شرح لمعة الاعتقاد - محمد حسن عبد الغفار

محمد حسن عبد الغفار

قواعد هامة في الأسماء والصفات وشرح البسملة

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - قواعد هامة في الأسماء والصفات وشرح البسملة هناك قواعد هامة في باب الأسماء والصفات لابد من معرفتها حتى يستطيع المسلم أن يضبط هذا الباب العظيم الذي ضل فيه أناس كثيرون، فبمعرفة هذه القواعد يثبت المسلم لله تعالى ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل.

ضوابط وقواعد هامة في الأسماء والصفات

ضوابط وقواعد هامة في الأسماء والصفات إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فنبدأ بأهم العلوم وأشرفها وهو التوحيد؛ إذ إن القاعدة عند العلماء: تقديم الأهم على المهم، ولا أوجب من توحيد الله جل في علاه، وينبثق شرف هذا العلم من شرف المعلوم وهو الله جل في علاه، ولا أحد أشرف من الله جل في علاه.

وجوب التسليم لكلام الله وكلام رسوله

وجوب التسليم لكلام الله وكلام رسوله وقبل أن نشرع في شرح هذا الكتاب فإن بين يدي هذا الكتاب ضوابط قدمها لنا الشيخ رحمة الله عليه وقواعد هامة في الأسماء والصفات، قال رحمه الله: القاعدة الأولى: في الواجب نحو نصوص الكتاب والسنة وأسماء الله وصفاته، وملخصها أنه يجب على كل إنسان أن يعلم أن الله أنزل الكتاب بلسان عربي مبين، ولو علم رجل أعجمي رجلاً عربياً هذا القرآن ما خرج إلينا بهذه الفصاحة، وفائدة قولنا: بلسان عربي مبين: أن كل عربي يفقه عن الله مراده من ظاهر كلامه جل في علاه. قال الله تعالى: {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس:5]، وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195] وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2]، فالحكمة من كونه عربياً لعلكم تعقلون ما يقال لكم؛ لأنه نزل بلغتكم، فالواجب في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أن نأخذ ظاهر اللفظ ولا نحرفه ولا نؤوله. فنسلم لكلام الله، ونسلم لكلام رسول الله، ونسلم لأحكام الله، ونسلم لأحكام رسول الله، فمثلاً: يقول الله جل في علاه: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، فيجب علي أن آخذ ظاهر كلمة (اليد) على ما هي عليه ولا أقول: هي النعمة، ولا أقول هي القدرة، ولا أأولها ولا أحرفها. ولله أصابع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر كلامه عندما قال اليهودي: (إن الله يحمل الأشجار على هذا ويشير إلى أصابعه، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم مقراً كلام اليهودي)، فظاهر هذا اللفظ أن لله أصابع، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قلب بني آدم بين إصبع من أصابع الرحمن)، أو (بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء) سبحانه جل في علاه، فهنا أثبت النبي صلى الله عليه وسلم في ظاهر قوله أن لله أصابع، فالواجب علي أن أسلم لكلام النبي وأقول: لله أصابع، ولا أقول: هي القدرة أو هي النعمة. وأيضاً قال الله تعالى عن سفينة نوح: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، واللغة العربية معنى العين معلوم فيها، وقد قال الله لموسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، فالواجب علي أن أقول: كلمني ربي بلساني وهو لسان عربي مبين، فيجب علي أن أمرر هذه اللفظة على ظاهرها، يقول الله له يد فأثبت له يداً، ويقول له عين فأثبت له عيناً، ويقول له ساق فأثبت له ساقاً، قال الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]. فأمرر قول الله على ما هو عليه بنفس المعنى العربي المبين، والذي يحرف أو يؤول فيقول: اليد القدرة، ويقول: العين الرعاية، فهذا محرف لكلام الله جل في علاه، ويقع تحت التحذير الشديد الذي حذرنا الله منه، وهو: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169]، وقد قال الله تعالى محذراً لعباده: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، فإذا قال الله عن نفسه: إن الله يضحك، فلا تقل: يرحم بل قل: إن الله يضحك. ولذلك جاء بعض الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخبر أن الله يضحك فقال: (يا رسول الله! ما الذي يضحك الرب؟ قال: أن تخلع درعك)، يعني: تظهر الشجاعة والصدق، وتدخل على العدو تقاتل من أجل الله فتقتل مقبلاً غير مدبر، قال: (يضحك ربنا من ذلك؟ قال: يضحك ربنا من ذلك، فخلع درعه ثم قال: لن نعدم خيراً من رب يضحك)، فقد علم أن الله يضحك، ولازم الضحك أنه سيثيب عباده الذين ضحك لهم. يقول الله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل:1 - 3]، محمد عبده رحمه الله وغفر له زلاته من مدرسة العقلاء مدرسة الاعتزال الذين يقدمون العقل على النقل، يقول -طبعاً الكلام للغرب لأنهم لا يمكن أن يستوعبوا أن الله يرسل طيراً بحجر فيقتل الأمة بأسرها- فقال: طير أبابيل معناه الجدري، ومرة أخرى يقول: المد والجزر، فأول وحرف كلام الله، فبدل أن يكون بلسان عربي مبين جعله أعجمياً فأوله وحرفه، وكأنه بلسان حاله يقول: ربنا ليس هذا الكلام الذي نعقله عنك، الكلام هذا ليس بصحيح، وكأن كلام الله جل في علاه في كتابه لا يعقله أحد من العرب، والله أنزله بلسان العرب. إذاً: الضابط الأول في كلام الله وكلام الرسول: التسليم التام لكلام الله وكلام الرسول كما أننا نسلم لأحكام الله وأحكام الرسول.

قواعد في أسماء الله تعالى

قواعد في أسماء الله تعالى القاعدة الثانية: في أسماء الله، وتحت هذه القاعدة فروع. الفرع الأول: أسماء الله كلها حسنى، أي: بالغة في الحسن، واسم الله حسن؛ لأنه يتضمن أمرين: أولاً: أن الاسم علم على ذات الله، ثانياً: أن كل اسم يتضمن صفة كمال، وهذا هو الذي يبلغ بالاسم غاية الحسن، فأسماء الله جل في علاه كلها غاية في الحسن وفي الكمال؛ لأنها تتضمن صفات كمال، فإذا انضم اسم مع اسم آخر انضم كمال مع كمال فإذا قلت: الرحمن الرحيم، فهو أكمل من أن تقول: الرحمن فقط أو الرحيم فقط. فنقول: الكريم اسم من أسماء الله وهو غاية في الحسن؛ لأنه علامة على ذات الله، ولأنه يتضمن صفة كمال وهي الكرم، والحي اسم من أسماء الله كما قال الله تعالى: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ} [آل عمران:1 - 2]، وهو غاية في الحسن والكمال لأنه علم على ذات الله، ولأنه يتضمن صفة كمال وهي الحياة، وحياة الله أزلية أبدية. ويتبين لنا من ذلك أن الدهر ليس اسماً من أسماء الله، كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر)، فكيف نقول: أن الدهر ليس اسماً من أسماء الله والله يقول: (أنا الدهر)؟ فنقول: أولاً: ننظر هل هو علامة على ذات الله أم لا؟ ثانياً: ننظر هل يتضمن صفة كمال أم لا؟ فإذا نظرنا وجدنا أنه ليس بعلامة على ذات الله، وإن قلنا أنه ليس علامة على ذات الله فنقول: هو لا يتضمن صفة كمال، وأي كمال في الدهر؟ إذاً ليس اسماً لله جل في علاه؛ لأنه لا يتضمن صفة كمال؛ لأن الضابط: كل اسم يتضمن صفة كمال فهو اسم من أسماء الله، وكثير من الناس يسمي ابنه: عبد الموجود، وهذا الاسم ليس بصحيح؛ لأمرين: الأمر الأول: الموجود ليس علامة على ذات الله، والثاني: أنه لا يتضمن صفة كمال بل يتضمن صفة نقص؛ فاسم الله هو الواجد وليس الموجود، فلا يوجد في الكون صغير ولا كبير ولا دقيق ولا جليل إلا والله هو الذي أوجده، إذاً: الموجود ليس اسماً من أسماء الله. وفي شرح الطحاوية يسمي الله: القديم، فهل القديم اسم من أسماء الله الحسنى أو لا؟ الأشاعرة يقولون: أخص صفات الله القدم، ولا يشترك أحد مع الله في هذه الصفة، والقديم ليس اسماً من أسماء الله؛ لأنه لا يتضمن صفة كمال؛ وإنما اسم الله هو الأول. إذاً: أخص صفات الله الأولية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنت الأول فليس قبلك شيء)، وهذا لا يقال في القديم؛ لأن القديم هناك من هو أقدم منه، وفائدة هذا الضابط: معرفة اسم الله من غيره. الفرع الثاني: أسماء الله غير محصورة بعدد معين. الفرع الثالث: أسماء الله لا تثبت بالعقل، وإنما تثبت بالشرع، والعلماء يقولون: أسماء الله وصفاته توقيفية، أي: يوقف فيها عند كلام الله، وكلام رسول الله، وهذا يرد على من يسمي الله بأسماء ليست موجودة في الكتاب والسنة، والنصارى يسمون الله الأب، وليس من أسماء الله جل في علاه، ولم ينزل الله به من سلطان لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن، وهذا إلحاد في أسماء الله، فإذا قلت: أسماء الله توقيفية فمعناه: أنني لا أقول بأن هذا الاسم من أسماء الله إلا إذا قلت قال الله في كتابه كذا، أو قال الرسول في الحديث كذا، ولذلك اسم (النور) اختلف فيه العلماء؛ لأنه ورد حديث ضعيف ذكر أسماء الله التسعة والتسعين، ولم يرد في السنة ما يثبت أن النور اسم من أسماء الله. الفرع الرابع: كل اسم من أسماء الله فإنه يدل على ذاته ويتضمن صفة كمال. والصفات صفات متعدية وصفات لازمه، واللازمة هي التي لا تتعدى كاسم الله العظيم، فالعظيم اسم من أسماء الله يتضمن صفة كمال، وصفة الكمال الذي يتضمنها اسم العظيم هي العظمة، فإن العظمة لله جل في علاه وحده وهي لازمة وليست متعدية. أيضاً اسم الله العزيز لازم غير متعدي؛ لأن العزة صفة من صفات الذات، أما الأسماء التي لها صفات متعدية فهي الأسماء التي تتضمن صفات الفعل، كقول الله تعالى: ((الرَّحِيمِ)) فالرحيم من أسماء الله وهو غاية في الحسن؛ لأنه يتضمن صفة كمال وهي الرحمة، والرحمة متعدية؛ لكن الله رحيم قبل أن يخلق الخلق.

قواعد في صفات الله تعالى

قواعد في صفات الله تعالى القاعدة الثالثة في صفات الله، وتحتها فروع: الأول: صفات الله كلها كمال من كل وجه؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، وقال تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:43] فالله جل وعلا له العلو المطلق، وصفاته لها الكمال المطلق من كل وجه كالعزة، والرحمة، والكرم، والجود، والبر، والمن، والعطاء، والإحسان، والعطف، والرأفة. وهناك كمال لكنه ليس من كل وجه وإنما كمال من وجه ونقص من وجه، مثل: المكر والاستهزاء والخداع، فأثبت لله الصفة حين تكون كمالاً، وانفِ عن الله الصفة حين تكون نقصاً، والمكر ليست من كل وجه صفة كمال، فإن العبد الماكر منبوذ {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، لكن العبد الذي يمكر بالماكرين غير منبوذ بل يقال عنه: قوي عزيز، فالله يستدرج الماكرين ليعلموا قوته وعزته وكبرياءه، فتكون صفة كمال حين المقابلة، فتقول: يمكر بالماكرين، ويستهزئ بالمستهزئين، ويخادع المخادعين، لكن لا يصح أن تقول: الله ماكر، الله مخادع، حاشا لله! فهذا تنقيص من قدر الله جل في علاه. فلا بد في الصفات التي فيها كمال من وجه ونقص من وجه أن تصف الله بها حين تكون كمالاً، وتنفيها عن الله حين تكون نقصاً. الفرع الثاني في الصفات: قال صفات الله تنقسم إلى قسمين: ثبوتية وسلبية، فالثبوتية هي التي أثبتها الله على لسانه، وأثبتها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وإثبات اللسان لله أو نفيه عنه مما سكت عنه السلف فنكست كما سكت السلف، فلا نقول: له لسان ولا نقول: ليس له لسان؛ لأن الله سكت عنه ونحن يسعنا ما وسع الشرع، قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]. إذاً: الصفات الثبوتية هي التي أثبتها الله لنفسه في كتابه كالعزة والكبرياء وغيرها، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم كقوله: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، وقوله: (يكشف الله عن ساقه)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أثبت لله الساق، وأثبت لله الكلام، فهي ثبوتية؛ لأنها ثبتت بالكتاب وثبتت بالسنة، والصفات السلبية هي التي نفاها الله عن نفسه في الكتاب ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، فهو ينفي هذه الصفات عن نفسه، وقال الله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} [البقرة:255]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ينفي عن ربه النوم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام)، فالنوم صفة سلبية أي: منفية نفاها الله عن نفسه ونفاها عنه رسوله؛ لأنها صفة نقص وكل صفة نقص، فهي منفية عن الله سبحانه وتعالى. الفرع الثالث: الصفات الثبوتية، وتنقسم إلى قسمين: ذاتية وفعلية، ويزاد على ذلك الخبرية؛ لأن الشيخ في التقعيد يرى أن الخبرية تنزل منزلة الذاتية، والصفة الذاتية هي التي لا تنفك عن الله بحال من الأحوال مثل الحياة، فالحياة صفة ذاتية؛ لأنها لا تنفك عن الله، فهي أزلية أبدية، أي: أن الله متصف بها أزلاً وأبداً كالعزة، فإن الله متصف بها أزلاً وأبداً، وهكذا جميع الصفات الذاتية، والصفة الفعلية: هي الصفة المتجددة التي يمكن لله أن يتصف بها في وقت دون وقت، كأن يتصف بها اليوم ولا يتصف بها غداً، كالكلام، فإن الله جل في علاه تكلم مع موسى حين جاء موسى للشجرة، فهو يتكلم متى شاء، وكذلك النزول ينزل الله ثلث الليل ولا ينزل في النهار. فالصفات الفعلية تتجدد، وهي متعلقة بمشيئة الله إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، إن شاء استوى وإن شاء لم يستو، إن شاء تكلم وإن شاء لم يتكلم، إن شاء أعطى وإن شاء لم يعط، والاستواء صفة فعل. والصفات الخبرية هي التي مسماها عندنا أجزاء وأبعاض، كاليد فهي جزء مني وهي صفة لله، فالضابط أن مسماها عندنا جزء وبعض، وكالعين، فهي صفة لله وهي جزء مني، والساق صفة لله وهي جزء مني، هذا معنى الصفات الخبرية. وصفة الحياء صفة ذاتية، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53]، أي: أنه يقول الحق، فالذي يكتم الحق جبان، ولذلك الحياء ممدوح ومذموم، فالحياء المذموم أن تستحي من الحق، والحياء الممدوح أن تقول الحق، وصفة الكرم فعلية وأصلها ذاتية؛ لأنه إن شاء أكرم وإن شاء لم يكرم، لكن في الحياء الله يستحي، حتى إنه لما تكلم عن جماع الرجل لامرأته كنى وقال: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43]، قال ابن عباس: ((لامَسْتُمُ النِّسَاءَ))، معناها: جامعتم، فانظروا إلى حياء القرآن! أما الكرم فإن شاء أكرم وإن شاء لم يكرم. إذاً: الصفات ذاتية وفعلية وخبرية. الفرع الرابع: كل صفة من صفات الله فإنه يتوجه عليها ثلاثة أسئلة -يقصد بذلك الإمام العلم رحمة الله عليه: التكييف والتمثيل والتشبيه- السؤال الأول: هل هي حقيقة أم هي مجاز؟ السؤال الثاني: صفة اليد لها كيفية معلومة أو مجهولة؟ السؤال الثالث: هل تماثل صفات المخلوقين أم لا؟ الإجابة على ذلك: أن الصفات المثبتة لله لا بد أن نثبتها بلا تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف ولا تحريف، والمماثلة: المطابقة في الصفة، كقول: يد الله مثل يد محمد -أعوذ بالله- والمشبهة يقولون ذلك حاشا لله، هذا معنى التمثيل، لكن أنا أثبت لله يداً لا تماثل يد المخلوقين؛ لقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وبلا تشبيه، والتشبيه هو أن يقول: إن صفة الله تقارب صفة العبد، مثل أن يقول: عين الله تقارب عين المخلوق، هذا معنى التشبيه، وحاشا لله؛ لأن صفاته لا تشبه صفات المخلوق، وبلا تكييف، والتكييف أن تقول: كيفية يد الله كذا، فتأتي لها بمماثل، وتكيف لله جل وعلا وتصوره في الذهن، هذا لا يجوز أيضاً؛ لأن الله قال: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]. والإنسان لا يكيف الصفة إلا إذا رأى صاحب الصفة، وهو لم ير الله، أو أخبره من رأى صاحب الصفة بكيفية الصفة، ولم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بكيفية الصفة، أو وجد مثيلاً لصاحب الصفة فينظر إليه فيقول: كيفية صفته ككيفية صفة المثيل، والله يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. إذاً: نثبت الصفة لله بلا تمثيل، ولا تشبيه، ولا تكييف، ولا تأويل، ولا تحريف، وهذه هي القاعدة الأولى: أننا نمرر ظاهر اللفظ على ظاهره.

المعطلة وأقسامهم

المعطلة وأقسامهم القاعدة الرابعة التي قعدها الشيخ، وهي نبراس لكل طالب علم حتى يرد الفرع إلى الأصل، ومن ضبط هذه القواعد فقد تعلم العقيدة، قال: القاعدة الرابعة: بم نرد على المعطلة؟ والمعطلة قسمان: معطلة تعطيلاً كاملاً محضاً، ومعطلة تعطيلاً ناقصاً، والمعطلة تعطيلاً كاملاً هم الجهمية، وهم الذين عطلوا الذات والاسم والصفة، يقولون: ليس اسمه السميع ولا عنده سمع ولا بصير ولا بصر، ولا كريم ولا كرم ولا قدير ولا قدرة، والتعطيل يساوي النفي، فهم يعبدون عدماً حتى الصنم لم يحصلوا عليه والعياذ بالله! والمعطلة تعطيلاً ناقصاً هم المعتزلة، وهم يثبتون لله الأسماء، وينفون الصفات، فيقولون: الله عزيز، لكن بلا عزة. حاشا لله! ويقولون: سميع بلا سمع، معأنه لو قلت: إن محمداً سميع، فأنا أقصد بالسميع أنه يسمع الكلام، ولذلك كانت عائشة تقول: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات كلها، المرأة تشتكي زوجها للرسول صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت يخفى علي بعض حديثها، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1]، فهم يقولون: سميع بلا سمع، قدير بلا قدرة، كريم بلا كرم. وما هو الفرق بين المعطلة تعطيلاً كاملاً -وهم الجهمية- وبين المعطلة تعطيلاً ناقصاً وهم المعتزلة؟ الفرق: أن الجهمية نفوا الاسم والصفة فقالوا: لا سميع ولا سمع، والمعتزلة نفوا الصفة دون الاسم فقالوا: سميع لكنه بلا سمع. فالشيخ يقول القاعدة الرابعة التي نرد بها عليهم أنهم خالفوا ظاهر النصوص، وقد قعد القاعدة الأولى وهي أننا لا بد أن نأخذ بظاهر النصوص، فقالوا: اليد هي النعمة، وظاهر اللفظ يقول: ليست بنعمة، وقالوا: معنى أن الله يحب فلاناً أي: يريد ثوابه، وهذا خلاف الظاهر، فهم خالفوا ظاهر القرآن وظاهر السنة، وإجماع الصحابة. ويلزم من قولهم التنقيص من قدر الله جل في علاه كما سنبين.

شرح بسم الله الرحمن الرحيم

شرح بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ العلامة موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي عليه رحمة الله: [بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد، لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتبصير، قال تعالى: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. لقد بدأ الإمام العلامة ببسم الله الرحمن الرحيم، قال العلماء: إن المصنف إذا ابتدأ ببسم الله فإنه من روائع البيان، وقد اقتدى المصنف بكتاب الله؛ لأن أول كتاب الله آية بسم الله الرحمن الرحيم، وهي آية على الراجح من الفاتحة، وهي آية تفصل بين كل سورة وسورة، وأيضاً اقتدى برسول الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث بالكتب إلى كسرى وقيصر ويقول فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله). وقد وقعت قصة طريفة في هذه المسألة وتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يعرف أن يقرأ أو يكتب فنقول كتب رسول الله بسم الله الرحمن الرحيم، أي: أمر أن يكتب، كما تقول: بنى عمرو بن العاص الفسطاط، فهو لم يبنها طوبة طوبة ولكن أمر ببنائها، فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمر علي بن أبي طالب في صلح الحديبية بقوله: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال كفار قريش: لا نعرف الرحمن الرحيم، اكتب باسمك اللهم، فقد بدأ باسم الله، لكن الطريف هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي: (اكتب باسمك اللهم، هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله، قالوا: لو كنت رسول الله لاتبعناك، فقال لـ علي: امحها، فقال علي: والله لا أمحوها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم -وهنا الشاهد-: أرني أين هي فأمحوها أنا)، أي: بين لي أين مكان (محمد رسول الله) حتى أمحوها، وهذه هي المعجزة الكبيرة لرسول الله أنه لا يعرف القراءة ولا يعرف الكتابة بأبي هو وأمي، وأوتي جوامع الكلم. فالمصنف اقتدى بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والباء في (باسم) للإلصاق، ومتعلقها محذوف تقديره: أبتدئ باسم الله، أو أصنف باسم الله، أو أستعين باسم الله، وقد بدأ بها ولم يبدأ بالفعل تبركاً باسم الله، وقد بينا أن تقديم الأهم على المهم واجب، وتقديم الأشرف على الشريف واجب، وأشرف ما يبتدأ به هو اسم الله، ولذلك لم يبدأ بالفعل. والاسم مشتق من السمة، أي: العلامة، وهذا في حق الله حق؛ لأن الاسم علامة على ذات الله جل في علاه، وأيضاً مشتق من السمو وهو العلو، والعلو المطلق لله، وهو يشمل علو القهر، وعلو القدر، وعلو الذات؛ لأن الله علي على عباده بذاته بائن من خلقه جل في علاه. إذاً: (باسم الله)، الله علم على ذات الله، وهو اسم الله الأعظم؛ لأنه أكثر اسم ذكر في القرآن، وأيضاً كل أسماء الله تضاف إلى هذا الاسم، لكن اسم (الله) لا يصح أن يضاف لاسم من أسمائه، فلا يصح أن تقول: الرحمن الله، وتجعل الله صفة للرحمن، لكن يصح أن تقول: الله الرحمن فتقول: الرحمن صفة لله، الله الكريم والكريم صفة لله، فالله هو الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب. (الرحمن الرحيم): اسمان من أسماء الله الحسنى يتضمن كل اسم منهما صفة كمال وهي صفة الرحمة، وإذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، فالرحمن اسم من أسماء الله يتضمن صفة ذات، والرحيم يتضمن صفة فعل، فالرحمن اسم من أسماء الله الحسنى لأنه يتضمن صفة كمال وهي الرحمة، وهذه الصفة صفة ذات، والرحيم اسم من أسماء الله، أيضاً يتضمن صفة كمال وهي الرحمة، لكنها صفة فعل، فما الفرق بينهما؟ الفرق أن الرحمن صفة ذات، إذاً: فهي عامة في المؤمن والكافر، ويتصف الله بها أزلاً وأبداً، ولذلك نرى أنهم يسبون الله ويرحمهم ويعطيهم ويشفيهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت أحداً أصبر -صفة الصبر لله- أصبر على أذى سمعه من الله، ينسبون له الولد ويرزقهم ويعافيهم). فالله جل وعلا يرحمهم بالصفة الذاتية؛ فقد جاء بها على وزن (فعلان) كناية عن سعتها، فهي صفة ذاتية، أما الرحيم فهي صفة فعلية يرحم من يشاء ويعذب من يشاء، فالرحيم هنا خاصة بالمؤمنين. إذاً: الرحمن تعم الكافر والمؤمن، لكن الرحيم خاصة بالمؤمنين؛ لقول الله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، ولم يقل رحماناً؛ لأن الرحمن عامة للكافر والمؤمن، أما الرحيم فهي خاصة بالمؤمن.

العلاقة بين الحمد والشكر

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - العلاقة بين الحمد والشكر هذا الملف يتناول الكلام عن معنى الحمد والشكر والفرق بينهما، وأن الله تعالى ليس كمثله شيء من مخلوقاته، فقد نزه نفسه عن الصاحبة والولد، ونفذ قهره وقوته على جميع مخلوقاته، فلا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وله الأسماء الحسنى والصفات العلى كما وصف نفسه ووصفه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فيجب الإيمان بها وتلقيها بالتسليم والقبول من غير تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تأويل.

مقدمة لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد

مقدمة لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد

تعريف الحمد والفرق بينه وبين الشكر

تعريف الحمد والفرق بينه وبين الشكر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [الحمد لله المحمود بكل لسان]. الحمد هو الثناء الجميل الحسن على المحمود جل في علاه فيما هو أهل له من صفات الكمال، والجلال، والبهاء، والعظمة، فهو ثناء باللسان وإقرار بالقلب. والفرق بين الحمد والشكر: أن الحمد لا يستلزم وجود النعمة عند الحامد، بخلاف الشكر، فالحامد يمدح ربه بصفات الكمال والجلال، والشاكر يمدح ربه على نعمة أسداها إليه، فالفارق بينهما عموم وخصوص، فالحمد أعم من الشكر من حيث المتعلق به، إذ تعلَّق بصفات الكمال والجلال والبهاء والعظمة لله جل في علاه، وبأسماء الله وأفعاله التي لا تنتهي، والشكر أخص من ناحية المتعلق به؛ إذ الشكر لا يكون حمداً أو مدحاً إلا على نعمة أسداها الرب جل في علاه. والحمد أخص من ناحية الآلة، فإن الحمد يكون باللسان، ويكون باللسان والقلب معاً، إذ بالقلب إقرار بصفات الكمال لله جل في علاه، وإقرار بجمال الله، وببهاء الله، وعظمة الله جل في علاه. وأما الشكر فيكون باللسان وبالقلب وبالجوارح، فيكون باللسان بأن يشكر الله على النعمة التي أسداها إليه، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]. ويكون بالقلب بالإقرار بأن المنعم هو الله جل في علاه. ويكون بالجوارح بالعمل الصالح، قال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13]، والذي أسدى النعمة في الأصل وبحق هو الله جل في علاه، وجعل البشر سبباً في ذلك، وشكر السبب من شكر المنعم، لكن الجهلة تميل قلوبهم للسبب والواسطة وينسون بذلك الأصل وهو الله جل في علاه الذي أسدى إليهم هذه النعمة. فالحمد أعم من حيث المتعلق، والشكر أعم من ناحية الآلة. إذا أنعم الله عليك بنعمة البصر فعليك ألا تطلق البصر في الحرام، وهذا من شكر النعمة، وإذا أسدى الله إليك الصحة فعليك أن تستخدمها في طاعة الله جل في علاه، كنصرة المظلوم، فهذا من شكر الجوارح. والسمع نعمة من نعم الله جل في علاه، لا بد من تأدية شكرها، ومن تأدية شكرها عدم سماع الغيبة والنميمة والغناء، والكلام الفاحش، والسب، وعدم سماع الكلام الذي لا يرضي الله جل في علاه. وأيضاً نعمة اليد ونعمة اللسان، وغيرها من النعم التي لا بد من شكرها.

العلاقة بين الحمد والشكر

العلاقة بين الحمد والشكر العلاقة بين الحمد والشكر أنهما إذا افترقا اجتمعا، وإذا اجتمعا افترقا، أي: إذا اجتمعا في اللفظ افترقا في المعنى، فمن قال: أحمد الله وأشكره فقد جمع بين الحمد والشكر في اللفظ، فيفترقان في المعنى فيكون الحمد خاصاً باللسان فقط، والشكر يكون باللسان والقلب والجوارح. وإذا افترقا في اللفظ اجتمعا في المعنى، فالحمد يدخل تحته الشكر، فالحمد لله يكون باللسان وبالقلب وبالجوارح، والشكر يدخل تحته الحمد فيكون بالثناء الجميل على الله بصفات كماله، ويكون بإقرار القلب على أن المنعم هو الله، ويكون بعمل الجوارح.

فوائد الحمد والشكر

فوائد الحمد والشكر فوائد الحمد والشكر كثيرة أهمها: الفائدة الأولى: حب الله جل في علاه، فإن العبد الذي يحمد الله على النعم التي أسداها الله إليه يكون محبوباً عند الله جل في علاه، ودرجات المحبة متفاوتة عند الله جل في علاه. أما الدليل على ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أحد أحب إليه المدح من الله)، والحمد أصله المدح والثناء الحسن على الله جل في علاه، فالله يحب ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله يحب إذا أكل أحدكم الأكلة أن يحمده عليها، وإذا شرب الشربة أن يحمده عليها)، فهذه دلالة صريحة على أن الله يحب من العبد الحمد، وإذا حمد العبد الله أحبه الله، فإذا أحبه الله جعل له القبول في الأرض، كما في الصحيحين: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يكتب له القبول في الأرض). وإذا أحب الله عبداً نقله من درجة المحبة إلى درجة المحبوبية، فإن الله إذا أحب عبداً عصمه من السيئات، وإن أساء فإن الله يلهمه التوبة. وأيضاً: إذا أحب الله عبداً سهل له أموره، وفتح له كل أبواب الطاعة، وأغلق عليه كل أبواب المعصية، وفتح له أبواب العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فالتفقه في الدين من محبة الله للعبد، فإن الله إذا أحب عبداً بصره بالطريق الذي يسير فيه إلى الله جل في علاه، وجعله يرتقي إلى المعالي والدرجات العلى عند الله مع الأنبياء والمرسلين. والعبد الذي يحبه الله جل في علاه لا يخلو من بلاء أيضاً، فقد قال الإمام مالك: من لم يبتل فليشك في إيمانه، وفي محبة الله له، والدليل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الترمذي بسند صحيح أنه قال: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم) فالابتلاء شرط في محبة الله للعبد. والبلاء أنواع: بلاء حسي، وبلاء معنوي، فالبلاء الحسي: كالتضييق في المال مثلاً، وكالمرض والحوادث، والبلاء المعنوي: كالهم، والغم، والحزن، ورسوب الأولاد وغيرها. وابتلاء الله للعبد دلالة على محبته، كما في سنن الترمذي أو النسائي: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أحب الله ورسوله، قال: انظر ما تقول، قال: أحب الله ورسوله، فقال: فأعد للفقر تجفافاً) أي: استعد للبلاء؛ لأن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، فمحبة الله جل في علاه تحققت من كثرة الحمد وكثرة الشكر؛ ولذلك فإن الله مدح عبده نوحاً بأسمى ما فيه، فقال: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3] واختار ربنا جل في علاه أفضل الأسماء لنبيه وأكرم الخلق عليه وأحبهم إليه فهو خليله محمد صلى الله عليه وسلم فمن أسمائه محمد وأحمد، ومعناهما كثير الحمد وكثير المحامد؛ وكان الكفار إذا أرادوا أن يذموا محمداً كانوا يقولون: مذمماً، ومن أخلاقياته العالية أنه كثير الحمد لله جل في علاه. ودرجات المحبة عند الله: درجة المحبة، ودرجة المحبوبية. فدرجة المحبة: هي أول درجات المحبة عند الله جل في علاه، ويرتقي إليها المرء بفعل الواجبات كالصلوات الخمس، والانتهاء عن المحرمات. والمرأة إذا أدت الفرائض، وانتهت عن المحارم، وأطاعت زوجها؛ بلغت درجة المحبة أو أرقى من ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن المرأة إذا أرضت ربها وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها، فطاعتها لزوجها هو الركن الركين؛ ولذلك لما جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (انظري أين هو منك؟ فإنما هو جنتك ونارك) أي: فلا تدخلي الجنة إلا بطاعته، فإذا عصيته فإن الله جل وعلا لا يرضى عنك وسيدخلك النار، فقد ورد في مسند أحمد بسند صحيح: (أن المرأة إذا أطاعت زوجها وأطاعت ربها كانت كالمجاهد)، أي: فقد بلغت درجة الجهاد في سبيل الله؛ لأنها أرضت الله في حسن تبعلها لزوجها. فالمرأة غير الرجل، فالرجل إذا أتى بالفرائض وانتهى عن المحرمات بلغ درجة المحبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) وهذه درجة المحبوبية التي هي أرقى من درجة المحبة، وهذه الدرجة لا ينزل عنها العبد أبداً حتى وإن عصى؛ لأن الله جل في علاه فتح له باب المعصية ليبتليه ويعلمه أن الله إذا وكله إلى نفسه فقد وكله إلى هلاك وضلال، وأن الله جل وعلا إذا لم يحطه بكفالته سيصبح فريسة لهواه وللنفس وللشيطان، وإن الله جل وعلا يكتنفه بفضله وبرحمته؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو ويقول: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين). فإن العبد المحبوب لدى ربه إذا وكله إلى نفسه أراد أن يعلمه أنه إذا وكل إلى نفسه فإنه وكل إلى بوار وإلى هلاك، وأيضاً أراد أن يعرفه بأن الله جل وعلا هو الذي يتفضل عليه بحفظه وعصمته من الشيطان، فإذا عصى ألهمه بعد ذلك التوبة ليرتقي منزلة فوق المنزلة التي هو فيها. الفائدة الثانية من فوائد الحمد والشكر: تثبيت النعم، فإن النعمة -التي أسداها الله للعبد- لا تثبت إلا بالشكر، ولذلك قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53] أي: يغيروا ما في قلوبهم، فلا يقرون بأن هذه نعمة الله جل في علاه، ولا يشكرون ربهم، فتثبيت النعم بالشكر. الفائدة الثالثة وهي مهمة جداً: زيادة النعم، فإن النعم يولد بعضها بعضاً، بسبب الشكر، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]. وقال علي بن أبي طالب: الدين قسمان: قسم صبر وقسم شكر، فمن أتى بالصبر فقد أتى بنصف الدين، ومن أتى بالشكر فقد أتى بالكمال، فإذا أتى بالكمال بلغ المنازل العلى عند ربه جل في علاه.

معنى قول المصنف: المعبود بكل مكان

معنى قول المصنف: المعبود بكل مكان قال المصنف رحمه الله تعالى: [المعبود بكل مكان]. بمعنى: أن الله جل وعلا يعبد في المشرق وفي المغرب، وفي البحار، وفي أعالي السماء، وفي كل حين وفي كل مكان. أما في كل حين فلن تجد شمساً تشرق على أرض إلا وفيها ذاكر لله جل في علاه، ولن تجد سماءً إلا وفيها عابد لله جل في علاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم واصفاً لنا ما يحدث في السماء: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته ساجد لله). فكثير من الملائكة مسخرون للتسبيح فقط كحملة العرش، ومنهم من يحج إلى البيت المعمور وإلى بيت العزة في السماء الدنيا، والبيت المعمور يطوفه كل يوم سبعون ألف ملك، لا يرجعون إليه إلى يوم القيامة، فالملائكة يعبدون الله جل في علاه في كل طبقة من طبقات السماوات السبع، وفوق العرش فعبادة كل شيء تغاير عبادة الشيء الآخر حسب ما أوجب الله على العباد من العبادة، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] وقال جل في علاه: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83] فكل من في السماوات والأرض يعبدون الله، فالماء والعرش يسبحان الله، وما من شيء إلا ويسبح بحمد ربه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]. جاء بسند صحيح عن ابن مسعود قال: (كنا نسمع تسبيح الطعام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فكل ما خلق الله من حجر وشجر ونهر وبحر وسمك وغيرها فإنها تعبد الله جل في علاه. بل إن هناك جبلاً يحب رسول الله، ويحب صحابته فالحب في الله عبادة، كما قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل عرى الإيمان) أي: فقد استكمل الإيمان، ونال ولاية الله جل في علاه بالحب في الله والبغض في الله، فالجبل يعبد الله بحب رسول الله وحب صحابته؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقبل على المدينة قال: (هذا أحد جبل يحبنا ونحبه). والأرض تقر بما فعل العبد الطائع عليها، وتشهد له بما صنع من عبادة لله جل في علاه.

معنى قول المصنف: يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون

معنى قول المصنف: يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون قال المصنف رحمه الله تعالى: [الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون]. (يعلم ما كان) أي: بما حدث في الأمم السابقة. (وما يكون) أي: بما سيكون ويئول إليه الأمر، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين) وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعة سنون خداعة يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، وينطق الرويبضة، قالوا: يا رسول الله! وما الرويبضة؟ قال: الفاسق أو الفويسق يتكلم في أمر العامة). وفي زماننا هذا فإن الرجل المزور الذي يزيف الأقوال يصبح صادقاً ومبجلاً، والرجل الصادق يصبح مهاناً. وما أكثر الرويبضات الذين يتصدرون في أمر العامة وهم ليسوا بأهل، فيناصرهم الناس ويزعمون أنهم يناصرون الحق، فحسابهم عند ربهم في ذلك، وعند الله تجتمع الخصوم. وقوله رحمه الله: (ويعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون) أي: في علم الغيب، كما قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:27 - 28] فإن يرد الله الكفار إلى الدنيا مرة ثانية، ويبعث إليهم الرسل، فسيعودون إلى ما كانوا عليه، وهذا ممكن وليس مستحيلاً، فإن الله جل وعلا إذا أراد أن يقول للدنيا كوني فستكون، قال تعالى {إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، أما المستحيل فهو بقاء الكون إذا كان له عدد من الآلهة، قال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] وقال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] أي: لفسدت السماء والأرض؛ فإن رب الشمس والعياذ بالله لو اختلف مع رب القمر فإنه سيحبس الشمس، فكل إله يذهب بما خلق ويعلو بعضهم على بعض. فالمقصود: أن علم الله يشمل كل شيء، علم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون، سبحانه يعلم ما في السماء، وما في الأرض، وما في البحار، و {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ولا تواري عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، سبحانه جل في علاه وهو العليم الخبير، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].

معنى قول المصنف: جل عن الأشباه والأنداد

معنى قول المصنف: جل عن الأشباه والأنداد قال المصنف رحمه الله تعالى: [(جل عن الأشباه والأنداد)]، فهذا من الميل والإلحاد في تصحيف الله جل في علاه أن يجعل له نداً؛ ولذلك قال الله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]. فلا أحد يسامي أو يجاري الله جل في علاه في عظمته وكرمه وكماله وبهائه وقدرته سبحانه جل في علاه، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]. وقال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) فالندية هنا في الربوبية، وفي الحمد والشكر، لأن من لوازم الربوبية أنه الخالق والرازق والمدبر والآمر والناهي وغيرها، فالربوبية إذا اجتمعت مع الإلهية افترقتا، وإذا افترقتا فتكون الندية في الربوبية أو الإلهية، فهو جل عن الند والنظير سبحانه جل في علاه.

معنى قول المصنف: وتنزه عن الصاحبة والأولاد

معنى قول المصنف: وتنزه عن الصاحبة والأولاد قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتنزه عن الصاحبة والأولاد] أي: نفي عن الله أن يكون شبيهاً بالخلق؛ لأن المخلوق هو الذي يحتاج لغيره، فالرجل يحتاج إلى المرأة والمرأة تحتاج إلى الرجل، ومن قال أن لله صاحبة أو ولداً فقد نزل الخالق منزلة المخلوق، فإن الله جل في علاه صمد أحد لم يلد ولم يولد، ولم تكن له صاحبة.

معنى قول المصنف ونفذ حكمه في جميع العباد

معنى قول المصنف ونفذ حكمه في جميع العباد قال المصنف رحمه الله تعالى: [ونفذ حكمه في جميع العباد] أي: أن الله تعالى قهر العباد بالعبادة له جل شأنه، فعبادة الربوبية لا يمكن لأحد أن يردها على الله؛ لأن العبادة عبادتان: عبادة اختيارية، وعبادة قهرية، والعبادة القهرية: هي عبادة الربوبية، كالمرض والموت وغيرهما، ونفذ حكمه في كل الخلق عندما يأمر بالنفخة الأولى فيموتون إلا ما شاء الله، وبالنفخة الثانية يبعثون من قبورهم إلى ربهم جل في علاه، لا يتخلف أحد عن ذلك.

معنى قول المصنف: لا تمثله العقول بالتفكير

معنى قول المصنف: لا تمثله العقول بالتفكير قال المصنف رحمه الله تعالى: [لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]]. وهذه العبارة مصداقها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتفكروا في الله ولكن تفكروا في خلق الله) وهذا الحديث حسن كما قال بعض العلماء، فالله جل في علاه لا يصله الفكر. ولذلك ورد في الآثار أن من الناس من كان يتكلم في صفات الله، فقيل له: صف لنا جبريل ومعه الأجنحة الثمانمائة أو الستمائة، فما استطاع، فقيل له: صف لنا ثلاثة أجنحة من أجنحة جبريل ونعفيك من باقي الأجنحة، فلم يستطع إلى ذلك سبيلاً، فقال: رجعت رجعت؛ لأنه لم يستطع أن يتفكر في كيفية صفة المخلوق فمن باب أولى ألا يتفكر في كيفية صفة الخالق الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وهذه الآية فيها إثبات الصفات، قال تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] بلا تمثيل ولا تشبيه، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].

وجوب إثبات صفات الله تعالى على الوجه اللائق به

وجوب إثبات صفات الله تعالى على الوجه اللائق به قال المصنف رحمه الله تعالى: [له الأسماء الحسنى والصفات العلى، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:5 - 7]]. (الرحمن) اسم من أسماء الله ويتضمن صفة كمال وهي الرحمة. وفي قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] الاستواء صفة من الصفات، وقوله تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] إثبات صفة العلم لله جل في علاه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل. وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله، اتباعاً لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]]. فلابد للمسلم أن يعبد الله بالتسليم التام، فإن العبد لا يمدح بالعبودية التي هي أرقى مقامات يصل إليها الإنسان إلا بالتسليم الكامل لله، فإن الله مدح إبراهيم عليه السلام بالتسليم الكامل حيث قال: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131] أي: استسلمت وخضعت وآمنت لكل أمر من أوامر الله ولكل حكم من أحكامه، دون أدنى معارضة، وآمنت بآيات الصفات فأثبت لله ما أثبته لنفسه، ونفيت عنه ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. كما قال الإمام الشافعي: آمنت بالله وبما جاء عن الله وعلى مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

معنى التشبيه والتمثيل

معنى التشبيه والتمثيل وقد ذكر المصنف عدم التعرض لآيات الصفات أو أحاديثها بالتأويل، أو التشبيه، أو التمثيل، والتمثيل: هو التشابه من كل وجه، أي: المطابقة، أما التشبيه: فهو التشابه في أغلب الصفة، كأن يقال: صفة اليد لله تشبه صفة المخلوق، حاشا لله من ذلك! فنؤمن بقول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فنقول: استوى ربنا على العرش، ونؤمن بهذا الاستواء ونعلم معناه، ولا نكيفه بكذا أو كذا، ولا نشبهه باستواء الخلق، لأن قولنا: استوى محمد على الكرسي بمعنى: جلس وعلا عليه، لكن استواء الله بمعنى: علا وارتفع واستقر، ولا نقول: جلس؛ لأن الحديث الذي ورد فيه أن الله علا وقعد أو علا وجلس، حديث باطل، لا تصح أي رواية من رواياته أن تنسب للنبي صلى الله عليه وسلم. فنقول: استواء الله لا يماثل استواء محمد من أكثر من وجه: الوجه الأول: أن استواء محمد على الكرسي يدل على أن محمداً يحتاج للكرسي، فإذا سحبته منه وقع على الأرض، لكن العرش نفسه يحتاج إلى الله جل في علاه، وهذا من المفارقات. الوجه الثاني: استواء محمد على الكرسي دلالة على نقص محمد، أما استواء الله جل وعلا على العرش فهو دلالة على كمال الله؛ لأنه يفعل ما يشاء وقت ما شاء. فهذا إثبات صفة الاستواء دون تمثيل أو تشبيه.

معاني التأويل

معاني التأويل أما التأويل فله ثلاثة معان: المعنى الأول: ما يؤول إليه حقيقة الأمر، ففي الجنة -مثلاً- عنب وموز وفاكهة، وذكر ابن عباس أن فاكهة الجنة تشبه فاكهة الدنيا في الاسم فقط، أي أنه يتشابه الاسمان ويختلف المسميان، فعندما تدخل الجنة وتأكل من فاكهتها يظهر لك تأويل ما قاله الله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57] فتعرف حقيقتها عندما تأكلها وأنت في الجنة. فتأويل الأمر أي: حقيقة الأمر الذي يراه المرء عين يقين، كما قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53]. والمعنى الثاني: تفسير الكلمة، فمعنى قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء:95] يعني: وجب على القرية، وهذا الذي قاله ابن عباس، وعندما قرأ قول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] لم يقل: وأنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تفسيره. المعنى الثالث: التحريف، وهذا هو المقصود في العقيدة أن الأشاعرة وغيرهم يحرفون الكلم عن مواضعه، فيقولون في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] أي: قدرة الله فوق قدرتهم. وفي قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: استولى. وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد عجب ربنا من صنيعكم) يقولون: عجب ملائكته، أو عباده، ولم يثبتوا الصفة لله تعالى، فيحرفون صفة الله بأهوائهم دون أدنى دليل، فأهل السنة والجماعة يثبتون صفات الله كاليد والقدرة، والعين، والرجل، والساق، ويسلمون كل ذلك لله على حقيقته دون تحريف الكلم عن مواضعه.

رد النصوص وأنواعه

رد النصوص وأنواعه والرد هو التكذيب والإنكار وله أنواع: منها: الرد بالتأويل بقرينة حال أو قرينة مقال، والرد بغير التأويل، فالأول ليس بكفر، والثاني كفر. فالرد بالتأويل كالذين منعوا الزكاة في خلافة أبي بكر، فإنهم تأولوا قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] قالوا: الله جل في علاه أمرنا بإخراج الزكاة على أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وليس لغيره، فإن صلاة أبي بكر ليست كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن أهل السنة والجماعة لا يرونهم كفاراً بذلك. لكن لو جاء أحد في عصرنا هذا وقال: الزكاة ليست واجبة علينا، فهي خاصة بزمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان موجوداً أعطيناه الزكاة، أما وهو غير موجود فلن نخرج الزكاة، فيقال فيه: أنه كافر مرتد؛ لأنه رد حكم الله بدون أدنى دليل، أما الذين منعوا الزكاة في عصر أبي بكر فكانوا لا يزالون في عصر التشريع، والنبي صلى الله عليه وسلم مات وهم كانوا حديثي عهد بإسلام؛ ولذلك ما كفرهم الصحابة على تأويلهم. فالرد بتأويل سائغ إذا كان له وجه من اللغة كأن يقول في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] يعني: نعمة الله فوق نعمهم، وعنده قرينة من اللغة أن اليد بمعنى النعمة، والدليل على ذلك حديث صلح الحديبية، عندما قال عروة للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! إني ما أرى حولك إلا أوباشاً من الناس -يصغر من قيمتهم- أو قال: أشواباً -يعني: أخلاطاً- سيفرون عنك عما قريب، فقال أبو بكر: نحن نفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ امصص بضر اللات، وهذه كانت مسبة شديدة جداً لـ عروة والعرب ما تقبلها، فقال عروة من هذا؟ فقالوا: أبو بكر، فقال لـ أبي بكر: لولا يد لك عندي لرددت عليك، فسكت عن الرد للنعمة التي أسداها إليه. فمن رد قول الله تعالى مثلاً: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] فقال: اليد بمعنى النعمة، فهذا له مسوغ؛ فلا يكفر. لكن من يرد قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فيقول: معنى استوى: رحل فهذا كفر، لأنه ليس له مسوغ من اللغة بحال من الأحوال. وأئمة السلف يؤمنون ويعتقدون في صفات الله، فالسلفي الحقيقي هو الذي يتعلم علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه

إثبات المعنى للصفات مع تفويض الكيفية

إثبات المعنى للصفات مع تفويض الكيفية قال المصنف رحمه الله: [قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا)، و (إن الله يرى يوم القيامة)، وما أشبه هذه الأحاديث نؤمن بها ونصدق بها بلا كيف ولا معنى]. وقول المصنف رحمه الله تعالى: [وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً]. هذا الكلام لا يصح، ويرد على المصنف مع حسن الظن به، فإنه لم يقصد التفويض، والتفويض عندنا تفويضان: تفويض للكيفية، وتفويض للمعنى، وأهل السنة والجماعة يفوضون الكيفية فيقولون: لله يد لكنا لا نعلم كيفية يد الله جل في علاه، فهذا تفويض للكيفية. وأما تفويض المعنى فكتفويض معنى اليد، فاليد للبطش وغيره، هذا المعنى المعلوم، فمن فوض معنى اليد فقال: لا يعلم معناها، فإنه يدخل بذلك في قسم أهل البدع والضلال الذين يفوضون الكيفية والمعنى، ويقولون: لا نعلم عن اليد إلا تقارب الياء مع الدال، والمصنف رحمه الله من أهل السنة الجماعة ولا يمكن أن يقصد ذلك، إنما يقصد أن اللفظ المشكل الذي لا يعرف حقيقة معناه يفوض معناه؛ لأن اللفظ ينقسم إلى محكم ومتشابه، ويرد المتشابه للمحكم ليظهر المعنى. فمثلاً: قال الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] وقال الله تعالى: (الم) [البقرة:1] وقال: {كهيعص} [مريم:1] كل هذه حروف، والراجح عند أهل العلم أنها من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله، فهذا هو تفويض المعنى لله سبحانه وتعالى؛ لأنه الذي يعلم معناها، إذاً: هو يقصد عدم التعرض للمعنى في المتشابه الذي لم يظهر معناه. ومذهب الإمام أحمد التسليم لصفات الله، ولذلك قال: أعتقد أن ربي ينزل نزولاً حقيقياً يليق بجلاله وكماله، بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل ولا تكييف، فمن قال: هل يخلو العرش أو لا يخلو؟ نتوقف على ذلك، وكذلك في رؤية المؤمنين لله يوم القيامة. ويقول: ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه. فعندما نقول: ينزل، لا نقول: ينزل ويخلو منه العرش أو يبقى معه العرش، أو يكون فوق وهو نازل، أو السماء تقله أو تظله حاشا لله؛ فإنه ينزل نزولاً يليق بجلاله؛ فمن قال: السماء الدنيا تقله، والسماء الثانية تظله، فقد كيف صفات الله، وحاشا لله أن نقول ذلك، فهو ينزل نزولاً لا نعلم كيفيته، نزولاً يليق بجلاله وكماله. وإذا كان الكون كله في يد الرحمن كحبة خردل في يد أحدنا، فلك أن تعلم أن صفات الكمال لله جل وعلا لا يمكن للإنسان أن يصل إليها. ثم نقل كلاماً نفيساً للإمام الشافعي وهو أنه قال: [آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم].

الترغيب في السنة والتحذير من البدع

الترغيب في السنة والتحذير من البدع جاءت الآيات والأحاديث مستفيضة بالترغيب في السنة والتحذير من البدع، فقد أمرنا باقتفاء أثر السلف الصالح ونبذ المحدثات، أي: البدع، فإنها الضلالات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). السنة في اللغة معناها: الطريقة. وفي الاصطلاح: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من اعتقاد ومن عمل، وهؤلاء هم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هم يا رسول الله! قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي) فمن كان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح فهو على سنة، ومن خالفهم فهو على بدعة لا بد أن يرجع عنها. أما اتباع السنة فالحث عليها والترغيب فيها والأمر بها فهو ركن؛ لأن التوحيد توحيدان: توحيد عبادة، وتوحيد اتباع. وتوحيد العبادة: أن تكون كلها لله جل في علاه. وتوحيد الاتباع: أن يوحد المتبع وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وقال جل في علاه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فقد قرن الرسول معه في الأحكام ليبين أنه لزاماً ووجوباً تتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل أشد من ذلك أن الله حذر أيما تحذير من عدم قبول حكم النبي صلى الله عليه وسلم وسننه، فقال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] فإذا اختلف المسلم مع أخيه، فلا يتحاكمان إلى قول الشيخ الفلاني أو العلاني، وإنما يتحاكمان إلى ما قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم. فلا يرد حكم الله وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بقول غيرهما كائناً من كان؛ لأن المسألة مناطها كلها على قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. فمثلاً عندما سألت عائشة رضي الله عنها وأرضاها النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحق الناس بالزوج؟ قال: أمه) يعني: أن الأم تأكل قبل الزوجة، ويذهب الزوج إلى أمه قبل أن يذهب إلى زوجته، ويقدم أمه على أولاده فلذات كبده، فهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فلا بد أن تقول الزوجة: سمعت وأطعت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الأم مقدمة على الزوجة وعلى أولادها، فيجب الرضا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم بدون مشاحة ويجب على الزوجة أن ترضي زوجها بحبها لأمه ليرضى الله عنها؛ لأن المرأة لا بد أن تعلم أن هذا حكم الله وحكم الرسول فتسلم. قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] فلا بد أن نرجع إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته إلى شخصه، وبعد مماته إلى سنته صلى الله عليه وسلم.

تابع الترغيب في السنة والتحذير من البدعة

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - تابع الترغيب في السنة والتحذير من البدعة السنة محثوث عليها مرغوب فيها، والبدعة مذمومة ديناً وشرعاً وعقلاً وفطرة، فهي من عمل المغضوب عليهم والضالين، ومن آوى المبتدع أو رضي ببدعته استحق اللعنة، ناهيك عن المبتدع نفسه، فقد حجب الله عنه التوبة، والبدعة لها أقسامها المعروفة.

تعريف السنة والبدعة

تعريف السنة والبدعة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لا زلنا مع كتاب لمعة الاعتقاد، وسنتكلم عن السنة والبدعة، وحكم كل واحد منهما. السنة لغة: هي الطريقة، واصطلاحاً: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من عقيدة وعمل، وهذا مستقى ومستنبط من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: هم من كانوا على مثل ما أنا عليه وأصحابي). والبدعة لغة: الشيء المخترع، أو المستحدث، قال الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] أي: الذي خلقهن على غير مثال سابق. فالبدعة: هي الشيء المستحدث الذي ليس له مثل سابق. وفي الاصطلاح: هي: ما أحدث في الدين على خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عقيدةً وعملاً. لكن قد قال الشاطبي: في تعريف البدعة كلاماً بديعاً موجزاً قال: هي طريقة في الدين مخترعة تضاهى بها الشرعية -أي: تشاكل بها الشرعية- كأن يأتي بصلاة مثل الصلاة يضاهي بها الصلاة الشرعية، يقصد منها المثول، وهو الامتثال هو التعبد لله، أو الاجتهاد لله في العبادة، إذاً عرفها الشاطبي بقوله: هي طريقة في الدين مخترعة يضاهى بها الشرعية يقصد من المثول عليها الاجتهاد في عبادة الله جل في علاه.

الترغيب في السنة

الترغيب في السنة والسنة محثوث عليها والبدعة مذمومة ديناً وشرعاً وعقلاً وفطرةً، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21] فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فلا بد أن يثبت حسن طريقته بالسير على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، وما أبدع وما أحسن ما قال الحسن: زعم أناس حب رسول الله -وأنا أكرر هذا على النساء؛ لأن فيهن عوجاً فإذا قيل لهن: قال رسول الله، قلن: قال فلان وقال علان، وهذا عوج ليس بعده عوج، ولولا أن الجهل متقدم على القائل لقلنا بكفره، فليس لأحد أن يرد قول الله جل في علاه أو قول رسول الله لقول أحد كائناً من كان، وقد قال مالك رحمه الله: إن كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وكان أبو حنيفة -الذي قال فيه الشافعي: الفقهاء عيال على أبي حنيفة - يقول: إن وجدتم قولي عارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط وخذوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم. فالصحيح أن نقول: إن سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن لأحد أن يعارضها، وأنا أؤكد هذا على النساء حتى لا يعارضن قول رسول الله بقول أحد كائناً من كان. يقول الحسن البصري: زعم أقوام حب الله فامتحنهم باتباع طريقة رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال جل في علاه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:31 - 32]، ثم قال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32] معنى ذلك: أن الإنسان إذا تنكب صراط النبي صلى الله عليه وسلم ورجع القهقرى فإنه على طريق الهلكة، فمعصية النبي صلى الله عليه وسلم بريد الكفر، خاصةً إن علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ثم عارضه بأقوال الناس. وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى -فعجب الصحابة- قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! فقال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) ومن باب أولى: من ضرب بقولي عرض الحائط لقول أحد فقد أبى، فقد قال الله تعالى مبيناً طريق أهل البدعة والضلالة: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] وقال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] وقال جل في علاه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] والنبي صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من البدعة وحثنا على امتثال طريقته بقوله كما في السنن عن العرباض بن سارية بسند صحيح وهو في المسند قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً) فالاختلاف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير؛ ولذلك نقول: إذا أرادت الأمة أن تكشف عنها هذه الكربة، وأن تنهض مرة أخرى كالطود الشامخ، فلابد أن ترجع إلى الرعيل الأول، وكما قال الإمام مالك: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها، فلا بد من الرجوع إلى الرعيل الأول. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ) فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا أن النجاة كل النجاة في التمسك بسنته وسنة خلفائه الراشدين، وفي السنن أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي) ما قال: كتاب الله فقط حتى لا تكون قرآنياً، ولكن قال: كتاب الله وسنتي.

