شرح لمعة الاعتقاد للمحمود

عبد الرحمن بن صالح المحمود

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [1]

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [1] كتاب لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد لابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى من أفضل الكتب المختصرة في باب العقيدة، وقد بين فيه مؤلفه رحمه الله تعالى مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، والإيمان، والقرآن، والقدر، والإمامة، والصحابة وغيرها، بطريقة مختصرة ميسرة، مستشهداً على ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة وآثار السلف.

ترجمة ابن قدامة صاحب (لمعة الاعتقاد)

ترجمة ابن قدامة صاحب (لمعة الاعتقاد) بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فسنبدأ -إن شاء الله تعالى- شرح رسالة من رسائل السلف رحمهم الله تعالى في العقيدة ألا وهي رسالة: (لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد) للإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى. مؤلف هذه الرسالة هو الإمام الفقيه أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي الصالحي، وهذا الإمام اشتهر لدى العلماء بأنه صاحب (المغني) ؛ لأن كتابه (المغني) في الفقه يعتبر أوسع موسوعة في مذاهب العلماء وأقاويلهم في مسائل الشريعة الإسلامية؛ فإنه جمع رحمه الله تعالى في هذا الكتاب العظيم الفريد في بابه بين ذكره لأقاويل الصحابة وأقاويل كبار التابعين وتابعيهم، ثم أيضاً ذكره لأقوال الأئمة الأربعة: الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد، بل وكبار أصحابهم رحمهم الله تعالى، وأيضاً استقصى رحمه الله تعالى الروايات داخل مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. ثم إنه أيضاً اعتمد على ذكر الأدلة والتعليلات التي ذكرها الفقهاء، ثم لم يترك أيضاً الخلاف هكذا، وإنما أخذ رحمه الله تعالى يرجح ما يراه راجحاً، فصار كتابه الذي طبع في مجلدات عديدة موسوعة من أهم موسوعات الفقه الإسلامي، ومرجعاً من أهم المراجع لدى العلماء من بعده وإلى عصرنا الحاضر، ومن ثّم اشتهر رحمه الله تعالى بأنه صاحب (المغني) ، فكأن شهرة كتابه (المغني) غطت على اسمه رحمه الله تعالى، فإذا قيل: صاحب (المغني) انتقل هذا التعريف إلى هذا الإمام الجليل الذي سبق أن ذكرنا نسبه باختصار. هذا الإمام الجليل ولد سنة (541هـ) بفلسطين، ببلدة تسمى جماعيل قرب نابلس، وتوفي رحمه الله تعالى سنة (620هـ) . وأقول: إن هذا العالم الجليل تميز فوق تميزه العلمي بمثل كتابه (المغني) بمختصراته الأخرى في الفقه، ككتابه (المقنع) الذي يعتبر للمتوسطين، و (الكافي) وهو فوق ذلك، وأيضاً مثل كتابه (العمدة) للمبتدئين، إضافة إلى كتابه (روضة الناظر في أصول الفقه) وهو كتاب مشهور، وغير ذلك من رسائله وكتبه، ومنها هذا الكتاب الذي سنبدأ دراسته في هذه الدروس المتوالية إن شاء الله تعالى. وأقول: إن هذا العالم الجليل فوق كونه عالماً بارعاً مصنفاً كان أيضاً إماماً مجاهداً، فقد اشتهر رحمه الله تعالى بمشاركاته في الجهاد في سبيل الله مع صلاح الدين الأيوبي هو وجماعته المقادسة من إخوانه وأبناء عمومته رحمهم الله تعالى، فإن هذه الأسرة كانت مع صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى في جهاده، وشارك في المعارك التي دارت سنة (583هـ) لقتال الصليبيين وتحرير بيت المقدس منهم، وكان ابن قدامة رحمه الله تعالى وأفراد أسرته ممن له دور كبير في جهاد الصليبيين. إذاً: إمامنا هو إمام علم، وإمام عمل وجهاد، وهؤلاء هم سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى الذين كانت صفاتهم تميزهم بهذا التميز: علم مؤصل، ويعقبه عمل ودعوة وجهاد في سبيل الله.

شرح عنوان الرسالة

شرح عنوان الرسالة هذا الكتاب الذي معنا سماه المؤلف رحمه الله تعالى: (لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد) . واللمعة هي: ما خالف بين بقية اللون، كأن يكون -مثلاً- اللون أسود وتكون فيه بقعة بيضاء، فتسمى هذه البقعة البيضاء لمعة. ولذا اشتهرت هذه الكلمة بأن تطلق على لمعة الفرس التي تكون غالباً في الخيل ونحوها، وتكون هذه اللمعة لمعة بيضاء وبقية الجسم إما أدهم أو قريب من ذلك؛ المهم أنه اشتهر هذا اللفظ بقولهم: لمعة الفرس. أو أن اللمعة بمعنى: البلغة من العيش، كما يقول أهل اللغة، وعلى هذا أو هذا فإن المصنف رحمه الله تعالى قصد بكلامه أو بكتابه هذا حين سماه بـ (لمعة الاعتقاد) أنه بلغة من الاعتقاد الصالح الصحيح، ومن ثَّم قال رحمه الله تعالى: (الهادي إلى سبيل الرشاد) ، ولاشك أن الاعتقاد الصحيح المبني على الأدلة الصحيحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو هادٍ لمن سلكه وسار عليه إلى سبيل الرشاد. وسبيل الرشاد هو في الدنيا بأن يكون من اعتصم بها ممن هدي ورشد واستقام في طريقه، وهو أيضاً سبيل إلى الرشاد في الآخرة حين يهدى من مات على هذا التوحيد الصحيح إلى جنات النعيم، أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا جميعاً من أهل الجنة، وممن وفق وهدي إلى سبيل الرشاد. وعلى هذا فإن الشيخ رحمه الله تعالى لم يرد من رسالته هذه أن تكون كتاباً مفصلاً في الاعتقاد، وإنما أرادها لمعة تبين الطريق، أو أرادها بلغة للسالكين؛ بحيث إنه إذا قرأها الإنسان واستوعبها وفهمها استقام لديه معرفة العقيدة من جوانبها المتعددة، وهو رحمه الله تعالى ربط عقيدته بالأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شرح البسملة

شرح البسملة بدأ المصنف رحمه الله تعالى رسالته هذه بما يبدأ به المصنفون من أئمة الإسلام رحمهم الله تعالى فقال: بسم الله الرحمن الرحيم والكلام على البسملة منتشر في كافة شروح الكتب من جميع الأنواع، في اللغة وفي النحو وفي كتب العقائد والفقه وغيرها، ولا يكاد من شرح كتاباً من هذه الكتب إلا وتكلم عن البسملة، وعن معناها وما دلت عليه من الأسماء لله سبحانه وتعالى: الله، الرحمن، الرحيم. ونحن نشير إلى ذلك إشارة مجملة فنقول: قول المؤلف رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) المعنى: أبتدئ كتابي مستعيناً بالله تبارك وتعالى، و (باسم) : الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: أكتب، وهذا بالنسبة لمن يؤلف كتاباً، كإمامنا هنا، وإذا كان القارئ يقرأ القرآن وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، تكون (باسم) جاراً ومجروراً متعلقاً بقوله: أقرأ، وإذا كان الإنسان يدخل بيته أو يدخل مكانه ويقول: باسم الله، فيكون معناها: أدخل هذا المكان باسم الله، أي مستعيناً بالله تبارك وتعالى. و (الله) الصحيح فيه: أنه مشتق وليس بجامد؛ لأن العلماء رحمهم الله تعالى اختلفوا في لفظ الجلالة (الله) ، فبعضهم قال: إنه علم جامد وغير مشتق، وبعضهم قال: إنه مشتق، ثم اختلفوا في الاشتقاق هل هو من أله يأله فهو مألوه، أو من أله يأله فهو آله؟ فذهب بعض المتكلمين: إلى أنه من أله يأله فهو آله، أي: أن الله يأله عباده، ومن ثمَّ فسروه بتوحيد الربوبية وهو الخلق، أي: أن الله يأله عباده؛ فهو الذي خلقهم، وهو الذي يرزقهم إلى آخره، وبناءً على هذا التفسير وقع خطأ كبير عند كثير من المتكلمين حين فسروا كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) بأن معناها: لا خالق إلا الله؛ بناءً على هذا الفهم في الاشتقاق. القول الثاني هو: أنها من أله يأله فهو مألوه، أي: معبود، أي: أن الله سبحانه وتعالى هو المستحق للعبودية، وهذا هو القول الصحيح، ومن ثَّم جاء تفسير كلمة الشهادة (لا إله إلا الله) أي: لا معبود بحق إلا الله تبارك وتعالى، وهذا هو توحيد العبادة، وهذا هو الصحيح في معنى (لا إله لا الله) ، وهو الصحيح أيضاً في اشتقاق كلمة (الله) . و (الرحمن الرحيم) اسمان من أسماء الله تبارك وتعالى؛ الرحمن: اسم، وهو صيغة مبالغة خاص بالله سبحانه وتعالى لا يوصف به مخلوق. والرحيم أيضاً: اسم من أسمائه تبارك وتعالى، لكن قد يوصف المخلوق بأنه رحيم. ونحن نقول: إن اسمه تبارك وتعالى (الرحيم) دال على صفة الرحمة، وكذلك أيضاً اسم الله (الرحمن) ، ونثبتهما لله تبارك وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته من غير مشابهة للمخلوقين؛ ولـ ابن القيم رحمه الله تعالى في أول (مدارج السالكين) كلام قيم جداً حول البسملة، وحول أيضاً اسمه تعالى (الرحمن الرحيم) ، فمن أراد فليرجع إليه؛ فإن فيه فوائد جمة.

معنى الحمدلة

معنى الحمدلة ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [الحمد لله المحمود بكل لسان] . (أل) في الحمد للاستغراق، والمقصود بقول القائل: الحمد لله: ذكر أوصاف المحمود، والاعتراف بها، والثناء على الله سبحانه وتعالى بما هو أهله. وقول المؤلف رحمه الله تعالى هنا: (بكل لسان) يدل على أمر مهم، وهو أن الله سبحانه وتعالى فطر جميع الخلق على حمده سبحانه وتعالى والاعتراف له بالربوبية، ومن ثمَّ فقوله: (المحمود بكل لسان) ، يشمل لسان الحال، ويشمل أيضاً لسان المقال؛ أما لسان الحال فإن الله سبحانه وتعالى يحمده جميع المخلوقات، وأما لسان المقال فإنه سبحانه وتعالى المحمود على جميع الألسنة، فمهما اختلفت اللغات فإن الله سبحانه وتعالى يحمده أهل تلك اللغة بما علموا من أوصافه سبحانه وتعالى بما هو أهله، وهذا من خصائص الربوبية والألوهية التي لا تكون لأحد.

أقسام العبودية ومعناها

أقسام العبودية ومعناها ثم قال رحمه الله تعالى: [المعبود في كل زمان] . أي: أنه سبحانه وتعالى له العبودية، والعبودية قسمان: القسم الأول منها: عبودية عامة شاملة لا يخرج عنها أحد، بل تشمل جميع الخلق، كما قال عز وجل: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] ، وهو سبحانه وتعالى معبود -أي: العبودية التي هي مقتضى الربوبية- عند جميع الخلق؛ لأنه سبحانه وتعالى هو خالقهم، وهو ربهم تبارك وتعالى، لهذا فإن هذه العبودية العامة الشاملة لا يخرج عنها أحد من إنس ولا من جن، ولا مؤمن ولا كافر، ولا من البشر ولا من الملائكة، ولا من شمس ولا من أرض، ولا من بحر ولا من هواء، فالكل عبيد لله سبحانه وتعالى مسخرون له تبارك وتعالى مطيعون، وهذا مما دلت عليه النصوص الكثيرة؛ فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخلق، وهو الذي يأمرهم، وهو الذي يقدر لهم ما يشاء، وهم خاضعون له؛ فحتى بني آدم الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى عقولاً هم أيضاً في نشأتهم في هذه الأرض وفي حياتهم فيها، بل وفي رزقهم وأجلهم وموتهم وألوانهم وأطوالهم وما يجري داخل أجسامهم من حركات القلب والدم والهضم إلى آخره؛ كل ذلك هو خاضع لله سبحانه وتعالى؛ فليس للإنسان إرادة في أن يختار كيفية معيشته، ولا كيفية نفسه، ولا كيفية ضخ الدم في عروقه إلى آخره. إذاً: هذا في الإنسان العاقل المكلف، فكيف بغيره من المخلوقات؟! هذه هي العبودية الشاملة التي لا يخرج عنها أحد. النوع الثاني من العبودية: العبودية الخاصة، وهذه العبودية الخاصة هي التي يتميز بها المؤمنون عن الكفار، فالمؤمنون هم الذين يعبدون الله تبارك وتعالى مخلصين له على وفق شريعته التي أمر بها على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام. فقول المؤلف رحمه الله تعالى: (المعبود في كل زمان) قد يدخل فيه العبودية العامة وقد يدخل فيه العبودية الخاصة بالمؤمنين. وقوله: (في كل زمان) أيضاً وفي كل مكان، والمعنى: أنه لا يخلو زمان أو مكان من وجود من يعبد الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الذي علمناه من أخبار رسل الله الكرام، ومما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بالحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تباك وتعالى) .

شمول علم الله سبحانه وتعالى

شمول علم الله سبحانه وتعالى ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [الذي لا يخلو من علمه مكان] . وهذا فيه إثبات شمول علم الله سبحانه وتعالى؛ فلا يخلو من علمه أي مكان، سواء كان هذا المكان ظاهراً أو باطناً، في جوف البحار أو في جوف الأرض أو تحت صخور الجبال أو ما هو غائب، فعلم الله سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شيء، كما قال عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] ، فعلمه سبحانه وتعالى أحاط بكل مكان، كما قال عز وجل: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] .

شمول قدرة الله عز وجل

شمول قدرة الله عز وجل ثم قال: [ولا يشغله شأن عن شأن] أي: لكمال صفاته، فالمخلوق لضعفه حتى لو كان عنده بعض الصفات لا يستطيع أن يشتغل بأكثر من أمر في وقت واحد، ويندر أن يجمع قواه العقلية لتكون في شغلين متكافئين، وإنما غاية ما يحصل عند الإنسان أن يشتغل بأمر يعمل فيها ذهنه، ثم يشتغل بيده أو برجله بشغلة أخرى لا تحتاج إلى إعمال الذهن، أما ماعدا ذلك فلا يستطيع. أما الله سبحانه وتعالى فهو يسمع، وسمعه وسع السماوات والأرض؛ فيسمع في وقت واحد دعاء الداعين وأقوالهم على اختلاف الزمان والمكان، وهو سبحانه وتعالى كل يوم في شأن، ولا يشغله شأن عن شأن، فيغفر لهذا، ويتوب على هذا، ويستجيب لهذا، ويرزق هذا، ويحيي هذا، ويميت هذا، سبحانه وتعالى وتقدس؛ لأنه كامل الصفات، فلا يقاس بغيره، وهذا هو حقيقة فهم أئمة أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى لأسمائه وصفاته؛ حيث إنهم يفهمونها كما يليق بجلاله وعظمته، ومن ثمَّ فلا يحتاجون إلى تأويل. أما أهل الكلام الباطل فإنهم أولاً يقعون في التشبيه، فإذا سمعوا صفة من صفات الله تبارك وتعالى ظنوا أنها كصفة فلان فيقعون في التشبيه، ثم يضطرون إلى التأويل والتعطيل؛ أما أهل السنة والجماعة فيثبتون لله الصفات كما يليق بجلاله وعظمته، ولا يحتاجون إلى تأويل ولا إلى تحريف ولا إلى تعطيل.

تنزيه الله عز وجل عن الند والشبيه والصاحبة والولد

تنزيه الله عز وجل عن الند والشبيه والصاحبة والولد ثم قال رحمه الله تعالى: [جل عن الأشباه والأنداد] . أي: تقدس وتنزه. وقوله: (عن الأشباه والأنداد) ، الشبيه هو: المشابه ببعض الوجوه دون بعض، وهو سبحانه وتعالى جل أن يشبه شيئاً من خلقه لا في ذاته ولا في أي صفة من صفاته تبارك وتعالى، كما أنه أيضاً جل وتقدس عن الند والمثيل، سواء في الربوبية أو في الخالقية أو في أي صفة من صفاته سبحانه؛ فهو الرب المعبود وحده لا شريك له. ثم قال: [وتنزه عن الصاحبة والأولاد] . وهذا بنص القرآن؛ فقد دلت عليه الأدلة المعروفة، فلم يتخذ صاحبة ولا ولداً سبحانه وتعالى، فهو ليس له صاحبة ولا ولد، وفي ذلك نقض لما ادعاه المشركون حين قالوا: إن الملائكة بنات الله! أو النصارى حينما يقولون: إنما المسيح ابن الله! أو اليهود حينما يقولون: إن العزير ابن الله! فالابن يحتاج إلى صاحبة، والله سبحانه وتعالى تنزه عن الصاحبة والولد، وتعالى عما يقول هؤلاء جميعاً علواً كبيراً.

نفوذ حكم الله القدري في جميع الخلق

نفوذ حكم الله القدري في جميع الخلق ثم قال: [ونفذ حكمه في جميع العباد] . أي: أن حكمه سبحانه وتعالى نافذ في جميع العباد، وهذا الحكم النافذ في جميع العباد الأصل فيه أنه حكمه القدري، فما شاء الله كان، وما شاء لم يكن، وهذا هو الذي ينفذ في الجميع: المؤمن والكافر؛ فجميع العباد نفذ فيهم وينفذ فيهم حكم الله سبحانه وتعالى، فهم جاءوا إلى هذه الدنيا بأمر الله، ويحيون بأمر الله، ويموتون بأمر الله، فحكمه فيهم نافذ، وقد يدخل في عموم هذا الكلام أن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يحكم بين العباد، كما قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] ، والخلق هو التقدير، والأمر هو نفاذ شرع الله سبحانه وتعالى؛ فهو سبحانه وتعالى هو الذي يحكم بين عباده، ويشرع لهم ما يشاء؛ وبما أنه هو القاهر فوق عباده وحكمه القدري هو النافذ فهو أيضاً سبحانه وتعالى الذي له الشرع والحكم بين عباده، كما قال تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26] ، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص:65-66] ، وقال تعالى بعد ذلك: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] ، وقال سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] ؛ فهو سبحانه وتعالى الذي ينفذ حكمه في جميع العباد قدراً، وهو الذي يجب أن ينفذ حكمه في جميع العباد أمراً وشرعاً.

تحريم تمثيل الله عز وجل وتوهمه بالعقول والقلوب

تحريم تمثيل الله عز وجل وتوهمه بالعقول والقلوب قال رحمه الله تعالى: [لا تمثله العقول بالتفكير] . أي: أنه سبحانه وتعالى في ذاته وصفاته لا يمكن أن تمثله أو تشبهه العقول في تفكيرها، أي: مهما بلغ العقل في فهمه وسعة خياله أو نحو ذلك فلا يستطيع أن يمثل أو يشبه ذات الله أو صفة من صفات الله تبارك وتعالى، وكيف يستطيع عقل الإنسان القاصر الصغير أن يمثل ذات الله أو صفة من صفاته، والله سبحانه وتعالى يقول عن نفسه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، فتصور هذا! فأنى لهذا الإنسان الذي يعتبر خلقاً صغيراً جداً يجري على هذه الأرض، وهذه الأرض بالنسبة لكون الله الشاسع لا تمثل إلا ذرة صغيرة جداً، ومع ذلك فإن الأرضين والسماوات بكواكبها ومجراتها وسعتها تكون كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، فكيف يأتي العقل ليمثل صفات الله سبحانه وتعالى؟! فالله سبحانه وتعالى لا تمثله العقول بالتفكير. ثم قال رحمه الله: [ولا تتوهمه القلوب بالتصوير] . أي: أن القلب مهما توهم لا يمكن أن يصل إلى وهم معين بتصوير ذات الله سبحانه وتعالى أو صفاته، ولهذا قطع أئمة السلف رحمهم الله تعالى أن كيفية صفات الله سبحانه وتعالى لا تدرك ولا يحاط بها، ولذا فإن أهل السنة والجماعة يثبتون لله الصفات، لكن الكيفية يكلون أمرها إلى الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى عن نفسه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ، أي: أنه سبحانه وتعالى وإن كان يراه المؤمنون يوم القيامة رؤية عيانية حقيقية إلا أنهم مع رؤيتهم له لا يدركونه، ولا يحيطون به سبحانه وتعالى. وفرق بين الرؤية وبين الإدراك، فنحن الآن -مثلاً- نرى السماء أو نرى الشمس أو نرى القمر لكننا لا نستطيع أن ندركه، بل نرى الجبل في الأرض لكن لا نستطيع أن ندرك تفاصيل هذا الجبل ونحو ذلك، ولله المثل الأعلى؛ فالله يرى، لكن مع ذلك هو سبحانه وتعالى كما قال عن نفسه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] ، فهو سبحانه لا تتوهمه القلوب بتصوير معين، سواء كان هذا التصوير مما يتوهمه القلب لصفة ذاتية لله سبحانه وتعالى أو لصفة معنوية.

تنزيه الله عز وجل عن التمثيل

تنزيه الله عز وجل عن التمثيل ثم ذكر المصنف رحمه الله تعالى قاعدة من قواعد أهل السنة المستنبطة من كتاب الله تبارك وتعالى فقال: [ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]] . وهذا هو منهاج أهل السنة والجماعة، فقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) رد على المشبهة والممثلة؛ فهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، فلا يماثل أحداً من خلقه، ولا تماثل صفاته صفات أحد من خلقه، ولذا قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ؛ وشيء هنا تعم، لأنها نكرة في سياق نفي وهو قوله: (ليس) . والكاف في قوله: (كمثله) جاءت للتأكيد، والأصل فيه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، فأكدها بقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) . وبعض العلماء قالوا: إن الكاف بمعنى: مثل، فيكون المعنى: (ليس مثل مثله شيء) ، قالوا: وهذا من باب المبالغة: أنه إذا نفى مثل المثل فالمثل من باب أولى، وإذا كان مثل المثل ليس كمثله سبحانه فإن المثل من باب أولى. وقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] هذا لبيان إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى. فأول الآية رد على المشبهة وآخرها -وهو قوله-: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) رد على المعطلة؛ لأن قوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) اسمان لله دالان على صفة السمع والبصر له تبارك وتعالى. وإذا كان قوله: (السميع البصير) اسمان إلا أن هذين الاسمين لا يمكن أن يثبتا إلا بإثبات مدلولهما، وهو صفة السمع والبصر، ولذا اقترح بعض المعتزلة على أحد خلفاء بني العباس -في زمن تسلط المعتزلة- أن يكتب في سترة الكعبة أو نحوها وكان مكتوباً عليها: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] اقترح عليه أن يمحو هذه ويكتب: (ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم) ! فبعضهم يقول: ما الفرق بين (السميع البصير) وبين (العزيز الحكيم) ؟ فنقول: إن هذا المعتزلي أراد أن يثبت أن الله عزيز حكيم، وهذان الاسمان قد يرجعهما إلى ربوبيته ونحو ذلك، لكنه أراد أن يمحو: (السميع البصير) ؛ حتى ينفي ما دلا عليه من صفة السمع والبصر؛ نظراً لتوهمه التشبيه.

إثبات الأسماء الحسنى والصفات العلى لله عز وجل

إثبات الأسماء الحسنى والصفات العلى لله عز وجل ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [له الأسماء الحسنى] . والحسنى هي: الحسنة بالغة الحسن، وهذا بنص القرآن: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] ، فأسماؤه سبحانه وتعالى كلها حسنة بالغة الكمال في الحسن. ثم قال: [والصفات العلى] . أي: أن له سبحانه وتعالى الصفات العالية بكمالها وقدرها وعظمتها؛ لأنها صفات عظيم فهي صفات كاملة. ثم إن المصنف رحمه الله تعالى أراد أن يمثل في بداية هذه العقيدة لبيان منهاج السلف رحمهم الله تعالى ببعض الصفات التي قد يقع فيها خلاف أو كلام أو نحو ذلك بين الفرق والطوائف فقال: [ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]] . فهو أولاً ذكر قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، أي: أن له الأسماء الحسنى، ثم قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، فجمع رحمه الله تعالى بين الثناء على الله بما هو ثابت من صفاته مثل صفة الاستواء على العرش، وسيأتينا -إن شاء الله تعالى- في أثناء هذه الرسالة الكلام على صفة الاستواء ومدلوله، والمصنف هنا إنما أراد أن يشير إشارة إلى هذه الآية، لكن أيضاً أراد رحمه الله تعالى مع الثناء أن يبين منهاج السلف رحمهم الله تعالى في إثبات الصفات، وأهل السنة والجماعة يثبتون صفة الاستواء لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته؛ لأن استواء الله على العرش ورد في كتاب الله تبارك وتعالى في سبعة مواضع. أما من فسره بالاستيلاء أو نحوه أو تأوله بذلك فتأويله باطل، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- مناقشة ذلك.

إحاطة الله عز وجل بكل شيء

إحاطة الله عز وجل بكل شيء ثم قال المصنف مستشهداً: [ {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:6]] . وهذا لبيان كمال صفاته، فهو سبحانه مالك الملك؛ فمن من المخلوقين يملك شيئاً؟ A لا أحد! حتى ملوك الدنيا فملكهم ناقص من جهتين: من جهة أنه ملك لا يستطيع هو أن يحرزه ويتصرف فيه كما يشاء؛ ومن جهة أخرى: أن ملكه هذا إما أن يرحل هو عنه أو يرحل عنه ملكه؛ أما مالك الملك الذي له ما في السماوات وما في الأرض فهو الخالق له وهو المالك تبارك وتعالى. وقوله تعالى: (وَمَا بَيْنَهُمَا) ، أي: ما بين السماء والأرض؛ (وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) ، وهذا لبيان أن الله سبحانه وتعالى له كل شيء. ثم قال: [ {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]] . هذا لبيان كلام الله سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} [طه:7] ؛ لبيان أن الجهر بالقول أو العلانية عنده سواء، ولذا جاء التعليل بقوله: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] ، والسر: قيل: هو ما يسره الإنسان لشخص آخر، فيقال: ساره بكذا، أي: كلمه سراً بينه وبينه؛ فقوله تعالى: (وَأَخْفَى) ، أي: أخفى من هذا السر الذي يكون بين اثنين وهو ما يسره الإنسان في نفسه فلا يخبر به أحداً؛ فإن كان قوله: (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ) أي ما يسره الإنسان في نفسه فالذي يظهر -والله أعلم- أن قوله تبارك وتعالى: (وَأَخْفَى) أي: ما هو أخفى من السر، أي: مما يجهله الإنسان من نفسه هو؛ فإن الإنسان يسر أمراً فيعلمه، لكن في نفسه أمور هي أخفى مما يسره، فالله سبحانه وتعالى يعلمها؛ فكيف بما فوق السر من الجهر بالقول؟! لا شك أن الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] . ولذا قال المصنف هنا: [أحاط بكل شيء علماً] . وهذا هو مدلول الآية التي ذكرت: أن الله أحاط بكل شيء علماً؛ كما قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:255] ، وقال: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] ، فالله عز وجل قد أحاط بكل شيء علماً، وهذا نص الآية: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12] . وقوله: (بكل شيء) ، هذه نكرة تعم، أي: أن علمه أحاط بكل شيء مهما دق أو صغر أو خفي في ليل أو نهار في أعماق البحار أو تحت الثرى أو نحو ذلك، فقد أحاط الله تبارك وتعالى وتقدس بكل شيء.

قهر الله عز وجل لكل شيء

قهر الله عز وجل لكل شيء ثم قال: [وقهر كل مخلوق عزة وحكماً] . أي: أنه سبحانه وتعالى قهر الجميع عزة وحكماً؛ لأنه سبحانه وتعالى هو العزيز في ملكه، الحكيم في أمره وشرعه، فهو سبحانه وتعالى قهر كل مخلوق، وهذا واضح جلي؛ فالكل داخل تحت مشيئته سبحانه وتعالى؛ وسبق أن بينا أن كل مخلوق سائر على ما يقدره الله سبحانه وتعالى. ولنضرب أمثلة بمن قد يظن أنهم أوتوا قدرة: فلو أن رجلاً أوتي قوة عضلية أو أوتي قوة مال أو قوة سلطان أو قوة في قيادة الجيش أو نحو ذلك من القوى؛ فانظر إلى حال هذا الإنسان بذاته تجده بالنسبة لربه مقهوراً، يأتيه المرض فلا يستطيع أن يرده، ويأتيه الهرم فلا يستطيع أن يوقفه، ويأتيه الموت فيعجز هو ومن في الأرض جميعاً عن أن يؤخروا أجله لحظة! إضافة إلى أنه مقهور في وجوده في هذه الأرض بغير إرادة، وفي ولادته، وفي تحديد لونه وطوله، ونحو ذلك.

شمول رحمة الله عز وجل لكل شيء

شمول رحمة الله عز وجل لكل شيء ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ووسع كل شيء رحمة وعلماً] . أي: أنه سبحانه وتعالى قهر عباده، ووسعهم برحمته؛ فكما أنه وسعهم علماً وسعهم رحمة؛ ورحمة الله سبحانه وتعالى امتدت ووسعت كل شيء؛ حتى البهائم والحشرات، وحتى الكفار؛ لأننا نشاهد أن الكفار يرحم بعضهم بعضاً، ويرحمون أولادهم، فرحمته سبحانه وتعالى وسعت كل شيء، كما أن علمه تبارك وتعالى وسع كل شيء.

إحاطة علم الله عز وجل بالخلق

إحاطة علم الله عز وجل بالخلق ثم قال المصنف مستشهداً: [ {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]] . وهذا مؤكد لما قلناه من قبل؛ فهو سبحانه وتعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ويعلم ما أمامهم مما سيعملونه، سواء عملوه بتخطيط منهم وإرادة أو غير ذلك مما سوف يقع لهم من مقدورات الله سبحانه وتعالى المستقبلية، كما أنه يعلم ما خلفهم مما عملوه، إذ قد أحصاه الله سبحانه وتعالى وعلمه وكتبه؛ وعلى هذا فإن علم الله أحاط بكل شيء سابق ولاحق، والله تبارك وتعالى علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما قال تعالى عن الكفار حينما يقفون بين يدي الله تبارك وتعالى ويطلبون الرجعة: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] ، هذا في الدنيا؛ وقال عنهم في الآخرة: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] ، ولا تظنوا أن هذا من باب التقدير، بل هذا من باب العلم اليقين الكامل لله، فإن الكافر وهو واقف بين يدي الله يوم القيامة يشاهد العذاب ويوقن بالحقيقة التي لا مراء فيها يرى الحقيقة بأم عينيه ويرى البعث والجزاء والحساب والنار والجنة، قال الله عنه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] ، أي: أن هذا الكافر لو عاد إلى الدنيا لعاد إلى كفره وشره، وربما لو عاد إلى الدنيا لقال: قد قلنا لكم إن الأمر الصحيح، فهانحن قد رجعنا إلى الدنيا مرة أخرى؛ لكن قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام:28] هذا من باب العلم، فالله تعالى يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فهو سبحانه وتعالى علم ما كان وما لم يكن.

