكن سلطاناً وكان رجلاً فاسقاً، فإن الصلاة خلف الفاسق جائزة، وإن كان يُنهى عن تقديم الفساق في الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث أبي مسعود في الصحيح: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) لكن إذا صلى الفاسق فلا يجوز للمسلم أن يتحرج عن الصلاة خلفه؛ ولهذا ينبه إلى أن بعض الشباب أحياناً تدركه صلاة فائتة في مسجد، فيرى أن الإمام عليه أمارات بينة في الفسق، فيتعجل فيصلي وحده لعدم ثقته في صلاة هذا، وهذا لا شك أنه لا أصل له اللهم إلا إن كان هذا الذي يصلي من أهل البدع المعروفين فلا يصلي خلفه، وأما الفساق من المسلمين فمن تقدم في الصلاة فإنه يصلى خلفه وإن كان تقديمه ليس هو الأصل، بل هو منهي عنه، أما أهل البدع فلا يصلى خلفهم. قال الموفق رحمه الله: [قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله عز وجل حتى يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار) رواه أبو داود]. هذا حديث رواه أبو داود، وهو متكلم في صحته.

شرح لمعة الاعتقاد [19]

شرح لمعة الاعتقاد [19] من عقيدة أهل السنة والجماعة: تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبتهم، وذكر محاسنهم، والدفاع عنهم، والكف عن مساويهم وما حصل بينهم من شجار أو قتال. ومن عقيدتهم: الترضي عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والاعتراف بفضلهن وسابقتهن، وأن معاوية رضي الله عنه خال المؤمنين، وكاتب وحي رسول رب العالمين، وأحد خلفاء المسلمين. ومن عقيدتهم: وجوب السمع والطاعة لأمراء المسلمين وأئمتهم، وعدم الخروج على ولاة المسلمين وإن كانوا ظالمين.

من السنة تولي أصحاب رسول الله ومحبتهم وذكر محاسنهم

من السنة تولي أصحاب رسول الله ومحبتهم وذكر محاسنهم قال الموفق رحمه الله: [ومن السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم، وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساويهم وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم، ومعرفة سابقتهم]. هذا كله مستقر أن من السنة التولي لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصنف عبر بقوله: (والترحم عليهم) ولو عبر بالترضي لكان أجود، فإن الله يقول: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:18]، ويقول: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة:100] فالذي درج عليه أهل العلم وأهل السنة هو الترضي عن الصحابة، وأما من بعد الصحابة فإنه يترحم عليه، وهذا كله دعاء، وليس خبراً، ومع ذلك قدر يقع قدر من التوسع في ذلك، فأحياناً يُترضى عمن من بعد الصحابة فهذا لا بأس به، بل حتى ما هو فوق ذلك وهي الصلاة والسلام، فإنها خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ما قصد الاطراد، وإلا إذا قيل: هل يجوز أن يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم فيقال مثلاً: أبو بكر عليه الصلاة والسلام؟ ذهب: الجمهور من أهل السنة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والصحيح في مذهب أحمد أن هذا جائز، وإذا قيل: إنه جائز. ليس معناه أنه مشروع، إنما المراد أنه مأذون فيه ولا ينكر، وبشرط ألا يختص بمعين غير النبي صلى الله عليه وسلم، وألا يكون مطرداً. أي: دائماً لا يذكر أحد من الصحابة إلا ويقول: عليه الصلاة والسلام! هذا لا شك أنه بدعة، أو خصص صحابياً من الصحابة بعينه كـ علي أو غيره من آل البيت بذلك فلا شك أن هذا بدعة، وأما إذا عرض أحياناً فإنه سائغ، وقد قال ابن عباس لـ عمر: [عليك الصلاة والسلام]؛ فأقره.