التحذير من البدع

التحذير من البدع لقد حذر الله من البدع أيما تحذير، وبين لنا أنها من عمل المغضوب عليهم والضالين فقال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] فهم ما أرادوا إلا رضوان الله، والتعبد لله، والاجتهاد في عبادة الله، ومع ذلك ذمهم الله أيما ذم، فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ذماً لهم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من آوى محدثاً) يحذر من البدع، فأين وجه الذم في هذا الحديث؟ A وجه الذم أن المبتدع محدث في الدين، فاستحق اللعنة من آواه أو رضي ببدعته، ويؤخذ من هذا الحديث أنه يجب على كل صاحب سنة أن يظهر المبتدع بين الناس ويحذر من بدعته، وانظر كيف استحق اللعن لأنه أوى المحدث، فكيف بالذي أحدث البدعة! وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في السنن بسند صحيح وهو الصاعقة على كل مبتدع -قال: (حجب الله التوبة، أو قال: أبى الله أن يتوب على كل مبتدع) فحجب الله التوبة على المبتدع لأنه أخو الشيطان، ويقول الثوري أمير المؤمنين في الحديث: البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية؛ لأن المعصية يتوب منها صاحبها، أما البدعة فإن صاحبها ينافح عنها، ويدافع عنها، ويقاتل من أجلها، كما سار كثير من المبتدعة إلى الفضائيات وأخذوا يناضلون من أجل هذه البدعة. وقد جلست مع كبير لهم فبكى أمامي، وتهرب من المناظرة، وخشي على نفسه من الضلال والجهل الذي ظهر ووضح على وجهه، فلم يرض أن يكمل معي الجلسة، وهو الآن يظهر في الفضائيات كما أعلمت بذلك على أنه رجل من أهل العلم، فيظهر في مجالس العلم يدعو إلى هذه البدعة المقيتة!! فالذي يبتدع، والذي يأوي المبتدع، والذي ينافح عن البدعة أحب إلى الشيطان من العاصي؛ لأن العاصي قد يرجع ويئوب ويتوب، أما المبتدع فلا يرجع عن بدعته، بل يدافع عنها؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من آوى محدثاً) و (أبى أن يتوب الله على مبتدع). والبدعة بدعتان: بدعة أصلية، وبدعة فرعية إضافية، والبدعة الإضافية لها أقسام كثيرة: بدعة زمانية، وبدعة مكانية، وبدعة في الهيئات، ولست بصدد التفصيل في هذه المسائل؛ لأني أريد أن أدخل في صلب الكتاب، ولأنني لو فصلت في هذا المقام لن أنتهي. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد -صفة الوجه واليدين لله تعالى

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد -صفة الوجه واليدين لله تعالى من عقيدة أهل السنة والجماعة أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من الصفات أو أثبته له رسوله، ومن تلك الصفات: صفة الوجه واليدين، فهما صفتان ثابتتان لله تعالى بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة، وعلينا أن نحذر من طرق أهل البدع الذين نفوهما أو أولوهما بما يخالف الكتاب والسنة

إثبات صفة الوجه لله تعالى والرد على المخالفين

إثبات صفة الوجه لله تعالى والرد على المخالفين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر بعض آيات الصفات: فمما جاء من آيات الصفات قول الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]]. هذه صفة من صفات الله جل في علاه، وهي صفة الوجه، و Q من أين عرفنا أن هذه صفة لله؟ A لأن هذه الصفة أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27]. وقال الله جل وعلا: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42] فالساق هنا صفة لله، وقد وردت آثار فيها أن المراد بقوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) أي: عن شدة يوم القيامة، وهي عن ابن عباس، لكنها ضعيفة. ونحن نثبت الصفة لله سبحانه إذا أضافها إليه، فمتى أضيفت الصفة إلى الموصوف فإننا نثبتها له. إذاً: (يوم يكشف عن ساق) ليست الساق هنا من آيات الصفات، بل هي من آيات الصفات، فكيف نجمع بين المتناقضين؟ نقول: ليست من آيات الصفات ضبطاً؛ لأنها لم تضف لله في هذه الآية، فلم يقل: يوم يكشف عن ساق ربك، فهي من هذا الجانب ليست صفة، لكنها صفة من جهة الحديث، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (إن ربكم يأتي عباده يوم القيامة فيأتيهم في الصورة التي لا يعرفونها فيقول: ما تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيقول: تعرفونه؟ فيقولون: نعرفه، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: لست بربنا نعوذ بالله منك، فيأتيهم في الصورة التي يعرفونها) وفي هذه دلالة على أن لله صفة اسمها: الصورة كما سنبين، قال: (فيأتيهم في الصورة التي يعرفونها فيكشف الله جل في علاه عن ساقه فيخرون سجداً) فهنا صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن لله ساقاً وسيكشف عنها يوم القيامة، وهذا موافق للآية: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] فلا يمكن أن تثبت لله صفة إلا إذا أضيفت إلى الله. وصفات الله: إما خبرية، وإما فعلية، وإما ذاتية، وصفة الوجه صفة خبرية لا تنفك عن الله، وضابطها: أن مسماها عندنا جزء وبعض، لكنها إذا أضيفت إلى الله إضافة الصفة للموصوف فإنها تكون على ما يليق به سبحانه وتعالى، فهذه الصفة الجليلة صفة الوجه ثبتت لله بالكتاب وبالسنة، وبإجماع أهل السنة. أما بالكتاب فقد قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] وفي السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) فهذه كلها تصريحات لوجه الله جل في علاه. وأما الإجماع فقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن لله وجهاً يليق بجلاله وكماله وبهائه وعظمته سبحانه وتعالى. فأقول تأسيساً وتأصيلاً: أعتقد أن لربي وجهاً يليق بجلاله وكماله بلا تشبيه وبلا تمثيل وبلا تحريف، فلا أقول: الوجه هو الثواب، ولا أعطل الوجه، ولا أنفيه. فإذا سمع مبتدع ضال دعاء وأنا أقول: اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن تجعلني مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، فيقول المبتدع: كيف وجه الله؟ فأقول له وقد استيقنت من عقيدتي وأتقنتها: أنت مبتدع، فإن الوجه في اللغة معلوم والكيف مجهول، فصفات الله لها كيفية لكنا لا نعلمها، فقد أخفاها الله عنا، والإيمان بصفات الله واجب، والسؤال عن كيفية الصفات بدعة. وإذا اعتقدت بأن لربي وجهاً فكيف أتعبد لله بهذه الصفة الجليلة؟ فلا بد أن أسأل عن صفات وجه الله، وصفات وجه الله سبحانه وتعالى قد بينها لنا النبي صلى الله عليه وسلم جلية بأن السماوات والأرض تستنير بنور وجه الله جل في علاه، ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) (سبحات وجهه) أي: أنوار وجهه، وهذا فيه دلالة على أنه لا يعلم عظم نور وجه الله إلا الله جل في علاه، -اللهم ارزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم- وقوله: (ما انتهى إليه بصره من خلقه) بصر الله ينتهي إلى كل خلقه سبحانه وتعالى، فقد وسع بصره كل الخلق، وكل الكائنات. وأعظم ما ينعم به أهل الجنة هو النظر إلى وجه الله الكريم. فإذا اعتقد المسلم أن لربه وجهاً، وأن هذا الوجه موصوف بالجلال والإكرام والبهاء والعظمة والأنوار؛ فإن نفسه تتوق إلى النظر إلى وجه الله الكريم، فإن الإنسان إذا سمع بجميل هوت نفسه إلى رؤيته، فما بالكم إذا سمع وعلم أن وجه ربه جل في علاه أشرقت به السماوات والأرض، فإن الهمة تعلو عندما يصبو الإنسان إلى أن ينظر إلى وجه الله الكريم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] قال: الحسنى الجنة، وهذه أول درجة، لكن أرقى منها مقاماً قال: والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، فإذا علمت الأخت المسلمة واعتقدت أن لربها وجهاً وله أنواراً وسبحات فإنها ستحافظ على طاعة ربها، على الفرائض، ثم تتبع الفرائض بالنوافل، ثم تحافظ على بصرها؛ لأنها تريد أن تنظر إلى وجه الله، ولا يرضى الله سبحانه لعين رأت المعاصي واستمرت في النظر إلى المحرمات أن تنظر إلى وجهه الكريم، فإن الله يغار فيحجب عن نور وجهه الكريم كل عاص وكل فاسق وكل كافر ملحد، فإن الله لا يرضى أن يرى وجهه إلا المطيع التقي الذي ارتقى بالطاعات لله جل في علاه، فالأخت المسلمة التي تتمنى أن تنظر إلى وجه ربها الكريم وتحرص على ذلك، بحفظ بصرها، وفرجها، وربها، وتحفظ زوجها بطاعة ربها، وتقدم بين يدي موتها رضى الله جل في علاه، ورضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تحظى برؤية الله. وإن كانت الهمة عالية للرجال والنساء فإن الله يفضل من يشاء في رؤيته، فإن الرجال الذين يرتقون إلى درجة الإحسان يرون ربهم في الجنة بكرة وعشياً، أما النساء فلا يرين ربهن في الجنة إلا كل جمعة، أو في الأعياد وهذا سياقاً واستنباطاً كما استنبطه شيخ الإسلام على أن النساء لا يخرجن إلا في الأعياد كما قالت أم عطية: (أمرنا أن نخرج الحيض وذوات الخدور حتى يشهدن الخير ودعوة المسلمين) وأيضاً الجمع، فالأصل في المرأة أن تقر في بيتها، ولها بيت في الجنة من لؤلؤة مجوفة يراها زوجها فيرى أنه ما رأى امرأة أجمل منها قط، بل يراها أفضل وأجمل وأنصع بياضاً وجمالاً من الحور العين، فهي تقر في لؤلؤتها، تتمتع برؤية زوجها ويتمتع بها، وسوق الجنة يخرج إليه المؤمنون كل جمعة، أما الذين في الفردوس الأعلى فيرون ربهم بكرة وعشياً، فإذا رجع إليها من الزيارة -اللهم ارزقنا ذلك- ازداد جمالاً وحسناً ووسامة فتقول: والله لقد ازددت جمالاً فما أرى أجمل منك في الجنة، وهذا لكل رجل مع كل امرأة. فالذي يعتقد أن لربه وجهاً سيحافظ على نفسه وبصره من النظر إلى الحرام، وليس منا أحد إلا وقد ارتكب المحرم، نسأل الله أن يغفر لنا معاصينا وتجرأنا على حدوده، فليس من العيب أن يقع الإنسان في الخطأ، لكن العيب كل العيب أن يصر على الخطأ، وخير الخطائين التوابون، فإذا تعدى المسلم حدود الله فعليه أن يتوب ويئوب ولسان حاله يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]. وأيضاً المرأة اللبيبة الأريبة الفقيهة الرشيدة التي تعتقد أن لربها وجهاً تعلم كيف تتعبد لله بهذه الصفة، وتعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسألوا بوجه الله إلا الجنة) فلا يمكن أن ترفع يدها وتقول: اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن تنجح ولدي في المدرسة، أو تجعل زوجي يحبني ولا يتزوج علي، وإن كانت هذه من أفضل الأدعية التي تدعو بها، فلا تدعو بها هنا بل لا بد أن ترتقي في دعائها لربها وتقول: اللهم إني أسألك بوجهك الفردوس الأعلى، اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن تجعل زوجي في الفردوس الأعلى مع النبي صلى الله عليه وسلم. فمن الأدب مع الله أن لا تسأل بوجه الله إلا الفردوس الأعلى، وأن لا تسأل بوجه الله إلا رؤية وجهه الكريم، وأن لا تذكر اسم الله إلا وأنت مبجل موقر معظم لاسم الله ولوجه الله الكريم.

الرد على الذين نفوا صفة الوجه لله تعالى

الرد على الذين نفوا صفة الوجه لله تعالى فهل تركنا أهل البدعة والضلالة ننعم بهذه الصفات الجميلة؟ وأنا أقول: كل مبتدع حجب عن ربه، وحجب عن هذه الصفة أنَّى له أن يتعبد بها لله، فقد جاء المعطلة وهم قسمان: قسم يعطل تعطيلاً كاملاً، وقسم يعطل تعطيلاً ناقصاً. والتعطيل الكامل هو التعطيل المحض، وهو نفي الصفة والاسم معاً، والتعطيل الناقص هو تعطيل الصفة دون الاسم. ويتفق المعتزلة مع الجهمية على نفي صفة الوجه لله، وهم بهذا يردون كتاب الله جل في علاه، وأما الأشاعرة فحرفوا، وهم كثير في عصرنا وفي كل العصور، فيقولون: قول الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] أي: ويبقى ثواب ربك، فحرفوا، ولا أقول: أولوا، ولكن أقول حرفوا الكلم عن مواضعه وكأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا وقال: (اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم) يريد: ارزقني لذة النظر إلى ثوابك الكريم، وهذا كلام بعيد وشديد البطلان. فأقول: الرد على هؤلاء الذين حرفوا وجه الله إلى الثواب هو أن نقول لهم: لقد خالفتم ظاهر القرآن، فما هو ظاهر القرآن؟ وهذه قاعدة مهمة، وسنرد بها عليهم في كل آية يؤولونها إلى غير معناها الصحيح. فظاهر قول الله تعالى: (ويبقى وجه ربك) أن لله وجهاً، وأنتم خالفتم ظاهر القرآن، ونقول لهم: هل كلمنا الله بلغة أعجمية؟ A لا، بل كلمنا الله بلغة نعلمها ونفقهها: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2] فإذا قال الله: لي وجه؛ عقلنا أن له وجهاً يليق به، ومخالفة ظاهر القرآن قدح في حكمة الله؛ لأن الله جل وعلا ما أنزل هذا الكتاب إلا من أجل أن نعقل هذه الصفات ونتعبد بها لله، فإن كان الله سينزل علينا كتاباً لا نعقل منه حرفاً فهذا خلاف حكمة الله جل في علاه. وقد قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] فإذا قلت: الوجه هو الثواب فهل هذا تبيان لكل شيء؟ لا، بل هذا تعمية على كل شيء، فكأن الله يقول: ما أريد هذا اللفظ، ابحثوا عن لفظ آخر، وإذا اعتقدتم هذا الاعتقاد فهذا اعتقاد كفري وضلال مبين؛ لأنكم خالفتم ظاهر القرآن، وظاهر القرآن أن لله وجهاً فنثبت لله وجهاً. وخالفتم ظاهر السنة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم) فهل الله جل وعلا لا يستطيع أن يقول: ويبقى ثواب ربك؟ أم أنه عيي؟ حاشا لله! بل هو الذي علمنا ذلك، وجعل اختلاف الألسن آية من الآيات، فلو كان الله يريد الثواب مكان الوجه لقال: ويبقى ثواب ربك، وأيضاً: النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم) إذا كان المراد بذلك الثواب ففيه قدح في النبوة من وجوه كثيرة: الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر بالبيان، وقد قال الله تعالى له: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] فلو كان الوجه في هذه الآية يراد به الثواب لكان لزاماً على رسول الله الذي أمر بالتبيين أن يبين لنا ويقول: الوجه في هذه الآية التي في سورة الرحمن المراد به الثواب، ولكنه لم يفعل؛ فدل على أن الثواب ليس المراد. والوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الوجه على حقيقته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصر في البلاغ، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] وعندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم هل بلغت؟ قالوا: قد بلغت، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء وأومأ بإصبعه يقول: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد) فقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم البلاغ. والذي يقول: الوجه هو الثواب يقدح في بلاغ النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه يقول: إن رسول الله قد قصر في بيان كلام الله جل في علاه. والأمر الثاني: نقول: قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27]، ولم يقل: ويبقى ثواب ربك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسألك لذة النظر إلى وجهك) ولم يقل: أسألك لذة النظر إلى ثوابك، فهل أنتم أيها الأشاعرة المبتدعة أعلم بالله من الله؟ فإن قالوا: نعم، كفروا، وإن قالوا: لا، لسنا أعلم من الله بالله، قلنا: الذي هو أعلم بنفسه قال: إن له وجهاً، فعليكم أن تسلموا بقوله. وأيضاً: نقول لهم: أأنتم أعلم بالله من رسول الله؟ فإن قالوا: لا، لسنا بأعلم بالله من رسول الله قلنا: فإن رسول الله الذي هو أعلم بالله قال: (أسألك لذة النظر إلى وجهك) ولم يقل: ثوابك، فيسعكم ما وسع رسول الله، ولا وسع الله على من لم يسعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أثبت لربه الوجه، وحينئذ تسلم لنا الأدلة. فصفة الوجه لله صفة خبرية ذاتية لا تنفك عن الله جل في علاه، ولا تتعلق بالمشيئة، وضابطها عندنا: أن مسماها أجزاء وأبعاض، فالوجه جزء مني، والساق جزء مني، واليد جزء مني، والعين جزء مني، لكن بالنسبة لله هي صفة خبرية، وسميناها خبرية: لأننا لا نعلمها إلا من طريق الخبر، أي: الكتاب والسنة؛ لأن العقل لا يمكن أن يثبت هذا.

إثبات صفة اليد لله تعالى

إثبات صفة اليد لله تعالى الصفة الثانية التي ذكرها المصنف: قوله سبحانه وتعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] فذكر صفة اليد، واليد من الصفات الفعلية لله جل في علاه. وهي صفة خبرية، وضابطها أن مسماها عندنا أجزاء وأبعاض، وقلنا صفة خبرية؛ لأنها ثبتت بالخبر. وقد ثبتت لله بالكتاب وبالسنة وإجماع أهل السنة، أما بالكتاب فقد قال الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] وقال جل في علاه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] وقال جل في علاه: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمين الله ملأى سحاء الليل والنهار لا يغيضها نفقة، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى عن اليد كما في السنن بسند صحيح،: (إن الله جل وعلا لما خلق آدم قبض قبضة بيده اليمنى وقبض قبضة بيده الأخرى فقال لآدم: يا آدم! اختر، فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين) فاختار أهل الجنة. وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينادي يوم القيامة: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك والخير كله بيديك) إثباتاً لليد. وأيضاً في الصحيح في حديث احتجاج آدم وموسى أن موسى يقول له: (أنت آدم خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده) وهذه كلها أدلة تثبت لله جل في علاه يداً حقيقية لا تشبه يد المخلوق، وإن حصل الاشتراك في الاسم، ولها كيفية نجهلها. وإذا سأل مبتدع عن كيفية يد الله قلنا له: اليد في اللغة معلومة، والكيف مجهول، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة. أما عظمة يد الله فقد قال الله تعالى منكراً على الذين لا يعظمون يده جل في علاه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] وفي الصحيحين: (دخل حبر من أحبار اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله! إن الله يحمل الجبال على ذه، والبحار على ذه، والسماوات على ذه، والأشجار على ذه) يشير إلى الأصابع (ثم قبض بيده وهز يده هكذا -ونحن نفعل ذلك كما فعل الرجل- وقال: فيهزهن هكذا ويقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أنا الملك أين المتكبرون؟ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم) إقراراً له بذلك. فهذه هي عظمة يد الله جل في علاه، فلابد أن نتدبر، وأن نعلم أنه لن يصل أحد إلى الغنى إلا بالله سبحانه، فيد الله سحاء ويمين الله ملأى، خزائن السماوات والأرض في يده، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى لا تغيظها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله: يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته) وقال في ثنايا الحديث: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم سألوني فأعطيت كل واحد مسألته) فهذه يد الله المنفقة، وهذه الآيات والأحاديث ترد على اليهود الذين يقولون: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] فانظروا كيف يقول الله جل في علاه: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئاً).

كيف نتعبد لله بصفة اليد

كيف نتعبد لله بصفة اليد فيتعبد المسلم لله بهذه الصفة، ويثبتها له سبحانه وتعالى، ويعلم أن لله بطشاً، وأن بطش الله شديد، وأن الله، {يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65]، ويعلم أن الله جل في علاه عزيز ذو انتقام، فيخشى ربه ويعظمه ويوقره، ويسأل الله أن يعطيه من خيره، فإن عطاء الله حسي ومعنوي، أما العطاء الحسي: فهو المادة التي يملأ الإنسان بها بطنه، وأما العطاء المعنوي: فهو نور القلوب ونور الإيمان الذي قال فيه شيخ الإسلام: إن في الدنيا جنة من دخلها دخل جنة الآخرة ألا وهي جنة الإيمان. قال علماؤنا: ورزق الله رزقان: رزق حسي، وهو المادة، ورزق معنوي، وهو العلم، والفهم، والذكاء، والتعبد، والتذلل لله جل وعلا، والتدبر في أسماء الله وصفاته العلى، وهذا خاص بالقلوب، فكل ذلك رزق من الله جل في علاه، فيمين الله ملأى سحاء الليل والنهار لا يغيضها نفقة. ولله سبحانه وتعالى يدان تليقان بجلاله وعظمته، وقد ذكرها في القرآن إما بلفظ المفرد المضاف إليه سبحانه كما في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] والاسم المفرد إذا أضيف فإنه يفيد العموم كما في قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [إبراهيم:34] فلا يوجد تعارض بينها وبين قول الله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71]؛ لأنها قد شملتها وعمتها، وإما بلفظ التثنية كما في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وإما بلفظ الجمع كما في قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] ولا تعارض بين قول الله: (مما عملت أيدينا) وقوله: (لما خلقت بيدي)، ومن قال بوجوده فالرد عليه من وجهين: الوجه الأول: أصولياً، فبعض علماء الأصول يقولون: أقل الجمع اثنان، إذاً: قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] يصح أن تكونا اثنتين؛ لأن أقل الجمع اثنان. وهذا الوجه وإن كان فيه ضعف إلا أن الأقوى منه أن نقول: الوجه الثاني: ثبت لله يدان بقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وأما (مما عملت أيدينا) فتؤول على التعظيم. فمما عملت أيدينا هنا للتعظيم، فلا منافاة بينها وبين الثنتين، ولا منافاة بينها وبين المفرد. ويعضد ما ذهبنا إليه قول الله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64].

الرد على المنكرين لصفة اليد

الرد على المنكرين لصفة اليد وأما أهل البدعة فقالوا: قول الله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] وقول الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] وقول الله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] اليد هنا بمعنى النعمة، قالوا: وعندنا في ذلك دليل، ففي صلح الحديبية عندما قال عروة لرسول الله: ما أرى حولك إلا أوباشاً -أو أشواباً- من الناس سيفرون عنك عما قريب، فقال أبو بكر: امصص بضر اللات! نحن نفر عن رسول الله؟! فكانت هذه مسبة شديدة عليه، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر، فقال: لولا يد لك عندي لم أكافئك بها لرددت عليك، أي: لولا نعمة أكرمتني بها لم أردها إليك. وقالوا: اليد معناها: القدرة، والدليل على ذلك أنك إذا قلت: ضرب على الأمة بيد من حديد، كان فيه دلالة على القدرة والقوة، فقالوا لنا: في اللغة مساغ، فيد الله فوق أيديهم، أي: قدرة الله فوق أيديهم، فنقول لهم: لقد خالفتم ظاهر القرآن، وظاهر السنة، وإجماع الصحابة، فالله يقول: {يَدُ اللَّهِ} [الفتح:10] وأنتم تقولون: نعمة الله، فأنتم تقدحون في بيان الله، وقد قال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا} [النحل:89] وهذا تبيان يدل على أن اليد يد حقيقية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يمين الله ملأى) وقال: (كلتا يدي ربي يمين) فقد أثبت لله اليد وأنتم تنفونها، ويلزم من ذلك القدح في بلاغ رسول الله، ثم خالفتم الإجماع، ومخالف الإجماع مبتدع. القاعدة الرابعة التي نرد عليهم بها أن نقول: يلزم إذا أولنا أو حرفنا اليد إلى النعمة أو القدرة لوازم باطلة: أولها: أننا سنجزئ قدرة الله، وسنقول: (بيدي) أي: بقدرتي، وهذا لا يقوله عاقل، فإن قدرة الله عامة وشاملة لكل شيء. ثانيها: أنه يلزم من ذلك أن نقول: (يد الله فوق أيديهم) أي: نعمة الله فوق أيديهم، ويلزم من ذلك نقول: (لما خلقت بيدي) أي: لما خلقت بنعمتي وهل هما نعمتان فقط، أم أن نعائم الله لا تعد ولا تحصى؟ فهذه من اللوازم الباطلة. ومن اللوازم الباطلة: أنهم سيجعلون لإبليس على الله حجة، وكأن الأشاعرة يعلمون الشيطان كيف يتشيطن، فقد أمره الله أن يسجد لآدم فاعترض على ربه وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فرد الله عليه بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وكأن الله يقول له: إن فضل آدم عليك أنني باشرت خلقه بيدي وأنت خلقتك بالقدرة وبالنعمة، قال له كن فيكون، فلو كان المراد باليد النعمة والقدرة لقال الشيطان لربه: يا رب! أنت لم تخلق آدم بيدك، ولم تشرفه بمباشرة اليد، وإذا خلقته بنعمتك أو بقدرتك فقد خلقتني بقدرتك، وخلقت الكون كله بقدرتك، فلا فضل لآدم علي.

المخلوقات التي خلقها الله بيده مباشرة

المخلوقات التي خلقها الله بيده مباشرة وأختم بالكلام على هذه الصفة: إن الله جل وعلا شرف بعض المخلوقات بالمباشرة الصريحة بيده، فقد خلق آدم بيده والدليل قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وقد غرس الله الفردوس الأعلى بيده -اللهم اجعلنا من أهل كرامتك، واجعلنا من أهل الفردوس الأعلى- والدليل: (أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي). الثالثة: خط التوراة بيده، والدليل حديث: (أنت موسى الذي خط الله لك التوراة بيده). الرابعة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وقد كتب الله في الكتاب فهو عنده على العرش: أن رحمتي سبقت غضبي) فقد كتبه الله بيده، وهذا من رحمته جل في علاه، فإن رحمته سبقت غضبه.

صفة النفس والمجيء والرضا لله تعالى

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - صفة النفس والمجيء والرضا لله تعالى معرفة صفات الله تعالى لها أهميتها في حياة المسلم، ولها أثرها البالغ في عبادته لربه تعالى، ذلك أن إثبات الصفات يقوي عند المؤمن مراقبته لربه، وخوفه وخشيته منه تعالى، وتعظيمه التعظيم اللائق به جل وعلا، وقد زل في هذا الموضوع الخطير -وهو موضوع صفات الله- أقوام فضلوا وأضلوا، وهدى الله أهل السنة والجماعة إلى صراطه المستقيم، فأثبتوا لله ما أثبته لنفسه، وردوا على شبه المبطلين ودحضوها، ونفوا عن الله ما نفاه عن نفسه وسلموا تسليماً، ومما أثبتوه لله تعالى كما أثبته لنفسه وكما أثبته له رسوله: صفة النفس والمجيء والرضا.

إثبات صفة النفس لله تعالى

إثبات صفة النفس لله تعالى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. الصفة الثالثة: صفة النفس، وهي صفة من الصفات الخبرية الذاتية، وهي صفة ثبوتية، ثبتت لله بالكتاب وبالسنة وبإجماع أهل السنة. أما الكتاب فقد قال الله تعالى لعيسى عليه السلام: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116]. فقال عيسى: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِ وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]. ووجه الشاهد من الآية قوله: ((وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)). ووجه الدلالة من الآية من وجهين: الوجه الأول: أن النفس هنا أضيفت إلى الله، ولا نثبت صفة لله إلا إذا أضيفت إلى الله، وقد ذكرنا أن قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، لا يمكن أن نثبتها صفة لله حتى جاء الحديث: (يكشف ربكم عن ساقه) فقال هنا: ((نَفْسِكَ))، فالنفس مضافة إلى الذات المقدسة وهذه إضافة صفة إلى موصوف؛ لأنني أقول المضاف إلى الله نوعان: أعيان قائمة بذاتها، ومعان، أما الأعيان القائمة بذاتها فمثل الكعبة، فالكعبة عين؛ لأنك تراها وتلمسها، فإضافة الأعيان لله جل في علاه على أنها جزء من الله خطأ فاحش، وهذا كلام الصوفية، وأصحاب الاتحاد والحلول، وإنما إضافة الأعيان إلى الله إضافة تشريف، فهي مضافة إلى الله على أنها مخلوقة لله، لكنها أضيفت تشريفاً. وأيضاً: عيسى روح الله، هذا لتكريم وتعظيم وتشريف مكانة عيسى عليه السلام، وناقة الله أيضاً أضيفت إلى الله لتشريف المضاف إلى الله. النوع الثاني: إضافة معان؛ كالكرم والقدرة والكبر والعزة، وهي إضافة صفة إلى موصوف، ومثله: عزة الله، وقدرة الله، وعطاء الله، ورحمة الله، وضحك الله، ونزول الله، ونفس الله. فإضافة النفس والعزة والكرم والضحك لله هي إضافة صفة إلى موصوف. فهنا أضاف النفس لله فقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]. الوجه الثاني: أن الذي وصف الله بها هو عيسى عليه السلام، ولا يمكن أن يتجرأ عيسى عليه السلام أن يصف الله بما ليس صفة لله، والدليل على ذلك هو إقرار الله له، ولو كانت صفة لا يتصف الله بها لأنكر الله عليه، ونظير هذا في الشرع -أنه لا يقر الله على الباطل- إنكاره على اليهود عندما قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]، فأنكر الله عليهم بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة:64]، وأيضاً نوح لما قال: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45]، أنكر الله عليه بقوله: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]. وأيضاً آية صريحة جداً وهي قول الله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، فهذا تصريح من الله بأن له نفساً، وقد أضاف النفس له. فنثبت النفس لله بلا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل. وتفسير ذلك: أن نثبت لله نفساً، وأنها مقدسة تليق بجلال وكمال وبهاء وجمال وعظمة الله جل في علاه، فلا نعطلها كما تعطلها المعتزلة والجهمية الذين يقولون: إنه ليس لله نفس، بل نقول لهم: أخطأتم وخالفتم كتاب ربكم، فقد أثبتها الله وأثبتها رسوله عندما قال: (سبحان الله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه)، والشاهد قوله: (ورضا نفسه)، فهو يثبت لله نفساً، فنثبت كما أثبت لنفسه وأثبت له رسوله، وأجمعت الأمة على ثبوت النفس لله جل في علاه. ونقول للمعطلة الذين نفوا هذه الصفة: قد قلتم على الله بغير علم، وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام:21]، فقد قال الله: لي نفس، وأنتم تقولون: ليس له نفس، أأنتم أعلم بالله من الله؟!! أأنتم أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!! كذبتم وخسئتم ولا نأخذ بقولكم. ثم جاء آخرون من بعدهم فقالوا: نحن لسنا مثلهم، نحن نثبت لله النفس، لكن نفس الخالق كنفس المخلوق. فنقول لهم: كذبتم وأخطأتم وخالفتم كتاب ربكم، فإن الله قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. فنفى المثلية، فلا ند له ولا سمي له ولا شبيه له سبحانه وتعالى، فنثبت النفس لله كما يليق بجلاله. ثم جاء المتنطعون من بعدهم الذين يحسبون أنهم على علم وهم ليسوا كذلك، فقالوا: نحن نثبت الصفة، لكن ليست كما تعتقدون، وإنما صفة النفس لله مؤولة، فهي ليست بالنفس، وإنما هي الذات، ونقول لهم: خالفتم ظاهر الكتاب وظاهر السنة، وإجماع أهل السنة والجماعة؛ فإن الله أثبت لنفسه صفة النفس، ونحن نثبت له هذه الصفة الجليلة العظيمة المقدسة. فإذا علم العبد أن لربه نفساً فإنه سيعلم أن هذه النفس المقدسة تعلم ما في نفسه، فلن يستتر إلا بما يرضي الله جل في علاه.

إثبات صفة المجيء لله تعالى

إثبات صفة المجيء لله تعالى صفة المجيء تسمى صفة فعلية، وضابطها: أنها تتعلق بالمشيئة، أي: أنها تتجدد، ففي حين يمكن أن نصف الله بها، وفي وقت آخر لا نصف الله بها، فضابطها: أن تضع قبل الصفة: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، فهو سبحانه إن شاء جاء وإن شاء لم يجئ، وإن شاء استوى وإن شاء لم يستو، وإن شاء ضحك وإن شاء لم يضحك، وإن شاء أعطى وإن شاء لم يعط، وإن شاء نزل وإن شاء لم ينزل. وصفة المجيء ثبتت لله بالكتاب وبالسنة، وإجماع أهل السنة والجماعة. أما بالكتاب فقد قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]. وقال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:23]. وقال جل في علاه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158]. وقال جل في علاه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:210]، فالملائكة ستأتي أيضاً وتكون صفاً صفاً، والله يأتي في ظلل من الغمام. وأيضاً ورد في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يأتيهم الله)، أي: أن الله جل وعلا يأتي فيقول: (من كان يعبد شيئاً فليذهب خلفه)، فمن كان يعبد الشمس فإنها تكور وترمى في جهنم، وهو خلفها والعياذ بالله، ومن كان يعبد القمر أيضاً يسقط خلف القمر، فيلقى في النار جزاء وفاقاً؛ لأنهم عبدوه من دون الله، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]. ومن كان يعبد عيسى نفس الأمر، ويبقى بقايا من أهل الكتاب، والمؤمنون والمنافقون من هذه الأمة، فيأتي الله جل وعلا إلى بقايا من أهل الكتاب فيقول: (من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر عيسى ابن الله. فيقول: خسئتم أو كذبتم إن الله لم يتخذ ولداً، ثم يلقون في النار) وأيضاً اليهود عندما يقولون هذه المقولة على عزير يلقون في النار. ثم يأتي الله جل في علاه إلى المؤمنين والمنافقين الذين: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، فيقول: (من تنتظرون؟)، لمَ لم تكونوا مع الناس؟ فيقولون: تركناهم ونحن أحوج الناس إليهم، والآن نتركهم فقال: (من تنتظرون؟ قالوا: ننتظر ربنا، قال: هل بينكم وبينه علامة؟ قالوا: نعم. قال: أنا ربكم). وفي الحديث قال: (فيأتيهم الله على الصورة التي لا يعرفونها). والشاهد أنه قال: (يأتيهم)، فهذا من المجيء، وسيأتيهم على صورته وهم لا يعرفونها، فيقولون: (نعوذ بالله منك لست بربنا، فيقول: هل بينكم وبينه علامة؟ فيقولون: نعم. فيأتيهم في الصورة التي يعرفونها، ثم يكشف عن ساقه فيخر كل مؤمن كان يسجد صدقاً)، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين! (أما المنافق فيرجع ظهره طبقاً)، لا يستطيع أن يسجد فينقلب على قفاه فيخدعه الله كما خادعه في هذه الدنيا. فالغرض المقصود أنه قال: (يأتيهم) فثبتت هذه الصفة بالكتاب وبالسنة. وأيضاً أهل السنة والجماعة أثبتوا لله صفة المجيء. فإذا قيل: إن أثبتم صفة المجيء فقد شبهتم الخالق بالمخلوق. قلنا: التساوي في الاسم لا يستلزم التساوي في الصفة، فالله يجيء ومحمد يجيء، لكن مجيء الله ليس كمجيء محمد؛ لأن التساوي في الاسم لا يستلزم التساوي في الصفة، والدليل على ذلك من الواقع المشاهد، فإذا قيل: زيد قد جاء، وجاء قرده معه، فإن مجيء زيد ليس كمجيء القرد. وإذا قيل: جاء الفيل وجاءت القطة، فمجيء الفيل ليس كمجيء القطة. فهذا في الواقع المشاهد في المخلوقات مع التساوي في الاسم والتساوي في الصفة والمسمى لا يتساوى. ولذلك نقول: إن الله يجيء مجيئاً يليق بجلاله وعظمته وكرمه وقدرته وبهائه، والمخلوق يجيء مجيئاً يليق بعجزه ونقصه وفقره. فإن قيل: كيف مجيء الله؟ نقول: المجيء في اللغة معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. فنثبت لله مجيئاً يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى بلا كيف؛ لأنا لا نعلم الكيفية.

أثر الإيمان بصفة المجيء الله تعالى

أثر الإيمان بصفة المجيء الله تعالى وصفة المجيء صفة كمال وجلال لله، والمرء إذا تدبر علم أنه راحل، وأنه إلى ربه راجع، وأن الله سيجيء يوم القيامة، وتشرق الأرض التي سنحشر عليها بنور ربها، ثم يأتي الله جل في علاه فيفصل بين العباد عندما يشتد الخطب ويدلهم على الناس، وتحيط الكروب بهم من جميع الجوانب، والشمس تدنو من الرءوس قدر شبر أو ميل، وكل امرئ عرقه يصل إلى كعبيه، أو إلى ركبتيه، أو إلى حقويه، أو إلى صدره، بل إن منهم من يلجمه العرق إلجاماً، وقد جاء في الحديث: (ثم يقولون ألا ترون ما نحن فيه؟ ألا نستشفع بأحد؟ فيذهبون إلى آدم، وإلى إبراهيم وكل يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، حتى يأتون إلى نبي هذه الأمة بأبي هو وأمي، فيقول: أنا لها أنا لها، فيذهب فيسجد تحت العرش، فيعلمه الله محامد فيثني على الله بها، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فيشفع في القضاء فيقضي الله بين عباده أجمعين في آن واحد). وقد تعجب الصحابي راوي الحديث من قول الرسول: (في آن واحد)، الخلائق من لدن آدم إلى آخر خليقة في آن واحد، فإذا استحضرنا مجيء الله فلابد أن نحرص على عمل الحسنات والطاعات، ولا بد أن نقدم الخيرات، وإن أسأنا نئوب ونتوب إلى الله، ولسان حال كل امرئ منا يقول: وعجلت إليك ربي لترضى، فإن الله يرخي كنفه على عباده، فلا يسمع الآخر كلام الله لهذا الشخص، فيقول الله: (عبدي! ألم تعمل ذنب كذا يم كذا؟)، وكل منا يستحضر ذلك، فمن منا لم يتجرأ على حدود الله؟ ومن منا لم يعص الله جل في علاه؟ ومن منا لم يكذب؟ ومن منا لم يخن؟ ومن منا لم يقع في الفواحش؟ فيقول: (عبدي! ألم تعمل ذنب كذا يوم كذا؟ فيقول: أي ربي نعم. فيقول: عبدي! تعلم ذنب كذا يوم كذا؟ فيقول: أي ربي نعم. فينظر أيمن منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يجد إلا النار، فيقول: هذه مهلكتي هذه مهلكتي، فيقول الله تعالى -ونسأل الله أن يقول لنا جميعاً هذا-: عبدي! قد سترتها في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) اللهم! اجعلنا جميعاً كذلك يا رب العالمين! فيجيء الله فيفصل بين العباد.

إثبات صفة الرضا لله تعالى

إثبات صفة الرضا لله تعالى صفة الرضا صفة ثبوتية أثبتها الله لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً أجمعت الأمة على هذه الصفة. أما في الكتاب فقد قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:18]. وقال الله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119]. وفي السنة: قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي بسند صحيح: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط)، فالحديث يدل على الصفة بالقرائن الأخرى، أي: فله الرضا من الله. والحديث الذي هو أصرح من ذلك -وهو نص في المسألة- قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، وأن يشرب الشربة فيحمده عليها). وأجمع أهل السنة والجماعة أن الله يتصف بصفة الرضا. ونحن نثبت هذه الصفة بلا تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل، ونثبتها بكيف يعلمه الله جل في علاه، فإن الله يرضى ورضا الله يليق بجلاله وكماله وبهائه وعظمته، وهذا الرضا رضا حقيقي.

أثر الإيمان بصفة الرضا لله تعالى

أثر الإيمان بصفة الرضا لله تعالى وإذا علم المرء أن ربه يرضى فإنه سيسارع في مرضاة الله، كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] وإذا علم أن ربه يرضى ويسخط فإنه سيتجنب السخط، ويتلمس طريق الرضا، فيأخذ بكل أسباب الرضا. والأخت المسلمة سترضي زوجها لترضي ربها، وتطيع بعلها لترضي ربها، وتؤدي فرضها لترضي ربها، وتتصدق لترضي ربها، وتصوم لترضي ربها، وتقوم الليل لترضي ربها، وتحسن إلى الأخريات لترضي ربها، ولا تغتاب أحداً، ولا تدخل في النميمة، ولا تعصي ربها؛ لأنها تخشى من سخط الله. والله إذا رضي كافأ وأثاب، فإذا رضي الله عن عبد أحبه، وينادي في السماء: أن يا جبريل! إني قد رضيت عن فلان وأحببت فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، وينادي في أهل السماء فيحبوه، ويكتب له القبول في الأرض. أما أهل البدعة والضلالة من الجهمية والمعتزلة الذين قالوا: لا رضا، وإن الله لا يرضى، وإن هذه الصفة منفية عن الله فتجدهم لا تشتاق قلوبهم إلى رضا الله جل في علاه، فهم يعيشون حيارى؛ لأنهم نفوا صفة الرضا عن الله. ثم جاء المتحذلقون الذين قالوا: إنهم هم أهل السنة والجماعة، فقالوا: نثبت الصفة، لكن الرضا معناه: الثواب. كما حرفوا مجيء الله إلى مجيء أمر الله، فقالوا: لا يجيء الله، وإنما يجيء أمره، وقالوا في قول الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]. أي: وجاء أمر ربك والملك صفاً صفاً كما قالوا.

الرد على من نفى صفة الرضا عن الله

الرد على من نفى صفة الرضا عن الله ونرد على هؤلاء بأن نقول لهم: لقد خالفتم ظاهر القرآن، فقد كلمنا الله بما نعلم باللغة العربية، وأنتم خالفتم ظاهر القرآن، وخالفتم ظاهر السنة، وهذا أولاً: قدح في حكمة الله كأنه يكلمنا بما لا نعلم، وثانياً: قدح في رسالة النبي، وقدح في تبيين النبي، وقدح في التبليغ؛ لأن الله قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67]. وقولهم: أن الرضا ليس بالرضا الحقيقي بل هو الثواب، نرد عليهم بأن نقول لهم: لقد خالفتم ظاهر القرآن، وخالفتم ظاهر السنة، وخالفتم إجماع الأمة. ونقول: هل أنتم أعلم بالله من الله؟ إذ لو كان هذا هو الثواب لقاله الله تعالى. ونقول لهم أيضاً: أنتم أثبتم لازم الصفة، فإن الله جل وعلا إذا رضي عن عبد فإنه سيثيبه، فلازم الرضا الثواب، فهذا لازم الصفة، ونحن نوافقكم على إثبات اللازم، نثبت لازم الصفة، ونثبت الصفة أيضاً، وقد أعملنا الأدلة كلها فأثبتنا الصفة أولاً لأن الله أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله، ثم أثبتنا لازم الصفة وهو الثواب، هذا هو الرد على الأشاعرة.

صفة المحبة والغضب والسخط والكراهة لله تعالى

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - صفة المحبة والغضب والسخط والكراهة لله تعالى هناك صفات فعلية ثبتت لله تعالى بالكتاب والسنة وأجمع على ذلك أهل السنة والجماعة، منها: صفة المحبة، والغضب، والسخط، والكره، وكلها صفات تليق بالله تعالى، فنثبتها لله تعالى بلا تكييف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، بل على الوجه اللائق به سبحانه.

إثبات صفة المحبة لله تعالى

إثبات صفة المحبة لله تعالى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: ما زلنا مع هذا الكتاب الجليل: لمعة الاعتقاد، وقد انتهينا إلى الكلام عن صفات الله جل في علاه، وتكلمنا عن صفة الرضا، ونحن الآن إن شاء الله على موعد مع صفة أخرى من صفات الله جل في علاه: وهي صفة المحبة. وهذه الصفة هي من الصفات الفعلية التي تتجدد، وضابطها: أنها تتعلق بالأسباب، بمعنى: أن الله جل في علاه يتصف بهذه الصفة أحياناً، ولا يتصف بهذه الصفة أحايين أخرى، فإن الله جل وعلا يحب الناس المؤمنين، ويحب من الناس المخلصين الصادقين، فالله جل وعلا لا يحب كل البشر، بل يحب بعضاً من البشر وهم الذين أتوا بأسباب هذه المحبة. فهذه الصفة الفعلية ضابطها: أنها تتعلق بالأسباب، وهي تتجدد، بمعنى: إن شاء الله أحب وإن شاء لم يحب، ولا يقولن أحد: إن الله يحب موسى منذ خلق آدم، بل الله يحب موسى حين خلق موسى وبعثه إلى بني إسرائيل، ويحب محمداً حين خلق محمداً وحين بعثه نبياً مرسلاً، فالمحبة تتعلق بالأسباب، وتتعلق بالمشيئة، وهذه الصفة العزيزة الجميلة هي صفة كمال وجلال وبهاء وعظمة لله جل في علاه.

الأدلة على إثبات صفة المحبة

الأدلة على إثبات صفة المحبة وهذه الصفة ثبتت لله بالكتاب وبالسنة وإجماع أهل السنة. أما الكتاب: فقد قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، فهذا تصريح من الله جل وعلا إذ قال: (يحبهم) فأثبت لنفسه صفة المحبة. وقال جل في علاه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، فقال: (يحب التوابين) وفي هذه أيضاً أثبت لنفسه صفة المحبة. وأما في السنة: فقد جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلا يحبه الله ورسوله)، فأثبت لربه المحبة وقال: (يحبه الله ورسوله) (ويحب الله ورسوله) يعني: وهو أيضاً يحب الله ورسوله. وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (قال الله تعالى: حقت محبتي للمتحابين في) أو قال: (في جلالي)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فـ (حقت محبتي) دلالة بالتصريح على إثبات محبة الله جل في علاه كصفة له سبحانه. وأيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً نادى في السماء) فقال: (أحب الله عبداً) وهذه صفة تثبت لله؛ لأنها أضيفت لله جل في علاه، وقد قلنا سابقاً: إن المضاف لله نوعان: إضافة عين، وإضافة معنى. وإضافة العين مثل: إضافة الكعبة لله، فهي عين قائمة بذاتها، ومثل عيسى، وناقة الله، وهذه الإضافة هي إضافة تشريف. وأما إضافة المعنى: فهي مثل قولنا: عزة الله وقدرة الله ومحبة الله، فهذه إضافة معنى، والمعنى ليس عيناً قائمة بذاتها، إذاً: فتكون إضافة صفة لموصوف. إذاً: هذه الصفة ثابتة لله بالكتاب وبالسنة، وأيضاً أجمع أهل السنة على ثبوت هذه الصفة لله جل في علاه، والعبد الذي اعتقد الاعتقاد الجازم في الله جل في علاه، وتعلم العقيدة السليمة السديدة يتعبد لله بأن يثبت هذه الصفة لله، ويقول: أثبت لله محبة تليق بجلاله وكماله وبهائه وعظمته، ولا تماثل محبته محبة المخلوقين، ولا نكيفها فالكيفية لا نعلمها، وأيضاً: لا نعطلها، أي: نفوض الكيفية لله جل في علاه بلا تعطيل، فلا ننفي الصفة عن الله جل في علاه.

ثمرات الإيمان بصفة المحبة لله

ثمرات الإيمان بصفة المحبة لله إن العبد إذا علم أن ربه يحب فسيسارع إلى أسباب المحبة عندما يعلم ثواب هذه المحبة، فإن لازم محبة الله للعبد أن يثيبه، فالله إذا أحب التقي أثابه وجعله في جواره، بل جعله مع نبيه صلى الله عليه وسلم. وإن الله جل في علاه قال في الحديث القدسي: (حقت محبتي للمتحابين في)، فينظر المؤمن الأسباب التي تستجلب محبة الله فيسارع فيها. وليس منا من لا يخطئ، وليس منا من لا يتعدى على حدود الله، وليس منا من لم يتجرأ على الله، بل كل منا يخطئ ليلاً نهاراً، وكل منا يتجرأ على حدود الله، فيعصي أو يغتاب أو يكذب أو ينم، وكل منا يفعل ذلك، لكن خير هؤلاء البشر هم الذين يئوبون ويتوبون إلى الله، والله يحب التوابين، فإذا علم العبد أن استجلاب محبة الله بالتوبة، فإنه لن تمر عليه ليلة ولن تنام عينه إلا وهو يتوب إلى الله جل في علاه من كل صغيرة وكبيرة، ومن كل غفلة، ومن كل عبادة لم يأت بها على الوجه الذي أمر الله به، فيتوب إلى الله ويستحضر في توبته أنه إذا تاب استجلب محبة الله جل في علاه؛ لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة:222]. وأيضاً فليسأل كل واحد منا نفسه: عندما يتوضأ، أو يغتسل من الجنابة، أو يغتسل للجمعة استحباباً على قول من قال بالاستحباب، هل يستحضر في نفسه أن الله يحب منه ذلك وأن الله جل في علاه يحبه إذا أكثر من التطهر؟ فإن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، فعندما يتطهر الإنسان للصلاة فلا يتوضأ وهو يستحضر نية الصلاة فقط، أو رفع الحدث ليصلي، والأصل عندما يتوضأ أن يبدأ أولاً باستحضار أن الله يحب منه ذلك، فيتطهر محبة لله واستجلاباً لمحبة الله جل في علاه. وإذا عرفت أن الأسباب التي تستجلب محبة الله لك منها: أن تكون من المحسنين، وأن تكون من المتقين، وأنت تعلم أن مراتب الدين: إسلام، ثم إيمان، ثم إحسان، فسترتقي من الإسلام إلى الإيمان فتتبع الفرض بالنفل، ثم بعد ذلك تتقن الفرض والنفل، ثم تزيد من النوافل المطلقة حتى ترتقي إلى مرتبة الإحسان، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، فتفوز بمحبة الله. وأيضاً: إن الله يحب المتحابين في جلاله، فأنت إذا علمت ذلك فستجتهد أن تعمق الأخوة في الله بينك وبين أخيك؛ لتفوز بمحبة الله تعالى لك. والأخوة نوعان: إخوة عامة، وأخوة خاصة. أما الأخوة العامة: فهي التي نراها الآن بين أيدينا: الأخ الملتحي يسلم على الأخ الملتحي، والأخت المجلببة تسلم على الأخت المجلببة، تراها في المسجد فتهش وتبش لها، والرجل يفعل ذلك مع أخيه أيضاً، ولعل البعض يخفي في قلبه ما يضر أخاه ولا يعلمه إلا الله جل في علاه، ومع ذلك يسلم عليه ويهش ويبش في وجهه، هذه هي الأخوة العامة: أن يربطك به سلام، أو إذا أرادك في منفعة. أما الأخوة الخاصة: فأكاد أجزم بأن الأخوة الخاصة قد عزت في هذا الزمان، وهي: أن تقدم أخاك على نفسك، وهذه بعيدة، ومن الأخوة الخاصة: أن تعلم أنك وهو تتسارعان إلى الله فتتنافس معه بعد أن تدله على الخير، ولا تحقد ولا تحسد ولا تكتم فضله عن الناس، بل تنشر فضله بين الناس. ومن الأخوة الخاصة: أن تتعامل مع أخيك بحيث إنه لو أدخل يده في جبيك فأخذ ما في جيبك لا تسله كم أخذ أو كم ترك، بل ما أخذ أحب إليك مما ترك، وهذه كما قلت: عزيزة جداً في هذا الزمان. والأخوة الخاصة: هي التي تحرك القلوب وتحرك الأبدان. والأخوة الخاصة: هي التي يأخذ الأخ بيد أخيه إلى أن يرتقي به إلى الفردوس الأعلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، كما كان يفعل أبو بكر، ويفعل عمر، ويفعل عثمان، ويفعل علي، وما زالت تندثر حتى انقطعت في زماننا هذا، ونسأل الله جل وعلا أن يجعلنا نأخذ بأسباب المحبة الخاصة. فالمحبة الخاصة تستجلب محبة الله جل في علاه، والذي يُوجد في قلب الإخوة المؤمنين والصالحين، والأخوات الفضليات اللاتي يسارعن إلى محبة الله الرغبة في استجلاب محبة الله جل في علاه: معرفة ثواب هذه المحبة، فإن العبد إذا أحبه الله فهذا عجيب كل العجب، كما قال ابن القيم ولنعم ما قال، قال كلاماً ينقش على الصدور، ويكتب بماء الذهب، قال: ليس العجب أن يحب العبد ربه؛ فإن السبل كلها متفتحة لمحبة الله، نعمة الله توجد في قلبك محبة الله، وعندما تعرف فضل الله وقوة الله وجبروت الله جل في علاه وجمال الله وبهاء الله وعظمة الله وتعظم هذه المعرفة في قلبك فتحب الله لذلك، فإن ربكم يُحَب لجماله وجلاله وكماله وعظمته وعطائه ومنه وكرمه وقوته وجبروته، فليس من العجب أن يحب العبد ربه، فإن الرب يمتلك القلوب بما يغذي العباد من نعمه التي تنزل عليهم تترى، لكن العجب كل العجب أن يحب الرب العبدَ وهو المخلوق له، وهو المقدور له، وهو الذي يكيفه كيف شاء، وهو الذي إذا أراد له شيئاً قال له كن فيكون، فالرب إذ يحب العبد فهذه منة ليس بعدها منة، فمن الذي يحبه الله جل في علاه؟ ومن الذي سعد وسدد ووفق إلى أن يحبه الله جل في علاه؟ إن الله تعالى إذا أحب الله عبداً أغدق عليه الخير.

من أحبه الله وضع له القبول في الأرض

من أحبه الله وضع له القبول في الأرض وكذلك ينادي في السماء جبريل كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء: أن يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء -هذا العبد- ثم يوضع له القبول في الأرض). فالله إذا أحب عبداً حبب فيه جبريل، ثم حبب فيه الملائكة، ثم كتب له القبول في الأرض، وهناك إشكال عظيم لا بد من حله، ألا وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين يقول: (رأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد)، فأين القبول لهؤلاء الأنبياء؟ فنحن نتفق على أن كل نبي محبوب إلى الله، فإذا قلنا: إن الله جل في علاه يحب أنبياءه، ويحبب الملائكة في الأنبياء، ويكتب لهم القبول، فأين القبول وقد جاء في الحديث أنه رأى النبي وليس معه أحد، والنبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان؟ وأين ما قاله رسول الله: (ثم يوضع له القبول في الأرض)، فيأتي النبي ولا قبول له، إذ ليس معه إلا رجل أو رجلان. A أن نقول: هذا القبول في الحديث مقيد بأهل الصلاح، يعني: يكتب له القبول في الأرض عند أهل الصلاح وليس في كل الأرض، وإلا فإن عادل إمام كثير من الناس يحبونه ولكن من الذي يحب عادل إمام هذا؟! الجواب: يحبه الفسقة أشباهه. إذاً: القبول المذكور في الحديث مقيد بقبول الصالحين المتقين فقط. فهنيئاً لمن أحبه الله، فإذا رأيت الصالحين يحبونك فهذه إشارة من الله لك أنه قد كتبك ممن يحبهم في السماء، وقد كتب لك القبول عند جبريل، ثم عند الملائكة. وإذا رأيت الفسقة هم الذين يحبونك والصالحين يبغضونك فاعلم أن هذه إشارة من الله أنك مبغوض عند أهل السماء والعياذ بالله، وأما التقي فهو محبوب لا محالة بين يدي الله وعند الملائكة: (إذا أحب الله عبداً نادى في السماء: أن يا جبريل! إني أحب فلاناً)، يذكره باسمه واسم أبيه، وتخيل عظمة أن يذكرك الله باسمك ويتكلم باسمك: (إني أحب فلاناً). وهذا الأمر هو الذي أبكى أبا المنذر أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه فرحاً عندما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة البينة فقال: (يا أبي! إن الله أمرني أن أقرأ عليك هذه السورة)، انظروا إلى فقه الصحابة الذين يعلمون أن المكانة العظمى حقاً عند الله، وأن المحبة بحق هي ما عند الله جل في علاه: (فقال: يا رسول الله! أمرك ربك أن تقرأ علي هذه السورة؟ قال: أمرني ربي أن أقرأ عليك هذه السورة. قال: أوسماني باسمي؟!)، انظروا إلى فقه الصحابي الجليل أي: هل الله تكلم باسمي؟! قال: (أوسماني باسمي؟! قال: سماك باسمك) فبكى أبي رضي الله عنه وأرضاه. يا للشرف! ويا للعظمة! عندما تعلم أن الله يذكرك باسمك. إن المرأة عندما تعلم أن زوجها يحبها ويتحدث باسمها عند أهله، كم هي الفرحة التي تدخل عليها والسرور! وعندما تعلم أخي الكريم! أن معظماً، أو كبيراً، أو وزيراً، أو أميراً يكون قد أحبك، وقد تحدث باسمك في المجالس كيف ستكون فرحتك، وكيف تكون سعادتك في قلبك؟ فكيف يكون الأمر إذا كان الله رب السماوات والأرض هو الذي أحبك وذكرك باسمك لجبريل وقال: (ني أحبه) ويأمره أن يحبه، ثم يكتب له القبول في الأرض، فهنيئاً للذين أحبهم الله جل في علاه، وهم الذين ساروا على نهجه وعلى دربه وعلى الصراط المستقيم.

ثمرة محبة الله للعبد في الآخرة

ثمرة محبة الله للعبد في الآخرة إن الذي يستجلب محبة الله جل في علاه له هذه الثمرة العظيمة في الدنيا، أما في الآخرة فهو في جوار ربه جل في علاه، ولو أتم محبة الله بمحبة شرعه، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم فالمرء مع من أحب، وقد قالها أنس معلناً: إني لا أستطيع أن آتي بعبادة كعبادة أبي بكر أو عمر، وإني أحب أبا بكر وعمر، ولا أستطيع أن أضاهي رسول الله في عبادته، ولكني أحب رسول الله، فأنزل الله البشرى العظمى الكبيرة للصحابة إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب)، قال أنس: ما سعدنا بحديث كما سعدنا بهذا الحديث، فإني أحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحب أبا بكر وأحب عمر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المرء مع من أحب)، فأنت في جوار الله مع من أحببت من رسل الله، ومن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

محبة الله للعبد سبب في سداد العبد وتوفيقه

محبة الله للعبد سبب في سداد العبد وتوفيقه كذلك خذ هذه البشرى في الدنيا قبل الآخرة، فإنك ستكون مسدداً موفقاً منصوراً لا مغلوباً إذا أحبك الله، وذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، انظروا إلى الفضل في الدنيا وفي الآخرة، (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)، وفي رواية أخرى قال: (فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش)، وهذه الرواية مفسرة لقوله: (كنت سمعه وبصره) فلا حلول ولا اتحاد. فقوله: (فبي) أي: بتوفيقي وتسديدي ونصرتي، فلا يسمع إلا ما أُحب، ولا يبصر ولا يرى إلا ما أُحب، ولا يتكلم إلا بما أُحب، ويده لا تبطش إلا فيما أُحب. وهذا قد تحقق في وصف دقيق من عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم، عندما قالت: (ما غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط ولكن إذا انتهكت محارم الله)، فكان يغضب لله جل في علاه فيسدد من قبل الله. فأنت أخي الكريم! إذا أردت أن تكون محبوباً لله فاسمع إلى هذه الإشارات التي تبين محبة الله لك، وتجعلك في دعة وسرور، وتجعلك مستبشراً أنك محبوب لدى الله، فلا تفرغ سمعك إلا لما يحب الله، وإذا فرغت بصرك فلا تفرغه إلا لما يحب الله، وإذا فرغت قلبك من ذكر غير الله جل في علاه فأنت محبوب عند الله جل في علاه، موفق مسدد من قبل الله، وحينما تتقرب إلى الله بالفرائض فأنت محبوب، ثم ترتقي إلى منازل المحبة: فالمنزلة الأولى: هي منزلة المحبة، والثانية: هي منزلة المحبوبية، وهذه المنزلة إذا أتبعت الفرائض بالنوافل واجتهدت في النوافل وكررتها وثبت عليها كأنها فرائض بلغت درجة المحبوبية، وهذه الدرجة هي التي إذا بلغها عبد لا ينزل منها أبداً، حتى وإن عصى فإن الله يدركه برحمته فيلهمه التوبة، فيتوب عليه ثم يتوب ثم يرتقي منازل أعلى عند الله جل في علاه، فهنيئاً للمحبين لربهم، ولشرع ربهم، ولرسول ربهم، ولصحابة رسول ربهم صلى الله عليه وسلم، ورضوان الله عليهم أجمعين. وهذه الصفة نتعبد بها لله جل في علاه، فنسارع فيما يحبه الله، ونثبتها لله دون تحريف ودون تكييف ودون تمثيل.