وجوب إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات

وجوب إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات ثم ذكر المصنف رحمه الله تعالى قاعدة من قواعد منهج أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، فقال رحمه الله تعالى: [موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم] . أي: أنه تبارك وتعالى موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه الكريم، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ فإنهم يصفون الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير أن يعطلوا الصفات أو يشبهوها أو يحرفوها أو يتأولوها تأويلاً يبعد بها عن معانيها اللائقة بها، مع قولهم واعتقادهم ويقينهم وإيمانهم أن كيفية هذه الصفات لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى؛ وهذه هي قاعدة أهل السنة والجماعة في هذا الباب؛ أي: إثبات الأسماء والصفات لله سبحانه وتعالى كما وردت في الكتاب والسنة وكما يليق بجلال الله وعظمته، وهذه القاعدة هي التي سار عليها المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه هذا؛ وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ذكر تفصيل ما ورد من أسماء الله تبارك وتعالى وصفاته وبقية مسائل الاعتقاد.

وجوب الإيمان بكل ما جاء في القرآن والسنة من صفات الله عز وجل

وجوب الإيمان بكل ما جاء في القرآن والسنة من صفات الله عز وجل ثم أوضحها رحمه الله تعالى ببيان أمر خطير ومهم تميز به أهل السنة والجماعة فقال: [وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل] . وهذه هي قاعدة أهل السنة والجماعة؛ فإنهم يقولون: إن كل ما جاء في القرآن العظيم فإننا نأخذ به. وقد يقول قائل: وأيضاً أهل الكلام والمعطلة يأخذون بما في القرآن؟ فنقول: هناك فرق عظيم بين أن يؤخذ بما في القرآن مفسراً للقرآن بالقرآن ومفسراً للقرآن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومثبتاً لما ورد، وبين من يأخذ بالقرآن ثم يعمل فيه تحريفاً وتأويلاً. فالذي قال -مثلاً- في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] : إن (استوى) بمعنى: استولى، هو في الظاهر أخذ بالقرآن، لكنه في الحقيقة لم يثبت ما في القرآن على الوجه الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، فحرف اللفظ والنص عن المعنى اللغوي الدال عليه، وهذا هو التحريف والتأويل الباطل الذي منعه الأئمة رحمهم الله تعالى، لكن أهل السنة والجماعة يأخذون بما في القرآن، ويثبتونه على مقتضى ما عرف من لغة العرب التي نزل بها القرآن مضبوطة ومقيدة بالأدلة الأخرى من الكتاب ومن السنة ومن فهم الصحابة رضي الله عنهم جميعاً لهذه النصوص. أما أن ينطلق إلى نصوص القرآن ثم يعمل فيها كل إنسان بما يشاء فهذا هو الذي فرق الفرق، فحين تأتي إلى المعتزلة أو الخوارج أو المرجئة أو الرافضة تجد أن كلاً منهم يحتج بآيات من القرآن، فهل معنى ذلك أن مذاهبهم صحيحة؛ لأنهم احتجوا بالقرآن؟ نقول: لا؛ لأن الاحتجاج بالقرآن لابد أن يكون على منهاج صحيح وعلى منهاج سليم، ولا يصح أن الواحد يأخذ من النصوص ما يريد ويدع منها ما لا يريد بناءً على أهوائه؛ فإن هذا هو منهاج أهل الأهواء؛ أما منهاج أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى فهو القائم على أسس صحيحة منضبطة في الاستدلال بنصوص الكتاب الكريم، وهكذا في كيفية الاستدلال والفهم. ولذا قال: (وكل ما جاء في القرآن) ، أي: من الأسماء والصفات، فنحن نثبته لله كما يليق بجلاله وعظمته، ونسلم به.

حجية خبر الواحد العدل والعمل به في العقائد والأحكام

حجية خبر الواحد العدل والعمل به في العقائد والأحكام ثم قال: (أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن) ، أي: ما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نأخذ به في باب الاعتقاد، ومن ذلك إثبات الصفات لله تبارك وتعالى، وهذا هو بيت القصيد في منهاج أهل السنة والجماعة، وهو القضية الكبرى التي هي من القضايا والأصول الكبار التي ميزت أهل السنة والجماعة عن غيرهم من الطوائف، ألا وهي: حجية خبر الآحاد في العقيدة. وأقول بهذه المناسبة: إن القول بأن خبر الآحاد إذا صح وتلقي بالقبول يفيد العلم، ويحتج به في باب الاعتقاد، كما يحتج به في باب الأحكام، هو الأصل الذي عليه جماهير السلف رحمهم الله تعالى وجماهير الأئمة، وقد ألفت في هذا الموضوع رسائل مطبوعة، فللشيخ الألباني رسالة، وللدكتور عمر الأشقر رسالة، وللشيخ سليم الهلالي أيضاً كتاب اسمه (الأدلة والشواهد بحجية خبر الواحد) وللشيخ ابن جبرين حفظه الله تعالى رسالة في حجية خبر الواحد وإن كانت في أصول الفقه إلا أنه أيضاً تطرق لقضية الاحتجاج بها في أصول الاعتقاد؛ وأوسع من تكلم في ذلك على حد علمي هو ابن القيم رحمه الله تعالى في آخر (مختصر الصواعق) ؛ فإن المائة صفحة الأخيرة من (مختصر الصواعق المرسلة) كلها في بيان هذه القضية، وقد تميز رحمه الله تعالى بأنه أصل القضية من أساسها تأصيلاً قوياً، وأرجعها إلى قضية شهادة أن محمداً رسول الله، وإلى قضية تبليغ الرسول لهذا الدين، وقضية أن هذا الدين كامل وباقٍِ، وإلى قضايا أخرى، وذكر عدداً من الأدلة الدالة على إفادته العلم وعلى حجيته في باب الاعتقاد وفي غيره. وهذا الذي عليه جماهير الأئمة المتقدمين رحمهم الله تعالى هو الذي يجب أن نسوقه حينما نحكي الخلاف في هذه القضية؛ لأن الذي دعانا إلى بيان هذه المسألة المهمة هو ما اطلعت عليه في كتب أصول الفقه للأئمة المتأخرين، ومما يؤسف له: أن بعض من بحث هذه المسائل ممن كتب في أصول الفقه اعتمد على كتب الفقه التي ألفها أولئك الأئمة! فهؤلاء حكوا الخلاف بحسب ما يعلمونه هم، ولما كانت كتب أصول الفقه في غالبها أن من كتبها هم من أئمة الاعتزال أو الأشاعرة أو الماتريدية تأثر مؤلفوها بخلفياتهم الكلامية في كثير من قضايا العقيدة، ومنها هذه القضية التي معنا، وهي حجية خبر الآحاد وإفادته العلم. وأقول لكم أيها الإخوة: إن الكتب الكبار التي هي مراجع ألفها غير أئمتنا، منها: (المعتمد في أصول الفقه) والكتاب مطبوع، وهو لـ أبي الحسين البصري، وهو معتزلي، و (المحصول في أصول الفقه) للفخر الرازي، وهو أشعري، و (المستصفى) للغزالي، وهو أشعري، و (البرهان في أصول الفقه) للجويني، وهو أشعري، و (العدة في أصول الفقه) لـ أبي يعلى، وكذلك كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) للآمدي، وهذان حنبليان، ولكن الآمدي أشعري، وبالنسبة أيضاً لصاحب (العدة) أبي يعلى يميل كثيراً إلى مذهب الأشاعرة، وهكذا كثير من كتب أصول الفقه ألفها أئمة إما ماتريدية أو أشاعرة أو معتزلة؛ فلما حكى هؤلاء الخلاف في هذه القضية التي معنا -وهي حجية خبر الآحاد في العقيدة- حكوها بطريقة ينبغي أن يوقف عندها؛ فقالوا: اختلف العلماء في قضية إفادته للعلم، ومن ثَّم في حجيته للعقيدة، على قولين: فقال جماهير العلماء: إن أخبار الآحاد تفيد العلم ولا يحتج بها في العقيدة، والقول الثاني -وهو رواية عن الإمام أحمد -: إنها تفيد العلم، ويحتج بها في العقيدة، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أنه يكاد يسخر من مذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ لقوله إنها تفيد العلم، فقال: ويلزمه أن كل خبر واحد يفيد العلم، يعني: أنه يلزمنا أن أي واحد وأي شخص كان يأتيك بخبر فخبره يفيد العلم، فنقول: هناك فرق بين خبر أي واحد ونقل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تروى بالأسانيد الصحيحة، وما عمله علماء الإسلام في الجرح والتعديل وفي غيره إلا لبيان وتوضيح هذه القضية؛ ومن ثمَّ تكلموا في الرجال، وتكلموا في لقاء الرواة بعضهم لبعض، وصحة السماع، والشذوذ والعلة إلى آخره؛ ففرق بين الحديث المصفى الذي ينظر فيه الأئمة فيقولون: هذا إسناد صحيح متصل، رواته عدول ضابطون، ليس فيه شذوذ ولا علة، فإن هذا الحكم ما جاء بسهولة، وإنما جاء من خلال دراسات وبراهين. فـ البخاري لما اختار صحيحه اختاره من ألوف مؤلفة من الأحاديث والروايات، وانتقى أصحها، وكذا الإمام مسلم، وكذا غيرهم، وإذا درسنا أسانيد من لا يلتزم الصحيح وتبين لنا صحة أسانيده فنقبلها؛ لذلك فنحن نقول كما قال كثير من الأئمة: إن الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول -أي: لم ينتقدها العلماء الجهابذة- تفيد العلم، ويحتج بها في العقيدة؛ فكيف يأتي هذا ويجعل قول الجمهور هو هذا، ثم يجعل القول بأنها تفيد العلم ويحتج بها في العقيدة قولاً ضعيفاً هزيلاً؟! لذلك فإننا نقول: إن حكاية الخلاف في هذه المسألة التي معنا هي كما يلي: جماهير الأئمة يرون أنه يفيد العلم ويحتج به في باب العقيدة. وخالف في ذلك بعضهم فقال: يفيد الظن ويحتج به في العقيدة، كما قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى، فخلاف لفظي، لكنه انتهى في النهاية إلى النتيجة نفسها لما قال: يحتج به في باب العقيدة. وبعضهم قال أيضاً: لا يفيد العلم، ولا يحتج به في باب العقيدة. لكن مذهب جماهير العلماء وهو إجماع الصحابة ويكاد أن يكون إجماع التابعين رحمهم الله تعالى هو أنها تفيد العلم، ومن ثَّم يحتج بها في باب العقيدة؛ ولهذا لم يفرقوا في روايتهم لهذه الأحاديث بين أحاديث العبادة وبين أحاديث العقيدة. إذاً: ما ابتدعه المبتدعة من المعتزلة ومن غيرهم حين قالوا: إنه لا يحتج بأحاديث الآحاد في باب العقيدة معناه: سلخ لجزء كبير من نصوص الاعتقاد، ولا شك أن هذه المقالة مقالة باطلة، وليس هذا موضع تفصيلها، فارجعوا إلى المراجع والكتب التي ذكرتها قبل قليل. إذاً: منهاج أهل السنة والجماعة هو: أن كل ما جاء به القرآن أو صح عن المصطفى عليه الصلاة والسلام من صفات الرحمن فإنه يجب الإيمان والتصديق به، ويجب تلقيه بالتسليم والقبول؛ فإذا صح الإسناد ودرسناه ولم يعترض عليه أحد من الأئمة، فنأخذه ونتلقاه بالقبول، لأن هذا الذي وصلنا من طريق هؤلاء الأئمة العدول هو المنقول عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولو رددنا هذه الأحاديث لكان ذلك مدخلاً لأن نرد أيضاً أحاديث الأحكام، كما فعلت بعض الطوائف وقالت: ما دام حديث الآحاد محكماً فكيف نأخذ به في أمورنا كلها؟ ولذا كان الأئمة رحمهم الله تعالى لا يفرقون، ولما قيل لـ إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى: تروي حديث النزول؟! فقال: نعم أرويه. فقيل: كيف تروي حديث (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) ؟! وكأن السائل توهم أن فيه نوعاً من تشبيه أو مما لا يليق أن ينسب إلى الله سبحانه وتعالى! فانتفض إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى وقال: هذه الأحاديث والروايات هي التي بها نحلل الدماء وبها نحرم، بها نحلل الفروج وبها نحرم، بها نحلل الأموال وبها نحرم، فكيف نأخذ بخبر الآحاد ونقطع به رقبة نفس معصومة، ثم لا نأخذ به حين يأتي بهذا الإسناد نفسه مخبراً عن صفة من صفات الله تبارك وتعالى؟! لا شك أن هذا عين التناقض. لذلك أخذ بها الأئمة رحمهم الله تعالى، وعملوا بها، ولم يفرقوا رحمهم الله تعالى بينها؛ حتى إن بعضهم صار يصرح بلفظ الشهادة؛ فإذا ساق إسناداً متصلاً رواته كلهم عدول ثقات أثبات يأتي ويقول: أشهد بالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث! ولا شك أنها ليست شهادة على باطل؛ لأنه بناها على علم، فقد وصل بذلك إلى علم اليقين، أما إذا رفضنا هذه الأحاديث فمعناه أنا رفضنا جزءاً كبيراً من الشريعة، والشيخ رحمه الله تعالى قال: (تتلقى بالتسليم وبالقبول فلا نرد شيئاً منها) . وقوله: (وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل كما فعل أهل الباطل) هذا ما سنستكمله -إن شاء الله تعالى- في الدرس القادم. وأستغفر الله العظيم الجليل الكريم لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [2]

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [2] أهل السنة والجماعة يؤمنون بكل ما أخبر الله عز وجل عن نفسه وبكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وهذا هو المنهج الذي كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، وكان عليه التابعون ومن تبعهم بإحسان، وعليه الأئمة والعلماء من أهل السنة والجماعة إلى يومنا هذا.

حكم تأويل أسماء الله وصفاته وذكر أقسام التأويل

حكم تأويل أسماء الله وصفاته وذكر أقسام التأويل قد بينا في الدرس السابق أن منهج السلف الصالح -كما أشار إليه المصنف- قائم على أن الله تعالى يوصف بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأن كل ما ورد في كتاب الله تعالى وفي سنته الصحيحة فإنه يتلقى بالقبول والتسليم، ثم إن المصنف قال في آخر كلامه: [وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل] . وهذا هو منهج المخالفين لأهل السنة والجماعة؛ فإنهم إذا جاءتهم النصوص يكونون فيها على طرائق: فمنهم من يردها ويقول: حتى ولو جاء الدليل على هذه الصفة أو على هذا الأمر العقدي في كتاب الله أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو غير مقبول، وهذا معنى قول المصنف: (دون التعرض له بالرد) ؛ فأهل السنة والجماعة يقبلون ولا يردون ما ورد من ذلك، ولهذا فإن الرد هو رد النص ورد ما دل عليه النص من صفة ونحوها. وقوله: (دون التعرض له بالرد والتأويل) أما التأويل فهو: صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به. هذا هو التعريف المشتهر عند كثير من أهل أصول الفقه وغيرهم، ولكن لفظ التأويل الوارد في الكتاب والسنة وعند السلف الصالح رحمهم الله تعالى يطلق على إطلاقين: أحدهما: أنه بمعنى التفسير، فيقول الإنسان: تأويل الآية كذا، أي: تفسيرها كذا، وهذا منهج ابن جرير الطبري في تفسيره؛ فإنه دائماً يقول: القول في تأويل قوله تعالى، أي: تفسير قوله تعالى. الثاني: أن التأويل بمعنى الحقيقة التي يئول إليها الشيء، فتأويل صفات الله، أي: حقيقة صفات الله، وتأويل الرؤيا، أي: حقيقة الرؤيا، كما قال الله تعالى عن يوسف أنه قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100] ، أي: حقيقة الرؤيا التي رآها أولاً تحققت من خلال ما جرى له عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم؛ ومن هنا فإن هذين المعنيين للتأويل هما المعنيان المشهوران المعروفان عند السلف الصالح. وأما المعنى الثالث للتأويل وهو الذي ذكرته أولاً وهو الذي قصده المصنف هنا؛ فهو معنىً حدث بعد الافتراق الذي وقع في هذه الأمة، وهذا التأويل له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون الدليل صحيحاً والصارف عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح صحيحاً، ففي هذه الحالة يكون هذا التأويل صحيحاً. الثاني: أن يكون التأويل لغير دليل، بل أحياناً يكون مخالفاً للدليل، فهذا هو التأويل الباطل، وهو الذي قصده المصنف هنا. ولهذا قال: (دون التعرض له بالرد والتأويل) ، وهو يقصد رحمه الله تعالى بهذا منهج المنحرفين في باب الأسماء والصفات الذين أولوا النصوص، فيأتي أحدهم -مثلاً- إلى قول الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، فيتأول النص الظاهر إلى معنىً آخر بعيد جداً، فيقول: استوى بمعنى: استولى. ويأتي إلى قول الله تبارك وتعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] ، فيقول: اليدان هما القدرة أو النعمة، أو القدرة والنعمة وهكذا، ويأتي على كل صفة ثابتة فيتأولها إلى معانٍ أخرى، وتكون هذه المعاني بعيدة لم يدل عليها النص، وإن دل عليها فدلالة ضعيفة جداً، بل إن تأويله هذا مصادم للنصوص الأخرى، ولمنهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى في إثبات هذه الصفات على ما يليق بجلاله وعظمته، لهذا فإن السلف رحمهم الله تعالى يثبتون الأسماء والصفات لله تعالى كما يليق بجلاله وعظمته دون تأويل، ولهذا قال بعد ذلك: (والتشبيه والتمثيل) ، أي: دون التعرض لها بتشبيه؛ والتشبيه هو أن يجعل صفة من صفات الله تعالى مشبهة لصفة من صفات المخلوقين، أو بالعكس: أن يجعل صفة من صفات المخلوقين مشبهة لصفة من صفات الله تعالى. والتمثيل: أن يجعلها مماثلة له، فالفرق بين التشبيه والتمثيل: أن التشبيه إنما يكون في بعض الأشياء، وقد لا يكون فيها جميعاً، أما التمثيل فإنه يكون في جميع الأشياء، فإذا قلت: هذا مثل هذا، فأنت تقصد أنه مماثل له تماماً، لكن إذا قلت: هذا يشبه هذا فأنت تقصد أن بينهما شبهاً، وأن بينهما أيضاً فرقاً. فأهل السنة والجماعة وسط بين أهل التعطيل الذين دخلوا في التأويل والتحريف لنصوص الصفات وأهل التشبيه والتمثيل الذين شبهوا الله بخلقه، وشبهوا صفاته تعالى بصفات خلقه.

الرد على مذهب أهل التفويض

الرد على مذهب أهل التفويض ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله؛ اتباعاً لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]] . هذه العبارة عند ابن قدامة فيها إشكال! وذلك من جهة أنه قال: (وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه) ؛ وسيأتي بعد قليل نقل ابن قدامة عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أنه قال في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا) وقوله: (إن الله يرى في القيامة) وما أشبه هذه الأحاديث؛ يقول الإمام أحمد: (نؤمن بها، ونصدق بها، لا كيف ولا معنى، ولا نرد شيئاً منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم) . فقول الإمام أحمد هنا: (لا كيف ولا معنى) ، قد يظن البعض أن منهج الإمام أحمد رحمه الله تعالى -ومثله ابن قدامة في العبارة السابقة- هو التفويض في باب الأسماء والصفات، أي: إثبات ألفاظها فقط دون التعرض لإثباتها حقيقة وإثبات ما دلت عليه من معنىً يليق بجلال الله وعظمته. ونقول: إن هذا المذهب مذهب أهل التفويض، وهم فرقة مخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة، ولم يقل به أحد منهم، وإنما هو مذهب لطوائف انحرفت عن المنهج الصحيح لأهل السنة والجماعة، ولهذا فإن قول الإمام أحمد هنا: (لا كيف) صحيح، وقوله: (لا معنى) يقصد: أننا لا نتعرض لمعناها بالتأويل والتحريف والتشبيه ونحو ذلك، أي: لا نظهر لها معنىً يخالف ظاهرها الذي دلت عليه، ولهذا قال بعد ذلك: ولا نرد شيئاً منها، ونصدق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. فهو بين أن منهج السلف إثبات الصفات، وإثبات الصفات لله سبحانه وتعالى هو إثباتها على ما يليق بجلاله وعظمته، وإثبات المعنى الذي دلت عليه والذي دل عليه النص، وليس المقصود إثبات اللفظ فقط، ولهذا فإن أهل السنة والجماعة يردون على المتأولة، ويردون على الذين يمثلون صفات الله تعالى بصفات خلقه أو يكيفونها، ولنضرب مثلاً بصفة السمع أو بصفة العلم: فإن أهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفة، ويعلمون معنى العلم ومعنى السمع، فيثبتون هذه الصفة لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته، ولكنهم وهم يثبتون هذه الصفة لا يتعرضون لتأويلها وتحريفها كما فعل أهل التحريف والتأويل، وأيضاً لا يكيفون هذه الصفة، فلا يقولون: إن كيفية الصفة كذا وكذا، أو يقولون: إنها تشبه صفة الخلق أو أحداً من الخلق أو نحو ذلك، ومن هنا فقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (ولا معنى) أي: لا نقول: إن لها معاني تخالف ظاهرها؛ فنقع في التحريف والتأويل ونحو ذلك، وإنما نثبتها، والتفويض إنما يكون لكيفية الصفة، لا لحقيقة الصفة وما دلت عليه من المعنى؛ فكيفية صفات الله تعالى نفوضه إلى الله؛ لأننا كما لا نعلم ذاته فإننا أيضاً لا نعلم كيفية الصفات، أما الصفة نفسها فإننا نثبتها لله سبحانه وتعالى، فنفرق بين العلم والقدرة، وبين السمع والبصر، وبين الحكيم والخبير، وبين قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، وقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، ونحوها؛ لأننا نعرف من قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] من المعاني غير ما نعلمه من قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وهكذا. إذاً: نخلص في هذه القضية إلى أن القول بأن السلف يثبتون ألفاظ نصوص الصفات مجردة، ويفوضون ما دلت عليه، ولا يثبتون لها معاني، هو قول أهل التفويض، وهو مردود، أما منهج أهل السنة والجماعة فهو إثبات هذه الصفات حقيقة على ما يليق بجلاله وعظمته دون تحريف ودون تشبيه، فيثبتونها ويثبتون ما دلت عليه من المعاني، أما الكيفية فهذه يفوضونها إلى الله سبحانه وتعالى، ويقولون: إنه لا يعلم كيفية صفاته إلا الله سبحانه وتعالى. هنا قلنا في عبارة الشيخ لما قال: (وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه) : إن كان الشيخ قد قصد ما قصده الإمام أحمد في العبارة التالية فما قاله المصنف هنا صحيح، وهو أن أهل السنة والجماعة لا يتعرضون للمعاني التي هي معانٍ تأويلية فيها تحريف لما دلت عليه هذه الصفات من معانٍ، بل يثبتونها ويثبتون ما دلت عليه كما يليق بجلاله وعظمته، أما إن كان قصد المصنف أن نثبت اللفظ فقط ولا نتطرق للمعنى ولا نفهم أي معنىً للصفة فنقول: هذا فيه شيء من التفويض، والمعروف عن أهل السنة والجماعة أنهم بعيدون جداً عن أهل التفويض؛ لأن مآل مذهب أهل التفويض هو التجهيل للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه؛ لأن القائل إذا قال: نفوض الصفات ونفوض ما دلت عليه معانٍ يئول بنا الأمر إلى أننا نقرأ قول الله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107] فلا نفهم شيئاً؛ وكذلك قوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4] ، وقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120] ، وقوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] ، وقوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166] ، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] ، وقوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح:6] نقرأ هذه الآيات فلا نفقه منها شيئاً؛ لأننا نفوض المعنى، وهذا المعنى الذي قصده هؤلاء ينتهي بهم إلى التجهيل الذي قال فيه بعض العلماء إنه شر من التعطيل؛ لأن معناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة يتلون القرآن، فما ورد منه متعلقاً بأسماء الله وصفاته فيجب أن يثبتوا لفظه فقط دون أن يثبتوا له أي دلالة وأي معنىً، وهذا مذهب خطير جداً مخالف لمذهب السلف رحمهم الله تعالى! أما حينما نثبت ما دلت عليه هذه النصوص من معانٍ ونقول: إننا نثبتها لله كما يليق بجلاله وعظمته من غير تعطيل ومن غير تشبيه، هذا فإننا نكون قد فهمنا ما دل عليه النص، فنفهم من قوله تعالى: {الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3] إثبات اسمه تعالى العليم واسمه تعالى الخبير، وما دل عليه هذا الاسم (العليم) من صفة العلم، وما دل عليه أيضاً اسمه تعالى (الخبير) من علمه سبحانه وكونه تبارك وتعالى مطلعاً على كل شيء، وهكذا بقية النصوص؛ فإذا أثبتنا ذلك فمعنى ذلك أننا لا نفوض، وإنما نثبت الصفة، ونثبت ما دلت عليه هذه النصوص من صفات كما يليق بجلاله وعظمته. أما القول بأن أهل السنة والجماعة يثبتون مجرد لفظ الاسم أو الصفة فيقول أحدهم: أثبت العليم، لكن لا أدري ماذا يعني العليم، وأثبت السميع، ولا أدري ماذا يعني اسمه السميع، وأثبت لله صفة الإرادة والقدرة والغضب والرضا، ولا أدري ما معناها، فنقول: هذا معناه تفويض لمعنى هذه الصفات، ويؤدي إلى أنك تجهل النصوص، وتجهل ما دلت عليه، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى أنزل علينا القرآن هدىً ورحمة وتبياناً لكل شيء، ولا شك أن من المقطوع به من منهج الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح جميعاً، بل هو ضرورة لكل مسلم أننا حسب ما آتانا الله سبحانه وتعالى من علم نفقه ونعلم نصوص الكتاب ونصوص السنة النبوية، فحينما تأتي آيات في العقائد في أسماء الله وصفاته فإننا نتلوها ونعلم معناها، ونفرق بين هذه الآية وبين تلك الآية، وهذا التفريق مقتضاه أننا نثبت ما دلت عليه من معانٍ، لكن أهل السنة والجماعة يثبتونها كما يليق بجلاله وعظمته؛ فلا يحرفون النصوص، ولا يؤولونها، ولا يعطلونها عما دلت عليه، كما أنهم في المقابل لا يمثلونها، ولا يشبهونها بصفات المخلوقين، وهكذا.

المحكم والمتشابه في كتاب الله عز وجل

المحكم والمتشابه في كتاب الله عز وجل قال المصنف رحمه الله تعالى بعد ذلك: [وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] ؛ فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أملوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]] .

معنى آية آل عمران والوقف فيها

معنى آية آل عمران والوقف فيها وهذه الآية في سورة (آل عمران) ، وهي قول الله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] ، فالقرآن ورد أنه كله محكم، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] ، أي: أنه كله متقن، وورد أنه كله متشابه، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23] لأنه يشبه بعضه بعضاً في الإحكام والإتقان؛ ثم إنه تعالى في هذه الآية أخبر أن في القرآن آيات محكمات، وفيه آيات متشابهات، فبين الله تبارك وتعالى في هذه الآية أن أهل الزيغ يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وإثارة الفتنة بين الناس لإغوائهم عن الحق. وقوله: (وابتغاء تأويله) ، أي: تأويل النصوص لتوافق ما عندهم. ثم قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] ، والعلماء رحمهم الله لهم في الوقف هنا أقوال، والوقف هنا سواء كان على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] ، أو على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] ، مبني على معنى التأويل في الآية: فإذا قيل: إن معنى التأويل في الآية هو التفسير، أي: وما يعلم تفسيره إلا الله، فحينئذٍ يجوز الوقف، فيكون المعنى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ في العلم} [آل عمران:7] ؛ لأن الراسخين في العلم يعلمون تأويل وتفسير القرآن الكريم. أما على المعنى الثاني المشهور عند السلف، وهو: أن التأويل حقيقة الشيء، فيكون الوقف واجب على قوله: (إلا الله) ، ويكون معنى قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] ، أي: وما يعلم حقيقة هذه الصفة، أو حقيقة ما أعد الله للمؤمنين في الآخرة، أو حقيقة ما أعد الله للكفار في النار إلا الله، ثم قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] يسلمون ويقولون: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .

المقصود بالمحكم والمتشابه في القرآن الكريم

المقصود بالمحكم والمتشابه في القرآن الكريم وهنا ما هو المحكم والمتشابه في هذه الآية؟ كثر خوض الناس في هذا، وخاصة من تعرض لمسائل علوم القرآن، فقلما تعرض من كتب في المحكم والمتشابه في علوم القرآن إلا وأخطأ في فهم هذه الآية، فالإتقان للسيوطي والبرهان للزركشي وغيرهما من الكتب التي تعرضت لعلوم القرآن لما جاءوا إلى هذه الآية، وتكلموا عن المحكم والمتشابه أخذوا يعرضون بأن المتشابه هو مثل بعض الصفات، فيدخلون الصفات في باب المتشابه، ويجعلون المتشابه فيها إما أن يفوض معناه، وإما أن يتأول، أي: أن تتأول هذه الصفات إلى معانٍ أخرى لم تدل عليها ولم يدل عليها سياق الآيات الكريمات. والحق أن الأسماء والصفات ليست من المتشابه، وإنما هي من المحكم، ولهذا كثرت في الآيات الدالة على هذه الصفات، لكن ما يتعلق بكيفية هذه الصفات هو الذي نقول فيه: إنه لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. أما معنى الصفة فهو مفهوم، وذلك مثل قوله تعالى: {الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3] ، وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:11] ، وقوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196] ، وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] ، وغير ذلك من الآيات التي يفقه معناها، وليس فيها إشكال، ونثبتها لله كما يليق بجلاله وعظمته. وقد يقول قائل: إذا كان الأمر كذلك فأين المحكم والمتشابه الذي نصت عليه الآية؟ نقول: الراجح أن التشابه المقصود في هذه الآية هو تشابه نسبي يعرض لبعض الناس، وليس هناك آيات بحد ذاتها هي من المتشابه؛ لأن بعض الناس يظن أن هناك آيات هي بحد ذاتها من المتشابه وآيات محكمات. ونقول: التشابه الذي ذكره الله سبحانه وتعالى هنا هو التشابه النسبي الذي يعرض للإنسان أحياناً، ويعرض لبعض الآيات. وأهل السنة والجماعة يقولون: نرد المتشابه إلى المحكم، وسأضرب مثالاً ورد في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: ورد في السيرة أنه لما جاء نصارى نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والتقى بهم، ودعاهم إلى كلمة التوحيد، احتجوا بآيات من القرآن على قولهم بالتثليث، احتجوا بمثل قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] . فقالوا: (إنا) و (نحن) تفيد الجمع، فهذا دليل لنا على أن الذي أنزل القرآن جمعاً وليس واحداً، فهو دليل على أن الله سبحانه وتعالى وتقدس ليس إلهاً واحداً، وإنما هو ثلاثة آلهة: الأب والابن والروح القدس! ففي هذه الحالة وقع في هذه الآية تشابه، لكن هذا الاشتباه يعرض لواحد من الناس، لكن أعداداً كثيرة أخرى لا يعرض لهم فيها اشتباه؛ لأنهم يفهمون أن مثل هذا الجمع قد يتكلم به الجمع، وقد يتكلم به المفرد الذي يعظم نفسه. فإذاً: ما دام أنه قد يتكلم به المفرد الذي يعظم نفسه، فإنه والحالة هذه تكون دلالة الآية ليس فيها أي اشتباه، فقوله تعال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، الجمع هنا للتعظيم، والذي نزل القرآن هو الله الذي لا إله إلا هو. ولهذا فإننا نقول لمن وقع له نوع اشتباه في هذه الآية: الواجب عليك أن ترد المتشابه إلى المحكم، فإذا قال: وما المحكم؟ قلنا: هناك آيات ونصوص صريحة ليس فيها أي اشتباه، مثل قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] ، وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة:73] ، فهذه النصوص صريحة صراحة تامة بأن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له، فإذا رددنا هذا المتشابه إلى المحكم تبين لدينا المعنى الصحيح، ولم نقع في الخلط، لكن أهل الزيغ وأهل الفتنة يتبعون ما تشابه منه، فيأتي أحدهم بمثل هذه الآية ويحتج بها على المتشابه، ويقول: إن قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ} [الحجر:9] وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} [القدر:1] وقوله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف:32] ، دالة على أن الله أكثر من واحد، وحال هذا القائل كما قال تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] ، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] . فإذاً: التشابه الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في هذه الآية هو تشابه نسبي، يعرض لبعض الناس، ويعرض للإنسان أحياناً، فالإنسان قد يجهل معنى آية من آيات القرآن الكريم، يسمعها لكن لا يستطيع أن يحدد معناها، ولكنه إذا تدبر معناها وعلمه تبين له أن هذه الآية ليس فيها أي اشتباه وهكذا.