وجوب الكف عن مساوئ الصحابة

وجوب الكف عن مساوئ الصحابة قال الموفق رحمه الله: [والكف عن ذكر مساويهم]. من هدي أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم زمن الفتنة والقتال هو الكف عن ذلك، وقد كان الإمام أحمد رحمه الله يجيب في بعض جواباته إذا سئل عن ذلك: بقوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] وهذه قاعدة شريفة يجب على طالب العلم وعلى المسلمين عامة أن يتقلدوها، وهي من قواعد القرآن في الحكم بين الناس ومعرفة أحوالهم، فإن الله لم يكلف العباد أن يعرف بعضهم حال بعض أو شأن بعض، لا من جهة البر ولا من جهة الإثم والشر والعدوان. ولهذا فإن الصحابة في الجملة لم يكونوا على معرفة بتفاصيل أحوال المنافقين، وحتى ظاهر القرآن يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم يعلم جميع المنافقين من حوله وفي زمنه، كما في قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] هذا صريح القرآن. إذاً: ما يقصد إليه البعض من تتبع أعيان الناس في الشرق والغرب، وفي اليسير والقليل من الكلام، ويأخذ الكلام المجمل فيجعله مفصلاً، ويقول: إنه قصد كذا وكذا .. وهذا أصله من كذا وكذا .. ويفرع تفريعات، ويرمي الناس بالألقاب والأوصاف التي هي أوصاف ذم أو طعن! ويرى أن هذا من التحقيق والضبط للأمور .. هذا فيه تكلف ولا شك. لا شك أن من أظهر البدعة وعرف بها فإنه يطعن فيه، ويسمى مبتدعاً ببدعته، وهذا الذي درج عليه السلف؛ ولهذا من يقول: إن السلف ذموا أهل البدع. نقول: نعم، هذه سنة من سنن السلف لا ينكرها إلا جاهل أو مخالف للسلف، ولكن السلف إنما ذموا أهل البدع الذين أظهروا البدع وفارقوا السنة والجماعة، فكل من أظهر البدعة وفارق السنة والجماعة فإنه يذم، أما أن يتكلف إخراج الناس من السنة والجماعة ويحتكر اسم السنة والجماعة أو السلفية على أعداد يسيرة من الناس، فهذا ليس عدلاً ولا شرعاً ولا هدىً ولا أثراً سلفياً. فهذا حماد بن أبي سليمان أخرج العمل عن مسمى الإيمان، وعد السلف قوله بدعة وهو من أعيان أهل السنة، وابن خزيمة فسر حديث الصورة بتفسير كان الإمام أحمد يقول فيه: "هذا تفسير الجهمية"، ومع ذلك ما قال أحد: إن ابن خزيمة من الجهمية، والإمام أحمد في مسألة اللفظ بالقرآن في رواية أبي طالب، وهي رواية صحيحة معتبرة، ومن أنكرها فقد غلط، وهي معروفة عند محققي الحنابلة وغيرهم، يقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: القرآن غير مخلوق فهو مبتدع، ومع ذلك جاء محمد بن يحيى الذهلي وهو من كبار المحدثين وشيخ البخاري وأمثاله فقال: "إن اللفظ بالقرآن ليس مخلوقاً"، وأراد الذهلي أن القرآن ليس مخلوقاً، فكان مراد الذهلي صحيحاً، وحرفه ينكره الإمام أحمد ويقول: هذا حرف أهل البدع. وجاء البخاري وجماعة من كبار أئمة السنة والمحدثين فقالوا: "اللفظ بالقرآن مخلوق"، وكان مراد البخاري وأمثاله: أن أفعال العباد مخلوقة، فأرادوا باللفظ هنا فعل العبد، فمراد البخاري وأمثاله صحيح، وإن كان حرفه حرفاً مجملاً، فهل يقال: إن البخاري يسمى جهمياً لأن الإمام أحمد يقول: من قال: اللفظ بالقرآن مخلوق فهو جهمي؟! وأما ما تكلف فيه بعض المتأخرين أنها نسبة خاطئة إلى البخاري ولم يصح عنه؛ بلى فهذا غير صحيح، بل هذه أمور منضبطة وصحيحة عن البخاري وغيره، لكن المقصود أن الكلمات تفهم على مقاصدها، فمنهج أهل السنة الكف عما شجر بين الصحابة. وهذا لا يعني عدم العلم بما جاءت به السنة، كالقول بأن علياً أولى بالحق من معاوية، فهذا ليس من الطعن في معاوية، بل هذه سنن ثابتة حدث بها الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قوله: (تقتلهم أولى الطائفتين بالحق). وكذلك القول عن الطائفة المعارضة لـ علي: إنها طائفة باغية هذا لا بأس به؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه في الصحيح قال: (تقتل عماراً الفئة الباغية) إلى غير ذلك. فمثل هذه الأمور التي انضبطت سنناً وآثاراً عن النبي عليه الصلاة والسلام تقال، وأما التفاصيل والدخول في المقاصد وأمثال ذلك فهذا ليس من الهدي. قال الموفق رحمه الله: [قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10]، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)]. لا يصل أحد إلى قدر الصحابة ومكانتهم أياً كان قدره ومقامه، فإن الصحابة لهم اختصاص الصحبة، وقد فضلهم الله تعالى بذلك، ومن هنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم والتقديم عليهم.