الرد على المخالفين في إثبات صفة المحبة لله

الرد على المخالفين في إثبات صفة المحبة لله وهناك قوم لا يتعبدون لله بهذه الصفات، فقد أعمى الله أبصارهم وبصيرتهم عن هذا الحق، فلم يعرفوا طعماً للإيمان بصفات الله جل في علاه. وإذا قال قائل: إذا قلتم: إن الله يحب، فإن المحبة هي ميل القلب، إذاً: لله قلب يميل. فنرد عليه بأن نقول له: قولك: إن لربنا قلباً هذا خطأ فادح؛ لأنه لم يرد في الشرع أن لله قلباً، ولكن ورد أن الله يحب ولكنا لا نعرف الكيفية، أما القلب فلم يرد في الشرع فيه إثبات ولا نفي، والقاعدة التي قعدناها في الأسماء والصفات: أن الصفات التي لم يرد فيها نص بإثبات ولا نفي فإننا نتوقف؛ لأننا لو أثبتنا فربما نكون تقولنا على الله بغير علم، وتكون هي منفية عن الله، ولو أننا نفيناها فربما تكون مثبتة لله ونحن لا نعلم، فنتوقف ولا نتكلم فيها، وهذا هو الصحيح الراجح. ثم نقول: أنت أيها المبتدع الذي شبهت الخالق بالمخلوق إن ربنا يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فصفة الله لا تشبه صفة المخلوق. وأيضاً: نرد بالقاعدة التي ذكرناها سابقاً، وهي: أن الاشتراك في الاسم لا يستلزم التساوي في المسمى، فالله يحب وزيد يحب، وحب الله لا يماثل حب زيد؛ لأن الله جل وعلا يحب وهذه صفة كمال وجلال وبهاء وعظمة، وإن زيداً يحب وهذه صفة تليق بعجزه ونقصه وفقره، أما الله فهذه الصفة تليق بجلاله وكماله وعظمته سبحانه جل في علاه. وجاء الأشاعرة فقالوا: نحن ننفر من أهل البدعة والضلالة، فالذين ينفون نقول لهم: نحن نثبت، والذين يشبهون نقول لهم: نحن لا نشبه، نحن نقول: إن الله يحب، لكن ليس كما تفهمون، فمعنى قول الله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة:222]، أي: يريد أن يثيب التوابين، ففسروا المحبة بالإثابة. وهؤلاء الأشاعرة ما أكثرهم في زماننا هذا، وما أكثر الذين ينكرون هذه الصفات كما قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46]، ويقولون: نحن نذب عن أهل السنة والجماعة، ونرد على المعتزلة، نحن نثبت الصفة، لكن ليس كما تفهمون أنتم، بل المحبة هنا بمعنى: إرادة الثواب، فكيف نرد عليهم؟ A نقول: أنتم خالفتم ظاهر القرآن، فإن ظاهر القرآن يثبت المحبة لله، وخالفتم ظاهر السنة، وخالفتم الإجماع. وأيضاً: لو قلت بقولكم هذا فهناك لوازم باطلة، وهذه اللوازم الباطلة: أن الله خاطبنا بما لا نعقل، وهذا حرام؛ لأن الله قال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]. وأيضاً: من اللوازم الباطلة: أن هذا اتهام صريح للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يتم البلاغ والبيان؛ إذ لو كانت المحبة معناها إرادة الثواب لقال النبي لـ أبي بكر: يا أبا بكر! اعلم أن محبة الله معناها إرادة الثواب، اعلم يا أبا ذر! أن محبة الله إرادة الثواب، اعلم يا أبا هريرة، يا من تنقل عني الحديث! أن المحبة معناها إرادة الثواب، فلما لم يبين هذا علمنا أن هذا ليس بصحيح؛ لأنه لو كان صحيحاً لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالغرض المقصود: أننا نرد عليهم بهذه اللوازم الباطلة ثم نقول: نحن نوافقكم بأن الله جل في علاه إذا أحب عبداً فهذا دليل على أنه أراد أن يثيبه، وأنتم هنا قد فسرتم الصفة بلازمها، ونحن نثبت الصفة ثم نثبت اللازم، فنثبت لله المحبة التي لا تشبه محبة المخلوق، ونثبت لازم الصفة، وهو أن الله إذا أحب محمداً أثابه، وإذا أحب الله المؤمن أثابه وأراد إثابته، وسيكون في جواره {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].

إثبات صفة الغضب لله تعالى

إثبات صفة الغضب لله تعالى الصفة السابعة: صفة الغضب، وصفة الغضب ثابتة لله بالكتاب وبالسنة وإجماع أهل السنة. قال الله تعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:93]، أي: الذي قتل مؤمناً متعمداً. وقال جل في علاه: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور:9]. أيضاً ثبتت صفة الغضب لله في السنة: فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يدعو ويقول: وأعوذ برضاك من سخطك)، فهذا دليل على إثبات هذه الصفة. ومن السنة أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كتب الله كتاباً فهو عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي)، وفي هذا أيضاً إثبات لهذه الصفة. ووجه إثبات هذه الصفة لله: أن إضافتها لله جل في علاه إضافة معنى، فهي إضافة صفة لموصوف، وقد ثبتت لله بالكتاب والسنة، ونحن نؤمن بها كما آمنا بصفة الحب لله، وكما آمنا بصفة الرضا نؤمن بصفة الغضب، وهذه الصفة من الصفات الفعلية التي تتجدد وتتعلق بالمشيئة، والدليل على ذلك ما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن كل نبي كان يقول: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)، فهذا فيه دلالة على أن الله غَضِبَ يوم القيامة، وأن الله يغضب على الكافرين، ويغضب على الفسقة والفجرة، إذاً: فالله قد يغضب ثم يرضى، يغضب على من فعل المعصية، ثم يرضى عنه إذا تاب وأناب وآب إلى ربه جل في علاه.

أثر الإيمان بصفة الغضب لله تعالى

أثر الإيمان بصفة الغضب لله تعالى إذاً: هذه صفة فعلية ثبتت لله بالكتاب وبالسنة، فنحن نثبتها لله بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة، وإن العبد المتعبد لله المعتقد في الله اعتقاداً صحيحاً سديداً يعلم أن ربه يغضب، فيتجنب الأسباب التي تستجلب غضب الله، وإذا وقع في الأسباب التي تستلزم غضب الله فإنه يرجع ويتوب حتى لا يغضب الله عليه. ومن الأسباب التي تستجلب غضب الله: المعاصي، والشرك والكفر، فالمؤمن ينأى بنفسه عن الشرك والكفر، وينأى بنفسه عن الشرك الأصغر كما ينأى بنفسه عن الشرك الأكبر، وينأى بنفسه عن الكفر الأصغر كما ينأى بنفسه عن الكفر الأكبر، وينأى بنفسه عن المعاصي، فإن الله يغضب على صاحب المعاصي، وينأى بنفسه عن الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ويستجلب غضب الله، فينأى المؤمن عن ذلك كله. إذاً: فلابد على المرء أن يبعد نفسه عن الأسباب التي تستجلب غضب الله، ومنها: الظلم والمعصية والكفر والشرك والتسخط على أقدار الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من ابتلاه الله بلاءً فرضي فله الرضا، ومن لم يرض فله السخط وله الغضب، والمؤمن يرضى ببلاء الله جل في علاه حتى يرضى الله عنه. وعلى المؤمن أن يستجلب رضا الله بعيداً عن غضب الله جل في علاه، وينأى بنفسه عن غضب الله جل في علاه من كل المعاصي، ومن كل الأسباب التي تودي به إلى غضب الله؛ لأن الله إذا غضب على عبد انتقم منه، وإذا انتقم من عبد فإن انتقام المتجبر لا راد له، وإن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. وهذه الصفة التي ثبتت لله بالكتاب والسنة نثبتها لله بلا كيف نعلمه، لكن لها كيفية عند الله، وبلا تشبيه، وبلا تمثيل. والغضب في اللغة معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فالسؤال عن كيفية الغضب بدعة.

الرد على المخالفين في صفة الغضب

الرد على المخالفين في صفة الغضب لابد من الرد على كلام المبتدعة الذين يقولون بتأويل هذه الصفة، فيؤولون صفة الغضب بالانتقام، وهم الأشاعرة يقولون: إننا نثبت ولا ننفي ولا نشبه، لكننا نقول: غضب الله معناه: انتقام الله، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [إبراهيم:47]. فقنول لهم: إنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الغضب بالانتقام. ونقول لهم: أنتم بتأويلكم هذا قد خالفتم ظاهر الكتاب، فقد قال الله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [النساء:93]، ولم يقل: انتقم منه، فخالفتم ظاهر القرآن، وخالفتم أيضاً ظاهر السنة، وخالفتم إجماع الصحابة. وكذلك نقول: إن لهذا التأويل لوازم باطلة، فأنتم الآن تقدحون في بيان النبي وتبليغه، وهذا لازم لقولكم بتأويل لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إن الله تعالى قد غاير بين الغضب وبين الانتقام في كتابه فقال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55]، ومعنى: (فلما آسفونا): أغضبونا، فيكون المعنى: فلما أغضبونا انتقمنا منهم، ثم نقول: الانتقام هو لازم للغضب، فإن الله إذا غضب على عبد انتقم منه، فأنتم أولتم الصفة بلازمها، ونحن نثبت الصفة ونثبت لازم الصفة.

إثبات صفة السخط لله تعالى

إثبات صفة السخط لله تعالى صفة السخط لله تعالى هي من الصفات الفعلية التي تتعلق بالمشيئة، وتتجدد وتتعلق بالأسباب، فيتصف الله بها أحياناً ولا يتصف بها أحياناً أخرى. وصفة السخط ثابتة لله تعالى بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة، فأما في الكتاب: فقد قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد:28]، ووجه الدلالة أنه أضاف السخط لله جل في علاه. وأما في السنة: فقد جاء في سنن الترمذي بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط)، وجاء أيضاً عن معاوية وإن كان الرفع في روايته هذه فيه ضعف: أنه بعث لـ عائشة فطلب منها أن تكتب له فقالت: أما بعد: فأرض الله على سخط الناس يرضى الله عنك ويرضي عنك الناس وتلت هذا الحديث: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)، وكل هذه الأدلة معان أضيفت إلى الله إضافة صفة إلى الموصوف. فنحن نؤمن بصفة السخط، وأنها صفة من صفات الله، وهذه الصفة فعلية فنثبتها بلا تشبيه، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تكييف. فالسخط في اللغة معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

إثبات صفة الكره لله تعالى

إثبات صفة الكره لله تعالى ومن صفات الله تعالى: صفة الكره، أو الكراهة لمن يستحقها، وأيضاً هذه صفة من صفات الله الفعلية، فهي تتعلق بالمشيئة وتتجدد، وتتعلق بالأسباب، فإن الله يكره ويمقت العصاة والكفار والفجرة. قال الله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46]، أي: كره انبعاث المنافقين فخذلهم؛ لأنهم في الصف المسلم يخذلون أهل الإسلام، فقال الله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46]. وأيضاً من الأدلة ما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكره لكم قيل وقال)، فالكره صفة من صفات الله الفعلية، وهي لا تشبه صفات المخلوقين، وليس الأمر كما قال بعضهم: إن لازم إثبات أن الله يكره أن يكون له قلب يميل لمن أحبه، ويبعد عمن كرهه، فهذا كلام باطل، بل نقول: إن صفة الكره صفة كمال وجلال لله جل في علاه، ثبتت بالكتاب وبالسنة وإجماع أهل السنة. أما أهل التعطيل ففسروا صفة الكراهة بالإبعاد، وهذا التفسير باطل؛ لأنه مخالف للكتاب وللسنة ولإجماع أهل السنة.

صفة النزول لله عز وجل

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - صفة النزول لله عز وجل صفات الله عز وجل ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وقد قرأها الصحابة والتابعون وسمعوها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بها كما جاءت من غير تحريف ولا تأويل ولا تشبيه ولا تعطيل، حتى جاء من بعدهم أقوام فحكموا عقولهم في هذه الصفات فأثبتوا منها ما أثبتوا، ونفوا غيرها بلا دليل ولا برهان.

صفة النزول

صفة النزول إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: صفة النزول هي صفة ثبوتية لله جل وعلا، ثبتت لله بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة، وهي صفة فعلية، والنزول في اللغة معلوم، لكن الكيف مجهول، فلا يعلمه إلا الله، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. أما الأدلة من الكتاب فقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:210]، فهذه تدل على نزول، وهذا من باب الاستنباط، لأن الحساب سيكون على أرض غير الأرض، كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]، فيأتي الله جل في علاه فيفصل بين العباد. والدليل الصريح في النزول حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا ثلث الليل الآخر). وفي رواية: (ثلث الليل الأول)، وفي رواية: (إلى الفجر)، والغرض المقصود أنه صرح فقال: (ينزل ربنا). فهذه الصفة مضافة إلى الله إضافة معنى وليست إضافة عين. والمضاف له نوعان: عين ومعنى، فهذه إضافة معنى لله جل في علاه، فينزل ربنا ثلث الليل الآخر.

أنواع النزول

أنواع النزول النزول أنواع: نزول عام، ونزول خاص. فالنزول العام هو: نزول الله جل في علاه كل ليلة. وهذا نزول يعم أهل الإيمان والصلاة، وأهل الكفر والعصيان والفسق والفجور، فيعم كل الخليقة. والنزول الثاني نزول خاص: وهو أنواع، فمنها: نزول خاص بالحجيج فقط. كما جاء في الحديث الصحيح لغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، فيباهي الملائكة بأهل الموقف، فيقول: انظروا إلى هؤلاء جاءوني شعثاً غبراً فأشهدكم أني قد غفرت لهم). فهذا نزول خاص يختص بالحجيج، فهنيئاً لمن كتب الله له أن يكون على الموقف في عرفة، فإن الله ينزل خصيصاً لهؤلاء، فينزل نزولاً يليق بجلاله وكماله وجماله، فيباهي الملائكة بهؤلاء الحجيج. ومنها نزول خاص في ليلة النصف من شعبان، وهذا أعم من الأول مع أنه نزول خاص؛ لأن الأول يختص بالحجيج، أما ليلة النصف من شعبان فيعم المسلمين الفاجر منهم والمصدق إلا المشرك والمشاحن، فالله ينزل إلى السماء الدنيا ليلة النصف من شعبان، فيغفر لكل أحد، إلا الكافر والمشاحن، أي: الذي يحمل ضغائن في قلبه. وهذا فيه دلالة على أن المرء الذي في قلبه حقد على أخيه مبغوض عند الله جل في علاه، ومطرود من رحمة الله جل في علاه، ولا غرو في ذلك. وقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ترفع الأعمال يوم الإثنين والخميس، فينظر في الصحائف فيقول: انظرا هذين حتى يصطلحا)، فلا تقبل الصحائف وإن كان فيها الصيام والقيام والصدقة والجهاد، لكن إن كان في القلب شيء من الدغل لأخيه فإن هذه الصحائف لا تقبل عند الله جل في علاه. فنقاء القلب يرتفع به المرء، ودغل القلب ينخفض به المرء، وكفانا قول الله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب). وأما النزول العام فقد جاء في الحديث (ينزل ربنا ثلث الليل الأول)، كما جاء عن أبي هريرة وجاء في الرواية الأخرى: (ينزل ثلث الليل الآخر). وجاءت الآيات والأحاديث تثبت شهود قراءة الفجر، فقال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]. وطرق الجمع بين هذه الروايات التي تبدو كأنها مختلفة متعارضة أن نقول: إن الله ينزل ثلث الليل الأول، وثلث الليل الآخر يكون قد نزل جل في علاه، أو نازلاً في السماء، وينزل في الفجر يشهد الفجر.

نزول الله إلى السماء الدنيا لا يستلزم خلو العرش منه ولا يستلزم أن تقله السماوات أو تظله

نزول الله إلى السماء الدنيا لا يستلزم خلو العرش منه ولا يستلزم أن تقله السماوات أو تظله إذا نزل الله جل في علاه إلى السماء الدنيا فإنها لا تقله، ولا تظله السماء الثانية أو الثالثة أو الرابعة، وإنما ينزل الله، والسماء لا تقله ولا تظله، بل السماء أحوج ما تكون لربها جل في علاه، فهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. وإذا نزل فهل يخلو منه العرش أو لا يخلو منه العرش؟ في المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: ينزل ويخلو منه العرش. القول الثاني: ينزل ولا يخلو منه العرش. القول الثالث: التوقف. والصحيح الراجح: أن نقول بالتوقف. وإن كان وجهة نظر من قال: إنه ينزل ولا يخلو منه العرش -وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية - قول قوي جداً؛ لأنه جمع بين الآيات والأحاديث، فقال: قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فقد علمنا أن الله استوى إلى يوم القيامة فهو مستو على عرشه سبحانه وتعالى، وقال النبي: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا). فنعمل الدليلين: إن الله استوى على العرش، ونقول: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، ولا يخلو منه العرش، ولكن الأسلم والأحوط لنا أن نتوقف ونقول: إن ربنا استوى على العرش، وإن ربنا ينزل. ونتوقف عن القول هل يخلو منه العرش أو لا يخلو منه العرش؟ لأن الدليل لم يأت بذلك، وهذا الكلام لم يأت به السلف، فنسكت عنه ونكف، فهذا أفضل لنا.

الحث على اغتنام أوقات نزول الله تعالى

الحث على اغتنام أوقات نزول الله تعالى إذا اعتقد المرء بنزول ربه جل في علاه فعليه أن يتلمس هذه الأوقات الفاضلة التي ينزل فيها ربه؛ لأنها أوقات استجابة الدعاء. فمن كان له حاجة عند ربه فليتذلل له في هذه الأوقات اللطيفة العظيمة المقدسة، التي ينزل الله فيها إلى السماء الدنيا؛ لأنه (ينزل فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟). وفي رواية في السنن بسند صحيح قال: (هل من مستشف فأشفيه؟). فالمريض عليه بالسحر، والمحتاج عليه بالسحر، والذي يريد الرفعة عليه بالسحر. فإن الله ينزل ويستجيب الدعاء، فيتعبد العبد لله بهذه الصفة الجليلة، ويتلمس وقت نزول الله فيتعبد لله، إما قائماً لله ليلاً، وإما ذاكراً تالياً للقرآن، وإما عابداً متنسكاً متذللاً متضرعاً خاضعاً متمسكناً داعياً راجياً ربه. وإن الله حيي كريم يستحيي أن يرفع العبد يده إليه فيردهما خائبتين، سبحانه جل في علاه.

موقف أهل البدع من صفة النزول والرد عليهم

موقف أهل البدع من صفة النزول والرد عليهم أهل البدعة والضلالة ما تركونا نهنأ بهذه الصفة، ولا ندري كيف أن حلاوة الإيمان وبشاشته تدخل إلى هذه القلوب الخربة التي أولت صفات ربنا وحرفتها. فقالوا: معنى: (ينزل ربنا)، أي: ينزل أمر ربنا، وتنزل رحمة ربنا. وعندنا أدلة بذلك كثيرة. منها: أن الله خلق مائة رحمة، فأنزل واحدة من هذه الرحمات، فينزل ربنا يعني: تنزل رحمة ربنا، أو ينزل أمر ربنا، كما قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]. ونقول لهم: خالفتم ظاهر الكتاب، وخالفتم ظاهر السنة، وخالفتم إجماع الصحابة. وكفى بهذه المخالفات تضييع لكم. والدين هو ما جاء به الرسول وجاء به الصحابة رضوان الله عليهم. ثانياً: إذا خالفتم النص النبوي فقد اتهمتم رسول الله بالتقصير في البيان، والله قد أمره بالتبيين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، وقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فلو كان النزول نزول الرحمة، أو نزول الأمر، ولم يبين النبي فقد قصر في البلاغ، وقصر في النصح للأمة، وهو أنصح الأمة للأمة صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي. ثالثاً: إن تأويل النزول بأنه نزول الرحمة هذا لازم لصفة نزول الله جل في علاه، فنحن نثبت النزول، ونثبت الرحمة؛ لأن لازم نزول الله أنه سيرحم، كما في حديث النزول أنه يقول: (هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستشف فأشفيه؟)، إذاً: فلازم نزول الله جل في علاه أنه يلزم من ذلك رحمات الله. رابعاً: إن تنزلنا معكم وقلنا بقولكم فإنه ينتج لنا لوازم باطلة، منها: إن رحمة الله ستقول: (هل من سائل فأعطيه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟). ونحن ليس عندنا صكوك غفران، والذي يعفو ويمنح ويعطي ويشفي ويمرض هو الله، وليس الرحمة أو الأمر، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]. هذا على التفصيل. ومن الإجمال قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17].

صفة العجب والضحك لله عز وجل

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - صفة العجب والضحك لله عز وجل من صفات الله الثابتة: العجب والضحك، وقد أثبتها لله سبحانه أهل السنة بلا تحريف ولا تعطيل، وبلا تكييف ولا تمثيل، ولم يثبتها أهل البدع، بل حرفوها، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وقد رد عليهم علماء أهل السنة، وبينوا بطلان ما ذهبوا إليه.

صفة العجب

صفة العجب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: العجب صفة من صفات الله جل في علاه، ثبتت لله بالكتاب وبالسنة وبإجماع أهل السنة، وهي صفة ثبوتية فعلية. فأما الأدلة من الكتاب فقول الله تعالى: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12]، وهذه قراءة متواترة، والقراءة الأخرى {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12]، فعلى الأولى يكون الله جل في علاه هو الذي عجب. وأما الأدلة من السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: (يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة)، وهذا حديث ضعيف. ولكن جاء في صحيح البخاري حديث الضيف الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فنزل على رجل وامرأته ليس عندهما طعام، فقال فيه: (عجب ربكم من صنيعكما مع ضيفكما). فهذا تصريح لعجب الله عز وجل. وفي بعض الروايات: (عجب ربك من عباده يقنطون)، أو (يضحك ربك).

أنواع العجب

أنواع العجب العجب نوعان: عجب للذهول عن السبب، يعني: يعجب الإنسان من أمر لا يعرف أسبابه، فيعجب له، وهذا العجب ناشئ عن جهل. والنوع الثاني من العجب: عجب ينشأ عن تمام علم، لخروج الشيء عن نظيره. مثل رجل يعيش في أرض كل أهلها ليس عندهم همة، وهذا الرجل ليل نهار إما يذاكر أو يطلب العلم أو يجتهد في العبادة أو يتصدق، فهذا يعجب الله منه، لأنه قد خرج عن نظرائه. فالنوع الأول: يستحيل على الله؛ لأن الله يعلم كل شيء، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون.

إثبات صفة الضحك لله تعالى

إثبات صفة الضحك لله تعالى الضحك صفة من صفات الله جل في علاه، وهي من الصفات الثبوتية الفعلية التي ثبتت لله بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة. ثبتت في الكتاب لأن الله تعالى قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. أما في السنة فقد جاءت هذه الصفة تصريحاً من النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وصف ربه بالضحك، حيث ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة) وهذا فيه دلالة واضحة على أن الله يضحك؛ لأنه أضاف الفعل لله جل في علاه، فالله يضحك، ولكن لا يضحك الله كضحك المخلوق، وضحك الله صفة ثابتة له تليق بجلاله وكماله سبحانه، وضحكه سبحانه غير ضحك المخلوق؛ لأن المخلوق إذا ضحك تعجب، أو ضحك من أسباب يجهلها. أما الله جل في علاه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهو يضحك بكيفية يعلمها الله، فنحن نفوض علم الكيفية لله جل في علاه، فإذا سألك سائل وقال: تؤمن وتعتقد بأن ربك يضحك؟ تقول: نعم، أؤمن وأعتقد في قلبي اعتقاداً جازماً بأن ربي يضحك، وضحك الله جل في علاه يليق بجلاله. فالضحك في اللغة معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة، وهذا هو الإيمان الصحيح الذي آمن به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا علم العبد أن الله يضحك فإنه لا بد أن يعتقد اعتقاداً جازماً بلوازم هذا الضحك، فإن الله جل في علاه يضحك للبشر، وإذا ضحك الله لعبد من عباده فقد أراد له الخير؛ لأنك إذا رأيت عبداً من عباد الله يضحك لك في وجهك إذا كلمته، أو إذا طلبت منه شيئاً فضحك لك؛ فأنت ستستبشر خيراً بأن مطلوبك سيتحقق، فما بالكم بالله جل في علاه؟ والقياس بين الله وبين عباده ثلاثة أنواع: قياس علة، وقياس شبه، وقياس جلي، وكل هذه القياسات باطلة بين الله وبين المخلوق إلا القياس الأول: قياس علة، فكل كمال يوصف به العبد فالله أولى به وأكمل جل في علاه. والغرض المقصود: أن صفة الكمال هي لله جل في علاه، فقولنا: إذا كان البشر يضحكون فإنه إذا ضحك لي شخص فإني أستبشر خيراً من ضحكه، فمن باب أولى أن نستبشر بضحك الله جل في علاه، ففي الحديث: أنَّ رجلاً كافراً قاتل رجلاً مسلماً فقتله، فالمقتول شهيد، وقد كتب الله الجنة للشهيد، وقد ضحك الله إلى هذين الرجلين؛ لأن الرجل الذي قتل دخل الجنة، والقاتل نفسه أسلم بعدها، فقاتل فقتل في سبيل الله جل في علاه. فإذا ضحك الله فإن المرء يدخل الجنة بضحك الله وإثابته لعبده؛ ولذلك فإنه يتسامح في تراجم الأسانيد؛ ولذلك ورد في حديث الرجل الذي يدخل بين الصفين أن رجلاً قام فقال: (يا رسول الله! يضحك ربنا؟! قال: يضحك ربنا، قال: إذاً: لن نعدم خيراً من رب يضحك، قال: ما الذي يضحك الرب؟ قال: أن تدخل وتخلع لأمتك وتدخل بين الصفين تقاتل حتى تقتل مقبلاً غير مدبر) فدخل الرجل وهو يعتقد: أن ربه يضحك، وإذا أضحك هذا الرجل ربه فإن الرجل إثابته عند الله تكون عظيمة، فإذا اعتقد المرء بأن ربه يضحك فإنه سيأخذ بأسباب ضحك الله، وأسباب ضحك الله جل في علاه هي الطاعة المنقادة والجهاد في سبيل الله، وهي التقدم نحو أعداء الله بشجاعة وبسالة دون تراخ ودون تقاعس، فهذا هو الذي يثيب المرء، بتقدمه لله جل في علاه، فيضحك الله من فعله فيثيبه بالجنات.

تأويل أهل البدع لصفة ضحك الله تعالى والرد عليهم

تأويل أهل البدع لصفة ضحك الله تعالى والرد عليهم أهل البدع لم يعتقدوا بصفة الضحك، فالمعطلة عطلوا هذه الصفة، أما المحرفة وهم الأشاعرة فقد حرفوا هذه الصفة، وقالوا: إذا قلنا بأن الله يضحك فقد شبهنا الخالق بالمخلوق، والله جل في علاه يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فنقول: لا يضحك، بل الضحك هنا بمعنى: الثواب، أو بمعنى: إرادة الثواب، والأشاعرة القائلون بهذا القول هم كثير، ومخطئ من ظن أن الأشاعرة اندثروا بل هم كثيرون والرد عليهم كما يلي: الرد الأول: أن نقول: خالفتم ظاهر الكتاب، وخالفتم ظاهر السنة، وخالفتم إجماع الصحابة، حيث إنكم أثبتم لازم الصفة، فمن لوازم الضحك أن الله إذا ضحك إلى العبد فهو يريد إثابة هذا العبد، ونحن نثبت اللازم مع إثباتنا الصفة أولاً، وبذلك نثبت الصفة ونثبت لازم الصفة. الرد الثاني: أنكم تتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بعدم التبليغ. الرد الثالث: أن نقول لهم: أنتم أثبتم الحياة لله، وللعبد حياة، وحياة الله كما هو مسلَّم ليست كحياة العبد، بل حياة الله حياة تليق بجلاله وكماله، فما الفارق؟ فنرجع إلى قاعدة قعدناها وهي: أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، وكما قلتم في صفة الحياة فقولوا كذلك في صفة الضحك، فإن الله يضحك لا كضحك البشر، ولله حياة لا كحياة البشر. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الاستواء والعلو لله عز وجل

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - الاستواء والعلو لله عز وجل الاستواء والعلو صفتان ثابتتان لله عز وجل في الكتاب والسنة والإجماع، والاستواء صفة ثبوتية فعلية، وصفة العلو المطلق صفة ذاتية، وقد أول المبتدعة هاتين الصفتين، ولكن الرد عليهم ظاهر من الكتاب والسنة.

إثبات صفة الاستواء على العرش

إثبات صفة الاستواء على العرش صفة الاستواء على العرش لله الصحيح فيها أنها صفة ثبوتية فعلية، وصفة العلو المطلق صفة ذاتية، لكن صفة الاستواء علو مقيد متعلق بالعرش، فهذه صفة فعلية، ومعنى الاستواء: العلو والاستقرار، كأن تقول مثلاً: محمد استوى على الكرسي، أي: علا واستقر، وليس معناه: جلس؛ لأن هذا لا يقال أبداً في حق الله، فعندما نقول: الله استوى على العرش، يعني: علا واستقر لا علا وجلس كما جاء في بعض الآثار الموضوعة التي لا تصح، والصحيح الراجح: أنه علا واستقر كما قال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44] أي: استقرت، فالاستواء هنا معناه: العلو والاستقرار. وهذه الصفة ثبتت لله بالكتاب وأيضاً بالسنة وبالإجماع: أما بالكتاب ففي أكثر من موضع، قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقال جل في علاه: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] والآيات في ذلك كثيرة تبين أن الله جل وعلا قد استوى على عرشه. وأما في السنة فالحديث الذي في الصحيحين: (أن الله -جل وعلا- كتب كتاباً هو عنده فوق العرش) فأثبت العرش، وأيضاً حديث ابن مسعود حيث قال: (ما بين السماوات والأرض مسيرة كذا وكذا) وكذلك بين كل سماء وأخرى نفس المسيرة، ثم قال: (وما بين السماء السابعة والكرسي ماء، والله فوق العرش ويعلم ما أنتم عليه) وهذا هو قول ابن مسعود، وحكمه حديثياً الرفع؛ لأن هذا الأمر لا يدخله الاجتهاد، إذاً: لا بد أن يكون قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فحكمه حكم الرفع، والكلام على أسانيده يجعل الحديث صحيحاً، وفيه قال: (فوق العرش ويعلم ما أنتم عليه) وهو تصريح من السنة. وأما في الإجماع: فقد أجمع أهل السنة والجماعة: على أن الله جل في علاه خلق العرش، واستوى عليه، فازداد العرش تشريفاً وتعظيماً، والعرش أحوج ما يكون إلى الله، فلا يضل امرؤ في هذه المسألة فيقول: إذا كان الله استوى على العرش فهو يحتاج إلى العرش، كما قال أهل البدعة حاشا لله، بل نقول: الله استوى على العرش، وهي صفة من صفاته تدل على كماله جل في علاه، لكن العرش يحتاج إلى الله لا أن الله جل وعلا يحتاج إلى العرش. إن الله استوى على العرش، وهذا الاستواء دلالة على كماله وقوته وعظمته جل في علاه، والعبد إذا علم أن ربه قد استوى على العرش، وأنه يعلم ما هو عليه من صغيرة أو كبيرة أو دقيق أو جليل، خشي ربه وتعبد وسارع بالخيرات، وإذا خلا يوماً من الدهر لم يقل: خلوت، ولكن قال: علي رقيب؛ لأنه يعلم أن الله فوق العرش. وإذا علم أن الله جل في علاه وهو فوق عرشه يدبر أمر خلقه؛ مال قلبه لربه جل في علاه، واطمأن لتدبير الله جل في علاه.

تأويل أهل البدع لصفة استواء الله على العرش والرد عليهم

تأويل أهل البدع لصفة استواء الله على العرش والرد عليهم إن أهل البدع خالفوا أهل السنة والجماعة في هذه الصفة الجليلة العظيمة، فقد قالوا في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]: إن الله لم يستو على العرش؛ لأنه لو استوى فقد احتاج إلى العرش، وكل شيء يحتاج إلى العرش، ولو استوى حقيقة يكون قد جلس كما يجلس المرء والعياذ بالله، وهذا فيه تشبيه الخالق بالمخلوق، فإذا قلنا: إذا قال الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فما المراد من هذا القول؟ قالوا: مراد الله من هذا القول: الرحمن على العرش استولى، لا استوى، قالوا: وعندنا من اللغة ما يعضد ما نقول، وهو قول الشاعر: استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق أي: ما أهريق دم في أخذه للعراق، قالوا: استوى بشر على العراق من غير سيف يعني: استولى، فقالوا: هذه لغة تدل على أن استوى بمعنى: استولى، واللغة هي لغة العرب، والقرآن نزل بها، إذاً: ليس المراد استوى؛ لأننا لو أثبتنا لله الاستواء لشبهنا الخالق بالمخلوق، وأيضاً: لنا لازم باطل في هذا التشبيه حيث إننا لو أثبتنا هذه الصفة لله فإن الله يحتاج إلى العرش، والله لا يحتاج إلى أحد بل كل الخلق يحتاجون إليه. نقول: إذا قال قائل: ما الاسم الذي يدل على أن كل الخلق يحتاجون لله جل في علاه؟ ف A الصمد، أي: يصمد إليه الخلائق في حوائجهم، وبذلك يكون الرد على أهل البدعة والضلالة كالأشاعرة الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء كالتالي: نقول: إنكم خالفتم ظاهر الكتاب؛ لأن الله قال: {اسْتَوَى} [طه:5] وأنتم قلتم: استولى، أأنتم أعلم أم الله؟ وخالفتم ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله فوق العرش ويعلم ما نحن عليه) وكأنكم تدعون أنكم أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كذب وزور، وخالفتم بذلك إجماع أهل السنة والجماعة. وكذلك نقول: هناك لوازم باطلة لو قلنا بقولكم، فلو قلنا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] بمعنى: استولى يلزم من ذلك أن هناك من هو أقوى من الله قد استولى على العرش ثم حدث الصراع والعراك ثم بعد ذلك استرد ملكه والعياذ بالله، وهذا من أكفر الكفر، فإن الله مالك كل شيء ورب كل شيء، وإذا أراد شيئاً {قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، فمعنى قولكم: استوى أي: استولى، كأنه أخذ منه، وفي هذا دلالة على الضعف، وفيه قدح في الربوبية، إذ من لوازم الربوبية أن الله القادر القاهر فوق عباده، فأنتم هكذا قدحتم في ربوبية الله جل في علاه. أيضاً من اللوازم الباطلة أنكم إذا قلتم: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] بمعنى: أنه استولى، معنى ذلك: أن الله يحدث عباده بما لا يفقهون، هو يقول: استوى، وأنتم تقولون: لا، استولى، وكأن الله يخاطبنا بما لا نعقل، وكأن ظاهر القرآن كفر حاشا لله من ذلك، فإن الله قال عن القرآن أنه أنزله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] فهو يخاطبنا بما نعلم فهذا لازم باطل من اللوازم الباطلة أيضاً. وكذلك نقول: إذا خصمناكم بهذه اللوازم فلا بد علينا أن نرد هذه الشبه التي أتيتم بها، فقد قلتم: عندنا من اللغة ما يثبت أن استوى بمعنى: استولى، واحتججتم ببيت شعري، فنقول لكم: أولاً: القاعدة عند العلماء: أنَّ المعنى إذا تردد بين أن يكون شرعياً أو أن يكون لغوياً فإننا نقدم الشرع على اللغة، أي: إذا تردد المعنى بأن كان بوضع الشرع له معنى، وفي وضع اللغة له معنى آخر، فنحن نقدم وضع الشرع والدلالة على ذلك، نظير ذلك في الشرع قول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] والصلاة في اللغة معناها: الدعاء، ومعنى ذلك: أن الله يأمر كل إنسان أن يقف، أو يجلس، أو ينام، أو يقوم على أنه يدعو الله جل في علاه، وليس {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] معناها: تدعو الله جل في علاه، بل {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] تعني: الخمس الصلوات التي بينها رسول الله، فالصلاة معناها في الشرع: هذه الألفاظ المخصوصة والحركات المخصوصة في أوقات مخصوصة، وإن كانت في اللغة معناها: الدعاء، فإذا تردد المعنى بين الأمرين فإنا نأخذ بالشرع، وهنا تردد الأمر في الشرع بالاستواء وبين الاستيلاء فنقدم الاستواء وهو العلو والاستقرار. ثانياً: نقول لكم: هذا البيت ليس بيتاً عربياً، وليس هذا الكلام من كلام أهل اللغة، بل هو بيت لشاعر نصراني ليس من العرب، فهذا البيت أيضاً ليس من لغة العرب. ثالثاً: نقول: عند علماء اللغة قاعدة لغوية تقول: الأصل بقاء اللفظ على ظاهره ما لم تأتِ قرينة تصرفه من الظاهر إلى المؤول، بمعنى: إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً: صلِّ فأنت ستقول: أصلي يعني: أقوم فأصلي على الأقل ركعتين أو ركعة الوتر، أما إذا جاءت قرينة بمعنى: صلِّ للدعاء فسأصرفه من الوضع الشرعي إلى الوضع اللغوي. مثال ذلك: حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان صائماً ودعي لطعام، فقال: (من دعي إلى طعام فليأكل وإلا فليصل) فليصل هنا بمعنى: فليدع للذي دعاه للطعام، فالقرينة صرفت الظاهر من الوضع الشرعي إلى الوضع اللغوي. فنقول: استوى بشر على العراق الأصل فيها علا واستقر لكن البيت يصح تأويله بالسياق؛ لأن القاعدة عند اللغويين أيضاً أن السياق والسباق واللحاق من المفسرات، فالسياق في قول الشاعر: استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق فقوله: (من غير سيف) مفسر لقوله: استوى، بمعنى: أنه استولى من غير أن يعمل فيهم القتل، فأصبحت القرينة في نفس البيت أن استوى بمعنى: استولى؛ لأنه ذكر السيف، وذكر عدم إراقة الدماء، فهذه قرينة تثبت أن المقصود: هو الاستيلاء وليس العلو والاستقرار، فأين هذه القرينة في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؟ أين القرينة التي تصرفه؟ ليس ثمة قرينة، فإن لم يكن هناك قرينة فلا بد أن يبقى اللفظ على ظاهره، وهو أنَّ: (استوى) يعني: علا واستقر، فهذا معنى الاستواء.

إثبات صفة العلو

إثبات صفة العلو إنَّ الاستواء يتعلق بالعلو؛ لأن العلو علوان: علو مطلق، وعلو مقيد. فالعلو المقيد: هو الاستواء على العرش؛ لأنه مقيد بالعرش، أما العلو المطلق: فهو علو الذات، وعلو الشأن، وعلو القهر، فإن الله جل وعلا له صفة ذات وهي العلو، فالله جل وعلا علوه علو شأن أي: علو عظمة وبهاء وكمال وقوة وقدرة وعزة، وعلو قهر أي: هو القاهر فوق عباده، كل الخلق مقهورون ومربوبون لله جل في علاه، كما قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم:93 - 94]، فهذا خضوع في النهاية، وأيضاً خضوع الربوبية في كل العباد، وكذلك كل العباد لا يستطيعون رد قضاء الله وقدره جل في علاه، فإنه لو أمرض الكافر، أو أراد موت الكافر، نفذ أمره جل في علاه، وهذا من باب علو القهر على عباده جل في علاه. إذاً: الله جل في علاه له علو الذات، وعلو الشأن، وعلو القهر. إن علو الله له أدلة كثيرة منها: التصريح بالفوقية، قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]. وكذا التصريح بالعندية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش) وهذا دل على العلو. والنزول أيضاً يدل على العلو، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا ثلث الليل الآخر) وهذا فيه دلالة على العلو؛ لأن النزول لا يكون إلا من علو. وأيضاً: العروج والصعود يدلان على العلو؛ لأن الصعود لا يكون إلا إلى أعلى، قال الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] وفي الآية الأخرى: {أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5] وأيضاً في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لله ملائكة تكتب أعمال العباد يتقابلون في الفجر وفي العصر ويصعدون إلى الله بأعمال العباد) وأيضاً في الصحيحين: أن مجالس العلم تحفها الملائكة، فيصعدون بأسماء هؤلاء فيقال: هذا الرجل جاء لحاجة فيقول الله: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، والغرض المقصود: أنَّ يعرجون معناها: يصعدون، والصعود يكون إلى أعلى. أيضاً من دلالات العلو: الإشارة إلى أعلى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خطب فيهم خطبة الوداع قال: (اللهم هل بلغت؟) فكان النبي صلى الله عليه وسلم يشير بإصبعه إلى أعلى ويقول: (اللهم فاشهد) أي يقول: اللهم إنك أنت في السماء فاشهد على من يقول في الأرض هذا الكلام، فيشير بإصبعه ويقول: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، وينكسها عليهم. أيضاً حديث معاوية في مسلم: (أنه صفع الجارية بعدما أكل الذئب إحدى غنمها -صفعها على وجهها-، فقال: يا رسول الله! أعتقها؟ فقال له: ائتني بها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال: ومن أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة) ووجه الدلالة من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة) والفاء هنا تدل على العلية، ففي هذا الحديث استدل النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان هذه الجارية -وعمرها نحو تسع سنوات- بقولها: (الله في السماء) ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ربط إيمانها بهذا الاعتقاد الصحيح، كأنه يقول لها: قد اعتقدت اعتقاداً صحيحاً دل ذلك على إيمانك، اعتقدت أن ربك في السماء فدل ذلك على إيمانك. وأيضاً قال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16]، وقوله تعالى: {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك:17] فقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] فيه دلالة واضحة على أن الله في السماء. فإذا سأل سائل: هل (في السماء) معناها: أن السماء تظله وتقله؟ A لا وحاشا لله، فإن الله أحاط بكل شيء ولا شيء يحيط به جل في علاه، فمعنى: في السماء على السماء. ولكن بعض أهل اللغة يرفضون أن الحروف يستعير بعضها من بعض المعنى، والصحيح الراجح: أنه ينتقل المعنى، فقد تكون في بمعنى: على، وعلى تكون بمعنى: في، وهذا واقع مشاهد حتى في كتاب الله، فقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: أأمنتم من على السماء، ففي هنا بمعنى: على، والدلالة على ذلك قول الله تعالى عندما بين منته على عباده أنه جعل لهم الأرض ذلولاً، فقال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] فليس هناك أحد حفر في الأرض ومشى فيها، فقوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] يعني: امشوا على مناكبها. وأيضاً عندما قال فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] ما ورد تاريخياً أنه أخذ المنشار ثم أدخلهم داخل النخل، لكن هو صلبهم على النخل، وهذا فيه دلالة على أن قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] يعني: على السماء، وكثير من نسائنا تأخذ الطفل فتقول له: ربك أين؟ فيقول: ربي في السماء، فلا تعلمه أنَّ (في السماء) معناها: ربي على السماء؛ لأن ذلك معتاد عليه، فتقول له: قل: ربي فوق العرش، أو فوق السماء، أو ربي على العرش، أو على السماء. إنَّ هذه الصفة صفة العلو لا بد للإنسان أن يعتقدها اعتقاداً جازماً، ويعلم أن ربه جل في علاه له علو العظمة والبهاء والقدرة والعزة والجبروت، فهو إن اعتقد ذلك فلن يخشى أحداً في الله، ولن يخشى لومة لائم في الله جل في علاه، ولن يخشى أحداً في هذه الدنيا إلا ربه جل في علاه؛ لأن الله قهر عباده، فهو له علو القهر، وأنه مهما اجتمع عليه القوم فلن يضروه بشيء إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وإذا اعتقد أيضاً علو الله جل في علاه على عرشه فإن همته ستعلو؛ لأن الله يكره خفيف الهمة، ويحب عالي الهمة، ومعلوم دائماً أنَّ معالي الأمور ترفع صاحبها عند الله جل في علاه، أما الرجل الذي يقول: أنا فقط أريد أن أكون كما قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ} [آل عمران:185] فهذا من الممكن أن ينزل فيها؛ لأنه إذا قال: فقط أريد: {فَمَنْ زُحْزِحَ} [آل عمران:185] فيعمل على الزحزحة، فإنه لن يصل إلى الزحزحة، فلابد دائماً أنك إذا أردت الخير أن تعلو ببصرك حتى تنال ما تريد، والمثل يقول: إذا أردت أن تصل للمئذنة فانظر إلى السماء حتى تصل إلى المئذنة فقط. فالصحيح: أنك إذا علمت بأن الله جل وعلا من صفاته: صفة العلو علت همتك وقلت: لم لا أكون صديقاً؟ فتدعو الله أن تكون صديقاً، ولكن لا يجوز التعدي في الدعاء، فلا يصح للإنسان أن يقول: يا رب اجعلني نبياً؟ وقد نهى الله عن التعدي في الدعاء؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، وليس هناك نبي بعده، فأنت حين تطلب النبوة كأنك تعارض بدعائك القدر الذي قد كتبه الله أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، والدليل على أن هذا تعدٍّ في الدعاء قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] فالتعدي: أن تتعدى في أمر قدراً أو شرعاً؛ لأن التعدي تعدي قدري أو شرعي. فالتعدي قدراً: أن تدعو بأمر قد نفذ قدراً وهو أن تقول: اللهم اجعلني نبياً، وهذا قد ختم في اللوح المحفوظ أنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتعدي الشرعي: أن تدعو مثلاً بقطيعة رحم أو إثم، وهذا اسمه تعدٍّ شرعي، فالذي لا يستجاب دعاؤه الذي يتعدى قدراً وليس الذي يتعدى شرعاً. والمهم أنَّ الغرض المقصود: أنه إذا علت همتك دون التعدي فإن الله يحب منك ذلك، لم لا تدعو أن تكون صديقاً؟ لم لا تدعو أن تكون في مصاف أبي بكر وعمر وعثمان؟ لم لا تدعو أن تكون أعلم أهل الأرض؟ لم لا تدعو أن تكون أفضل أهل الأرض عند الله جل في علاه؟ ادع بذلك، فإنك إذا علمت أن العلو صفة من صفات ربك فليكن في قلبك صفة العلو.

تأويل أهل البدع لصفة العلو لله سبحانه وتعالى والرد عليهم

تأويل أهل البدع لصفة العلو لله سبحانه وتعالى والرد عليهم أهل البدعة والضلالة أيضاً عطلوا هذه الصفة العظيمة الجليلة وقالوا: لا يتصف الله بالعلو، قلنا: لم تنكرون علينا ذلك وقد قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؟ قالوا: عندنا من الكتاب من الأثر والنظر ما يدل على أن العلو هنا ليس مقصوداً، قلنا: ما هو؟ قالوا: قال الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:7] إلى آخر الآيات قال: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] فهذه دلالة على أنه معنا في كل مكان، وأن الله في كل مكان. والدليل الثاني الذي استدلوا به قول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3]، وقال تعالى في آية أخرى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] فهذه دلالة على أن الله في كل مكان وليس بالعلو كما تقولون. وهذا الكلام ليس محدثاً، هذا الكلام من قديم الأزل ونحن نعايشه الآن، وكثير ممن يقول بالعقيدة الصحيحة عنده هذه الشبهة، فمن الناس من يقول: إن الله في كل مكان كعقيدة الصوفية، ومنهم الجفري وغيره يقولون بذلك، وكذلك الأستاذ زغلول النجار قال ذلك، وفسر قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] بأنه تقريبي وأن الله في كل مكان، فصرح أن الله في كل مكان، أي: أنَّ العقيدة الفاسدة موجودة فلا بد من الرد عليها، فاعتقادهم في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] أنه إن كنت في البيت فهو معك، وإن كنت في البحر فهو معك، وإن كنت في السماء فهو معك، وإن كنت في الأرض فهو معك؛ لأن الله قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]. والرد على هذه الشبهة: أن القاعدة عند العلماء تقول: السياق والسباق واللحاق من المفسرات والمقيدات، ففي السابق أي: في أول الآية قال: (يعلم)، وفي اللاحق: أي: في آخر الآية ختمها بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] فالله سبحانه وتعالى ختمها بالعلم وابتدأها بالعلم فالسياق هنا ذكر أنه يعلم أولاً ويعلم آخراً، إذاً: هو معكم بهذا الذي ابتدأه وهذا الذي ختم به، أي: بعلمه، فالسياق يثبت لنا قرينة تجعلنا نقول: التقدير: (وهو معكم) أي: بعلمه أينما كنتم، والذي يعضد ذلك قول الله تعالى بالجزم {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الذي في السماء تقدست أسماؤك) فهو يقر ويعضد ذلك أنه يثبت جزماً دون تأويل أن الله في السماء. ونحن نعلم أنَّ السباق واللحاق من المفسرات، وهي القرينة التي صرفت اللفظ عن ظاهره، فهو ابتدأ السياق بالعلم وختم الآية بالعلم، فدل ذلك على أنَّ قوله: (وهو معكم) أي: بعلمه، فلما ذكر العلم أولاً وختم بالعلم ثانياً وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] أي: رابعهم بعلمه، ويعلم ما هم عليه، والذي يعضد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت جزماً دون احتمال أن الله فوق العرش، وأن الله في السماء، وهذا الجزم دون أي احتمال دل على أن الآية الأخرى ثبتت بالتأويل أنه بعلمه، وهو معكم بعلمه. وكذلك: لغة العرب تحتمل ذلك، أقول: سرت ليلاً ومعي القمر، أو سرت مع القمر، فهل رأيتم أحداً معه القمر في يده يمشي ويسير بين الناس؟ فكل إنسان يسلم على أنَّ القمر ليس في يده، وإنما أسير ومعي القمر وهو في السماء، فالمعية معيتان: معية خلطة، ومعية مصاحبة، ومعية الخلطة منفية عن الله، ولا يقول بها إلا أهل الاتحاد والحلول، فقولهم: إن الله في كل مكان يسمى معية الخلطة، وهذا لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون لله جل في علاه، والمعية الثانية: معية مصاحبة، ومعية المصاحبة كأن تقول: سرت والنيل، والواو هنا اسمها واو المعية أو واو المصاحبة، أي: سرت مع النيل، فهل النيل تجسد ومشى مع الرجل؟ لا، وكأن تقول: سرت والقمر، فالقمر لا ينزل من عليائه ولم يمش مع الرجل، بل التقدير: سرت مع القمر، أي: كنت في الأرض وهو معي، أينما أمشي أنظر فوقي فأجد القمر، كذلك كأن الله فوق عرشه يرى ما عليه عباده وهو معهم بعلمه، والذي يقرب لك هذا الأمر أن الكون كله في يد الله جل في علاه كحبة خردل في يد أحدنا، وهذا ليس ببعيد. الله: اسم من أسماء الله يتضمن صفة الإلهية فقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ} [الأنعام:3] أي: هو المألوه في السماوات، وهو الله في الأرض، أي: المألوه في الأرض، والمألوه يعني: المعبود الذي تألهه القلوب، أي: تحبه القلوب وتعظمه، فهذا أول تفسير لهذه الآية: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3] يعني: هو المألوه في السماوات، والمألوه في الأرض. هذه بالنسبة للإلهية، ومن الممكن أن تفسر بالربوبية، فقوله: (هو الله في السماوات) أي: أمره في السماوات، وهو الله في الأرض أي: أمره في الأرض، والأوامر هذه من لوازم الرب: أنه السيد الآمر الناهي المطاع فيكون أمره في السماء وأمره في الأرض، كما ورد في بعض الآثار: الله في السماء، أي: أمره في السماء وأمره في الأرض، فهذه الآية تفسر أيضاً بالربوبية. أيضاً من باب الرد عليهم: جاء في بعض القراءات أنهم يقفون وقفاً لازماً عند قوله تعالى: (وهو الله في السماوات) فلا تستمر في القراءة لزوماً ووجوباً ثم تكمل: {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3] إذاً: لزوماً تقف عند قوله: (وهو الله في السماوات) فأثبتنا هنا أن الله في السماوات، ثمَّ نبدأ جملة جديدة فنقرأ: {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3]، وهو وقف لازم في بعض القراءات السبع، فالوقف اللازم أن تقف عند قول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ} [الأنعام:3]، ثم تبدأ جملة جديدة: {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3]. وأما الرد على الآية الثانية: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] فهو نفس الرد في تفسير قول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3] بمعنى: أن المألوه في السماء هو المألوه في الأرض، وكذلك أن أمر الله في السماء وأمره في الأرض سبحانه.

صفة الرؤية لله عز وجل

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - صفة الرؤية لله عز وجل رؤية الله عز وجل في الجنة هي الأمنية التي يتمناها الصالحون، وهي ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة، غير أن فريقاً من أهل البدعة والضلال أنكروا هذه الصفة لله تعالى وردوها بشبهات أوهى من بيت العنكبوت.

صفة الرؤية لله عز وجل

صفة الرؤية لله عز وجل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن شرف العلم يعرف من شرف المعلوم، ولا أحد أشرف من الله جل في علاه. ونحن نتكلم عن صفة من الصفات التي لا بد أن نتعبد بها لله، وهي رؤية الله جل في علاه في الآخرة. فنقول: لقد اشرأبت أعناق المحسنين والمتقين لهذه الرؤية؛ فمن أجل رؤية وجه الله الكريم شمر عن ساعد الجد المتقون والمجتهدون، وهذه الصفة لا ينالها إلا المحسنون.

رؤية الله عز وجل في الدنيا

رؤية الله عز وجل في الدنيا وإن رؤية الله جل في علاه في الدنيا بالعين البصرية مستحيلة، ولا يمكن أن تحدث ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأما الرؤية القلبية فجائزة لمحمد صلى الله عليه وسلم ولغير محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد برؤية القلب أي: في المنام فالرؤية رؤيتان: رؤية بصرية، ورؤية قلبية. أما الرؤية البصرية فمستحيل على أي أحد أن يرى الله جل في علاه في الدنيا. والدليل على ذلك قول الله تعالى في مجيء موسى لميقاته: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، وقد اختلف العلماء في رؤية محمد لربه في الدنيا على قولين: القول الأول: ذهب ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه إلى أن محمداً قد رأى ربه ليلة المعراج. واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (نور أنى أراه) وأيضاً قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والرؤية لمحمد، وهذا لم يثبت عن ابن عباس رضي الله عنه. والقول الثاني: ذهب ابن عباس أيضاً في رواية أخرى عنه إلى أنه: رآه مرتين بقلبه. وهذه الرواية توافق رواية عائشة والجمهور. وقد انتصر الحافظ ابن حجر لقول ابن عباس وهو خلاف الراجح. إذ إن الراجح: أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعينه البصرية أبداً؛ وذلك لما تقرر في علم الأصول أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته يدخل هو فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تروا ربكم حتى تموتوا). فهذا فيه دلالة قاطعة على أنه لا أحد يرى الله حتى يموت، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم. أما الرؤية القلبية، أو في المنام فهذه قد حصلت له صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، وحصلت لآحاد الناس؛ لأن الأحكام على العموم لا على الخصوص. ففي الترمذي بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيت ربي في المنام، فقال لي: يا محمد! أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا أعلم، قال: فوضع يده على صدري فوجدت برد أنامله). فالشاهد أنه قال: (رأيت ربي في المنام) فهذه دلالة على رؤية الله في المنام بلا كيفية، ولآحاد الأمة أن يرى ذلك، وهذا هو الذي رجحه الإمام أحمد، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.

رؤية الله في الآخرة

رؤية الله في الآخرة وأما الرؤية في الآخرة فأسعد الناس بها من اتبع شرع الله جل في علاه، وأذل أهل الأرض لله جل في علاه، وإن العبد المؤمن أسعد ما يسعد به ويتنعم به في الجنة هو رؤية وجه الله الكريم جل في علاه، وكذلك المزاورة، فإن المؤمن يزور ربه ويسعد بلقائه، وذلك في اليوم الذي يقابل يوم الجمعة في الدنيا، فالمؤمن إذا دخل الجنة ورأى ما فيها من نعيم يكشف الحجاب، فما يتنعم بنعمة مثل نعمة النظر إلى وجه الله الكريم.

أدلة الكتاب على رؤية الله يوم القيامة

أدلة الكتاب على رؤية الله يوم القيامة والأدلة كثيرة جداً على رؤية الله يوم القيامة، وهذه الأدلة من الكتاب ومن السنة ومن النظر. فأما الأدلة من الكتاب فدلالات كثيرة، منها قول الله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فهذه النضرة في الوجوه لأمر ولعلة؛ وهي أنها لربها ناظرة. والفعل (نظر) يتعدى بنفسه، ويتعدى بفي، ويتعدى بإلى. فإذا تعدى بنفسه فيكون بمعنى: الانتظار. وذلك كقول الله تعالى عن المنافقين عندما يعبر أهل الإيمان الصراط فيقف المنافقون ويقولون: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13]. فـ (انْظُرُونَا) بمعنى: انظروا إلينا أو انتظرونا حتى نستنير بهذه الأنوار، وهذه غير مرادة هنا. ويتعدى بفي ويكون بمعنى: الرؤية القلبية، أو التدبر في مخلوقات الله، كما قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185]. فقوله: {يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ} [الأعراف:185] يعني: ألا يتدبرون في عظيم خلق الله، ليعلموا عظمة ربهم جل في علاه، فتزداد الرهبة في قلوبهم والرغبة والرجاء في الله جل في علاه. ويتعدى بإلى ويكون معناه بالاتفاق: الرؤية البصرية. وذكرنا الاتفاق لأن أهل البدعة قد يقولون: هو الانتظار، أو يقولون: هو التدبر في نعائم الله وثواب الله. فقال الله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] أي: تنظر إلى الله بهذه الأعين، كما قال تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، أي: حتى يستطيع أن ينظر إلى وجه الله الكريم الذي لو كشف الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. الدليل الثاني من الكتاب: قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] والقاعدة عند أهل التفسير: أن أفضل التفسير تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ثم باللغة. وهنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الآية إلا وقد فسرها، وهذا أفضل التفسير فقال في قول الله تعالى: (((للذين أحسنوا الحسنى وزيادة))، قال: الزيادة: النظر إلى وجه الله). وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال لهم ربهم: تريدون شيئاً؟ فيقولون: ألم تكن أكرمتنا وأدخلتنا الجنة؟ فيقول: لكم عندنا شيء، -أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- فيكشف الحجاب، فما تنعموا بنعمة مثل هذه النعمة) وهي نعمة النظر إلى وجه الله الكريم. الدليل الثالث: من الأدلة على رؤية الله يوم القيامة من الكتاب: قول الله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]. فقال أبو هريرة، وأنس، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود قول الله تعالى: (لهم ما يشاءون فيها) أي: من الحور العين، ومن الأنهار، ومن اللبن، والخمر، والعسل. وقالوا في قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]: إنها النظر إلى وجه الله الكريم. رزقنا الله وإياكم النظر إلى وجه الله الكريم يوم القيامة. الدليل الرابع: قول الله تعالى في سورة الإنسان: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:23 - 24]، فنضرة النعيم حصلت لهم لأنهم ينظرون إلى وجه ربهم. والقاعدة عند العلماء: نفي المعمول يؤذن بالعموم، فحذف مفعول ينظرون أشعرت بالعموم، أي: ينظرون إلى الحور العين وإلى الجنات والنهر وإلى الخمر وإلى اللبن وإلى العسل، وينظرون إلى وجوه بعضهم البعض، وينظرون إلى وجه الله. فهم ينظرون بالعموم، فنفي المعمول يؤذن بالعموم. وهذا فيه دلالة على أنهم ينظرون إلى وجه الله الكريم. رزقنا الله وإياكم ذلك. خامساً: قول الله تعالى عن الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]. قال الإمام الشافعي رحمه الله: لما حجب هؤلاء في الغضب، كان لهؤلاء في الرضا النظر إلى وجه الله الكريم. وهذا ظاهر جداً؛ لأن الله اشتد غضبه عليهم فلم يروا وجه الله الكريم، فكانت المكافأة للذين تذللوا له وأطاعوه أنهم ينظرون إلى وجهه الكريم.

أدلة السنة على رؤية الله يوم القيامة

أدلة السنة على رؤية الله يوم القيامة وأما من السنة فالأدلة التي تدل على رؤية الله يوم القيامة كثيرة، منها: ما جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يرفعه: (جنتان من ذهب -أي: لكل رجل جنتان- آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء)، فإذاً رداء الكبرياء إذا كشفه الله نظر الناس إلى وجه الله الكريم. والأصرح من ذلك في السنة ما جاء في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس مع أصحابه، فنظر إلى الشمس وقال: هل تضامون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: هل تضامون في رؤية القمر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا. قال: كذلك ترون ربكم). هو هنا يشبه الرؤية بالرؤية؛ لأنه قال: (لا تضامون) أي: لا يحدث ضيم عليكم. ولا تضارون: أي: ولا ضرر يقع عليكم عندما تنظرون إلى القمر، فكذلك عندما تنظرون إلى وجه الله الكريم فإنكم لا تضارون ولا تضامون. فقال: كذلك ترون ربكم وهذا فيه تصريح عظيم من النبي صلى الله عليه وسلم على رؤية الله جل في علاه، ودائماً كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في دعائه ويقول: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم). فإذاً: في الأدلة من الأثر الكتاب والسنة دلالة قاطعة على رؤية الله جل في علاه يوم القيامة.