زيغ وضلال أهل الأهواء والبدع بسبب التأويل الفاسد

زيغ وضلال أهل الأهواء والبدع بسبب التأويل الفاسد فالزائغون الذين حادوا عن منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام، وعن منهج أهل السنة والجماعة، هم الذين يتبعون ما تشابه منه، ويتأولون النصوص ليفتنوا الناس عن منهجهم ودينهم الحق، ويتأولون هذه النصوص تأويلات باطلة، ولهذا لما فتح أهل الكلام باب التأويل لنصوص صريحة احتج عليهم بها القرامطة والباطنية في تأويل نصوص أخرى، ولهذا تجد القرامطة والباطنية والفلاسفة يتأولون النصوص؛ حتى إنهم يتأولون نصوص المعاد، فيقولون بإنكار المعاد، أو بأن المعاد إنما هو روحي وليس جسمياً. والمتأولة من أهل الكلام يكفرون هؤلاء، ويقولون: القرامطة كفار، والفلاسفة كفار؛ لأنهم ردوا النصوص القاطعة وتأولوها تأويلات باطلة لم يدل عليها دليل. ولا شك أن من أنكر المعاد فهو كافر. لا شك أن من أنكر حدوث العالم وقال بقدمه فهو كافر. لكن أولئك القرامطة والباطنية قالوا للمتكلمين: كيف تسمحون لأنفسكم بتأويل النصوص ولا تسمحون لنا؟! كيف تسمحون لأنفسكم بأن تتأولوا نصوصاً صريحة في القرآن دالة على صفات الله وتقولون: منهجنا حق، وتأويلنا حق، ويجب التأويل إلى آخره، ثم إذا تأولنا نصوصاً أخرى مشابهة لها قلتم لنا: أنتم كفار؟! ما الفرق بين تأويلنا وتأويلكم؟! وكيف يصير تأويلنا كفراً، وتأويلكم طاعة وعقيدة صحيحة؟! ألكم على تأويلكم أجران، ونحن لنا على تأويلنا وزران؟! ولهذا تسلط الفلاسفة وتسلطت القرامطة وغيرهم على المتكلمين بسبب ما فتحوا من باب التأويل؛ لأن فتح باب التأويل معناه أن تترك النصوص لكل من شاء أن يعبث بها، ويأتي لأي نص ويبحث عن أي معنى ولو كان بعيداً، ويقول: هذا هو المقصود؛ ولهذا تجد القرامطة -مثلاً- يتأولون الصيام، ويقولون: الصيام هو حفظ أسرار الدعوة، فقيل لهم: كيف تتأولونه؟ فقالوا: نعم. عندنا في اللغة العربية أن صام بمعنى: أمسك، والشاعر العربي يقول: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما أي: خيل ممسكة وخيل غير ممسكة، ونحن أمرنا بالصيام، فالصيام هو الإمساك، والإمساك المقصود به الإمساك عن كشف أسرار الدعوة الباطنية، وهذا تأويل صحيح، هكذا يزعمون! إذاً: هذا التأويل الذي دخل منه هؤلاء ليؤولوا الصلاة والصيام والحج وليؤولوا رءوس العبادات وأركان الإسلام، ما دخلوا إلا لما رأوا المتكلمين من المعتزلة العقلانيين ومن غيرهم ممن سلك مسلكهم يعبثون بنصوص القرآن والسنة الصريحة ويتأولونها! فقوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] قالوا: استولى على العرش! فمن أين جاء هذا؟ ولم يرد في اللغة العربية استوى بمعنى استولى، إلا بيت شعر لا يعرف قائله، ويقال إنه مصنوع لأجل هذا المعنى: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق وهكذا مثل قول الله سبحانه وتعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] بصيغة التثنية، يأتيك المتأول هنا ويقول: اليد هنا القدرة، أو اليد هنا النعمة، فقوله: (بيدي) ، يعني: بقدرتي أو بنعمتي، وهذا لا يمكن، بل هذا تأويل بعيد جداً، بل إن تأويل القرامطة للصيام أقرب من هذا التأويل. ومن هنا أيها الإخوة في الله! كان تركيز السلف رحمهم الله تعالى في هذا الباب على رد التحريف ورد التأويل؛ لأن التأويل يفتح أبواباً كثيرة وعظيمة، وأبواب فتنة وزيغ، وحينئذٍ يتلاعب المتلاعبون بنصوص كتاب الله تعالى وما صح من سيرة رسوله صلى الله عليه وسلم.

معنى قول الإمام أحمد: (نؤمن بأحاديث الصفات ولا كيف ولا معنى)

معنى قول الإمام أحمد: (نؤمن بأحاديث الصفات ولا كيف ولا معنى) قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا) ، (وإن الله يرى في القيامة) ، وما أشبه هذه الأحاديث: نؤمن بها، ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى] . ويلاحظ أن الإمام أحمد هنا استشهد بأحاديث فيها دليل على إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى من السنة الصحيحة، فنزول الله تعالى إلى سماء الدنيا ثابت، ودلت عليه الأحاديث الصريحة الصحيحة الكثيرة، ونزوله كما يليق بجلاله وعظمته ثابت أيضاً، يثبته أهل السنة والجماعة. وكذلك أيضاً: إن الله يراه المؤمنون في الآخرة دلت عليه الأحاديث المتواترة، وهكذا غيرها من الأحاديث التي تثبت الصفات، قال عنها الإمام أحمد: (نؤمن بها، ونصدق بها، ولا كيف) ، أي: لا نكيفها؛ لأننا لا نعلم ذات الله تعالى فلا نكيفها، ثم قال: (ولا معنى) ، أي: لا نتعرض بالمعاني الأخرى الباطلة، فنأتي لها بمعانٍ جديدة. ولهذا قال: [ولا نرد شيئاً منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم] . ولهذا لما كان أحد الأئمة -وهو إسحاق بن راهويه - عند ابن طاهر أمير خراسان يحدث له، ويقرأ عليه الأحاديث، فقرأ عليه بأسانيده أحاديث النزول بطرقها: (إن الله تعالى ينزل كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه) ، فقال عبد الله بن طاهر -وفي بعض روايات القصة: أنه أحد الجالسين-: كيف ينزل؟ كيف تحدث بهذه الأحاديث التي فيها أن الله ينزل؟ وإلى الآن كثير من الناس يعترض ويقول: الذي ينزل هو رحمته الذي ينزل هو أمره الذي ينزل هو ملك من الملائكة؛ لأنهم يستثقلون مثل هذا الحديث الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق عديدة صحيحة، ويظنون أنه يلزم منه التشبيه، وأن نزول الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا مثل نزول المخلوقين. فهذا الأمير احتار، وقال: كيف ينزل؟ وكيف تحدث بهذه الأشياء؟ فقال له إسحاق بن راهويه: يا أمير! هذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نرويها، بها نحرم الحرام، وبها نحل الحلال، وبها نستحل الفروج، وبها تقطع الرقاب. يعني: أننا نثبت بها الأحكام، ونفس الإسناد الذي نقطع به رقبة فلان شرعاً هو الذي نحدث به بمثل هذا الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم. فإذا أردتنا أن نرد هذا فلنرد الشريعة الإسلامية من أولها إلى آخرها، ولنرد سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها. فكان الأئمة رحمهم الله تعالى يروون هذه الأحاديث لا يفرقون بينها، المهم أن تكون صحيحة الإسناد، ثابتة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما دلت عليه من صفة فإنهم يثبتونها كما لو دل عليها القرآن، فلا يفرقون بين القرآن وبين السنة في أي شيء. ولهذا قال الإمام أحمد: (ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، أي: ما دام الإسناد ثابتاً فإننا نؤمن به ونصدقه، ونثبت هذه الصفات كما يليق بجلاله وعظمته من غير تحريف ومن غير تكييف، ومن غير تشبيه ومن غير تمثيل.

أهل السنة لا يصفون الله بأكثر مما وصف به نفسه

أهل السنة لا يصفون الله بأكثر مما وصف به نفسه ثم قال المصنف: [ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حد ولا غاية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه] . قوله: (ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه) قيد مهم في منهج أهل السنة والجماعة، بمعنى: أن الأسماء والصفات توقيفية، وأنه ليس كل معنىً صحيح نثبته لله سبحانه وتعالى صفة؛ لأنه معنىً صحيح، يشبه هذا أننا لا نأتي إلى عبارة صحيحة ونقول: قال رسول الله. فمثلاً: لو جاء واحد وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افعل الخير، وأحسن إلى جارك إحساناً في الليل وفي النهار. فهذا المعنى صحيح، وما المانع من أن يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فنقول: لا، حتى ولو كان المعنى صحيحاً فلا يجوز أن ننسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يثبت عنه بالإسناد الصحيح. وكذلك أيضاً لا نأتي إلى صفة من الصفات -وإن كان معناها صحيحاً- ونقول: هذه الصفة نثبتها لله. فمثلاً: لو أن كلمة (مهندس) أعجبتنا وقلنا: إن فن الهندسة في العصر الحديث تعتبر فناً دقيقاً ورائعاً، وإن هذا الفن في خلقه رائع وعظيم جداً، فما المانع من أن نقول: إن الله هو مهندس الكون، وإن من أسمائه المهندس، ومن صفاته هذه الصفة؟! A لا ينبغي ذلك، وإن كان المعنى صحيحاً، فلا يجوز لنا أن نصف الله إلا بما ورد. لكن بعض العلماء قالوا: نتساهل في باب الإخبار، يعني: إذا كنت تخبر أو تشرح فلا مانع من أن تأتي بكلمات ولو لم ترد فتنسبها إلى الله سبحانه وتعالى من باب الإخبار، فتقول مثلاً: إن الله صنع هذه الكون، إذا كنت تريد أن تشرح وتوضح، لكن لا تأتي وتقول: إن من أسمائه تعالى الصانع؛ لأنه لم يثبت هذا الاسم. فقالوا: في باب الإثبات حينما تثبت لله اسماً من أسمائه أو صفة من صفاته لابد أن يكون قد دل الدليل من كتاب الله أو من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، لكن في باب الإخبار يجوز أن تخبر وأن توضح وأن تشرح هذه الأمور، ولو كان شرحك مما يتعلق بالله سبحانه وتعالى إذا أحسن الإنسان التعبير، وأتى بالعبارات اللائقة.

وجوب إثبات أسماء الله وصفاته من غير تشبيه ولا تعطيل

وجوب إثبات أسماء الله وصفاته من غير تشبيه ولا تعطيل ثم إن الإمام أحمد أيضاً استشهد بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، وهذه قاعدة مشهورة لأهل السنة والجماعة، فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] رد على المشبهة، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد على المعطلة. وقوله: (ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه) واضح. ثم قال: [لا نتعدى ذلك، ولا يبلغه وصف الواصفين] . أي: أن الله سبحانه وتعالى هو العظيم، وهو ذو الجلال والإكرام، فإن الواصفين له مهما وصفوه لن يبلغوا وصفه، ولن يبلغوا المبلغ اللائق به سبحانه وتعالى؛ فإنه تبارك وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العليا، ونحن إنما نعلم بعضاً من هذه الصفات، ونعلم بعضاً من المعاني اللائقة بالله سبحانه وتعالى من هذه الصفات، أما نحن البشر المقصرين، فإننا لا نستطيع أن نصل إلى أن نصف الله سبحانه وتعالى بكل وصف وبكل اسم ثبت له، لا نستطيع أن نصل في ذلك إلى المبلغ والغاية. ولهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن لله سبحانه وتعالى أسماء استأثر الله تبارك وتعالى بها في علم الغيب عنده، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فلله أسماء وصفات استأثر بها، فمن أين لبشر أن يحيط بذلك؟! لكن نثبت لله سبحانه وتعالى ما علمنا مما ورد في الكتاب والسنة من أسمائه وصفاته كما يليق بجلاله وعظمته.

أهل السنة لا يردون شيئا من الأسماء والصفات لشناعة شنعت عليهم

أهل السنة لا يردون شيئاً من الأسماء والصفات لشناعة شنعت عليهم ثم قال: [نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت، ولا نتعدى القرآن والحديث، ولا نعلم كيف كنه ذلك، إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن] . وهذا الكلام دل على عدة أمور، دل على بعض الأمور التي سبقت، مثل: أننا لا نكيف، ولا نعلم كنه الصفة، أي لا نعلم كيفية وحقيقة صفات الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه الأمور لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، ولكن نحن نثبت الصفات لله كما يليق بجلاله وعظمته، أما كيفيتها فلا يعلمها إلا الله. وكذلك أيضاً لا نتعدى القرآن والحديث؛ فنثبت ما ورد فيهما، ولا نتعدى ذلك. وقوله: (ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت) ، أي: أن كل ما ثبت بالدليل من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم صفة لله فإننا نثبتها، ولا نرد هذه الصفة أو نتأولها لأجل تشنيع المخالفين، مثل أن يأتي قائل ويقول: كيف تثبت لله الوجه وتثبت لله اليدين؛ فإن إثبات الوجه واليدين والعين تجسيم؛ وأنت حين تثبت الصفات كأنك تشبه الله بالمخلوقين، فمن أثبت لله الوجه واليدين فقد أثبت لله أبعاضاً، فهو مجسم؟ فيشنع علينا عندما نثبت هذه الصفات بمثل هذه الشناعات؛ لأن هذا عنده تشبيه، وهذا تجسيم، وهذا لا يليق بالله، وكأنك تمثل الله بخلقه إلى آخره. فما هو موقفنا من ذلك؟ هل نخضع لتشنيع هؤلاء، أم ماذا نصنع؟ منهجنا أهل السنة والجماعة أننا لا ننظر إلى التشنيع، بل نثبت لله ما ثبت ولو شنع علينا من شنع، فإذا جاءوا وقالوا: إثبات الوجه لله تجسيم، فنقول: نحن نثبت لله الوجه، وسمه تجسيماً أو لا تسمه فنحن لا نلتفت إلى قولك، نحن نثبت لله اليدين كما يليق بجلاله وعظمته، وإذا سميت هذا تشبيهاً وتجسيماً فنحن لا نلتفت لتسميتك، ولن نرد الصفة لأجل تشنيعك علينا بأننا مجسمة أو مشبهة أو حشوية أو نابتة أو غير ذلك، كما أننا -مثلاً- لا نرد محبة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل تشنيع الرافضة حينما يقولون: لا ولاء إلا ببراء. فالرافضة يقولون: من لم يبغض الصحابة فهو ناصبي، فنقول لهم: كيف سميتموه ناصبياً؟ هذه الشناعات لا نلتفت إليها، نحن نحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً، وبالمقابل لو قال لنا ناصبي: لا تحبوا آل البيت؛ لأن محبة آل البيت رفض، فنقول: حتى ولو شنعتم علينا وقلتم إن محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفض، فنحن لا نخضع لقولكم، بل نحب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة اللائقة بهم، حتى ولو شنعتم وسميتم ذلك رفضاً، وحالنا كما قال الشاعر: إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي والآخر يقول: إن كان نصباً حب صحب محمد فليشهد الثقلان أني ناصبي يعني: أن العبارات والشناعات لا تغير من حقائق الأمور، فنحب أصحاب الرسول، ونحب آل بيت رسول الله، ولو أن هؤلاء سموه نصباً وأولئك سموه رفضاً. كذلك أيضاً نثبت لله الوجه واليدين والاستواء والنزول كما يليق بجلاله وعظمته، حتى وإن سمت المعطلة هذا تشبيهاً أو تجسيماً أو غير ذلك. فلا ينبغي للمتمسك بمنهج أهل السنة والجماعة أن يستسلم لتشنيع هؤلاء، ومثله تماماً ما يفعله كثير من الناس اليوم، إذا أحدهم رأى الشاب المسلم قال: هذا مطوع متزمت أصولي إرهابي إلى آخره! فلا ينبغي للإنسان أن يترك سنة الرسول وأن يترك التمسك بما أوجب الله عليه وأوجب عليه رسوله صلى الله عليه وسلم لأجل شناعات هؤلاء. فمثلاً: الذي يرفع ثوبه فوق الكعبين، يقال عنه: إنه متطرف، أو يشنع عليه بأنواع الشناعات، فلا ينبغي للإنسان أن يلبس ثوباً وينزله تحت الكعبين حتى تزول عنه الشناعة، وإنما يلتزم هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ولو شنع المشنع، فيجب الالتزام بكل سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهكذا مسيرة أهل الزيغ والضلال متشابهة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى ما شاء الله، فإنهم في كل وقت يخترعون ألقاباً جديدة يشنعون بها على المتمسكين وعلى المتشبثين بكتاب ربهم وسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم. والمؤمن الصادق الواثق من نفسه الواثق من منهجه هو الذي لا يعبأ بمثل هذه العبارات، ولا بمثل هذه الشناعات، بل يعتز بدينه اعتزازاً قوياً، والله سبحانه وتعالى مؤيده وناصره ومثبته.

معنى قول الشافعي: (آمنت بما جاء عن الله على مراد الله)

معنى قول الشافعي: (آمنت بما جاء عن الله على مراد الله) ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله] . وهذه عبارة عظيمة للإمام الشافعي رحمه الله. أي: أنه يؤمن بالله تعالى وبما جاء عن الله في كتابه، وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته على مراد الله وقصده، وعلى مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده. والمعنى: أنني آمنت بهما كما أراد الله تبارك وتعالى وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد يقول القائل: وهل معنى ذلك التسليم: أنني آمنت بما آمنت به لكن لا أعرف معناه؟ فنقول: لا؛ فإن الله تعالى لما أنزل علينا القرآن أراد منا أن نتلوه، وأن نعرف معناه، وأن نفهمه، وأن نعمل به، وإلا فكيف نعمل بالقرآن ونحن لا نفقه معناه؟! قال عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ، وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68] ، وقال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] إلى آخر الآيات. أذاً: مراد الله لما أنزل علينا هذا القرآن وفيه أسماء الله وفيه صفاته أن نتدبر. ومن هنا فنحن نثبتها على ما أراد الله؛ لأن سياقات هذه الآيات القرآنية دالة على ذلك، فحينما يقول الله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2] أراد الله أن نفهم أنه شديد العقاب، لا أن نثبت اللفظ ولا نفقه المعنى، فوالله! لو كان هذا هو المراد ما فقهنا آيات القرآن من أولها إلى آخرها؛ لأنه لا تخلو -تقريباً- جملة من الآيات في سياق واحد من التذكير بأسماء الله وصفاته، فإذا كنت لا تفهم معنى أن الله شديد العقاب فمعنى ذلك: أنك ما فقهت الوعيد الذي ترتب عليه في هذا النص حينما نهاك الله سبحانه وتعالى عن مخالفة أمره، وأمرك باتباع ما أمرك وهكذا. وكذلك أيضاً على مراد رسول الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه، وقال لهم: (ينزل ربنا) ، وقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يثبتوا أن الله يُرى كما يُرى القمران، والتشبيه إنما هو للرؤية، وليس للرئي بالمرئي، فهذا هو معنى عبارة الشافعي رحمه الله تعالى.

التعريف بالسلف والخلف

التعريف بالسلف والخلف ثم قال المصنف: [وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم] . السلف هم السلف الصالح رحمهم الله. وقول المصنف هنا: (وأئمة الخلف) ، الخلف لها معنىً لغوي ولها معنىً اصطلاحي، كما أن السلف لها معنىً لغوي ولها معنىً اصطلاحي. فالمعنى اللغوي للسلف والخلف هو: أن السلف من سبق، والخلف من لحق، فيقال: هؤلاء سلف، وهؤلاء خلف لهم، فمن تقدم سلف، ومن جاء بعدهم يقال لهم خلف، هذا المعنى اللغوي، لكن بعد الخوض وبعد التفرق الذي وقع في الأمة الإسلامية صار لكل من السلف والخلف معنى خاص به، وهذا المعنى يدل دلالة اصطلاحية معينة، فصار السلف يدل على من سار على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، سواء كان في عهد الصحابة أو في عهد التابعين، أو من بعدهم إلى آخر الزمان. وصار الخلف يصطلح على من حرف وغيرَّ وبدل، فيقال: هذا من الخلف، أي: أنه مغير لا يسير على منهج السلف، فكلمتا (السلف والخلف) كلمتان متقابلتان، فالخلف: كل من يتأول، سواء كان في الزمن الأول -يعني في عصر التابعين ومن بعدهم- أو في العصر الحديث، فكل من تأول النصوص نقول عنه: هذا على منهج الخلف. والمصنف قال: (وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم) وأرضاهم، فكلمة السلف سواء كانت هنا بالمعنى اللغوي أو الاصطلاحي ليس فيها إشكال، لكن كلمة (الخلف) المقصود بها: المعنى اللغوي. وقوله: (وأئمة الخلف) ، أي: الأئمة الذين جاءوا بعد السلف، فإنهم ساروا على منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، ولم يقصد أن أئمة الخلف وأئمة البدع هذا منهجهم، وإنما قصد أئمة الخلف الذين جاءوا بعد أولئك السلف رضي الله عنهم.

معنى اتفاق السلف وأئمة الخلف على الإقرار والإمرار

معنى اتفاق السلف وأئمة الخلف على الإقرار والإمرار ثم قال المصنف: [كلهم متفقون على الإقرار والإمرار] . قوله (على الإقرار) أي: الإقرار واليقين والإيمان والإثبات لتلك الصفات الواردة في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (والإمرار) أي: أنهم يمرونها ولا يتعرضون لتأويلها وتحريفها. ولذا قال المصنف: [والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله] . وهذا واضح المعنى، ولكن نقف عند قوله: (والإمرار) ؛ لأنه ورد عن جمهرة من السلف أنهم سئلوا عن الصفات، فقالوا: أمروها كما جاءت. فهل معنى قولهم: (أمروها كما جاءت) أن نمر بلفظها دون التعرض لها، ودون إثبات ما دلت عليه من المعاني؟ نقول: بعض المفوضة ظنوا أن مثل هذه العبارة دليل لهم على التفويض، لكن الصحيح أنها ليست كذلك؛ فإن السلف رحمهم الله تعالى أثبتوا الصفات، وأثبتوا ما دلت عليه، ثم إذا سئلوا عن الصفات قالوا: أمروها كما جاءت، يعني: لا تتعرضوا لتأويلها كما تعرض لها أهل التأويل. والدليل على ذلك أنه ورد عن السلف مثل هذه العبارة في غير ما حديث، فسئل الإمام أحمد عن أحاديث الوعيد، كقوله عليه الصلاة والسلام: (اثنتان في أمتي هما بهم كفر) وقوله: (والله! لا يؤمن) ، وقوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ، فقال رحمه الله تعالى: تمر كما جاءت. وسأله بعضهم عن أحاديث الفضائل، أي: التي فيها الفضل العظيم، فقال: تمر كما جاءت، يعني: لا نتعرض لتأويلها وتحريفها والخوض فيها على غير المنهج الحق. فدل على أن كلمة (تمر كما جاءت) ليست خاصة بصفات الله؛ حتى لا يأتي قائل ويقول: المقصود بذلك التفويض، وإنما المقصود -كما أشرنا- عدم التعرض لها بتحريف أو بتأويل أو تعطيل أو نحو ذلك.

الأمر بالاهتداء بمنهج السلف والتحذير من المحدثات

الأمر بالاهتداء بمنهج السلف والتحذير من المحدثات ثم قال المصنف: [وقد أمرنا بالاقتفاء لآثارهم والاهتداء بمنارهم] . أي: أمرنا بأن نقتدي بهؤلاء السلف رحمهم الله تعالى، وأن نهتدي بمناراتهم العالية المضيئة التي أبرزوا من خلالها المنهج الحق الوسط، منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى. ولهذا قال: [وحذرنا المحدثات، وأخبرنا أنها من الضلالات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين والمهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم! ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ] . وهذا استشهاد من المصنف رحمه الله تعالى بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أمته باتباع السنة، وحذرهم من البدع، وأمرهم باتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، ولهذا لو تأملت ما ورد عن الخلفاء الراشدين لوجدته تطبيقاً عملياً لما في كتاب الله وما في سنته صلى الله عليه وسلم، ولم يقع منهم تحريف أو تأويل أو تغيير أو تفويض، وأما الخلاف في باب الأحكام فهذا واقع حتى بين الصحابة، كما حدث حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فاختلف الصحابة، لكن في باب إثبات الأسماء والصفات لم يقع في هذه العهود المفضلة بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أي اختلاف. ولهذا أمرنا باتباع هدي وسنة الخلفاء الراشدين؛ وذلك في باب العقيدة وفي باب المنهج. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ، فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمور المحدثة التي هي بدع وضلالات. والبدعة هي: أمر محدث في الدين، فيه مضاهاة لما ورد في الشريعة، وإنما قلنا هذا حتى يخرج عن ذلك الأمور الحادثة التي هي من باب العادات، فلا يقول إنسان مثلاً: إنهم كانوا يركبون الإبل في الزمن القديم، فالسيارات بدعة، لأن هذه الأمور من باب العادات، والأصل فيها الإباحة، وإنما تضبط بقواعد الشرع العامة فقط من خلال المقاصد ونحو ذلك. لكن المقصود بالبدعة: أن يبتدع الإنسان أمراً في الدين، سواء كان هذا الأمر أمراً عقدياً أو أمراً يتعلق بالعبادة والشرع، فهو بدعة وضلالة. فأهل الأهواء تجد كل واحد منهم ابتدع بدعاً كثيرة مخالفة لنص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فنقول: هذه بدعة، كبدع الجهمية في باب الصفات، وفي باب القدر، وبدع المعتزلة في باب الصفات وفي باب القدر، وبدع الروافض في باب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها، وبدع القدرية وبدع المرجئة، هذه كلها بدع محدثة في باب العقائد مخالفة لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام. ومثله أيضاً البدع العملية، مثل أولئك الذين يبتدعون أوراداً أو أذكاراً أو موالد أو غير ذلك، فهذه بدع عملية؛ لأن صاحبها يريد أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا العمل، فاخترع هذا الذكر بهذا الشكل وبهذه الصياغة وبهذه الجماعية في هذا الوقت، فهذه الأمور كلها تحول هذا الأمر إلى أمر بدعي. ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه البدع جميعاً فقال: (وكل بدعة ضلالة) ، ولهذا فإن المنهج الصحيح هو السير على منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهاج أصحابه، فإن ذلك لا يتعارض أبداً مع مستجدات العصر. بمعنى: أنه لا يمكن أن يأتي زمان -مهما كان هذا الزمان- نحتاج فيه إلى تغيير في شرع الله تعالى؛ لأن الشرع كامل صالح لكل زمان ومكان، فقد تتغير أمور الناس، وتتغير أشكال حياتهم، وتتغير الوسائل، لكن تبقى الأصول التي أمر الله بها وأمر بها رسوله وشرعها الله وشرعها الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتغير ولا تتبدل أبداً. وهذه هي الثوابت في دين الله تعالى التي لا تقبل التغيير أبداً، وأي تغيير فيها هو اتهام لهذه الشريعة بالنقص، سواء كان في باب العقائد والتصورات ونحو ذلك، أو في باب الشريعة وتطبيقها، أو في باب العبادات التي يتقرب بها العباد إلى ربهم سبحانه وتعالى، كل هذه الأمور مما جاءت به الشريعة كاملة، ولا تتغير هذه الأمور أبداً مهما اختلف الزمان، ومهما تغير المكان، وهذا واضح جداً، والحمد لله تعالى.

شرح أثر ابن مسعود رضي الله عنه (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم)

شرح أثر ابن مسعود رضي الله عنه (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) قال المصنف رحمه الله: [وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم] . قوله: (اتبعوا) ، أي: ابحثوا عن الاتباع، وقوله: (ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم) ، أي: أن الشريعة كاملة، ومنهج السلف الصالح الذين طبقوا هذه الشريعة كان منهجاً كاملاً، فلستم بحاجة إلى أن تخترعوا أشياء، ولهذا من العجيب جداً أن كثيراً من المسلمين يظن أن الأمور لا تصلح إلا بأن يأتي هو بشيء جديد، ويريد أن يزيد تعبيد الناس لربهم تبارك وتعالى، فمثلاً: في باب الأذكار نجد أذكاراً مبتدعة؛ ونحن لسنا بحاجة إلى أذكار التيجانية ولا النقشبندية ولا الأحمدية ولا غيرها من الطرق الصوفية، فإن عندنا مما ثبت من كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم مئات الأذكار التي لو طبقناها وأخلصنا في تطبيقها لكنا أعبد الناس، ففي كل حالة وفي كل لحظة من لحظات الإنسان هناك أذكار، فهناك أذكار في الصباح في المساء أعقاب الصلوات في القدوم في الركوب في السفر في النوم في الاستيقاظ، بل حتى والإنسان في أخص خصوصياته مع أهله، كل هذه الأمور ورد فيها ذكر. فهل نحن بحاجة إلى أن نقول: إن الناس فعلاً انحرفوا وضلوا، فنحن بحاجة إلى أن نقربهم؟ A لا، والله! لقد كفينا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقل إلى الرفيق الأعلى إلا وقد أكمل الشريعة، وأكمل التبليغ، ووصلنا هذا كاملاً والحمد لله بأسانيد صحيحة، فلسنا بحاجة أبداً إلى أن يأتينا أناس يكملون. ولهذا صارت هذه الأمور ما هي إلا بدع وضلالات؛ لأن فيها اتهاماً للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ما كمل هذا الدين، وما كمل التبليغ، وفيها اتهام لربنا تبارك وتعالى وتقدس وتنزه أنه لم يكمل لنا الشريعة. يقول ابن مسعود: (فقد كفيتم) ، نعم نحن مكفيون بكتاب الله عز وجل وبما صح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومكفيون بذلك التطبيق العملي من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلسنا بحاجة إلى أن نأتي ببدع نزعم أننا نقرب الناس بها إلى ربهم تبارك وتعالى.

الأسئلة

الأسئلة

صفة المجيء من الصفات الثابتة لله عز وجل

صفة المجيء من الصفات الثابتة لله عز وجل Q يقول الله سبحانه وتعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:21-22] ، هل هذه صفة من صفات الله سبحانه وتعالى؟ A نعم، من صفات الله تبارك وتعالى هذه الصفة، وهي صفة المجيء، وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

محادة المفوضة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

محادة المفوضة لرسول الله صلى الله عليه وسلم Q أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قال: (ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، هل هذا فيه رد على المفوضة؟ A نعم، فيه الرد على المفوضة ضمناً؛ لأن المفوضة كأنهم يردون على الرسول صلى الله عليه وسلم ويزعمون أنه ما أوضح هذه الأمور، وإنما نحن نثبتها إثبات لفظ، ولا نثبت ما دلت عليه من معانٍ.