الترضي عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والاعتراف بفضلهن

الترضي عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والاعتراف بفضلهن قال الموفق رحمه الله: [ومن السنة الترضي عن أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء، أفضلهن خديجة بنت خويلد، وعائشة الصديقة بنت الصديق، التي برأها الله في كتابه، زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم]. أفضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه هي خديجة وعائشة، وقد أجمع أهل السنة على أن أفضل نساء هذه الأمة ثلاث: عائشة، وخديجة، وفاطمة، ثم اختلفوا، فمنهم من فضل عائشة، ومنهم من فضل خديجة، ومنهم من فضل فاطمة، ومنهم من توقف، وهذه مسألة اجتهادية فيها سعة. ومن قذف عائشة رضي الله عنها بعدما تبين له النظر في كتاب الله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] فمن لم يعتبر بهذا المذكور في كلام الله سبحانه وتعالى وأصر على ذلك فلا شك أنه كافر؛ لأن هذا تكذيب للقرآن.

فضل معاوية وتبرئته من الفسق والنفاق

فضل معاوية وتبرئته من الفسق والنفاق قال الموفق رحمه الله: [ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، أحد خلفاء المسلمين رضي الله عنهم]. الطعن في معاوية من طرق أهل البدعة المخالفين للسنن والآثار، ومن يطعن فيه من الشيعة فإنهم يخالفون أصول أئمتهم الذين هم أئمة الهدى إذا صح أن لهم أئمة على هذا الاختصاص، وإلا فالحق أن علي بن أبي طالب -وإن كان إماماً- والحسن والحسين لم يختصوا بطائفة، ولم يجعلوا أنفسهم أئمة مختصين بطائفة معينة، بل كانوا أئمةً لسائر المسلمين من أهل البيت وغيرهم. فهذا الحسن بن علي -وهو من أئمة آل البيت- لما صار إليه الأمر تنازل به لـ معاوية، فلو كان معاوية في نظر الحسن بن علي وأئمة آل البيت رجلاً فاسقاً أو منافقاً -فضلاً عن كونه كافراً- لما أمكن الحسن بن علي أن يتنازل بملك المسلمين ورقابهم وسلطانهم وطاعتهم وولايتهم لرجل فاسق. وأما ما يعتذر به بعض الشيعة من أن هذا من التقية عند الحسن فهذه سفسطة لا صحة لها. وأما إذا قيل: إنه كان عاجزاً فهذا يرده الواقع التاريخي، فقد جاء في صحيح البخاري وغيره من حديث عبد الرحمن بن حسنة: "أن الحسن بن علي استقبل معاوية بكتائب أمثال الجبال، فلما بلغ معاوية وقد حرضه بعض أهل الشام على المواجهة قال: إذا قتل هؤلاء هؤلاء من لي بضعفة المسلمين! من لي بنسائهم! من لي بذراريهم إلخ". فكان معاوية رفيقاً والحسن أيضاً كان رفيقاً حتى حصل الصلح بينهما. إذاً: تنازل الحسن بن علي دليل على أنه يرى أن معاوية رجل صالح فاضل، بريء من الفسق فضلاً عن الكفر والنفاق.