أدلة النظر على رؤية الله يوم القيامة

أدلة النظر على رؤية الله يوم القيامة وأما الأدلة من النظر: فإن موسى عليه السلام عندما سمع صوت الله طمع فيما هو أكثر، وقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]. فمن هذه القصة نستشعر بأن رؤية الله ممكنة يوم القيامة لا في الدنيا. وذلك من وجهين: أولاً: أن موسى عليه السلام قد سأل ربه سؤالاً، وكان هذا السؤال الذي سأله موسى عن علم؛ لأنه كان في زمانه أعلم الخلق بالله، وعندما يسأل أعلم الخلق بالله عندما يسأل سؤالاً مثل هذا فإن فيه دلالة على أنه يعتقد برؤية الله، وقد أقره الله على هذا الاعتقاد. لأنه لا يمكن لموسى أن يتجرأ على ربه فيسأله ما ليس له به علم، وإنما سأل عن علم. وجه الدلالة الثاني: أن الله أقر موسى عليه السلام، ولكن قال: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]. ولو كان هذا السؤال تعدياً من موسى لأنكر عليه ربه كما أنكر على نوح عليه السلام عندما قال: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] فقال له الله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]، ثم قال: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]. فهذا إنكار من الله تعالى على نوح عليه السلام، فلما أقر الله موسى على هذا السؤال دل ذلك على أن رؤية الله ممكنة. لكن ليس ذلك في الدنيا؛ لأن القوة البشرية لا تطيق ذلك. ولذلك قال تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] فهذا هو الدليل من النظر الذي يدل أيضاً على رؤية الله يوم القيامة.

حفظ النظر عن الحرام في الدنيا شرط لرؤية الله يوم القيامة

حفظ النظر عن الحرام في الدنيا شرط لرؤية الله يوم القيامة إن العبد الذي يعتقد برؤية الله يوم القيامة فهنيئاً له، ثم السعادة كل السعادة لهذا المرء لا ؤلئك التعساء السفهاء الذين أنكروا رؤية الله جل في علاه؛ لأن الذي يعتقد أنه سيرى ربه يوم القيامة لا بد له من أن يستعد استعداداً تاماً لرؤية الله جل في علاه، فإن البهاء والنور والنضرة تكون له برؤية ربه جل في علاه، والسعادة كل السعادة عندما ينظر إلى وجه ربه الكريم. فكفاه في الجنة النظر إلى وجهه الكريم. اللهم ارزقنا ذلك يا رب العالمين، فعلى المرء أن يستعد أتم الاستعداد لرؤية ربه يوم القيامة، بأن يحفظ بصره من كل سوء فلا ينظر إلى محرم، وإن نظر رجع وآب وتاب لربه جل في علاه. فهو يستعد استعداداً تاماً حتى يحظى بهذه المكانة بأن ينظر إلى وجه الله. وإن الله يغار، فلن يمكن لأحد استمر أو أصر على الحرام أن ينظر إليه، فعلى المرء أن يتفقد نفسه، ويحفظ بصره وسمعه وقلبه مما يغضب الله جل في علاه، حتى يفوز بهذه السعادة، وهي النظر إلى وجه الله الكريم.

بيان تفاوت العباد في رؤيتهم لله

بيان تفاوت العباد في رؤيتهم لله إن النظر إلى وجه الله يتفاوت بين العباد كتفاوت الطاعات والمنازل. فالذي ينظر إلى وجه ربه في الفردوس ليس كالذي ينظر إلى ربه في الدرجة الأدنى من الجنة. فكل إنسان يتمتع بقدر ما هو فيه من الطاعة، فالذي في الفردوس الأعلى تعلو متعته وهو في الفردوس الأعلى مصاحباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يزور الله، وينظر إلى الله جل في علاه. والذي في الأدنى يكون أقل متعة منه؛ لأن الإنسان الذي له همة عالية لا يرضى بالدون، بل يقول: لم أنزل عن هذه المتعة؟ بل لم لا أرتقي لأصاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، فينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنظر كما ينظر، وينظر أبو بكر رضي الله عنه وأنظر كما ينظر، وينظر عمر رضي الله عنه وأنظر كما ينظر. وأزور ربي كما يزوره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر؟ اللهم اجعلنا مخلصين لك يا رب العالمين، واجعلنا نعمل بدينك ولرضاك وابتغاء وجهك الكريم. هذه الصفة الجليلة لا يصل إليها إلا المحسنون، ولا يصل إليها إلا المجدون، وقد منع منها قوم لا خلاق لهم، والله جل في علاه يكافئهم بهذا العطب الذي في قلوبهم على ما يشوشون به على أهل السنة والجماعة.

موقف أهل البدع من صفة الرؤية

موقف أهل البدع من صفة الرؤية إن أهل البدعة يقولون: لا يمكن رؤية الله جل في علاه، وعندنا أدلة على ذلك منها: أولاً: عندما طلب موسى من ربه الرؤية قال له: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، ولن في اللغة للتأبيد، يعني: لن تراني أبداً. ثانياً: قال الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] وهذه فيها دلالة واضحة على أننا لن نرى الله، ولن ندرك الله جل في علاه. فقال تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] هذه هي الشبهات التي تمسك بها المعتزلة وأمثالهم من الأشاعرة، وإن كان كلامهم خفي لكن هؤلاء أهل البدعة والضلالة الذين يضللون أهل السنة والجماعة، ويبعدون أنفسهم عن هذا الخير العميم، ويضلون غيرهم من العوام بهذه الأدلة.

الرد على أهل البدع فيما استدلوا به على نفي الرؤية

الرد على أهل البدع فيما استدلوا به على نفي الرؤية ولا بد للإنسان الذي يتعلم العقيدة السديدة من أن يكون راسخاً فيها، حتى يرد على أهل البدعة والضلالة فيما استدلوا به. ونقول في الرد عليهم: أما استدلالهم بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فنقول: بأن (لن) ليست للتأبيد، والدليل على ذلك: أن الله عز وجل حكى لنا عن خصال أهل الكتاب، فقال تعالى: {َلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95] يعني: الموت. وقال الله تعالى مبيناً أنهم يتمنون الموت يوم القيامة: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] وأيضاً: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، فهذا تمنٍ للموت. فقول الله تعالى: ((لَنْ يَتَمَنَّوْهُ)) ليست للتأبيد؛ لأنهم يتمنونه في الآخرة. فإن قالوا: فكيف تجيبون عن الآية؟ فنقول: نجيب عن الآية بقولنا: إن قول الله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، يعني: لن تراني في هذه الدنيا، بهذه الهيئة وهذه الكيفية التي أنت عليها؛ لأن قوتك البشرية لا تستطيع أن تحتمل أنوار وجه الله جل في علاه. اللهم ارزقنا النظر إلى وجهك الكريم فإن من عظمة وجه الله وأنواره جل في علاه ما حكاه تعالى في القرآن بقوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143]، الجبل الراسخ الشم الشامخ، فكأن الله يقول: لن تراني بهذه الكيفية، وهذه القوة البشرية في هذه الدنيا، ولكنك في الآخرة ستراني بهذه الأدلة الكثيرة الوفيرة. وأما استدلالهم بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] فنقول: إن المنفي في هذه الآية هو الإدراك. والعلاقة بين الإدراك والرؤية: أن بينهما عموماً وخصوصاً، فالرؤية من الإدراك من جهة المرئي، فالإدراك أخص والرؤية أعم. مثال ذلك: لو أن إنساناً في داخل المسجد ونظر في جميع نواحي المسجد فقد أدرك المسجد، وأحاط بكل صغيرة وكبيرة فيه، واستطاع أن يصف لك ما في المسجد كله، ومثل ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم بعدما أسري به وهو في بيت الله الحرام وكان نائماً، فجاءوا إليه وقالوا: أنت زرت بيت المقدس! فصفه لنا؟ فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، فجاءه جبريل بصورة بيت المقدس، فجلس يحكي لهم كل جزئية في بيت المقدس، فهذا قد أدرك البيت. وأما الرؤية فهي أعم، ولا تكون كل رؤية إدراكاً؛ لأن الإدراك هو: النظر أو رؤية كل دقيق وجليل في المسألة. وأما الرؤية فهي على العموم. فالرؤية هنا تكون أعم من الإدراك، والله جل وعلا إنما نفى في كتابه الإدراك، ولم ينف الرؤية، فقال تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، وهذا حق فإننا لا نقيس بالله شيئاً سبحانه وتعالى، ولا نحيط به علماً، وأيضاً لا ندرك صفات الله جل في علاه. إذاً: فنفي الإدراك يدل بالاستلزام على وجود الرؤية؛ لأن نفي الأخص يستلزم وجود الأعم، فإذا نفي الإدراك فلا بد أن تكون الرؤية موجودة. إذاً: هذه الآية ليست محل النزاع؛ إذ إننا نتفق معكم أننا لا ندرك صفات الله جل في علاه. لكننا نقول: إننا سنرى وجه الله جل في علاه؛ لأن الآية والحديث أثبتا لنا رؤية الله يوم القيامة.

صفة الكلام لله عز وجل والقرآن كلام الله

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - صفة الكلام لله عز وجل والقرآن كلام الله صفة الكلام لله تعالى، وأنه سبحانه يتكلم أثبتها أهل السنة والجماعة، من غير تأويل ولا تحريف ولا تمثيل ولا تشبيه، إلا أنه لم تطب أنفس أهل البدع بإثبات هذه الصفة، فنفوها عن الله منزهين له -بزعمهم- عن مشابهة المخلوقين، ولقد وقعوا في شر مما هربوا منه، حيث شبهوا الله بالعجماوات، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.

صفة الكلام لله عز وجل

صفة الكلام لله عز وجل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إن صفة الكلام صفة ثبوتية فعلية، وهي قديمة النوع حادثة الأفراد. والصحيح الراجح: أن صفة الكلام صفة فعلية ثبتت لله بالكتاب وبالسنة وإجماع أهل السنة.

الأدلة من الكتاب على إثبات صفة الكلام لله

الأدلة من الكتاب على إثبات صفة الكلام لله أما الأدلة من الكتاب: فقد قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، ووجه الدلالة من هذه الآية على أن الله يتكلم، أن الكلام أضيف لله، والمضاف إلى لله نوعان: إضافة معان، وإضافة أعيان. وإضافة المعاني: إضافة صفة للموصوف، والكلام معنى. وأما إضافة العين: كالكعبة بيت الله، وكعيسى روح الله. وأما الكلام فهو: معنى مضاف، ونقول: إن المعنى إذا أضيف إلى الله فهو إضافة صفة إلى الموصوف. ومن الأدلة من الكتاب على أن الله يتكلم: قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، ((وَإِذْ قَالَ)) والقول كلام. وأيضاً: قوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء:10]، والنداء من الكلام. وأيضاً: قول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]. وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]. فهذه كلها دلالات على كلام الله جل في علاه.

الأدلة من السنة على إثبات صفة الكلام لله

الأدلة من السنة على إثبات صفة الكلام لله وأما الأدلة من السنة، فمنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة بين يدي كلامه صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقول فيها: (إن أصدق الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)، فأضاف الكلام إلى الله جل في علاه. وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) فهذا الحديث فيه دلالة على أن الله يتكلم، وفيه دلالة على أن الكلام صفة من صفات الله، ووجه الدلالة من الحديث وجهان: الوجه الأول: أنه أضاف الكلام إلى الله، والكلام ليس بعين، وإنما هو معنى، وإضافة المعنى هو إضافة صفة للموصوف. والثاني: أن الاستعاذة عبادة، ولا يمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي علم هذه الأمة التوحيد أن يستعيذ بمخلوق، فلو كان كلام الله مخلوق لما استعاذ به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، والنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن الشرك، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (أعوذ بكلمات الله)، يعني: أستعيذ بصفة من صفات الله وهي صفة الكلام. فإذاً: الله يتكلم بصوت مسموع وبحرف سبحانه جل في علاه.

الأدلة على أن كلام الله بصوت مسموع

الأدلة على أن كلام الله بصوت مسموع أما الدليل على أن الله: يتكلم بصوت مسموع فقد دل الكتاب والسنة على ذلك. أما من الكتاب: فقد قال الله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10]، والنداء في اللغة معناه: الكلام بصوت، والمناداة لا يمكن أن تكون إلا بصوت. وأيضاً قال تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:22]، فهذه أيضاً فيها نداء من الله جل في علاه. والنداء لا يكون إلا بصوت مسموع. وأما من السنة: فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحشر الخلائق من أول آدم إلى آخر الخليقة فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب)، فهذا أيضاً فيه دلالة على سماع صوت الله يوم القيامة، إذاً: فهو يتكلم بصوت. وأيضاً يتكلم بحرف؛ لأن الكلمات تتكون من حروف. وقد بينه الله في كتابه عندما قال: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1]. وقال الله تعالى: {حم} [غافر:1]. وقال تعالى: {عسق} [الشورى:2]. وقال تعالى: {كهيعص} [مريم:1]. فكل هذه حروف تدل على أن الله يتكلم بصوت وبحرف. فكلام الله جل في علاه ثابت بالكتاب وبالسنة وبإجماع أهل السنة.

كلام الله قديم النوع حادث الأفراد

كلام الله قديم النوع حادث الأفراد إن صفة الكلام قديمة النوع، أي: أن الله جل وعلا يتكلم من الأزل وقتما يشاء أن يتكلم؛ لأننا لا نستطيع أن نقول أنه كان يقول في الأزل: {يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:11 - 12] فما قال ذلك حتى جاء موسى عليه السلام عند الشجرة، فقال الله جل في علاه: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12] فهي قديمة النوع حادثة الأفراد، أو حادثة الآحاد، يعني: يتكلم الله بما شاء وقتما يشاء. وقد ضرب بعض العلماء لذلك مثلاً فقال: إنك إذا دخلت على رجل وقد سكت ثم في لحظة تكلم، فإنك لا تستطيع أن تصف هذا الرجل بأنه ما كان يستطيع الكلام، وأنه أخرس، بل تقول: إنه كان ساكتاً ثم تكلم حيث شاء، أو وقتما شاء أن يتكلم. ولله عز وجل المثل الأعلى، فكلامه يتعلق بالمشيئة، ولكن الصفة قديمة النوع وحادثة الأفراد.

اعتقاد أهل البدع في صفة الكلام، وشبهاتهم حولها والرد عليهم

اعتقاد أهل البدع في صفة الكلام، وشبهاتهم حولها والرد عليهم إن بعض أهل البدعة والضلالة لم يقروا بهذه الصفة لله، وقالوا: إن الله لا يتكلم. ثم أوردا شبهة شديدة جداً، فقالوا: لو قلتم بأن الله يتكلم فإن ذلك يستلزم لوازم باطلة. وهي: أنه لا كلام إلا بمخرج، فتكونون قد شبهتم الخالق بالمخلوق، ولذلك قالوا: إن الله لا يتكلم. والجواب على ذلك بأن نقول: إن الأصل أنه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ولا يستلزم من الكلام المخرج. وأيضاً: لم يرد في الشرع أن لله فماً، ونحن لا نثبت لله صفة إلا إذا أثبتها لنفسه، فنحن نسكت عن هذا. وأما ما أوردوه من إلزام فنقول: إن هذا اللازم باطل؛ لأننا لو قلنا بقولكم فقد كيفنا الصفة، والكيف مجهول بالنسبة لنا، ونحن نفوض الكيفية. بل إن في المخلوقات ما يتكلم ونحن لا نعرف كيفية كلامه. مثال ذلك: السماوات والأراضين، فعندما خلقهما الله قال لهما: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]. وأيضاً: تكلمت الجنة وتكلمت النار، ففي الصحيحين: (أن الجنة والنار احتجتا عند الله جل في علاه، فقالت النار: يدخلني المتكبرون، وقالت الجنة: يدخلني الضعفاء). فتكلمت الجنة وتكلمت النار. ولا نعرف كيفية كلامهما، وإن كان هذا في المخلوق فمن باب أولى ألا نعلم كيفية كلام الله جل في علاه، لكنه يتكلم، ويسمع من يشاء بكلامه، فقد أسمع الملائكة، فجبريل عليه السلام سمع صوت الله، بل وملائكة السماء سمعوا صوت الله جل في علاه كما في الحديث الصحيح: (أن الله إذا أراد أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، فيسمعون صوت الله، وتأخذ السماء منه رجفة أو رعدة شديدة)، فهذه دلالة على أنهم يسمعون صوت الله جل في علاه، وجبريل قد سمع صوت الله بتلاوة القرآن، وأخذ القرآن ونزل به إلى محمد صلى الله عليه وسلم. إذاً: الله يتكلم، ولا نعلم كيفية كلام الله جل في علاه، فنحن نثبت الصفة بلا تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل. ويزيد من بطلان إلزامهم بأن الكلام يستلزم المخرج، أن هذا تكييف، والكلام في اللغة معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ثم إنكم أيها المبتدعة خالفتم ظاهر القرآن وظاهر السنة وإجماع الصحابة، وهذا يلزم منه لوازم باطلة لا يمكن أن نقر بها. إذاً فنقول في الرد عليهم: إن هذا اللازم الذي قلتم عليه أنه لازم باطل وليس بلازم، فإن هناك مخلوقات تتكلم ولا يستلزم من وجود الكلام وجود المخرج، ولا نعلم كيفية هذا الكلام، فمن باب أولى نقول: إن الله جل في علاه يتكلم ولا نعرف كيفية هذا الكلام.

القرآن كلام الله غير مخلوق

القرآن كلام الله غير مخلوق إن القرآن من كلام الله جل في علاه؛ فهو صفة من صفات الله، فقد تكلم الله بالقرآن. وهناك آيات وأحاديث تثبت أن القرآن كلام الله وليس بمخلوق. لأن بعض المبتدعة قالوا: كلام الله مخلوق. والآن كثير من هؤلاء يزعمون بأن الله جل وعلا لم يتكلم بالقرآن، وأن هذا القرآن مخلوق كالسماء والأرض والشجر والحجر. ومن هؤلاء: سيد قطب رحمة الله عليه، فإن من الأخطاء الفادحة التي وقع فيها في كتابه الظلال، أنه لما كان يتكلم عن القرآن يصور بديع القرآن كبديع خلق الله السماء والأرض، فقال: والقرآن كالسماء وكالأرض وكالشجر. فعندما يشبه القرآن بالسماء فقد شبه صفة من صفات الله بمخلوق. فكأنه يقول: القرآن مخلوق، وإن كنا لا نأخذ عليه هذا لأنه ليس بعالم، وإنما هو أديب. ولكن هذا الكلام هو كلام المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن القرآن خلقه الله في الشجرة، والشجرة قالت لموسى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12].

الأدلة على أن الكلام صفة ثابتة لله

الأدلة على أن الكلام صفة ثابتة لله فالمقصود: أن القرآن كلام الله، والكلام صفة من صفات الله جل في علاه، دل على ذلك آيات كثيرات. منها: قول الله تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق:5]، والأمر هو من قول الله تعالى. وأيضاً قول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ} [التوبة:6]. فأضاف الكلام لله جل في علاه. وقول الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]. وأيضاً قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]، إلى أن قال في الآية الأخرى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق:5]. وأيضاً من السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، والقرآن يدخل في عموم الكلام.

اعتقاد أهل البدع في القرآن وأدلتهم والرد عليها

اعتقاد أهل البدع في القرآن وأدلتهم والرد عليها أما أهل البدع والضلالة فقد نظروا إلى كتاب الله وقرآن الله، فقالوا: هذا ليس من كلام الله؛ لأن الأصل عندهم أن الله لا يتكلم. فإذا قلت: إن الله تكلم بالقرآن. قالوا: الأصل أن الله لا يتكلم. وأن هذا القرآن مخلوق وليس بكلام الله. واستدلوا على ذلك بأن قالوا: قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3]، والجعل أصله: الخلق، فيكون الجعل هنا أصله: الخلق. فقوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً)، يعني: خلقناه قرآناً عربياً. فقالوا: هذا دليل واضح جداً على أن القرآن مخلوق، وليس بكلام الله جل في علاه. وعندنا الأدلة الكثيرة التي أثبتنا بها أن القرآن هو كلام الله، قال تعالى: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:80] {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195]. وأيضاً الأدلة الكثيرة من السنة على أن القرآن هذا وحي من الله، قال الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4 - 5]. وعندما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على الشبعان الجالس على أريكته بقوله: (يأتيه الأمر من أمري، فيقول: ننظر في كتاب الله) كأن المبتدع هذا يرى أن هذا كلام الله وهؤلاء لا يقرون بهذا، فيقول: ننظر في كتاب الله فإن وافق الحكم ما في كتاب الله أخذنا به، وإلا لم نأخذ به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإني قد أتيت القرآن)، يعني: وحياً من الرب سبحانه وتعالى (ألا وإني قد أتيت القرآن ومثله معه)، يعني: السنة التي هي قرينة أو صنو القرآن. إذاً: فالأدلة من الكتاب والسنة تثبت أن القرآن كلام الله، وهم يعاندون رسول الله، ويقولون: إن الله لا يتكلم، وإن القرآن ليس بكلام الله، وهو مخلوق. والرد عليهم أولاً: قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1]، فهذه الآية ظاهرة جداً في أن الكتاب من الله جل في علاه، سمعه جبريل، ونزل به لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1]. وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن:1 - 3]. وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]. وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ} [يس:82]، والأمر من قول الله جل في علاه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن، فإن لكم بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول: ألم حرف، ولكن أقول: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). وأيضاً ورد عن الصحابة بأسانيد صحيحة أنهم كانوا يصفون الله بالكلام، ويقولون: القرآن كلام الله. كما جاء عن أبي بكر وعمر رضي الله عنها وأرضاهما، فـ عمر رضي الله عنه كان يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. وأيضاً أبو بكر رضي الله عنه عندما رأى أن الروم ستغلب الفرس، قالوا: هذا من كلامك أم من كلام شاعر؟ أي: النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: بل هو من كلام الله، فنسب الكلام لله جل في علاه. وعائشة رضي الله عنها عندما قالت: (والله إن شأني في نفسي لأحقر من أن يتكلم الله بي)، أي: بقرآن من فوق سبع سماوات. ويقول عثمان بن عفان رضي الله عنه كما في شعب الإيمان للإمام البيهقي رحمه الله بسند صحيح: لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله جل في علاه. وأيضاً روي عن ابن مسعود رضي الله عنه بسند صحيح أنه كان يقول: من أراد أن يختبر حبه لله فليعرض نفسه على كلام الله، فإن أحب كلام الله فقد أحب الله جل في علاه؛ لأنه قد أحب صفة من صفات الله جل في علاه. وقال بعض السلف: لا يتعبد لله بأفضل مما خرج منه، والذي خرج منه هو القرآن، فهذا إثبات بأن القرآن كلام الله جل في علاه. وأما الرد على شبهتهم بأن الجعل هو الخلق، فنقول قال الله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189]، فهل خلق منها زوجها؟!! وأيضاً إن جعل: تحتمل الخلق وتحتمل التحويل، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5] فهل خلقهم كعصف مأكول، أم خلقهم بشراً مثل سائر بني آدم؟ فجعلهم هنا ليست بمعنى: خلقهم. إذاً: فقوله تعالى: {جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3]، أي: جعل هذا الكلام عندما أنزل به جبريل باللسان العربي المبين، فإن الله تكلم مع موسى بالعبرية، وتكلم مع عيسى بالسريانية، وتكلم مع كل نبي بلغة قومه. فلما تكلم بالقرآن تكلم باللغة العربية، قال تعالى: (فجعلناه قرآناً عربياً)، يعني: تكلمنا به بلغة العرب لا باللغة العبرانية، ولا باللغة السريانية. فهذه فيها دلالة واضحة على أن الجعل أيضاً يكون بغير الخلق وهذا رد على هذه الشبهة. فالقرآن ليس بمخلوق وإنما هو كلام الله. ومن قال بأن القرآن مخلوق، فنقول له: لقد خالفت ظاهر القرآن، وخالفت ظاهر السنة، وخالفت إجماع أهل السنة والجماعة. وأيضاً نقول له: لقد رددت القول على الله؛ لأن الله فرق بين الخلق والكلام وأنت جمعت بينهما، قال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فعطف الخلق على الأمر بالواو العاطفة، والأصل في العطف: المغايرة. فعلمنا أن الخلق غير الأمر، فالأمر صفة من صفاته، والخلق فعل من أفعاله جل في علاه، فإذا أضيف الخلق إلى الله فتكون الإضافة إضافة تشريف، وأما بالنسبة للأمر فهو صفة من صفات الله، تكلم به جل في علاه. وأيضاً قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن:1 - 3]، فغاير بين تعليم القرآن وبين خلق الإنسان، ولو كان القرآن مخلوقاً لقال الله تعالى: الرحمن خلق القرآن وخلق الإنسان. ولكن قال: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن:1 - 3] فغاير بين تعليم القرآن وبين خلق الإنسان. أيضاً نقول: يلزم من قولكم بأن القرآن مخلوق لوازم باطلة، وهي: أولاً: أن موسى عليه السلام عندما جاء لميقات ربه إلى الشجرة قال الله تعالى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12]، وهل المخلوق يتجرأ ويقول لموسى: إني أنا ربك؟ وهل الله جل وعلا يأمر موسى أن يعبد غيره؟ وهل يصح هذا في الأذهان؟ فهذا لازم باطل، فلو كان القرآن مخلوقاً فالمخلوق هو الذي يأمر موسى، ويقول له: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12] وهذا لازم باطل؛ لأن الله لا يأمر بالكفر، وإنما يأمر بالإيمان وبالتوحيد. وأيضاً من اللوازم الباطلة: أن موسى عليه السلام لما جاء لميقات ربه قال: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143]، فهل المخلوق يحجب عن موسى ويقول: ((لَنْ تَرَانِي))؟ هذه هي الردود على أهل البدعة والضلالة الذين يقولون: بأن القرآن مخلوق. ونحن نقول لهم: القرآن كلام الله، وصفة من صفات الله جل في علاه، وقد تكلم الله بهذا القرآن، وسمعه جبريل، ونزل به إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحياً.

الفرق بين إضافة القرآن إلى الله وإضافته إلى جبريل وإلى نبينا محمد

الفرق بين إضافة القرآن إلى الله وإضافته إلى جبريل وإلى نبينا محمد يبقى إشكال لا بد من حله وهو أن الله أضاف القرآن لجبريل عليه السلام، وأضاف القرآن لمحمد؛ لأن الله قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} [التكوير:19 - 20]، فأضاف القول للرسول الكريم الذي له القوة عند ذي العرش، وهو جبريل عليه السلام، وأضاف أيضاً القول للنبي صلى الله عليه وسلم في بعض الآيات، فالإشكال هو: هل محمد هو الذي تكلم بهذا الكلام، كما قال طه حسين: بأن الكلام هو من الشعر الجاهلي، وهو من كلام محمد صلى الله عليه وسلم؟ أم هو من كلام جبريل؟ أم هو من كلام الله؟ ولا بد علينا لزاماً أن نجيب على إضافة القول لجبريل، وإضافة القول للنبي صلى الله عليه وسلم. ونقول: إن الله جل وعلا يقول: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40]، فأضاف القول للرسول الملكي وهو جبريل عليه السلام، فالآية تحتمل أمرين، الأمر الأول: أن مبدأ الكلام من هذا الرسول الكريم، وتحتمل أيضاًًًً: أن يكون إضافة القول للرسول إضافة تبليغ. كقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]. فإذاً: قول الله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19]، إضافته لهذا الرسول الكريم إضافة تبليغ، ويكون القول أصالةً مبدؤه من الله جل في علاه، فهو تكلم به، وسمعه جبريل، فلما بلغه جبريل أضيف إليه إضافة تبليغ. كما تقول: بنا الفسطاط عمرو بن العاص، أو بنا مصر عمرو بن العاص، وليس هو الذي بناها، وإنما بنيت بأمر منه. فهنا أمر الله جبريل أن يبلغ هذا لمحمد، فأضافه إليه إضافة تبليغ. وبهذا يحل الإشكال، وتصفو الأدلة، ويكون الله جل في علاه يتكلم بكلام، وبصوت مسموع وحرف، والله جل في علاه يتكلم حيثما شاء، وبما شاء، وقتما شاء، والقرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: بأن القرآن مخلوق فقد كفر كما قال الإمام أحمد بن حنبل. وليس هذا المجال مجال تفصيل الكلام على الذين قالوا برد القرآن من المبتدعة.

فصل في القضاء والقدر

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - فصل في القضاء والقدر القدر من لوازم ربوبية الله عز وجل، ولا يستقيم لعبد إيمان ما لم يؤمن بالقضاء والقدر، ومسألة القدر ضل فيها كل من القدرية والجبرية، والمنهج الأسلم والسبيل القويم في هذه المسألة هو ما عليه أهل السنة والجماعة الذين يثبتون لله قدراً كونياً وقدراً شرعياً، كما يثبتون للمخلوقين إرادة واختياراً لا تنفك عن إرادة الله تعالى وقدره.

مقدمة في أهمية الإيمان بالقضاء والقدر

مقدمة في أهمية الإيمان بالقضاء والقدر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. انتهينا بفضل الله سبحانه وتعالى وبمنه وكرمه وبحوله وقوته من الكلام عن الأسماء والصفات، وهنا سنتكلم عن باب مهم جداً وأنا هنا سأجمل الكلام عنه، لكن من أراد التفصيل فعليه بأسطوانة شرح أصول أهل السنة والجماعة، ففيها تفصيل كبير في مسألة القدر، والقدر هو قدرة الله، وهو من لوازم ربوبية الله، ولا يستقيم إيمان عبد بحال من الأحوال إلا بالإيمان بالقدر، ولا يمكن أن تطلق الإيمان على رجل لا يعتقد الاعتقاد الصحيح بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فلا يمكن أن يستقيم إيمان عبد إلا به، ومسائل القدر دحض مزلة، قد ضلت فيه أفهام كثيرة، وضل فيه أناس كثيرون حتى ممن ينتسب للسنة، وسأبين لكم أخطاء فادحة يقع فيها المرء حتى إن المؤلف وقع منه الخطأ فيه وهماً منه؛ لأن باب القدر باب ليس بالهين، بل هو سر من أسرار الله، وسر من أسرار الغيب، وهو من أفعال الله جل في علاه. فإذا أردت أخي الكريم أن تؤمن بالقدر فعليك أن تعلم أن الله قدر كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، وأن الله كتب كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، والقدر ركن ركين من أركان الإيمان، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر بن الخطاب عندما دخل عليه جبريل معلماً الناس وقال: يا محمد! صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي (أخبرني ما الإيمان؟)، فأجاب النبي بأهم ما في الإيمان، ولم يعرف الإيمان لغة، ولكنه أعطاه أهم شيء فيه، فعرف الإيمان بأركانه، وهذه تثبت لك بأن الإيمان كل جزئية منه هي ركن من أركانه، وفيه دلالة على أن الركن الواحد منها إذا نزع نزع الإيمان، فالإيمان له أركان، وهي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)، فهذه أركان الإيمان ومنها القدر.

القدر من أركان الإيمان

القدر من أركان الإيمان والقدر ركن من أركان الإيمان، والذي لا يؤمن بالقدر فقد كفر وخرج من الملة؛ وهذا هو ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في صحيح مسلم أنه جاء رجلان من أهل الكوفة إلى ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه، وكانا يريدان التعلم، فقالا: لو صادفنا أحداً من أصحاب رسول الله كي نتعلم منه، فطافا فوجدا ابن عمر فاكتنفاه رجل عن يمينه ورجل عن يساره فقال: أرأيت من يتكلم في القدر ويقول: إن الأمر أنف، -يعني: انقضى- وكأنهما يريدان أن يقولا لـ ابن عمر: أرأيت أناساً عندنا يدعون العلم، يقولون: الأمر أنف. فقال الراسخ في العلم ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أبلغهم أني منهم بريء وهم مني برآء، فهنا البراءة الكلية من الكفرة، ثم استدل على تكفيرهم بكفرهم بالقدر فقال: سمعت أبي أي: عمر بن الخطاب وذكر حديث جبريل الطويل. ومن الدلالة على أن القدر ركن من أركان الإيمان، وأن من لم يؤمن به فقد خرج من الملة ولا يستقيم إيمانه إلا بذلك، حديث الصحابي الجليل في مسلم عندما نصح لابنه فقال له: يا بني! إنه لا يستقيم إيمانك حتى تعلم أنه ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ثم قال: يا بني! -وهذا وجه الشاهد- إن لم تمت على هذا كنت من أصحاب النار. فهذه دلالة قوية جداً على أن من لم يمت على هذا الاعتقاد كفر وخرج من الملة، وكان من أصحاب النار خالداً فيها. والقدر هو قدرة الله جل في علاه، وهو تقديره لخلق الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وقد بين الله ذلك جلياً في كتابه وقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]، وقال جل في علاه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال جل في علاه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد:22]، ووجه الشاهد هو قوله: (من قبل أن نبرأها). وقال الله جل في علاه: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52 - 53]، يعني: مكتوب في اللوح المحفوظ، وكل هذه أدلة على أن الله جل وعلا كتب كل شيء قبل أن يخلق الخلق، ويدل على أن ذلك كان قبل خلق الخلائق بخمسين ألف سنة الحديث الذي سيأتي تفسيره في احتجاج آدم وموسى، حيث قال موسى: (أنت آدم خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه أكلت من الشجرة وأخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال آدم عليه السلام: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وبرسالته فقال: نعم. فقال: أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، أو قال: أترى أن الله قد كتب ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فقال النبي: حينها حج آدم موسى)، ولذلك قال الله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]، والإمام المبين: هو الكتابة في اللوح المحفوظ. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105]، والزبور: هو الذي أنزل على داود عليه السلام، والدليل قوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء:163] إذاً: فقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105] يعني: كتب في الذكر -وهو اللوح المحفوظ- كل شيء من الشقاء، أو السعادة، وأهل الجنة والنار، حتى ابتسامتك ونومك وزواجك، ورزقك، فكل ذلك قد كتب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله الخلق بخمسين ألف سنة، ودليل ذلك ما في مسند أحمد بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (خرج على الناس بكتابين فقال: هذا كتاب وهذا كتاب، هذا كتاب أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم. وختم على ذلك -يعني: لا يزاد فيه ولا ينقص- ثم قال للذي في شماله: وهذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم، ثم قال: ختم على ذلك -يعني: لا يزاد فيه ولا ينقص- ثم قال: فرغ ربكم من العباد). يعني: كتب أهل الجنة بعملهم وأهل النار بأعمالهم، وهذه الكتابة لا تجعل المرء يتقاعس عن العمل بل تزيده همة في العمل كما سنبين.

مراتب القدر

مراتب القدر نذكر هنا بياناً لمراتب القدر الأربع، فهي محور إتقان المرء لاعتقاد القدر، وهذه المراتب الأربع: علم، فكتابة، فإرادة، فخلق، أو نقول: علم فكتب فأراد فخلق، وهذه المراتب من لم يؤمن بها فلا يستطيع الإيمان الكلي بالقدر ولا إتقان مسائل القدر، فتراه يتسخط على القدر ويجهل جهلاً عظيماً بهذا الباب، وإن كان لا يخرج من الملة؛ لأن الخروج من الملة إنما يكون إذا كان لا يؤمن أصالة بالقدر.

من مراتب القدر العلم

من مراتب القدر العلم فالمرتبة الأولى هي: أن تعتقد اعتقاداً جازماً بأن الله علم كل شيء صغيراً أو كبيراً سراً أو علناً، كلاماً أو صمتاً. قال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]، وقال الله تعالى: {لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، فالله يحيط بكل شيء علماً سبحانه وتعالى، وأيضاً قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:107]، وقال جل في علاه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الأنعام:59]، يعني: يعلمها الله جل في علاه وكتبها، وقد ختم الله الكثير من الآيات بتسمية نفسه (العليم الحكيم) قال تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:4 - 5]، ثم قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6]، فذكر العلم وذكر معه الحكمة، فالله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فكل ما كان يعلمه الله جل في علاه قبل أن يقع، وقد كتبه في اللوح المحفوظ عن علمه جل في علاه، ويعلم ما حدث بين آدم وإبليس وما حدث بين آدم وحواء، وما حدث بين محمد وأصحابه، ويعلم الله أيضاً ما يكون -كما سنبين في أشراط الساعة- في زمننا هذا من نطق الرويبضة، وأيضاً نزول عيسى بن مريم عليه السلام، وظهور المسيح الدجال والدابة وغيرها. جاء في مسند أحمد بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعة سنون خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، وينطق الرويبضة، قالوا: يا رسول الله! وما الرويبضة؟ قال: الفاسق، أو قال -يقلل من شأنه-: الفويسق يتكلم في أمر العامة)، وما أكثر الرويبضات في هذه العصور. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أننا سنموت ثم نحشر حفاة عراة غرلاً، وأن الله جل وعلا يحشرنا على أرض غير هذه الأرض {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]، فكل ذلك أخبرنا الله به وسيقع. وكذلك فإن الله يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، فالشيء الذي ليس موجوداً بحال من الأحوال لو وجد فإن كيفيته يعلمها الله ونحن لا نعلم، ويدخل في هذا الممكن والمستحيل، فمن الممكن مثلاً أن الصف المنافق لو خرج مع الصف المؤمن فإنه سينشر في الصف المؤمن الخبال والفتن، وقد قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ} [التوبة:47]، فالمنافقون لم يخرجوا، ولكن لو خرجوا فإن الله يعلم ماذا سيحدث، فهو يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون. أيضاً أهل الكفر يقول الله عنهم: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22 - 23]، ولم يحدث أن الله أسمع الكافرين، ولكن لو أسمعهم كيف سيكون الحال؟ قال: {لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23]، وهذا في الدنيا. وكذلك في الآخرة ذكر الله ما هو أعظم من ذلك، وهو أهل النار، فهم عندما يقفون على النار وينظرون إلى حق اليقين وعين اليقين يقولون {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]، فهم تمنوا الرجعة إلى الدنيا، ولكن لو ردوا إلى الدنيا فماذا سيكون حالهم؟ هل سيؤمنون على زعمهم؟ إذ قالوا: (نؤمن ولا نكذب بآيات ربنا) الجواب يأتي من الذي يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، فقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]، فهذا بيان من الله جل في علاه لما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهذا بالنسبة للشيء الممكن والمتاح. أما الشيء المستحيل، فيقول الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، وهذا مستحيل أن يكون فليس للكون رب سوى الله جل في علاه، فلو قال أحد بأن للكون ربين أو إلهين لقلنا له: كذبت وخسئت، فإن هذا من المستحيل. ولكن بين لنا الله جل في علاه أن ذلك لو كان فإن الدنيا كلها ستكون خراباً، قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] فسيذهب كل إله بما خلق وسيعلو بعضهم على بعض، فصاحب الشمس يتمسك بشمسه وصاحب القمر كذلك، وصاحب الأنهار يتمسك بأنهاره، فتفسد الأرض ولا تكون ثمة حياة في هذه الدنيا.

تنبيه على تمثيل خاطئ عند بعض العلماء فيما يتعلق بعلم الله

تنبيه على تمثيل خاطئ عند بعض العلماء فيما يتعلق بعلم الله وهنا ننبه على خطأ فادح يقع فيه كثير من الدعاة وكثير من أهل العلم، وهذا الخطأ الفادح هو في ضرب المثل على علم الله، فيقول بعضهم: إذا أردت أن تؤمن بالقدر فتقريب القول في ذلك: أن المدرس في الفصل ينظر إلى التلاميذ ويقول: هذا التلميذ سيأتي في الامتحان بالدرجة النهائية، والثاني أقل منه والثالث أقل منهما ويحدد درجة كل منهم؛ لأنه يعرف البليد من الذكي، فكتب المدرس في كتاب عنده: درجة محمد ثلاثون من ثلاثين، ودرجة زيد خمسة وعشرون، ودرجة عبيد صفر، وفي نهاية الامتحانات جاءت نتيجة الطلاب مطابقة لما كتبه المدرس عنده في ورقة قبل الامتحان. ثم يقولون: كذلك القدر ولله المثل الأعلى، وهذا القول اعتزال محض، وهذا المثل ضربه الشيخ الشعراوي رحمة الله عليه، والشيخ الشعراوي كان في فكرة شيء من عقيدة الأشاعرة وشيء من عقيدة المعتزلة، وإن كانت هذه إن شاء الله تغمر في بحر حسناته، ويغفر الله له زلاته، ولكن هذا اعتزال محض، إذ إن المعتزلة الذين ينفون القدر منهم من ينفي العلم كلية، ومنهم من يثبت العلم، لكن ينفي الإرادة، فالمعتزلة أصل في نفي القدر -وهم القدرية الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم مجوس هذه الأمة) - يقولون: نحن نؤمن بالقدر لكنهم ينفون علم الله أصالةً فيقولون: لا يعلم الله ما يفعل العباد إلا حين يفعلونه، وهم في هذا قد وافقوا اليهود حينما قالوا: بكى الله وحصل الرمد لعينه عندما رأى الفساد في الأرض متفشياً. ويعنون: أن الله خلق الخلق ولا يعرف أنهم سيفسدون فلما وجد الفساد بكى أنهاراً. قاتلهم الله على إفكهم هذا وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فاليهود يقولون: الله لا يعلم، وهؤلاء المعتزلة يقولون: الله لا يعلم والعياذ بالله، وعندما وجدوا رماح الحق والسيوف البتارة من أهل السنة والجماعة تلاحقهم قالوا: رقابنا ستطير إذا قلنا بإنكار العلم؛ لأن الشافعي الفقيه المجتهد المحدث قال: ناظروا المعتزلة بالعلم فإن أقروا فقد خصموا، يعني: لو قالوا: إن الله يعلم، نقول: انتهى الأمر، فإن الله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وإن أنكروا كفروا، فانظروا إلى دقة هذا العالم كيف يأتي بالمبتدع ويجعله في مكان لا يقدر على الهرب منه، ويقول له: ليس لك إلا أن تقر بما نقر به أو تخرج عن دائرة الإسلام، فإن أقروا بعلم الله ذهبت بدعتهم، وإن أنكروا علم الله كفروا؛ لأنهم سينكرون علم الله جل في علاه بعدما قامت الحجة عليهم، فيقتلون بذلك، فقدماء المعتزلة يقولون بنفي العلم، أما المتأخرون منهم فلما خشي كل واحد منهم على نفسه من السيف البتار من أهل السنة قالوا: نسكتهم بإثبات العلم ونقول: إن الله يعلم، ثم ننفي الإرادة والقدرة، فنقول: إن الله لا يستطيع أن يضل أحداً ولا يستطيع أن يهدي أحداً، وهذا هو نتيجة هذا المثال الذي يخطئ بعض الدعاة في ضربه لبيان القدر، فهذا المثال كأنه معتزلي محض؛ لأن نتيجة المثال أن الذي حصل على ثلاثين حصل عليها لأنه ممتاز، والذي حصل على خمسة وعشرين حصل عليها لأنه متوسط، والذي حصل على صفر حصل عليه لأنه بليد، فالمدرس ما حرك إرادة وذكاء التلميذ حتى يأخذ الثلاثين ولا حرك إرادة البليد حتى يأخذ صفراً، إذاً: هو ليس له إرادة ولا يتحكم بذلك، وهذا هو الاعتزال، لأن ربنا يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فهو الذي يتحكم في إضلال الكفار، وهو الذي يتحكم في هداية المؤمنين، لكنه يفعل كل ذلك بالحكمة والعلم.

حكمة الله في الهداية والإضلال

حكمة الله في الهداية والإضلال إن الله يضل الكافر على علم عنده؛ لأنه يعلم أن هذا الكافر لا يستحق إلا الكفر، وأن هذا الظالم لا يستحق إلا الظلم، وذلك قول الله جلياً: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} [النحل:36] بمحض فضل ونعمة، ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36] يعني: هو لا يريد الهداية. وقال الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا} [الصف:5]، إذاً: هم الذين يريدون الزيغ، ولما علم الله من قلوبهم الظلم والعتو والطغيان والزيغ والكفر يسر لهم أبواب الكفر، وهذا هو الفارق بينه وبين المدرس تعالى الله، فالمدرس لا يقدِّر شيئاً على الطالب، لكن الله يتحكم في إرادة الكافر ليكفر، فسد عليه كل منافذ الخير، وفتح عليه كل أبواب الشر؛ لأنه يعلم من يستحق الهداية ممن لا يستحقها. والآن نتكلم عن معنى الحكمة فالحكمة: هي أن تضع الشيء في موضعه المستحق له، وعلى هذا فهل الله تعالى سيأخذ أبا جهل ويدخله الفردوس الأعلى، ويأخذ عثمان ويدخله نار جهنم؟ تعالى الله عن ذلك، فالحكمة إذاً: هي أن يأخذ الظالم الجهول أبا جهل ويجعله في الدرك الأسفل من النار، ويأخذ عثمان التقي المؤمن ويجعله في الفردوس. ومن قال بعكس ذلك نقول له: قدحت في حكمة الله، فتكفير الله للكافر كان نتيجة لحكمته؛ لأن الله يغار أن يضع اللؤلؤ بين البهائم، فالله يغار أن يضع الخير في غير موضعه، وحتى البشر يغارون من وضع الشيء النفيس في غير مكانه، فقد كان الإمام مالك يقول: أربأ بعلمي أن يذهب لمن لا يستحقه، لما سأله رجل فقال: أجبني فلم يجبه، فقال الرجل لـ مالك: من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار، فقال مالك: نح نفسك عني ائتني بمن يفقه ما أقول، ثم حدثني عن حديث اللجام، ولذلك قال الإمام الشافعي: أأنثر درراً وسط سارحة النعم. وكذلك الإمام البخاري حدثت له قصة وإن كان فيها كلام، ولكن العلماء يذكرونها للاعتبار بسعة علم الإمام البخاري وذلك أنه عندما اختبره المحدثون وقلبوا عليه الأسانيد والمتون، فكلما يقولون له: حديث أنس بسند كذا، فيقول البخاري: لا أعرفه هكذا حتى ذكروا له مائة حديث، وقد كان الناس أتوا ليسمعوا للبخاري جبل الحفظ، فالجهال لما رأوا ذلك قالوا: أهذا البخاري؟ إنه لا يعرف حديثاً، فقد ذكروا له أحاديث وهو لا يعرفها، وكلما ذكروا له حديثاً يقول: لا أعرفه، ولكن العلماء فطنوا لقوة ودقة نظر البخاري وشدة حفظه، فاتهموه وقالوا: إن هذا يأخذ دواء يذهب النسيان، فإذا بـ البخاري يأخذ المائة حديث عشرة عشرة، فقال للأول: أما أنت فأسانيدك كذا ومتونها كذا فأخرج الإسناد المركب على غير متنه وأعاده إلى متنه حتى وصل إلى المائة، فطارت عقول المحدثين، وأذعنوا جميعاً بقوة علم البخاري. والمقصود أن الجهلة يضيعون أهل العلم، فيضع الله الهداية لأهلها، ويضع الكفر لأهله، ولذلك قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10] فمن الذي ييسر لليسرى ومن الذي يغلق أبواب الخير عن غير أهلها؟ الجواب صريح في قول الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، وهذه الآية فيها رد على المثل السابق الذي لا يمكن أن يقوله إلا المعتزلة، وقد قال لي بعض الأفاضل: إن من يقول هذا ربما وهم وروجع فرجع وهذا محتمل، لكنني أحببت أن أبين ذلك.

من مراتب القدر الكتابة

من مراتب القدر الكتابة المرتبة الثانية من مراتب القدر هي: مرتبة الكتابة، يعني: أن الله كتب كل شيء كما قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الأنعام:59] وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ، فقد كتبت الأقدار في هذا الكتاب، وأيضاً قال الله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]، يعني: كتبناه في الإمام المبين وهو اللوح المحفوظ، وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52 - 53]، يعني: مكتوب. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول ما خلق الله القلم فلما خلقه قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة).

فوائد من حديث أول ما خلق الله القلم

فوائد من حديث أول ما خلق الله القلم ونستدل بهذا على عدة مسائل في العقيدة، فنستدل به على أن القلم يتكلم وفائدة ذلك أنه لا يلزم من إثبات الكلام أن يكون له فم ولسان وأسنان وإلا قلنا: أين فم القلم وأسنانه ولسانه؟ مع أننا نعلم أنه لا مخرج له، فهذه دلالة على أن هناك مخلوقات تتكلم ولا نعلم كيفية كلامها ولا مخرج كلامها أيضاً، فمن باب أولى أن الله جل وعلا يتكلم ولا نعلم كيفية كلامه، فهذه هي المسألة الأولى. المسألة الثانية: أن الله تعالى تكلم بحرف وصوت مسموع؛ لأنه قال: قال للقلم: اكتب. المسألة الثالثة: أن جعل جماداً يتكلم، إذاً لا تقولون بالمجاز، ولا تقولون: إن الجبل يحب أي: أهل الجبل، ولا تقولون: إن الجدران في القرية تريد، أي: أهل القرية يريدون، فلا مجاز في القرآن على الراجح الصحيح. وأما قول الله تعالى: {يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف:77]، فهذا بالصريح الصحيح هو الجدار، وقد أفهم الله الخضر ذلك، ولم لا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحد جبل يحبنا ونحبه)، فإن الجبل يحب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم أن يكون له قلب، كما أن الجذع بكى وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه الصحابة عندما كان يخطب النبي صلى الله عليه وسلم ويده على الجذع، فلما اعتلى المنبر أنّ الجذع أنيناً شديداً، ولم يسكت حتى وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليه. أيضاً الطعام تكلم بالتسبيح، فنحن لا نقول بالمجاز، بل نقول: قد يتكلم الجماد ويشعر كما ورد في النصوص، وقد قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]. إذاً: الكتابة هي: أن الله كتب كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، وقد فرغ ربنا من أهل الجنة، ومن أهل النار، نقول هذا إجمالاً، أما التفصيل: فإن على المؤمن أن يؤمن بأربع كتابات: الكتابة الأولى: الكتابة الأزلية. الكتابة الثانية: الكتابة السنوية. الكتابة الثالثة: الكتابة العمرية. الكتابة الرابعة: الكتابة اليومية. والكتابة العمرية هي الكتابة التي تكتب في الرحم بعد مرور الأربعة أشهر للجنين في الرحم، حيث يأتي الملك فيقول: أي رب! ذكر أم أنثى؟ أي رب! شقي أم سعيد؟ أي رب! كم أجله؟ أي رب! ما رزقه؟ فيكتب كل ذلك بأمر الله جل وعلا، والمرء لا يزال في بطن أمه. وقد قال ابن مسعود: (السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه) جاء أن بعض الناس طرقوا الباب على إبراهيم بن أدهم فوجدوه يبكي، فقالوا: ما يبكيك؟ إنك رجل على صلاح إنك تفعل كذا وكذا وكذا، قال: إليكم عني، فإني لا أعلم كتبت في بطن أمي شقياً أم سعيداً. فهذه هي الكتابة الأزلية وأصلها حديث ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه. الكتابة الثانية: الكتابة السنوية، وهذه تكون في ليلة القدر من كل سنة كما قال الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]، قال ابن عباس: يكتب أهل الحجيج، ويكتب من يموت في هذا العام، ويكتب من يحيا ومن يولد، ويكتب الرزق ويكتب كل شيء في هذه الليلة، وهذه الكتابة على قول ابن عباس اسمها: كتابة عامية. الكتابة الثالثة: الكتابة اليومية، والكتابة اليومية على أقسام: كتابة الملكين اللذين لا يفارقان ابن آدم بحال من الأحوال، كما قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] يعني: يكتب هذا الحسنات، ويكتب هذا السيئات، وهناك قسم آخر وهم ملائكة يكتبون الطاعات، ويسيحون في الأرض بحثاً عن مجالس العلم، فيكتبون أسماء من يجلس فيها بأسمائهم وأسماء آبائهم ويصعدون إلى الله، فيقول الملك: يا رب إن فلاناً هذا جاء لغرض، ولم يأت لطلب العلم، فيقال: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). وأيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (يتعاقبون فيكم ملائكة يتقابلون في العصر، ويتقابلون في الفجر)، فالذين كانوا في الفجر يصعدون في العصر، فتخلفهم ملائكة يصعدون في الفجر يكتبون ما يفعل ابن آدم، فهذه كتابة يومية. ومما يجدر التنبيه إليه في هذه المرتبة أن الكتابات لا تتغير في اللوح المحفوظ، فما كتب في اللوح المحفوظ لا يتغير بحال من الأحوال، ولكن هل يمكن أن يتغير شيء من الكتابة في غير اللوح المحفوظ؟ A نعم، فهذا هو الراجح، وقد بين المؤلف الأدلة التي تدل على ذلك، وبهذا فلا إشكال في القدر. ولذلك فإن الناس يسألون الله تعالى ما يريدون، فإذا بالدعاء والقدر أقواهما يرفع الآخر، يعني: أنه يمكن للدعاء أن يرفع القدر، ولكن كيف يرفع القدر وقد قلنا: إن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ؟ نقول: نعم الدعاء يرفع القدر المكتوب في أيدي الملائكة لا المكتوب في اللوح المحفوظ. أما الإشكال الثاني: فهل يكتب رجل في بطن أمه شقياً ويكون سعيداً؟ الجواب: نعم، فقد يكتب في بطن أمه شقياً، ولكن في اللوح المحفوظ يكون الله قدر أنه سيختم له بالصالحات فيكون سعيداً، فالذي يغير هو ما في يد الملك فقط، والدليل على ذلك. حديث (الدعاء والقدر يعتلجان)، يعني: يتعارضان؛ وأيضاً كلام عمر بن الخطاب بسند صحيح أنه طاف حول الكعبة فكان يبكي ويقول: اللهم إن كنت قد كتبتني شقياً -يعني: في بطن أمه- فامحها واكتبني عندك سعيداً. فهو طلب تغيير ما كتب عليه في بطن أمه فقط؛ لأن اللوح المحفوظ لا يتغير أبداً، والدليل على أن عمر يريد ذلك نهاية قوله، إذ قال في نهايته: فاكتبني عندك سعيداً، ثم يقرأ قول الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]. والمعنى: يمحو الله ما يشاء مما في يد الملك، وعنده {أُمُّ الْكِتَابِ}، يعني: اللوح المحفوظ فإنه لا يتبدل ولا يتغير، فالآية هنا ظاهرة جداً في أن الذي يمحي هو ما في يد الملائكة. وكذلك لو أن رجلاً سرق وستقطع يده، فإذا كان ذلك مكتوباً في اللوح المحفوظ فلن يتغير ذلك، وأما إذا كتب في يد الملائكة فقط بأنه سارق، فإنه سيمحى من كتاب الملائكة إن قدر الله ذلك. فإذاً الكتابات أربع: كتابة في اللوح المحفوظ وهذه لا تتبدل ولا تتغير، وكتابة عمرية، وكتابة سنوية، وكتابة يومية، والتغيير والتبديل يكون في هذه الكتابات لا في اللوح المحفوظ.

من مراتب القدر الإرادة

من مراتب القدر الإرادة والإرادة بمعنى: أن تعتقد اعتقاداً جازماً بأنه لا شيء في هذا الكون إلا وهو تحت إرادة الله جل في علاه فقد عمت مشيئته وإرادته على الخلق أجمعين سبحانه جل في علاه، ولن يستقيم إيمان عبد بالقدر حتى يعلم أن كل صغير وكبير، ودقيق وجليل قد تم بإرادة الله جل في علاه، لا كما يقول بعضهم: إن في الكون أشياء لم يردها الله جل في علاه، وهؤلاء خلطوا بين المحبة والإرادة فما من شيء يقع في الأرض إلا وهو مراد لله جل في علاه كوناً أو شرعاً.

الإرادة الشرعية والكونية

الإرادة الشرعية والكونية إن كل شيء يقع فهو تحت إرادة الله جل في علاه. فالزنا، والسرقة، والفواحش، والبذاءة كلها مرادة لله، لكنها مرادة إرادة كونية، وما أراده الله كان، وما لم يرده لم يكن، (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن)، وقال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]. وهناك آية ظاهرها مشكل وهي قول الله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، وذلك لأن (أتى) فعل ماض، والفعل (تستعجلوه) فعل مضارع، فكيف نوفق بين أول الآية وآخرها؟ A أن الفعل (أتى) بمعنى: أن الله إذا أراد شيئاً فسيقع لا محالة، فلا مرد لقضاء الله ولا لإرادته جل في علاه، فكأن الله يخبرنا بأنه وإن لم يأت حتى الآن، لكن إذا أراده الله فكأنه قد وقع لتحقق وقوعه؛ لأن الله قضاه وإذا قضى الله أمراً كان وقوعه محتماً. والمراد: أن المؤمن لابد أن يعلم أن الإرادة إرادتان: إرادة كونية، وإرادة شرعية، أما الإرادة الكونية فهي المشيئة، وأما الإرادة الشرعية فهي المحبة وبينهما تفاوت، وهذا مما يجعل طالب العلم عند تعلمه مسائل القدر لا يتشوش باله ويوسوس لجهله بالفرق بين الإرادتين. وضابط الإرادة الكونية أنها تقع لا محالة، فما أراده الله كوناً فلا يمكن أن يرد وضابط آخر للإرادة الكونية وهو أنها تقع فيما يحبه الله وما لا يحبه الله، فالله جل في علاه أراد وجود الشيطان ووسوسة الشيطان لابن آدم، وهذه الإرادة كونية؛ لأنها وقعت، ولأنها فيما لا يحبه الله. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ} [الأنعام:125]، والإرادة هنا كونية؛ لأن الإضلال غير محبوب لله، ولأن الله لما أراد إضلال فرعون ضل لا محالة. أما الإرادة الشرعية وهي المحبة فضابطها أنها قد تقع وقد لا تقع وهي محصورة فيما يحبه الله فقط، فلا يمكن أن تكون فيما يبغضه الله، إذاً: وجود إبليس أراده الله إرادة كونية وليس إرادة شرعية، وكذلك الزنا والسرقة وسب الوالدين. وكذلك الإذن قد يكون إذناً كونياً وقد يكون إذناً شرعياً، وكذلك القضاء قد يكون قضاء كونياً وقد يكون قضاء شرعياً، وأيضاً البغض منه ما هو كوني وما هو شرعي. قال الله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [فصلت:12]، فهذا القضاء قضاء كوني؛ لأن السماوات موجودة لا محالة. وقال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167] والإذن هنا إذن كوني؛ لأنه وقع حقيقة، فقد بعث الله عليهم من سامهم سوء العذاب، وهو بختنصر ووقع فيما لا يحبه الله؛ ولكن قدره لحكمة أرادها، وهي رد الظالم عن ظلمه. قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، والقضاء هنا قضاء شرعي، لأنه قد يقع وقد لا يقع، فقد يوجد من يعبد الله، وقد يوجد من يعبد غير الله. قال الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]، والإرادة في هذه الآية إرادة كونية.

الإراداة الإلهية وأقسام الموجودات

الإراداة الإلهية وأقسام الموجودات الموجودات في الكون أقسام:- الأول: مراد كوناً وشرعاً. والثاني: غير مراد كوناً ولا شرعاً. والثالث: مراد كوناً لا شرعاً. والرابع: مراد شرعاً لا كوناً. أما المراد كوناً وشرعاً فإيمان المؤمن، فإن إيمان المؤمن مراد لله شرعاً، لأن الله يحبه، وذلك كإيمان أبي بكر فلما أحبه الله كان مراداً شرعياً، وهو أيضاً مراد كوني من حيث أنه يقع لا محالة فالله قد كتبه في اللوح المحفوظ مؤمناً وأودع في قلبه حب الإيمان، وأراده شرعاً بأن بعث الرسول محمداً ليهدي أبا بكر، فيكون سيد المؤمنين. أما الذي لا يراد شرعاً ولا كوناً فكفر المؤمن، فإنه غير مراد لأنه لم ولن يقع لا كوناً ولا شرعاً؛ لأن الله لا يحب كفر المؤمن ولا يحب كفر أهل الأرض، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7]، وقال: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَِ} [الزمر:7]، أي: لا يحب لهم الكفر، ولذلك فإن الله أرسل الرسل ليهدوا الناس، ولكن منهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة، قال الله عنهم: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]. وأما المراد كوناً لا شرعاً فهو كفر الكافر؛ لأن الله يبغض الكفر، لكنه أراده كوناً وذلك لحكمة علمها الله، فقد علم الله أن الكافر لا يريد الإيمان، ولا يمكن أن يريده، وأجلى ما يكون مثالاً لهذا الأمر قول الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]، فكانت عاقبتهم الكفر والعياذ بالله. وأما ما هو مراد شرعاً لا كوناً فهو إيمان الكافر، فهو غير مراد كوناً، لكنه مراد شرعاً؛ لأن الله أرسل الرسل لإيمان البشر، فإيمان أبي جهل مراد شرعاً؛ لأن الإيمان يحبه الله، وإن رسول الله ذهب إليه، وذهب إلى أبي طالب وقال: (يا عم قل كلمة أحاج بها لك عند الله، قل لا إله إلا الله)، لكن أراد الله كفرهما كوناً فقط.