المقصود بإحصاء أسماء الله عز وجل

المقصود بإحصاء أسماء الله عز وجل Q ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) ، فهل نفهم أن لله تسعة وتسعين اسماً فقط؟ وما معنى أحصاها؟ A هذا الحديث لا يدل على أن لله تسعة وتسعين اسماً فقط، وإنما هذا فيه خبر أن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، ففيه خبر لمن أحصى هذه التسعة والتسعين، أما الأحاديث الأخرى فقد دلت على أن أسماء الله أكثر من تسعة وتسعين، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك) . أما معنى أحصاها، فالعلماء اختلفوا فيها، والذي يظهر -والله أعلم- أن معنى أحصاها، أي: حفظها ووعاها وعمل بمقتضاها، فلم يحفظها لفظاً، وإنما حفظها وما دلت عليه من معنى، ثم عمل بمقتضاها، فاسم الله السميع يعمل بمقتضاه بأن يعلم أن الله يسمع كلامه، فلا يقول الخنا، ولا يغش، ولا يدلس، وهكذا في بقية أسماء الله سبحانه وتعالى، فمن قام بها وحفظها فإن له هذا الأجر العظيم الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (دخل الجنة) . وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [3]

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [3] اعلم أن السلف الصالح هم أعلم الأمة بكتاب ربها، وهم أدرى الناس بسنة نبيها، فلا تتجاوز أمرهم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولا تخض في أمور هم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل -لو كان فيها- أحرى، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا فيه بما يكفي، فما فوقهم محِسِّر، وما دونهم مقصر.

كلام السلف رحمهم الله في الحد والغاية

كلام السلف رحمهم الله في الحد والغاية أحب أن أقف وقفة عند عبارة سابقة سأل عنها البعض، ألا وهي قول ابن قدامة رحمه الله تعالى: [ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حد ولا غاية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]] . ابن قدامة رحمه الله يقرر هنا منهج أهل السنة والجماعة في باب أسماء الله وصفاته، وهو أنهم يثبتون ما أثبته الله وأثبته رسوله من غير نقص، سواء كان هذا النقص بنفي أو تعطيل أو نحو ذلك، ويثبتونها بغير زيادة، فلا يأتون من عند أنفسهم بصفات ولو ظنوها حسنى، ولا بأسماء ولو ظنوها حسنى، فلا يأتون بشيء لم يرد ليصفوا الله سبحانه وتعالى به، بل صفات الله سبحانه وتعالى عمادها التوقيف على ما ورد، أي: أننا نثبت ما ورد إثباته، وننفي ما ورد نفيه، ونتوقف عما لم يرد إثباته ولا نفيه. ثم إن المصنف هنا قال: (بلا حد ولا غاية) ، ومقصوده رحمه الله أننا نثبت لله سبحانه وتعالى هذه الصفات على ما يليق بجلاله وعظمته، ونقول: إن صفاته ليست لها غاية، أي: ليس لعلم الله غاية ومنتهى، كما أنه ليس لكلام الله سبحانه وتعالى أيضاً غاية ومنتهى، فالله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم، يعلم ما كان وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما أن كلامه تعالى لا ينقضي، ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} [لقمان:27] ، وفي الآية الأخرى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109] . قال العلماء في تفسير هاتين الآيتين: إن العدد غير مراد، فلا يعني أنه لو جئنا بسبعة أبحر نفدت كلمات الله، بل لو جئنا بسبعة وسبعة وسبعة ما نفدت كلمات الله أبداً، ومعنى الآيتين: أننا لو قطعنا الأشجار التي على الأرض وبرينا غصونها وأعوادها لتتحول إلى أقلام ثم تحول البحر إلى مداد وحبر وكتب بتلك الأقلام بذلك المداد كلمات الله ما نفدت كلمات الله أبداً. وهذا من عظمة الله سبحانه وتعالى؛ لأن لكل مخلوق منتهى، أما الخالق سبحانه وتعالى فلا منتهى لأمره وعلمه ولا لكلامه سبحانه. ولهذا فإن ربنا تبارك وتعالى عظيم عظمة لا يمكن أن يتصورها مخلوق، ومهما تصور المخلوق فالله أعظم من ذلك، وأقرب مثال على ذلك أننا إذا قلنا: إن السماوات والأرض كلها بمجراتها وأفلاكها في يد الرحمن سبحانه وتعالى كخردلة في يد أحد، تبين بذلك كيفية عظمة الله سبحانه وتعالى، وكيف أننا لا نستطيع ولن نستطيع أن نقدر قدره سبحانه وتعالى. وقول ابن قدامة: (إن صفاته نثبتها بلا حد ولا غاية) أي: لا نجعل لصفاته منتهى، فهو العظيم الذي لا عظيم فوقه سبحانه وتعالى. ولكن كلمة الحد هنا كلمة فيها إجمال، ولهذا ورد عن بعض السلف إثبات الحد لله سبحانه وتعالى، فأين ورد إثبات الحد؟ وما معناه؟ وما هو القول الحق في هذه المسألة؟ نقول: ورد إثبات الحد لله سبحانه وتعالى في باب الاستواء، فقد سئل عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: هل نثبت أن الله على العرش استوى؟ فقال: نعم، نثبت أن الله على العرش استوى. فقال السائل: بحد؟ قال: بحد. فما الذي قصده ابن المبارك وغيره من السلف من إثبات الحد لله؟ الذي قصده هؤلاء هو أن يثبتوا الفارق بين المخلوق والخالق، فنحن مخلوقون مربوبون نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى فوقنا، ونصدق بأنه على العرش استوى استواءً يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى. ولكن قد يخطر ببال بعض عوام الناس، أو ببال بعض الصوفية الحلولية، أو ببال بعض الذين يقولون: إن الله في كل مكان، أن الله عظيم لا منتهى لعظمته، وإذا كان لا منتهى لعظمته في ذاته فإننا مهما تصورنا شيئاً فالله يمكن أن يكون أعظم من ذلك، والنتيجة: أنه لا يصبح هناك فارق بين الخالق وبين المخلوق، فأراد هؤلاء العلماء أن يقرروا البينونة بين الخالق والمخلوق حتى يردوا على الحلولية وعلى الاتحادية وعلى غيرهم من الصوفية الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق. فهؤلاء قالوا: نؤمن بأن الله على العرش استوى، ونؤمن ببينونة الله عن خلقه، وهذه البينونة مقتضاها -كما أشار بعضهم- أن يكون لله حد لا يعلمه إلا هو، حتى نفصل بين الخالق وبين المخلوق. ولهذا سئل بعض السلف: بحد؟ فقال: نعم، بحد لا يعلمه إلا هو، أي: من باب إثبات البينونة بين الخالق وبين المخلوق، أما إذا أطلقنا هذا الأمر على قول هؤلاء العلماء، وقلنا: إن الله عظيم وبلا حد، فقد يتوهم متوهم أن هذه المخلوقات داخلة في الله سبحانه وتعالى. فأراد أن يبين هذه البينونة التي دلت عليها النصوص الكثيرة من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين الخالق وبين المخلوق. وبعض السلف رحمهم الله تعالى قالوا: كلمة الحد لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثمَّ فنحن لا نطلقها، ولا نقول: بحد، وإنما نقول: على العرش استوى، ونثبت لله الصفات، ونتوقف في هذا. إذاً: انتهينا إلى خلاصة مهمة في هذا الباب مفادها: أن من السلف من لم يطلق لفظ الحد، وكأن عبارة ابن قدامة هنا موحية بهذا القول، ولهذا قال: بلا حد ولا غاية؛ لأن هذا اللفظ لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وبعض السلف أثبت الحد لله، لكن حداً لا يعلمه إلا هو سبحانه، وإنما أثبتوه للرد على الحلولية وللرد على كثير ممن ينكر علو الله سبحانه وتعالى واستواءه على العرش، وليثبتوا البينونة بين الخالق والمخلوق، ولهذا نقول: إن لفظ الحد من الألفاظ المجملة، فنستفسر هذا الذي يثبت لفظ الحد: فإن كان يقصد أن الله يحده شيء، فنحن نقول: إن الله سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شيء، والله سبحانه وتعالى لا يقدر قدره إلا هو، وإن قصد بلفظ الحد بيان البينونة بين الخالق والمخلوق، وأن الله تعالى على العرش استوى، ليس على الأرض بذاته سبحانه وتعالى، وإنما علمه أحاط بكل شيء، فنقول: المعنى الذي أثبته صحيح، ولكن إثباتك للفظ الحد لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فنلحق لفظ الحد بلفظ الجسم والجهة والحيز ونحو ذلك، ونستفصل قائلها، فإن أراد معنىً صحيحاً قبلنا المعنى، وإن أراد معنىً باطلاً رددنا الكل، ونتوقف في إثبات هذه الألفاظ حتى ترد في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في الوقوف عندما وقف عنده الصحابة

كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في الوقوف عندما وقف عنده الصحابة قال المصنف رحمه الله: [وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: قف حيث وقف القوم] . وهذا الكلام مروي عن عمر بن عبد العزيز في كثير من كتب السنة. وأحب أن أذكر بأن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى له موقف فريد مع أهل البدع، فقد اشتهر رحمه الله تعالى بالعدل، ووصفت بأنها راشدة، فكأنها تابعة لخلافة الخلفاء الراشدين؛ وإن كانت ولايته زمنها يسير إلا أنه حرص على أن يعود بالأمة إلى المنهج الحق والصدق في كثير مما انحرفت عنه، وإلا فالأمة الإسلامية في وقته كانت في غالب أمورها سائرة على المنهج الصحيح، لكن وقع شيء من الظلم وبعض الانحراف، خاصة لما نشأ التفرق والخلاف بين الطوائف والأحزاب ونحو ذلك، فأراد عمر بن عبد العزيز أن يعود بالأمة إلى منهج الصواب. وحاول رحمه الله تعالى محاولة جادة، ووفق في ذلك أيما توفيق. ولكن من الأمور التي كنت أحب أن تفرد ببحث أو دراسة: موقف عمر بن عبد العزيز من المخالفين ومن أهل البدع وتعامله معهم، وهذا النص الذي نقله ابن قدامة هو من أصول موقف عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.

وصية عمر بن عبد العزيز رحمه الله بالوقوف حيث وقف السلف

وصية عمر بن عبد العزيز رحمه الله بالوقوف حيث وقف السلف قال رحمه الله تعالى موصياً أصحابه وإخوانه: (قف حيث وقف القوم) ، والمقصود بالقوم هنا السلف الصالح من الصحابة والتابعين الذين ساروا على منهاجهم رضي الله عنهم جميعاً، فلا تغير ولا تبتدع، ولكن انظر ماذا قالوا فقل، وانظر أي موقف وقفوا فقف معهم حيث وقفوا.

منهج السلف مبني على علم

منهج السلف مبني على علم ثم إنه رحمه الله تعالى علل ذلك بتعليل دقيق جداً فقال: [فإنهم عن علم وقفوا] . وهذه العبارة عبارة منهجية في الصميم، تبين منهج أهل السنة والجماعة. فإنهم عن علم وقفوا وليس عن عجز، وبعض المتكلمين المتأخرين الذين ابتدعوا الكلام إذا قيل لهم: إن السلف ما تحدثوا عن ذلك، قالوا: كانوا مشغولين بالجهاد. بل إن بعضهم قد يتهم الصحابة ومن بعدهم بأنهم لم تكتمل عقولهم ومعرفتهم العقلية واطلاعهم على القضايا المنطقية، أي أنه يقول: لو اطلعوا على ذلك لتكلموا هذا الكلام. وهذا القول قول غير صحيح إطلاقاً، كما قال عمر بن عبد العزيز: (فإنهم عن علم وقفوا) ، بمعنى: أن السلف الصالح رحمهم الله تعالى سلكوا ذلك المسلك في باب الأسماء والصفات عن قناعة منهجية علمية، وليس كما يزعم البعض أن هؤلاء السلف إنما يسمعون النصوص وينقلونها كما سمعوها فقط، بل أولئك السلف سمعوا النصوص وفهموها وعرفوا مدلولاتها وأثبتوها، بل هم أرجح الناس عقلاً، وأعظم الناس فهماً، وأكمل الناس ديناً وتقوى، ومن ثمَّ كان فهمهم أصح الأفهام، وعلمهم أعمق العلم وأدقه بالنسبة لمن بعدهم. فهم لما جاءتهم هذه النصوص نظروا إليها بالميزان الصحيح، فوجدوا أن هذه الأمور إنما هي أمور إخبارية تتعلق بالله وأسمائه وصفاته، والخبر عن الله وأسمائه وصفاته مما لا تدخل في مجاله العقول؛ فإن البشر مهما أعملوا عقولهم فلا يمكن أن يصلوا إلى هذه الحقائق، فلما كان الأمر كذلك وكلوا كيفية الاطلاع والعلم بهذه الأمور إلى الخبر الصادق، فوجدوا أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها البيان فأثبتوها. إذاً: المنهج الحق العلمي الصحيح لأهل السنة والجماعة ليس هو أن تعمل عقلك في كل شيء، وأن تزعم بأن إعمال العقل في كل الأمور هو دليل عمق الفهم ودقة التعبير والتحصيل ونحو ذلك، وإنما المنهج الصحيح هو أن تعطي كل ذي حق حقه، فإذا كان هناك خبر عن غائب فأنت والحالة هذه يجب أن تأخذ الخبر من مصدره؛ لأنه لا مجال لذلك الخبر بالنسبة لعقلك، مهما أعملت فكرك فيه، وهذه قضية منهجية. وأما في المجالات الأخرى، التي للعقل فيها مجال فإنهم أعملوا عقولهم، وعمروا الدنيا، وخططوا إدارياً وعسكرياً واقتصادياً وسياسياً، بل إن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كتبت كتابات مستقلة -وهو قائل هذه العبارات- عن مناهجه في هذا الباب، وفي هذه الأمور كلها، وقبله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. إذاً: في المجال الذي يفيد المسلمين وللعقل وللتفكير فيه مجال فكروا وأنتجوا ما ينفع المسلمين، لكن المجال الذي مهما أعمل الإنسان فيه عقلاً لم ينتج وقفوا.

نفوذ بصر السلف رحمهم الله

نفوذ بصر السلف رحمهم الله ومن هنا قال رحمه الله تعالى هذه العبارة العظيمة المحددة لمنهج أهل السنة، قال: [فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا] . قوله: (وببصر نافذ) ، البصر: بصيرة العقل، ولهذا ورد في حديث رواه البيهقي في الزهد وغيره: (إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات) . فهؤلاء عن بصر نافذ دقيق جداً وتبصر حقيقي منهجي كفوا عن الخوض في هذه المسائل، فلم يخوضوا فيها كما خاض المتأخرون، ولم يقولوا: هذا نثبته وهذا لا نثبته، وهذا مجاز، وهذا العقول خالفته وناقضته، ونتأول أو لا نتأول، ما خاضوا في هذه الأمور، وإنما أثبتوا ما ورد، ووقفوا، فهم رحمهم الله تعالى ببصيرة وعقل كفوا عن الخوض فيها، لا عجزاً كما يدعي بعض المتكلمين الذين أشرنا إليهم قبل قليل حينما يسألون عن اختلاف منهجهم عن منهج السلف الصالح السابق، فيأتون بتلك العبارة المشهورة فيقولون: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم! وهذه عبارة خاطئة، بل إن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، ومذهب الخلف ليس أسلم ولا أعلم ولا أحكم.

كف السلف عن الخوض في المسائل التي ابتدعها المتأخرون

كف السلف عن الخوض في المسائل التي ابتدعها المتأخرون ثم قال رحمه الله تعالى: [وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى] . قوله: (وهم على كشفها كانوا أقوى) أي: إن أولئك السلف الصالح رحمهم الله تعالى لو أرادوا أن يخوضوا في تلك المسائل بعقولهم لاستطاعوا أن يخوضوا فيها، وهذه الأمور التي ابتدعها المتأخرون وقالوها لو كانت خيراً لسبق أولئك إليها. ولو كان ما فيها من معانٍ هي مما يليق بالله سبحانه وتعالى لسبق أولئك ولكشفوها؛ فإنهم كانوا أعمق الناس، وأذكى الناس، وأرجح الناس عقولاً، رحمهم الله تعالى. وقوله: (وبالفضل لو كان فيها أحرى) ،أي: أنهم كانوا أسبق إلى الفضائل، ولهذا كل من جاء بعدهم أقل فضلاً منهم، والرسول صلى الله عليه وسلم أعطى ذلك القرن الخيرية فقال: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) . فالقرن الذي نبتت فيه نابتة الافتراق والاختلاف والأقوال البدعية وغيرها، لا يمكن أن يكون أفضل من القرن الذي كان فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا فهم كانوا أسبق الناس إلى أنواع الفضائل من أولها إلى آخرها، فكانوا أسبق الناس إلى كل فضل وإلى كل خير. ثم قال رحمه الله تعالى: [فلئن قلتم: حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم] . يعني: أن هذه الأمور المحدثات كلها مخالفة لهدي أولئك السلف الكرام رحمهم الله تعالى، ورغبة عن سنتهم، فكل ما ابتدعه المتأخرون -كما أشار عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى- مخالف لهم، ومخالف لهديهم وسنتهم. ثم قال: [ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي] . قوله: (وصفوا منه ما يشفي) ، أي: أن أولئك الصحب الكرام نقلوا ما ورد من هذه الصفات ومسائل العقيدة كلها، وكل ما نقلوه إلى من بعدهم هو مما يشفي القلوب، ولهذا من اقتصر على هديهم انشرح صدره، وشفي قلبه، ومن لم يقتصر على ذلك بل ظن أنهم قصروا فأعمل عقله وأدخل نفسه في باب التأويلات الباطلة ونحوها، انتابته الأمراض المتعددة. وبلا شك أن اطمئنان السلف الصالح ليس كفوضى المتأخرين، فمن سلك سبيلهم كان أكثر اطمئناناً، فهم رحمهم الله تعالى وصفوا لنا وبلغونا ما يشفي، وتكلموا بما يكفي؛ فإنهم رحمهم الله تعالى كان كلامهم قليلاً، لكن كان مفيداً، وكان كلامهم مربوطاً بعمل، بخلاف من كان بعدهم، فقد كثر كلامهم، وقل فقههم، وتقلص عملهم، فأصبح المتأخرون يقولون ما لا يفعلون، ويكثر كلامهم بلا فائدة.

حال من خالف منهج السلف الصالح

حال من خالف منهج السلف الصالح ثم قال رحمه الله تعالى: [فما فوقهم محسر، وما دونهم مقصر] . أراد رحمه الله تعالى أن يبين أن منهجهم وسط، فمن أراد أن يغلو ويثبت غير ما أثبتوه، ويظن أنهم أنقصوا بعض الحاجات، فإنه غالٍ عنهم، غير متبع لطريقتهم، ومن دونهم قصر ولم يأخذ بجميع ما جاءوا به، وإنما اكتفى ببعضه ونحو ذلك، فهو مقصر. ولهذا فلفظة (محسر) هنا ترجع إلى بعض المعاني اللغوية، فإن المقاتل الذي ليس عليه درع ولا على رأسه مغفر يسمى حاسراً. ولهذا في قصة بني قينقاع كان يقول أحد المنافقين للرسول صلى الله عليه وسلم: يا محمد أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع تضرب أعناقهم مرة واحدة، هذا لا يكون. فقوله: حاسر، يعني: ليس معهم سلاح، وليس عليهم دروع، وليس على رءوسهم المغفر الذي يتقون به ضرب السيوف، فهم حُسَّر، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى بالنسبة للسماء: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:1-4] . ومعنى (حَسِيرٌ) : كليل ضعيف من شدة النظر؛ فإن الإنسان إذا نظر واشتد نظره إلى شيء، ولم ينته فيه إلى أمر، رجع إليه البصر حسيراً كليلاً؛ لأنه لم يصل إلى غاية، وهذا واضح، فالإنسان منا لو قال له قائل: انظر هنا على بعد خمسة عشر أو عشرين كيلو في ذلك الجبل، ففيه بقعة كذا، ولنفترض -مثلاً- أننا ننظر إليها بالناظور، فجاء هذا الإنسان ينظر بالعين المجردة إلى الجبل، فسيرى الجبل، لكن حين يريد أن ينظر إلى البقعة البيضاء أو السوداء أو نحو ذلك تجده ينظر وينظر وينظر وينظر، ثم في النهاية يكل بصره. هذا الإكلال جاء من شدة المبالغة في النظر. وهنا يقول عمر بن عبد العزيز: فما فوقهم محسر، أي: من أراد أن يقول أنا أفضل من الصحابة ويثبت ما لم يثبتوه، ويعمل ما لم يعملوه مما فيه هدي الرسول صلى الله عليه وسلم فهو محسر، فيرجع كليلاً، ولهذا قيل: إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. حتى في باب العبادة نرى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه لما عزم على دوام الصيام أوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم بالأهون، ولكنه قال: (أنا أستطيع أكثر من ذلك) ؛ وما زال يتدرج به حتى قال له: (صم يوماً وأفطر يوماً؛ لا أفضل من صيام داود) ، فـ عبد الله بن عمرو كان في شبابه قوياً فاستطاع، لكنه في آخر عمره قال: (ليتني أطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) مع أن الأمر كله سنة لكنه لا يريد أن يتخلى عن أمر فارق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالمهم أن الإنسان إذا غلا في الأمر انتهى به في النهاية إلى الضعف والعجز؛ ولهذا فإن الغلو مردود، والتقصير مردود؛ لأن التقصير معناه التخلي عن بعض الأمور وعن بعض القضايا التي ورد بها الشرع ووردت بها أدلة الكتاب والسنة، كما أن الغلو فيها يؤدي إلى هذا، ومنهج السلف رحمهم الله تعالى وسط في كل الأمور: وسط في باب العبادات وسط في باب المعاملات وسط في باب الأحكام وسط في باب العقائد وسط بين الملل وسط بين جميع الطوائف؛ فإنك تجد إما طائفة غالية في هذا الباب أو مقصرة، فإما إفراط وإما تفريط، ومنهج أهل السنة والجماعة في هذا الباب وسط، وهذا هو الذي أشار إليه عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. ولهذا قال شارحاً ذلك: [لقد قصر عنهم قوم فجفوا] . فالجافي هو المقصر؛ لأن المقصر هو الذي أعرض، فكأنه أعرض عن بعض منهجهم. ثم قال: [وتجاوزهم آخرون فغلوا] . وهذا تفسير للعبارة السابقة. ثم قال: [وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم] . أي: إن أولئك السلف والصحب الكرام رحمهم الله تعالى كانوا بين ذلك على طريق مستقيم.

وصية الأوزاعي رحمه الله باتباع آثار السلف وترك آراء الرجال

وصية الأوزاعي رحمه الله باتباع آثار السلف وترك آراء الرجال ثم نقل كلمة الإمام الأوزاعي فقال: [وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي رضي الله عنه] . وهو أحد الأئمة المشهورين، وله فقه عظيم، وهو من أئمة التابعين المشهورين رحمه الله تعالى، متوفى سنة (157هـ) . يقول: [عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس] . وهذه وصية لجميع العلماء، فقوله: (عليك) أي: الزم، (بآثار من سلف) أي: آثار السلف رحمهم الله تعالى، (وإن رفضك الناس) أي: وإن ابتعد عنك الناس أو رفضوا مقالك أو رفضوا منهجك أو رفضوا طريقتك فلا تعبأ بهم، فما دمت سائراً على منهج السلف فلا تعبأ بهؤلاء. ثم قال: [وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول] . أي: إياك أن تجعل معتمدك آراء الرجال ولو زخرفوه وحسنوه بالعبارات المنمقة وغيرها، وتترك الكتاب والسنة. لكن آراء الرجال إذا كانت شارحة أو موضحة لمنهج السلف الصالح فإن الاطلاع عليها مما يعين على ذلك؛ لكن إذا كانت آراء الرجال وزخرفتهم للقول وتنميقهم له مخالفة لما ورد من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فاحذر ذلك حذراً شديداً.

مناظرة عبد الله بن محمد الأذرمي في خلق القرآن

مناظرة عبد الله بن محمد الأذرمي في خلق القرآن ثم قال رحمه الله تعالى: [وقال عبد الله بن محمد الأذرمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها: هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها! قال: فشيء لم يعلمه هؤلاء علمته أنت؟! فقال الرجل: فإني أقول: قد علموها؛ قال: أفوسعهم ألا يتكلموا به، ولا يدعوا الناس إليه أو لم يسعهم؟ قال: بلى وسعهم، قال: فشيء وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لا يسعك أنت؟! فانقطع الرجل، فقال الخليفة -وكان حاضراً-: لا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم] . قوله: (الأذرمي) ، الصحيح: أنه بالذال، أي: الأذرمي، وهو إمام مشهور اسمه: عبد الله بن محمد الأذرمي، تتلمذ على وكيع بن الجراح وسفيان بن عيينة وغيرهم، روى عنه أبو داود، وروى عنه النسائي وعبد الله ابن الإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي وغيرهم، وهذا العالم الفاضل مترجم في (تهذيب التهذيب) في اسم: عبد الله، وقد أشار ابن حجر في (تهذيب التهذيب) إلى هذه القصة التي معنا؛ كما أن ياقوت في (معجم البلدان) لما جاء إلى مدينة أذرمة ترجم لهذا العالم، وأشار إلى هذه القصة. وقول ابن قدامة: (لرجل تكلم ببدعة) هذا الرجل هو شيخ المعتزلة في وقته أحمد بن أبي دؤاد، والبدعة التي جرى حولها النقاش هي بدعة القول بخلق القرآن؛ ومنهج هذا الإمام في مناقشة أحمد بن أبي داؤد منهج قوي جداً، ولقد وفق في أسلوب العرض أيما توفيق.

ضلال المعتزلة في القول بخلق القرآن

ضلال المعتزلة في القول بخلق القرآن وأحب أن أقف وقفة قصيرة هنا عند قضية القول بخلق القرآن فأقول: إن قضية القول بخلق القرآن هي القضية التي جعلها المعتزلة عنواناً لبدعتهم، فإن المعتزلة ينفون عن الله الصفات، ومما نفوه عنه صفة الكلام، فلما كان مستقراً في نفوس المسلمين أن هذا القرآن الذي معنا هو كلام الله؛ قالوا: لا، هذا القرآن مخلوق من المخلوقات المنفصلة عن الله سبحانه وتعالى، فكما خلق السماوات والأرض وبني آدم خلق هذا القرآن، فلم تقم بالله سبحانه وتعالى صفة الكلام. والتي نعتقد نحن أنها صفة من صفات الله تليق بعظمته وجلاله. واسمحوا لي أيها الإخوة! إذا ذكرت هذه القضية؛ لأنني سئلت عن قضية القول بخلق القرآن؛ وسمعت أن بعض الناس يقول: لماذا تحولت عند المسلمين إلى مشكلة في ذلك القرن، وليس فيها إشكال؛ وسواء قلنا بخلق القرآن أو لم نقل بخلق القرآن فالمسألة يسيرة، وبعضهم قال: ما كانت لتستحق تلك المشكلة والفتنة الكبرى في تاريخ الأمة الإسلامية التي امتحن فيها المؤمنون امتحاناً شديداً، وثبت الله إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله وبعض العلماء على ذلك! فأقول: إن هذه القضية قضية مرتبطة بمنهج المعتزلة العقلاني؛ فالمعتزلة أدخلوا عقولهم في هذا الباب، ودخلوا هذا المدخل الذي سموه توحيداً، وذلك من خلال قضايا متعددة أبرزها قضيتان: الأولى: أن إثبات الصفات يلزم منه التشبيه، فقالوا: إن إخلاص التوحيد هو بنفي الصفات عن الله؛ حتى لا نشبه الله بخلقه. الثانية: أن المعتزلة ناقشوا النصارى، وناقشوا شرك النصارى، وأن النصارى يقولون بأن هناك ثلاثة آلهة، فقالوا للنصارى: أنتم مشركون تقولون: الأب والابن وروح القدس، هذا شرك بالله؛ فالله واحد لا شريك له. فقال النصارى: نحن غير مشركين، نحن نقول: هذه أقانيم لإله واحد، فالأب والابن وروح القدس يساوي إلهاً واحداً، فجعلوها نظرية رياضية بدهية: ثلاثة تساوي واحداً. وهذا الكلام غير معقول وغير مقبول، فهؤلاء النصارى قالوا: أنتم يا مسلمون! إذا كنتم تتهموننا بأننا نقول بثلاثة آلهة فأنتم تقولون بسبعة أو بعشرة أو بأكثر! قيل لهم: كيف؟ قالوا: أنتم تقولون: الله السميع البصير له الكلام الإرادة القدرة، وتقولون: هذه صفات لله، وهذا شرك أكبر من شركنا؛ لأنكم إذا قلتم: إن صفات الله أزلية مع الله إذاً جعلتم مع الله أكثر من إله، فبسبب هذا النقاش قال المعتزلة: إخلاص التوحيد هو أن ننفي عن الله جميع الصفات؛ لأننا لو أثبتنا لله أي صفة وقلنا إن هذه الصفة أزلية لله فقد أثبتنا مع الله إلهاً آخر، فأدى بهم هذا الفهم القاصر إلى نفي جميع الصفات عن الله سبحانه وتعالى، وذلك من خلال مناهجهم العقلية الباطلة، وضربوا بالكتاب والسنة ونصوصها عرض الحائط، وأعملوا فيها تأويلاً وتحريفاً وتعطيلاً. وقد وصلوا في الدولة العباسية إلى مناصب كبرى، ومنها وصول أحمد بن أبي دؤاد قاضي المعتزلة وشيخهم وكبيرهم إلى أن كان قاضي القضاة والمقرب من الخليفة، وقد أثر هذا القاضي المعتزلي على الخليفة حتى أقنعه بهذه البدعة، بل وأقنعه بأنها هي الحق الذي لا حق غيره، وأنه ينبغي له أن يلزم الناس بها، وفعلاً تبنت الدولة آراء المعتزلة، وتحولت قضية الاعتزال من خلاف بين أهل السنة وبعض المخالفين إلى أن تعلن الدولة قراراً حاسماً قوياً بأن هذه البدعة هي الحق، بل ويجب على كل إنسان أن يقول رأيه فيها، وأن يقول الرأي الموافق للمعتزلة، فنشأت فتنة القول بخلق القرآن. إذاً: هي ليست قضية جزئية، وإنما هي مسألة جعلت عنواناً لقضية أكبر في باب الاعتقاد وفي باب المنهج وفي باب الصفات، وفعلاً امتحنت الدولة ومن خلفها من أئمة الاعتزال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مما كان تحت سلطانهم، وكانت تحت سلطانهم كل البلاد الإسلامية في ذلك الوقت الذي اتسعت فيه الفتوحات؛ إذ بلغت إلى حد كبير جداً في نهاية القرن الثاني، واستمر على ذلك مجموعة من الخلفاء: المأمون والمعتصم والواثق، يوصي بعضهم بعضاً، وكانوا ينشرون مسألة القول بخلق القرآن، وأصدروا قرارات: من لم يقل بخلق القرآن يعزل إذا كان قاضياً في بلد أو كان فقيهاً أو كان إماماً! وحاربوا أرزاق الناس. وهذا الشيء مؤسف جداً، حيث يتحول الاختلاف في الرأي إلى أن يتجه الأقوى إلى حرب الناس في أرزاقهم؛ فالله هو الرزاق ذو القوة المتين، لكنه منهج الضعفاء، فمنهج الضعفاء أن تحارب الناس في أرزاقهم، وأن تظن أنك إذا قطعت الرزق قد قضيت على صاحبه، ولهذا فإن بعض العلماء اضطر إلى التورية، فكان بعضهم إذا سئل محاكمة: هل تقول بخلق القرآن؟ قال: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور هذه مخلوقة، ويقصد يديه.