وجوب السمع والطاعة لأمراء المسلمين وأئمتهم

وجوب السمع والطاعة لأمراء المسلمين وأئمتهم قال الموفق رحمه الله: [ومن السنة السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين، برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله]. من منهج أهل السنة والجماعة السمع والطاعة لأمراء المسلمين بالمعروف، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] وهي مقيدة بطاعة الله ورسوله؛ ولهذا فإن في كتاب الله طاعتهم لم تطلق، فإن الله قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] فأعاد العامل -الذي هو الفعل (أطيعوا) - ولما ذكر أولي الأمر ترك العامل ولم يقل: (وأطيعوا أولي الأمر) فدل هذا على أن طاعتهم تابعة لطاعة الله ورسوله، وهذا هو معنى طاعتهم بالمعروف، فيطاعون في الطاعة دون المعصية.

من قواعد أهل السنة عدم الخروج على الولاة المسلمين

من قواعد أهل السنة عدم الخروج على الولاة المسلمين قال الموفق رحمه الله: [ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس، ورضوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار خليفة فسمي أمير المؤمنين وجبت طاعته، وحرمت مخالفته والخروج عليه، وشق عصا المسلمين]. هذه قاعدة من القواعد الشرعية الصحيحة: أن ثبوت الملك يكون إما بالشورى وإما بالغلبة، فمن غلب واستقر ملكه وأظهر الإسلام بعد غلبته واستقراره فإن طاعته تكون واجبة ويكون ولياً شرعياً، ولا يلزم في ذلك أن يكون جميع الأمر على مبدأ الشورى أو ما إلى ذلك، فإن من ظهر صح ظهوره وصحت طاعته. والدليل على ذلك: إجماع العلماء على صحة إمارة بني العباس وأمثالهم، فإنهم أخذوها بالسيف ولم يأخذوها بالشورى، فظهروا على دولة بني أمية حتى غلبوهم، ومع ذلك لما ظهرت غلبتهم واستقر أمرهم، وذهب ملك بني أمية اعتبر الأئمة رحمهم الله أن بني العباس هم الملوك والسلاطين. ومن يطلب فإنه قد يحصل منه التعدي أو سفك الدماء، فهذا مقام يختص به ويحاسبه الله عليه، لكن طاعته تكون شرعيةً واجبة، ولا يقال: إنه خرج أو انشق؛ فإن بني العباس إنما انشقوا على دولة بني أمية، ولم يقل العلماء والأئمة: إنهم خرجوا على دولة بني أمية، فإن الحاكم إذا غلب بالسيف واستقر أمره وأظهر الإسلام صار ملكاً شرعياً تجب طاعته، ويكون من مضى على أمرٍ قد سلف.

شرح لمعة الاعتقاد [20]

شرح لمعة الاعتقاد [20] من السنة: هجر أهل البدع، ومباينتهم والتحذير منهم، كما لا ينبغي قراءة كتبهم إلا لمن كان أهلاً لذلك، ومن أحدث في الدين محدثة فهو مبتدع، وما أحدثه فهو بدعة، وكل من انتسب إلى غير الإسلام والسنة فهو مبتدع، بخلاف الانتساب إلى إمام في الفروع والمذاهب الفقهية؛ فإن ذلك ليس مذموماً.