من مراتب القدر الخلق

من مراتب القدر الخلق أما المرتبة الرابعة من مراتب القدر: فهي مرتبة الخلق، فإن الله علم فكتب فأراد فخلق، والله جل وعلا خلق كل شيء، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، ويندرج تحت هذا عموم الخلق. والخلق خلقان: خلق إيجاد من عدم، وخلق تحويل من صورة إلى صورة، وبهذا نزيل شبهة المتكلمة عندما يقولون: أنتم تقولون: الله خالق كل شيء، يعني: لا خالق مع الله؟ فنقول: نعم. فيقولون: ماذا تقولون في قول الله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، فظاهر الآية يدل على أن هناك مشاركة؟ فنقول جواباً عليهم: إننا عندما ننظر في الخلق، ونقسمه إلى قسمين: خلق إيجاد من عدم، وخلق تحويل من صورة إلى صورة، فإننا نخرج من هذه الشبهة، وذلك أن خلق الإيجاد من عدم هو مما ينفرد الله به. فلا يمكن لأحد أن يخلق من العدم إلا الله تعالى، فقد كنا عدماً ثم خلقنا الله، قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]. وأما الخلق المقيد: وهو تحويل الصورة إلى صورة أخرى، فهذا قد يشترك فيه البشر، كما في تحويل الحديد إلى سيارة، أو تحويل الخشب إلى باب أو نافذة، فإن هذا التحويل يسمى خلقاً، فيقال: إن هذا الرجل صنع باباً من الخشب أي: خلق باباً من الخشب؛ لأن الخلق قد يأتي بمعنى الصناعة، فيكون محل الآية: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، إنما هو في خلق التحويل من صورة إلى صورة. ومن المهم في مرتبة الخلق بيان الرد على القدرية، وذلك بأن الله خلق أفعال العباد كلها، ومنها: فعل الزنا، والسرقة فإنها مخلوقة، لكنها تنسب إلى الله خلقاً وإيجاداً، وتنسب إلى العبد كسباً وفعلاً، يعني: أن الزاني والسارق منسوب إليه الزنا والسرقة، ولكن العبد كله مع فعله مخلوق لله جل في علاه.

القدر

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - القدر الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان لا يتم إيمان المؤمن إلا به، وله مراتب منها: مرتبة الإيمان بأن الله هو خالق الإنسان وخالق أفعاله، وبهذا القول يخالف أهل السنة والجماعة القدرية الذين يقولون: إن البشر يخلقون أفعال أنفسهم، والمؤمن يرضى بقضاء الله وقدره ولا يتسخط، فإن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء رضي وصبر، وإن حزن فالحزن لا ينافي الرضا.

مسألة خلق أفعال العباد والرد على شبهات القدرية فيها

مسألة خلق أفعال العباد والرد على شبهات القدرية فيها الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. القدر قدرة الله وهو سر من أسرار الغيب، وهو من لوازم الربوبية، ولا يستقيم الإيمان بالقدر إلا بالإيمان بخمس مراتب: علم، فكتابة، فمشيئة، فإرادة، فخلق. ومن المعلوم أن لله مشيئة، ومن قال: إن الإرادة هي المشيئة فهذا خطأ؛ لأن الإرادة إرادتان: إرادة كونية، وهي المشيئة، وإرادة شرعية وهي المحبة. فمن مراتب الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله قد خلق كل شيء، ومن هذه الأشياء أفعال العباد، فأفعال العباد مخلوقة لله جل في علاه، هذا على العموم، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، فأفعال العباد تدخل في هذا العموم، وفي هذا رد على القدرية -مجوس هذه الأمة- الذين ينكرون خلق أفعال العباد، وجعلوا مع الله خالقاً آخر فقالوا: هم أنفسهم يخلقون أفعالهم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مجوس هذه الأمة القدرية).

وجه الشبه بين قدرية هذه الأمة والمجوس

وجه الشبه بين قدرية هذه الأمة والمجوس القدرية تقول: للكون خالقان: الخالق الأول هو الله جل في علاه، ثم إن البشر يخلقون أفعال أنفسهم، فشابهوا المجوس بهذا التقسيم حيث إن المجوس قالوا: هناك خالق للظلمة وخالق للنور، وهم يفصلون خالق النور، والمجوس يفضلون الله جل في علاه، لكن يشركون مع الله خالقاً آخر وهو أنفسهم، فيقولون: هم خلقوا أفعال أنفسهم، وإن الله لم يخلق أفعال العباد، والرد عليهم بقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، وهذا على العموم، أما على الخصوص فقد قال الله جل في علاه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، وهذه الآية فيها دلالة على خلق الله لأفعال العباد تصريحاً في كتابه، وأيضاً من أدلة السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق كل صانع وصنعته)، ووجه الدلالة من هذا الحديث -عن طريق اللزوم رداً على القدرية- أن صنعته من فعله، فإن كان خلق صنعته التي هي من فعله، فمن باب أولى أن يكون خلق فعله الذي صنع هذه الصنعة، وأيضاً من ناحية الأثر أن الله جل في علاه خلق أفعال العباد، ومن النظر نقول: فعل العبد ناشئ عن إرادة العبد، وإرادة العبد مخلوقة لله جل في علاه، فإن كانت الإرادة مخلوقة لله فالناتج عن الإرادة أيضاً يكون مخلوقاً لله جل في علاه. فقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، يدخل تحته أفعال العباد، رداً على القدرية الذين يقولون: إن الله لا يتحكم في أفعال العباد، بل إن الجنة من عمل الإنسان يدخلها بعمله أجرة، فهم لا ينظرون إلى فضل الله ولا إلى رحمته، ولا يعترفون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد منكم يدخل الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، أما القدرية فقالوا: الجنة مقابل العمل الصالح، والنار مقابل العمل السيئ ولا فضل لله على العباد؛ لأنه لا يتحكم في أفعال العباد، فنحن نرد عليهم بأن مبتدأ الخير كله من الله، والأفعال الحسنة كلها من الله، فمنهم من هدى الله، ومنهم من حقت عليه الضلالة، وأيضاً قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]، فالله جل في علاه أيضاً يقول: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125].

مشروعية الاحتجاج بالقدر على المصائب

مشروعية الاحتجاج بالقدر على المصائب الاحتجاج بالقدر على نوعين أو نقول: أقدار الله مصائب ومعائب، فالله لم يخلق شراً محضا لكن خلق معائب، وللإنسان عبودية في قدر المصائب وعبودية في قدر المعائب، أما المصائب وهي التي تنزل وتطرأ على العبد فيبتلى بها ولا يد له في دفعها، كمرض أو موت قريب أو حبس أو ضنك أو فقر، كل هذا قدر لا يستطيع الإنسان أن يدفعه، وهذا القدر يسمى قدر مصيبة، فقدر المصيبة لك فيه عبادة بأن تقر أولاً بأن هذا قدر الله، وأنه قد كتب في اللوح المحفوظ فتؤمن بذلك، ولك أن تقول لأي أحد: إنا لله وإنا إليه راجعون، قد قدر الله علينا ذلك، وتحتج بالقدر على هذه المصيبة. ثانياً: من التعبد بأقدار الله في المصائب أن ترضى بهذه المصيبة، وهذا أرقى المنازل تحت هذه المنزلة، فليس لازماً أن ترضى وليس واجباً عليك، بل هو من باب الكمال فقط، لكن من باب اللزوم والوجوب الصبر على المصيبة، ومعنى الصبر على المصيبة: ألا تتسخط على أقدار الله، ولذلك (لما مر النبي صلى الله عليه وسلم على المرأة التي تبكي على القبر قال: اتقي الله واصبري)، يعني: حتى لا تتسخطي على أقدار الله قالت: (إليك عني إنك لم تصب مصيبتي)، وكادت أن تتسخط على أقدار الله؛ ولذلك لما خرجت نفس إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)، ثم قال في رواية أخرى: (ولا نقول إلا ما يرضي ربنا) أي: لا نقول ما يغضب ربنا. فلك في أقدار المصائب التعبد بأن تحتج بالقدر وكذلك تصبر عليها وهذه العبادة الثانية، وأكمل من ذلك أن ترضى بها، وفعل السلف فيه كل العجب من الرضا بقضاء الله جل في علاه وقدره، وقد نقل بسند صحيح عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول: أفرح ما أفرح به أقدار الله جل في علاه، يعني: أسعد في صباحي أو مسائي؛ لأني أنا تحت قدر الله يلقيني حيث يشاء، إن كان في السراء فله الشكر، وإن كان في الضراء فله الصبر، وهذا محض التسليم والتوكل على الله جل في علاه.

الحزن والبكاء لا ينافي الرضا بقضاء الله

الحزن والبكاء لا ينافي الرضا بقضاء الله والرضا بالقدر لا ينافي الحزن والبكاء كما قال بعضهم: إن الفضيل بن عياض ضحك في جنازة ابنه، فسألوه عن ذلك، فقال: أرضى بقدر الرب، فإذا قال قائل: ضحك الفضيل بن عياض في جنازة ابنه رضاً بقضاء الله، وبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة ابنه أيضاً رضاً بقضاء الله فأيهما أفضل؟ ف A نقول: أكمل المراتب على الاحتجاج بالقدر في المصائب والتعبد لله الرضا بها، والفضيل بن عياض كان يضحك في الجنازة، فيسألونه عن سبب ضحكه فيقول: أضحك رضاً بقضاء الله علي. والنبي صلى الله عليه وسلم قد بكى لموت إبراهيم وهو يدفنه، ونحن نعلم يقيناً بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أرضى الناس بقدر الله جل في علاه، وحال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من حال الفضيل، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يبين لك أن الحزن لا ينافي الرضا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل وقال: (إن هذه رحمة يرحم الله بها عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء). فأصبح هذا الدمع وهذا الحزن من الرحمة ومن رقة القلب، فلا ينافي الحزن ولا الدمع الرضا، أما ما فعله الفضيل بن عياض هو أنه تغالب على الحزن، والحزن أكمل؛ لأن الحزن يدل على كمال الرحمة مع كمال الرضا، ولذلك نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الكمالين وجمع بين الخيرين. إذاً: لك أن تحتج على المصائب بالقدر، وتقول: قدر الله، فالحمد لله على كل حال، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الأمر يسره يقول: (الحمد لله الذي لا تتم الصالحات إلا بفضله وبرحمته)، أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا جاءه ما يسوءه من المصائب قال: (الحمد لله على كل حال)، ولذلك إذا أردت أن تعزي أهل الميت ملك أن تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون لله ما أعطى ولله ما أخذ. وهذا يبين لك أن القدر بنقسم إلى مصائب ومعائب لأنك أول شيء تعلم أن هذا قدر من الله جل في علاه، وأنها مصيبة فعليك أن تصبر وتحتسب، وأكمل من ذلك أن ترضى، اللهم ارزقنا هذا يا رب العالمين.

لا يفتح الله أبواب المعاصي إلا لمن سعى لها

لا يفتح الله أبواب المعاصي إلا لمن سعى لها أما قدر المعايب: فهو أن الله جل وعلا يبتلي العبد بأن يفتح له باب المعصية على مصراعيه؛ لأنه أراد ذلك؛ لأن الله جل وعلا قال: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36]، حقت عليه الضلالة لأنه لا يريد إلا المعصية؛ ولذلك فإن الله جل وعلا لا يفسح مجال المعصية لعبد إلا وهو في قلبه مستيقن ويعزم العزم الأكيد على فعل هذه المعصية. وقد تقع المعاصي من الصالحين حتى يرفع الله قدرهم بالذل والانكسار والبكاء والثواب، وهذا حال العارفين بالله، أما الذي يقع في المعصية وقد عزم عليها عزماً أكيداً فهذا الذي يفتح الله له باب المعصية. قال الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، ولذلك قال الله تعالى في الحديث القدسي، (فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، إذاً: الله جل في علاه فتح له هذا الباب؛ لأنه لا يستحق إلا هذا الباب، إذاً: قدر المعائب هو قدر الذنوب والمعاصي والتعدي على حدود الله جل في علاه، ولك فيه عبادتان أيضاً، العبادة الأولى: أن تعتقد أن الله قدر لك ذلك بتقصيرك وبفعلك، ولذلك قال الله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]. وقال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]، وقال تعالى: {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، إذاً: أول التعبد لله جل في علاه بقدر المعائب: أن تقر بأن هذا قدر من الله جل في علاه، وهو الذي فتح ذلك المجال لك. فالله جل وعلا هو الذي جعل للعاصي إرادة، وخلق فيه إرادة المعصية؛ لأنه لما زاغ أزاغ الله قلبه، فيعرف أولاً أن هذا قدر الله، وأن هذا من نفسه. العبادة الثانية: أن يراجع نفسه منكسراً متذللاً خاضعاً لله جل في علاه، وأن يتوب ويئوب، ولسان حاله يقول: وعجلت إليك رب لترضى. وبعد هذه التوبة لك أن تحتج بالقدر على الذنب، فلو أن رجلاً مثلاً شرب الخمر، ثم رجع فندم فبكى فتاب فآب إلى ربه جل في علاه، فجاء رجل بعد توبته يعيره ويقول: يا شارب الخمر، فإنه يقول: قد قدر الله علي ذلك، واحفظ نفسك لعل الله يقدر عليك ما قدر الله علي؛ لأن من عير أخاه بذنب لا بد أن يرد عليه، ووردت الآثار بذلك وإن كان فيها ضعف، لكن ما من أحد يعير أحداً بذنب إلا وسيبتليه الله بهذا الذنب والعياذ بالله جزاء وفاقاً وأجراً طباقاً.

الأدلة على جواز الاحتجاج بالقدر على المصائب وعلى المعائب بعد التوبة

الأدلة على جواز الاحتجاج بالقدر على المصائب وعلى المعائب بعد التوبة يحتج بالقدر على المصائب، ويحتج بالقدر على المعائب بعد التوبة من المعائب، دليل ذلك إجماله في حديث احتجاج موسى وآدم عليهما السلام، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال: موسى أنت آدم خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه أكلت من الشجرة وأخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال آدم عليه السلام: أنت موسى اصطفاك الله برسالته وكلامه، تلومني على أمر قد قدره الله علي، أو قد كتبه الله علي قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، -قال النبي صلى الله عليه وسلم منتصراً لآدم- فحج آدم موسى). فآدم: فاعل، وموسى: مفعول به منصوب، لكن منع من ظهور الفتحة عليه التعذر، ومعناه: الاستحالة أي: أن الألف لا تقبل ضمة ولا فتحة ولا كسرة، لكن الياء تقبل الفتحة، ويمكن أن تقبل الضمة، لكن بثقل، والتعذر معناه: الاستحالة فنقول: حج آدمُ موسى، يعني: آدم كانت معه الحجة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فيا ترى! أين هذه الحجة؟ إن آدم احتج بالقدر وقال: قدر الله علي ذلك، وهذه الحجة اختلف العلماء فيها، فقال بعضهم: لأن موسى عير آدم بالذنب وقد تاب منه، فكان له الحق أن يحتج بالقدر بعد التوبة منه، وهذا الكلام وإن كان جيداً في مضمونه -بأن الإنسان إذا تاب من الذنب فله أن يحتج بالقدر- لكنه خطأ فاحش في حق موسى عليه السلام، ولذلك هذا التأويل لا نقبله؛ لأن موسى أعلم أهل الأرض في زمانه، وأتقى الناس لله جل في علاه ولن يعير أحداً بذنب قد تاب منه، وهو يعلم بأن (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، كما حدث واقعاً معه، فلما تاب بنو إسرائيل تاب الله عليهم، بل ورد عليهم أرواحهم. فإن قيل: وهل موسى يعلم بأن آدم تاب من ذنبه؟ ف A نعم. يعلم موسى ذلك؛ لأن توبته موجودة في التوراة أن الله كتب علي ذلك قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فإن كان هذا مكتوباً في التوراة فيكتب معه التوبة؛ لأن الله كريم وقد أكرم آدم بالتوبة وأظهر جمال فعل آدم بهذه التوبة، فتاب آدم فتاب الله عليه، فلا يمكن أن يتصور ويظن في موسى أن يعير آدم بذنب قد تاب منه فهذا القول لا نقبله، ولكن نقبل مضمونه بأن الإنسان إذا وقع في المعصية ثم تاب منها، ثم عير بهذا الذنب فله أن يقول: قد قدر الله علي هذا الذنب من خمسين ألف سنة؛ لأنه لا يرد القدر بالشرع، لكنه تاب ولما علم أنه تاب له أن يحتج بالقدر. التأويل الثاني وهو الصحيح الراجح: أن موسى عليه السلام عاتب آدم على المصيبة الواقعة بسبب الذنب؛ لأنه قال: (أخرجتنا ونفسك من الجنة)، فهذه المعاتبة على المصيبة وليست على الذنب؛ لأن موسى أرفع من أن يعير أحداً بذنب قد تاب منه، فعاتب موسى آدم على المصيبة وآدم احتج بالقدر؛ لأنه يجوز أن نحتج بالقدر على المصائب، وهذه مصيبة نزلت على آدم بسبب أكله من الشجرة والمصيبة هي الخروج من الجنة؛ فعاتبه موسى بقوله: (أخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال آدم محتجاً عليه بالقدر: أنت رأيت ذلك مكتوباً علي قبل أن يخلق الله الخلق بخمسين ألف سنة). وهذا هو التأويل الصحيح، ونخلص من ذلك بأن الإنسان له أن يحتج بالقدر على المصائب وعلى المعائب إن تاب من هذه المعائب، هذا هو المجمل في مسألة القدر. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الإيمان

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - الإيمان الإيمان اعتقاد وقول وعمل، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، واختلف العلماء في مسألة الاستثناء في الإيمان، والقول الصحيح: أنه يجب قول إن شاء الله في حالات، ولا يجب قول إن شاء الله في حالات.

مسألة الإيمان قول وعمل

مسألة الإيمان قول وعمل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: الإيمان قول وعمل، والإيمان لغة معناه: التصديق، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، والسياق يفسر آخره أوله، فأوله قال: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17]، وآخره قال: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، إذاً: الإيمان في اللغة معناه: التصديق. ولفتة مهمة على كل طالب علم أن يحفظها ولا يتركها حتى يفر من المرجئة، ألا وهي: أن الإيمان شرعاً هو: التصديق المقرون بالعمل، والإيمان يتعدى بنفسه، وله معان ثلاثة، وليس محصوراً في التصديق؛ لأن حصر معنى الإيمان في التصديق هو قول المرجئة، وهذا طبعاً له آثار هدامة للإيمان وللدين. فالإيمان يتعدى بنفسه فيكون بمعنى التأمين من الخوف، قال الله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ * وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:1 - 5]، فإذا تعدى بنفسه فمعناه: التأمين من خوف، وإذا تعدى بالباء كان معناه: التصديق، وهذا فيه رد على المرجئة الذين حصروا الإيمان في التصديق، كقول الله تعالى مثلاً: {آمِنُوا بِهِ} [الأحقاف:31]، أي: آمنوا بالرسول، يعني: صدقوا برسالته كقول الشافعي مثلاً: (آمنت بالله) وبما جاء عن الله، آمنت بالله يعني: صدقت بوجود الله، وبربوبيته وإلهيته، (وآمنت بما جاء عن الله)، يعني: صدقت برسالات الله السماوية، وأيضاً يقول: آمنت برسول الله، يعني: صدقت بأن محمداً مرسل من قبل ربه جل في علاه، إذاً: لو تعدى بالباء فيكون معناه: التصديق، وإذا تعدى باللام فيكون معناه: الاتباع والانقياد والإذعان. وهذا المجمل الذي يعلمك أصول الإيمان الصحيحة بأنه تصديق مقرون بعمل، فهو ليس محض تصديق فقط كما تقول المرجئة، بل تصديق مقرون بعمل وانقياد وإذعان، فنقول: ويتعدى باللام، ويكون معناه: الاتباع والانقياد والإذعان، قال الله تعالى عن إبراهيم أنه كان أمة وحده: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] يعني: اتبعه لوط، فهذا معناه: أن الإيمان إذا تعدى باللام فإنه يكون بمعنى الانقياد والإذعان والاتباع، وهذا معنى الإيمان لغة. وأقوال السلف في الإيمان متوافرة متضافرة بالأسانيد الصحيحة على أن الإيمان: قول وعمل ونية، كما قال الثوري والشافعي وابن عيينة وكل السلف، ولم نجد أحداً من السلف قال بأن الإيمان قول فقط. فالإيمان اعتقاد بالقلب وقول باللسان والجنان وعمل بالأركان يعني: قول وعمل واعتقاد، قول باللسان أي: لا تدخل الإسلام إلا بقول (لا إله إلا الله)، وإذا كان الرجل كافراً لا يدخل الجنة إلا بقوله: (لا إله إلا الله)، والدلالة على ذلك حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)، والشاهد: (يقولوا)، أي: أن القول يكون باللسان. أيضاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمه وهو يموت فقال: (يا عم! قل كلمة واحدة أحاج لك بها عند الله جل في علاه، قل: لا إله إلا الله)، فهذا القول باللسان، أما القول بالجنان فمعناه: التصديق، وهذا هو التفسير لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، فالتصديق الجازم في القلب ركن من أركان الإيمان، أما معنى: عمل بالأركان: عمل بالجوارح، وهذه أيضاً جلية في قول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]، وقول الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} [المائدة:35]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يغز أولم يحدث نفسه بغزو فقد مات على شعبة من النفاق)، هذا أيضاً يدل على أن الظاهر يرتبط بالباطن. المقصود: أن العمل بالأركان يعني: العمل بالجوارح، فإقامة الصلاة لا تكون إلا بالجوارح، وإيتاء الزكاة لا يكون إلا بالجوارح، والحج كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] لا يكون إلا بالجوارح. إذاً: الإيمان عمل بالجوارح وعمل القلب، وهو ركن ركين من هذا الدين، وهو الاستسلام والخضوع والانقياد لله جل في علاه، والإيمان يدخل فيه التوكل والرجاء والخوف وكل أعمال القلوب المشهورة، لكن أصله هو: الاستسلام التام والانقياد التام والإذعان التام لله جل في علاه. ولذلك مدح الله جل في علاه إبراهيم بهذا الإذعان والاستسلام، قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]، إذاً: الإيمان شرعاً: قول باللسان وقول بالجنان، وعمل بالأركان وعمل بالجنان.

مسألة الإيمان يزيد وينقص

مسألة الإيمان يزيد وينقص مسألة أخرى تتعلق بالإيمان: أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: قول المرجئة الذين قالوا: لا يزيد ولا ينقص، وعندهم إيمان جبريل كإيمان أبي بكر وإيمان أبي بكر كإيمان آحاد الأمة، ندعو الله أن يهديهم إلى سواء السبيل؛ لأنهم طائفة من أضل الطوائف في باب الإيمان، وقوم قالوا: يزيد ولا ينقص، وقوم قالوا: يزيد وينقص وهو قول أهل السنة والجماعة، أما الذين قالوا يزيد ولا ينقص فهم المالكية، وهذا القول منسوب للإمام مالك؛ لأنه قال: قرأت كتاب الله فما وجدت أدلة تدل على النقصان، وكل الأدلة تدل على الزيادة، قال تعالى: {زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، فقال: ما رأيت آية تتكلم عن الإيمان إلا فيها الزيادة، فهو يزيد ولا ينقص. والصحيح الراجح: أن القول الصحيح عن مالك كقول أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، والدلالة على ذلك من الكتاب ومن السنة ومن النظر أيضاً، فمن الكتاب قول الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، وقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، وأيضاً قول الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة:124 - 125]، فهذه الآية دلالة على النقصان. إذاً: الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، والآية التي تبين أنه ينقص بالمعاصي قوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:125]، يعني: نقصاً على النقص الذي هم فيه، وأوضح من ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين حيث قال: (تصدقن يا معشر النساء فإني رأيتكن أكثر أهل النار، قلن: علام يا رسول الله؟ قال: تكفرن، فقالت امرأة من أعقل النساء: أيكفرن بالله -أو قال الصحابة- يكفرن بالله؟ قال: لا، يكفرن العشير، يحسن لها الزوج الدهر كله فإذا رأت منه شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط، فقالت امرأة من أعقل النساء: وما نقصان الدين والعقل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل فذلك نقصان العقل، وأما نقصان الدين أليست إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى، فقال: هذا نقصان الدين)، ووجه الشاهد: (نقصان الدين) فهذا تصريح بأن الدين ينقص بالنسبة للحيض عند عدم الصلاة وعدم الصوم، وإن كن غير مطالبات في هذه الحالة، لكن أيضاً لا يزددن طاعة؛ لأن الطاعة كلما أتى بها المرء كلما ازداد تقى وازداد إيماناً على إيمان، فهذه دلالة واضحة على أن الإيمان يزيد وينقص والمرجئة تخالف هذا القول.

مسألة الاستثناء في الإيمان وقول العلماء في ذلك

مسألة الاستثناء في الإيمان وقول العلماء في ذلك وتبقى لنا مسألة مهمة جداً تتعلق بالإيمان، وهي مسألة الاستثناء في الإيمان كأن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، قال بعض العلماء: لا يجوز مطلقاً، وبعض العلماء يرى التفصيل. والذين قالوا: لا يجوز مطلقاً هم الأحناف، فقالوا: الذي يستثني في الإيمان مشرك؛ لأنه شاك، والله اشترط في الإيمان أن يكون إيماناً جازماً لا شك فيه، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، وهذا شرط حتى يقبل هذا الإيمان عند الله، وقوله: {لَمْ يَرْتَابُوا}، أي: لم يشكوا، وقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله فيه دلالة على أنه يشك. أما الذين قالوا بالجواز مطلقاً فهم الشافعية، فقالوا: يجوز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، إما على ما يأتي وإما تبركاً، واستدلوا بعمومات الأمر بتقدمة المشيئة على كل فعل وكل قول، والأحناف لما سمعوا ذلك من الشافعية كفروهم، ولذلك هناك مقولة مشهورة عن الأحناف أنهم قالوا: يجوز للحنفي أن يتزوج من الشافعية قياساً على أهل الكتاب. إذاً: في المذهب الحنفي سموا الشافعية شكاكة؛ لأنهم يصرحون بجواز القول: أنا مؤمن إن شاء الله، وهذا القول فيه غلو وجفاء، والقول الوسط هو الصحيح، وهو قول جماهير أهل السنة والجماعة: إنه يجب قول إن شاء الله في حالات، ولا يجب قول إن شاء الله في حالات: الحالة الأولى: أن ينظر للمستقبل، أنه مؤمن الآن ومؤمن غداً وبعد غد للمستقبل، ويكون بذلك فيه تزكية للنفس؛ لأنه لو قال أنه مؤمن الآن وفي المستقبل، فهذا يزكي نفسه. والحالة الثانية: ينظر إلى حاله الآن. الحالة الثالثة: أن ينظر إلى ما يختم به الأعمال، فقالوا: وفي كل حال من هذه الأحوال له أن يقول وله ألا يقول، أما في الحال المستقبلي أو الخواتيم جزماً لا بد أن يقول؛ لأنه لا يملك من أمره شيئاً، ويعلم أن الله يمكن أن يختم عليه بالسيئات والعياذ بالله لا بالصالحات، وأقوى ما يستدل به حديث الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامها وإن شاء أزاغها). وأيضاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يمسي المرء مؤمناً ويصبح كافراً ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً)، فهذه التغيرات والتقلبات بيد الله جل في علاه، فلا بد أن يقول: إن شاء الله؛ لأن ختم الأعمال والمستقبل بيد الله جل في علاه. وأيضاً كما يقول بعض العوام: أنا مؤمن، مزكياً نفسه، فوجب عليه أن يقول: إن شاء الله؛ لأنه لا يجزم بأنه مزكى عند ربه، ومن الممكن أن يأتي بالفرائض وينتهي عن المحرمات، ويتقرب إلى الله بكل الطاعات وكل أعماله عند الله تكون هباء منثوراً؛ لأنه لم يخلص لله جل في علاه، فإن قال: أنا مؤمن تزكية لنفسه، نقول له: قل إن شاء الله؛ لأنك لا تعلم إن كنت مقبولاً عند ربك أم مرفوضاً؛ لأن مدار المسألة على القبول وعلى تقوى القلب ورقته. فإذا كان قوله تزكية وجب عليه أن يقول: إن شاء الله، وإن كانت مستقبلية فيما يستقبله من الأزمنة، وفيما يختم به لا بد أن يقول: إن شاء الله؛ لأن الأمر بيد الله وليس بيده، أما إن كان في الوقت الحالي فعليه ألا يشكك في إيمانه، بل يقول: أنا مؤمن، دون أن يقول: إن شاء الله. إذاً: يجزم في حالة واحدة وهي حالة نفي الشك عن نفسه وأن يجزم في حالته أنه مؤمن. والحالة الثانية التي يجب عليه أن يقول: إن شاء الله حالة ختم الأعمال؛ لأن ختم الأعمال ليست بيده بل بيد الله جل في علاه. والحالة الثالثة: إن كان قوله: أنا مؤمن تزكية للنفس، فيجب عليه عندها أن يستثني؛ لأن الله جل في علاه قال: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

التسليم لله ورسوله

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - التسليم لله ورسوله يجب على كل مؤمن الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، سواء كان خبراً أو إنشاءً، أو كان أمراً أو قضاءً. ومن ذلك حادثة الإسراء والمعراج وما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم فيها.

وجوب الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم

وجوب الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. بعدما انتهينا من الكلام عن القضاء والقدر، ومن الكلام عن الإيمان والإسلام، سنتكلم هنا عن مسألة تخص الإيمان، وهي: لوازم إقرار الإيمان في القلب محض التسليم لأوامر الله جل في علاه، ومحض التسليم لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، انطلاقاً من قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] سواء كان خبراً أو إنشاءً، أو كان أمراً أو قضاءً. وأيضاً قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). والشافعي رحمه الله ورضي عنه ضرب لنا أروع الأمثلة في محض التسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم حتى اشتهر عنه أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي؛ ولذلك قال بعض المؤرخين: كان للشافعي على كل شافعي المنة، وكان للبيهقي المنة على الشافعي؛ لأنه عمل بهذه القاعدة: إن صح الحديث فهو مذهبي، فأخذ كل مسألة تكلم فيها الشافعي بغير دليل يدلل عليها، ثم نظر في الأحاديث التي علق الشافعي القول فيها على صحة الحديث ثم صححها، وبين أن هذا هو مذهب الشافعي؛ ولذلك قال الشافعي: آمنت بالله وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله. فهذا هو الرجل السلفي الذي يؤمن ويعتقد كما اعتقد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤمن بكل ما جاء عن الله وعن رسول الله مسلماً تسليماً تاماً، وفي قوله هذا إشارة قوية إلى قوة الإيمان في قلبه، ولذلك فلا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول فقيه، ولا تعارض سنن النبي صلى الله عليه وسلم بهوى، ولا يقدم العقل على النقل كما سنذكر. فهذه مقدمة أطرحها بين يدي هذه المسألة التي بينها المصنف، وهي الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. كأن المصنف يقول: لا تعترض على أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء الصفات الخُلقية، أو الخَلقية، أو ما جرى من كرامات على يد أصحابه، أو معجزات على يده صلى الله عليه وسلم، أو ما جرى من أمر الله جل في علاه، كل ذلك لا تعترض عليه بعقل خرب تصد به هذه السنن، كأن تقول: أمرر هذه السنن على عقولنا وفطرنا، فإن قبلها العقل أخذنا بها، وإلا رددناها على صاحبها، وهذا الذي جر كثيراً من أهل البدع والضلالة أن يطعنوا في البخاري وفي مسلم وفي النسائي، بل يطعنوا في أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنهم لم يقبلوا أحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأهواء عفنة، وبعقول خربة صدوا بها أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فردوها، ولذلك إذا أردت أن تختبر إيمان العبد فقل له: قد قال الله وقال رسوله، مدللاً على مسألة تخالف هواه، وتخالف ما عاش عليه مع آبائه، فإن رأيته قال: سمعت وأطعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأوامر الله، فاعلم أن الإيمان في هذا الرجل قد تغلغل في قلبه، وإن رأيت الرجل يعترض باعتراضات لا تقوى أن تقف أمام حديث النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه يتبع هواه كما سنبين.

وجوب الإيمان بما أخبر به الرسول من حادثة الإسراء والمعراج

وجوب الإيمان بما أخبر به الرسول من حادثة الإسراء والمعراج يقول المصنف رحمه الله: [ويجب الإيمان بكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم]. ثم أتى لنا بواقعة هي من أهم الوقائع في تاريخ البشرية، وهي واقعة فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي واقعة الإسراء والمعراج، فبعدما اشتد الكرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكالبوا عليه، بل واتهموه بأكذب الأباطيل، فقالوا عنه: ساحر، وقالوا عنه: مجنون، وقالوا: إنه يفرق بين المرء وزوجه، ويفرق بين الابن وأبيه، ولم يكتفوا بهذه الاتهامات الباطلة بل إنهم أتوا بسلى جزور فوضعوها على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، وهو يصلي في الكعبة، ولم يكتفوا بذلك أيضاً بل تكالبوا عليه وتآمروا على قتله أو طرده وتشريده وإبعاده، والله جل في علاه علم بالحزن الشديد والهم العميق في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يفرج عنه الكرب رحمة من الله جل في علاه سبحانه الرحيم، فتنزلت رحماته تترا على عبده ورسوله ونبيه وخليله من خلقه صلى الله عليه وسلم، فجاءه جبريل ذات ليلة فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالبراق فركب البراق، ثم ذهب به في هذه الليلة إلى بيت المقدس، فنظر إلى بيت المقدس وما فيه من بنايات، ثم بعد ذلك شرف الله سيد الخلق أجمعين أعظم تشريف، حيث أتى له بالأنبياء قاطبةً فأمهم وصلى بهم إماماً بأبي هو وأمي، ثم لم يكتف التفريج إلى هنا، بل أخذه جبريل وصعد به معراجاً إلى السماء، وفي كل سماء يدق باب السماء فيقول الملك: من؟ فيقول: جبريل، فيقول: ومن معك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: أوبعث؟! فيقول: اللهم نعم، فيقول: مرحباً بالنبي الصالح، إلى أن انتهى إلى صريف الأقلام، وفرض الله عليه وعلى أمته خمسين صلاة، ثم خففها إلى أن وصلت إلى خمس صلوات في اليوم والليلة. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنام بقية الليلة عند البيت أو عند الحجر، فجاءه أبو جهل ومن معه من صناديد قريش، فقال لهم: أقص عليكم ما حدث لي: إني أسري بي إلى بيت المقدس، فوقف الناس موقفاً عظيماً وقالوا: نهتبل هذه الفرصة، فهي فرصة السقوط وبيان كذب هذا الرجل -حاشا للرسول صلى الله عليه وسلم أن يكذب- فأخذوها واهتبلوها فرصة وقالوا: إن أول الناس الذي لا يمكن أن يصدق هذا الكلام أبو بكر، فهو الذي يناصره بكليته، لكن هذا الخبر لا يصدقه، فذهبوا إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقالوا: أرأيت ما يقول صاحبك؟ قال: ما يقول؟ قالوا: يقول: إنه في هذه الليلة قد أسري به إلى بيت المقدس، فقال: أوقد قال؟ انظروا إلى الإيمان التام والتسليم التام من أبي بكر، فالذي نريده من كل مؤمن ومسلم أن يسلم لأوامر الله، ولأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يسلم لقضاء الله وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لهم: أوقد قال؟ قالوا: اللهم نعم، فقال: إن كان قد قال ذلك فقد صدق، فاندهشوا فقالوا: نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس وهو في ليلة واحدة يذهب ويجيء! فقال: إني أصدقه فيما هو فوق ذلك، أصدقه أنه يأتيه الوحي من السماء؛ ولذلك لقب بـ الصديق من يومئذ رضي الله عنه وأرضاه، فذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مرة ثانية يجرون أذيال الخيبة، فقالوا له: صف لنا بيت المقدس؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فقد غابت عني نواح من بيت المقدس فاهتممت لذلك أو قال: اغتممت لذلك، فجاءني جبريل بصورة بيت المقدس)، وهذه لا تستبعد، فالفيديو الآن يمكن من خلاله أن تنظر إلى بيت المقدس بشريط الفيديو، فأخذ النبي ينظر فيه كأنه صورة في شاشة ينظر فيها بيت المقدس، ويقص عليهم: الناحية اليمنى كذا، وكانوا قد وصلوا إلى بيت المقدس وعرفوا دقائقه، فأتى بكل دقيق وجليل في بيت المقدس فاندهشوا جداً، ثم قال لهم: إن عير فلان تأتيكم من خلف الجبل الآن، فوجدوا العير كما قال بأبي هو وأمي، لكنهم ختم الله على قلوبهم، ومن أراد الله أن يزيغ قلبه فلن ترى من يقيم قلبه مرة أخرى.

الفوائد المستنبطة من حادثة الإسراء والمعراج

الفوائد المستنبطة من حادثة الإسراء والمعراج عند الحديث عن حادثة الإسراء لابد من استنباطات نتكلم فيها عن ذلك ومنها:

تقديس الله جل جلاله

تقديس الله جل جلاله أولاً: تقديس الله بهذا الإسراء، إذ حادثة الإسراء تلوح بتقديس الله جل في علاه، لأنهم يستبعدون على قدرة الله أن يأتي بالبراق فيأخذ النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة إلى بيت المقدس ثم إلى السماء السابعة ويرجع، يستبعدون ذلك على قدرة الله، وهذا قدح وتنقيص من قدرة الله جل في علاه؛ ولذلك صدر الله سبحانه الآية بقوله: ((سُبْحَانَ)) [الإسراء:1] أي: تقديساً لله جل في علاه، فهو القادر العلي القوي القهار، الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون سبحانه وتعالى. قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1] إلى آخر الآيات.

رحمة الله بعباده وحفظه لهم

رحمة الله بعباده وحفظه لهم ثانياً: بيان رحمة الله بعباده، وأن العاقبة لا بد أن تكون للمؤمنين، وأن الله لا يترك عباده للشياطين، وقد جاء في الحديث: (إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني) وإن كان الحديث فيه ضعف. فالله جل وعلا لا يترك عبده للشيطان أبداً؛ لأنه كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أرحم بعباده من تلك المرأة التي وجدت ابنها فضمته إلى صدرها وأرضعته، يقول صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم هذه الأم ملقية بابنها في النار؟! قالوا: لا والله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فالله أرحم بالعبد من أم هذا بهذا)، يعني: الله أرحم بعبده من الأم بطفلها الرضيع، فمن رحمة الله ورأفة الله جل في علاه بنبيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم أن أسرى به تسلية وتفريجاً للكربة التي عاشها.

أشد الناس بلاء الأنبياء

أشد الناس بلاء الأنبياء كذلك من الفوائد: أن الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل، ونستنبط ذلك مما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه عندما يأتي يقص هذه القصة لا بد أن التيار العارم سيكون عليه، وهذه نبراس لكل من يتمسك بالحق على قدم راسخة، فإن الأمة كلها تقف أمامه وهو بقدم راسخ يقول: لا، هذا هو الحق. إذا تبنيت مسألة ووجدت أن الدليل يلوح لك في الأفق من كلام الله وكلام الرسول، فلو وقف الخط الخلفي كله أمامك، بل لو وقفت الأمة بأسرها أمامك فلا تتزعزع، فشخصية طالب العلم لا يمكن أن تتزعزع إن كان راسخاً في العلم، أما إن كان مهزوزاً أو إمعة يتبع كل ناعق فهذا الذي لا ترجو منه الخير، أما الذي يثبت بقدم راسخة مع العلم والدليل الذي يتبناه فهذا الممدوح. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن المسألة من الله جل في علاه، ويعلم أنه سيكذب بل ويتهم بالاتهامات الباطلة، وهذا فيه البلاء الشديد؛ ولذلك الله جل وعلا يسليه ويقول: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:33]. إذاً: بهذه القصة تبين أن الأنبياء أشد بلاء؛ لأن الهمج الرعاع سيواجهونه مواجهة دامية، وهو يقف صامداً على ما هو عليه من الحق؛ لأن الله جل وعلا أمره بذلك، وهو الذي أوحى إليه بذلك.

الإسراء والمعراج بالجسد والروح معا

الإسراء والمعراج بالجسد والروح معاً من الأمور التي نتكلم عليها عند هذه القصة العظيمة: أن الإسراء والمعراج بالجسد والروح؛ لأن العلماء من أهل السنة والجماعة اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: إن الإسراء كان في المنام فقط، ومنهم من قال: بالروح دون الجسد وهذا لازم المنام، والصحيح الراجح الذي عليه أهل التحقيق من أهل العلم أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان بالجسد وبالروح، وهذا ثابت بالأثر وبالنظر: أما الأثر: فقد قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] والباء هنا للمصاحبة والإلصاق، وباء المصاحبة معناها: بكلية الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: بروحه وجسده، وكذا جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن جبريل أتاه بالبراق، وركب البراق -حقيقة- وأن البراق كان يضع رجله حيث ينتهي بصره) فغير متعذر أن يصل إلى هناك بدقيقة أو دقيقتين وأسرع من ذلك وعرج به إلى السماء. وبين النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أن جبريل جاءه وشق صدره، وأخرج قلبه ووضعه في طست من ذهب فغسله بماء زمزم ونزع منه حظ الشيطان) وهذه حدثت للنبي صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في الصغر، ومرة عندما عرج به وملئ صدره علماً وحكمة، وهذه كما قلت على الحقيقة، فيكون الإسراء بالجسد وبالروح، هذا من الأثر. أما من النظر: فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لصناديد قريش: قد رأيت في منامي أني تجولت في نواحي بيت المقدس، فلن تقوم هذه الحرب الشعواء على النبي صلى الله عليه وسلم، بل سيقولون: رجل رأى رؤيا وهم يقبلون الرؤيا؛ لأنه لو تحدث أي متحدث عن الرؤيا فسيقبلونها، فهذه الحرب الشديدة على النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أنهم كانوا يستيقنون أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (أسري بي) يؤكد أن الإسراء كان بالجسد وبالروح، ولم يكن بالروح فقط. إذاً: الإسراء كان بالجسد وبالروح.

تحديد زمن حادثة الإسراء والمعراج وحكم الاحتفال فيها

تحديد زمن حادثة الإسراء والمعراج وحكم الاحتفال فيها هناك بدعة بسبب الإسراء والمعراج ألا وهي: أن الإسراء والمعراج وقع في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب. أولاً: نقول: من أين أتوا بهذا؟ بل لا بد أن يعلم أن هذه بدعة مضيئة، والعلماء المحققون اختلفوا في زمن الإسراء والمعراج: هل كان قبل الهجرة أم بعدها؟ وإن كان قبلها فهل كان قبلها بعام أم قبلها بثلاثة أعوام؟ ولم يعرفوا اليوم الذي أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج فيه إلى السماء، فالتحديد نفسه افتراء على الله وافتراء على رسوله صلى الله عليه وسلم، فالجزم بأنه في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب جزم باطل، والأحاديث التي جاءت في ذلك أحاديث باطلة لا تصح. ثانياً: إذا قلنا بهذا التحديد فإن هذه البدعة المنكرة التي تحدث ليلة الإسراء والمعراج من الشوادر وقراءة القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والأناشيد التي فيها الكفريات كـ بردة البويصري التي يقول فيها: ومن جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم إذاً: ليس هناك شيء لله جل في علاه، وإنما من جود النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا وضرتها، أي: الآخرة. وقوله: (ومن علومك علم اللوح والقلم) أي: ليس هناك علم لله جل في علاه، وهذا الكلام بدعة منكرة مقيتة، فعلى كل إنسان يرى ذلك أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وذلك بأن يبين أن هذه بدعة لم يرد فيها دليل من السنة، ولا دليل من سنة الخلفاء الراشدين، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، لو كان هذا اليوم يوم عيد لاحتفل به أبو بكر، واحتفل به عمر، واحتفل به عثمان، واحتفل به علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ولاحتفل به الأفاضل كـ الشافعي ولقرره في كتبه مالك ولفعل ذلك أبو حنيفة رضي الله عنهم أجمعين، ولكن لم يفعل السلف هذا، فهذه فيها دلالة واضحة على أن ما يفعلونه بدعة خلفية وليست سلفية، والخير كل الخير في اتباع من سلف، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.

وجوب الإيمان بمجيء ملك الموت لقبض الأرواح على صورة بشر

وجوب الإيمان بمجيء ملك الموت لقبض الأرواح على صورة بشر المسألة الأخيرة التي تتعلق بمسألة السمعيات: وهي الكلام على مجيء ملك الموت. معلوم أن ملك الموت يأتي كل إنسان، وأن الموت سيدور على كل إنسان، كما أن الرزق يدور على كل إنسان، انبثاقاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نفخ في روعي الروح الأمين: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها) فقرن الرزق والأجل، فكأس الموت سيدور، وهذه العبودية تسمى عبودية أرباب العقيدة السليمة وأصحاب التوحيد السديد الذين تعلموا الربوبية والإلهية والأسماء والصفات، وتسمى هذه العبودية بالعبودية الخاصة، ومعلوم أنا كنا قد قسمنا العبودية إلى قسمين: عبودية عامة، وعبودية خاصة، فالعبودية العامة: هي عبودية المؤمن والكافر، فكل منهما يعبد هذه العبادة فهما مستويان فيها؛ لأن العبودية العامة هي عبودية القهر، وعبودية الإصابة بالبليات فلا يستطيع أحد أن يرد على الله أمره، فلو قضى الله بموت أحد فلا يستطيع أن يقول: لا، أنا لن أموت هذا اليوم، سواء كان كافراً جَلْدَاً أو مؤمناً؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] أي: الكل عبد بالربوبية لا عبد بالإلهية، فعبودية القهر هي العبودية العامة، فالكل خاضع لعبودية القهر، وكل إنسان لا يمكن أن يرد على الله جل في علاه أمره في الموت. ومعلوم أن ملك الموت يأتي الأنبياء فيخيرهم بين الحياة وبين الموت، فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بليغة قال فيها: (خير عبد بين الدنيا والآخرة، فبكى أبو بكر وقال: فداك أبي وأمي، فقالوا: لم يبكي أبو بكر وهو رجل خير بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة؟ -أي: اختار ما عند الله جل في علاه- فلما علموا من المخير قالوا: كان أبو بكر أفقهنا؛ لأنه علم أن هذا دنو أجل النبي صلى الله عليه وسلم) فما من نبي إلا ويأتيه ملك الموت فيخيره بين الدنيا والآخرة، وكان يأتي على صورة ملك، وتارة يأتي على صورة بشر، وهذه خصيصة للملك وللجان، فالله جل في علاه أعطى الملك قدرة على أن يتشكل ويتصور بصورة الإنسان، ودليل ذلك ما جاء في الحديث الذي يرويه أبو حفص عمر بن الخطاب حيث قال: (دخل علينا رجل شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: يا عمر ائتني به، فلما لم يجده قال: هذا جبريل جاء يعلمكم أمر دينكم) فهذا فيه دلالة على أن الملك يتمثل بالبشر، وفي صريح السنة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أشد ما يكون علي الوحي حين يأتي كصلصلة الجرس، ويأتيني بصورة الرجل فأعقل عنه ما يقول) وكان دائماً ما يأتي بصورة دحية الكلبي؛ ولذلك جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بلأمة الحرب على عائشة، فنظرت عائشة فوجدت دحية الكلبي يأخذ بعنان الفرس، فقالت: يا رسول الله! هذا دحية ينتظرك، فقال لها: يا عائش! أرأيتيه؟ قالت: نعم رأيته، قال: يا عائش! هذا جبريل ويقرئك السلام، فقالت: الله ورسوله أعلم، أقرئ جبريل السلام). فهذا دليل على أن جبريل جاء في صورة بشر، كذلك يقول تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17] فجبريل عليه السلام جاء مريم في صورة بشر، كذلك جاء ملك الموت ودخل على موسى عليه السلام متمثلاً في صورة البشر، فلما دخل على موسى نظر إليه فوجده غريباً في بيته، وظنه معتدياً، وموسى يخشى على حريمه وعلى نفسه، ولم يعلم موسى أنه جاء ليقبض روحه، أليس من جانب الشرع أنه إذا جاء رجل يريد قتلك أن تدفعه بالأهون ثم الأهون؟ وموسى عليه السلام قد دفعه بالأهون وفقأ عينه، وكان هذا هو الأهون، وموسى عليه السلام كان له قوة أربعين رجلاً، فقد قيل: إن البئر التي نزع عنها الغطاء وسقى للمرأتين كان لا يمكن أن يحرك غطاءها إلا أربعون رجلاً ولو كانوا أقل من ذلك فلن يستطيعوا تحريكه. وموسى عليه السلام لما استغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ماذا فعل؟ لقد صور القرآن هذه الحادثة قال تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15] أي: دفعه دفعاً هيناً فمات. فموسى عليه السلام نظر إلى هذا الغريب يدخل إلى بيته وعنده أهله فخشي عليهم وعلى نفسه فلطمه، وما أراد قتله بل لطمه ففقأ عينه، فرجع الملك إلى ربه فقال: إنك بعثتني إلى رجل لا يريد الموت، وكأنه ظن أن موسى لا يريد الموت، وهذا حد علم الملك؛ ولذلك الله جل وعلا بين له أن موسى يريد لقاءه، فقال للملك: قل له: يقول الله لك: ضع يدك على متن ثور ولك بكل شعرة تمسها يدك سنة حياة، فقال موسى: ثم ما يكون بعد؟ قال: الموت، قال: إذاً الآن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم الرفيق الأعلى) فقبض روحه.

بدعة تقديم العقل على النقل وواجب العلماء والدعاة تجاهها

بدعة تقديم العقل على النقل وواجب العلماء والدعاة تجاهها لقد ظهرت شمس البدعة وبزغت ولا متصدٍ لها؛ فطلبة العلم في ندرة وفي عزة وما يتكلم إلا الرويبضات، فظهرت شبهة تقديم العقل على النقل، فقد ظهر في عصرنا من يطعن في البخاري ومسلم ومن يتهم الإمام أحمد بأن فكره سطحي، ولكل مؤمن أن يتأمل هذه الحرب على الجبال الرواسي؛ لا لشيء إلا لأن الأحاديث تخالف أهواءهم، ولو سئلوا لِمَ لم يقبلوا الحديث الذي فيه أن موسى فقأ عين ملك الموت؟ مع أن هذا الحديث في صحيحي البخاري ومسلم وهما أصح الكتب بعد كتاب الله، لقال هؤلاء: لقد رددنا هذا الحديث لأكثر من علة: العلة الأولى: أن موسى لا يمكن أن يفقأ عين الملك؛ لأن الملك بصيحة واحدة يهدم قرية كاملة، وبجناح واحد يهدم قرية كاملة، كما أن طوله من السماء إلى الأرض فكيف يفقأ عينه موسى؟ العلة الثانية: أن هذا تفسير سطحي جداً، كيف لا يرضى موسى بلقاء الله جل في علاه؟ فهذه شبه ترد بها الأحاديث التي ثبتت ثبوت الجبال الرواسي، هذا الفكر فكر المعتزلة، وإن لم يعرف الناس أن فكرهم فكر الاعتزال، لكن والله ما يفعلون وما يقولون هو فكر الاعتزال؛ ولذلك قال قائلهم: لو رأى البخاري ما تفعل تاتشر ما قال هذا الحديث! وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أفلح الله قوماً ولوا أمرهم امرأة) فهو يرد حديث البخاري بهذه المقولة السخيفة، يغفر الله لنا وله، وما منا من أحد معصوم، فالمعصوم من عصمه الله وكلنا ذو جهل وذو خطأ، لكننا نقول: المخطئ الذي يتصدى لحديث النبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن يرجع إلى الصواب، فإن أصر على ذلك فلا بد من تحذير الناس مما هو فيه، وهذا الذي قال ذلك قد مات رحمة الله عليه، وأسأل الله أن يتغمده في رحماته، وكفى ببشريات الخير له أنه تمنى الموت في المدينة فأجاب الله له هذه الأمنية ومات في المدينة، وكفى فخراً أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن أفضل الموتات هي الموتة في البلاد المقدسة، حفظ الله مكة والمدينة وسائر بلاد المسلمين من كل شر، لكن لا بد أن نحارب من أجل سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بد لزاماً أن نقول: الشيخ الغزالي حبيب إلينا، ولكن الحق أحب إلينا منه، فأفراخ الشيخ الغزالي رحمة الله عليه في هذا الزمن موجودة بكثرة، وهو صاحب قاعدة التسهيل على الناس كثيراً، ولا بد أن يعلم أن في فكره اعتزالاً وتمييعاً للعقيدة؛ لأنه لم يكن ضابطاً لأمر العقيدة. حتى الفتاوى التي أفتى بها مؤخراً كلها فتاوى لا يؤخذ بها؛ لأنها ستضيع الأمة وتجعلهم يتخبطون خبط عشواء، ولذا لا بد أن يعلم أن الذي جاء به وأصحابه ما جاء إلا بسبب تقديم العقل على النقل؛ ولذلك سنجد عند الحديث عن أشراط الساعة أنهم يرفضون رفضاً تاماً حياة المسيح الدجال، ويقولون: إن الدجال ليس موجوداً حتى الآن، ولو سألتهم عن ذلك لقالوا: الأقمار الصناعية منتشرة، والنظر الدقيق بالتكنولوجيا لم يبين شيئاً حتى الآن، كما أن الأقمار الصناعية أظهرت كل دقيق وجليل في الأرض، ولم تظهر لنا الدجال. فتجدهم يعارضون السنن بهذه النظريات العلمية التي تخطئ وتصيب، والجبال الرواسي من السنن تهدم أمام هذه النظريات، فهؤلاء الأفراخ أصحاب الفكر الاعتزالي لا يعلمون للسنة احتراماً ولا تقديراً، وأفعالهم تدل على هذا، ونحن لا نلزم المرء بلازم فعله، ولكنني أحذر فقط من هؤلاء، ومن السماع لهم، أو السماع لفتاواهم؛ فإنهم ردوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتجرءوا على البخاري وأحمد ومسلم وقالوا عنهم: إن نظر هؤلاء سطحي!!

سبب تجرؤ المبتدعة على الدين وأهله

سبب تجرؤ المبتدعة على الدين وأهله أقول: نحن ما أتينا إلا من ضعف العلم ومن ندرة طلبة العلم، وقد اتفق القاصي والداني على ذلك، لقد عز في هذا الزمن طلبة العلم الذين يحترمون الطلب ويحترمون العلماء، ويقدرون قال الله قال رسوله، والهمة العالية قد خارت، والأفاضل الذين كانوا كواكب في سماء إسلامنا نستنير بهم قد ماتوا ومات من معهم من أصحاب الهمم العالية، بعدما مات الثلاثة الجبال الذين كانت الدنيا بأسرها تستضيء بنورهم، كأنهم الشموس، لقد مات بخاري العصر محدث الشام الألباني، ثم الشيخ ابن باز الذي جمع بين علم الفقه وعلم الحديث وقد عز صنيعه في هذا الزمان، والقوة كل القوة في الجمع بين علم الحديث وعلم الفقه، والشيخ صالح بن عثيمين الذي لم يفقه مثله أحد في نظره الدقيق وتأملاته الفقهية في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فهل لهم من خلف؟ ائتوني الآن بواحد خلف هؤلاء الثلاثة؟ لن تجد، إلا أن يشاء ربي شيئاً، وسع ربي كل شيءٍ علماً. ولذا أقول: هذه البدعة المقيتة وهذا الترفع الضائع من هؤلاء الرويبضات؛ ما جاء إلا عند عدم وجود طلبة العلم الذين يتصدون لهذه البدع ويحافظون على دين الله.

نماذج من فتاوى المخالفين للنصوص الشرعية

نماذج من فتاوى المخالفين للنصوص الشرعية لعلكم قرأتم أو سمعتم ما احترقت له قلوبنا من الفتاوى المظلمة، فهذا الرجل الذي تتهافت النساء على سماعه وتميل قلوبهن لهذه القصص والعبر التي يأتي بها، وإن شئت قلت: إن هذه القصص فيها الطامات من الأحاديث الباطلة والموضوعة لكنه قصاص وما عنده إلا القصص، ثم بعد ذلك يبدأ في الفتوى ويدمر الدنيا بعدم اعتدال مسائل الدين، فيفتي بأن الختان للمرأة ظلم بين للنساء، وهذا القول لم يقل به أحد من علماء الأمة، على أن علماء الأمة كما بينت اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه على الوجوب، وهذا قول الشافعية. القول الثاني: سنة مستحبة، وهذا قول الحنابلة وهم الذين قالوا بالسنية. القول الثالث: أن الختان مكرمة للمرأة، فهو على الإباحة وليس مستحباً، وهو قول المالكية. والمقصود أنه لم يقل أحد من السلف بأن الختان للمرأة ظلم. ومن تلك الفتاوى المظلمة: عندما قيل لإحدى المغنيات وهي تشتكي من أن أخرى غنت أغنيتها فقيل لها: ارفعي قضية عليها، وهذا ضمناً فيه إباحة الغناء، وإباحة العري والسفور الذي يحدث، فهذا الرجل يفتي بهذه الفتاوى؛ لأنه ليس هناك طالب علم يبين للناس هذا الكلام الباطل المخالف لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، المخالف لنهج السلف. وكذا الفتاوى الأخرى التي تطل علينا كفتوى جواز أن تصلي المرأة وهي عارية في مكان مظلم، والقول بأن الدخان حلال للأغنياء حرام على الفقراء، فأين طالب العلم الذي يتصدى لهذه الفتاوى المضللة؟! وأين الذي يدافع عن عرين السنة؟! أين أسد السنة الذي يقول: نذرت نفسي لربي، وأوقفت نفسي لربي؟ نريد طالب علم مجد في معرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يميز الصحيح من الضعيف، حتى يدافع عن دين الله جل في علاه ويرد على المبتدعة.

ضرورة التصدي لفكر المعتزلة وغيرهم من المبتدعة

ضرورة التصدي لفكر المعتزلة وغيرهم من المبتدعة أقول: إن الفكر المعتزلي هو السائد الآن، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تتصدى له إلا أن تكون طالباً للعلم؛ لأن التعمية والتمييع أصبح أمراً مروعاً؛ ولأن الهمج الرعاع لا يعرفون شيئاً، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: همج رعاع أتباع كل ناعق. أي: يصفقون ويرددون: نحن معك، وكلامك دائماً صحيح، وتراهم يقولون: ما أروع هذه الفتاوى، فهم دائماً يسيرون خلف كل ناعق؛ لأنهم لم يستضيئوا بنور العلم. إذاً: فلا بد من طالب علم يبين هذا الأمر، ويرد عن حياض هذا الدين بعلم ودقة وإتقان. والمعتزلة يعتقدون ثم يستدلون، والقاعدة عند السلف: الدليل قبل الاعتقاد، أي: تستدل ثم تعتقد؛ حتى ينبثق اعتقادك من الدليل الناصع البياض، الذي هو أسطع من شمس النهار في الصحة.