ثبات الإمام أحمد رحمه الله في قضية القول بخلق القرآن

ثبات الإمام أحمد رحمه الله في قضية القول بخلق القرآن لكن الإمام أحمد بن حنبل تحول في ذلك الوقت إلى أن تتجه الأنظار إليه؛ لأن صمود الإمام أحمد بن حنبل صار فيصلاً بين قضيتين كبيرتين، ومن هنا ثبت الله الإمام أحمد، فصار الاسم له، وإلا فهناك غيره من العلماء من وقف موقفه رحمه الله تعالى؛ فالإمام أحمد بن حنبل امتحن وسجن وعذب وضرب، وطلب منه الإقامة الجبرية، وامتحن في هذه العهود، ثم امتحن بالرخاء في عهد المتوكل. فالإمام الزاهد أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى مر بجميع أنواع الابتلاء التي يمكن أن يمر بها مؤمن صادق وداعية صادق، وكان الإمام أحمد في علمه وفي زهده جبلاً، فهو الذي كان يحفظ مئات الألوف من الأحاديث يحدث بها، ولا شك أن الناس أحوج ما يكونون إلى علمه، فكيف يترك ليسجن ويضرب ويموت تحت التعذيب؟! فجاءه بعض الناصحين وقالوا له: يا إمام! إن الناس يرون فيك فضلاً وعلماً فأبق على نفسك! أي: أبق على نفسك لا لنفسك وإنما للناس، فلو أنك وريت كما ورى غيرك وانتهت المشكلة؛ لكن الإمام أحمد وقد تحدد الأمر بالنسبة له كان يفقه القضية بعمق، وكان يعرف أن الناس ينتظرون مقالته، وأنه لو قال بخلق القرآن ولو كان مورياً فلربما عذر نفسه أو عذره اثنان بجانبه، لكن ملايين من خلفه ستأخذ الأمر على ظاهره؛ ولهذا كانوا إذا أرادوا أن يحاكموا الإمام أحمد بعد التعذيب لينطق، يكونون قد جمعوا الناس معهم الأقلام حتى يسمعوا مباشرة؛ لأنه لو نقل عن الخلافة أنه أجاب لما صدق أحد، ولكنهم كانوا يجمعون الناس من باب التوثيق، وما كان عندهم توثيق بالصوت والصورة مثلما عندنا، وإنما كان التوثيق أمام الناس، فيجمعون الناس ويدخلونهم قصر الإمارة ومعهم الأقلام؛ ليسمعوا ماذا يقول الإمام أحمد. وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في السجن، فجاءه أحدهم قبل لحظات من المحاكمة المتكررة، وقال له: يا إمام! لو أنك وريت فأبقيت على نفسك! فقال لهذا الرجل: انظر من خلفك، فنظر من خلفه فإذا ألوف قد جلسوا ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد، فقال له الإمام أحمد: يا هذا! لو أن الإمام أحمد ورى ما يدري هؤلاء أن الإمام أحمد يقول بالتورية، من يتحمل أثر إضلال هؤلاء وظنهم أن الإمام أحمد قال بخلق القرآن؟! وفعلاً ثبته الله سبحانه وتعالى، وكان يقول لهم: ائتوني بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يقولون له: ماذا تقول فيه؟ فيقول: القرآن كلام الله، فيقولون له: هل تقول: إن القرآن مخلوق أم أنه كلام الله منزل غير مخلوق؟ فيقول: ائتوني بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ائتوني بدليل! ولو أردنا أن نستطرد ما جرى في تلك القصة لطال المقام؛ فإن فيها عبراً كثيرة جداً، فإنهم حاولوا معه محاولات كثيرة، حتى إنهم حاولوا محاولات فكرية، وبحثوا عن الحجج والدلائل ليجدوا ما يلزمونه به حتى يقول بخلق القرآن، ومع ذلك نقض كل شبهة، بل إنه رحمه الله تعالى قد ثبته الله سبحانه وتعالى حتى بنصائح من داخل السجن، وقد كان مسجوناً مع اللصوص وغيرهم، ولهذا كان بعد الإفراج عنه يترحم على أحد السجناء اللصوص، فأحد أبنائه قال له: يا أبتِ! كثيراً ما تترحم على هذا؟ قال: هذا واحد من اللصوص التقيت به في السجن، قال: ولماذا تترحم عليه؟ قال: كنت جالساً في السجن فأتاني أحد أصحابي وجاء ليثبتني ويقول لي: اثبت يا إمام! فقلت له: إنما أخاف ألا أقوى على الضرب؛ يعني: أن الإمام أحمد قد يخاف ألا تقوى نفسه على تحمل الضرب فيقول غير الحق، فكان بجانبه أحد اللصوص يسمع الحوار، فقال له: اثبت يا إمام على الضرب، فو الله إنني لأثبت على الضرب وأنا على باطل، أفلا تثبت على الضرب وأنت على الحق؟! فكان الإمام أحمد بن حنبل يدعو لهذا الإنسان؛ لأنه أعطاه درساً. المهم أن فتنة القول بخلق القرآن هي البدعة التي وردت في هذه القصة، وجعلها المعتزلة عنواناً لمنهج فكري عقدي في الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، فليست كما يقول البعض: لماذا كبرت هذه المشكلة؟ ولماذا ضخمت؟ ونحن نقول: والله لو لم يكن فيها إلا صفة الكلام لله وقد ابتدعها هؤلاء، لكان حقيقاً أن يتحمل الإنسان في سبيل إثبات منهج أهل السنة والجماعة ما تحمل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.

شرح قصة الأذرمي مع المبتدع والعبرة منها

شرح قصة الأذرمي مع المبتدع والعبرة منها وأما قصة عبد الله الأذرمي فإنها كما حكاها ابن الجوزي في ترجمة الإمام أحمد، وحكاها أيضاً الذهبي في (سير أعلام النبلاء) في المجلد الحادي عشر أيضاً في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل هي: أن هذا الرجل الأذرمي أتي به مقيداً ليمتحن بالقول بخلق القرآن، وكان كل من يرد الامتحان يكون الخليفة حاضراً، وقاضي القضاة حاضراً، وكانت المسألة نوعاً من المحاكمة والنقاش، فدخل وهو في قيوده، ويقال: إن الفتنة كانت في عهد الواثق، والذي يحكيها ابنه: فقال هذا الشيخ: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال الخليفة: لا سلام عليك ولا رحمة؛ مذنب مجرم مرتكب لبدعة إثبات كلام الله سبحانه وتعالى، وأنه يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، فقال هذا القاضي بكل أدب: بئس ما علمك مؤدبك، إن الله يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] ، هنا انتبه أحمد بن أبي دؤاد؛ حيث كان يظن أن أمامه شيخ عادي، فقال أحمد بن أبي دؤاد القاضي المعتزلي: يا أمير المؤمنين! إن الرجل صاحب حجة، فدعني أحاجه؟! قال: تفضل، فبدأت المحاجة بينهما: فقال هذا الشيخ الأذرمي لـ أحمد بن أبي دؤاد: أسألك أو تسألني؟ فقال أحمد بن أبي دؤاد -من باب أن يعرف ما عنده-: اسأل أنت. فقال له الشيخ: هذا الذي تدعو إليه -القول بخلق القرآن- أعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر؟ فالمعتزلي قال: لا، فقال له: سبحان الله! شيء علمته ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر، والله ما هذا علم ينفع، فانقطع. ولهذا جاء في بعض الروايات أنه قال للخليفة: هذه واحدة، يعني: سجلنا عليه نقطة في انقطاعه في الحوار، فقال أحمد بن أبي دؤاد: أقلني، يعني: أقلني عن الجواب الأول، فإنني أقول: قد علموها. إذاً: صارت النتيجة أن أحمد بن أبي دؤاد يدعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر علموا هذه البدعة التي قال بها، فقال له ذلك الرجل: لما علموها هل تكلموا بها ودعوا الناس إليها؟ فقال له: لا، لم يتكلموا بها ولم يدعوا الناس إليها، فقال له: أفلا وسعك ما وسعهم؟ يعني: أمر وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، ولم يسعك أنت إلا أن ترغم الناس وتلزمهم بذلك؟! فصار الخليفة يردد عبارته الأخيرة: وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر أفلا يسعنا ما وسعهم؟! ويكررها ويفكر فيها، ثم قال في الحال: فكوا قيوده. ففكوا قيوده، وأطلقوا سراحه. ويقال: إنه بسبب هذه القصة توقف الخليفة الواثق في آخر أمره عن القول بخلق القرآن، حتى يقال: إنه ما مات إلا وقد تاب من ذلك. ولننظر إلى منهج هذا الإمام في النقاش؛ حيث قال له: هل علموها أو لا؟ لأن هذا الإنسان ابتدع بدعة جديدة، فإذا كانوا لم يعلموها فكيف صرت أعلم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ بل أعلم من الرسول عليه الصلاة والسلام؟! ثم بعد ذلك أيضاً لما قال له إنهم علموها، قال: هل دعوا الناس إليها؟ وفعلاً هم ما دعوا الناس إلى القول بخلق القرآن، فلما تبين أنهم لم يدعوا إليها قال: ألا يسعنا ما وسع هؤلاء؟ فانقطع الرجل المبتدع وأخرس، ولا شك أن هذا من توفيق الله سبحانه وتعالى. إذاً: العبرة من هذه القصة هي منهجية هذا الإمام، وكيف أنه أسكته لا بحجج عقلانية وغيرها، وإنما بالحجة القوية اليسيرة في عرضها وفهمها، لكن لأنها كانت منهجية كانت قوية في إفحام هذا المبتدع؛ لأنها كانت تعتمد هذا المنهج الصحيح في أن الأمور ترجع إلى ما كان عليه السلف الصالح، وأن من ابتدع بدعة فقد أحدث، وكانت نتيجة ما وفق الله سبحانه وتعالى هذا الإمام لهذا العرض القوي: أن قال الخليفة -وكان حاضراً-: (لا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم) .

من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلا وسع الله عليه

من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلا وسع الله عليه قال ابن قدامة رحمه الله تعليقاً: [وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، والأئمة من بعدهم، والراسخين في العلم، من تلاوة آيات الصفات وقراءة أخبارها وإمرارها كما جاءت؛ فلا وسع الله عليه] . فما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون لهم بإحسان يجب أن يتبع. وقوله: (بإحسان) ؛ لأنه قد وجد في التابعين من كان منحرفاً، لأنه لم يتبع الصحابة رضي الله عنهم بإحسان، فلا يتبع. وقوله: (والأئمة من بعدهم والراسخين في العلم) ، ولا شك أن من أعظم علامات الرسوخ في العلم هو أن يرجع الإنسان فيما لم يعلم إلى من يعلم؛ ولهذا كل من كان راسخاً في العلم فإنه يقول عن الشيء الذي لا يعلمه: لا أدري؛ فالإمام مالك وهو الإمام مالك سئل عن أربعين مسألة؟ فأجاب عن أربع، وقال عن ست وثلاثين منها: لا أعلم، فكيف بباب أخبار الصفات؟ فالراسخ في العلم هو الذي يقف عند الخبر الصادق، وهذا لا شك أنه من أعظم الرسوخ في العلم. وقوله: (من تلاوة آيات الصفات) ، يعني: الواردة في القرآن العظيم. وقوله: (وقراءة أخبارها) أي: أخبار الصفات الواردة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان الأئمة يتلون القرآن، ويعلَّمونه الناس، وإذا مروا على آيات الصفات لا يعطلونها ولا يشبهونها، وإنما يثبتونها، لكن جاء من بعدهم وقال: إذا جئتم عند قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قال: قفوا ولا تفهموا من الآية ظاهرها؛ لأن هذه الآية لو وقفنا عند ظاهرها لوقعنا في التشبيه، ولذا يقول: استوى بمعنى استولى، ووجهه بمعنى ذاته؛ وهكذا يعمل فيها تأويلاً، والأئمة من قبله كانوا يقرءونها ويتلونها ويفسرونها بلا تأويل. وكذلك أيضاً قراءة أخبار الصفات: كان الأئمة يحدثون بالأحاديث ولا يفرقون بين أحاديث الأحكام وأحاديث الصفات، وإنما كانوا يحدثون بها جميعاً؛ وتعلمون أن مناهج الأئمة في تخريج الحديث على أقسام: منهم من صنف الحديث على الأبواب، مثلما فعل البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم، فهؤلاء بوبوا: الصلاة الزكاة الإيمان القدر إلى آخره. ومنهم من ذكر الأحاديث حسب الأسانيد، إما حسب أسانيد الصحابة، مثل مسند الإمام أحمد وغيره من المسانيد، أو حسب معجم شيوخه، مثل معجم الطبراني في الصغير، فالذي ذكر أسانيد الصحابي -كالإمام أحمد بن حنبل مثلاً- يذكر كل مرويات هذا الصحابي، ولا يفرق بين العقيدة ولا بين غيرها، ولا يقول: لا تقل إلا أحاديث الأخبار والأحكام فقط، أما أحاديث الصفات فهذه أمرها عظيم، ونخاف أن تشبهوا، ونخاف أن تمثلوا، لم يقل أحد منهم ذلك، بل كانوا يقرءونها ويوردونها ويتلونها ويحدثون بها، ولا يفرقون بينها وبين غيرها من الأحاديث، وهذا منهجهم. ثم قال: (وإمرارها كما جاءت) ، ثم دعا عليه في الأخير فقال: (فلا وسع الله عليه) . قوله: (إمرارها كما جاءت) سبق أن شرحناها في عبارة سابقة، أي: أنهم يوردونها كما جاءت بالإثبات؛ فيثبتونها ويثبتون ما دلت عليه من معنى، لكن كيفية هذه الصفة يفوضون علمه إلى الله سبحانه وتعالى، وكما قلنا سابقاً: فإن عبارة أمروها كما جاءت، أو تمر كما جاءت ليست حجة لأهل التفويض؛ لأن الأئمة ذكروها حتى في غير باب الصفات، وقد سبق شرح ذلك في الدرس الأول. ونقف عند ما ذكره من نماذج الصفات، ونستكمل -إن شاء الله- في الدرس القادم.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (وببصر نافذ كفوا)

معنى قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (وببصر نافذ كفوا) Q قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: (وببصر نافذ كفوا) هل هي من كفَّ أم من كفى؟ A الذي يظهر لي أنها من كف، وليست من كفى، ويجوز أن تكون من كفى، يعني: وببصر نافذ كفاهم الله مؤنة القول في البدع ونحو ذلك، لكن الأدب أن تكون العبارة: (وببصر نافذ كفوا عن الخوض، وليس عن عجز) أي: ليس عن عجز منهم، وإنما ببصر نافذ كفوا عن ذلك، والعلم عند الله تعالى.

عدم التأويل والتكييف يشمل جميع أبواب العقيدة

عدم التأويل والتكييف يشمل جميع أبواب العقيدة Q هل عبارة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى خاصة في باب الأسماء والصفات أم شاملة في جميع العقائد؟ A عبارة الإمام أحمد شاملة لجميع العقائد، سواء كانت في باب الصفات أو في باب مسائل الإيمان أو في باب القدر أو في غيره، لكن أحياناً تكون مسائل الصفات هي محك للفارق بين أهل السنة وبين غيرهم من أهل البدع.

حكم تكفير المعتصم العباسي

حكم تكفير المعتصم العباسي Q هل المعتصم كافر؛ لأنه دعا إلى هذه البدعة؟ A أئمة السلف رحمهم الله تعالى قالوا كلاماً عاماً، قالوا: من قال بخلق القرآن فهو كافر! لأن القول بخلق القرآن من القضايا الكفرية؛ لأنه من تأويل الصفات وتأويل الصفات كفر، ويجب على الإنسان أن يحذره، لكن ليس كل من قال بشيء من هذا يكون كافراً بعينه إلا بعد توفر شروطه وانتفاء موانعه، فلو أنه قالها متأولاً وهو صادق في تأويله فقد يكون معذوراً ولا يكفر، ولو أن شخصاً آخر قالها راداً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومكذباً به لكان كافراً، ولهذا فإن أئمة الأمة الإسلامية ما كفروا كل من قال بخلق القرآن؛ بل قالوا: من قال بخلق القرآن فهو كافر، لكن ما كفروا أحداً بعينه، وإنما ورد عن بعض السلف تكفير معينين؛ سئل عن فلان المعروف برده للنصوص وببدعته وبغير ذلك، فقال: فلان كافر، فكفره لصفات ولأمور استقرت عنده بأن هذا الشخص غير معذور، وأنه كافر؛ لهذا فالقول بتكفير المعتصم أو المأمون يدخل ضمن هذه القاعدة، فالذي يظهر -والله أعلم- أنه لا يكفر؛ لأنه متأول.

حكم المخالطة والسلام على من ينفي الصفات والقدر ويسب الصحابة رضي الله عنهم

حكم المخالطة والسلام على من ينفي الصفات والقدر ويسب الصحابة رضي الله عنهم Q هناك طائفة من الطوائف غالية في باب نفي الصفات غلواً فاحشاً؛ حيث ينفون الرؤية واليدين وسائر الصفات؛ بحجة التشبيه، ويقولون: إن المعاصي ليست من قدر الله، ويسبون بعض الصحابة الذين قاتلوا علياً رضي الله عنهم أجمعين؛ فهل يجوز مخالطتهم والسلام عليهم مع إصرارهم؟ A هذه الطائفة تجمع بين شيء من التشيع وبين تبني أقوال المعتزلة، ومعلوم أن بعض الطوائف -كالرافضة والزيدية- تبنت مذهب المعتزلة في باب القدر والصفات، بل الإباضية -وهم خوارج- الذين على الضد تماماً من الرافضة تبنوا أيضاً أقوال المعتزلة في الصفات والقدر والقول بخلق القرآن ونفي رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة؛ فهذا الذي قالوه هو مذهب المعتزلة؛ وما ذكروه من نفي الصفات ونفي الرؤية وأن المعاصي ليست من قدر الله هذا قول المعتزلة القدرية. وأما هل تجوز مخالطتهم والسلام عليهم، فهذا أمر يضبط بضابط الموقف من أهل الكتاب؛ لهذا نفرق بين الداعية إلى البدعة منهم وغير الداعية، ونفرق بين من كان منهم عارفاً بالحق تاركاً له عن قصد ومن كان منهم مقلداً لشيخه، فالواجب علينا أن نرد عليهم، وأن نبين ضلالهم في هذا الباب، وأن ندعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا كنا نريد أن ندعوهم إلى الله فلابد أن نختلط معهم، ونبين ما عندهم من ضلال. ثم مع ذلك كله نكره ما عندهم من بدع؛ فما دامت بدعهم قد لا تصل إلى حد الكفر فإننا يجب أن نحفظ لهم ما شاركونا فيه، وهو الإسلام، ونكره ما هم فيه من بدعة، وهذا منهج السلف: الولاء لجميع المؤمنين، والبراء من جميع الكافرين، فمن لم يرتكب منهم ناقضاً لا يكفر، أما من ارتكب منهم ناقضاً من نواقض الإسلام فحكمه حكم الكفار، فالولاية تكون لجميع المؤمنين، والبراءة تكون من جميع الكافرين؛ فالمسلمون المرتكبون لبدعة أو الواقعون في فسق أو كبيرة يوالون على قدر إيمانهم، ويعادون على قدر بدعتهم أو فسقهم إذا كانت بدعتهم غير مكفرة، أما إذا كانت مكفرة يخرج الإنسان بها عن دائرة الإسلام مثل بعض الفرق والطوائف فهؤلاء حكمهم حكم الكفار.

الأخذ بأحاديث الآحاد في العقائد والأحكام

الأخذ بأحاديث الآحاد في العقائد والأحكام Q هل أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد؟ وما رأيك فيمن يقول: إن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد؟ A هذا منهج ضخم جداً من مناهج أهل البدع وعلى رأسهم المعتزلة، ومن المؤسف حقاً أن كثيراً من متكلمي الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية الذين تبنوا عقائد الأشعرية والماتريدية يميلون إلى هذه القضية، وهي أن أخبار الآحاد يؤخذ بها في باب الأحكام، لكنها تفيد الظن، ومن ثمّ لا يؤخذ بها في باب العقائد، وهذا المنهج لا شك أنه منهج مخالف تمام المخالفة لمنهج السلف. وأما حكاية الخلاف في هذه القضية، فإن كثيراً منهم يحكي أن الجمهور يرون أنه لا يفيد العلم، ولا يحتج به في باب العقائد؛ وقلة من الحنابلة أو من غيرهم يرون أنه يفيد العلم ويحتج به في باب العقائد؛ وحكاية الخلاف بهذه الطريقة حكاية معكوسة، بل إن جماهير العلماء يرون أنه يفيد العلم، ويحتج به في باب العقيدة، وقلة ممن تبنى مذاهب المتكلمين من المعتزلة ومن غيرهم قالوا: إنه يفيد الظن، ولا يحتج به في باب العقيدة، ومن تأمل أحوال الأمة الإسلامية في نقلهم لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتفرغ جهابذة العلماء وخاصة علماء الجرح والتعديل يقطع بأن القضية ليست خبر آحاد، وإنما القضية قضية تبديل الرسالة؛ لأن من قال: إنها تفيد الظن، وقال: لا يحتج بها في باب العقائد، معناه أنه جعل لنفسه سلماً للطعن في جميع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ونتيجتها: أن الله سبحانه وتعالى لم يبلغ، ولم يرسل إلينا هذا بطريقه الصحيح! أما أهل السنة والجماعة فيقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ الصحابة، والصحابة بلغوها من بعدهم، ووصل إليهم بالأسانيد والطرائق الصحيحة، والإمام البخاري استخرج صحيحه سبعة آلاف حديث من أكثر من ستمائة ألف حديث، والإمام أحمد بن حنبل كان يحفظ مئات الألوف من الأحاديث الموضوعة المكذوبة الضعيفة. فالقضية ليست سهلة، القضية ممحصة ومبينة، ومن ثم فإن القول بأن أخبار الآحاد لا يحتج بها في العقائد يناقض ما كان على عهد الصحابة والقرون الثلاثة المفضلة؛ وجماهير العلماء كلهم في منهجهم يقررون أن خبر الآحاد إذا كان صحيحاً ثابتاً بالإسناد الصحيح، ليس فيه علة، وليس فيه شذوذ، ولم يتكلم العلماء فيه؛ فهو يفيد العلم، ومن ثمَّ نأخذ به في باب العقيدة كما نأخذ به في أي باب من أبواب الأحكام الأخرى؛ وتفصيل هذا لعله تأتي له مناسبة أخرى. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [4]

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [4] من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون لله عز وجل صفة الوجه، والنفس، والمجيء، والإتيان، والرضا، والمحبة، والغضب، والسخط، والنزول، وذلك على الوجه الذي يليق بالله جل وعلا، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل. وقد ضلت في ذلك فرق شتى، فمنهم من حرّف وعطل، ومنهم من شبه ومثل، والحق وسط بين الغلو والجفاء، وبين الإفراط والتفريط.

إثبات صفة الوجه لله عز وجل

إثبات صفة الوجه لله عز وجل

منهج ابن قدامة في ذكر الصفات

منهج ابن قدامة في ذكر الصفات كنا قد وقفنا عند قول الشيخ رحمه الله تعالى: [فمما جاء من آيات الصفات قول الله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27]] . بعد أن ذكر المصنف مقدمة جليلة في منهج أهل السنة والجماعة بين فيها وجوب السير على منهاجهم والتحذير من سلوك طريقة أهل البدع المخالفة لطريقتهم وذكر أقوال الأئمة كـ الأوزاعي وعمر بن عبد العزيز وقبلهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وذكر بعد ذلك القصة التي وقعت في زمن الواثق في محنة القول بخلق القرآن، وكيف أن ذلك الشيخ استطاع بعون من الله وتوفيقه أن يرد على منهج المعتزلة في هذا الباب؛ حيث رد عليهم بمنهج أهل السنة والجماعة القائم على أن هذه الأمور المتعلقة بأسماء الله وصفاته لا يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان من القرون المفضلة قد جهلوها، فكيف يأتي بعد ذلك أفراخ القرامطة والمتأثرون بالفلاسفة والسائرون على المناهج العقلية بتأويلات وتحريفات متعددة؛ ليكونوا هم العالمين بها؟! والأمر يتعلق بأمر غيبي لا مجال للعقل فيه، ألا وهو إثبات أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته وما ورد في ذلك من أخبار. فبعد أن قدم الشيخ هذه المقدمة بدأ يذكر أمثلة، فقال رحمه الله تعالى: (فمما جاء من آيات الصفات) ، وسيأتي بعد قليل بذكر أحاديث الصفات، ويلاحظ هنا أن ابن قدامة -لأنه كان متأخراً- لم يذكر بعض الصفات، مثل: صفة العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر؛ لأن هذه الصفات السبع لم يكن بين أهل السنة والجماعة وبين كثير من العلماء المنتسبين في ذلك الوقت إلى الإمام الشافعي أو أبي حنيفة أو مالك أو حتى أحمد بن حنبل من الأشعرية والماتريدية خلاف في الجملة في إثبات هذه الصفات، ولهذا لم يستشهد بها ولم يذكرها، وإلا فإن هذه الصفات لله سبحانه وتعالى هي من الصفات الثابتة، والشيخ أراد أن يذكر نماذج، ولهذا قال: (فمما يثبته أهل السنة من الصفات) ، فهو ذكر نماذج منها، لكنه ذكر من الصفات ما وقع فيه خلاف، فذكر أول صفة وهي صفة الوجه لله تبارك وتعالى، واستشهد لها بآية من القرآن، وهي قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] . وقد وردت صفة الوجه في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ، وأيضاً ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما ورد في صحيح البخاري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] ، فقال صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65] فقال: أعوذ بوجهك، ثم قرأ: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام:65] فقال صلى الله عليه وسلم: هذه أهون) ، فاستعاذ صلى الله عليه وسلم بوجه الله تعالى؛ ولهذا ورد في الحديث المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين زاره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض وجرى بينهما ما جرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها) . فالأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دلت على أن الله سبحانه وتعالى له هذه الصفة التي هي صفة الوجه؛ وصفة الوجه نثبتها لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته، لا نتأولها ولا نعطلها ولا نشبهها ولا نكيفها، وإنما نثبتها كما أثبتها السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

الكلام على تقسيم الصفات إلى فعلية وذاتية ونحو ذلك

الكلام على تقسيم الصفات إلى فعلية وذاتية ونحو ذلك وهنا ونحن نتكلم عن صفة الوجه لله تعالى أحب أن أقف وقفة قصيرة تتعلق بتقسيم الصفات؛ لأن بعضهم يقول: صفة الوجه واليدين صفات خبرية، وصفة العلم والحياة والإرادة والقدرة والسمع والبصر صفات عقلية، وأحياناً يقولون: صفة الوجه واليدين والحياة والعلم والسمع والبصر صفات ذاتية، وصفة الرضا والغضب والاستواء والمجيء والنزول والإتيان صفات فعلية، أي: أنها متعلقة بفعله وبإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى، وهذه التقسيمات لم تكن معروفة بهذا الشكل لدى السلف الصالح رحمهم الله تعالى، ولهذا تجدهم يثبتون جميع ما ورد من الصفات دون أن يفرقوا بين صفة وأخرى، كما فعل ابن قدامة هنا، حيث ذكر صفات عديدة لله سبحانه وتعالى دون أن يميز ويقول: هذه خبرية، وهذه عقلية، وهذه ذاتية، وهذه فعلية. ولهذا فإنني أنصحكم بقراءة آخر كتاب من صحيح البخاري رحمه الله تعالى الذي عنون له بعنوان: كتاب التوحيد، وهذا الكتاب عظيم جداً، ومن تأمل تبويب البخاري واستشهاده بالآيات ثم ذكره للأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في هذا الكتاب عجباً! ومن هنا فإن من تأمل تبويبات البخاري رحمه الله تعالى يجد أنه سار في ذلك أيضاً دون أن يفرق بين اسم من أسماء الله ولا بين صفة من صفات الله؛ فارجعوا إليه، إما إلى متنه أو ارجعوا مع المتن إلى شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الله الغنيمان؛ فإنه شرحه في مجلدين كبيرين، وشرحه من الشروح الوافية المهمة، وهكذا ارجعوا إلى شرح من قبله، مثل شرح ابن حجر في (فتح الباري) أو العيني في (عمدة القاري) أو السيوطي الذي لخص الشرحين في (إرشاد الساري) أو غيرها من شروح البخاري، فيستعين الإنسان بها، لكن شرح الغنيمان لكتاب التوحيد الذي هو آخر كتاب من كتب صحيح البخاري جاء مبسوطاً على وفق منهج أهل السنة والجماعة، مع المناقشة لمن أخطأ أو انحرف في هذا الباب. المهم هو أن هذه التقسيمات إنما جاءت بعد ذلك، وإذا كان بعضها له حظ من المعنى فإن بعض الصفات فعلاً خبرية، مثل صفة الوجه أو اليدين؛ لأنه لا يمكن أن نطلع عليها إلا بخبر الصادق، وبعضها خبري عقلي، مثل صفة العلم لله سبحانه وتعالى والإرادة، فإن هذه الصفات دلت عليها الأدلة من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً دل عليها دليل العقل، لكن العمدة في الإثبات أولاً إنما هو النقل؛ لأن هذه متعلقة بأسماء الله وصفاته، لكن لا يمنع بعد إثباتها بالنقل أن ندلل عليها بدليل العقل إذا كان الاستدلال منهجياً وصحيحاً. وكذلك أيضاً التقسيم بأن هناك صفات ذاتية، مثل صفة الحياة لله سبحانه وتعالى، وأن هناك صفات فعلية، هذا أيضاً مما له حظ من المعنى، وقد دلت عليه النصوص؛ فإن بعض صفات الله سبحانه وتعالى تتعلق بمشيئته وإرادته، فاستواء الله على العرش -مثلاً- له دلالتان: دلالة العلو، وهذه أزلية، ودلالة الاستواء على العرش، وهذه من صفات أفعاله، فليست أزلية؛ ولهذا قال الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] ، فاستواؤه تبارك وتعالى على العرش بعد خلقه له، مثله نزوله تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء، كل هذا مما يتعلق بإرادته ومشيئته، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ذكر لذلك.