هجران أهل البدع

هجران أهل البدع قال الموفق رحمه الله: [ومن السنة هجران أهل البدع ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين]. هجران أهل البدع ومباينتهم من منهج أهل السنة والجماعة، والمباينة: عدم موالاة أهل البدع، وإظهار السنة والجماعة، والانتصار والاعتصام بها ..

النظر في كتب أهل البدع

النظر في كتب أهل البدع قال الموفق رحمه الله: [وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء لكلامهم]. لا ينبغي لطالب علم -فضلاً عن عامة المسلمين- أن ينظر في كتب أهل البدع، إلا من كان أهلاً لذلك، وقد استقر عنده العلم بالسنة والهدى وأراد الرد عليهم، فإن هذا من المقامات التي توجبها المصلحة الراجحة.

كل محدثة في الدين بدعة

كل محدثة في الدين بدعة قال الموفق رحمه الله: [وكل محدثة في الدين بدعة]. هذا أصل من أصول أهل السنة أن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم، وفي السنن: (وكل ضلالة في النار) وهذا حرف متردد في ثبوته، وقد سبق الكلام عليه في أول الكتاب.

كل متصف بغير الإسلام والسنة مبتدع

كل متصف بغير الإسلام والسنة مبتدع قال الموفق رحمه الله: [وكل متسم بغير الإسلام والسنة مبتدع]. من لم يلتزم بالسنة والجماعة، ونابذ أئمتها فلا شك أنه من أهل البدع. قال الموفق رحمه الله: [كالرافضة، والجهمية، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، والمعتزلة، والكرامية، والكلابية ونظرائهم، فهذه فرق الضلال، وطوائف البدع، أعاذنا الله منها]. الرافضة: هم طائفة من الشيعة يسبون الصحابة إلخ، وهؤلاء ليسوا من السنة في شيء. والجهمية: هم نفاة الصفات. والخوارج: هم الذين كفروا مرتكب الكبيرة من المسلمين وخلدوه في النار. والقدرية: هم الذين نفوا خلق أفعال العباد، وغلاتهم ينكرون العلم بها، ومقتصدوهم ينكرون خلقها والإرادة لها .. والمرجئة: هم من يخرج العمل عن مسمى الإيمان، وهم درجات. والمعتزلة: هم قوم من أهل البدع جمعوا بين التجهم فنفوا الصفات، وهم قدرية في القدر، ووعيدية في الوعيد إلخ، لهم أصول خمسة، وينسبون إلى واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبي الهذيل العلاف، وأمثال هؤلاء. والكرامية: أتباع محمد بن كرام السجستاني كان من المشبهة المجسمة، وإن كان ليس من غلاة التجسيم كـ هشام بن الحكم الرافضي. والكلابية: أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، ينتسب للسنة، لكنه من المتكلمين الذين اختلطت عندهم السنة بالبدعة. وهنا إشارة فاضلة وهي: أن ذكر المصنف للكلابية دليل على براءته من طرقهم وآثارهم، فإن كثيراً من الحنابلة كـ أبي الحسن التميمي وأبي الفضل التميمي وابن عقيل وأمثالهم تأثروا بطرق الكلابية، إما تأثراً مباشراً، وإما بواسطة علماء الأشعرية كالقاضي أبي بكر الباقلاني، فالمصنف رحمه الله طريقته هي طريقة أهل الحديث المحضة كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