واجبنا نحو من يرد الأحاديث الصحيحة بعقله الخرب

واجبنا نحو من يرد الأحاديث الصحيحة بعقله الخرب يوجد الآن من يردون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بهذه العقول الخربة، والصحيح الراجح أننا نقول: سمعنا وأطعنا، وكل حديث صح سنده من الجبال الرواسخ من العلماء لا بد أن نمرره على العقل والقلب بكل راحة ونقول: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله. وهنا أشير إلى أنه لا بد على الإخوة أن يتبنوا هذا المنهج؛ لأن أهل البدع قد بزغوا، وقد أخبرني ثقة أن الشيخ أبا إسحاق كاد يموت حين سمع أن رجلاً خرج علينا من الأزهر وضعف مائتين وثلاثين حديثاً في البخاري، مع أن الحافظ الدارقطني انقطعت أنفاسه وكاد يقتل حين انتقد خمسة عشر حديثاً أو ستة عشر حديثاً على البخاري، ولم يوافق على الأحاديث التي انتقدها على البخاري إلا أحرفاً يسيرة، وهذا يضعف مائتين وثلاثين حديثاً! وعندما جاء الرجل وسألناه: كيف ضعفت هذه الأحاديث؟ فلعل عندك علماً بأصول السنة وفكراً عالياً بالمتون، فلم يكن عنده شيء من علم، فسألناه: هل عندك علم؟ فأجاب: لست وحدي الذي أتكلم لكي تعاتبني، بل كل الناس تتكلم!! إذاً: فهذه موجة الكل يركبها، ولا بد أنه سيتكلم طالما أن هناك أناساً يسمعون. فعندما ترى أن الأحاديث الصحاح ترد من أجل أنها تخالف العقل الخرب، فهذه دلالة على أن الدنيا آذنت بخراب؛ لأن الله جل وعلا أناط قيام القيامة برفع العلم وفشو الجهل، وفشو الجهل واضح جلي بين الناس، فعلينا أن نرجع إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ونجليه بين الناس، ونبين أننا نحترم الأشخاص ونضعهم فوق رءوسنا، لكن لا نقدم أحداً أبداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

أشراط الساعة

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - أشراط الساعة مما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم أشراط الساعة الصغرى وقد وقعت منها أمور كثيرة، وأما الكبرى فلن تظهر إلا قرب قيام الساعة، فيجب على المؤمن الإيمان والتسليم بكل ذلك، وإلا كان من الضالين المنحرفين والعياذ بالله.

أشراط الساعة

أشراط الساعة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: أشراط الساعة هي من الإيمان بالغيب، والله جل وعلا ربط الفلاح مع الإيمان بالغيب. والشرط في اللغة معناه: العلامة، وأشراط الساعة بمعنى: الأمارات التي تسبق قيام الساعة.

علامات الساعة الصغرى

علامات الساعة الصغرى أما العلامات الصغرى فجلها قد ظهرت، ومنها: أن تسلم على من تعرف وتترك من لا تعرف، وهذه واقعة بين الإخوة، فتجد الأخ إذا رأى أخاً ملتحياً سلم عليه، لكن غير الملتحي لا يسلم عليه، وهذه منقصة في حق الإخوة، وهذا مصداقاً لنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان يسلم الرجل على من يعرف دون من لا يعرف. وأيضاً من علامات الساعة الصغرى: نطق الرويبضات، قال صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة سنوناً خداعة يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن ويخوّن الأمين، وينطق الرويبضة، قالوا: وما الرويبضة؟ قال: الفاسق أو الفويسق يتكلم في أمر العامة). وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً لنا علامة من علامات الساعة الصغرى: (إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة). وأيضاً بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الهمج الرعاع الحفاة العراة يتطاولون في البينان، فبين أن التطاول في البنيان من علامات الساعة. ومن علامات الساعة أيضاً: زخرفة المساجد، فالآن المساجد مزخرفة ومتسعة جداً وهي خالية وخاوية من العباد، وهذه قد تذكر أنها من علامات الساعة؛ ولذلك جاء في الأثر عن ابن عباس أنه قال: (لنزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى)، فبين ابن عباس أن زخرفة المساجد وتوسيعها من علامات الساعة. فهذه علامات صغرى وقد مر أكثر هذه العلامات.

علامات الساعة الكبرى

علامات الساعة الكبرى العلامات الكبرى هي كما بين النبي صلى الله عليه وسلم كأنها في سلسلة واحدة كالعقد، فلو نزلت الحبة الأولى فالباقي على إثر هذه الحبة ستنزل. إن نزول عيسى ابن مريم وخروج الدجال من إشارات ومقدمات وإرهاصات العلامات الكبرى للساعة. والدجال هو شر فتنة يفتتن بها المرء في هذه الحياة، كما ورد في بعض الآثار وإن ضعفها بعض العلماء، لكن نستأنس بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال ستاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً -إلى أن قال-: أو الدجال فشر غائب ينتظر) فـ الدجال شر فتنة في هذه الحياة؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر فتنة القبر قال: (أوحي إليّ أنكم تفتنون فتنة قريباً من فتنة الدجال) كأنه يقيس فتنة القبر بفتنة الدجال.

حقيقة وجود الدجال الآن

حقيقة وجود الدجال الآن إن الدجال رجل عظيم الخلقة، وهو الآن مسلسل، وهذا هو الصحيح، ويغفر الله للشيخ محمد بن عثيمين فهو لا يقول بذلك، بل يقول: إنه غير موجود، لكن علة الشيخ ابن عثيمين غير علة من يأخذون بالعقل دون النقل، وإنما علته أنه يقول بتضعيف حديث الجساسة؛ فلذلك أنكر وجود الدجال الآن، لكن نقول: هذا اجتهاده، وهو اجتهاد خاطئ لا نقبله من الشيخ رحمه الله، وجعله مع النبي صلى الله عليه وسلم ورفقائه في الفردوس الأعلى. والحق أن الدجال موجود الآن، وهو مسلسل، كما في الحديث الطويل حديث تميم الذي روته فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فحديث تميم الداري يلغز به فيقال: كل الصحابة نالوا الشرف في التحديث عن رسول الله، لكن من الذي نال الشرف بأن حدث عنه رسول الله؟ إنه تميم رضي الله عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم صعد المنبر مبتسماً ثم قال: (إنه قد أسعدني أن تميم الداري حدثني ما وافق ما حدثتكم به) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثني تميم) وهذا يبين شرف هذه الأمة ففيها من صلى خلفه النبي، وفيها من هو خير البشر بعد الأنبياء، وفيها من حدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم كـ تميم، ثم سرد الحديث بطوله، ونقلته لنا فاطمة بنت قيس. والحديث طويل جداً، وفيه أن الأمواج تلاعبت بـ تميم ومن معه فنزلوا على جزيرة فجاءت الجساسة وهي دابة أهلب، أي: كلها شعر القبل كالدبر، فقالت لهم: إن هناك من ينتظر خبركم بالأشواق، فأخذتهم إلى رجل مسلسل ورأسه عند رجله وهو عظيم الخلقة، فقال: من أين أنتم؟ ثم ذكروا مسألة النخيل ومسألة المدينة، فقال: هذا العصر عصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إن يتبعوه يرشدوا، وهنا يعظ، والشاهد الذي أريده أنه موجود من وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مسلسل بنص حديث تميم الداري، وقال الشيخ ابن عثيمين: إنه ليس بموجود وسيخلق، أو قال: إنه ليس بموجود فقط، وهذا كلام يرد على صاحبه كائناً من كان ويضرب به عرض الحائط؛ لأن الحديث ثبت ولا قول لأحد مع قول النبي صلى الله عليه وسلم. ما العلم إلا قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه والظاهر: أن الشيخ اجتهد وله سلف، فـ البخاري أشار إلى حديث الجساسة ولم يخرجه في الصحيح؛ فلذلك الشيخ ابن عثيمين تبنى هذا المذهب وعضد إشارة البخاري بأنها توحي بتضعيف حديث الجساسة، فأخذ بتضعيف حديث الجساسة. والملاحظ هنا أنها أحكام مناطة بالتصحيح، وهذا الحديث ضعيف عنده فلم يثبت وجود الدجال، لكنه يؤمن بخروج الدجال عقيدة جازمة، لكنا نقول: قد صح الحديث، وإذا صح الحديث فلا قول لأحد مع قول رسول الله. أما القائل الذي قال غفر الله لنا وله: إنه ليس هناك شيء اسمه الدجال، فليته يتراجع ولو هنيهة عن قاعدة التسهيل التي طغت بالأمة الإسلامية الآن، نسأل الله العفو والعافية، لكنه بفضل الله يعتقد خروجه، وعندما سئل: لماذا قلت هذا القول؟ قال: إن الأقمار الصناعية وجدت ولم نر أحداً رأى الدجال. وهذا طالب علم عندنا أقسم لي بالله أن الأقمار الصناعية كشفت عن منطقة في القاهرة فغابت عنها قرية فلم تصورها ولم تعرف عنها شيئاً، فقرية لم تعرف عنها شيئاً أتعرف عن رجل شيئاً؟ فالمسألة أصلاً مسألة نظر علمي محض يعتريه الصواب ويعتريه الخطأ، فهل أصرح بخلاف حديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابت كالجبال الرواسي من أجل هذه النظريات التي لا تنفع ولا تضر، وهي تصيب وتخطئ؟! ومن هنا نقول: إن الإمام مسلماً كان صاعقة في الحفظ، وهو الذي قال فيه المغاربة: مسلم أعلم من البخاري، وهذا كلام غير صحيح، لكن هم يقدمون صحيح مسلم على صحيح البخاري لحسن ترتيب مسلم لكتابة الصحيح، فهو يجمع كل الأسانيد لحديث واحد من روايات متعددة، وهذا يساعد على من يريد أن يكشف ويحقق تصحيح الإسناد أو تضعيفه من باب المتابعات والشواهد، لكن كان البخاري يهتم في صحيحه بالفقه أولاً؛ فلذلك كان يقطع الأبواب، ولا يهمه الأسانيد إن هي تكاثرت في باب واحد، ومعلوم أن البخاري أصح؛ لأنه أنقى شروطاً في الرجال الذين انتقاهم لصحيحه. والمقصود: أن هذا الحديث في مسلم، فليس لك أن ترده، إلا أن تكون عالماً نحريراً من العلماء المعتبرين الذين سينتقدون حديث مسلم فنسمع لك ونطيع وننظر ما عندك من العلم، ونعرض كلامك على كلام أهل العلم وأهل الشأن، فإن وافق فعلى الرحب والسعة، وإلا فأنت تعول في كل كتبك على الألباني حتى رسالة الماجستير تعول فيها في التصحيح والتضعيف على الألباني، فارجع للألباني فأنت مقلد له الآن، لكن لا تلعب بالحديث هكذا؛ لأنك لست من علماء الحديث، بل ارجع للألباني وانظر هل ضعف الحديث أم صححه، لكن أن تجعل مقياس تضعيف حديث في صحيح مسلم بن الحجاج -هذا الإمام الذي حفظ لنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم- هي الأقمار الصناعية فلا، وإذا سألك ربك فلا تدري كيف تجيب، لكني أقول: يغفر الله لنا ولك ويعلمنا وإياك، وما زلنا على جهل نحتاج جميعاً إلى العلم، ولذلك الحافظ ابن حجر سطر كلاماً يكتب بماء الذهب على السطور، يقول: لا يزال العالم عالماً إذا جد في الطلب، أما إن توقف وقال: أنا أنا فقد انتهى الأمر ولن تأخذ منه خيراً، ولن تجد له اجتهاداً بعد ذلك يوافق السنة. ولذا يجب علينا أن نخالف هؤلاء الذين ردوا حديث الدجال وقالوا: هو غير موجود، ونقول: هو موجود في حديث فاطمة بنت قيس حديث الجساسة في صحيح مسلم. وقد أتم لنا النبي صلى الله عليه وسلم وصف الدجال واهتم اهتماماً شديداً بمسألة الدجال وقال: (ما من نبي إلا حذر قومه الدجال الأعور، وإني سأقول لكم فيه قولاً بيناً فصلاً) وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنا النذير العريان، واشتد في نصح أمته عن الدجال، حتى قالوا: (خشينا أن يكون الدجال خلف الشجر، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم خوفهم من هذا النذير، قال لهم: ما لكم، إن خرج وأنا فيكم فأنا حجيجه وإن خرج وأنا لست فكيم فكل امرئ حجيج نفسه) وهذه الوكالة للنفس وكالة إلى ضياع والعياذ بالله. ونستدل على وجود الدجال بحديث ابن صياد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحسس ابن صياد وكان يختبئ له؛ إذ أنه عندما اختبأ قالت أمه: (يا صاف! هذا محمد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تركته بين) أي: لو تركته بين لنا أهو الدجال أو ليس هو، وهذا الحديث فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشك في وجود الدجال، ثم أكد وجود الدجال مسلسلاً بحديث تميم الداري. فإن قلتم: حديث تميم الداري ضعيف ولا يثبت به وجود الدجال، فهذا حديث ابن صياد وشكوك النبي صلى الله عليه وسلم دليل على وجود الدجال، مع أن حديث تميم الداري ليس بضعيف بل هو صحيح. والنبي صلى الله عليه وسلم وصف لنا الدجال وصفاً بديعاً حيث قال: (هو أعور، وربكم ليس بأعور) وأعور بمعنى له عين واحدة والأخرى إما مطموسة أو موجودة معيبة، وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين عينيه مكتوب ك. ف. ر) والنبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ؛ فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يقرؤها كل قارئ وغير قارئ) أي: أن كل مؤمن أمي وغير أمي سيقرأ ك. ف. ر أي: كافر، سيقرأ هذا القول. ووصف النبي صلى الله عليه وسلم وجوده أنه يعيش بيننا أربعين، يوماً كسنة، ويوماً كشهر، ويوماً كأسبوع، وباقي الأيام كأيامنا هذه، هذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم للدجال.

عظم فتنة الدجال وصور من خوارقه

عظم فتنة الدجال وصور من خوارقه لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن خروج الدجال فتنة عظيمة؛ لأن الله أعطاه قوة خارقة، كأنها من لوازم الربوبية، يفتن الله بها من يشاء، والله جل وعلا يبتلي عباده بما شاء سبحانه، قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:155] فمن فتنة الدجال أن يأتي للرجل فيقول: لو أحييت لك أباك وأمك تؤمن بي؟ فيقول: أؤمن بك، فيأتي فيحيي أباه وأمه لفتنة البشر، وهو في الحقيقة لا يحيي أباه وأمه، وإنما يتمثل له الشيطان في صورة الأب وصورة الأم، فيعمي على هؤلاء. ومما يفتن به الناس أن يذهب إلى المشرق والمغرب في دقائق معدودة تستدبره الريح. وأيضاً ينظر إلى السماء فيقول: أمطري، فتمطر، ويذهب إلى الأماكن الخربة فيقول: أخرجي كنوزك، فتخرج الكنوز، وهذه فتنة عارمة، وكل هذه تحصل بإذن الله تعالى؛ والفتنة الأشد أنه سيأتيه رجل هو من أفضل الشباب كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: (أنت الدجال الذي حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأخذه هذا الكافر الظالم ويقول للناس: أيها الناس! لو قتلت هذا الرجل وأحييته لكم تؤمنون بي؟ فيقولون: نعم، فيأخذه فيشقه نصفين جزلتين: جزلة على اليمين، وجزلة على اليسار، ثم يمشي بين الجزلتين، ثم يقول للرجل: تعال، فيقوم الرجل متهللاً فرحاً، فيقول: والله ما ازددت بك إلا بصيرة، أنت الدجال الذي حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم). وهنا يجدر بنا أن نتأمل إلى الإيمان كيف يتلألأ في القلوب ويجعل المؤمن ثابتاً راسخاً لا يتزعزع مع كل ريح، فهذا الشاب بعدما شقه نصفين قام فقال: أنت الدجال الذي حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما ازددت فيك إلا بصيرة، ثم يضرب بالسيف على رقبته فلا يسلط عليه مرة أخرى، كرامة من الله لهذا الشاب الذي بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أعلى الناس إيماناً في هذا العصر، فيهرب ويهرب من معه، وهذه فتنة ليست بعدها فتنة.

طرق نبوية لدفع فتنة الدجال

طرق نبوية لدفع فتنة الدجال لقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نتخلص من فتنة الدجال: أولاً: بالاستعاذة من هذه الفتنة، فقد أمرنا في كل صلاة بالاستعاذة من فتنة الدجال وفتنة المحيا والممات. ثانياً: أنه لو ظهر -اللهم لا تظهره في مكاننا ولا زماننا هذا يا رب العالمين- لو ظهر الدجال فلا بد أن يفر الشخص منه فراره من الأسد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع عن الدجال فلينأ عنه، شر فتنة من استشرف لها أخذته) أي: لا يأتي رجل يسمع بـ الدجال فيذهب فيقول: أنا له أنا له، معتزاً بإيمانه ومزكياً لنفسه، والله جل وعلا يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32] ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تتمنوا لقاء العدو) فهذا الذي يذهب إلى الدجال جاهل؛ فإنه لو كان عالماً بهذه الكلمات من النبي صلى الله عليه وسلم لما فعل ذلك، والجهل مميت لصاحبه، فيذهب إلى الدجال ويقول: أنا له أنا له، فما لبث إلا أن آمن به وكفر بربه جل في علاه، والله يعلم ما في القلوب ويوفق كل إنسان على ما في قلبه، فهذه فتنة أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننأى عنها بل وأن ننأى عن كل فتنة.

نزول عيسى بن مريم

نزول عيسى بن مريم العلامة الأخيرة: وهي نزول عيسى بن مريم. فبعدما يعيث الدجال في الأرض فساداً، ويؤمن به اليهود وكثير من النساء، وهذا فيه تحذير للنساء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن أكثر أتباع الدجال هن النساء؛ لأنهن ناقصات عقل ودين، وبعد هذه المفاسد العظيمة، وبعدما يمنع من دخول مكة والمدينة؛ لأن الملائكة تحرسهما، فتحفظ بالملائكة، ثم تهتز المدينة ومكة فتخرجا كل منافق، فينضوون تحت لواء هذا المنافق الأكبر الدجال فيؤمنون به، ثم ينزل عيسى عليه السلام حكماً عدلاً مقسطاً صلى الله عليه وسلم، ينزل على جناح ملك عند المنارة البيضاء عند جامع دمشق، ثم يذهب فيجد المهدي بعد معركة هرمجدون الدموية بين المسلمين والكافرين، إذ يأتي الكفار تحت ثمانين راية تحت كل راية اثنا عشر ألفاً، ويحصل فيها مقتلة عظيمة، ثم يفتح الله على المؤمنين، والمهدي هو من ولد النبي صلى الله عليه وسلم يصف الناس للصلاة ثم ينزل عيسى. والمهدي اليوم يضرب ويطعن في صميم قلبه، وأجدني مضطراً لذكر الأسماء، فالدكتور عمر عبد الكافي حفظه الله وأمد في عمره وأحسن عمله، فاجأنا بما أصعقنا إذ يقول: ليس هناك شيء اسمه مهدي، فقد ضعف الأحاديث الدالة على المهدي. فأقول: الشيخ ليس معلوماً عنه أنه من المشتغلين بعلم الحديث أو بعلم الفقه حتى يقول: إنه صحح وضعف. ومعلوم أن ثلاثة أرباع الإخوة الحاضرين مغرمون بسماع الدكتور، وهو رجل يُسمع له جزاه الله خيراً على ما يعمل للدين، لكن أخطاؤه نردها عليه. وهنا يجدر بنا التنبيه على أنه لا بد من طلبة العلم الذين يتقنون العلم، أما خبر المهدي فهو راسخ كالجبال الرواسي. وأمتع ما يقرأ من الكتب المعاصرة التي تتكلم عن المهدي كتاب شيخنا المبارك الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم حفظه الله وأمد في عمره وأحسن عمله، ورفع قدره بين الأنبياء والمرسلين والصالحين، وجعله مع الشهداء في الفردوس الأعلى، الذي نزل مؤخراً واسمه: (المهدي) فهذا الكتاب من أنفع ما كتب في هذا الباب، فهو يفيد كل طالب علم متبحر وغير متبحر في هذه المسألة. والعلماء أو الناس انقسموا في المهدي ثلاثة أقسام: قسم غلوا، وقسم جفوا، وقسم توسطوا، أما الذين غلوا فينتظرون المهدي منذ ألف عام، وما أكثر ما ينادون في تجمعاتهم: اطلع يا مهدي، يعنون محمد بن العسكري، اطلع من السرداب، فاعتقدوا دخوله السرداب، وهذا كلام باطل لا دليل عليه. وأما الذين جفوا فهم الذين قالوا: لا مهدي في هذه العصور، والنبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا أنه من ولد فاطمة. أما الذين توسطوا فهم أهل السنة والجماعة فقد أثبتوا خروج المهدي، وبينوا علاماته وأماراته ووصفه وتفصيل أمره بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

الأحكام المستنبطة من تراجع المهدي لعيسى عليه السلام ليصلي بهم

الأحكام المستنبطة من تراجع المهدي لعيسى عليه السلام ليصلي بهم قلنا: فيصف المهدي الناس ليصلي بهم، فيأتي عيسى بن مريم عليه السلام فيتراجع المهدي؛ لأنه يعلم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لعيسى: أنت إمامنا. يستنبط من هذا الفعل من المهدي عدة أمور: الأول: أن من أصول أهل السنة والجماعة تقديم الفاضل على المفضول، ولا ينبغي للمفضول أن يتقدم بين يدي الفاضل، أما في هذا الزمان فالمفضول دائماً هو المتصدر والفاضل هو خلف الشمس، وهنا يعلم أن الصحيح الراجح تصدير الفاضل والذي يصدره هو المفضول، فإن عيسى نبي، بل هو من أولي العزم من الرسل؛ فلذلك قدمه المهدي عملاً بقول النبي حيث أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، وفوق كل ذي علم عليم، فلذلك يستحق الإمامة الآن سيدنا عيسى عليه السلام فقدمه المهدي. الثاني: أن للإمام الراتب إذا دخل فوجد آخر غيره يصلي بالناس أن يؤخره ويدخل هو مكانه، ويستنبط ذلك من عمل المهدي حيث رجع بنفسه من غير أن يرجعه عيسى، بل وضعه في مكانه، وهناك إشارة من فعل أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه تعضد هذه المسألة. الثالث: شرف هذه الأمة، فالله جل وعلا شرف هذه الأمة بأن جعل أفضل الأنبياء يصليان خلف آحاد الأمة، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر وصلى خلف عبد الرحمن بن عوف، وعيسى من أولي العزم من الرسل صلى خلف المهدي قال: (إمامكم منكم تكرمة الله لهذه الأمة).

الأعمال التي يقوم بها عيسى بعد نزوله

الأعمال التي يقوم بها عيسى بعد نزوله عندما ينزل عيسى عليه السلام يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ولا يقبل الجزية ويقاتل على الإسلام. وكتب الله لعيسى أنه إذا خرج فلا يتنفس نفساً فيصل إلى أحد من الكفار إلا ويموت، وهذه قوة خارقة وهبها الله جل وعلا لعيسى، فنفسه يكون مد بصره، فإذا استنشقه أو شمه كافر فإنه يموت؛ ولذلك يذهب خلف الدجال، فإذا رآه ذاب كما يذوب الملح في الماء، ثم يقتله عليه السلام ويريح البشرية من هذا الشر العظيم. قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159] ومعنى: (قبل موته) أي: بعد نزول عيسى عليه السلام حكماً عدلاً مقسطاً.

خروج يأجوج ومأجوج

خروج يأجوج ومأجوج إن خروج يأجوج ومأجوج من الفتن العظيمة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قام عليه الصلاة والسلام من نومه فزعاً وقال: (ويل للعرب من شر قد اقترب، لقد فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج قدر الدرهم) وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كل يوم يأتون الجدار ليهدموه، فإذا كان آخر النهار قالوا: غداً سنخرج على بني آدم. وهنا يعلم أن الله جل وعلا إذا أذن لشيء أعد له الأسباب المؤدية إليه، فهم بعد مقاربتهم هدم الجدار آخر النهار يقولون: غداً نخرج على بني آدم ولم يقولوا: إن شاء الله، فيرجعون في اليوم الثاني فيجدونه كما كان، حتى إذا أذن الله جل في علاه بخروج يأجوج ومأجوج يجعلهم يقولون: غداً إن شاء الله سنخرج على بني آدم، ولو أنهم قالوا: إن شاء الله من بداية الأمر لكان دركاً لأمرهم، لكن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فيخرجون يأكلون كل أخضر ويابس؛ حتى إن أولهم يكون عند بحيرة طبرية فيشربون الماء وهم عطشى ويأتي الآخر منهم ويرى جفافاً فيقول: كان هنا ماء، فلا يأتون على أخضر ولا يابس إلا ويزيلونه من وجه البسيطة. ثم إنهم بعدما ينتهون من قتال أهل الأرض يبتلون بأن يضربوا الرمح أو النبل في السماء فيفتنهم الله جل وعلا بأن ينزل هذا النبل وفيه الدماء، فيقولون: انتهينا من أهل الأرض وقتلنا أهل السماء، نعوذ بالله من الخذلان! فيأمر الله عيسى نبيه أن يأخذ المؤمنين ويذهب بهم إلى جبل الطور، فيدعو عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم أن ينجيهم الله من هذه الفتنة العظيمة؛ لأن الله قد أوحى إليه أنه سيخرج بشر خلقهم الله لا يدان لهم أحد، أي: لا يستطيع أحد على قتالهم ولا أن يجابههم، فيقبل الله دعاء المؤمنين فيقتل هؤلاء، وتأتي طير فتأخذهم إلى البحار حتى لا يضروا بني آدم، ثم يعيش الناس في نعيم ورغد من العيش حتى يأذن الله بخراب هذه الدنيا وقيام القيامة.

خروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها

خروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها ومن علامات الساعة: خروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها، أما خروج الدابة فتأتي لتختم الناس على مناخرهم، فتفرق بين المؤمن وبين الكافر، حتى إن الرجل يتعامل مع الآخر في البيع والشراء، يقول: اشتريت من المنافق الفلاني كذا، واشتريت من الكافر الفلاني كذا، فيعرف بين يفرق بين المؤمن وبين الكافر، ثم بعد ذلك تطلع الشمس من مغربها، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبين بالتفصيل أيهما تظهر أولاً الشمس أم الدابة؟ وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأولى إذا خرجت فعلى إثرها تخرج الأخرى. وهذه من العلامات الكبرى؛ لأن الشمس إذا طلعت من مغربها فإنه لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل.

عذاب القبر ونعيمه

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - عذاب القبر ونعيمه مذهب أهل السنة والجماعة أن للقبر عذاباً ونعيماً، فهو أول منازل الآخرة الذي إذا نجا الإنسان من عذابه فقد نجا من عذاب الآخرة، وإذا فاز الإنسان بنعيمه فاز بنعيم الآخرة، وأدلة عذاب القبر ونعيمة ثابتة بالكتاب والسنة والعقل، ومن عباد الله من يؤمنه الله من عذاب القبر، ومنهم: الشهداء والصديقون، فهي ميزة خاصة بهم؛ لظهور صدقهم في بيع أنفسهم لله عز وجل.

القبر أول منازل الآخرة

القبر أول منازل الآخرة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. القبر أول منازل الآخرة، ومن سعد في قبره فالسعادة أكمل وأتم في الآخرة، ومن كان عليه الأمر شاقاً جداً فهو أشق وأشد وأنكى في الآخرة، كما وصلنا عن عثمان بسند صحيح أنه بين أن القبر أول منازل الآخرة، فإن كان يسيراً فما بعده أيسر، وإن كان شاقاً كان ما بعده أشق على الإنسان، فعلى الإنسان أن يستعد لدخول هذا المكان الضيق، فإن القبر هو البيت الذي سيكون مبيته حتى يوم القيامة، والقبر له فتنة، والكلام عن القبر من وجهين: الوجه الأول: الفتنة التي تكون في القبر، وهي ثابتة بالكتاب وثابتة بالسنة، أما بالكتاب فبالإشارة، وأما بالسنة فبالتصريح، والفتنة هي سؤال الملكين للرجل، يأتيان إليه فيقعدانه فيسألانه: من ربك؟ ما دينك؟ ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ وهي ثابتة في الكتاب، قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، هذا التثبيت لا يكون إلا عند محل الفتنة، والفتنة معناها: الاختبار، والحكمة من الفتنة: هو اختبار صدق هذا المقبور الذي مات على مسمى الإسلام هل هو بحق وبصدق أسلم لله واستسلم لأوامر الله، وكان مصدقاً بوعد الله ووعيد الله وبوعد النبي وبوعيد النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فيختبر اختباراً شديداً عندما يوضع في قبره، ويضم عليه، ويفتن فيه فتنة شديدة. قال الله تعالى: ((يُثَبِّتُ اللَّهُ))، وهذه بشارة من أهم البشارات لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما علموا بفتنة القبر وارتجفت قلوبهم، بشرهم الله بالتثبيت، اللهم اجعلنا من الذين تثبتهم في القبر يا رب العالمين، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، والقبر أول منازل الآخرة، فالتثبيت في أول منازل الآخرة هو أن يطلق لسانه، وأن يقول: ربي الله ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم وديني الإسلام، والدلالة من السنة الصريحة على فتنة القبر حديث أسماء رضي الله عنها وأرضاها (تفتنون في قبوركم قريباً من فتنة الدجال)، تفتنون أي: تسألون، وفسرها حديث النبي صلى الله عليه وسلم الطويل الذي رواه البراء عندما يدفن المرء يولي عنه أصحابه ومن معه ويسمع قرع نعالهم، فإن الملكين يأتيانه فيسألانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيقعدانه فيسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وماذا تقول في النبي الذي بعث فيكم؟).

الناجون من فتنة القبر

الناجون من فتنة القبر ففتنة القبر تعني السؤال في القبر، والحكمة من هذه الفتنة: اختبار صدق هذا الميت، والحكمة هذه تجعلنا نتكلم عن مسألة مهمة: هل هناك أحد يعفى من هذه الفتنة ومن هذا الاختبار الشديد؟ نقول: الاستثناءات لا تكون إلا بدليل؛ لأنها من الغيبيات، إذاً: نقول: هل هناك أحد يعصمه الله من هذه الفتنة؟ A الذين عصموا من هذه الفتنة هم الشهداء، جعلنا الله جميعاً وإياكم من الشهداء الذين تراق دماؤهم تحت راية شريفة عفيفة كريمة لا تقبل إلا دماً شريفاً عفيفاً كريماً. والشهداء من الخصال التي ميزهم الله عن غيرهم بها أنهم لا يفتنون في قبورهم، فلا يأتي الملك فيسأل الشهيد: من ربك؟ ما دينك؟ ماذا تقول في هذا الرجل؟ وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من ذلك فقال: (كفى ببارقة السيوف فتنة)، فهذه دلالة على أنهم ببارقة السيوف قد باعوا أنفسهم صدقاً لله جل في علاه، فأظهروا صدقهم ببيع النفس رخيصة من أجل إعلاء كلمة الله جل في علاه، فكوفئوا جزاء وفاقاً وأجراً طباقاً أنهم لا يختبرون في قبورهم؛ لأنهم قد بينوا صدقهم في هذه الدنيا فأعقبهم خيراً عميماً وهو عدم السؤال في القبر، اللهم اجعلنا من هؤلاء الأموات. وكذلك لا يتعرض لفتنة القبر من مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعة، وهؤلاء أيضاً من الذين يعدهم الله بالنجاة من عذاب القبر، وكذلك الصادقون. وهناك مسألة مهمة جداً وهي: أن الشهيد لا يسأل لأنه قد أظهر صدقه، وكذلك الصديق لا يسأل في قبره؛ لأنه أعلى درجة من الشهيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين فضل الشهادة؛ لأنه قد أظهر صدقه لله وباع نفسه رخيصة، والصديق: هو الذي ما أتاه أمر من أوامر الله أو أمر من أوامر النبي صلى الله عليه وسلم إلا وصدق به، فهو المقدم في أن يؤمن الفتنة ولا يسأل في قبره، نظراً للحكمة. فالحكمة في سؤال المرء الذي يختبر هو اختبار الصدق، والشهيد قد بين صدقه، فمن باب أولى ألا يسأل الصديق؛ لأنه قد أظهر صدقه في هذه الدنيا، فقياسها قياس أولى وجلي، والأسلم والأحوط أن نبقى مع الأدلة، وندور معها حيث دارت، فنقول: أبو بكر الصديق على العموم يمكن أن يسأل في القبر مع أنه صديق هذه الأمة؛ لعموم الأدلة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لما استثنى الشهيد لم يستثن الصديق، فالصحيح الراجح: أن نقف عند الأدلة، إذاً: فتنة القبر يسلم منها ستة أعلاهم أو سيدهم هو الشهيد.

نعيم القبر وعذابه وثبوتهما بالكتاب والسنة والعقل

نعيم القبر وعذابه وثبوتهما بالكتاب والسنة والعقل بالنسبة لعذاب القبر ونعيمه قد ثبت بالكتاب وبالسنة وبالعقل، أما بالكتاب فآيات كثيرات: منها قول الله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى} [السجدة:21] وهو عذاب القبر، وهذا الذي فسره كثير من المفسرين، قالوا: العذاب الأدنى هو عذاب القبر، والعذاب الأكبر هو عذاب يوم القيامة. أيضاً من الأدلة من القرآن على عذاب القبر قول الله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [غافر:46]، أي: النار يعرضون عليها في القبر ليل نهار، غدواً وعشياً، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]. ومن الأحاديث الصريحة في ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم الطويل الذي رواه البراء وفيه أن الملك يسأل الميت فإذا قال: هاه هاه لا أدري، قلت مثلما قال الناس، فيقال له: لا دريت ولا تليت، وفي بعض الروايات قال: (فيضرب بمطرقة يسمعها كل مخلوق إلا الثقلين)، وهذه دلالة على عذاب القبر. وأيضاً ما ورد في قصة ابن عمر في مسند أحمد -وقد تقدم ذكر القصة- أنه بات ليلة فسمع رجلاً من الأموات يصرخ من عذاب القبر فلما سمع ابن عمر ذلك فزع، فذهب فقص على النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سفر الإنسان وحده، إذ كان هذا العاتي يتبول ولا يستنزه من بوله، وأيضاً جاءه رجل يريد أن يشرب فقال: اذهب إلى هذه الشن المعلقة، وكان تحتها بئر فذهب ليشرب فوقع الرجل فمات، فلما مات عذب في قبره بهذه المصيبة وبهذه الجناية والجناية الأخرى وهي البول، فكان يصرخ صراخاً شديداً في الليل فيقول: شن وما شن؟ بول وما بول؟ أي أنه عذب بذلك، وهذا أيضاً فيه دلالة واضحة على عذاب القبر ونعيمه، وأصح من ذلك ما جاء أن المؤمن يقال له بعد Q ( أن صدق عبدي فافرشوا له من الجنة وألبسوه من لباس الجنة، فيأتيه من طيبها وريحها)، اللهم اجعلنا كذلك يا رب العالمين، وأما الفاسق والعياذ بالله فإنه يقال: (أن كذب عبدي فألبسوه من النار، ويفتح له باب من النار، فيأتيه من سمومها وحرها)، والعياذ بالله! ومن الأدلة على عذاب القبر: (مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبي، فأما الأول فكان يمشي بين الناس الناس بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله، وأيضاً حديث: (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر)، لأنكم ستفزعون ولا تدفنوا موتاكم بعد ذلك، وهذا أيضاً فيه دلالة من السنة الصريحة على عذاب القبر، وويل ثم ويل لمن أنكر عذاب القبر ونعيمه، فقد ورد في الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من أربع، منها: عذاب القبر). ومن الأدلة على عذاب القبر ونعيمه حديث المعراج حينما صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء، ورأى الفظاعة كلها، ورأى أعاجيب، أما الأول فكان يضرب بالحجر حتى يشق جسده، والآخر بالكلاليب على فمه، ومنهم من كان يسبح في نهر من الدماء ورجل واقف على النهر كلما اقترب فغر فاه فألقمه حجراً فيرجع كما كان، ورأى تنوراً فيه النساء والرجال الزناة يضجون، وأصواتهم عالية، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستوقف جبريل، فيقول جبريل: هذا آكل الربا، وهذا الذي كان يمشي بين الناس بالنميمة، وهذه التي كانت تفعل الفاحشة، فهذه دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى هؤلاء في عذاب القبر، وفيه دلالة واضحة على أن القبر له عذاب وله نعيم.

هل عذاب القبر ونعيمه على الروح أم على الجسد أم عليهما

هل عذاب القبر ونعيمه على الروح أم على الجسد أم عليهما تتعلق بالقبر مسألة ثالثة وهي: عذاب القبر ونعيمه هل هو على الروح أم على الجسد؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه على الروح فقط. القول الثاني: أنه على الجسد فقط. القول الثالث: أنه على الروح وعلى الجسد، أما الذين قالوا: إنه على الروح فقط فمنهم ابن حزم، وابن حزم ليس من أهل السنة والجماعة في باب العقيدة، ففي عقيدته كلام، وهو من أساطين أهل العلم، يغفر الله له ذلك، فيرى أن العذاب والنعيم يكون على الروح فقط، ومنهم من يرى أن العذاب يكون على الجسد في أول ما يدخل وانتهى الأمر. والصحيح في ذلك ما قرره شيخ الإسلام وهو منهج أهل السنة والجماعة: أن العذاب والنعيم يكون على الروح وعلى البدن، يكون على الروح تارة وعلى البدن تارة، لكن الأصل: أن يكون العذاب والنعيم على الروح لا على الجسد، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر معلقة في قناديل على العرش يسرحون أو يأوون إلى أشجار الجنة). وأيضاً أرواح المؤمنين تعلق بذلك. فالأصل في النعيم أن يكون على الروح، والأصل في العذاب أن يكون على الروح، وتارة يكون على الروح والبدن، فهو تارة يكون على الروح وتارة على البدن وتارة على الروح والبدن معاً، أما الدليل على وقوعه على الروح والبدن معاً ما جاء أن الكافر عندما ينزل إلى قبره ويسأل فيضرب بالمطرقة فيكون هذا على الروح وعلى البدن؛ لأن الله يرجع إليه الروح حتى يقعد ويجيب عن أسئلة الملكين، ويكون على الروح كما جاء في حديث الشهداء، ويكون على البدن ومنه السموم وغيره الذي يأتي البدن في القبر. إذاً: العذاب يكون على الروح تارة، وعلى البدن تارة، ويكون على الروح مع البدن تارة، والأصل: أن العذاب والنعيم يكون على الروح دون البدن، فيكون العذاب على الروح والبدن عارضاً وليس أصلياً، وبهذا نهاية الكلام على عذاب القبر. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تابع فصل في السمعيات

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - تابع فصل في السمعيات القبر أول منازل الآخرة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده يأتي النفخ في الصور، ثم الصعق، ثم البعث والنشور، ثم الحساب والقضاء بين العباد، وأول ما يقضى فيه بين العباد هو الدماء، وفي الحساب توزن الأعمال، ثم تتطاير الصحف، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله نسأل الله السلامة والنجاة.

إنكار بعض أهل البدع لعذاب القبر ونعيمه

إنكار بعض أهل البدع لعذاب القبر ونعيمه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فقد انتهينا من الكلام عن عذاب القبر، وبينا أن عذاب القبر واقع لا محالة ولا مرد له، وأنه ثابت بالكتاب والسنة، وبينا أن العلماء اختلفوا في عذاب القبر: هل يقع على الروح، أم على الجسد، أم على البدن والروح معاً؟ وبينا أن الراجح: أن العذاب والنعيم يقعان على الروح في الأصل، وتارة يكون على البدن وحده، وتارة على الروح والبدن.

أدلة القائلين بنفي عذاب القبر ونعيمه والرد عليهم

أدلة القائلين بنفي عذاب القبر ونعيمه والرد عليهم وقد قال بعض أهل البدع بنفي العذاب والنعيم في القبر، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، منها: قول الله تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} [غافر:11] قالوا: فلو قلتم بوجود عذاب القبر لخالفتم ظاهر الآية، وقالوا أيضاً: إن عندنا من النظر ما يرد هذا العذاب وهذا النعيم الذي تزعمونه، وهذا كما يحدث في كثير من المسلسلات التي يتجرءون فيها على مسائل عذاب القبر ونعيمه، بل يتغنون بالانتقاد على الإخوة الذين يحذرون من عذاب القبر أو يبشرون بنعيم القبر، والكثير من الذين أنكروا عذاب القبر ونعيمه يتعلقون بحجج واهية، ولكن لا بد من متقن يبين كيفية ضعف هذه الأدلة. فقالوا في الدليل الثاني: وكيف يسأل أو يعذب أو ينعم من أكلته السباع أو الكلاب ولم يدخل القبر أصلاً؟ وقالوا أيضاً: إننا نجلس بجانب القبر ونمكث مدة طويلةً لنسمع العذاب أو النعيم أو السؤال فلا نسمع شيئاً، وإذا كانت القبور بين منعم ومعذب أفلا يصيب عذاب الفاجر المؤمن فيكدر نعيمه وهناءه؟ فهذه شبه يطرحونها على مثبتي عذاب القبر ونعيمه، وسيكون الرد عليها في نهاية الدرس بمشيئة الله تبارك وتعالى.

النفخ في الصور وأقسامه

النفخ في الصور وأقسامه وسنتكلم اليوم عن اللحظات الحرجة التي يمر بها الإنسان بعد دخوله القبر، فبعد أن يدخل صاحب القبر في قبره، ويدخل الكثير من الناس إلى مقتبل الآخرة، فإن الله جل في علاه لا يبقي في هذه الدنيا إلا شرار الخلق، كما جاء في الحديث: (فلا يبقى في الأرض من يقول: الله الله!) فحينئذ يأمر الله جل في علاه إسرافيل وهو ملك من الملائكة المقربين الذي التقم القرن، والقرن: هو الصور العظيم الذي ينفخ فيه الملك فيصعق من في السماوات ومن في الأرض ويموت الجميع، فإن الله يأمر إسرافيل فينفخ في الصور نفخة واحدة يصعق منها كل إنسان. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وانتظر أن يؤذن له فينفخ في الصور)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى كل الخشية على أمته؛ لأن النفخ في الصور ليس بالهين، فهو يؤذن برحيل الدنيا والإقبال على الله جل في علاه للحساب وما فيه من الأيام العصيبة. وفي هذا دلالة على عظم خلق إسرافيل عليه السلام وقوته؛ ففي صيحة واحدة يهلك من في السماوات ومن في الأرض، وفي نفخة أخرى يخرج الناس من قبورهم أحياء إلى ربهم. وهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، أما بالكتاب: فقد قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] وهذه النفخة هي نفخة الصعق؛ ولذلك استثنى سبحانه فيها، فقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. وأيضاً قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51]، وبعد أن يميت الله الخلق بهذه النفخة فإنه يأمر السماء أن تمطر مطراً كالطل، أي: كالمني، فتمطر مطراً كالطل وقد بليت الأجساد وبقي منها عجب الذنب فقط، فإذا نزل المطر نبتت الأجساد كما كانت -ويكون هذا المطر قبل النفخة الثانية- فإذا نفخ إسرافيل النفخة الثانية إذا هم قيام إلى ربهم ينظرون، وهذا من الكتاب. أما من السنة: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ إسرافيل في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً) أي: يرفع عنقه ليسمع ثم يصعق فيموت، قال: (فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً) ثم لا يبقى أحد إلا صعق، ثم ينزل الله مطراً كأنه الطل، فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا قيام ينظرون. إذاً: النفخ مرتان فقط، وهو هذا الراجح الصحيح، وإن كان شيخ الإسلام ابن تيمية قد رجح أن النفخ في الصور ثلاث نفخات، والصحيح أنهما نفختان لظاهر الكتاب والسنة، فنفخة يصعق بها من في السماوات والأرض أموات غير أحياء، ثم النفخة الأخرى بعد أن يأمر الله السماء فتمطر هذا المطر فإذا هم قيام إلى ربهم ينظرون، ثم يبعثهم الله جميعاً، وهذا البعث ثابت أيضاً بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة.

البعث والنشور

البعث والنشور البعث لغة: هو الإرسال والنشر. وشرعاً: هو إحياء الموتى يوم القيامة، فسيبعث الله جل وعلا الخلائق رداً على هؤلاء المكذبين لهذه الحقيقة التي لا محيد عنها، والويل كل الويل لمن يعلم أنه سيقف أمام ربه فيسأله عن كل صغيرة وكبيرة، دقيقة وجليلة، ويسأله عن ماله ونفسه، وعن ولده وزوجه وعن أبيه وأمه، وعن كل شيء حتى نفسه، وقد قال أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه متعجباً: ثلاث أضحكتني حتى أبكتني وذكر منها: وضاحك ملء فيه والموت يطلبه، فهل للإنسان أن يضحك ملء فيه وهو يعلم أنه سيبعث، وأنه سيقف أمام ربه، وأنه سيحاسب على كل صغيرة وكبيرة؟ فنسأل الله أن يجعلنا نعتقد هذا الاعتقاد الجازم ونعمل به وله؛ لأنه على الإنسان أن يتهيأ لهذا الموقف العظيم. والبعث ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب: فقد قال الله تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7]، فلا بد من البعث والنشور، وقال الله جل في علاه: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50]. وأما السنة: ففي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر الله الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرص نقي ليس فيها علم لأحد). أما من الإجماع: فقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن الله يعيد الخلق كما بدأه، وأن الله يجمع الخلائق يوم القيامة، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا جميعاً لله جل في علاه كرجل واحد. أما صفة الخروج والبعث: فإن الله جل في علاه يرد الخلق كما بدأهم، أي: كما كانوا في بطون أمهاتهم، فإن الله يخرجهم بعثاً جديداً على هذه الهيئة، كما بين الله جل في علاه فقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، ونستنبط من هذه الآية فائدة مهمة: وهي إثبات البعث بالقياس؛ فإن الله تعالى يقيس في هذه الآية الإعادة على الابتداء، ويسمى هذا القياس: قياساً جلياً من باب الأولى؛ لأن الإعادة أهون على الله من الابتداء، فكما أن الله جل في علاه خلق الإنسان من عدم فسيعيده بعثاً يوم القيامة وهو أهون عليه، وأنت في حياتك الواقعية قد ترى النجار يصنع من الخشب مكتبة للكتب، فإذا تكسرت المكتبة أو تعثرت سهل على النجار إعادة إصلاحها؛ لأن الإعادة أهون عليه من ابتداء صنعها، ولله المثل الأعلى، فالله تبارك وتعالى يبين لنا ذلك بقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]. ويستنبط من هذه الآية العظيمة أيضاً: أن الإنسان سيبعث كما ولد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مفسراً لنا إجمال هذه الآية: (يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً) يعني: غير مختونين، فإن الجلدة التي تبعد في الختان تعود كما كانت عليه وهو أيسر على الله جل في علاه.

الحساب

الحساب وهذا الحشر طريقه إلى الموقف العظيم ألا وهو الحساب، فإن الله يبعث الناس يوم القيامة ويحشرهم للحساب؛ ولذلك يقول الحافظ ابن كثير: إن الفقيه الأريب من يعلم أن الله جل وعلا عندما يترك الناس يتصارعون، فمنهم الظالم، ومنهم المظلوم، ومنهم السارق، ومنهم المسروق، ثم يموت المظلوم والمسروق والظالم والسارق دون أن يؤخذ حقهما، فإنه يعلم علم اليقين أن ثمة يوماً آخر وهو يوم القيامة للإنصاف والأخذ بحق المظلوم والمسروق وغيرهما؛ لأن الله الحكم العدل لا يتصور منه الظلم أبداً، فلابد أن تؤدى الحقوق إلى أصحابها، وفي هذا دلالة على حقيقة القيامة والمثول بين يدي الجبار جل في علاه، وهذا قياس بديع جداً. إذاً: فلابد من البعث والنشور، ولابد من الحساب بعدهما، فسيحاسب كل امرئ على عمله، على الكلمة، على الضحكة، على النفقة، على كل شيء، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (لن تزول قدما عبد من أمام الله جل في علاه حتى يسأل عن أربع: عن ماله كيف اكتسبه وفيما أنفقه، وعن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به)، فلن تزول قدم عبد حتى يسأل عن هذه الأربع. وقد تكفل الله جل في علاه بعد البعث بالحساب، وليس لأحد دونه إلا البلاغ فقط، كما قال الله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54] وقال: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40]، وقال جل في علاه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26] فالحساب على الله جل في علاه وهو الحكم العدل.

كيفية الحساب

كيفية الحساب وهذا الحساب الثابت في الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة له أمور عديدة: الأمر الأول: كيفية محاسبة الله تعالى للخلق؛ فأقول: إن محاسبة الخلق أجمعين تكون كمحاسبة الرجل الواحد، وقد اندهش الصحابة لذلك وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فبين لهم وقال: (إنكم كما تسمعون صوته كرجل فسيحاسبكم كرجل واحد)، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فصله بقوله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فيذكره ويقول: عبدي! تذكر ذنب كذا يوم كذا، تذكر فعل كذا يوم كذا) والعبد يقر ولا يستطيع أن يرد على الله جل في علاه ولا أن يكذب؛ لأن الله جل في علاه يختم على الفم فتنطق الأيدي والأرجل بما كسبت، قال: (فينظر أيمن منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر بين عينيه فلا يرى إلا النار، فيظن أنه قد هلك، فيأتي الله جل في علاه للمؤمن الذي زل فيقول: عبدي! أنا قد سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم). ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو ويقول: (اللهم حاسبني حساباً يسيراً) فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحساب اليسير قال: (ينظر الله جل في علاه في الكتاب فيتجاوز عنك)، فيغفر لك الله جل وعلا هذه الزلات كما سترها عليك في الدنيا، اللهم استر علينا في الدنيا، واغفر لنا في الآخرة. إذاً: فالحساب حسابان: حساب يسير وحساب عسير، أما الحساب اليسير: فهو على المؤمنين بأن ينظر الله جل في علاه في كتب المؤمنين ثم يغفر لهم زلاتهم. أما لحساب العسير والعياذ بالله: فهي المناقشة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (من نوقش الحساب عذب)، فالمناقشة: أن يناقشه الله جل في علاه على كل نعمة أنعمها عليه، كنعمة العين ونعمة اليد واللسان والبدن والمال والأهل والولد، فيحاسبه الله على كل نعمة حساباً دقيقاً، ويحاسبه أيضاً على أوقاته وأعماله وعلى كل شيء فعله في هذه الدنيا، فتخبره الأيدي والأرجل، وتطيش الصحائف، فكل إنسان ألزمه الله طائره في عنقه فهو رقيب وحسيب على نفسه، فإذا ناقشه الله الحساب علم يقيناً أنه من أهل النار، نعوذ بالله من ذلك. أما الأمر الثالث الذي يتعلق بمسألة الحساب: فهو أن أول من يحاسب من الأمم هي هذه الأمة العظيمة التي شرفها الله جل في علاه؛ قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وهذه الخيرية عامة في الدنيا والآخرة، أما الخيرية في الدنيا: فالقيادة والريادة والسيادة إن تمسكت بهذا الدين، وأما الخيرية في الآخرة: فهي أول الأمم قضاءً بينهم، وهي أول من يحاسب تشريفاً وتعظيماً وتكريماً لهذه الأمة كما كرم الله وشرف وعظم نبيها بالمقام المحمود، وقد بينا أن لهذه الأمة ثلاث أولويات: أولها: أنها أول أمة تحاسب، كما بينا. ثانيها: أنها أول أمة تعبر الصراط، وما من نبي إلا ويقول عندها: اللهم سلم سلم. الثالثة: أنها أول أمة تدخل الجنة؛ تشريفاً وتعظيماً وتكريماً من الله جل وعلا لهذه الأمة، فهي أول من يحاسب، وأول من يمر على الصراط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وأمتي أول من يمر على الصراط)، وأول من يدخل الجنة. وأول حساب يحاسبه المرء: هو القضاء في الحقوق، والحقوق قسمات: حقوق لله وحقوق للعباد، أما حقوق الله: فالصلاة، وهي أول هذه الحقوق بعد التوحيد؛ لأننا نتكلم عن المسلمين، وهي أول ما يحاسب عليه المرء كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (إذا صلحت صلحت سائر الأعمال، إذا فسدت فسدت سائر الأعمال).

أول ما يقضى بين العباد

أول ما يقضى بين العباد وأول شيء يحاسب عليه المرء في حقوق العباد: هي الخصومات والدماء، فإذا تجاوز المرء الحساب وكان حسابه يسيراً وقد كتب الله له الجنة فإنه يقف على الصراط، ولا يعبر ولا يمر حتى يقضي الله جل في علاه في الخصومات في هذا المكان والمحل، فكل إنسان له مظلمة عند أخيه حتى الدرهم والدينار فلا بد من القصاص حتى يرى منزله من الجنة أو من النار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له عند أخيه مظلمة فليتحلل؛ فإنه ليس ثمة درهم ولا دينار إنما الحسنات والسيئات)، فيقف الخصم مع خصمه على الصراط ولا يمرا حتى ينظفا من هذه البلايا، فيقضي الله جل في علاه بين هؤلاء المتخاصمين سواء في الدماء، أو في الأموال أو غيرها، لكن أول شيء يقضى فيه بين العباد: هو الدماء. ولذلك جاء في مسند أحمد عن عائشة بسند صحيح قالت: لله ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفره أبداً، وديوان لا يتركه أبداً، وديوان هو في المشيئة، وإذا كان في المشيئة فهو إلى المغفرة أقرب إليه من العقاب؛ لأن الله جل وعلا اتصف بالمغفرة والرحمة. قالت: فالديوان الذي لا يغفره الله أبداً: هو ديوان الشرك، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. والديوان الذي لا يتركه الله أبداً: هو ديوان المظالم الذي هو حقوق العباد؛ ولذلك لا يعبر أحد الصراط حتى يقتص منه، فعلى كل إنسان له مظلمة عند أخيه أن يتحلل؛ لأن يوم القيامة ليس ثمة درهم ولا دينار كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة ذات يوم فقال: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: من لا درهم له ولا دينار، فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بحسنات كالجبال، فيجيء وقد سب هذا، وشتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا لم تبق له حسنة واحدة أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) نعوذ بالله من ذلك، فمن كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلل، فإما أن تستسمحه، وإما أن يتنازل عن حقه، فعلى المؤمن أن يتحلل من أخيه بأية وسيلة؛ فعند الله تجتمع الخصوم ويقضى بين العباد.

وزن الأعمال

وزن الأعمال ثم لابد بعد الحساب من زنة الأعمال، فإذا حاسب الله جل وعلا الناس فإن هذه الأعمال بعد المحاسبة توزن بكفة حقيقية، فكفة تكون للحسنات، وكفة تكون للسيئات، فتمام الحساب أن توزن الأعمال أو يوزن العاملون كما سنبين. قال الله تعالى مبيناً لنا حقيقة الميزان يوم القيامة: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] وقال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:6 - 8]، فذكر الموازين. وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه يرفعه قال: (أثقل ما يكون في ميزان العبد بعد تقوى الله حسن الخلق)، فحسن الخلق هو أثقل ما يكون في ميزان العبد، والشاهد من الحديث قال: (في ميزان العبد) فهو إثبات لوجود الميزان. كذلك حديث البطاقة الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف توضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة أخرى، ففيه دلالة على الميزان أيضاً. وقد أجمع أهل السنة والجماعة على حقيقة الميزان، وأن الله جل في علاه سيزن أعمال العباد فيه.

حقيقة ما يوزن يوم القيامة

حقيقة ما يوزن يوم القيامة وقد اختلف العلماء في حقيقة الموزون: فهل توزن الأعمال أم العباد الذين يعملون هذه الأعمال، أم هي الصحائف التي توزن؟ وهذا الخلاف منبثق عن أدلة جاءت بإثبات كل هذه الأنواع؛ أما الأدلة على وزن الصحائف: فحديث البطاقة، قال: (فتوضع سجلات بالسيئات في كفة، وسجلات الحسنات في كفة، ثم يرى المرء بأنه قد هلك؛ لأن السجلات بالسيئات قد رجحت فيقال له: لك عندنا شيء، فيقول: وما هذا الشيء؟ فيقال: هذه البطاقة، فيقول: وما تنفع هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: لا ظلم اليوم، فيأخذ البطاقة والبطاقة مكتوب فيها: لا إله إلا الله) لكن مدار هذه البشارات على القلوب؛ لأن كثيراً من الناس يقولون: لا إله إلا الله وليست لهم هذه الحظوة، وليست لهم هذه البشارة من ثقل بطاقة لا إله إلا الله، (فيضع البطاقة على كفة الحسنات فترجح كفة الحسنات) ففيه دلالة على وزن الصحائف. أما الذين قالوا بوزن العامل نفسه فقد استدلوا بأحاديث كثيرة منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)، لضآلة مقداره عند الله جل في علاه، ففيه دلالة على أن الموزون هو العامل نفسه، واستدلوا كذلك بقصة: ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه عندما تسلق الشجرة فنظر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحكوا من دقة ساقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (علام تضحكون؟ قالوا: على دقة ساق ابن مسعود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنهما كجبل أحد في الميزان يوم القيامة)، ففيه دلالة كذلك على أن الموزون هو العامل نفسه. وأما الذين قالوا بوزن العمل فقط فقد استدلوا بأحاديث كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان)، وهذا وجه الشاهد؛ فقد بين أن هذه الكلمة: (سبحان الله وبحمده) ثقيلة في الميزان؛ فدل ذلك على الموزون هي الأعمال ذاتها. والصحيح الراجح في ذلك: هو الجمع بين هذه الأقوال، فنقول: إن المرء سيوزن؛ تقديراً وتعظيماً وتشريفاً للمؤمن؛ ليبين الله كرامة المؤمن عليه، ويبين أيضاً حقارة المنافق الفاسق الفاجر عليه. أما بالنسبة للأعمال والصحائف فإننا نقول جمعاً بين هذه الروايات: إن الصحائف ستوزن، فإذا وزنت الصحائف فمن باب أولى أن توزن الأعمال؛ لأن الصحائف تتضمن أعمال العباد. إذاً: الراجح: أن المرء يوزن وكذلك الصحائف المتضمنة للأعمال والله أعلم.

تطاير الصحف

تطاير الصحف ثم لابد بعد أن يرى السعيد سعادته بتثقيل الله سبحانه لميزان حسناته ينشر الله الدواوين والكتب، فينادى على أهل اليمين فيأخذون الكتب باليمين، وينادى على أهل الشمال -والعياذ بالله- فيأخذون الكتب بالشمال، وترى الفرحة والسرور والبهجة على أهل اليمين، وترى الويل والثبور على أهل الشمال، فيقول قائل أهل اليمين: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20]، اللهم اجعلنا ممن يأخذ كتابه بيمينه، قال تعالى: {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:9]، أما الآخر والعياذ بالله فيقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25 - 26]، وهذا الذي ينقلب بالويل والثبور فيأخذ كتابه بشماله، نعوذ بالله أن نكون منهم. وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها -وقد ذكره الشارح على ضعف فيه لكنه يستأنس به- قالت: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل تذكرون أهليكم؟ قال: أما في ثلاث مواطن فلا يذكر أحد أحداً: عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل؟ وعند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه: في يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره؟ وعند الصراط إذا وضع بين ظهراني جهنم حتى يجاوز). ولذلك قال بعض السلف: ما من امرأة إلا وتقول لوليدها: أي بني! ألم تكن لك بطني وعاء؟ ألم يكن لك حجري غطاء؟ ألم يكن لك ثديي سقاء؟! أي بني! أحتاج إلى حسنة واحدة، فيقول: أي أماه! إليك عني فإني أحتاج إليها هذا اليوم، أو يقول: إني لها أحوج، وهذا مصداق لقول الله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:34 - 35] نعوذ بالله من الخذلان.