الرد على الذين ينكرون صفة الوجه لله تبارك وتعالى أو يؤولونها

الرد على الذين ينكرون صفة الوجه لله تبارك وتعالى أو يؤولونها ونقف عند صفة الوجه لله سبحانه وتعالى؛ لأنها نموذج لبقية الصفات، فنحن نثبتها ولا نتأولها، والذين انحرفوا في هذا الباب تأولوا هذه الصفة قائلين: إن وجهه هو ذاته، فقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ، يعني: إلا ذاته، وهذا تأويل باطل؛ لأن دلالة الوجه على الذات لا شك فيها، ودلالة الصفة على الموصوف لا شك فيها، وأن له ذاتاً ليست كذوات المخلوقين لا شك فيها، لكن أن يقال: إن معنى صفة الوجه لله سبحانه وتعالى هي ذاته، ولا تدل على أن لله وجهاً يليق بجلاله وعظمته، نقول: هذا هو التأويل الخاطئ، بل يجب إثبات هذه الصفة لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله وعظمته؛ وهذا هو منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى؛ فإنهم يثبتون الصفة ولا يتأولون ولا يكيفون ولا يمثلون، وإنما يثبتون هذه الصفة لأن الله أخبرنا بها، وهو أعلم بنفسه، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا بها وهو صلى الله عليه وسلم أعلم بربه، ومن ثمَّ فنحن نسير على منهاجهم، خاصة وأن سلف الأمة أجمعوا على ذلك. وقد يقول قائل: ولكن يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] ، فإن بعض المفسرين من السلف قال: أي: قبلة الله، وظن هؤلاء أن قولهم: قبلة الله، إنما هو تأويل لهذه الصفة، ولهذا لما ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (العقيدة الواسطية) التي هي عقيدة جامعة لمسائل عظيمة، وخالفه من خالفه من أهل الكلام، قال لهم شيخ الإسلام ابن تيمية: أنا أمهلكم ثلاث سنوات، فإن أتيتموني بكلمة واحدة عن السلف رحمهم الله تعالى تخالف ما في العقيدة الواسطية فإنني أعترف لكم بأنني مخطئ. أو كلاماً نحو ذلك؟ فبحث المخالفون له، ودعوه إلى مناظرة حول عقيدته الواسطية في قصة ومحنة جرت له رحمه الله تعالى، ولكن الشاهد ما يتعلق بهذه المناظرة فيما نحن بصدده، وهو صفة الوجه لله سبحانه وتعالى. وكانت مناظرته حول الواسطية مع مخالفيه من أهل الكلام، وغالبهم أشعرية رحمهم الله جميعاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فلما جلسنا قالوا لي -وكأنهم كانوا فرحين-: لقد وجدنا عن السلف تأويلاً، قال: فانقدح في ذهني، فقلت: لعلكم تقصدون قول الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] ؟ قالوا: نعم، نقصد هذه الآية، فإن بعض السلف قالوا: فثمَّ قبلة الله، فقال لهم شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه الآية ليست من الصفات، وما فسروه به بأن المقصود بها: فثمَّ قبلة الله حق؛ لأن الآية جاءت في سياق بيان القبلة: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] ، أي: أينما تتجهوا بوجوهكم وتعبدون الله سبحانه وتعالى مخلصين في صلاتكم فثمَّ قبلة الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن سياق الآية دال على هذا. لكن يبقى في الكلام بقية، ألا وهي أن شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر من كتبه احتج بهذه الآية، وأثبت منها صفة الوجه لله تبارك وتعالى، فكيف ذلك؟ نقول: نعم، الاحتجاج بهذه الآية على إثبات صفة الوجه لله صحيح، وأرجو أن تنتبهوا لهذه المسألة؛ لأنكم ستجدون أنفسكم محتاجين إليها في بعض القضايا التي هي متعلقة بصفات الله سبحانه وتعالى، فكيف تكون هذه الآية حجة؟ هذه الآية سيقت مساق بيان الضد، لكن لا يعبر عنها بنسبة الصفة إلى الله إلا ما صح أن يكون صفة لله. إذاً: قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] المعنى يدل على القبلة، لكنه قال: (وجه الله) فنثبت من هذا صفة الوجه؛ لأنه ما أتى بهذا التعبير إلا والله سبحانه وتعالى له وجه يليق بجلاله وعظمته، ولهذا اختلف السلف رحمهم الله تعالى في بعض الصفات، مثل صفة الجنب، وذلك عند قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] ؛ فبعض السلف قال: نأخذ منها إثبات صفة الجنب لله، وبعضهم قال: لا نثبت؛ لأن سياق الآية يدل على أنها تتحسر على ما فرطت في حق الله وطاعة الله، ولم تأت هذه الآية لبيان الصفة، وكلا القولين فيهما حق؛ لأن الذين قالوا: نثبت منها الصفة قالوا: نحن معكم على أن معنى الآية: على ما فرطت في حق الله وطاعة الله، وهذا واضح الدلالة جداً، ولو أراد إنسان أن يشرح هذه الآية وقيل له: تلك النفس التي تتأسف يوم القيامة على ما فرطت، ما معنى قول الله تعالى حكاية عنها: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] ؟ لفسرها: بأنها تتحسر على ما فرطت في الإيمان بالله وطاعة الله والصلاة والعبادة وغير ذلك، ويكون التفسير صحيحاً، لكن من قال: إنه يؤخذ منها صفة، قال: لا نصف الله سبحانه وتعالى إلا بما يصح أن يوصف الله سبحانه وتعالى به، ومن ثمَّ فقوله تعالى: (على ما فرطت في جنب الله) يدل على المعنى الذي دل عليه سياق الآية، وأيضاً نستفيد منه: أن لله جنباً يليق بجلاله وعظمته، ولا فرق بين الجنب والساق والقدم والرجل والوجه واليدين والعين، وهذه الصفات كلها دلت عليها أدلة صريحة صحيحة، بعضها في كتاب الله وبعضها في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

إثبات صفة اليدين لله عز وجل

إثبات صفة اليدين لله عز وجل ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله سبحانه وتعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]] . وصفة اليدين لله سبحانه وتعالى أيضاً مما وردت أدلته نصاً في كتاب الله تبارك وتعالى في مثل هذه الآية التي استشهد بها الشيخ، ومثل قول الله تبارك وتعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] ، ومثل قول الله تبارك وتعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في أحد ألفاظ البخاري: (يد الله ملأى لا يغيضها نفقة -يعني: لا ينقصها نفقة- سحاء الليل والنهار) ، والسحاء: كثيرة الصب. فقوله: (يد الله ملأى) يدل على إثبات صفة اليد لله سبحانه وتعالى. وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله السماوات بيمينه والأرضين بشماله) ، على رواية مسلم. وأيضاً حديث الشفاعة حينما يأتي الناس إلى آدم ويقولون له: (وخلقك الله بيده) ، فهذه دالة على إثبات اليدين لله سبحانه وتعالى. والنصوص الواردة في مثل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] تدل على صفة اليد؛ وهكذا قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] ، ولا تعارض في ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يتكلم عن نفسه، وهو المعظم لنفسه والمعظم لصفاته، أو يقال: أقل الجمع اثنان، فتتفق آية: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] مع آية: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، وآية: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] .

الرد على المنكرين والمأولين لصفة اليدين لله عز وجل

الرد على المنكرين والمأولين لصفة اليدين لله عز وجل والمخالفون لأهل السنة والجماعة في هذه الصفة من المعتزلة وكثير من الأشعرية والماتريدية يقولون: إن اليد بمعنى القدرة، وأحياناً يفسرونها بمعنى النعمة، وقولهم هذا مخالف لمنهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى؛ لأنه تأويل لم يدل عليه دليل، والسلف رحمهم الله تعالى هذه الصفة، ومنعوا من تأويلها. لكن في صفة اليدين لله جاءت النصوص بدلالة قاطعة تمنع من التأويل، وإني والله حتى هذه اللحظة أعجب كيف تجرأ أولئك العلماء الفضلاء على أن يتأولوا قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ؛ فهذا نص صريح واضح لا يمكن التأويل فيه، ومع هذا قالوا: يداه: نعمته، ما خلقت بيدي: بنعمتي وبقدرتي، وهذا لا يمكن؛ لأن هذا نص صريح في إثبات صفة اليدين لله سبحانه وتعالى. ولهذا فإنني أقول كما قال من سبقني من أهل العلم: إن تأويلهم لهذه الآية لا وجه له، حتى من دلالة اللغة العربية؛ فقد تكون بعض التأويلات الأخرى -وإن كانت باطلة- لها وجه في اللغة العربية، لكن تأويلهم لليدين تأويل لا وجه له إطلاقاً في اللغة العربية، ولهذا في قول الله تبارك وتعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] جاءت العبارة وجاء التعبير قاطعاً في هذه المسألة؛ فقال أولاً: (خلقت) ، فأضاف الفعل إلى نفسه، وعبر بلفظ (الخلق) ، والخلق له دلالته الخاصة، ثم قال: (بيدي) ، وأضافها إلى نفسه، ثم جاء معبراً بلفظ التثنية، وكل ذلك يدل دلالة قاطعة على أن تأويل هذه الآية باطل، وإذا تبين بطلان تأويل هذه الآية فإنه دال على أن تأويلاتهم الأخرى لا دليل عليها، حتى ولو كان لها أحياناً وجه بعيد من اللغة، إلا أنه يدل على أن منهجم في التأويل منهج غير صحيح.

إثبات صفة النفس لله عز وجل

إثبات صفة النفس لله عز وجل ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى إخباراً عن عيسى عليه السلام أنه قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]] . وهذا في إثبات النفس لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في آية أخرى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] وورد ذلك أيضاً في أحاديث كثيرة جداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته) ، وأيضاً ورد في الحديث القدسي الصحيح الآخر المشهور: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا) ، فهذه الآيات والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم دالة على إثبات هذه الصفة، وأهل السنة والجماعة يثبتونها لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته، لكن ينبغي ألا يفهم منها -وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - أن لله نفساً منفصلة عن الله سبحانه وتعالى، كما يقال بالنسبة للمخلوق: إن له جسداً، وله روحاً تسمى نفساً، فيقولون: خرجت نفسه، يعني: خرجت روحه، فقول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] ، وقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] لا يفهم منه أن لله نفساً منفصلة عنه، وهذا أيضاً هو الذي تدل عليه النصوص؛ فإن النفس هنا تدل على الصفة وعلى ذات الله سبحانه وتعالى التي لا تشبه ذوات المخلوقين؛ فقوله سبحانه وتعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] أي: يحذركم ذاته المتصفة بصفاته، وليس هناك صفة منفصلة اسمها النفس، كما قد يتوهم البعض.

الكلام على صفة المجيء والإتيان

الكلام على صفة المجيء والإتيان

إثبات صفة المجيء والإتيان لله عز وجل

إثبات صفة المجيء والإتيان لله عز وجل ثم إن الشيخ رحمه الله تعالى ذكر صفة أخرى فقال: [وقوله سبحانه وتعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] وقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:210]] . وهاتان الآيتان دالتان على صفة المجيء والإتيان لله سبحانه وتعالى؛ وهما من الصفات الفعلية التي يتصف بها ربنا سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته، وأهل السنة والجماعة يثبتون صفة المجيء، ويثبتون صفة الإتيان؛ لأن النصوص من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم دلت عليها، ولهذا قال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210] ، وقال في آية أخرى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام:158] ، فقوله: (يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك) دليل على بطلان من تأول ذلك؛ لأنه ميز بين إتيان الرب وإتيان الآيات، ولو كان إتيان الرب هو إتيان الآيات أو بعض عباد الله أو نحو ذلك كما يقول المتأولة لما ذكره هنا وميزه، وهذا واضح الدلالة. والمخالفون لمنهج أهل السنة والجماعة يقولون: (وجاء ربك) أي: وجاء أمر ربك؛ (يأتي ربك) أي: يأتي أمر ربك، أو يأتي ملك من الملائكة، أو غير ذلك؛ وهذا كله من باب التأويل الباطل؛ فإن هذه النصوص قد دلت على أن الذي يأتي هو الله سبحانه وتعالى، وأن مجيئه وإتيانه كما يليق بجلاله وعظمته لا يلزم منه لوازم النقص التي نعلمها على المخلوقين؛ ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث الطويل المتعلق بيوم القيامة: (حتى إذا لم يبق إلا من يعبد الله أتاهم رب العالمين) ، وهذا نص صريح أن الذي أتاهم هو رب العالمين سبحانه وتعالى؛ أما تأويله بأنه أمر ربك أو نحو ذلك فهو مخالف لهذه النصوص الصريحة الدالة على أن الذي يتصف بها هو الله تبارك وتعالى.

سبب تأويل المتكلمين للصفات الفعلية والرد عليهم

سبب تأويل المتكلمين للصفات الفعلية والرد عليهم وبعض المتكلمين تأول مثل هذه الصفات وقال: إنه لا يجوز أن نثبتها لله سبحانه وتعالى؛ لأن الصفات الفعلية التي هي المجيء والإتيان والاستواء والنزول والغضب والرضا وغيرها يلزم منها حلول الحوادث في ذات الله تعالى؛ ومقصودهم بحلول الحوادث أن كل جسم حلت فيه الحوادث والتغيرات -سواء كانت هذه الحوادث سقماً أو مرضاً أو نقصاً أو نحو ذلك أو كانت أفعالاً مثل حركة وتلون وغير ذلك -أنه يكون حادثاً؛ فكل جسم حلت فيه هذه الأشياء فهو دليل على حدوثه! واستدلوا على حدوث العالم بهذه القاعدة، فقالوا: دليلنا على أن العالم حادث، وأنه غير أزلي، وأن كلام الفلاسفة بأن العالم قديم باطل، هو أن هذا العالم فيه متغيرات: شمس وقمر وكوكب وأرض وغير ذلك، هذه المتغيرات تدل على أنه حادث. وبعد أن قرروا هذه القاعدة، واحتجوا بهذا الدليل، وردوا به على الفلاسفة، وظنوا أنهم قصموا ظهور الفلاسفة القائلين بقدم العالم بهذا الدليل، انتكس عليهم هذا الدليل؛ لأنه دليل ضعيف فيما عندهم من عقيدة، فقيل لهم: إذا قلتم إن هذا الدليل صحيح، إذاً الله سبحانه وتعالى أيضاً متصف بهذه الصفات التي أنتم تسمونها حوادث؛ فالله لم يكن مستوياً على العرش فخلق العرش ثم استوى على العرش! والله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، والله يجيء يوم القيامة، إذاً: هذه كلها يلزم منها متغيرات، ويلزم منها الحركة، وهذه صفات الإنسان، فينتفي وجه الاعتراض. وفعلاً هم لما قيل لهم بهذا الاعتراض، قالوا: إذاً ننفي عن الله الصفات الفعلية، وهذا في الحقيقة أمر عجيب جداً! والمشكلة أن هذه القضية نشأت منذ زمن طويل قبل الأشاعرة وقبل الماتريدية، أي أنها نشأت منذ عهد ابن كلاب الذي كان سابقاً قليلاً للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، فإن ابن كلاب لما جاء وجد الناس في عصره على طريقتين: الأولى: طريقة أهل السنة والجماعة الذين يثبتون جميع الصفات دون أن يفرقوا فيها بين صفات الذات وصفات الفعل الخبرية وغير الخبرية، بل يثبتون الجميع؛ لأن منهجهم واحد، ولا فرق بين الصفات. الثانية: الجهمية المعتزلة الذين ينفون عن الله جميع الصفات، ولا يفرقون بين العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والعلم والوجه واليدين وغير ذلك؛ فينفون عن الله سبحانه وتعالى جميع الصفات. ونظراً لأنه دخل في باب من أبواب علم الكلام، وهو دليل حدوث العالم واقتنع بذلك الدليل الباطل، نظراً لذلك فإن ابن كلاب أتى بمذهب جديد، جمع فيه بين مذهب السلف ومذهب المعتزلة، فأثبت لله الصفات، لكن نفى عن الله ما يتعلق بمشيئته وإرادته، وسيأتينا -إن شاء الله تعالى- توضيح له في إثبات صفة الكلام لله تبارك وتعالى؛ لكن المهم هنا أن أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى يثبتون لله المجيء والإتيان كما يليق بجلاله وعظمته، ويقولون: إنها صفات أفعال، فمجيئه إنما هو بمشيئته وإرادته؛ لأن الصفات لله سبحانه وتعالى على ثلاثة أقسام: القسم الأول: صفات ذاتية يتصف الله بها أزلاً وأبداً، مثل صفة الحياة والعلم ونحوهما. القسم الثاني: صفات فعلية ليست أزلية، وإنما هي متعلقة بإرادته ومشيئته، مثل استوائه على العرش، ومثل مجيئه يوم القيامة، ومثل نزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر. القسم الثالث منها: ما هو ذاتي وفعلي، مثل صفة الكلام لله سبحانه وتعالى، فالله متصف بصفة الكلام أزلاً، وهو سبحانه وتعالى أيضاً يتكلم إذا شاء متى شاء، فهو سبحانه وتعالى متصف بهذه الصفة منذ الأزل، وهو سبحانه وتعالى كلم موسى في ذلك الوقت، أي: بعد أن خلق موسى وكونه في ذلك المكان الذي ذكره الله سبحانه وتعالى بجانب الطور، وقبل ذلك لم يكلمه سبحانه وتعالى، هذه الصفات التي ذكرناها: صفة المجيء والإتيان وغيرها هي من صفات الفعل التي نثبتها لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته، ونقول: هي متعلقة بمشيئته وإرادته.

الكلام على صفة الرضا ونحوها

الكلام على صفة الرضا ونحوها

إثبات صفة الرضا لله عز وجل

إثبات صفة الرضا لله عز وجل قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119]] . صفة الرضا أيضاً يثبتها أهل السنة والجماعة لله تبارك وتعالى، وقد دلت عليها آيات كثيرة جداً، كما قال عز وجل: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) في أكثر من آية، وأيضاً ورد في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها) ، وقوله: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً) . وصفة الرضا يثبتها أهل السنة والجماعة لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته، وهي من صفات الأفعال، أي: أن الله سبحانه وتعالى يرضى عن عبده إذا شاء، وأخبر أنه يرضى عن عبده إذا فعل الطاعة.

الرد على المنكرين والمأولين لصفة الرضا

الرد على المنكرين والمأولين لصفة الرضا هذه الصفة ومثلها صفة المحبة وغيرها يثبتها أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى دون أن يتأولوها، ومن تأولها بأن المقصود بالرضا إرادة الإنعام، أو بالمحبة إرادة الإنعام ونحو ذلك فهذا تأويل باطل؛ لأنه لم يدل عليه دليل، وأولئك تأولوا مثل هذه الصفة خوفاً من التشبيه؛ لأنك إذا قلت لأحدهم: لماذا لا تثبت لله صفة الرضا أو صفة المحبة؟ قال: لا أثبتها خوفاً من التشبيه! لأن الرضا أو المحبة هي صفة في المخلوق تدل على نوع من ميل القلب ونحو ذلك، وهذا الميل والانكسار إنما يليق بالمخلوق، والله سبحانه وتعالى منزه عنها! فنقول له: ونحن ننزه الله عن صفات المخلوقين، لكن ماذا تقول عن هذه الآية، قال: أقول: الرضا إرادة الثواب، والمحبة إرادة الإنعام، ونحو ذلك. فنقول له: أنت فررت من شيء فوقعت في مثله تماماً؛ لأنك قلت: إرادة الإنعام، فأثبت لله صفة الإرادة، والإرادة هي أيضاً ميل القلب، فإذا قيل: فلان من البشر يريد هذا الشيء فالمعنى أن قلبه يميل إليه، وإذا قيل: يريد أن يصنع شيئاً، أي: أن نفسه تميل إليه، وهذه من صفات المخلوقين؛ فيلزمك فيما فررت إليه نظير ما لزمك فيما فررت منه، فأنت فررت من إثبات الرضا والمحبة فيلزمك في الإرادة ما لزمك في المحبة؛ فإن قلت: أنا أثبت الصفات السبع -مثلاً- ومنها صفة الإرادة، وقولي: إرادة الإنعام أثبتها لله كما يليق بجلاله وعظمته، ولا يلزم منها مشابهة المخلوقين، نقول: ونحن نقول لك أيضاً في صفة الرضا وصفة المحبة: نحن نثبتها لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته، ولا يلزم منها مشابهة المخلوقين. وهكذا كل من تأول صفة من صفات الله تعالى فإنه يلزمه فيما فر إليه نظير ما لزمه فيما فر منه، ولا يمكن أن ينفك عنها أي متأول أبداً؛ حتى المعتزلة الذين نفوا عن الله سبحانه وتعالى جميع الصفات خوفاً من تعدد الذوات؛ حيث قالوا: ننفي عن الله جميع الصفات حتى نوحد الله؛ حتى لا نقع فيما قاله النصارى: الأب والابن وروح القدس إلى آخره. فنقول للمعتزلة: أنتم تنفون هذا عن الله من باب التوحيد؟ فسيقولون: نعم، فنقول لهم: أنتم تقولون: الله موجود أو غير موجود؟ فإن قالوا: الله غير موجود، فقد انتهى الكلام معهم؛ لأنهم ينكرون وجود الله سبحانه وتعالى، وإن قالوا: الله موجود، فسنقول لهم: والمخلوق موجود؛ فإذا كنتم تفرون من تشبيه الله بخلقه وتقولون إننا ننفي عن الله الصفات حتى لا نجعل مع الله غيره فأنتم ملزمون كذلك في صفة الوجود لله سبحانه وتعالى؛ فإنه تبارك وتعالى موجود، فإن قالوا: نحن نقول: الله موجود، لكن وجود الله ليس كوجود المخلوقين؛ فالمخلوق وجد من عدم، والمخلوق غير واجب، بل ممكن، والله سبحانه وتعالى وجوده يليق به، فهو وجود واجب له سبحانه وتعالى لا يقبل العدم، فنقول لهم: إذا قلتم: لله وجود لا يشبه وجود المخلوقين كذلك أيضاً بقية الأسماء والصفات، فلله أيضاً إرادة لا تشبه إرادة المخلوقين، وله علم لا يشبه علم المخلوقين، وله سمع لا يشبه سمع المخلوقين، وهكذا؛ وكل من اتخذ باباً من باب التأويل فلابد أن يتناقض قوله.

إثبات صفة المحبة لله عز وجل

إثبات صفة المحبة لله عز وجل ثم قال المصنف هنا: [وقوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]] . وهذه الصفة أيضاً وردت في أكثر من آية من كتاب الله سبحانه وتعالى، ووردت أيضاً في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قال في خيبر: (لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله) ، وبقية القصة معروفة حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فقوله: (ويحبه الله ورسوله) دليل على إثبات صفة المحبة، وتأويل هذا لا يجوز.

إثبات صفة الغضب

إثبات صفة الغضب ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح:6]] . وهذا يدل على إثبات صفة الغضب لله تبارك وتعالى وأهل السنة والجماعة يثبتونها لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته؛ والأدلة عليها من كتاب الله كثيرة معروفة، وهكذا من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي) ، وفي بعض الروايات: (سبقت غضبي) وهذا في الصحيحين وغيرهما؛ فهذه النصوص دالة على إثبات هذه الصفة لله كما يليق بجلاله وعظمته. وأهل السنة لا يفرقون بين الغضب وبين غيره، لكن بعض أهل الكلام قال: كيف تثبت لله صفة الغضب، فنحن لا نعرف إلا غضب المخلوق؛ فإن المخلوق إذا غضب يغلي يثور دمه، ويحمر وجهه، ويحتقن، ويبدأ يتفوه بكلمات تدل على غضبه، هذا هو غضب المخلوق! فكيف نثبت لله سبحانه وتعالى هذه الصفة ونحن لا نعقل ولا نفهم إلا صفة المخلوق؟! والجواب عليه كالجواب عما سبق، فنقول له: نحن نثبت لله صفة الغضب كما يليق بجلاله وعظمته، ولا نقول أبداً: إن غضبه يشبه غضب أحد من المخلوقين، بل المخلوقون يتفاوتون في غضبهم؛ فغضب الواحد من الناس ليس كغضب مالك خازن النار، فنحن نثبت لله الصفة كما يليق بجلاله وعظمته، ولا يلزم منها أن يكون غضبه مشابهاً لغضب المخلوقين، لكن أنت أيها المتأول النافي! ماذا تقول عن الغضب لله؟! وبماذا تفسر الآية؟! قال: غضب الله إرادة الانتقام، فنقول له كما قلنا في صفة المحبة: أنت تثبت لله الإرادة هنا، وتقول: إرادة الانتقام، أي: إرادة الله الانتقام من العباد، فماذا تقول في الإرادة؟ فنحن لا نعلم من الإرادة إلا إرادة المخلوق فحينما يريد أن ينتقم يميل إلى الانتقام، ويتجه بنفسه إلى الانتقام، فهذا الميل القلبي هل تثبته لله سبحانه وتعالى كما هو موجود في المخلوقين؟ فسيجيب ويقول: لا، ولكنني أثبت لله إرادة تليق بجلاله وعظمته، ولا يلزم إذا كان المخلوق له هذه الصفة أن تكون مشابهة لصفة الله سبحانه وتعالى، ونقول له بكل ثقة: ونحن نقول في صفة الغضب ما تقوله أنت في الإرادة؛ فنحن نثبت لله صفة الغضب كما يليق بجلاله وعظمته، ولا يلزم منه أن يكون مثل غضب المخلوقين؛ فيلزمك فيما فررت إليه نظير ما لزمك فيما فررت منه.

إثبات صفة السخط لله عز وجل

إثبات صفة السخط لله عز وجل ثم قال المصنف: [وقوله تعالى: {اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [محمد:28]] . الشيخ استشهد بجزء من الآية: {اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [محمد:28] ، وهذه الصفة أيضاً نثبتها لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته، ونقول فيها: إن الله سبحانه وتعالى سخط ويسخط على أهل المعاصي، وهذه المعاصي هي مما يسخط الله سبحانه وتعالى، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال في الدعاء المشهور: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك) ، فهذا يدل على أن الله متصف بهذه الصفة كما يليق بجلاله وعظمته، ولا نتأولها.

إثبات صفة الكره لله عز وجل

إثبات صفة الكره لله عز وجل قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة:46]] . وهذه أيضاً صفة من صفات الله تعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى يكره المعاصي، وكره الله انبعاث هؤلاء المنافقين وخروجهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد في سبيل الله؛ نظراً لما يترتب على خروجهم من الفساد والفتن، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصفة مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) وهذا في صحيح البخاري. وقوله: (كره لكم) يدل على إثبات هذه الصفة لله سبحانه وتعالى، كما يليق بجلاله وعظمته.

إثبات صفة النزول لله عز وجل

إثبات صفة النزول لله عز وجل ثم إن المصنف رحمه الله تعالى انتقل بعد ذلك إلى السنة فقال: [ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا) ] . قوله: (ومن السنة) ، هذا يدل على أن منهج المصنف رحمه الله تعالى هو المنهج الموافق للسلف رحمهم الله تعالى؛ فإنهم يحتجون بالسنة وبأخبار الآحاد في باب العقيدة، وقد سبقت الإشارة إلى هذا، فأهل السنة والجماعة يثبتون لله ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، فما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات يثبتونها، ومن ذلك صفة النزول التي دلت عليها الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتي فيها: (أن الله تبارك وتعالى ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الصبح) . وصفة النزول لله سبحانه وتعالى إنما وردت في السنة، ومع هذا فإن السلف رحمهم الله تعالى حدثوا بهذه الأحاديث، ورووها، وأثبتوا ما دلت عليه كما يليق بجلاله وعظمته، ولا تلزم منها لوازم باطلة، ولا يلزم منها أن يكون نزوله تبارك وتعالى مثل نزول المخلوقين؛ ولهذا ألف العلماء رحمهم الله تعالى كتباً مستقلة في إثبات النزول لله تبارك وتعالى، وهذه الكتب دالة على عناية السلف بهذه الصفة؛ نظراً لأنها ثبتت في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ونظراً لأن كثيراً من المتكلمين بل عامة المتكلمين تأولوا هذه الصفة بتأويلات باطلة، مثل قولهم: إن الذي ينزل هو أمره أو رحمته، ومثل قولهم: إن الذي ينزل ملك من الملائكة، فبين السلف رحمهم الله تعالى أن هذه الأحاديث إنما دلت على إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى دون أن تشبه صفات المخلوقين، ومن ثمَّ فلا يجوز تأويلها.

الرد على شبهة أن السماوات ستكون فوق الله تعالى إذا نزل

الرد على شبهة أن السماوات ستكون فوق الله تعالى إذا نزل وأحب أن أقف وقفة مع هذه الصفة لله سبحانه وتعالى؛ فإن بعض الناس قد يخطر بباله خواطر تتعلق بهذه الصفة، ومنها: كون جميع البلاد فيها ثلث الليل الآخر، ومنها: أن الله عظيم أكبر من المخلوقات، فكيف ينزل إلى سماء الدنيا؟ والجواب على ذلك: أن هذه الخواطر إنما نشأت من توهم التشبيه، أي: من توهم أن صفات الله مثل صفات المخلوقين، وهذه العلة هي التي بها نفى المنحرفون صفات الله؛ فإذا تأول أحد صفة الكلام أو صفة الوجه أو اليدين لله سبحانه وتعالى أو نحو ذلك، وفتشت عنه: لماذا تأولت؟ فإنك تجد أنه أولاً شبه ثم عطل؛ فإنه أولاً قرأ الآية، فلما قرأها لم يفهم منها إلا ما هو من صفات المخلوقين، فلما شبه صفة الله بصفات خلقه واستقر هذا في ذهنه فكر وقال: هذا لا يليق بالله، إذاً نتأول هذه الصفة وننفيها عن الله سبحانه وتعالى! وهو لو عظم الله حق تعظيمه ونزهه من التشبيه لأثبت الصفة منذ البداية دون أن يكيفها أو يشبهها بصفات المخلوقين، ولكان منذ البداية مثبتاً لها. فنقول فيما يتعلق بصفة النزول: إن الوهم والخواطر التي تخطر في البال إنما نشأت من قياس الله بخلقه أو تشبيه الله بخلقه، فيظن الظان أن نزول الله سبحانه وتعالى كما هو في حق كوكب من الكواكب، فإنه إذا كان بعيداً ثم نزل ستصبح السماء فوقه، ويكون في جو الأرض ونحو ذلك، فنقول: هذا خطأ ناشئ من أن الإنسان ما عظم ربه حق تعظيمه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه، كما يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] . إذاً: إذا كانت السماوات مطويات بيمينه وإذا كانت الأرض قبضته يوم القيامة، وإذا كانت السماوات السبع والأرضين السبع في يد الرحمن كخردلة في يد أحدكم، فكيف يأتي الإنسان ويفهم أن الله عز وجل إذا نزل فمعنى ذلك أن السماوات ستصبح فوقه أو يصبح العرش فوقه؟! إن نزول الله تبارك وتعالى هو نزول يليق بجلاله وعظمته، ولا يشبه نزول المخلوقين، ولا يلزم منه أن يكون العرش فوقه أو السماوات فوقه ما عدا سماء الدنيا؛ تعالى الله عن ذلك، بل الله سبحانه وتعالى ينزل كما يليق بجلاله وعظمته، ولا نعلم كيفية نزوله، ولهذا لو قيل: كيف ينزل؟ فنقول: كيف هو؟ فسيقول: أنا لا أعرف ذاته؛ فنقول: كذلك أيضاً نحن لا نكيف صفاته سبحانه وتعالى. إذاً: فأي ظن من الباطل يظنه الظان فيما يتعلق بنزوله سبحانه وتعالى هو غير لازم، هذه قضية.