حكم الانتساب إلى المذاهب الفقهية دون تعصب

حكم الانتساب إلى المذاهب الفقهية دون تعصب قال الموفق رحمه الله: [وأما النسبة إلى إمام في فروع الدين كالطوائف الأربع فليس بمذموم]. هذه الجملة من فضائل هذه الرسالة، ولم يكن عند السلف رحمهم الله مثل هذه المعاني، وإن كانت لم تظهر في زمنهم ظهوراً بيناً، الانتساب إلى إمام في الفروع كالطوائف الأربع -أي: كالانتساب إلى الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة، وظهر عند بعض فضلاء العلم من المعاصرين أن من السلفية ترك الانتساب للمذهب، وأن من انتسب للمذهب ليس سلفياً في الفقه، هذا فيه قدر من الزيادة؛ لأن هذه المذاهب الأربعة لها قرون في المسلمين، وقد درج عليه العلماء ما بين شافعي وحنفي ومالكي وحنبلي، وفيهم علماء سنة محققون كـ شيخ الإسلام، وأبي عمر بن عبد البر، وابن رجب، وابن كثير، وأمثال هؤلاء، ومع ذلك ما نقل عن هؤلاء الأكابر من المحققين في مذهب السلف أنهم أنكروا الانتساب، وأول من أنكر الانتساب من متأخرة القرن العاشر، بعضهم عن أثر زيدي، أو بعضهم عن أثر ظاهري. فالقصد: أن هذا الإنكار غير معتبر، أما من انتسب إلى مذهب من المذاهب الأربعة على معنى التعصب للمذهب، أو أنه لا يخرج في فقهه على هذا المذهب، أو يرى أن الحق في هذا المذهب، بل حتى من يرى أن هذا المذهب أفضل من غيره من المذاهب، فلا شك أن هذه المعاني منكرة ليس لها أصل، ومخالفة لهدي السلف. وأما من انتسب إلى واحد مذهب المذاهب الأربعة من باب الترتيب العلمي، كأن يقول: أنا حنبلي أي: إذا لم يكن في المسألة دليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع قدم قول الصحابي على القياس، هذا معنى حنبليته، والآخر يقول: أنا حنفي، إذا لم يكن عنده دليل من الأصول الثلاثة -الكتاب والسنة والإجماع- قدم القياس على قول الصحابي، والمالكي يقدم عمل أهل المدينة، والشافعي لا يرى عمل أهل المدينة. من تبنى التمذهب على الترتيب العلمي فهذا لا بأس به. وأما من تعصب لمذهب من المذاهب الأربعة فهذا مخالف لهدي السلف، سواء تعصب لمذهب من المذاهب الأربعة أو حتى تعصب لرجل من الرجال ولو كان إماماً من الأئمة، وهذا يقع: أنهم ينهون عن الانتساب للمذاهب الأربعة وينتسب من ينتسب لـ ابن حزم أو للشوكاني أو لفلان وفلان .. فما الفرق بين الانتسابين؟! إن قيل: هؤلاء لا يتعصبون. قيل: وهل تقول: إن سائر المالكية أو سار الحنابلة متعصبون؟ كلا، ابن تيمية رحمه الله خرج عن المذهب خروجات، وكذا ابن عبد البر إلخ.

الاختلاف في الفروع الفقهية

الاختلاف في الفروع الفقهية قال الموفق رحمه الله: [فإن الاختلاف في الفروع رحمة]. هذه كلمة مجملة، والاختلاف في الفروع يقع منه ما هو مقام من الرحمة، ومن وجه آخر قد يكون اختلاف شر كغياب الدليل على العالم، فهذا ليس من الرحمة والفضل. قال الموفق رحمه الله: [والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم، مثابون في اجتهادهم، واختلافهم رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة]. هذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) وهو في الصحيحين عن عمرو بن العاص. قال الموفق رحمه الله: [نسأل الله أن يعصمنا من البدع والفتنة، ويحيينا على الإسلام والسنة، ويجعلنا ممن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياة، ويحشرنا في زمرته بعد الممات برحمته وفضله آمين. وهذا آخر المعتقد، والحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً]. هذا بحمد الله تمام لهذه الرسالة، وتبين لك باختصار: أن هذا الرسالة ليس فيها جملة واحدة يجزم بأنها غلط من المصنف، غاية ما فيها جمل مجملة يفصل في تقريرها، ويبين الحق المحتمل فيها، ويدرأ الباطل المحتمل فيها. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.

§1/1