حوض النبي صلى الله عليه وسلم

حوض النبي صلى الله عليه وسلم ثم يذهب أهل السعادة والشقاوة بعدها إلى حوض النبي صلى الله عليه وسلم بسبب العطش الذي أصابهم، وقد اختلف العلماء في الترتيب بين الحوض والصراط: أيهما قبل الآخر؟ والغرض المقصود: هو الإيمان بالغيبيات؛ لأن هذا هو محل التفريق بين العباد؛ لأن الله جل وعلا أناط الخير والفلاح بالإيمان بالغيب فقال: (الم) [البقرة:1] إلى أن قال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3] ثم قال بعدها: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5]، فأناط الله الفلاح بالإيمان بالغيب. وتمام الإيمان بالغيب رداً على المعتزلة: الإيمان بحوض النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الحوض العظيم الذي اختص الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، وإن كان لكل نبي حوض، لكن هذا الحوض له من الخصوصية والكرامة والعظمة والبهاء والجمال والحلاوة، فإذا نظرت إلى حوض النبي صلى الله عليه وسلم فستجد أن زواياه متساوية، فطوله شهر وعرضه شهر، فكأن حوض النبي صلى الله عليه وسلم بشكل مربع، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يشرب منه، فيحصل بذلك العدل والتساوي حتى في الشرب والوقوف، فلا يحجب أحد عن رؤيته دون أحد؛ لأنه مربع متساوي الأضلاع. أما بالنسبة لكيزان وأكواب الحوض فهي كالنجوم عدداً، وعدد النجوم لا يحصى، وهي أيضاً كالنجوم بهاءً وعظمةً وتلألؤاً، فإذا سألت عن طعم الماء فهو أحلى من العسل، وإن سألت عن لون الماء فهو أبيض من اللبن، سقانا الله وإياكم من هذا الحوض الشريف شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً. وماء هذا الحوض العظيم الذي اختص الله به نبيه يصب من نهر منحه الله لنبيه في الجنة اسمه: نهر الكوثر، قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:1 - 2]، فعندما يصب نهر الكوثر فإنه يجتمع في حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنا فرطكم على الحوض). فإن قيل: أين حوض النبي صلى الله عليه وسلم؟ ف A أن هناك حديثين يثبتان مكان المرور بحوض النبي صلى الله عليه وسلم، فأول مكان: هو منبره صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي) وتفسير هذا نرجئه لكلام العلماء في ذلك، فما من منكر لأمر ثبت في السنة إلا وكان عقابه أن يصد عن هذه السنة، وهذا كالمعتزلة الذين قالوا بإنكار الحوض فسيعطشون يوم القيامة بمشيئة الله؛ لمخالفتهم هذه السنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني أذود على حوضي) يعني: يبعد الناس عن حوضه، قال: (وليختلجن أناس من دوني) يعني: من أمام الحوض، قال: (فأقول: رب! أصحابي أصحابي، فيقال: يا محمد! إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك) يعني: ابتدعوا والعياذ بالله، وانظروا إلى البدعة المميتة كيف تفعل بأصحابها، قال: (فأقول: سحقاً سحقاً، بعداً بعداً لمن بدل وغير) فالمحروم شديد اليأس والبؤس بحق هو الذي لا يشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ويرد الأحاديث الصحيحة التي تثبت حوض النبي صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخلاف في الفروع

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - الخلاف في الفروع ينبغي للمتعلم أن يعرف مسائل الإجماع والخلاف، وأن يعرف أنواع الخلاف، فليس كله مذموماً، فخلاف الأفهام والتنوع جائزان، وفيهما رحمة وتوسعة للأمة، وأكثر خلاف أئمة المذاهب هو من النوع الجائز، والواجب الاجتهاد في معرفة الراجح بدليله مع عذر المخالف.

حقيقة الخلاف وأقسامه والواجب فيه

حقيقة الخلاف وأقسامه والواجب فيه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: تكلم المصنف في آخر الكتاب عن مسألة: الخلاف في الفروع، والخلاف في الفروع معناه: عدم الاتفاق في المسألة على حكم واحد، والفروع: جمع فرع، وهو ما بني عليه غيره، والفروع اصطلاحاً: هي المسائل الفقهية التي لا تتعلق بالأصول وهي العقائد، والخلاف خلافان: خلاف تنوع، وخلاف تضاد. فخلاف التنوع: هو الخلاف السائد المعتبر، وهذا الخلاف هو الذي وقع في الأمة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، فقد اختلف الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين في مسائل كثيرة، فالاختلاف السائغ المعتبر: هو الاختلاف الذي ينبني على الدليل، بأن يكون لكل امرئ في هذا الخلاف دليل، فيسمى هذا الخلاف: خلاف تنوع، والواجب علينا تجاهه ألا ننكر على المخالف بل نناصحه، ونبين له الراجح من المرجوح، فإن أبى ذلك فقد بينا له الحق بالدليل، فإن أخذ به فلنفسه وإن لم يأخذ به فعليها، وهذا هو الأدب في التعامل مع المخالف خلافاً معتبراً. أما الخلاف غير المعتبر فهو خلاف التضاد: وهو الخلاف الذي لا ينبني على دليل، بل ينبني على الهوى والتعصب، كأن يخالف حنفي شافعياً من أجل أن أبا حنيفة قد تكلم في مسألة بكذا ولم يعلم لها دليلاً، أو أن الشافعي يفعل ذلك مع الحنبلي، أو الحنبلي مع المالكي، فهذا خلاف منبعه الهوى والتعصب، وهذا هو المذموم عند الله جل في علاه، وعند رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: المسألة الأولى من مسائل الخلاف: هي أنواع الخلاف، وقلنا: إن الخلاف المعتبر هو خلاف التنوع، وتجب في هذا النوع المناصحة بلا إنكار، كما فعل أحمد بن حنبل مع الشافعي عندما قال له الشافعي: يا أحمد! ماذا تقول فيمن ترك الصلاة؟ قال: كافر، قال: فهل خرج من الملة؟! قال: خرج من الملة، قال: فكيف يدخل في الملة مرة ثانية؟ فقال له: يقول: لا إله إلا الله، فقال الإمام الشافعي: فماذا تقول إن كان يقول لا إله إلا الله؟ فأخذ أحمد بن حنبل نعله ورحل؛ لأن النقاش الآن لم يأخذ طريقه، فكل منهما يرى أن الصواب معه، فصار من الأدب إغلاق باب النقاش لا سيما وأن الشافعي كان مناظراً بارعاً؛ وقد كان من الممكن لـ أحمد أو لغير أحمد أن يرد ويقول: يكون دخوله من الباب الذي خرج منه، فإن خرج بسبب الصلاة كان دخوله من باب الصلاة، وهو الراجح. والغرض المقصود كما قال الشافعي أن الخلاف لا يفسد للود قضية، لكن المسألة تحتاج إلى المناصحة والمناظرة لبيان الراجح والمرجوح. أما خلاف التضاد: فهو خلاف غير معتبر، وهذا الخلاف ينبني على التعصب والهوى، ولابد في هذا من الإنكار وبشدة حتى يظهر الحق ويموت الباطل. أما المسألة الثانية التي تتعلق بمسألة الخلاف: فهل يعتبر اختلاف التنوع المنطلق من الدليل رحمة للأمة أم هو نقمة؟ ف A أنه ليس برحمة، أما الذين يتعلقون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خلاف أمتي رحمة)، فهذا حديث موضوع ليس بصحيح، فليس الخلاف رحمة بحال من الأحوال، لكن الرحمة موجودة في الخلاف المعتبر؛ لأن هذا الخلاف إن كان ينبني على الأدلة فلكل مجتهد نصيب وأجر، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد؛ لأن كلاً منهم قد أصاب الخير عند ربه في الخلاف المعتبر، لكنه ليس برحمة؛ لأن هناك راجحاً ومرجوحاً، أما أن تقول: إن الخلاف رحمة، وإن للإنسان أن يتخير بين قولي العلماء فيأخذ بأي القولين أحب فهذا باطل، بل هو فتح لباب الزندقة، وهو فتح لتضييع الدين، فكلما صادفته فتوى لعالم من العلماء تطابق هواه أخذ بها، فهو يتنقل بين فتاوي العلماء اتباعاً لهواه من دون الله جل في علاه، ولم يتبع التأصيل العلمي الصحيح من الكتاب أو السنة، فهو شر كله وليس برحمة. إذاً: الرحمة في الاختلاف: هي أن لكل مجتهد نصيباً من الأجر، حتى إن المقلد لو اجتهد في إيجاد المفتي الذي يستفتيه، وعلم أنه بمكان من الدين والورع والعلم فأخذ عنه، فإن له نصيباً من الأجر حتى وإن أخطأ العالم نفسه؛ لأنه اجتهد طاقته، والله جل في علاه يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].

الحق حقيقة واحدة لا تتعدد عند الله تعالى

الحق حقيقة واحدة لا تتعدد عند الله تعالى الأمر الثالث: هل الكل مصيب في هذا الاختلاف، أم أن هناك مصيباً ومخطئاً؟ يعني: لو قال الشافعي مثلاً: إن الصلاة في المسجد الذي فيه قبر صحيحة مع الإثم، وقال أحمد: باطلة مع الإثم، فهل نقول بأن الاثنين قد أصابا الحق؟ ثم هل الحق متعدد عند الله جل في علاه؟ الصحيح الراجح: أن الحق واحد لا يتعدد، بل يكون الحق الراجح مع أحدهم والخطأ المرجوح مع الآخر، فالحق عند الله واحد لا يتعدد، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32]، وهذه الآية صريحة جداً في أن الحق واحد، فنحن نقول بالراجح والمرجوح طلباً لإصابة الحق عند الله سبحانه جل في علاه. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر) إشارة إلى أن الحق واحد.

أدلة القائلين بتعدد الحق والرد عليها

أدلة القائلين بتعدد الحق والرد عليها استدل القائلون بتعدد الحق بقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة)، فانقسموا إلى فريقين: فقال قوم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ليحثنا على الإسراع، فوالله لا نمر حتى نصلي العصر، فنزلوا في الطريق وصلوا، أما الآخرون فلم يصلوا وذهبوا إلى بني قريظة ثم صلوا العصر هناك، ثم ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يخطئ واحداً منهما، والإجابة على هذا الإشكال من وجهين: الوجه الأول: أن نقول: إنهما على الحق، ولا يعد هذا خلافاً؛ لأن الأوائل صلوا في بني قريظة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى الآخرون في الطريق عملاً بقول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفهم، وإقراره صلى الله عليه وسلم وحي من الله بأنهما على الحق، فنقول إذاً: هما على حق؛ لأن الوحي قد نزل بذلك، وهذه من الحالات الخاصة التي نزل الوحي بإظهارها. الوجه الثاني: أن يقال: ليس كلاهما على حق؛ بل كان الفريق الأول على حق والفريق الآخر مخطئ، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد أقر اجتهادهما فقط؛ لأن هذا مجال الاجتهاد، والنبي صلى الله عليه وسلم أباح الاجتهاد ولم يمنعه، والله جل في علاه شرع باب الاجتهاد بآية عظيمة فقال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، فهنا أقر النبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد ولم يقر الواقعة بأنهما على الحق. إذاً: فهذا الاجتهاد يرفع من وجهين كما بينا: الوجه الأول: أن الوحي قد جاء للنبي صلى الله عليه وسلم أن هذا حق وهذا حق، ونحن نتبع الوحي وندور معه حيث دار. أو نقول بالوجه الثاني وهو أوجه: أن إقرار النبي لهما ليس إقراراً على قرارهما ولكنه إقرار على اجتهادهما.

الإجماع: ضابطه وإمكانية وقوعه

الإجماع: ضابطه وإمكانية وقوعه ننتقل للكلام عن الإجماع وحكمه: فنقول: الإجماع لغة: العقد والاتفاق. واصطلاحاً: اتفاق العلماء المجتهدين من أمة محمد على حكم شرعي بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وهو حجة لا نزاع في ذلك، كما قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، ووجه الدلالة في الآية مأخوذ من مفهوم المخالفة لها: وهو أنكم تأخذون باجتماعكم عند الاجتماع ولا تردوه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة). وأيضاً: قول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115]، ففيها دلالة أيضاً على حجية الإجماع. ومع ذلك فإن الإجماع عزيز جداً، فقليلة هي المسائل التي يكون فيها الإجماع؛ ولذلك فالعلماء يحذرون من إجماعات النووي؛ لأن النووي لا يقصد الإجماع بمفهومه الشامل بل يقصد اتفاق الشافعية فيعتذر له بذلك. كذلك أيضاً: إجماعات ابن عبد البر وابن المنذر، ففيها الخلط الكثير كما قال العلماء، لكنهم اجتهدوا ولهم الأجر عند الله ويشكرون على ذلك؛ ولذلك استقى الإمام أحمد من الشافعي قوله: وما يدريك لعل الناس قد اختلفوا. لذلك فإن الشافعي يقول: إن الإجماع هو إجماع الصحابة؛ لأن من العزيز حصر من بعدهم، فلا يمكن أن تصل إلى إجماع التابعين ومن بعدهم؛ ولذلك كان أحمد بن حنبل بعدها إذا قيل: المسألة إجماع، قال: وما يدريك لعل الناس قد اختلفوا! لأن العلماء مشتتون في جميع الأمصار، فليس من الممكن جمع أقوالهم من المشرق ومن المغرب، لكنه أصبح من الممكن حصر أقوال العلماء المعتبرين في هذا العصر عن طريق النت أو التلفون، أو أنهم يجتمعون في مؤتمر معين على مسألة معينة فعند ذلك يسمى إجماعاً ولا يجوز لنا مخالفته، فلو أجمع العلماء الثلاثة مثلاً ابن باز وابن عثيمين والألباني على مسألة معينة فلا يجوز مخالفتها والله أعلم؛ لأن هؤلاء هم أعلم أهل الأرض الآن بفضل الله سبحانه وتعالى؛ ولأن الأمة بأسرها قد شهدت لهؤلاء الثلاثة بأنهم أتقن العلماء في هذا العصر. وقد كان الألباني أيضاً يعمل بكلام أحمد بن حنبل في عزة الإجماع وندرته عندما قال بحرمة الذهب المحلق، فلا يجوز للمرأة لبس الأسورة أو السلسلة عنده، وقد عارضه العلماء المعاصرون وقالوا: إن في المسألة إجماعاً من الفقهاء الأولين على عدم حرمته، فقال الإمام الألباني متمثلاً بقول أحمد: وما يدريكم لعل الناس قد اختلفوا فلم تطلعوا على اختلافهم، ثم قال: وكيف يجمعون على مسألة قد قال بها أبو هريرة، وقال بها كذا وكذا من الصحابة، ولسنا هنا بصدد الترجيح، فالراجح الحق: هو أن الذهب المحلق حلال، لكنه اعترض على من اعترض عليه بأن الإجماع عزيز.

التقليد وآدابه

التقليد وآدابه ننتقل للكلام عن التقليد والمقلدين، والحقيقة أن المقلد كالأعمى يجر فينجر، فهو في طبقة الهمج الرعاع، كما قال علي بن أبي طالب في تصنيف الناس: عالم رباني، وطالب علم على سبيل النجاة، وهمج رعاع لم يستضيئوا بنور العلم إمعات، فالمقلد مذموم في كل أحواله إلا من رحم الله جل في علاه. والتقليد في اللغة: وضع القلادة في العنق. واصطلاحاً: هو اتباع الغير بلا حجة، بمعنى: أن تأخذ بفتوى العالم من دون حجة عليها، فهو كالببغاء ينادي بفتاوي المشايخ والعلماء فقط، وللمقلد آداب لابد أن يتأدب بها ومنها: أولاً: لا تصح منه المناظرة أو المعارضة أو الاحتجاج، بل لابد له أن يعمل بهذه الفتيا بصمت دون أن يخبر أحداً بها. الأدب الثاني: ألا يرضى لنفسه هذه المذمة وهذا التقليد، بل يجب عليه أن يجلس في مجالس العلم حتى يرفع عن نفسه الجهل، وقد قال الإمام أحمد: أفضل ما يتعبد به المرء هو العلم لرفع الجهل عن نفسه، وكفى بالجهل مذمة أن الجاهل لا يرضى أن يقال عنه: جاهل، فلا بد للمقلد أن يرتقي برفع الجهل عن نفسه. فإن قيل: فهل يجوز للمقلد أن يأخذ بالفتوى ويعمل بها؟ ف A أنه يجوز للمقلد أن يأخذ بالفتوى ويعمل بها عملاً بقول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].

الكلام على المذاهب الأربعة وبيان أقربها للسنة

الكلام على المذاهب الأربعة وبيان أقربها للسنة ثم ختم الباب بالكلام على المذاهب الأربعة المشهورة -وهذه المسألة مهمة جداً- فهل يجوز الخروج بالقول أو الفعل عن المذاهب الأربعة؟ و A أن يقال: إن هذه مسألة عويصة بين العلماء، والراجح: أن الإنسان إذا ظهر له من دليل النبي صلى الله عليه وسلم أمر وجب عليه الأخذ به ويضرب بكلام كل الناس عرض الحائط؛ لأن العلم ما قال الله وقال رسوله. فالمذهب الأول: مذهب الحنفية، وإمامه أبو حنيفة النعمان بن ثابت إمام أهل العراق، ولد سنة 80 هـ وتوفي سنة 150هـ، وقد قال عنه الشافعي بعد أن نظر في كتبه وتعلم من تلاميذه كـ الشيباني وأبي يوسف: الفقهاء عيال على أبي حنيفة؛ وهذا لشدة ذكائه وتوقد ذهنه فقد كان قايساً بديعاً، حتى إن الإمام مالكاً يقول فيه: لو ناظر أبو حنيفة رجلاً على أن هذا العمود من ذهب -وهو من الخشب- لأقنعه أنه من الذهب، لشدة ذكائه وحسن مناظرته، لكن يؤخذ على المذهب الحنفي أنه بعيد عن السنة، فهو أبعد المذاهب الثلاثة عن السنة، وهذا ليس نفرة من السنة، فلم يكدر أبو حنيفة مذهبه بالقياسات الكثيرة دون الآثار إلا لعلة وجيهة؛ لأن أبا حنيفة كان في العراق، والعراق والعراقيون أهل شقاق ونفاق وكذب؛ ولذلك أخذ الشيعة يكذبون على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما رأى أبو حنيفة أن أهل العراق يندر فيهم الثقة الذي يؤخذ منه الحديث بدون شك فيه نحى هذه الأحاديث لضعفها، وأعمل فيهم القياس على الأصول الثابتة عنده، وأيضاً فقد كانت المستجدات تظهر في العراق لقربها من بلد فارس، فلعدم ورود أدلة ونصوص فيها كان لا بد من إعمال العقل والقياس حتى يظهروا حكماً في هذه المسائل. المذهب الثاني: المذهب المالكي، ورأسه وإمامه هو أبو عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة، ولد سنة 93 هجرية وتوفي سنة 179هـ، قال عنه الشافعي: إذا ذكر الحديث فـ مالك النجم، وهو إمام دار الهجرة الذي خلط بين الفقه وبين الحديث، ومذهبه من القوة بمكان. المذهب الثالث: المذهب الشافعي، وإمامه أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، ولد سنة 150هـ وتوفي سنة 204هـ، قال فيه الإمام أحمد: الشافعي للناس كالشمس للدنيا، وهل هناك خلف عن الشمس؟! قال: والشافعي للناس كالعافية للبدن. وفي الحقيقة فـ الشافعي من أمتن وأتقن وأحفظ وأثبت علماء المذاهب، وقد قال عنه أحمد شاكر: لو أمرت مجتهداً أن يقلد مجتهداً مع أن التقليد حرام، لأمرته أن يقلد الشافعي؛ لأنه عالم نحرير له دقة في النظر، أو كما قال رحمه الله. أما المذهب الرابع: فهو المذهب الحنبلي، وهو أقرب المذاهب للسنة؛ ولذلك فقد تحير العلماء في أيهما أقرب للسنة؟ والصحيح الراجح الذي أتبناه وأدين الله به: أن المذهب الشافعي هو أقرب المذاهب للسنة؛ لأن أكثر علماء الشافعية من المحدثين الذين خلطوا بين الفقه وبين الحديث؛ ولذلك فقد سأل أبو إسحاق الشيخ الألباني بأي المذاهب يبدأ؟ فقال: ابدأ بالكتاب والسنة فهذا هو العلم، فقال: بأنه يريد أن يتمرس أولاً وعلمياً على مذهب معين، وهذا الذي نصح به الشيخ أحمد شاكر الأمة: أنه على طالب العلم أن يبدأ بمذهب معين فيعرف أصوله وكيفية استقاء الأحكام من الأدلة، ثم بعد ذلك ينطلق في علم الحديث؛ لأن هذا المذهب لا يخلو من السنة. فقال الإمام الألباني: إن كان لا بد فالمذهب الشافعي أو المذهب الحنبلي، ففضل البدء بالمذهب الشافعي، ولما سئل عن ذلك قال: أكثر علماء الشافعية محدثون. فالشاهد: أن مذهب الإمام أحمد بن حنبل من أقوى المذاهب وأقربها إلى السنة، وكفاه فخراً ما قاله يحيى بن معين فيه لما سئل عنه فقال: أحمد يسأل عنه؟ أحمد إمام الدنيا بأسرها، وقال بعضهم: إن الله نصر هذا الدين بـ أبي بكر في الفتنة، وبـ أحمد في المحنة، أي: محنة القول بخلق القرآن.

بعض المذاهب التي لم تنتشر انتشار المذاهب الأربعة

بعض المذاهب التي لم تنتشر انتشار المذاهب الأربعة وهناك مذاهب أخرى: هي مذاهب العلماء وفقهاء المدينة السبعة ولكنها لم تحمل عنهم، ومذهب الليث أيضاً، وقد غير الشافعي مذهبه عندما دخل مصر فصار فقهه يميل لفقه أهل مصر؛ ولذلك قال الشافعي: الليث أفقه من مالك إلا أنه لم يحمله أصحابه. وهناك أيضاً: مذهب سفيان الثوري، فقد كان له مذهب فقهي، وهو أمير المؤمنين في الحديث. وأيضاً: مذهب الظاهرية، ورأسه داود الظاهري، وأشهر علم من أعلام الظاهرية هو ابن حزم رحمه الله. والمذهب الزيدي أيضاً وهو منتشر بكثرة في اليمن، وناصر هذا المذهب هو الإمام الشوكاني فقد كانت له لمحة زيدية. فأسأل الله جل في علاه أن يعلمنا وإياكم، وأن يجعلنا ممن يتلمس خطى النبي صلى الله عليه وسلم وخطى أصحابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الشفاعة

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - الشفاعة يعتقد أهل السنة والجماعة بثبوت الشفاعة يوم القيامة للمؤمنين، وهي تنقسم إلى قسمين: خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعامة لنبينا وغيره من الأنبياء والمرسلين والمؤمنين والملائكة الكرام، وهي تعتبر من تمام رحمة الله تعالى بعباده وإحسانه إليهم.

الشفاعة

الشفاعة الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: نتكلم الآن عن مسألة الشفاعة، وهي مسألة مهمة جداً، فالشفاعة لغة: أن تجعل الواحد اثنين. وشرعاً: هي التوسط للغير عند معظم لجلب منفعة أو دفع مضرة.

أحوال الناس في العرصات وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في القضاء بين الناس

أحوال الناس في العرصات وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في القضاء بين الناس وقبل أن ندخل في الشفاعة أقول: إن الناس في قبورهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد التقم صاحب القرن القرن وأصغى ليؤذن له فينفخ) فنحن على مقربة من الساعة، ونسأل الله أن يميتنا على الإسلام، فينفخ في الصور النفخة الثانية فإذا الناس قيام ينظرون، كلهم يحشرون على أرض غير الأرض، وسماء غير السماء، فيحشرون حفاة عراة غرلاً -أي: غير مختونين- فيحشرون وقد بلغ العطش مبلغه منهم، واشتد الكرب عليهم، وكما قالت عائشة رضي الله عنها لما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حفاة عراة، قالت عائشة مندهشة: يا رسول الله! عراة، قال: عراة، فقالت: يا رسول الله! ينظر بعضنا إلى بعض -أو ينظر الأخ إلى عورة أخيه- فقال: يا ابنة الصديق! الأمر أشد من ذلك)؛ لأن الشمس تدنو من الرءوس قدر ميل، أو قدر شبر، وكما بينت قبل ذلك: فالإنسان يغرق في عرقه، منهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل العرق إلى حقويه، ومنهم من يصل العرق إلى صدره، ومنهم من يصل العرق إلى وجهه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، فيجتمعون ويشتد الأمر عليهم وكما وصف الله جل في علاه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2] وحين هم سكارى يتخبطون ويقولون: (ألا ترون ما نحن فيه؟ ألا تدعون ربنا يكشف عنا هذه الكربة؟ ألا تشعرون بما نحن فيه من كرب شديد؟ فيقولون: نستشفع، فيذهبون فيقولون: من نجعله واسطة بيننا وبين ربنا؟ آدم، عبد خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، فيذهبون إلى آدم فيقولون: يا آدم! أنت خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما بلغنا؟ اشفع لنا عند ربك)، ولم يطلبوا الشفاعة للتخفيف من الكرب، بل للقضاء والفصل، كما قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] فكثير من الناس ينتظرون المحاكمة، والكل سينتظر المحاكمة عند الله، والفارق بعيد، فانتظار المحاكمة من البشر أمر هين، يزول في ساعة أو في ساعتين أو في دقيقة، أما المحاكمة عند الرب جل في علاه فالكل سينتظر إتيان الله جل في علاه، والكرب شديد، حتى إن آدم يقول: اللهم سلم سلم، فيقول: (ليس لي، فيقول: اذهبوا إلى نوح أول رسول، فيذهبون إلى نوح عليه السلام، فيقول: ليس لي ويذكر خطيئته، اذهبوا إلى إبراهيم أبي الأنبياء، فيذهبون إلى إبراهيم، فيحيلهم على موسى، وهو يحيلهم على عيسى، وكل نبي يقول: لست لها، لست لها، اذهبوا إلى فلان، ثم يقول عيسى عليه السلام: اذهبوا إلى محمد -بأبي هو وأمي- فيقول محمد -بأبي هو وأمي-: أنا لها أنا لها، فيذهب صلى الله عليه وسلم عند العرش فيسجد، وهذا هو المقام المحمود تكرمةً من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم على رءوس الخلائق: أن الله جل في علاه أمام الخلائق أجمعين لا يقبل أحداً يشفع في القضاء بين الناس إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، فيأتي كرامة لمحمد عند العرش، فيخر ساجداً، فيعلمه الله محامد يثني على الله بها، فيقال له -بأبي هو وأمي-: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فيتوسط النبي صلى الله عليه وسلم -بمعنى الشفاعة- عند الله جل في علاه ليفصل بين العباد، فيأتي الله جل في علاه فيقضي بين العباد. وأول من يفصل الله جل في علاه بينهم، أو يقضي بينهم، أو أول من يحاكمهم الله جل في علاه هي الأمة الإسلامية. وقبل الشفاعة يضرب الجسر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيضرب الجسر على متن جهنم) والجسر: هو الصراط الذي يعبرون عليه -اللهم اجعلنا ممن يعبر الصراط كطرفة عين يا رب العالمين- فتقف الأمة الإسلامية وتقف الأمم بأسرها يرون النار، فيها سبعون ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك -نسأل الله جل في علاه أن ينجينا منها- فتأتي النار ويضرب الجسر بين النار وبين الجنة وتقف الأمة الإسلامية على الصراط، ويصف النبي صلى الله عليه وسلم الصراط كما ثبت ذلك عن عائشة في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الصراط فقال: (أدق من الشعر، وأحد من السيف، فيه كلاليب -خطاطيف- تخطف الناس) والكلاليب كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم: كشوك السعدان، فإذا أخذت بيد أحد أو برجله أو جسده فلن يفوت منها، بل لا بد من أن تنزل به إلى نار جهنم والعياذ بالله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: كل الأمم لا يتكلمون في هذا الموقف العظيم إلا الرسل فإنهم يقولون: اللهم سلم سلم، وهذه مقولة إبراهيم ونوح وموسى وعيسى أولي العزم من الرسل، ويصف النبي صلى الله عليه وسلم عبور الناس على الصراط بأن المؤمنين الخلص الذين اتقوا ربهم وأدوا الفرائض وانتهوا عن المحرمات، وتقربوا إلى الله بالنوافل يمرون كطرفة عين، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم كأجاويد الخيل، ومنهم كالطير، ومنهم من يمشي، ومنهم من يزحف، وآخر هذه الأمة عبوراً على الصراط هو من يحبو على الصراط، ومنهم المكردس، ومنهم الذي تخطفه الكلاليب، ومنهم الذي يخدش لكن ينجو بفضل الله عليه، اللهم اجعلنا ممن يمر على الصراط كطرفة عين. وهذا الذي فسره ابن مسعود في قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] قال: هو المرور على الصراط، فاللهم سلم سلم، واجعلنا ممن يمر على هذا الصراط كطرفة عين.

أنواع الشفاعة

أنواع الشفاعة والتأصيل العام للشفاعة أنها كلها لله كما قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44] فإذا كانت الشفاعة لله جل في علاه فإنه لن يؤذن لأحد أن يشفع إلا بالشروط التي بينها الله جل في علاه، فلا يمكن لأحد أن يشفع دون إذن الله جل في علاه؛ للفارق بين الخالق والمخلوق، فالمخلوق لك أن تشفع عنده دون أن تستأذنه، أما الله جل في علاه سبحانه وتعالى فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه. والشفاعة شفاعتان: شفاعة مثبتة، وشفاعة منفية. والشفاعة المنفية: هي الشفاعة لأهل الشرك، ولا يمكن أن يقبل الله شفاعة لأهل الشرك، والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة، أما من الكتاب فقول الله تعالى: {أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] وقوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:47 - 48] فنفى الشفاعة هنا، وهذه الآية مجملة، والدليل على أن المقصود بها الشفاعة للكافرين هو قول الله تعالى عن الكافرين: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] وقول الله على لسانهم وهم في النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]. إذاً: الشفاعة المنفية هنا هي الشفاعة لأهل الشرك، فلا يمكن أن يقبل الله جل في علاه شفاعة لأهل الشرك. وأما استغفار إبراهيم ثم إتيانه يوم القيامة ليشفع في أبيه فإنه سيتبرأ منه كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114] وهذه أظهر الآيات في الدلالة؛ فإن إبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يشفع في أبيه، فمن باب أولى غيره.

أقسام الشفاعة المثبتة

أقسام الشفاعة المثبتة أما الشفاعة الثانية وهي الشفاعة المثبتة، فهي تنقسم إلى شفاعة خاصة وشفاعة عامة.

الشفاعة الخاصة وأنواعها

الشفاعة الخاصة وأنواعها الشفاعة الخاصة هي شفاعة خاصة بنبينا تكرمة من الله له، فهو أكرم الخلق على الله جل في علاه. والشفاعة الخاصة به صلى الله عليه وسلم على أنواع ثلاثة: النوع الأول: الشفاعة في أهل الموقف؛ لأن الناس عندما يشتد عليهم الكرب يذهبون إلى الأنبياء فيقول كل نبي: لست لها لست لها، حتى يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها، ثم يسجد تحت العرش فيقال: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع) فهذا المقام المحمود، وهذه شفاعة خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم تكرمة الله لنبينا. النوع الثاني: الشفاعة والتوسط ليدخل أهل الجنة الجنة، وهذه تبين لنا أن الإنسان لا يمكن أن يرضي ربه، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يقبله الله إلا إذا أتى من خلف النبي صلى الله عليه وسلم، حتى بعد أن قضى الله بين العباد، وبعد أن قضى لأهل الجنة بدخول الجنة، ولأهل النار بدخول النار، فأهل النار يتساقطون في النار ولا يحتاجون إلى شيء، أما أهل الجنة فلا يمكن أن يدخلوا الجنة ويكمل لهم التمتع بالجنة إلا بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى باب الجنة فيشفع لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة فيطرق الباب، فيقول الملك: من؟ فيقول: محمد، فيقول ألا أفتح لأحد قبلك: نعم، بك أمرت) يعني: لا أفتح إلا لك، فلا يدخل أحد الجنة حتى يشفع النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة بأبي هو وأمي، نسأل الله أن يشفعه فينا، وأن يجعلنا مؤهلين لأن يشفع فينا نبينا. النوع الثالث: شفاعته لعمه الكافر، مع أن الله قد نهى عن الشفاعة للكافرين إلا للنبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة جاءه العباس فقال: (ماذا فعلت لعمك؟ كان ينافح عنك، ويناصرك ويحوطك، فماذا فعلت له؟ فقال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا -يعني: لولا شفاعتي- لكان في الدرك الأسفل من النار)، فهو بشفاعة النبي في ضحضاح من النار، أو قال: (يلبس نعلين من نار يغلي بهما دماغه)، فهذه شفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وحتى هذه الشفاعة لم يقبلها الله كاملةً، بل قبل منه أن يخفف عنه العذاب، فهو يلبس نعلين من نار يغلي بهما دماغه والعياذ بالله. أما الأقسام الثلاثة الباقية فهي عامة، ويشترك فيها محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء والمرسلون والمؤمنون والملائكة. وهذه الأنواع الثلاثة اتفق العلماء عليها إلا بعض المتصوفة الذين أنكروا أصالة أن يكون أبو طالب في النار، هؤلاء الذين ابتدعوا هذه البدعة، لكن اتفقت كلمة أهل السنة والجماعة على الأقسام الثلاثة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.

الشفاعة العامة وأنواعها

الشفاعة العامة وأنواعها والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر الذين استحقوا النار ألا يدخلوها، والحق أن أهل المعاصي من المسلمين يشفع فيهم الأنبياء والمرسلون والمؤمنون، فيقبل الله الشفاعة فلا يدخلهم النار، وهذه شفاعة عظيمة جداً في أهل الكبائر. والدليل العام في هذه المسألة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من نبي إلا وكانت له دعوة مستجابة، وأردت أن أختبئ دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة) فيدخل تحتها العصاة، ويدخل تحتها الأبرار الذين هم على التقى، فهذه شفاعة عظيمة جليلة. ويستدل لها خاصة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل يصلي عليه أربعون إلا شفعهم الله فيه)، ووجه الدلالة أن قوله: (رجل) نكرة، فيدخل تحته المؤمن البار، والفاجر الطالح، والفاجر الطالح بمعنى: أن سيئاته تغلب على حسناته، فيشفِّع الله فيه الذين صلوا عليه ويقبل شفاعتهم فيه، فهذه فيها دلالة على الشفاعة لأهل الكبائر. الشفاعة الثانية التي تعم: الشفاعة في أناس جعل الله لهم منزلة في الجنة فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون لهم منزلة أرقى وأعلى من هذه المنزلة، كرجل منحه الله منزلة عليا وأبوه في منزلة دنيا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع ليصل هذا الأب إلى منزلة الابن. ويمكن أن يستدل لهذه الشفاعة بقول الله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] وهذه أيضاً بالاتفاق. والشفاعة الأخيرة: الشفاعة في أناس قد صاروا فحماً، وهم أناس من أهل الكبائر غلبت سيئاتهم على حسناتهم -نعوذ بالله أن نكون منهم- ودخلوا النار وهم موحدون، فصاروا فحماً، فيأتي النبي، ويأتي الملك، ويأتي المؤمن، يشفع في هؤلاء فيخرجون من النار، ويسمون الجهنميون، ثم تأخذهم الملائكة فتلقي كل واحد منهم في نهر الحياة، فيحيا فيدخل الجنة بهذه الشفاعة. وهذه الشفاعة اتفقت كلمة أهل السنة والجماعة على أنها حاصلة للنبي وللأنبياء والملائكة والمؤمنين، غير أن المعتزلة والخوارج أنكروا هذه الشفاعة، وممن علا صوته واشتهر بين الناس بإنكار هذه الشفاعة في هذه الأيام هو مصطفى محمود، وهذا طبعاً نتاج لفكر الاعتزال؛ لأن المعتزلة يرون أن صاحب الكبيرة لا يمكن أن يخرج من النار، بل هو مخلد فيها؛ لأن تأصيل الإيمان عند المعتزلة والخوارج تأصيل واحد لكن يفترقان في الاسم، فالمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين المنزلتين، أي: لا نقول مؤمن ولا نقول كافر، والخوارج أشجع منهم وأقوى فقالوا: الذي يصنع الكبيرة ويفعلها كافر، فالمغتاب مثلاً يقولون عنه: كافر، لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يمكن أن يشفع فيه أحد؛ لأنه يعتبر خالداً مخلداً في نار جهنم والعياذ بالله. والمعتزلة يقولون: هو في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، أما في الآخرة فهو خالد مخلد في نار جهنم والعياذ بالله، فهؤلاء أنكروا الشفاعة لأهل الكبائر؛ لأنهم لو أقروا بها لهدمت الأصول التي بنوها؛ لأن الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد، وهم أخرجوهم من دائرة أهل التوحيد. والدليل على هذه الشفاعة قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل حديث القبضة، يقول الله جل في علاه: (شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط) وهذا تمام الكلام عن الشفاعة، نسأل الله جل وعلا أن يؤهلنا لشفاعة نبينا فينا.

خصائص النبي وفضائل الصحابة والشهادة بالجنة أو النار

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - خصائص النبي وفضائل الصحابة والشهادة بالجنة أو النار الرسول صلى الله عليه وسلم هو خير خلق الله أجمعين، وصحابته من بعده هم خير الناس، وقد حملوا لنا السنة ورووها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن طعن فيهم أو انتقص منهم فإنما يطعن في هذا الدين وينتقص من السنة.

فضل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على الخلق أجمعين

فضل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على الخلق أجمعين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: إن محمداً رسول الله هو سيد الخلق أجمعين، وهو إمام المرسلين صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، أكرم الخلق على الله، خير من وطئ التراب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشمس ما طلعت على رجل خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو سيد المرسلين، وإمام الأنبياء والصالحين، بل هو خطيب الأنبياء والمرسلين يوم القيامة. ويكفي أن الله جل في علاه لم يقسم بحياة أحد من خلقه إلا بحياة نبينا صلى الله عليه وسلم، تشريفاً وتعظيماً وتكريماً لهذا الرسول الكريم، فقال الله تعالى: ((لَعَمْرُكَ)) [الحجر:72] أي: لحياتك، والمعنى: أن الله جل وعلا يقسم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] والله جل في علاه قد أدبه فأحسن تأديبه؛ ولذلك وسمه ووصفه بأرقى الصفات وأغلى السمات، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] صلى الله عليه وسلم. فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم ولا فخر، وهو إمام الدنيا بأسرها وإمام الخلق أجمعين، وقد صح عنه أنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) فهو أكرم خلق الله على الله، وهو سيد البشر أجمعين.

حكم المفاضلة بين الأنبياء

حكم المفاضلة بين الأنبياء سمع رجلٌ من المسلمين يهودياً يقسم فقال: ورب موسى، فقال له المسلم: ورب محمد، فقال له: ورب موسى، فغضب لذلك المسلم ولطمه على وجهه، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى له اليهودي، فقال: (لا تخيروا بين الأنبياء) أي: أن اليهودي كان يتفاخر بموسى عليه السلام فتفاخر المسلم بمحمد، وكان المسلم له الفخر بنبيه على أنه خاتم النبيين، فصفع اليهودي على وجهه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم زاجراً إياه (لا تخيروا بين الأنبياء)، وأوضح من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروني على يونس بن متى). والإشكال هنا: هو أنه صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وأفضل الخلق أجمعين، فكيف ينهى الصحابة عن أن يخيروه على يونس بن متى، وأن يخيروا بين الأنبياء؟ يجاب على هذا الإشكال بثلاث إجابات: الإجابة الأولى: أن الجمع بين النهي عن التخيير وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم) هو أن النهي عن التخيير بين الأنبياء لا يجوز إذا كان على سبيل التنقيص، كأن يقال مثلاً: محمد خير من يونس، أما رأيت يونس ماذا فعل؟ تعجل أمر ربه فابتلعه الحوت، أو بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أيضاً، فيكون التخيير المنهي عنه هو التخيير الذي مآله إلى التنقيص. الإجابة الثانية: أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التخيير: (لا تخيروني على يونس) كان قبل أن يوحى إليه أنه سيد البشر أجمعين، وأنه سيد المرسلين، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أوحي إليه أنه سيد الخلق، ثم أوحي إليه بعد ذلك فقال: (أنا سيد الخلق يوم القيامة ولا فخر). الإجابة الثالثة: أن النهي عن التخيير إذا كان على سبيل التفاخر بينهم، لا على سبيل التبيين، وترجع هذه أيضاً إلى الإجابة الأولى.

الخصائص التي اختص بها رسول الله على الأنبياء قبله

الخصائص التي اختص بها رسول الله على الأنبياء قبله إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد البشر أجمعين، وقد خصه الله جل في علاه بخصائص لم يؤتها لنبي قبله. من هذه الخصائص: أنه خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، فلا نبي بعده، وبهذا يتبين كذب وزور وبهتان من ادعى النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم بهم حيث يقول: (يأتي بعدي ثلاثون كذابون كلهم يدعي النبوة، ولا نبي بعدي) فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أنه لا نبي بعده، وقال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]. إن البهائية والقاديانية من الفرق الضالة الكافرة التي ظهرت في عصورنا هذه يقولون: إن معنى خاتم الأنبياء أي: زينة الأنبياء، وأئمتهم في ذلك القادياني والبهائي من الذين يدعون النبوة، بل إن القادياني ادعى النبوة ثم ادعى الربوبية في الهند وباكستان وهذه البلاد، فهو من الذين بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الكذابين. ولكنهم أولوا وشوشوا على أهل السنة والجماعة بشبهتين: الأولى: قالوا: معنى قول الله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] أي: زينة الأنبياء. والثانية: قالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ولكن ليس بخاتم المرسلين، وهم يدعون أنهم رسل. والجواب على الشبهة الأولى: أولاً: أنهم خالفوا إجماع السلف. ثانياً: حتى لو افترضنا أن خاتم النبيين بمعنى الزينة -وهذا تنزل مع الخصم- فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حاسماً للمادة: (لا نبي بعدي) ففسر معنى خاتم النبيين: أنه آخر الأنبياء، فهو خاتم الأنبياء، وهو زينة الأنبياء، وهو سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم. والجواب على الشبهة الثانية: أنه لا يمكن أن يكون الرسول رسولاً حتى يكون نبياً، فإذا قالوا: خاتم النبيين فمن باب أولى أن يكون خاتم المرسلين. إذاً: أول خصيصة اختص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم: أنه خاتم النبيين. ومن الخصائص التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم: أن له الشفاعة يوم القيامة, فالشفاعة لا تكون إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الشفاعة هي المقام المحمود الذي قال الله تعالى فيه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، والمقام المحمود: هو الذي يحمد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ويحمده عليه الناس، فيحمدونه في الدنيا بالأعمال الجميلة ونشر الدعوة، وفي الآخرة بمقام الشفاعة في أهل الموقف حتى يقضى بين العباد، فهذا هو المقام المحمود، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما بينا ذلك في حديث الشفاعة. ومن الخصوصيات التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم: أنه أول من يمر على الصراط، وأمته أول الأمم التي تمر على الصراط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون) أي: سابقون في القضاء، وسابقون في المرور، وسابقون في دخول الجنة. أيضاً من الخصائص التي اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم: أن الجنة لا تفتح إلا له، ولا يمكن لأحد أن يدخل الجنة إلا به ومن خلفه، كما قال صلى الله عليه وسلم في البخاري: (أنه يأتي الجنة فيقال: من؟ فيقول: محمد، فيقال: بك أمرت) أي: لا أفتح لغيرك. ومن الخصائص التي اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم: أنه صاحب لواء الحمد يوم القيامة، فلواء الحمد ينزل تحته كل الرسل وكل الأنبياء، وهذه منة من الله، وكرم وتعظيم لهذا النبي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر) ففي هذا دلالة على خصوصيات اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الخصائص التي اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا: أن الله جل وعلا جعل له الأرض مسجداً وطهوراً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) فهذا النبي هو أفضل الخلق أجمعين. نسأل الله جل في علاه أن يشفعه فينا، وأن يجعلنا ممن يكون معه في الفردوس الأعلى، وألا ننزل عن هذه الدرجة أبداً.

فضل صحابة رسول الله

فضل صحابة رسول الله بعد ذلك انتقل المصنف إلى بيان أفضلية صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق أجمعين، وهو سيد المرسلين، فصحابته من بعده أفضل الخلق أجمعين، فإنه ما صاحب نبياً خير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد في سنن الدارمي بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد خيرها وأصفاها وأنقاها قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختاره نبياً مرسلاً رسولاً، ثم نظر إلى قلوب العباد فوجد خير قلوب العباد قلوب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختارهم الله جل في علاه صحبةً لنبيه ونصرة لدينه ونشراً لدعوته، فإنهم -كما يصف ابن مسعود - أعمق الناس علماً، وأبر الناس قلوباً، وأحسنهم خلقاً، فمن أراد أن يتأسى فليتأس بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما سئل ابن المبارك: من الجماعة؟ قال: أبو بكر وعمر، فيبين أن جماعة الحق هم: أبو بكر وعمر. قال الله تعالى مبيناً فضل هؤلاء: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26] وهذا أعظم ثناء، ولا يمكن أن تجده على أحد غير صحابة رسول الله، وهو أن الله جل في علاه أثنى عليهم بأنهم أحق بكلمة: (لا إله إلا الله)، وأحق بدين الإسلام؛ لأن الله يغار أن يضع الشيء في غير موضعه، أو يعطي هذه المنة وهذه النعمة لأحد لا يستحقها، فبين الله أن صحابة رسول الله هم الذين يستحقون هذه الكلمة فقال: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26] وقال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]، وهذه الآية استدل بها الإمام مالك استدلالاً رائعاً على كفر من يبغض الصحابة رضي الله عنهم، ووجه الشاهد: هو قوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]. قال: إذاً: من تغيض على الصحابة فهو من الكفار. والله جل في علاه يقول: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100] فمدح المهاجرين ومدح الأنصار، وبين أن الذين آووا ونصروا أنهم هم المؤمنون حقاً، والنبي صلى الله عليه وسلم بين فضل هؤلاء، ونشر فضل هؤلاء عندما قال: (أصحابي أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) وهذا فيه دلالة على فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن فضائل الصحابة: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي -هنا محل شاهد التفضيل- أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد) فعليهم رضوان الله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، وفي مسند أحمد بسند صحيح قال: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر). فهذه كلها تفصيلات من النبي صلى الله عليه وسلم يبين فيها خيرة الناس من أصحابه، ويبين فضلهم.

فضل أبي بكر وعمر

فضل أبي بكر وعمر أما ترتيب الأفضلية: فـ أبو بكر هو أفضل هذه الأمة بالإجماع، وقد بين الله أن أبا بكر أفضل هذه الأمة فكلمه وخاطبه تعظيماً له وهو الفرد العبد المربوب، يقول الله جل في علاه: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُلِي القُرْبَى} [النور:22] إلى آخر الآيات، فقد اتفق المفسرون أن هذا خطاب خاص بـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فالله جل في علاه بجبروته وهو فوق عرشه يخاطب أبا بكر بالتعظيم والتبجيل والتكريم ويقول: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22] وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (سدوا عني كل خوخة إلا خوخة أبي بكر، كذبتموني وصدقني، وواساني بأهله وماله) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كنت متخذاً منكم خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن). إذاً: أبو بكر بالاتفاق هو خير هذه الأمة، وخير الناس بعد الأنبياء؛ ولذلك في سقيفة بني ساعدة كان أبو عبيدة بن الجراح مع عمر بن الخطاب، فقام أبو عبيدة فقال: يا عمر! ابسط يدك لأبايعك، فقام عمر بن الخطاب كأنه كالأسد الثائر فقال: تقول ذلك لي وفيكم أبو بكر؟ لأن يضربوا عنقي خير لي من أن أتقدم على أبي بكر رضي الله عنه، أو أتأمر على أناس فيهم أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه. وقال عبد الرحمن بن عوف كما روي عنه بسند صحيح: ما سبق أبو بكر الناس بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه. وخلافة أبي بكر رضي الله عنه مشهورة متفق عليها، إلا أن العلماء اختلفوا: هل كانت خلافته بنص من النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، أم كانت بالإشارة؟ والصحيح الراجح أنها إشارة تنزل منزلة النص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ائتوني بكتاب أكتب كتاباً لا يطمع طامع أو يقول قائل: أنا أولى)، ثم قال: (يأبى الله ويأبى رسوله ويأبى المؤمنون إلا أبا بكر)، فهذه دلالة على أنهم يأبون أن يتقدم أحد على أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. والذين قالوا: إنها بالإشارة قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم وضعه إماماً للناس في الصلاة، فرضيه إماماً لصلاتنا أفلا يرضاه لدنيانا؟! فاستنبطوها بقياس الأولى أو القياس الجلي، وهذا الذي جعل بعضهم يقول: إنها منصوص عليها. إذاً: فالصحيح الراجح أنها إشارة، وأن استخلاف أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه كان من أهل الحل والعقد، وهذا النص الذي قاله عمر بن الخطاب فاصل في النزاع، حيث قال: لأن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يقصد أبا بكر - وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني ومن أبي بكر، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف؛ لأنه أشار للناس إشارة واضحة لا تحتاج لإمعان نظر على أن أبا بكر هو الذي يستحق هذه الخلافة، وكأن القدر ظهر لرسول الله فقال: (لا، يأبى الله ويأبى رسوله ويأبى المؤمنون إلا أبا بكر) رضي الله عنه وأرضاه. فـ أبو بكر هو الخليفة بعد رسول الله؛ ولذلك لقب بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعده عمر بن الخطاب، فهو بالاتفاق، وبلا منازعة أفضل هذه الأمة بعد نبيها وبعد أبي بكر، ولا سيما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (إذا سلكت فجاً سلك الشيطان فجاً غير فجك) رضي الله عنه وأرضاه، وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان في الأمة ملهم لكان عمر بن الخطاب) رضي الله عنه وأرضاه، وهناك رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو كان نبي بعدي لكان عمر)، وهي رواية صحيحة، صححها الشيخ الألباني، ورواية أخرى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو كان في هذه الأمة محدث لكان عمر).

فضل عثمان وعلي

فضل عثمان وعلي اختلف أهل العلم في عثمان وعلي: أيهما أفضل؟ ثم اتفقت كلمة أهل العلم بعد ذلك على تفضيل عثمان على علي، وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: (كنا نفضل في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصحابة فنقول: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نسكت) فيقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وقد اتفقت كلمة الأمة على أفضلية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ذلك الأسد المغوار الذي نافح عن رسول الله، وعن دين الله جل في علاه، فهو أفضل الصحابة على الإطلاق بعد موت الثلاثة. والخلاف كان ناشئاً بين العلماء في عثمان وعلي، فـ أبو حنيفة وغيره من العلماء كانوا يقدمون علياً على عثمان، وعلي بن أبي طالب لم يقدم نفسه على عثمان، ولما قال له عبد الرحمن بن عوف في قضية الشورى: يا علي بن أبي طالب! لو لم تتول أنت الخلافة فمن يتولاها؟ قال: عثمان، يبين بذلك فضل عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وهذه دلالة على أن أفضل اثنين في هذه الأمة بعد موت الاثنين هما: عثمان وعلي، ثم ذهب إلى عثمان فقال: إني أقول لك قولاً وأريد التصريح: لو لم تتول أنت الخلافة فمن يتولاها؟ قال: علي بن أبي طالب، فـ عثمان يبين فضل علي وعلي يبين فضل عثمان. ولذلك لما خطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه بالكوفة قال على المنبر: من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري، أي: الكذاب؛ لأن أبا بكر وعمر هم خير هذه الأمة، ثم قال: أفضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر، ثم الله أعلم بعد ذلك، فلم يخير عثمان عليه رضي الله عنهما وعن الصحابة أجمعين. ولكن بعد ذلك اتفقت كلمة أهل العلم على الترتيب الأولي وهو ترتيب الخلافة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم وأرضاهم.

مدة الخلافة الراشدة

مدة الخلافة الراشدة الخلافة على منهاج النبوة ثلاثون سنة، وهي التي ينحصر فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ)، ولذلك سميت الخلافة: خلافة راشدة، وبعدها ملك عضوض، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الخلافة ستكون على منهاج النبوة ثلاثون، ثم يأتي بعد ذلك ملك عضوض، ثم بعد ذلك الحكم الجبري، ثم تأتي بعد ذلك في النهاية خلافة على منهاج النبوة، وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم). فخلافة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه كانت سنتين وثلاثة أشهر وتسع ليال، من السنة الحادية عشرة إلى ثلاثة عشر من ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة هجرية، وخلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه كانت عشر سنوات وستة أشهر وثلاثة أيام، من ثلاثة وعشرين جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة هجرية إلى ستة وعشرين ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين هجرية. وخلافة عثمان رضي الله عنه وأرضاه كانت اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً، من واحد محرم سنة أربع وعشرين هجرية إلى ذي الحجة سنة خمس وثلاثين هجرية. أما خلافة علي رضي الله عنه وأرضاه فكانت أربع سنوات وتسعة أشهر، من تسعة عشر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين هجرية إلى تسعة عشر رمضان سنة أربعين هجرية. فمجموع خلافة هؤلاء هي: تسع وعشرون سنة وستة أشهر إلا أربعة أيام، وهذه الستة الأشهر كانت من نصيب الحسن رضي الله عنه، إذاً فـ الحسن يدخل في الخلافة الراشدة عند بعض العلماء؛ لأنها ثلاثون سنة، فتمام الثلاثين يكون هذه الستة الأشهر، وبعض العلماء لم يقل بذلك؛ لأنه تنازل عن الخلافة. فالخلافة الراشدة: هي خلافة أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم وأرضاهم.

العشرة المبشرون بالجنة

العشرة المبشرون بالجنة الأفضلية بعد ذلك للذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهم العشرة المبشرون بالجنة، والحديث الذي يجمع هؤلاء العشرة جاء في المسند عن سعيد بن زيد عندما سمع رجلاً يسب أبا بكر وعمر، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وسعد في الجنة -أي: سعد بن أبي وقاص - طلحة في الجنة - أي طلحة الخير - وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، ثم قال: ولو شئت لأخبرتكم عن العاشر، قالوا: أنت؟ قال: نعم أنا)، فالعشرة هؤلاء هم المبشرون بالجنة.

أفضلية المهاجرين على الأنصار

أفضلية المهاجرين على الأنصار إن الأفضلية لهؤلاء الذين بشروا بالجنة وهم من المهاجرين، والمهاجرون أفضل من الأنصار، وإن كان للأنصار فضيلة عظيمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين لما فر عنه الناس قال: يا للأنصار، قالوا: ها نحن يا رسول الله. وأما المهاجرون فقد قال أبو بكر رضي الله عنه: منا الأمير ومنكم الوزير، أي: أن الخلافة لا تكون إلا في المهاجرين من قريش، والدلالة الصريحة على تقديم المهاجرين على الأنصار: هي أن المهاجرين قد قرنوا بين الهجرة وبين النصرة، ولذلك فهم يسمون أنصاراً، ويسمون مهاجرين؛ لأنهم جمعوا بين الخيرين: هاجروا، ونصروا الرسول صلى الله عليه وسلم بأموالهم وأنفسهم وذواتهم، وهذه تأتي على الصادقين، أما الأنصار فهم ناصروا الرسول صلى الله عليه وسلم في مدينتهم، فلذلك فضل المهاجرون على الأنصار. إذاً: يقدم المهاجرون في الأفضلية، ثم الأنصار، ثم باقي الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

حكم الشهادة لإنسان بالجنة أو النار

حكم الشهادة لإنسان بالجنة أو النار الشهادة لإنسان أنه في الجنة أو في النار فيها تفصيل: فيصح أن نشهد لمن شهد الرسول صلى الله عليه وسلم له بالجنة، كالعشرة المبشرين بالجنة، وكذلك عكاشة بن محصن فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وذلك عندما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فقام عكاشة وقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت منهم)، فهذه بشارة بالجنة، وكذلك ثابت بن قيس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو من أهل الجنة). وكذلك المرأة السوداء، فقد قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن شئت صبرت ولك الجنة). وبلال رضي الله عنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني سمعت خشخشة نعليك في الجنة). وكذلك عمرو بن الجموح عندما قال: إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد رأيته وطأ بعرجته الجنة). وكذلك عامر الأكوع عندما رجع سيفه على نفسه وهو يبارز مرحباً اليهودي فقالوا: قتل نفسه، فقال صلى الله عليه وسلم: (كذب من قال ذلك بل له أجره مرتين). وكذلك سعد بن معاذ، فقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (منديل من مناديل سعد في الجنة خير من الدنيا وما فيها). وكذلك أهل بدر فقد قال عنهم صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم). إذاً: لا يجوز أن تقول لمعين: هذا في الجنة إلا بدليل، ولكن ظن بالناس خيراً، ولا يجوز كذلك أن تقول لأحد معين: هو في النار إلا بدليل، فلا تقل: هو في النار للمعين إلا بدليل، كـ أبي لهب مثلاً، فإن الله عز وجل قد أخبر أنه في النار، فقال سبحانه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:1 - 3]، وزوجته كذلك، قال الله عز وجل: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:4 - 5]، وكذلك عمرو بن لحي، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيته يدور مع أقتابه في النار). وكذلك الوليد بن المغيرة، قال الله عز وجل عنه: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [المدثر:26 - 27] وكذلك أبو طالب فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يعذب في النار. وكذلك أبو الرسول صلى الله عليه وسلم فهو في النار، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن جاء يسأل عن أبيه: (إن أبي وأباك في النار). وأيضاً أم النبي صلى الله عليه وسلم هي في النار، والدليل على ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي)، وقال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113]. وكذلك العاص بن وائل فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عمرو بن العاص وأخيه: (مؤمنان أبوهما كافر). وكذلك أبو جهل في النار، والدليل على ذلك: هو عندما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر قال: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف:44]، وقد وعد الله الكافرين بالنار، وأبو جهل منهم، وكان ممن قتل ورمي في القليب.

تكفير أهل القبلة بالمعاصي

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - تكفير أهل القبلة بالمعاصي يعتقد أهل السنة أن من مات موحداً لله تعالى فمآله إلى الجنة، ولا يكفر أحد من أهل المعاصي إلا بما دل الدليل على أنه كفر، وبشروط معلومة ذكرها أهل العلم، وقد خالف المعتزلة والخوارج فكفروا فاعل الكبيرة، وأهل السنة يعتقدون أنه مؤمن ناقص الإيمان، وهو تحت مشيئة الله، وإن عذب فمآله إلى الجنة.

فضل علم العقيدة وشرفه

فضل علم العقيدة وشرفه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: علم العقيدة هو أهم العلوم وأشرفها، وشرف العلم من شرف المعلوم، ولا أحد أشرف من الله جل في علاه. وبعض علماء الأصول، كـ الجويني وغيره فإنهم تكلموا على التقليد في الفروع للمذاهب الفقهية، وبينوا الخلاف بين العلماء في مسألة التقليد، وهذا في باب الاجتهاد والتقليد، وهو آخر باب في علم الأصول. والشيء المستغرب أن العلماء تكلموا في أصول الفقه كما في النهاية فقالوا: هل يصح تقليد المذاهب في الفروع أو لا يصح؟ فنشأ خلاف طويل بين العلماء، فبعض العلماء قالوا: يجب تقليد النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره من أئمة المذاهب كـ الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما. ولذلك سألت امرأة عجوز رجلاً عن مسألة فقال لها: إن أبا حنيفة يقول كذا والشافعي يقول كذا، فقالت: والنبي على أي مذهب من المذهبين؟ تعني: هل النبي شافعي أو حنفي؟ فربط الناس بالمذاهب دون ربطهم بقال الله وقال الرسول يعتبر مشكلة معضلة؛ فلذلك اختلف العلماء في التقليد، والراجح للذي لا يعلم طرق استنباط الحكم أنه يجب عليه أن يقلد عالماً مجتهداً ورعاً تقياً ديناً. أما بالنسبة للعقيدة فلا يجوز التقليد فيها، وقد تكلم بعض علماء الأصول في مسألة التقليد في التوحيد، فنربأ بأنفسنا لا سيما ونحن ندعي السلفية التي هي أم العقيدة، فالسلفية هي العقيدة الصحيحة الصافية التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام والسلف الصالح؛ فطالب العلم لا يتنزل عن مكانة العلم بأن يكون مقلداً، ويرضى لنفسه أن يجر الناس رقبته فينجر معهم. وذكر الشيخ محمد عطية تلميذ الشيخ الألباني أن الشيخ الألباني تكلم في مسألة: هل تصح عقيدة المقلد أو لا؟ وطبعاً علماؤنا جميعاً يقرون بأن المقلد يصح توحيده وتصح عبادته ويصح ما هو فيه، لكن طالب العلم لا بد أن تعلو همته فيتعلم علم العقيدة ولا يكون مقلداً لأحد إلا لقال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، مسألة تكفير الناس بالمعاصي مسألة شائكة جداً.