الرد على شبهة انتقال ثلث الليل الآخر من بلد إلى بلد باستمرار

الرد على شبهة انتقال ثلث الليل الآخر من بلد إلى بلد باستمرار القضية الثانية: اختلاف الليل والنهار، نحن نقطع يقيناً -ونحن في هذا البلد مثلاً- أنه حين يأتي ثلث الليل فإن الله ينزل، ونزوله يدل على قربنا، كما أن نزوله سبحانه وتعالى عشية عرفة يدل على قربه تبارك وتعالى من أهل عرفة، وهذا القرب هو كما يليق بجلاله وعظمته، لكن نثبته لله سبحانه وتعالى حقيقة ولا نتأوله، فنحن نقطع بنزوله في ثلث هذا الليل، وكذلك أيضاً في البلد الآخر الذي سيكون بعد ساعة وساعتين لديهم ثلث أيضاً ينزل كما يليق بجلاله وعظمته؛ والله سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه؛ لأنك أصلاً لو تأملت في القضية الزمنية بالنسبة لليل والنهار لوجدتها محددة ومتعلقة بالشمس والأرض، وما يتعلق بمجراتها، لكن ما فوق ذلك الله أعلم به، ومن ثمَّ كون الإنسان يفهم هذا الفهم القاصر، والسماوات والكون كله بالنسبة لله سبحانه وتعالى لا يساوي شيئاً ثم يأتي ليقيس، نقول: هذا فهم خاطئ بالنسبة لك؛ لأنه قاصر غير معظم لله تبارك وتعالى. وأضرب لذلك مثالاً في هذه القضية؛ ليتبين أن الله سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه: نحن جميعاً نعلم أن الإنسان منا متصف بصفة السمع، والله سبحانه وتعالى متصف بصفة السمع كما يليق بجلاله وعظمته، لكن تعالوا إلى صفتنا نحن؛ ماذا نستطيع أن نسمع حينما تتعدد الأصوات؟! وكم نستطيع أن نسمع؟! والواحد منا لو تكلم واحد أمامه لسمعه، وإذا تكلم اثنان في وقت واحد بكلامين مختلفين فإنه يسمعهما ولكن لا يستطيع أن يميزهما، وقد يستطيع لكن بصعوبة، لكن افترض أن أمامه عشرة أشخاص كل منهم يتكلم بكلام في قضية مختلفة عن الآخر وفي وقت واحد، فإن هذا الإنسان لا يستطيع أن يميز هذا الكلام، وإذا كان سمعه جيداً قد يميز واحداً منهم؛ لرفعة صوته أو لقربه منه فقط، لكن البقية لا يمكن أن يميز كلامهم، وافترض أن أمامه ألف شخص كلهم يتكلمون بكلام واحد، ويخاطبونه بموضوعات مختلفة؛ فإن هذا عاشر المستحيلات أن يستطيع الإنسان بحسب ما أقدره الله عليه أن يميز كلامهم، لكن هل هذا يعجز الله سبحانه وتعالى؟ A لا؛ وليس ألف شخص فقط، وإنما يجتمع في يوم عرفة في عرفات أكثر من مليون شخص، وفي غير عرفات أيضاً يجلس من غير الحجاج مئات الملايين من الناس، وكلهم صائمون، وبالنسبة للحجاج كلهم واقفون بعرفات، وكلهم قد رفعوا أكف الضراعة يدعون ربهم تبارك وتعالى بمختلف بأنواع الدعاء، وعلى اختلاف اللغات، ومع ذلك هل يغيب عنه شيء؟ وهل يغيب عن سمعه شيء؟! الجواب: لا يغيب عن سمعه شيء. إذاً: لو جاء إنسان يريد أن يدخل عقله في القضية ويقول: كيف يسمع ربنا تبارك وتعالى؟! وكيف يمكن أن يسمع هذه الأشياء كلها بمختلف اللغات من ملايين الأشخاص؟! فنقول: نعم يستطيع، ولا يعجزه شيء. وهنا موطن العجز بالنسبة للمخلوق؛ فالله سبحانه وتعالى متصف بصفة السمع، وصفة السمع تليق به، ولا تشبه صفات المخلوقين. وكذلك أيضاً لو جاء قائل يقول: كيف ينزل والوقت في الكرة الأرضية مستمر؟ فنقول: نعم، وليس نزول الله سبحانه وتعالى كنزول المخلوقين، ولا يلزم منه هذا اللازم، ولهذا ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله سبحانه وتعالى يحاسب العباد يوم القيامة) ، أي: يحاسب جميع العباد! ولا يعلم عددهم إلا الله، ومع هذا يحاسبهم في ساعة، ويحاضر كل واحد منهم وحده محاضرة خاصة، ويقرره تبارك وتعالى بذنوبه، فكيف يتم هذا؟! بالنسبة لنا نحن البشر لا نستطيع أن نتصور هذا، لكن نؤمن به، ونصدق به؛ لأنه من صفات العليم الخبير سبحانه وتعالى. إذاً: كل ما يخطر في البال من هذه الأمور لا يمكن أن يكون في الله عز وجل، فأهل السنة والجماعة يثبتون أن الله ينزل، ونزوله حقيقي يليق بجلاله وعظمته، ويعلمون ويوقنون وهم في ثلث الليل الآخر أن الله قريب منهم، ومن ثمَّ تتحرك قلوبهم، وتدمع أعينهم، ويحس الواحد منهم في هذا الوقت بقرب عظيم من ربه سبحانه وتعالى؛ لأنه يوقن بأن الله تبارك وتعالى قد قرب منه، وأنه نزل تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته لا يشبه نزول المخلوقين. ونقف عند هذا ونكمل إن شاء الله تعالى في الدرس القادم.

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين حديث: (يقبض الله السماوات بيمينه والأرضين بشماله) وحديث: (وكلتا يديه يمين)

الجمع بين حديث: (يقبض الله السماوات بيمينه والأرضين بشماله) وحديث: (وكلتا يديه يمين) Q كيف نجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله السماوات بيمينه، والأرضين بشماله) ، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (وكلتا يديه يمين) ؟ A اختلف العلماء في الجواب على هذا السؤال؛ فبعض العلماء ضعف رواية: (بشماله) ، الواردة في صحيح مسلم، وقال: إن هذه اللفظة شاذة، وقال: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وكلتا يديه يمين) يدل على أن الله سبحانه وتعالى ليس له شمال، ومن ثمَّ خرجوا من هذا بأن هذه اللفظة ضعيفة. الجواب الثاني وهو الذي أرجحه: أنه لا تعارض بين الحديثين، وما دام وردت اللفظة في صحيح مسلم ولا علة في إسنادها؛ فإننا نثبت لله سبحانه وتعالى هذه الصفة، ونقول: لله يدان، ونقول كما ورد في الحديث: يقبض الله السماوات بيمينه والأرضين بشماله، ونثبتها ونقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وكلتا يديه يمين) ، هو لبيان أن كون المخلوق له يمين وشمال، واليمين أفضل وأعلى من الشمال، وهذا لا يلزم بالنسبة لله سبحانه وتعالى، بل لله يدان يمين وشمال، وكلتا يديه يمين، فلا يلزم النقص كما في المخلوق.

صفات الله عز وجل لا تشبه صفات المخلوقين

صفات الله عز وجل لا تشبه صفات المخلوقين Q ما رأيكم فيمن قال: إن لله يداً لا نستطيع وصفها، كيد الباب التي نراها ولا نستطيع وصفها؟ A أهل السنة والجماعة يثبتون لله صفة اليد، ومعنى اليد معروف في اللغة العربية، لكن يثبتونها لله كما يليق بجلاله وعظمته، ولا تشبه صفات المخلوقين؛ فالمهم هو أن نثبتها لله، ونحن نفهم معنى اليد في اللغة العربية، فنثبت المعنى، ولكن نقول: إن هذه الصفة لا نعلم كيفيتها، ولا تشبه يد المخلوق، ولا يد الباب، ولا غيره، بل هي صفة تليق بجلاله وعظمته.

كيفية إثبات أسماء الله عز وجل

كيفية إثبات أسماء الله عز وجل Q هل الأسماء التالية من أسماء الله: المقصود، الدائم، الراضي، فكثيراً ما نسمع باسم عبد المقصود، وعبد الدائم، وعبد الراضي، ونحن نعلم أن العبودية لله سبحانه وتعالى؟ A بالنسبة لبعض الأسماء المنتشرة التي تعبد فيها الأسماء لله سبحانه وتعالى، الأولى بمن يسمي أن يحرص على التسمية بالاسم الوارد الثابت في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأسماء الله سبحانه وتعالى من خلال الاستقصاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة، وإن كانت أسماء الله غير منحصرة بهذه، لكن بعض الأسماء أحياناً تكون مشتقة من صفة؛ لأنه لم يرد عن الله سبحانه وتعالى أن من أسمائه الراضي، لكن اشتقوه من قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المائدة:119] ، فهذه الآية اشتق منها اسم الراضي، ثم سمي هذا الشخص بعبد الراضي، وهذا خطأ؛ لأنه لا يشتق لله اسم من الصفة، أما الاسم فإنه يدل على الصفة؛ فيشتق لله من الاسم صفة؛ لأن الاسم علم على الله سبحانه وتعالى فهو ذو دلالة أكثر من دلالة الصفات، ومن هنا فاسم (عبد الراضي) غير وارد؛ لأن الراضي ليس من أسماء الله، ومثله المقصود ومثله أيضاً الدائم، كل هذه أسماء لم تثبت على حد علمي في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وأما أخذها من خلال الاشتقاق بأن يشتق لله من الصفة اسم فنقول: هذا العمل غير صحيح. ونكتفي بهذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله) Q قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ سعد: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله) الحديث؛ فإذا المقصود من قوله: (تبتغي بها وجه الله) هو إخلاص العمل لله، فكيف يمكن إثبات صفه الوجه من هذا الحديث؟ A معنى قوله: (تبتغي بها وجه الله) أي: تريد منها وجه الله عز وجل، هذا معنى الحديث الذي لا شك فيه؛ لكن أيضاً هو دال على إثبات صفة الوجه لله سبحانه وتعالى؛ لأنه قال: (تبتغي وجه الله) ، وفي الآية الأخرى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:19-20] ، والمعنى واضح، والحمد لله.

منهج الماتريدية في العقيدة

منهج الماتريدية في العقيدة Q ما هو منهج الماتريدية في العقيدة؟ A ظهر الآن رسالتان في السوق كلاهما جامعتان، وأصلتا عقيدة الماتريدية ومنهجهم؛ وبالنسبة للماتريدية هم قريبون جداً من منهج الأشعرية، وليس بينهم وبين الأشعرية إلا بعض الفروقات المتعلقة ببعض مسائل الإيمان ومسائل القدر، وأيضاً في بعض الصفات لله سبحانه وتعالى، أما الكلام على تفصيل ذلك فيطول.

معنى قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأييد)

معنى قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأييد) Q في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] ، سمعنا أن المراد بالأيدي ليس صفة اليد فما توجيهكم؟ A ورد عن بعضهم أنه قال: (بأييد) أي بقوة، وهذا التفسير صحيح، لكن الآية دالة على صفة اليدين لله سبحانه وتعالى.

أحسن الشروح لكتاب التوحيد من صحيح البخاري

أحسن الشروح لكتاب التوحيد من صحيح البخاري Q بالنسبة لشرح كتاب التوحيد في صحيح البخاري، هل يقرأ طالب العلم شرحه من فتح الباري لـ ابن حجر؟ A نعم بالنسبة لطالب العلم، أما بالنسبة للمبتدئ فننصحه أن يقرأ شرح كتاب التوحيد -الذي هو آخر كتاب من صحيح البخاري - الذي كتبه الشيخ عبد الله الغنيمان، وهو شرح مطول يقع في مجلدين، وهو مفيد جداً، وقد استدرك على ابن حجر رحمه الله تعالى بعض الأشياء التي أخطأ فيها.

الكلام في مسألة: هل يخلو العرش عند نزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا

الكلام في مسألة: هل يخلو العرش عند نزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا Q هل يكون العرش عند نزول الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا خالياً؟ A هذه مسألة تكلم فيها العلماء: هل يلزم من نزوله تبارك وتعالى خلو العرش عن ذاته؟ وفيها قولان للسلف رحمهم الله تعالى: ولعل الصحيح -إن شاء الله تعالى- أنه لا يلزم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه.

تأليف الإمام البخاري في الأسماء والصفات

تأليف الإمام البخاري في الأسماء والصفات Q هل هناك كتاب مستقل للبخاري في الأسماء والصفات؟ A له كتاب في العقيدة وهو مفصول، لكن يغني عنه كتابه (خلق أفعال العباد) وهو كتاب مستقل، وأيضاً آخر كتاب صحيح البخاري؛ لأن صحيح البخاري اشتمل على عدد كبير من الكتب آخرها كتاب التوحيد، وهو كتاب عظيم جداً في ذلك. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [5]

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [5] من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون لله جل وعلا صفة العجب، والضحك، والعلو، والاستواء، وذلك كما وردت بها الأدلة بيضاء صافية تسر المتقين.

إثبات صفة العجب لله عز وجل

إثبات صفة العجب لله عز وجل بدأ المصنف رحمه الله تعالى بذكر صفات الله سبحانه وتعالى الثابتة في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: [ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا) ] . وقد سبق الحديث عنه في الدرس الماضي. ثم قال: [وقوله: (يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة) ] . ومعنى الحديث: أن الله سبحانه وتعالى يعجب من هذا الشاب أنه مع نشاطه وقوة رغباته وشهواته المتعددة لا تكون له صبوة، أي: لا يكون له ذنب، ولا يرتكب كبيرة، ولا يرتكب معصية؛ فيعجب ربنا سبحانه وتعالى من هذا، وهذه الصفة لله سبحانه وتعالى هي كما يليق بجلاله وعظمته؛ لكن هذا الحديث في حد ذاته تكلم فيه العلماء، فهو حديث رواه الإمام أحمد في المسند والطبراني وغيره، لكنه ضعيف وإن قواه بعض العلماء كـ السخاوي في كتابه (المقاصد الحسنة) ، لكن يغني عنه دليلان أحدهما في كتاب الله، والثاني في صحيح البخاري؛ فأما الذي في كتاب الله تعالى فقول الله تبارك وتعالى: (بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ) ؛ على قراءة ضم التاء، وهذه القراءة سبعية؛ قرأ بها حمزة وخلف والكسائي، ومن ثمَّ فإنها قراءة صحيحة أنه يجوز القراءة بها. وكذلك ورد في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قصة الصحابي هو وزوجه وضيفهم حين استضافوه وليس معهم من الطعام ما يكفي، فأطفئوا السراج، وأوهموه أنهم يأكلون، وجعل الضيف يأكل حتى شبع، فلما أصبح الصباح قال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الصحابي: (لقد عجب ربك- وفي رواية: ضحك ربك - من صنيعكما البارحة بضيفكما) ، فقوله: (عجب) نأخذ منه ومن الآية إثبات هذه الصفة لله سبحانه وتعالى التي هي صفة العجب. والعجب والتعجب أحياناً ينشأ من الجهل، مثل أن يطلع الإنسان على صنعة أو قوة معينة لفارس أو شخص فيعجب من ذلك، وأحياناً يكون العجب لأمر آخر، وهو كون هذا الشيء جاء على صفة غير معروفة وغير متوقعة وإن كان الإنسان لا يجهلها، ولكن بالنسبة لله سبحانه وتعالى نثبت له هذه الصفة كما يليق بجلاله وعظمته، ولا تقاس بصفة المخلوقين، وليس عجبه كعجب المخلوقين؛ فعجب المخلوقين قد ينشأ أحياناً من جهل وأحياناً من قلة فهم لهذه القضية، لكن عجب ربنا سبحانه وتعالى هو صفة تليق بجلاله وعظمته، ولا يترتب عليها جهل، ولا يترتب عليها عدم إدراك ومعرفة لهذا المتعجب منه، بل هي صفة تليق بجلاله وعظمته كما في الحديث الذي تقدم، وفيه أن صحابيين أطعما ضيفهما وتركا نفسيهما، والله سبحانه وتعالى عليم بهما مطلع عليهما، ومع ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عجب ربك من صنيعكما البارحة) ، وفي رواية: (ضحك ربك من صنيعكما البارحة) ، فعجبه سبحانه وتعالى ليس ناشئاً عن جهل، وإنما هو عجب يليق بجلاله وعظمته، وهذه الصفة نثبتها لله سبحانه وتعالى كغيرها من الصفات، ولا يلزم منها مشابهة المخلوقين.

إثبات صفة الضحك لله عز وجل

إثبات صفة الضحك لله عز وجل قال ابن قدامة رحمه الله: [وقوله: (يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة) ] . فسر هذا الحديث بأن أحدهما مسلم والآخر كافر، فيقتل الكافر المسلم، ثم إن الكافر يتوب إلى الله تعالى، ويدخل في الإيمان والإسلام، ويحسن عمله فيدخلان الجنة؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة) . وصفة الضحك نثبتها لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته، وليس ضحكه كضحك المخلوقين، فلا نشبه ولا نتأول ولا نكيف، وإنما نثبت له هذه الصفة؛ لأن الذي أخبرنا بها وأثبتها لله هو أعلم الناس بربنا سبحانه وتعالى، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه الصفة يقال فيها مثلما يقال في صفة السمع أو في صفة القدرة أو في صفة العلم أو غير ذلك: نثبتها لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته.

وجوب الإيمان بما صح من الأسماء والصفات من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل

وجوب الإيمان بما صح من الأسماء والصفات من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [فهذا وما أشبهه مما صح سنده وعدلت رواته] . وهذا أيضاً مهم جداً؛ فإن قوله: (مما صح سنده وعدلت رواته) يعني أننا لا نثبت هذه الصفات من هذه الأحاديث إلا إذا كانت هذه الأحاديث ثابتة بطرق صحيحة رواتها عدول ثقات، ليس فيها انقطاع، وليس فيها شذوذ ولا علل؛ وإنما هي رواية صحيحة ثابتة. ثم قال: [نؤمن به، ولا نجحده، ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره] . أي: لا نرده كما رده بعض الذين يردون أخبار الآحاد ويقولون: لا نقبلها في باب العقيدة، وكذلك أيضاً لا نجحده لأنه ثبت بطرق صحيحة. وكذلك أيضاً قال: (لا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره) ، فهو رد على من يرد السنة، كما أنه رد على من يقبل السنة لكنه يتأول؛ لأن بعض أهل الكلام وبعض المؤولة يقبل السند، ويقول: لا نرد هذا الحديث بل نثبته؛ لأنه وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه يتأول هذا الحديث إذا ورد في صفة من صفات الله سبحانه وتعالى؛ فهو لا يرده رداً مجملاً أو رداً كاملاً، وإنما يرده رداً معيناً، بمعنى: أنه يتأوله ذلك التأويل الذي يؤدي إلى نقض ما دل عليه من معنى وما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أخبرنا بهذا الحديث وأمثاله. ثم قال بعد أن رد على أهل التأويل: [ولا نشبهه بصفات المخلوقين] . وهذا هو منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى؛ فإنهم يثبتون الصفة ولا يشبهون الله سبحانه وتعالى بصفات المخلوقين، فلا يقولون: إن صفة الله تعالى كصفة كذا أو كذا من المخلوقات. ثم قال: [ولا بسمات المحدثين] . أي: علامات المحدثين؛ والمحدثون هم المخلوقون، سواء كانوا بشراً أو ملائكة أو نجوماً أو حجارة أو غير ذلك، فأهل السنة والجماعة لا يشبهون الله سبحانه تعالى بشيء من ذلك. ثم قال: [ونعلم أن الله سبحانه وتعالى لا شبيه له ولا نظير] . فلا شبيه له سبحانه وتعالى، ولا نظير له، ولا مثيل ولا مثل، ولهذا استشهد بقوله سبحانه وتعالى: [ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]] . فنفى عن الله المثل، وأثبت لله الصفات مستشهداً باسميه تبارك وتعالى: السميع البصير، وهما دالان على صفة السمع وصفة البصر لله سبحانه وتعالى، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى، وقد سبق بيان ذلك. ثم إن المصنف رحمه الله تعالى قال: [وكل ما تخيل في الذهن أو خطر بالبال فإن الله تعالى بخلافه] . وهذا لنفي التكييف، أي: أن البشر لا يستطيعون أن يكيفوا ذاته ولا صفاته، ولهذا فكل ما توهمه الإنسان في صفة من صفات الله سبحانه وتعالى فإن الله تبارك وتعالى بخلاف ذلك؛ لأن الله تعالى لا يعلم ذاته إلا هو، ولا يعلم صفاته إلا هو سبحانه وتعالى؛ فأهل السنة والجماعة لا يكيفونها، ومهما بلغت خيالات الإنسان ليثبت لله سبحانه وتعالى قريباً من صفة من صفاته فإن الإنسان لا يستطيع ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعظم وأجل مما خطر بالبال، بل هو تبارك وتعالى على خلاف ما خطر ببالك؛ وهذا منهج أهل السنة والجماعة.

الكلام على صفة الاستواء

الكلام على صفة الاستواء

إثبات صفة الاستواء لله عز وجل

إثبات صفة الاستواء لله عز وجل ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]] . الضمير في قوله: (ومن ذلك) عائد إلى ما سبق قبل قليل، وخاصة إلى قوله: (وكل ما تخيل في الذهن أو خطر بالبال فإن الله تعالى بخلافه) ؛ لأن صفة الاستواء لله سبحانه وتعالى التي دل عليها قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وآيات أخرى قد يخطر ببال الإنسان أن استواء الله على العرش كاستواء المخلوق؛ أو أن الله محتاج إلى العرش كاحتياج الخلق أو كاحتياج الملك أو نحو ذلك. فقال هنا: (ومن ذلك) أي: ومن ذلك الذي نثبته لله ولا يكون شبيهاً بصفات المخلوقين، صفة الاستواء التي دل عليها قوله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] . وصفة الاستواء لله سبحانه وتعالى وردت في سبعة مواضع من القرآن الكريم: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) في سورة (الأعراف) وفي سورة (طه) وفي سورة (الحديد) وفي غيرها من المواضع التي ذكر الله سبحانه وتعالى فيها استواءه على العرش، وأهل السنة والجماعة يثبتون لله تبارك وتعالى صفة الاستواء كما يليق بجلاله وعظمته، وهي دالة على علوه تبارك وتعالى، ولهذا فسر السلف رحمهم الله تعالى الاستواء بقولهم: إن معنى استوى: علا وارتفع واستقر وصعد، وهذه الصفة التي هي صفة الاستواء دالة على هذه المعاني؛ فإن الله تبارك وتعالى عالٍ على خلقه، فهي دالة على صفة العلو لله سبحانه وتعالى كما سيأتي بعد قليل. كذلك أيضاً صفة الاستواء دالة على أن الله سبحانه وتعالى متصف بالصفات الفعلية، أي أنه سبحانه وتعالى مستوٍ على العرش كما يليق بجلاله وعظمته، وأن استواءه تبارك وتعالى من صفات فعله، ولهذا فإن استواءه كان بعد خلق السماوات وبعد خلق العرش، ولهذا عبر عنها بقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] ، وكلمة (ثم) تدل على التأخير؛ فإن الله سبحانه وتعالى ليس مستوياً على العرش في الأزل؛ وإنما استوى على العرش بعد خلق العرش، وبعد خلق السماوات والأرض، ولهذا قال: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان:59] ، وهذا الإثبات لهذه الصفة هو إثبات من غير تكييف، ومن غير تمثيل، ومن غير تحريف ومن غير تعطيل، وإنما هو إثبات لصفة الاستواء كما يليق بجلال الله وعظمته.

الرد على المنكرين والمأولين لصفة الاستواء

الرد على المنكرين والمأولين لصفة الاستواء والمخالفون لأهل السنة والجماعة حرفوا وأولوا فقالوا: صفة الاستواء يلزم منها مشابهة الله للمخلوقين، فيلزم منها أن يكون الله سبحانه وتعالى شبيهاً بالمخلوق إذا جلس على كرسي أو نحو ذلك! وأما قول الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، فقالوا: (استوى) بمعنى استولى! ولكن هل ورد في اللغة العربية استوى بمعنى: استولى؟ A ورد في اللغة العربية استوى بمعنى: صعد، واستوى بمعنى: اشتد، كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:14] ، أي: اكتمل شبابه، لكن ليس في اللغة العربية استوى بمعنى: استولى. فلما ضاقت بالمتكلمين المضايق سمعوا -ويقول بعض العلماء: إنهم اخترعوا- بيتاً من الشعر، وهو: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق وقالوا: إن بشراً هذا ملك العراق، فمعنى قوله: (قد استوى بشر على العراق) أنه ملك العراق، فيأتي الاستواء بمعنى الملك. وهذا التأويل الذي تأولوه تأويل عجيب! فإذا كان لفظ الاستواء استواء الله على العرش ورد في القرآن العظيم في سبعة مواضع، فلماذا لم يأت موضع واحد يبين فيه المراد، فيأتي استوى بمعنى استولى؟ ثم نقول ثانية: إن تأويلكم استوى بمعنى استولى هو تأويل بعيد ومخالف لما تقتضيه اللغة العربية؛ لأنه لم يرد في اللغة العربية هذا بهذا اللفظ. أما بيت الشعر الذي استشهدتم به فمن قاله؟! وأين يوجد؟! وإلى أي عربي ينسب؟! لو فتشت عن هذا لقالوا: قيل، ويقال، ونقل هذا البيت أول واحد، وتناقله من بعده! ونقول: حتى ولو قاله أحد العرب أو أحد الشعراء فإنه لا حجة بقول شاعر في مقابل أدلة كثيرة من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم نقول ثالثة: إن قولكم: استوى بمعنى استولى، لا يصح من سياق الآية؛ لأنه لا يقال: استولى إلا إذا كان هناك مغالب لهذا الإنسان، فقوله: (استوى بشر على العراق) ، يعني: استولى على العراق، ومعنى هذا أنه كان قبله حاكم آخر، فغلبه واستوى على العراق واستولى عليه. وقولكم: إن قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] ، يعني: استولى على العرش، فهل العرش كان قبل ذلك مملوكاً لغير الله ثم إن الله ملكه؟! وهل يمكن أن يقول هذا أحد؟! طبعاً لا يمكن أن يقول هذا أحد، فقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] لو قيل: إن المعنى: ثم استولى، لأدى ذلك إلى أن يكون هناك مغالب لله سبحانه وتعالى فغلبه الله تبارك وتعالى وتقدس واستولى على هذا العرش؛ وسواء قيل: العرش مخلوق معين، أو قيل: العرش هو الملك، كما يدعي هؤلاء. وهذه الأمور وغيرها قد فصلها العلماء، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية كما في (مجموع الفتاوى) ؛ حيث نقض هذا التأويل من أكثر من عشرة أوجه، وبهذه الأوجه وغيرها يتبين أن تأويل هؤلاء استوى بمعنى استولى، إنما هو تأويل باطل وزيادة زادوها، ولهذا شبهها بعض العلماء بزيادة بني إسرائيل من اليهود حين قال الله لهم: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] ، أي: راكعين، وأن يقولوا: حطة، أي: حط عنا خطايانا، فعكس هؤلاء اليهود الأمر الإلهي، فدخلوا على أستاههم من خلفهم وهم يقولون: حنطة في شعير! فاليهود زادوا النون في حطة، والمتكلمون زادوا اللام في استوى، فقالوا: استولى، وهذا يدل على أن المنبعين متقاربان، نسأل الله السلامة والعافية! وكل هذا الذي قالوه تحريف للكتاب وتأويل له، وبعد عما كان عليه السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

معنى العرش

معنى العرش والعرش المذكور في الآية هو في اللغة العربية سرير الملك، وفي الاصطلاح هو: عرش الله تبارك وتعالى، وهو مخلوق عظيم جداً خلقه الله تبارك وتعالى، وهو أعلى المخلوقات، وهو سقفها، وتحمله الملائكة، كما قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر:7] ، وكما قال تعالى عن يوم القيامة: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] . فهو أعظم من السماوات وما فيها من مجرات، وهو أعلى المخلوقات وهو سقفها، والله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه استوى على هذا العرش استواء يليق بجلاله وعظمته لا يلزم منه أي لازم باطل، فلا يلزم أن الله محتاج إلى هذا العرش ولا أنه إذا أبعد هذا العرش يسقط من عليه، تعالى الله عما يتوهمه المتوهمون علواً كبيراً بل هو استواء يليق بجلاله وعظمته.

الكلام على صفة العلو

الكلام على صفة العلو

إثبات صفة العلو لله عز وجل وذكر الأدلة على ذلك

إثبات صفة العلو لله عز وجل وذكر الأدلة على ذلك ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]] . من هذه الآية وما بعدها من الأدلة بدأ الشيخ يتحدث عن قضية كبرى، ألا وهي قضية إثبات العلو لله سبحانه وتعالى. وهذه القضية هي من القضايا الكبار في العقيدة الإسلامية، ومن القضايا الكبار التي خاض فيها المتكلمون قديماً وحديثاً، وإن الإنسان ليصيبه الحزن حينما يرى كثيراً من المنتسبين للعلم ممن لم يدرس ويتفهم عقيدة السلف الصالح لا يقر بهذه الحقيقة الكبرى، فلقد خاض المتكلمون منذ القرن الأول وإلى عصرنا الحاضر في إثبات أن الله سبحانه وتعالى في جهة العلو في السماء، وأنه فوق المخلوقات، ولقد دل على ذلك في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من ألف دليل، وهذا يدل على أهمية مدارسة منهج السلف الصالح وتربية الأمة وتنشئتهم عليه، ولكن عمي عن هذه الحقيقة ألوف مؤلفة ممن ينتسب إلى الإسلام؛ فقد نشأ منذ القرون الأولى وإلى عصرنا الحاضر فئام ممن نهج منهج المتكلمين أو تأثر بهم، وإذا سألت أحدهم: هل تؤمن أن الله في السماء؟ أو سألته بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في صحيح مسلم حين سأل الجارية وقال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء) ، أو إذا سألته: هل تقر بأن الله سبحانه وتعالى في العلو فوق خلقه بائن منهم؟ فإنه يقول لك: لا يجوز أن تقول هذا؛ إنك إن قلت هذا فأنت تشبه الله بخلقه، وأنت تجسم الله، وأنت تقول: إن الله متحيز، وكأنه في مكان معين! وإذا قلت له: فماذا تقول؟ يقول: اختلفوا على قولين: فبعضهم يقول: الله في كل مكان، وهذا قول لبعض المتكلمين، وبعضهم له قول آخر فلسفي عجيب يقول فيه: لا داخل العالم ولا خارجه! وأهل السنة والجماعة، وعلى رأسهم سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم، وصحابته من بعده والسائرون على منهاجهم، يقولون: إن الله تبارك وتعالى بائن من خلقه في السماء فوق العالم على العرش استوى استواءً يليق بجلاله وعظمته. إن هذه القضية الكبرى تكاد تكون من المعلوم بالدين بالضرورة؛ لأن من قرأ كتاب الله من أوله إلى آخره ومن اطلع على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أنه لا تكاد تخلو صفحة من القرآن العظيم إلا وفيها الدلالة على أن الله سبحانه وتعالى في السماء، وأنه في العلو. وهذه القضية قضية كبرى، وقضية مهمة جداً؛ يميز فيها بين من ينهج منهج السلف الصالح وبين من ينهج نهج من خالفهم من المتكلمين؛ والأدلة صريحة في ذلك، ونحن هنا سنعرض لما ذكره المصنف من أدلة، أما استقصاء الأدلة فارجعوا إليها في الكتب التي ألفت في هذا الموضوع، وبالذات الكتب التي خصصت لهذه القضية، ومنها كتاب (العلو) لشيخنا الذي نشرح كتابه ابن قدامة؛ فإن له كتاباً مطبوعاً اسمه (العلو) ومنها ما ألفه شيخ الإسلام الإمام الذهبي رحمه الله تعالى؛ فإن له كتاباً اسمه (العلو) ، وقد اختصره الشيخ الإمام المحدث ناصر الدين الألباني في كتاب عظيم سماه (مختصر العلو) وخرج أحاديثه، فجزاه الله خيراً، وأثابه، وهناك غيرها من الكتب، ولا يكاد يخلو كتاب من كتب السنة ومن كتب العقيدة إلا وفيه تقرير للأدلة الدالة على أن الله سبحانه وتعالى في العلو.