حكم تكفير أهل المعاصي

حكم تكفير أهل المعاصي وقد نقل عن الإمام أحمد بأسانيد صحيحة أنه قال: من قال: القرآن مخلوق فقد كفر، أي: القرآن مخلوق مثل السماء والأرض، ومن المآخذ الشديدة والشنيعة على الأستاذ سيد قطب أنه كان يقول: القرآن كالسماء وكالأرض. فالأستاذ سيد قطب أديب ليس بعالم ولا فقيه، وله أخطاء قاتلة في كتابه الظلال، فلا يقال عنه أنه كافر، فلا يتجرأ على هذه المسألة بحال من الأحوال إلا جريء أو جاهل لا يستقيم إيمانه ولا يستقيم علمه، فالخطر أعظم مما يتصوره المكفر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) وقال في الرواية الأخرى: (فإن كانت فيه وإلا حارت عليه) أي: رجعت عليه كلمة الكفر والعياذ بالله؛ لأنه قطع على أخيه باب الخير. فهذه المسألة ليست بالهينة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن رجلاً في بني إسرائيل مر على أخيه وهو يعصي الله، فنصحه فلم ينتصح، ثم قال له: والله لا يغفر الله لك أبداً، فقال الله: (من ذا الذي يتألى عليَّ فقد غفرت له وأحبطت عملك). وما من عبد إلا ويقع في كبيرة، ويتعدى حدوده، ويحوم حول الحمى فيقع فيه؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشتد نكيره على الخطائين، إنما اشتد نكيره على المصرين على الخطأ، قال الله تعالى واصفاً الذين لم يصروا على الخطأ: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] فهؤلاء الذين غفر الله لهم؛ لأنهم لم يصروا على ما فعلوا، وفي مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للمصرين الذين يصرون على المعاصي). والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون). وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا مدرك ذلك لا محالة؛ فالعين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها البطش، والأذن تزني وزناها السمع، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه).

خطأ قول الطحاوي: لا نكفر أحدا بذنب ما لم يستحله

خطأ قول الطحاوي: لا نكفر أحداً بذنب ما لم يستحله قال صاحب الطحاوية: وإنا لا نكفر أحداً بذنب ما لم يستحله، ومعنى هذا أنَّ التكفير يدور على الاستحلال القلبي فقط وهذا إرجاء محض، والذي ينصر هذا الكلام لا بد له أن يراجع؛ لأن القول بأن التكفير محله القلب فقط لم يقله أحد من أهل السنة والجماعة؛ لأن معنى ذلك أن من سب الله ورسوله لا يكفر حتى يستحل ذلك بقلبه. وقولنا بأن هذا القول قول كفر، أو هذا الفعل فعل كفر، وقولنا أن فلاناً كافر، فهذا مندرج تحت الفرق بين تكفير النوع والعين، فيمكن أن أقول: هذا الفعل فعل كفر أو القول كذلك، وأثبت ذلك بالدليل أن الله أو رسوله سماهما كفراً، فأنا أسميهما كما سماهما الله ورسوله، لكن تكفير القائل نفسه لا يمكن أن يتجرأ أحد ويخرجه من الملة، فهذه جرأة لا يمكن أن تغتفر للمرء، فإنه قد يتقحم النار على بصيرة، إلا إذا كان عالماً مجتهداً يعلم بالمسألة ويقيم عليها الحجة ويزيل عنها الشبهة. فالغرض المقصود أنه من قال: إن التكفير لا يقع إلا على القلب فقط، فهذا الكلام غير مقبول بحال من الأحوال، فنحن لا نكفر أحداً استقبل قبلتنا، وأكل من ذبيحتنا إلا إذا استحل ذنباً أو وقع في فعل أجمع عليه العلماء مستندين بذلك للنص أن هذا الفعل أو القول كفر، كالذي يسجد لصنم مثلاً، أو الذي يسب الله أو يسب الرسول، أو يستهزئ بهما أو بأحدهما، فكل ذلك كفر يخرج صاحبه من الملة، إذا أقيمت عليه الحجة كما في مسائل معينة، ومسائل أخرى لا تقام عليه الحجة إن كانت من باب المعلوم من الدين بالضرورة.

من كان موحدا لله فمآله إلى الجنة

من كان موحداً لله فمآله إلى الجنة ما من امرئ وحد ربه جل في علاه إلا ومآله إلى الجنة لا محالة، إذا توفرت فيه الشروط وانتفت الموانع. فشروط كلمة التوحيد لا إله إلا الله، ليست منحصرة في سبعة شروط أو ثمانية، فهذا الكلام على التغليب فقط، وإلا فالعلماء لم يذكروا من الشروط التوكل، والتوكل ركن من أركان الإيمان، فشروط لا إله إلا الله. هي: العلم المنافي للجهل. واليقين المنافي للشك. والانقياد والإذعان المنافيان للعناد والإباء. والإخلاص المنافي للرياء والنفاق. والمحبة المنافية للكره، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]. والصدق. والقبول. فمن حقق هذه الشروط فقد انتفع بكلمة التوحيد في الآخرة، أما في الدنيا فإذا قال: لا إله إلا الله فقد أصبح واحداً منا له ما لنا وعليه ما علينا، لأننا ما أمرنا أن نشق عن القلوب، إنما أمرنا أن نأخذ بالظاهر. والتوكل أيضاً من أركان لا إله إلا الله، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] ووجه الدلالة هي مفهوم المخالفة، أي: فإن لم تتوكلوا فلستم من المؤمنين؛ لأنه اشترط الإيمان بالتوكل على الله جل في علاه. ولم يذكر العلماء أن التوكل من الشروط، فنقول: هذا على التغليب. فإذا توفرت الشروط التي اشترطناها في لا إله إلا الله، وأتى بمانع كأن يقع في شرك من الشركيات، فينذر لغير الله أو يذبح لغير الله -على تفصيل عند العلماء- فإن ذلك يمنعه من دخول الجنة؛ لأنه أتى بشرك. إذاً: القاعدة عند العلماء أن كل موحد قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه حبة خردل من إيمان فإن مآله إلى الجنة لا محالة إذا توافرت الشروط وانتفت الموانع؛ بخلاف المنافقين فإنهم يقولون: لا إله إلا الله ولا يعتقدون أن الله هو رب هذا الكون، وأنه سيعاقبهم، بل منهم من كان يقول: جل من لا يسهو، سخرية على الله جل في علاه.

الأدلة على أن الموحد مآله إلى الجنة

الأدلة على أن الموحد مآله إلى الجنة إذاً: كل موحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان وتوفرت الشروط وانتفت الموانع فهذا مآله إلى الجنة ولو وقع في أكبر الكبائر دون الشرك، والأدلة على ذلك ما يلي: أولاً: قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فهذه الآية فيها دلالة على أن كل فاعل كبيرة دون الشرك فهو في مشيئة الله جل في علاه، وكل ما كان في المشيئة لا يمكن أن يخلد في النار، بل هو أقرب إلى المغفرة. وفي مسند أحمد بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفره أبداً، وديوان لا يتركه أبداً، وديوان في مشيئته) ثم بين الديوان الذي في مشيئته وهو ديوان المعاصي والكبائر وهذا إلى الله جل في علاه. وإذا كان إلى الله فإن البشارة كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: (رحمتي سبقت غضبي) فرحمة الله أرجى لنا وأرجى لكل أحد. ثانياً: حديث أبي ذر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جاءني جبريل فبشرني أنه من مات من أمتك على قول: لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال أبو ذر -: يا رسول الله! يدخل الجنة وإن زنى وإن سرق؟! -كأنه يقول: وهذه الكبائر أين تذهب؟ - فقال: وإن زنى وإن سرق؟! قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق؟! قال: وإن زنى وإن سرق وعلى رغم أنف أبي ذر) أي: على رغم أنف أبي ذر أن من قال كلمة التوحيد ومات عليها فمآله إلى الجنة. ثالثاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة). رابعاً: حديث في السنن بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله نفعته يوماً من الدهر)، ومعنى الحديث: أن من دخل النار بمعاصيه فإن لا إله إلا الله تخرجه من النار وتدخله الجنة. خامساً: حديث القبضة وفيه أن الله جل في علاه يقول: (شفع الأنبياء، وشفعت الملائكة، وشفع المؤمنون، ما بقي إلا أرحم الراحمين سبحانه جل في علاه فيقبض قبضة -ما يعلم عظم هذه القبضة إلا الله جل في علاه- فيخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، ويدخله الجنة). فكل هذه الأحاديث تثبت أن أهل القبلة من أهل الجنة بإذن الله إن لم يأت بشرك، فإن أتى بشرك فإنه يخلد في النار.

قول الخوارج والمعتزلة أن فاعل الكبيرة مخلد في النار وأدلتهم

قول الخوارج والمعتزلة أن فاعل الكبيرة مخلد في النار وأدلتهم استدل الخوارج والمعتزلة بأدلة تثبت أن فاعل الكبيرة من أهل النار وخالد مخلد فيها، وهي ما يلي: أولاً: الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا). ثانياً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمل عينا السلاح فليس منا) وهذان الحديثان فيهما براءة المرء من دينه. ثالثاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين). رابعاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) والفسوق والكفر سواء، فإن الله تعالى قال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]. فهذه الآية تدل على أن الفسق من الظلم. وقوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7] فقرن الكفر مع الفسوق، وإن كان الفسوق أخف درجة منه. خامساً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يستشرف لها الناس وهو مؤمن) فهذا الحديث فيه دلالة على أن من عمل هذه الأعمال فإنه كافر، لانتفاء الإيمان عنه. سادساً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في أمتي هما بهم كفر) وذكر منها النياحة على الميت، فهذا الحديث فيه دلالة قوية على أن هذه المعاصي كفرية، وهذا بالاتفاق عند الخوارج والمعتزلة.

الفرق بين الخوارج والمعتزلة في حكم فاعل الكبيرة

الفرق بين الخوارج والمعتزلة في حكم فاعل الكبيرة فالخوارج والمعتزلة اتفقا في المجمل واختلفا في التعريف، فأما الخوارج فقالوا: من اغتاب شخصاً فهو كافر، ومن نهب نهبة فهو كافر، ومن شرب الخمر مرة فهو كافر، أي: هو كافر في أحكام الدنيا، فلا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، أما في أحكام الآخرة فهو خالد مخلد في نار جنهم. وأما المعتزلة فقالوا: ليس بكافر، بل هو بمنزلة بين المنزلتين، أي: لا هو مؤمن ولا هو كافر، أما في يوم القيامة فيكون خالداً مخلداً في نار جهنم، فاتفقوا بهذا مع الخوارج.

عقيدة أهل السنة فيمن ارتكب كبيرة وردهم على أدلة الخوارج والمعتزلة

عقيدة أهل السنة فيمن ارتكب كبيرة وردهم على أدلة الخوارج والمعتزلة وأهل العقيدة السديدة يعتقدون بأنه لا يمكن أن يكفر أحد من المسلمين قال: لا إله إلا الله، مهما فعل من الذنوب، ولا يكفره إلا جاهل جريء. أما الرد على أدلة الخوارج والمعتزلة، فهو ما يلي: أولاً: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فكل ما كان دون الشرك فهو تحت مشيئة الله، والكافر لا يدخل تحت المشيئة؛ لأن الكافر مآله إلى النار خالداً مخلداً فيها. وهنالك قاعدة وهي: كل كفر ذكر نكرة في حديث أو في آية يحمل على الكفر الأصغر، وكل شرك ذكر منكراً في حديث أو آية فلا بد أن يحمل على الشرك الأصغر، إلا ما كان معرفاً. والقاعدة هذه لها أدلة كثيرة جداً والشرح طويل. ثانياً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) إلخ. فالتفريق الشرعي والتأصيل العلمي الذي أصله الله لنا في التفريق بين درجة الإسلام ودرجة الإيمان، من قول الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسلَمنَا} [الحجرات:14]، فيحتمل معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أنه ليس بمؤمن لكنه مسلم لم يخرج من دائرة الإسلام، والدليل على ذلك حديث سعد بن أبي وقاص عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (لم لم تعط فلاناً؟ والله ما أراه إلا مؤمناً، قال: أو مسلم) ففرق بين المؤمن وبين المسلم. إذاً: الرد على استدلالهم بحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) إلخ أن من عمل هذه الأعمال فهو ليس بمؤمن؛ لأن المؤمن له رقي ومرتبة عليا عند الله جل في علاه، بل هو قد نزل من درجة الإيمان إلى درجة الإسلام؛ ولذلك قال ابن عباس (الذي يزني أو يشرب الخمر يكون الإيمان فوقه كالظلة، فإن تاب نزل الإيمان إلى قلبه مرة ثانية، وإن لم يتب صعد عنه الإيمان وبقي على الإسلام) يعني: أن معه أصل الإيمان لا الإيمان المطلق. إذاً: الزاني لا يدخل في دائرة الإيمان المطلق لكنه ينزل إلى مطلق الإيمان، والفرق بينهما: أن مطلق الإيمان هو أصل الإيمان، والإيمان المطلق هو الإيمان الكامل. إذاً: الرد عليهم أن المسلم حين يزني ليس مؤمناً إيماناً مطلقاً، لكن معه أصل الإيمان. ثالثاً: حديث أبي ذر السابق قال فيه: (يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق) يعني: أنه من أهل الجنة، فإذا قلنا باستدلالهم بحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فيكون مآله إلى النار خالداً مخلداً فيها. ويرد عليهم بأن رسول الله بشر من قبل جبريل، وجبريل بشر من قبل الله جل في علاه علام الغيوب بأن الزاني والسارق إن ماتا على ذلك فهما في مشيئة الله جل في علاه ومآلهما إلى الجنة. رابعاً: حديث عبادة رضي الله عنه قال: (بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نزني، ولا نسرق، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن أتى من هذه القاذورات شيئاً فأقيم عليه الحد فهو كفارة له، وإن لم يقم عليه الحد فهو تحت مشيئة الله) فجعله في المشيئة دليل على أنه من أهل الإيمان. خامساً: قوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، أن الكفر ذكر نكرة فيدل على أنه كفر دون الكفر الأكبر. ومنه قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ووجه الدلالة: أن الكفر المذكور في هذا الحديث ليس هو الكفر الذي يخرج من الملة؛ لأن الله تعالى لم ينف الإيمان عن الطائفتين المتقاتلتين بل سماهما به، وشهد لهما بالإيمان مع أنهما تقتتلان، ويوجد في إحداهما بغي وظلم. وأيضاً: حديث الحسن قال عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين من المسلمين) وعلي ومعاوية وهما من الإيمان والإسلام بمكان، ولا يمكن أن يسمى مسلماً من انخلع عن دائرة الإسلام. وكذلك قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] وجه الدلالة من هذه الآية هو قوله تعالى: ((مِنْ أَخِيهِ))، فإن الله تعالى أثبت لهم الأخوة في الدين ولا يمكن أن تكون أخوة بين مؤمن وكافر بحال من الأحوال، إلا إذا كانت أخوة النسب، أما أخوة الإنسانية فلا تجوز بحال من الأحوال أن تكون بين المؤمن والكافر، فهي ملغية؛ لأن الله جل في علاه قال عن الكفار: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]. سادساً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) وقوله: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين) فالمعتزلة والخوارج يقولون: إن الذي يغش في البيع فهو كافر، لكنه عند أهل السنة والجماعة مسلم عاص، أو مؤمن ناقص الإيمان، فهو مؤمن بتوحيده، عاص أو فاسق بمعصيته. أما قوله صلى الله عليه وسلم: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المسلمين) فالبراءة براءتان: براءة من الشخص، وبراءة من العمل، والبراءة من العمل لا تخرج صاحبها من الملة، أما البراءة من الشخص فكقول الله تعالى: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} [الممتحنة:4] فهنا البراءة منهم لأنهم أشركوا بالله، وبين الله أن إبراهيم قد تبرأ أيضاً من أبيه عندما رأى أنه عدو لله جل في علاه، فهنا براءة من الشخص نفسه لكفره. والبراءة من العمل فقط كالرجل المؤمن الذي عمل عملاً خالف فيه الشرع فيتبرأ من هذا العمل، مثل قول الله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:216] ويوضح هذه الآية ويفسرها حديث النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن خالداً قتل مجموعة من المشركين عندما قالوا: صبأنا صبأنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أبرأ إليك من فعل خالد) فـ خالد سيف من سيوف الله، فهذا التبرؤ ليس تبرؤاً بالكلية، بل هو تبرؤ من فعل؛ لأن هذا الفعل خرج عن دائرة طاعة الله جل في علاه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غشنا ليس منا) يعني: ليس على هدينا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل السوق فرأى صبرة طعام فأدخل يده فيها فوجد بللاً فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله! قال: هلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس منا) وهذا دليل واضح جداً على أن هذا العمل ليس بكفر، ووجه الدلالة أنه لو كان كفراً لقال له صلى الله عليه وسلم: قد كفرت، فقل: لا إله إلا الله وارجع إلى دينك واغتسل، كما أمر بعض الكفار الذين أسلموا، أو لقال له: هذه ردة يا صاحب الطعام، وقد تخلد في نار جهنم بهذه الردة. فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا): ليس على هدينا، وليس على ما يرضي الله ويرضي رسوله صلى الله عليه وسلم. سابعاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في أمتي هما بهم كفر: النياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم) فالنياحة على الميت ليست بكفر، فالمرأة التي تلطم الخدود وتشق الجيوب ليست كافرة، وهذا كفر دون كفر. فهذه المسألة شائكة، وقد وسعت الكلام فيها جداً في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة بالتقعيدات والتأصيلات التي لا أقصر في أن أبينها لكم فقط؛ لأن طالب العلم الجيد هو الذي يؤصل علمياً ويسير بعد ذلك على غرار هذا التأصيل، فهذا آخر ما نتكلم عنه في هذه المسألة الشائكة، حتى أجلي لكم كيف أن أهل السنة والجماعة يخالفون أهل البدع الذين يتمسكون بطرف من أطراف الحديث. وأهل السنة والجماعة لا يستخلصون إلى المسألة إلا إذا أحاطوا بكل الروايات التي تبين لنا منهجهم، وهو أنهم لا يكفرون أحداً بأي معصية إلا إذا استحلها. والإصرار وحده لا يدل على الاستحلال بالقلب، بل لا بد من النطق باللسان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم أؤمر أن أشق عن قلوب الناس). أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الصحابة وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - الصحابة وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لهم مكانة عظيمة في الإسلام، هم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا معه، وأنفقوا في سبيل ذلك النفس والنفيس، ثم نشروا الإسلام بعده إلى أرجاء المعمورة، فيجب معرفة حقهم، والثناء عليهم، والترضي عنهم، وعدم سبهم أو الخوض فيما حدث بينهم، وكذلك يجب معرفة حق زوجات النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهن أمهات المؤمنين، وزوجات خير المرسلين، ومن آل بيته الطاهرين، فلابد من الترضي عنهن، ومعرفة قدرهن، والتحدث بمحاسنهن رضي الله عنهن وأرضاهن.

حقوق الصحابة

حقوق الصحابة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: الصحابة هم خير خلق الله جل في علاه، وهم أفضل من صاحب نبياً. ومن أهم حقوق هؤلاء الصحابة: أولاً: الترضي عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. ثانياً: معرفة قدرهم؛ فنعرف قدر أبي بكر وعلي وعثمان ومعاوية رضي الله عنهم وأرضاهم. فيوم واحد من أيام معاوية كتب فيه الوحي، أو نظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل بعبادة عمر بن عبد العزيز وأهل بيته أجمعين. ولذلك بعض المتخلفين الذين لا يفقهون هذا الأمر فقهاً جيداً، ولا يعرفون للصحابي قدره يقدمون عمر بن عبد العزيز على معاوية، وهذا تقديم أعمى جاهل لا يفقه. فالترضي يكون للصحابة دون المنافقين كـ عبد الله بن أبي بن سلول، فإنه من أهل النار، وهو ملعون، لأن الله تعالى قال فيه: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11]. ولما مات وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله سبحانه وتعالى إقراراً لـ عمر بن الخطاب: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]. وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]. وعبد الله بن أبي بن سلول من المنافقين، فإن الله تعالى ذكر في سورة المنافقين قوله أنه الأعز ومحمد صلى الله عليه وسلم الأذل، حتى همَّ الصحابة رضوان الله عليهم أن يقتلوه، لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخشى أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه). قال تعالى حاكياً عن قول المنافق عبد الله بن أبي: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]، وكذلك قال الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:6] وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]. ثالثاً: عدم الخوض فيما حدث بينهم: فلا يصح لمؤمن يتقي الله جل في علاه ويتأدب بأدب رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخوض فيما حدث بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يتكلم عن معاوية أو علي أو الزبير أو طلحة أو عائشة. قال الإمام ابن كثير في هذه المعارك: الله جل في علاه برأ سيوفنا منها فلنبرئ ألسنتنا من الكلام عليها. فلا نتكلم عليها بحال من الأحوال، ونترضى عنهم أجمعين؛ فإن منهم المجتهد المصيب فله أجران، ومنهم المجتهد المخطئ فله أجر، والنبي صلى الله عليه وسلم مات وهو راض عنهم، وكفى فخراً لهم أن الله جل في علاه اصطفاهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم. والصحابي: هو من لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم على يديه ومات على ذلك. فلو ارتد ثم أسلم في حياة النبي ثم مات على الإسلام فهو من الصحبة بمكان. رابعاً: أن لا نسب أحداً منهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).

أنواع سب الصحابة وحكم كل نوع

أنواع سب الصحابة وحكم كل نوع سب الصحابة على ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يقدح في دين الصحابة، كقول غلاة المعتزلة: بأن الصحابة ارتدوا جميعاً بعد موت رسول الله إلا أربعة عشر نفراً فقط. القسم الثاني: أن يقدح في بعض أمور دينهم، ولا يخرجون من الملة، كمن يقول: إنهم فيهم نفاق وإنهم يحبون الدنيا وكانوا يقاتلون عليها. القسم الثالث: أن يقدح في أشخاصهم، كمن يقول: هذا خطير، أو هذا يأكل كثيراً، أو هذا فيه كذا وكذا. فالإمام مالك يرى أن القدح في الصحابة كفر، ويستدل بقول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] إلى أن قال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] فقال: من تغيظ على الصحابة في أي شيء فهو كافر، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة فإنهم قالوا: من أخرج الصحابة من الدين فإنه كافر يخرج من الملة؛ لأنه كذَّب الله جل في علاه في تعديله لهم، قال تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26] وقال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100]. فمن أخرج الصحابة من الدين، فإنه كافر بالاتفاق. أما النوع الثاني: وهي أن يقدح في بعض دينهم، كمن يقول: يريدون دنيا ولا يريدون الآخرة، فقد اختلف العلماء في ذلك: فبعض أهل العلم شدد في مكانة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر من فعل ذلك، ودليله في ذلك عندما قال أحد الركب وهم يتسامرون: ما نرى أصحابنا إلا أنهم أرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء، فأنزل الله جل في علاه: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] فذهب الرجل يعتذر للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66]. والاستهزاء نوعان: استهزاء بالدين، كمن يقول: اللحية كالمكنسة، فالدين هو الذي أمر بها، فالاستهزاء بالدين نفسه يكفر صاحبه بالاتفاق. واستهزاء بالشخص: والصحيح الراجح أنه لا يكفر لكنه على خطر عظيم. أما حكم القسم الثالث: أنه لا يكفر بالاتفاق لكنه يعزر بأن يحبس أو غير ذلك.

حقوق زوجات النبي صلى الله عليه وسلم

حقوق زوجات النبي صلى الله عليه وسلم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم هن البريئات من كل ذنب وخطيئة واتهام، العفيفات اللاتي اختارهن الله جل في علاه زوجات للنبي صلى الله عليه وسلم، والله جل في علاه قعد لنا قاعدة: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] فلا يمكن أن يختار الله لنبيه غير الطيبة.

ذكر أسماء زوجات النبي وتاريخ وفياتهن

ذكر أسماء زوجات النبي وتاريخ وفياتهن وأولهن: خديجة بنت خويلد، وهي أم أولاد النبي صلى الله عليه وسلم ما عدا إبراهيم، تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد زوجين ودخل بها وكان يحبها حباً جماً، واختلف العلماء في فضلها: هل هي أفضل النساء أم عائشة؟ فـ خديجة لها الفضل في السبق، وعائشة لها الفضل في نشر دين النبي صلى الله عليه وسلم، ماتت خديجة سنة عشر من البعثة قبل الهجرة. وعائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وأرضاها أريها النبي صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثاً، فقيل: هذه امرأتك، فعقد عليها وهي بنت ست، ودخل بها وهي بنت تسع. فلو قيل: لا يمكن للنبي الشفوق الرحيم بأمته أن يتزوج بامرأة عمرها تسع سنين. فنقول له: عقلك الخرب هذا لا يصادم حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءك الحديث وجاءك فيه إسناد كالشمس، فلا بد أن تقول: سمعت وأطعت. توفيت رضي الله عنها سنة ثمان وخمسين هجرية. وسودة بنت زمعة: فـ سودة وعائشة تزوجهما النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة، ودخل بـ عائشة في المدينة، لكن هو تزوج لما جاءته المرأة فقالت: (ألك في بكر ولك في ثيب؟ قال: من الثيب ومن البكر؟ فقالت: أما الثيب فهي سودة، وأما البكر فهي عائشة فقبل النبي صلى الله عليه وسلم الزواج منهما) وسودة رضي الله عنها لها مسألة فقهية عظيمة جداً ألا وهي مسألة في البيوع، وهي: مسألة المصالحة، كأن أكون أنا لي عندك دين ألف درهم وأصالحك على أن تعطيني نصفها. فـ سودة تركت ليلتها لـ عائشة من أجل ألا يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تكون زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة، توفيت آخر خلافة عمر وقيل: سنة أربع وخمسين. وحفصة بنت عمر بن الخطاب، كانت ثيباً، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم عندما عرضها عمر على عثمان وعلى أبي بكر، وكان أبو بكر لا يجيب عمر لأن النبي قد ذكرها. ماتت سنة إحدى وأربعين هجرية. وزينت بنت خزيمة الهلالية تكنى بـ أم المساكين رضي الله عنها وأرضاها، ماتت سنة أربع هجرية. وأم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية، وعندما تقدم لها النبي صلى الله عليه وسلم رفضته لعلتين اثنتين: الأولى: قالت: يا رسول الله! إني امرأة أغار، أي: غيرتي شديدة جداً، ما أستطيع أن تكون أنت زوجي لغيرتي. والثانية: أن لها أيتام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما أولادك فهم عليَّ، وأما غيرتك فندعو الله جل وعلا أن يذهب عنك الغيرة) فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ماتت سنة إحدى وستين. وزينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها وأرضاها، وهي بنت عمته، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد زيد رضي الله عنه وأرضاه، وماتت سنة عشرين. وجويرية بنت الحارث الخزاعية رضي الله عنها وأرضاها، ماتت سنة تسع وخمسين. وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها، ماتت سنة أربع وأربعين. وصفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها، ماتت سنة خمسين. وميمونة بنت الحارث، خالة ابن عباس رضي الله عنها وأرضاها، ماتت بسرف سنة إحدى وخمسين، رضي الله عنها وأرضاها. وهناك من النساء اللاتي لم يدخل بهن النبي صلى الله عليه وسلم: الأولى: أسماء بنت النعمان، وقد ورد حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (الحقي بأهلك) لأنه رأى بكشحها بياضاً، أي: وجد عيباً وهو البرص. واستنبط الفقهاء من ذلك أن الزواج يمكن أن يفسخ بالعيب، فمن تزوج امرأة وكتموا عليه عيباً فيها فله أن يفسخ العقد، ولو دخل بها ووجد العيب فله أن يرضى بها وله أن يفسخ العقد بهذا العيب؛ ودليل ذلك الحديث السابق إن صح، لكنه ضعيف، فهذه قاعدة معمول بها بالأصول الشرعية التي توافقها. والثانية: بنت أبي الجون، وكانت من أجمل نساء العرب، فغيرة عائشة كانت شديدة، فدخلت عليها يوماً فقالت: إن أردت أن يحبك النبي صلى الله عليه وسلم حباً جماً فعندما ترينه قولي: أعوذ بالله منك، -غررت بها- فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أعوذ بالله منك -تحسب أنها ستنال حبه- فقال: (استعذت بمعاذ الحقي بأهلك). وهنا استنبط العلماء فائدة عظيمة جداً ألا وهي: إن استعاذ المرء بالله أمامك فأنت لا بد أن تعيذه، ولذلك مريم قالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18] فجعلت علامة التقوى أنه إذا استعاذ بالله أمامه فإنه لا يرضخ لهذه الاستعاذة.

معنى المحرمية لأمهات المؤمنين وعدم جواز الخلوة بهن

معنى المحرمية لأمهات المؤمنين وعدم جواز الخلوة بهن كل امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ومات وهو عنها راض فهي أم المؤمنين، والأم هنا متضمنة لمعنى المحرمية، لكن هل المحرمية كلية أم جزء من كل؟ بمعنى: هل أم المؤمنين أم لكل مؤمن بحيث تحرم عليه ولا تكون أجنبية عنه فيجوز له أن يخلو بها أو يسافر بها ويكون محرماً لها، أم أنها تعتبر أجنبية عنه؟ A أن هذه المحرمية وعدم جواز الزواج بأمهات المؤمنين مأخوذة من قول الله تعالى: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب:53]، فالمحرمية هنا محمولة على التوقير والتبجيل والتعظيم وعدم الزواج منهن، بخلاف الخلوة بهن فإنها لا تجوز، كما أنه لا يجوز التحدث معهن إلا من خلف ستار، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53]، وكذلك لا يجوز السفر بهن دون محرم، وهذا هو الصحيح الراجح.

حكم من قال بمقالة الشيعة في حق عائشة رضي الله عنها

حكم من قال بمقالة الشيعة في حق عائشة رضي الله عنها ومن حقوق أمهات المؤمنين أيضاً: أنه لا يجوز لأحد من المسلمين أن يتبنى المذهب الشيعي الضال الذي يقول بقذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها؛ لأن من قال بأن عائشة فعلت الفاحشة فقد كفر. فإن قيل: فما وجه تكفير من قال بهذه المقالة؟ ف A لأنه مكذب لله جل في علاه؛ لأن الله برأها من فوق سبع سماوات، وقد دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي مسرورة بذلك عندما قال لها: (أبشري يا عائشة! فإن الله قد برأك من فوق سبع سماوات، فقالت لها أمها: اذهبي فاشكري رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا والله ما أشكر إلا الله)، تعني: المنعم الأول سبحانه وتعالى، فمن افترى على الله الكذب بهتاناً وزوراً فقد كذب الله، والقاعدة عند العلماء تقول بكفر من كذب الله جل في علاه. فالصحيح الراجح: أنه لا يجوز لأحد أن يتكلم في أمهات المؤمنين ولا أن يقذف واحدة منهن.

فضل معاوية رضي الله عنه وعدم جواز القدح فيه

فضل معاوية رضي الله عنه وعدم جواز القدح فيه معاوية بن أبي سفيان هو خال المؤمنين، وكاتب وحي الله جل في علاه، وهو أحد خلفاء المسلمين، وقد قال العلماء: إن يوماً واحداً من أيام معاوية لا يقارن ولو بـ عمر بن عبد العزيز وأهل بيته أجمعين، لا سيما وأنهم قد رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وتنزل عليهم الوحي، ولقد قالت أمه: إن ابني هذا سيد وسيبلغ الثريا، وحق لها أن تقول ذلك؛ ولقد كان أفضل ما يتحلى به معاوية من الأخلاقيات السامية: هو الحلم العظيم؛ فلقد أوصله حلمه إلى أسمى المراتب وأعلاها. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

حقوق أولياء الأمور وهجران أهل البدع

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - حقوق أولياء الأمور وهجران أهل البدع من منهج أهل السنة والجماعة السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين بالمعروف، إلا إذا أمروا بمعصية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ومن منهج أهل السنة هجر أهل البدع، وينظر في ذلك إلى المصلحة، فإن وجدت المصلحة من هجرهم فبها، وإلا لم يهجروا، خاصة إذا كانت المفسدة ستقع بسبب ذلك.

من حقوق أولياء الأمور

من حقوق أولياء الأمور أيضاً: من السنة -كما قال المصنف هنا-: السمع والطاعة لولاة الأمور، وولاة الأمور على أصناف ثلاثة: أولها: ولي أمر قد تولى الإمارة بالاستخلاف، والاستخلاف: هو أن يموت الخليفة أو الحاكم فيستخلف أو يولي بعده شخصاً ما، فهذا يجب له السمع والطاعة، ومثاله: عمر بن الخطاب. ثانيها: أمير قد عين بتعيين أهل الحل والعقد له، كـ أبي بكر وعثمان. والمقصود بأهل الحل والعقد: أهل العلم والدين والتقى والورع، فهؤلاء هم الذين يختارون واحداً منهم يرون فيه أهلية الحكم والإمارة فيؤمرونه عليهم، هذا الصنف الثاني. ثالثها: رجل تأمر بالنار والحديد كما يقولون، أي: تأمر بالسيف أو بالإرث أو بالقتال، كما أمر معاوية رضي الله عنه وأرضاه، فإنه نازع بالسيف والقتال حتى أمر على المسلمين، إذاً: الصف الثالث هم الذين يتولون الإمارة بالتغلب على الناس.

وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور في غير معصية

وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور في غير معصية ويجب على المسلمين تجاه هذه الأصناف الثلاثة السمع والطاعة لهم، وهذا واجب بالكتاب والسنة، وهو منهج السلف الصالح، ولا يجوز الخروج عليهم إلا إذا عصوا ربهم جل في علاه؛ لأن الطاعة مقيدة بالمعروف، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، وفي هذه الآيات العظيمات لفتة مهمة، قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ} [النساء:59]، فجعل الطاعة مستقلة لله، {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59]، وجعل الطاعة مستقلة لرسول الله، وقد بينت قبل ذلك كثيراً بأن التوحيد توحيدان: توحيد العبادة لله، وتوحيد الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، فالله جل في علاه قد جعل الطاعة مستقلة له ومستقلة لرسوله صلى الله عليه وسلم. لا سيما وأن الرسول إما أن يكون مشرعاً، وإما أن يكون ناقلاً للشرع، وقد بينت قبل ذلك الخلاف الأصولي بين العلماء بأن الرسول إما أن يكون ناقلاً للشرع وإما أن يكون مشرعاً أصالة، وبينا الراجح أصولياً. فإن قيل: فما معنى كونه صلى الله عليه وسلم مشرعاً أو ناقلاً للشرع؟ وما هو الراجح في حقه صلى الله عليه وسلم؟ ف A أن معنى كونه مشرعاً أي: محللاً محرماً من تلقاء نفسه، وأما كونه ناقلاً للشرع فمعناه: أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه جل وعلا، ودليل هذا المعنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، ففيها دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله جل في علاه ما يأتيه من الوحي. إن الله سبحانه قد جعل لنبيه طاعة مستقلة، ثم جعل لولاة الأمور طاعة تابعة لطاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى كل امرئ أن يسمع ويطيع لولي الأمر؛ سواء كان هذا الولي قد تولى مستخلفاً، أو تولى بتولية أهل الحل والعقد له، أو تولى بالسيف أو الحديد والنار كما يقولون، فلا بد من السمع والطاعة، وهذا منهج السلف رضوان الله عليهم، قال تعالى: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، لكن الله جل في علاه لم يجعل طاعة ولاة الأمور طاعة مستقلة، بل جعل طاعتهم تابعة لطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيه إشارة إلى السمع والطاعة لهم إلا أن نؤمر بمعصية أو بمخالفة لله أو لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا أمرنا بذلك فلا سمع ولا طاعة، والأدلة على ذلك كثيرة من السنة، كما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وأيضاً قال: (إنما الطاعة في المعروف). إذاً: فالصحيح الراجح وهو منهج السلف: السمع والطاعة في المنشط والمكره، وهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الصحابة قالوا: (بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وعلى أثرة علينا). وأيضاً: فلا بد أن نضع في الحسبان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك فعليك بالسمع والطاعة). والسمع والطاعة لولاة الأمور لها فوائد عظيمة منها: عدم الاختلاف في الأمة، وعدم حصول المفاسد التي تحصل بسبب الخروج عليهم، وتحقيق الائتمار بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أحسن ولي الأمر فإحسانه له عند ربه جل في علاه، وإن أساء فإساءته عليه عند ربه جل في علاه، لا سيما وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما من راع يسترعيه الله رعية يموت حين يموت وهو غاش لرعيته إلا لم يرح رائحة الجنة)، أي: أنه لا يشتم رائحة الجنة بحال من الأحوال، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على من هذا حاله فقال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه)، وهذا دعاء محقق الإجابة، فعلى المرء أن يعلم بأن قلوب ولاة الأمور بيد الله جل في علاه، وعليه أن يلزم نفسه بالطاعة وأن يلتزم بدين الله، وأن يسمع ويطيع في الطاعة دون المعصية، فما عليك إلا البلاغ والله سريع الحساب. أما أنت فيجب عليك أن تتقي الله قدر استطاعتك، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر قدر استطاعتك، وبالآداب التي أدبك الله بها وأدبك بها رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لا تأتي بالمفاسد، ولقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً: (السمع والطاعة على كل مسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة).

هجران أهل البدع

هجران أهل البدع مسألة هجران أهل البدع مسألة مهمة جداً، فنقول: الهجران: مصدر هجر، وهو لغة: الترك، والمراد من هجران أهل البدع: هو الابتعاد عنهم. والحقيقة: أن البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية؛ لأن صاحب البدعة قد يضطر إلى النفاق أو القتال في سبيل إظهار بدعته عند الخاصة والعامة، بل إنه يلوي أعناق النصوص حتى يستدل بها على بدعته التي ابتدعها والتي يعمل بها، فالبدعة كما قال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية، وقال بعض السلف: لأن أدخل مسجداً أجد فيه بدعة فأحرقه أولى من أن أكون صامتاً عليها، وكفى بأهل البدعة سوءاً وبشارة بالسوء قول الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]، فلن يقبل الله جل في علاه العبادة أو الاجتهاد فيها طالما أنها خرجت عن دائرة السنة والشريعة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من آوى محدثاً)، فكيف بالمحدث نفسه؟ ويقول النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، يعني: فهو باطل يرجع على صاحبه، ولا يقبل عند الله جل في علاه، أما أشد ما ورد بخصوص أهل البدع فهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حبس التوبة عن صاحب البدعة)، وهذا يعني الزجر الشديد من الله جل في علاه ومن رسوله لهذه البدعة؛ لأن البدعة في الحقيقة بريد الكفر.

أقسام البدع وأنواعها

أقسام البدع وأنواعها البدعة بدعتان: بدعة مكفرة، وبدعة مفسقة. فالبدعة المكفرة: هي البدعة التي يشوبها الشرك، كالإلحاد في أسماء الله وصفاته، وكالتوسل بالأموات بأن يجعلهم وسطاء بينه وبين الله جل في علاه، فهذه البدع مكفرة تقدح في توحيد المرء. أما البدعة المفسقة: فهي البدعة التي تخالف طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كلتيهما ذم، إلا أن البدع المكفرة أشد ذماً؛ لأن صاحبها يخلد في نار جهنم، أما البدعة المفسقة فإن صاحبها لا يزال على التوحيد ومآله بإذن الله إلى الجنة، لكنه على شفير كفر فلا بد أن يرجع إلى صوابه.

منهج السلف في هجر أهل البدع

منهج السلف في هجر أهل البدع وقد تعامل أهل السنة والجماعة مع أهل البدع بالهجران والتحذير منهم، وهذا على الإجمال، أما التفصيل فيها فهو أن نقول: إن الأصل الذي أصله السلف: هو هجران أهل البدع حتى يرجعوا عنها ويلتفوا حول أهل السنة والجماعة، وحول علمهم الواسع، فإن كان هذا الهجران سيأتي بمفسدة أكبر، كاستمراره على بدعته أو نحوه فلا هجران حينئذ، بل يسلم عليه وينصح ويدعى له لعل الله جل في علاه أن يهديه، فلا يعدل إلى الهجران إلا إذا علم منه أنه سيرجع عن بدعته وإلا فلا؛ لأن العلة في هجران السلف الصالح لأهل البدع هي: رجاء رجوع أهل البدع عن بدعتهم، فعليك أن تنصحهم أو تناظرهم إن كنت مجتهداً؛ حتى ترجع بهم إلى الطريق القويم طريق الله جل في علاه، كما فعل ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه عندما خرج الخوارج على علي بن أبي طالب وأرادوا قتله، فقال علي بن أبي طالب: اذهب يا ابن عباس! ولا تناظرهم بالقرآن، فإن القرآن حمال، أي: أن له وجوهاً كثيرةً، فيمكن لهم أن يستدلوا ببعض متشابهه مما يقوون به بدعتهم، قال: ولكن ناظرهم بالسنة، فلما ناظرهم بالسنة وبين بدعهم المميتة التي كانوا عليها رجع أكثر هؤلاء الخوارج واصطفوا بجانب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ولم يبق إلا من ختم الله على قلبه. إذاً: الشرط في مناظرة أهل البدع: هو إتقان المسألة التي تناظر فيها، وأشهر من شهر سيف السنة أمام وجه البدعة: هو شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد شهر سيف السنة على وجوه المبتدعة وقمعهم بفضل الله عليه؛ لأنه كان يناصر الحق، وأشهر المناصرين للسنة من السلف: هو الشافعي؛ لأن الشافعي لقب بناصر السنة، فقد كان أحمد بن حنبل يشير إليه ويقول: هذا هو ناصر السنة؛ لأنه كان يتصدى لأهل الرأي والقياس، ويعارضهم بالسنن، ولذلك كان يقول: القياس وإن كان حجة لكن في مضايق الأمور، يعني: لا تتسع مسألة القياس عنده. والغرض المقصود: أنهم رفعوا راية السنة وحاربوا من أجلها، أما طالب العلم المبتدئ أو المقلد فإنه لا يجوز له أن يقف أمام مبتدع ويناقشه؛ لأنا رأينا -واقعاً مشاهداً- كثيراً من المنتسبين للعلم غرر بهم وسقطوا في أوحال البدع لأنهم غير أقوياء وغير راسخين في العلم، والله المستعان. أما في هذا الزمان فلا بد لطالب العلم المتقن أن يتصدى لشمس البدعة التي بزغت، وأن يطفئ نارها، بل وأن يفرق بين السنة والبدعة، فقد كان ابن سيرين يقول: يا بني! إذا اجتمعت مع مبتدع في مسجد فاصنع مثلي، فيضع إصبعه في أذنيه حتى لا يسمع من أهل البدعة كلمة يأثم بها، وكان كثير من السلف -منهم أحمد بن حنبل - إذا سار في الطريق فوجد فيه من يسير من المبتدعة أخذ الطريق الآخر ولم يقابله؛ ولذلك سألوا الشافعي عن أهل الكلام فقال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، وقد جاء أن عمر بن الخطاب -وما أدراك ما عمر! الذي إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً آخر فكيف بالمبتدع؟! - فقد جاء أنه بعث إليه أبو موسى الأشعري فقال: يا أمير المؤمنين! إن عندنا رجلاً يتكلم في القدر ولأن عمر يعلم أنه مسئول عن كل شيء سواء كان صغيراً أو كبيراً دقيقاً أو جليلاً، وكان يقول: لو عثرت بغلة في العراق لسئلت عنها، فلما وصلته هذه الرسالة اشتد غضبه وبعث إلى أبي موسى يقول: إن وصلتك رسالتي فليأتني الرجل في الحين واللحظة، فلما وصلت الرسالة بعث إليه أبو موسى بهذا الرجل، فلما جاءه الرجل قام عمر بن الخطاب إليه بالعصا وأخذ يضربه على رأسه حتى سالت الدماء على وجهه وجسده حتى قال: والله انتهيت! والله انتهيت! فقال له عمر: هل تجد في رأسك ما كنت تجد؟ فقال: لا أجد شيئاً. وهذا الذي لا بد أن يحدث مع أهل البدع إن كان لك سلطة عليهم، فعلى الإنسان أولاً: أن ينظر لهذه البدع بعين الشرع، فيتبرأ من فعلهم، ويبغضهم على هذه الفعلة الشنيعة، ويناظرهم ويناصحهم إن كان طالب علم متقناً، وينظر إليهم بالعين الأخرى: وهي عين القدر، فيحمد الله أنه لم يكن على طريقتهم، ويحمد الله جل في علاه أن ثبته على السنة، ويدعو لهم لعل الله أن يهديهم إلى سنة سيد المرسلين.

من علامات أهل البدع

من علامات أهل البدع بين المصنف هنا بعضاً من علامات أهل البدع: وأنهم يتصفون بغير الإسلام والسنة؛ بل بما يحدثونه من البدع القولية والفعلية والعقدية، وأنهم يتعصبون لآرائهم؛ لأنهم يتبعون الأهواء، أما قاعدة أهل السنة فهي تقول: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه فلا تقل: قال الشيخ الفلاني ولا الشيخ العلاني، ولا تقل: قال الفقيه الفلاني أو المحدث العلاني، بل قل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أبدع وما أروع ما أجاب به الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين فقيه العصر عندما سئل: هل يجب على المرء أن يقلد مذهباً معيناً؟ فقال: نعم، يجب أن يقلد مذهب الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا يفهم من هذا الكلام أننا لا نعرف قدر علمائنا ومشايخنا، بل نحن نعرف قدرهم وما هم عليه من العلم والفضل، ولكننا نمنع من الانجرار خلف من لا يعلمون بداعي الهوى والتعصب، بحيث نتنازل عن النعمة العظيمة التي وهبنا الله إياها، نعمة التدقيق والنظر في الأدلة والترجيح بين أقوال أهل العلم، فنحن نعرف لكل إنسان قدره، وننزل كل إنسان منزلته، عملاً بقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وعملاً كذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا أهل الفضل)، وقول الله تعالى: {َيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3]، ولذلك وصف أهل السنة أهل البدعة بأنهم يتعصبون لآرائهم، وأنهم لا يرجعون إلى الحق وإن تبين لهم، كما فعل الكوثري حديثاً، فقد كان يطعن في أبي هريرة، مع أنه محدث بارع، وما حمله على ذلك إلا التعصب المذهبي لمذهب الأحناف، فكان يسب أبا هريرة ناقل الشريعة؛ لأنه نقل حديثاً يخالف مذهب الأحناف، وكان يشتد على الكثير من الصحابة من أجل التعصب لمذهب الأحناف. ومن علامات أهل البدعة أيضاً: أنهم يكرهون أئمة الإسلام والدين، فلا تكاد تجلس مع المبتدع إلا وأخذ يطعن في شيخ الإسلام ابن تيمية؛ زاعماً أن لا شيخ للإسلام؛ وأنه مجسم مشبه كما يزعمون، بل إن بعضهم يكفره، وهذا من منطلق عداوتهم لأهل السنة والجماعة، ويتكلمون ويغمزون أيضاً في ابن حجر والنووي، فهم يعلنون الحرب الضروس على منهج وأئمة أهل السنة والجماعة؛ ولذلك تجد أن أكثر من ناله السب والقدح هو شيخ الإسلام ابن تيمية؛ وذلك لأنه أشهر سيفه البتار في وجوه أصحاب البدع، فما ترك أحداً منهم إلا وأطاح برأسه بعلمه الغزير وحجته البليغة، فقد كان صاحب نظر ثاقب في الأدلة. إذاً: فمن أهم العلامات التي يتصف بها المبتدع: حقده على أهل السنة والجماعة، وبغضه لهم، وأعلى هذه الطوائف: الرافضة، وهم الذين غلوا في آل البيت وكفروا من دونهم من الصحابة أو فسقوهم، وهم فرق شتى، فمنهم الغلاة الذين ادعوا أن علياً إله، ومنهم دون ذلك، ولذلك ذكر ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه على علي إحراقه لهؤلاء بالنار وقال له: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يعذب بالنار إلا الله)، ولذلك افتتنوا به لما أحرقهم، فكانوا يصيحون وهم يحترقون قائلين: لا يعذب بالنار إلا الله، وهذه دلالة على أنك الله، والعياذ بالله! وقد أراد الله جل وعلا أن يجعلهم يموتون على الكفر فتكون خاتمة السوء عليهم، وكان أول ظهور بدعتهم في خلافة علي بن أبي طالب حين قال له عبد الله بن سبأ: أنت الإله، فأمر علي بن أبي طالب بإحراقهم، وهرب هذا الضال المبتدع ابن سبأ، وعبد الله بن سبأ هذا يهودي الأصل، فهو يريد أن يخرب دين المسلمين كما هو شأن اليهود الذين خربوا دين النصارى من قبل.

مذهب أهل البدع في الصفات

مذهب أهل البدع في الصفات قال الشارح: ومذهبهم في الصفات مختلف: فمنهم المشبه، ومنهم المعطل، ومنهم المعتدل. والتعطيل نوعان: أحدهما: تعطيل الاسم والصفة، وهذا رأي الغلاة من الجهمية والمعتزلة. الثاني: تعطيل الصفة دون الاسم، فيقولون: الله سميع بلا سمع، بصير لا بصر، قدير بلا قدرة، عليم بلا علم، قوي بلا قوة، وهذا رأي المعتزلة، وكأنهم يعبدون عدماً لا وجود له؛ ولذلك لم يشعروا بحلاوة الإيمان والتعبد بصفات الله وأسمائه. أما التشبيه: فهو تشبيه صفات الخالق بصفات المخلوق، والنوع الثاني من التشبيه: هو التمثيل: وهو أن يقال: إن عين الله كعين محمد بقصد المطابقة والمساواة، أما التشبيه فكأن تقول: عين الله تشبه عين محمد، تعالى الله وتقدس! بل عينه تليق بجلاله وكماله وعظمته وبهائه، وعين محمد تليق بنقصه وعجزه، فلا وجه للمقارنة والعياذ بالله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].

من طوائف المبتدعة

من طوائف المبتدعة

الرافضة

الرافضة ثم قال: وسموا رافضة لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حين سألوه عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما. وزيد بن علي هذا هو الإمام زيد رضي الله عنه وأرضاه، ومنهجه هو تفضيل علي على أبي بكر وعمر، وأن علياً أحق بالخلافة ومقدم على أبي بكر وعمر وعثمان، لكنه أيضاً يقول: إن أبا بكر وعمر وعثمان من الأكارم الفضلاء، لكن علياً أفضل منهم، وهذا هو مذهب الشوكاني أيضاً، فهو يتبنى مذهب الزيدية القائل بتقديم علي على عثمان فقط وليس على أبي بكر وعمر، فلذلك رفضوا زيد بن علي فسموا بالرافضة. أما تسميتهم بالشيعة؛ فلأنهم يزعمون أنهم يتشيعون لآل البيت وينتصرون لهم، وما دروا أنهم أشد الناس حرباً لأهل البيت، فقد زعموا أنهم ينصرونهم وهم في الحقيقة يخذلونهم طوال التاريخ، فلو راجعت التاريخ الإسلامي لعلمت أن كل هزيمة وكل نكبة نزلت على آل البيت فهي بسببهم، فهم الذين أخرجوا الحسين للقتال بعد أن وعدوه بالمؤازرة والمبايعة، ثم تركوه مقتولاً لم يشرب جرعة ماء رضي الله عنه وأرضاه، والآن يضربون أنفسهم بالسلاسل والسكاكين وكأنهم يردون ما فعلوا، ووالله إنهم لفي تيه وتخبط إن لم يرجعوا إلى منهج أهل السنة والجماعة، والويل كل الويل لمن يقول بالتقارب بين السنة والشيعة، فكيف نتقارب مع أناس نقضوا كلمة التوحيد، وزعموا أن علياً إله من دون الله جل في علاه؟! وكيف نتقارب مع رجل يسب أبا بكر وعمر علناً، ويقذف أم المؤمنين عائشة بالزنا والعياذ بالله؟ والأنكى من ذلك والأخزى أن بعضهم سئل عن سب أبي هريرة فقال: لا تسبه علناً، بل سبه في بيتك!! وهذا الكلام ضلال مبين، نسأل الله جل وعلا أن يهدينا جميعاً إلى سواء السبيل.

الجهمية

الجهمية قال: ومنهم أيضاً الجهمية، نسبة إلى الجهم بن صفوان الذي قتله سالم أو سلم بن أحوز سنة 121هـ، ومذهبهم هذا من أخبث المذاهب، فمذهبهم في الصفات: التعطيل والنفي، وفي القدر: القول بالجبر، فهم يقولون: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء وهم كذلك يرون أن كفر إبليس مثل إيمان جبريل؛ لأن إبليس تحت إرادة الله يفعل ما أراده الله جل في علاه، وجبريل أيضاً يفعل ما أراده الله جل في علاه، فاستويا في ذلك، نعوذ بالله من الخذلان! أما في الإيمان: فمذهبهم الإرجاء، والحقيقة أن الإرجاء قد انتشر في الآونة الأخيرة وأصبح مذهباً معلناً عنه بجرأة، ومذهب الإرجاء هو مذهب ضال في الإيمان، فهم يرون أن الإيمان محله القلب فقط، فهو مجرد الإقرار بالقلب وليس القول والعمل من الإيمان، ففاعل الكبيرة عندهم كامل الإيمان. إذاً: فالجهمية معطلة في الصفات، جبرية في القدر، مرجئة في الإيمان، في هذه العصور مبلغه، ولن يتصدى لهذه البدعة إلا طالب العلم المتقن، فهم الآن يتبنون نشرها باسم منهج السلف، ومنهج أهل السنة والجماعة وأصحاب الحديث، بل وجد منهم من كتب كتاباً يبلغ تسعمائة صفحة يبين فيه مذهب الإرجاء وأنه مذهب أهل السنة والجماعة.

الخوارج

الخوارج أما الخوارج: فهم الذين خرجوا لقتال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه بسبب التحكيم، ومذهبهم يقوم على التبرؤ من عثمان وعلي، والخروج على الإمام إذا خالف السنة، وتكفير فاعل الكبيرة وتخليده في النار، وهم فرق عديدة. وقد قلنا: بأن أهل السنة والجماعة لا يرون الخروج على الإمام بحال من الأحوال، قال صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)، وحتى لو وجد الكفر من الحاكم فإن شرط الخروج حينئذ عليه.

القدرية

القدرية وأما القدرية: فهم الذين يقولون بنفي القدر عن أفعال العبد، وأن للعبد إرادة وقدرة مستقلتين عن إرادة الله جل في علاه وقدرته، ولذلك سموا بمجوس هذه الأمة، فقد جعلوا من أنفسهم شركاء مع الله جل في علاه في الخلق، وأول من أظهر القول به معبد الجهني في أواخر عصر الصحابة، فقد تلقاه عن رجل مجوسي في البصرة، وانظروا! فما من مبتدع يبتدع بدعة إلا ويكون قد أخذها عن أهل الكفر والضلال والعياذ بالله. وهم فرقتان: غلاة، وغير غلاة، فأما الغلاة: فهم ينكرون علم الله، وهذه علامة لا بد أن تعرفها في غلاة القدرية: وهي أنهم ينكرون العلم، وقد صدرت الباب بقول الشافعي في مسألة غلاة القدرية: خاصموهم بالعلم، فإن أقروا فقد خصموا، وإن أنكروا فقد كفروا؛ لأنهم عند ذلك قد أنكروا صفة معلومة من الدين بالضرورة، فالغلاة ينكرون علم الله، وإرادته، وقدرته، وخلقه لأفعال العبد، وهؤلاء قد انقرضوا أو كادوا، فلم يبق منهم إلا القليل، وغير الغلاة يؤمنون بأن الله يعلم كل شيء، لكنهم ينكرون وقوع هذه الأفعال بإرادة الله وقدرته وخلقه، وهذا المذهب ظاهر لمخالفة لكتاب الله عز وجل، فقد قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].

المرجئة

المرجئة أما فرقة المرجئة: فهم الذين يقولون بإرجاء العمل عن الإيمان، أي: تأخيره عنه، فليس العمل عندهم من الإيمان، بل الإيمان مجرد الإقرار بالقلب فقط، فالفاجر عندهم مؤمن كامل الإيمان وإن فعل ما فعل من المعاصي، أو ترك ما ترك من الطاعات، أما إذا حكمنا بكفر من ترك بعض شرائع الدين فذلك لعدم الإقرار بها في القلب، فمعناه أن المرجئة يحصرون الكفر في كفر الاستحلال أو الجحود فقط.

المعتزلة

المعتزلة ومن الفرق أيضاً: المعتزلة: وهم أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري، وهؤلاء يكفرون بالمعصية، لكنهم لا يتجرءون على القول بكفر فاعل الكبيرة، ولا يتجرءون كذلك على القول بالفسق، بل يقولون: هو بمنزلة بين المنزلتين، لكنه في الآخرة مخلد في نار جهنم، وهذا ضلال مبين والعياذ بالله، وقد قلنا: بأن التوحيد يجب كل الكبائر.

الكرامية

الكرامية ومن هذه الفرق أيضاً: الكرامية: أتباع محمد بن كرام الذي توفي سنة 255هـ، وهم يميلون إلى التشبيه والقول بالإرجاء، وهم طوائف متعددة، والكرامية هم مرجئة في الإيمان، وقد يصلون إلى التشبيه لغلوهم في إثبات الصفات.

السالمية

السالمية ومنهم السالمة أيضاً: وهم أتباع رجل يقال له ابن سالم، يقولون بالتشبيه.

خطر مذهب الأشاعرة وبيان انحرافه

خطر مذهب الأشاعرة وبيان انحرافه وهذه الطوائف كلها طوائف بدعية ابتدعت في دين الله جل في علاه، فمنهم من هو قريب من أهل السنة والجماعة، ومنهم من هو بعيد منهم، وأبعدهم الرافضة وأقربهم الأشاعرة، هذا على الظاهر، وإلا لو عمقنا النظر في منهج الأشاعرة فسنجد أن الأشاعرة أيضاً من البعد بمكان عن أهل السنة والجماعة، والأشاعرة: هم أتباع أبي الحسن الأشعري، وهو منهم بريء، فقد تبرأ من المذهب الأشعري بعد أن كان معتزلياً ثم من الله عليه بعد ذلك باعتناق منهج أهل السنة والجماعة، حتى إنه مات وكتب أهل السنة والجماعة على صدره، وكان يمدح أهل السنة والجماعة مدحاً شديداً، والأشاعرة يثبتون سبع صفات وينفون الباقي، وهي مجموعة في قولهم: حي عليم قدير والكلام له إرادة وكذاك السمع والبصر وللأشاعرة بدع أخرى وليس هذا مجال التفصيل في هذه البدع. وفي الختام أقول لإخواني: اتركوا السياسة والثورات في الخطب، ودعوكم من كل هذا، وعليكم بطلب العلم، فإن شمسكم إذا أشرقت على الناس بعلم غزير فسترون ذلك عند ربكم يوم القيامة، فأنت الوريث الشرعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويا لها من نعمة ومنة، ويا له من فخر يتجلى في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1