دليل الفطرة على العلو

دليل الفطرة على العلو ولم يقتصر الدليل على ذلك؛ بل دل على ذلك الفطرة؛ فإن الله فطر عباده جميعاً -حتى ذلك الذي يقول: إن الله في كل مكان- على أن الله سبحانه وتعالى في العلو. ولهذا كان من مواقف السلف رحمه الله تعالى العملية شيء من هذا، فأحد أئمة السلف دخل على أحد الأشاعرة وهو يلقي درسه على المنبر، ويقرر فيه عقيدته الأشعرية؛ وكان مما قرره: إنكار أن الله في العلو، فكان هذا الشيخ يتكلم ويلقي درسه أمام الناس، ويقول: إن الله كان ولا عرش ولا سماوات، وهو الآن على ما كان عليه! ويقرر نفي العلو عن الله سبحانه وتعالى؛ فقال له هذا الشيخ -وهو الهمذاني - أمام الناس: يا إمام! دعنا من أقوالك، ودعنا من هذه الأدلة، وأخبرنا عن هذه الحاجة التي يجدها كل واحد منا: ما أراد ربه قط إلا ورفع بصره إلى السماء؟ قال: فنزل الإمام الجويني من المنبر وهو يقول: حيرني الهمذاني حيرني الهمذاني حيرني الهمذاني، وجلس بين أصحابه يبكي بكاءً شديداً، ومعلوم أنه في آخر أمره رجع، وأبطل تأويل الاستواء بالاستيلاء، وبين أنه يجب إثبات هذه الصفات على تفصيل في مذهبه رحمه الله تعالى. لكن المهم جداً هو: كيف أن الفطرة التي فطر الله سبحانه وتعالى العباد عليها دالة يقيناً على أن الله تبارك وتعالى في العلو. ولهذا يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية موقفاً آخر يقول: جاءني أحد مشايخ هؤلاء ممن ينفي علو الله سبحانه وتعالى في حاجة -وغالب من حاوره شيخ الإسلام في وقته من الأشعرية- وتعمدت أن أنشغل عنه قليلاً، يقول: فكلمني في هذه الحاجة فتشاغلت عنه، يقول: فلما انتظر قليلاً وسئم إذا بي ألمحه وهو يرفع بصره إلى السماء ويذكر ربه ويقول: يا ألله! يقول: فنظرت إليه وقلت له: ماذا صنعت؟ يقول: فاعتذر مني! وكان سبباً في توبته ورجوعه عما كان عليه؛ لأنه كان يقرر أن الله ليس في مكان؛ لا داخل العالم ولا خارجه إلى آخره، لكن في لحظة غفلة منه وجد نفسه فطرياً يرفع بصره إلى السماء متوسلاً مستغيثاً بالله سبحانه وتعالى، فدليل الفطرة دل على هذا. وكذلك أيضاً دليل العقل دل على العلو، وسأبين لكم دليل العقل، لكن بعد أن نقف وقفات مع الأدلة التي أوردها الشيخ هنا، فأول دليل ذكره هو قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وهو من أدلة علو الله تعالى واستوائه على عرشه. الدليل الثاني قال: (وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] ) ، وقوله: (في السماء) لا يقول عاقل: إن (في) هنا ظرفية، وأن الله داخل في السماء؛ لأن القول بأن الله داخل في السماء يلزم منه أن السماء فوقه، وأنها أكبر منه، وأنها محيطة به، وهذا لا يقول به إنسان. إذاً: قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] ، السماء هنا قد يقصد بها العلو، وليس مجرد السماء التي نشاهدها وهي السماء الدنيا أو ما فوقها، فقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: أأمنتم من في العلو؟ والقول بأن السماء هي مطلق العلو مستخدم كثيراً، فتقول: طار الطائر في السماء، وحلقت الطائرة في السماء، وأنت إذا قلت ذلك هل تقصد أنها دخلت داخل السماء أم تقصد أنها في العلو؟ تقصد أنها ارتفعت في العلو، وهذا واضح. ويجوز أن نقول: (في) بمعنى (على) ، فقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: من على السماء، وهل تكون (في) في اللغة العربية واردة بمعنى (على) ؟ نقول: نعم، يقول الله تعالى عن فرعون لما أراد أن يصلب السحرة المؤمنين: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] ؛ وهو لن يضعهم داخل جذوع النخل، وإنما سيركز هذه النخل ويصلبهم عليها؛ وهذا واضح والحمد لله. ثم يقول المصنف: [وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك) ] . هذا الحديث رواه أبو داود والإمام أحمد وغيرهما، لكنه متكلم فيه؛ فبعض العلماء قالوا: إن فيه راوياً يقال له: زياد الأنصاري، قالوا: وهذا الراوي متكلم فيه؛ ومن ثم فنحن حينما نتحدث عن مثل هذا الحديث نقول: هذا الحديث ضعيف، وليس هو الدليل لوحده؛ حتى لا يأتي قائل ويقول: إنكم تحتجون بالأحاديث الضعيفة.

شبهة أن أهل السنة يستدلون بالأحاديث الضعيفة في العقائد

شبهة أن أهل السنة يستدلون بالأحاديث الضعيفة في العقائد وهنا وقفة لابد من بيانها، ألا وهي: أن مثل هذا الموقف الذي مر معنا الآن -وهو أن ابن قدامة استشهد بحديث تكلم عنه العلماء، وقالوا ضعيف -قد يدخل منه بعض المخالفين لأهل السنة ويقول: إن كثيراً من أصحاب كتب السنة التي تروى بالأسانيد يذكرون فيها أحاديث صحيحة، ويذكرون أحياناً أحاديث ضعيفة، فكيف تذكر هذه الأحاديث في باب العقائد؟ وكيف يتساهل في هذا؟ والجواب عن ذلك من وجوه: الوجه الأول: أن هؤلاء العلماء لم يثبتوا هذه الصفة أو تلك من حديث ضعيف، وإنما يثبتونها من الأحاديث الصحيحة أولاً، فما أوردوه من حديث ضعيف إن تقوى فبها ونعمت، وإن لم يتقو فإن الصفة المقصودة ثابتة؛ لأن الدليل الصحيح دل عليها، وهنا ليس إثبات العلو لله سبحانه وتعالى مأخوذاً من هذا الحديث الذي معنا، بل هو ثابت بأحاديث أخرى كثيرة وعديدة جداً؛ بل وهو ثابت بالأدلة من القرآن قبل ذلك. الوجه الثاني: أن العلماء وإن أوردوا تلك الأحاديث وهي ضعيفة فإنهم يوردونها بالأسانيد، وإيرادها بالأسانيد يجعل العهدة على القارئ والمطلع، فلو جاء وقال بعد إيراده: هذا حديث صحيح وأثبته، فنقول له: كيف تصححه وهو ضعيف؟ لكن إذا أورده بالإسناد فحينئذٍ من أسند فقد أعذر، فإذا كنت لا تستطيع الحكم على السند فاسأل عنه العلماء: هل هذا الحديث إسناده صحيح أو غير صحيح؟ وابحث عن ذلك؛ لكن ما دام المؤلف أورده وسكت عنه فقد جعل العهدة على القارئ وعلى المطلع، ولهذا تجد أن بعض العلماء -كـ البخاري ومسلم - قال: أنا لا أورد في هذا الكتاب إلا ما هو صحيح. وفعلاً ما أوردا إلا ما هو صحيح، لكن غيرهما كـ أبي داود أو الترمذي أو ابن ماجة أو الإمام أحمد لم يقل أحد منهم: أنا لا أورد إلا ما هو صحيح. وإنما يورد أحدهم الأحاديث، وأحياناً يتكلم عليها، ويعلق عليها، وأحياناً يسكت عنها، والعهدة على من يقرأ ذلك. وكذلك أيضاً كتب السنة، كالسنة لـ ابن أبي عاصم أو السنة للالكائي أو غيرهما، فهذه الكتب وإن وردت فيها روايات ضعيفة إلا أنهم أوردوها بالأسانيد، فالعهدة على القارئ. الوجه الثالث: أن إيرادها وإن كانت من طرق ضعيفة فيه فائدة كبرى، هذه الفائدة هي: أن هذه الرواية قد تتقوى بغيرها، وقد تقوي غيرها، فأحياناً تكون هذه الرواية ضعيفة، لكن في كتاب آخر من كتب السنة أو من كتب الحديث تجد نفس هذا الحديث ورد من طريق آخر، فإذا جمعنا ذلك الطريق إلى هذا الطريق تبين منه أنه حديث ثابت؛ وقد يكون هذا الحديث روي من طريق فيه رجل ضعيف، ويتبين في الرواية الأخرى أنه جاء من طريق آخر عن غير هذا الراوي الضعيف، فيتقوى، وكثير من الأحاديث إذا جُمعت طرقها وتصفحها العالم النحرير في مصطلح الحديث يتبين له أنها ترتفع وتتقوى، وتصل إلى درجة الحسن أو تصل إلى درجة الصحيح. وقوله: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك) ، هذا الحديث كما أشرنا قبل قليل وإن كان ضعيفاً إلا أنه يوافق الأحاديث الدالة على أن الله سبحانه وتعالى في السماء. وقوله: (الذي في السماء) أي: في العلو. وقوله: (تقدس اسمك) أي: تنزه اسمك يا إلهنا!

شرح حديث الجارية

شرح حديث الجارية ثم قال ابن قدامة: [وقال للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) رواه مالك بن أنس ومسلم وغيرهما من الأئمة] . هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، ورواه الإمام مالك، ورواه غيرهما؛ وقد استقصى طرقه أحد الإخوة الفضلاء، فألف رسالة أو جزءاً حديثياً بعنوان: (أين الله) ، تكلم فيه على من رواه، والكتاب جيد ومطبوع وموجود، وقد استقصى روايات كثيرة. وهذا الحديث الصريح دل على أمرين مهمين جداً يخالفان منهج المتكلمين: أحدهما: أنه يجوز السؤال عن الله بأين، وأن هذا السؤال لا يلزم منه لازم باطل، كالتجسيم أو المكان أو غير ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق سأل بأين، وقال للجارية: (أين الله؟) . الثاني: أن الجارية أشارت بيدها أو برأسها، وقالت: (في السماء) ، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (أعتقها فإنها مؤمنة) . إذاً: هذا يدل دلالة صريحة قطعية على أن الله سبحانه وتعالى في العلو، وأنه في السماء، وأنه يسأل عنه بأين، وأنه لا يلزم من ذلك لازم باطل. والعجيب أن المتكلمين تأولوا تأويلات غريبة جداً! فبعضهم ضعف رواية: (أين) ، وقال: الرواية الصحيحة: (من الله) ، فنقول: أين وردت كلمة (من) ؟! فإن الأئمة الجهابذة يروون بالأسانيد الصحيحة: (أين) ، وهذا كأنه يرد هذه الرواية، فهو يرد الحديث خوفاً من أن يدل على شيء لا يعتقده ولا يقول به. وبعضهم أجاب بجواب أعجب من هذا! ألا وهو أنه قال: حينما قال الرسول: (أعتقها فإنها مؤمنة) ما قصد إقرارها بأن الله في السماء، وإنما أراد أن يبين هل هي تعبد الأصنام أم تعبد الله؟ فسألها: (أين الله؟ فقالت: في السماء) ، فدل على أنها لا تعبد هبل ولا العزى؛ لأنها لو كانت تعبد واحداً منهم لقالت: هبل أو العزى في مكة أو في الطائف أو غيره، فلما قالت: (في السماء) دل ذلك على أنها تعبد الله، ولا تعبد الأصنام! وهذا تأويل ضعيف جداً، اضطر إليه هؤلاء بسبب الاعتقاد الباطل الذي اعتقدوه؛ فإنهم قالوا: إن القول بأن الله في السماء يلزم منه أن الله في مكان، وأن المخلوقات تحوطه، ونحو ذلك من اللوازم الباطلة التي توهموها.

إثبات مشركي العرب لعلو الله عز وجل

إثبات مشركي العرب لعلو الله عز وجل ثم قال المصنف: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ حصين -وهو والد عمران بن حصين -: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة: ستة في الأرض وواحداً في السماء؛ قال: من لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء) ] . أي: أنه كان يعبد ستة أصنام في الأرض، وواحداً في السماء، أي: الله سبحانه وتعالى، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (من لرغبتك ورهبتك؟) ، أي: من هو الذي تعلم أنه يقدر على تحقيق الخير الذي تريده وكشف الضر الذي تخشاه وتريد زواله؟ قال: (الذي في السماء) أي: الله سبحانه وتعالى. فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [ (فاترك الستة، واعبد الذي في السماء؛ وأنا أعلمك دعوتين، فأسلم، وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي) ] . هذا الحديث حديث صحيح رواه الترمذي وغيره، ووجه الدلالة منه قوله: (وواحداً في السماء) ، وهذا يدل على أنه يقصد أن الله سبحانه وتعالى في العلو، ولهذا قال: (من لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء) . وهذا دال على أن حصيناً كان يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى في السماء حتى قبل إسلامه، ولقد كانوا في الجاهلية يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى في السماء، وهذا معروف ومشهور عند الجاهليين، فهذا الحديث دل على إثبات العلو لله سبحانه وتعالى. وفيما أسلفنا في تفسير الآية السابقة: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] ذكرنا أنه لا يقول قائل أبداً: إن معناها أن السماء تحيط به، أو أنه داخلها، وإنما معناها أنه في العلو، أو على السماء، وكلا المعنيين صحيح.

إثبات العلو لله عز وجل في الكتب القديمة

إثبات العلو لله عز وجل في الكتب القديمة ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفيما نقل من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة: أنهم يسجدون بالأرض، ويزعمون أن إلههم في السماء] . هذا الكلام مروي عن عدي بن عميرة بن فروة الكندي، وقد رواه عنه بإسناده ابن قدامة في كتابه (العلو) ، والذهبي، وقال الذهبي عن هذا الكلام: إنه غريب، أي: أنه لم يرو بإسناد صحيح يعول عليه، وإنما هو نقل من كتب الأقدمين، فقوله في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: (إنهم يسجدون بالأرض ويزعمون أن إلههم في السماء) نقول: مثل هذا اللفظ إذا كان وارداً في الكتب السابقة فمن المؤكد أن فيه تحريفاً؛ لأن قوله: (يسجدون بالأرض) هذا صحيح، والرسول صلى الله عليه وسلم قال عن الخصائص التي اختصت بها أمته: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، وهذا من خصائص هذه الأمة. لكن التحريف -والله أعلم- هو في قوله: (ويزعمون أن إلههم في السماء) ؛ لأنه لو كانت العبارة ويقولون أو ويقررون أو ويعتقدون أو نحو ذلك لقلنا: إن هذه العبارة ربما تكون صحيحة المعنى. أما إسنادها فقد تبين أنه ليس مما يعتمد، وأن الذهبي قال فيه: إنه غريب. لكن يكون المعنى صحيحاً؛ وأما قوله: (ويزعمون) فالزعم فيه نوع من الانتحال، والله عز وجل في السماء حقيقة وليس ادعاءً.

دليل آخر على العلو

دليل آخر على العلو ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ما بين السماء إلى السماء مسيرة كذا وكذا -وذكر الخبر إلى قوله- وفوق ذلك العرش، والله سبحانه فوق ذلك) ] . هذا الحديث أيضاً رواه الترمذي وحسنه، وبعض العلماء تكلم في إسناده، ورواه أيضاً أبو داود وابن ماجة وغيرهم. وهذا الحديث أيضاً دال على إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى، ففيه: (أن ما بين السماء إلى السماء مسيرة كذا) ، أي: خمسمائة عام؛ ولكن الشاهد قوله: (وفوق ذلك العرش، والله سبحانه فوق ذلك) ، وهذا نص صريح على أن العرش فوق السماوات، وأن الله سبحانه وتعالى فوق العرش، وهذا دليل على إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى. فهذه بعض الأدلة على إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى، وبقيت الإشارة إلى أن الأدلة في هذا كثيرة؛ فأحاديث النزول دالة على العلو، فقوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا) يدل على أن الله في السماء، وهكذا أحاديث العروج والصعود إليه، كما في قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] ، وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] ، أي: إلى الله سبحانه وتعالى. والنبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين وغيرهما- عرج به إلى الله سبحانه وتعالى حتى بلغ سدرة المنتهى، وكلمه ربه تبارك وتعالى من غير واسطة. وهذه الأدلة تزيد على ألف دليل، وكلها دالة على أن الله سبحانه وتعالى في العلو، ونحن نثبت ذلك ونقول: إن الله سبحانه وتعالى في علو فوق السماوات على العرش استوى، وأنه سبحانه وتعالى فوق خلقه بائن منهم، ومع ذلك لا يخفى عليه شيء من أمور خلقه. ونكتفي بهذا، ونسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والهداية، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

الحكمة في تكرار الرقم (سبعة) في كثير من الأشياء

الحكمة في تكرار الرقم (سبعة) في كثير من الأشياء Q ما هو السبب في تكرار رقم (سبعة) : فأيام الأسبوع سبعة، والأرضون سبع، والسماوات سبع، وكذلك أيضاً الجنة لها سبعة أبواب، والنار لها سبعة أبواب إلخ؟ A مثل هذا تعلق به الإسماعيلية الباطنية الذين يقولون: إن الأمور كلها تدور على سبعة، فجعلوا الإمامة تنتهي بالسابع بعد جعفر الصادق، وقالوا: إن الإمام بعده إسماعيل بن جعفر، ومن ثم يفترقون عن الجعفرية الإثني عشرية الذين يقولون: إن الإمام بعد جعفر هو موسى بن جعفر، وهؤلاء الباطنيون يقولون: إن الدورات كلها هي دورات سبع، وإن هذا الإمام السابع هو الذي تنتهي به الإمامة، لكن دليل في ذلك؛ لأن من تأمل الأعداد في القرآن الكريم وجد أعداداً غير سبعة؛ ففي القرآن الكريم عشرة، كما في قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196] ، وقوله: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142] وفيه ثلاثة، وسبعة، وتسعة عشر، وأربعون، وثلاثون، فلا دلالة في هذا، وإنما هي حكمة لله سبحانه وتعالى قد لا نعلمها.

تكليم الله عز وجل لأنبيائه عليهم السلام

تكليم الله عز وجل لأنبيائه عليهم السلام Q هل تكليم الله للنبي صلى الله عليه وسلم كان كتكليم موسى؟ A نعم، تكليم الله سبحانه وتعالى هو تكليم بدون واسطة، كتكليم الله لموسى، لكنهما افترقا في شيء واحد، وهو أن الله كلم موسى وهو في الأرض، وكلم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في السماء، ولهذا فإن بعضهم يعلل كون موسى عليه الصلاة والسلام هو الذي لقب كليم الله بذلك، وهو أن تكليم الله لموسى كان وهو على الأرض، بينما تكليم الله لآدم ومحمد صلى الله عليه وسلم إنما كان وهما في السماء، والله أعلم بحال الإنسان حينما يكون في السماء واختلافه عن حاله حينما يكون في الأرض.

الحكم على حديث: (كم إلها تعبد؟)

الحكم على حديث: (كم إلهاً تعبد؟) Q ما حال حديث حصين (كم إلهاً تعبد؟) ؟ A هذا الحديث حسنه الترمذي، وقال: حسن غريب، والذي يظهر أنه ضعيف، لكن كما أشرنا في الدرس أن مثل هذه الرواية لا يحتج بها العلماء استقلالاً، وإنما ورد إثبات علو الله سبحانه وتعالى في أدلة كثيرة جداً.

عدد حملة العرش يوم القيامة

عدد حملة العرش يوم القيامة Q ورد في القرآن الكريم عن الملائكة قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] ، هل هذا على سبيل الحصر؟ A بعض المفسرين قال: الله أعلم، لا ندري ما المقصود بـ (ثمانية) ، هل هي ثمانية ملائكة أو ثمانية صفوف أو غير ذلك؟ لكن الظاهر -والله أعلم- أن المقصود: ثمانية ملائكة يحملون العرش يوم القيامة.

معنى قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله)

معنى قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله) Q كيف نرد على من يستدل بقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] على أن الله تعالى في كل مكان؟ A نرد عليه بأن هذه الآية إنما هي في القبلة، أي: أينما تولوا في صلاتكم فإنما تستقبلون قبلة الله سبحانه وتعالى، وليس كل آية فيها إحاطة الله سبحانه وتعالى تدل على أن الله في كل مكان، وإلا فهم قد احتجوا قبل ذلك بمثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] ، فقالوا: قوله: (وفي الأرض إله) يدل على أنه أيضاً يكون في الأرض، وهذا لا حجة فيه.

الفرق بين التشبيه والتمثيل والتكييف

الفرق بين التشبيه والتمثيل والتكييف Q ما الفرق بين التشبيه والتمثيل والتكييف؟ A سبق بيان ذلك، فالتكييف هو أن يبين أو أن يقول: كيفية الصفة كذا وكذا. أما التمثيل فهو أن يمثل صفة الله بصفات خلقه، أو بالعكس. وأما التشبيه فهو أن يقول: إن صفة الله كذا شبيهة بكذا. فالتمثيل معناه المطابقة من كل وجه، والتشبيه هو التشابه من بعض الوجوه دون بعض، والتكييف أن يكيف الصفة، بمعنى: أنه يصفها بصفة لا يشبهها بكذا وكذا، وإنما يريد بها كيفية معينة من طول أو قصر أو عرض أو غير ذلك.

الهوى سبب انحراف أهل البدع في الغالب

الهوى سبب انحراف أهل البدع في الغالب Q لقد تبين من تأويلات المتكلمين وغيرهم أن منطلقهم في هذا التأويل إنما هو هوىً في النفس، أرجو أن تبينوا هذا الأمر بصورة أمثل؟ A لا شك أن أهل البدع إنما يسوقهم الهوى، لكن هذا الهوى أحياناً قد يكون مبعثه شبهة أو تقليداً أو غير ذلك، ولكن الهوى خطير جداً؛ لأنه يعمي صاحبه عن الحق، والواجب على الإنسان أن يقبل الحق ممن جاء به مهما كان.

التعريف بالأشاعرة

التعريف بالأشاعرة Q من هم الأشاعرة؟ وما هي معتقداتهم؟ A الكلام حولهم طويل، لكن الأشاعرة والماتريدية لازالوا موجودين في كثير من بلاد العالم الإسلامي، وكثير من الجامعات الرسمية في بعض البلاد الإسلامية يتبنون المذهب الأشعري، ويدرسونه على أنه هو الحقيقة، أو المذهب الماتريدي، وانتشارهم في الحقيقة انتشار كبير جداً؛ ولهذا فإن واجب السلف والمنتسبين إلى السلف أن يغيروا هذه العقيدة، ويبينوا ما فيها بياناً واضحاً. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [6]

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [6] يجب على المرء المسلم أن يؤمن بكل صفات الله عز وجل التي ثبتت في القرآن الكريم، وفي السنة الصحيحة، كما يجب عليه أن يثبتها كما أثبتها السلف الصالح رحمهم الله تعالى، ومن ذلك صفة العلو التي ثبتت بالأدلة المتواترة من الكتاب والسنة والفطرة والعقل. ومن صفات الله الثابتة له أيضاً صفة الكلام، فالله تعالى يتكلم بما شاء، متى شاء، كيف شاء، بحرف وصوت، ومن تأول ذلك أو حرفه فقد خالف منهج السلف الصالح.

شبهات في مسألة العلو والرد عليها

شبهات في مسألة العلو والرد عليها قال المصنف رحمه الله تعالى: [فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف رحمهم الله على نقله وقبوله، ولم يتعرضوا لرده ولا تأويله، ولا تشبيهه ولا تمثيله] . هذه العبارة فيها بيان ما سبق أن ذكرنا من منهج السلف رحمهم الله تعالى في هذه القضية، ونحن في الدرس الماضي تحدثنا عن قضية العلو، وذكرنا أن إثبات علو الله سبحانه وتعالى من قضايا العقيدة التي دلت عليها الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والفطرة، وأدلة العقول، بل والإجماع؛ فقد أجمع عليها سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى.

الرد على شبهة أن الله في كل مكان

الرد على شبهة أن الله في كل مكان تقدم أن المخالفين لمنهج السلف في مسألة العلو يقولون بأحد قولين حينما يسئلون عن علو الله سبحانه وتعالى، فبعضهم يقول: الله في كل مكان، وبعضهم يقول: إن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه! والحقيقة أن هذين القولين باطلان، أما من يقول: إن الله في كل مكان فنقول له: هل تثبت لله سبحانه وتعالى ذاتاً متصفة بالصفة أم لا؟ فإن أثبت لله سبحانه وتعالى ذاتاً موجودة متصفة بالصفات، فنقول: أين الله؟ فإن قال: في كل مكان، فنقول: هذا هو قول الحلولية؛ بل إن النصارى قالوا بالحلول في المسيح فقط، وإن الصوفية المشبهين للنصارى المنحرفين قالوا بالحلول في بعض الأشخاص أو في بعض الأماكن عدا من قال منهم بوحدة الوجود، وأنتم تزعمون أن الله في كل مكان، فهل معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى في السماء وفي الأرض وفي الجبال وفي البحار؟ بل وفيما ينزه الله سبحانه وتعالى عنه من أماكن القذر والوسخ ونحو ذلك؟! أم أنكم لا تثبتون لله ذاتاً، وكأنكم تقولون: إنه لا يوجد إله، وإنما هو شيء مثل الهواء أو مثل الريح لا حقيقة له؟! وإن أثبتم لله ذاتاً، وهذه الذات متصفة بصفاتها، وأن الله تعالى عليم خبير، فعال لما يريد، على كل شيء قدير، يأخذ الكفار أخذ عزيز مقتدر، خلق السماوات والأرض، فهذه الذات هل يقول قائل: إنها في كل مكان؟! لا شك أن هذا القول ينبت منه الحلول الباطل؛ بل الحلول الذي هو أخبث وأقبح من أقوال النصارى وأقوال بعض الصوفية، وحقيقته في النهاية الانتهاء إلى إنكار وجود الله؛ لأن معنى ذلك أنه سبحانه وتعالى ليس له ذات متميزة. وإن قالوا: إن الله سبحانه وتعالى ليست له ذات حقيقة متصفة، كفروا. إذاً: القول بأن الله في كل مكان يقتضي أن الله حال في كل مكان متحد بخلقه، وهذا مما ينزه الله سبحانه وتعالى عنه أتم التنزيه؛ بل نقول: لما خلق الله سبحانه وتعالى الخلق، هل خلقهم داخل ذاته أو خارج ذاته؟ إن قلتم خلقهم داخل ذاته فمؤدى ذلك أن يكون الله سبحانه وتعالى قد حل فيه القاذورات والمخلوقات ونحو ذلك والعياذ بالله! وإن قلتم خلقهم خارج ذاته، فهذا هو الحق، فإن الله سبحانه وتعالى خلقهم خارج ذاته، كما قال السلف رحمهم الله تعالى: إن الله بائن من خلقه، وإذا كان قد خلقهم خارج ذاته فلابد أن يكون عالياً عليهم، وهذه لا محيد عنها، ولا يمكن أن يجيبوا بأي جواب يخرج عن هذا. وبهذا استدل الأئمة رحمهم الله تعالى، وبينوا به بطلان مذاهب الحلول؛ لأن مقتضى الحلول عدم تنزيه الله سبحانه وتعالى، أما مذهب السلف رحمهم الله تعالى فهو أن الله سبحانه وتعالى مستو على العرش بائن من خلقه.

الرد على شبهة القول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه

الرد على شبهة القول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه أما الجواب الثاني الذي يجيب به بعضهم: أن الله لا داخل العالم ولا خارجه، فهذا الجواب يكثر عند من يشتغل منهم بالفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وهذا الجواب أيضاً لا يعقل؛ لأن القول بأنه لا داخل العالم ولا خارجه مستحيل؛ فالقول بأنه ليس داخل العالم يقتضي أنه خارج العالم، والقول بأنه ليس خارج العالم يقتضي بأنه داخل العالم، وأما القول بأنه لا خارج ولا داخل فهذا غير معقول، فإما أن يكون الله عز وجل خارج العالم أو داخله، ولا يمكن أن يتصور الذهن غير هذا أبداً، فلا يمكن أن يكون الشيء لا داخل هذا الشيء ولا خارجه، بل إما أن يكون داخله وإما أن يكون خارجه؛ ولهذا فإن بطلان هذا القول لا شك فيه؛ لأنه قول يتضمن أمراً مستحيلاً. وبهذا يتبين بطلان دعواهم تلك، وأن ما قاله السلف رحمهم الله تعالى مما هو مستدل عليه بالأدلة الكثيرة هو المنهج الحق.

الرد على شبهة استلزام إحاطة السماء بالأرض أنه الجهات كلها علو

الرد على شبهة استلزام إحاطة السماء بالأرض أنه الجهات كلها علو وهنا قضية أحب أن أشير إليها في مسألة العلو؛ لأن بعض الناس سألني عنها في أكثر من مناسبة، ولأنه قد يقع في النفس منها شيء، ألا وهي كروية الأرض. فبعضهم يقول: إن الأرض كروية، وسواء كنت هنا أو في أوروبا أو في أمريكا أو في جهة اليابان فإن السماء من فوقك، فمعنى ذلك أنك إلى أي جهة اتجهت فأنت تتجه إلى السماء. فنقول: نعم، بالنسبة للسماء والأرض ليس هناك جهات، وإنما هناك جهتان: (فوق وتحت) وأما بالنسبة لنا ونحن على الأرض فعندنا ست جهات: (أمام، وخلف، ويمين، وشمال، وفوق، وتحت) . فبالنسبة للسماء والأرض لو أن واحداً علق في السقف وصار رأسه تحت ورجلاه فوق فإنا نقول: السماء فوقه، ولو أن واحداً مضطجع نقول: السماء فوقه، وإذا كان نائماً على الجهة اليسرى أو على الجهة اليمنى نقول أيضاً: السماء فوقه. إذاً: على كل حال ليس هناك إلا فوق أو تحت، والله سبحانه وتعالى هو فوق وليس تحت. قد يقول قائل: إذاً لو خرقنا في الأرض وانتهينا إلى الطرف المقابل فإننا ننتهي إلى جهة. نقول: نعم، لو خرقت وانتهيت إلى الطرف المقابل فإنك ستخرج إلى الجهة المقابلة وتتجه إليها. قد يقول قائل: إذاً معنى ذلك أنني إذا اتجهت إلى أي جهة فإنني اتجه إلى الله سبحانه وتعالى. فنقول له: هنا فرق، فما دام أنه ليس هناك إلا جهة فوق أو تحت فأنت في أي مكان على الأرض إما أن تطلب الله فوق، أو أن تطلبه تحت (وهو الذي يؤدي إلى مركز الأرض) ، وليس هناك جهة أخرى، والمعلوم أن الله سبحانه وتعالى فوق السماوات، وأنه سبحانه وتعالى محيط بكل شيء عليم خبير. إذاً: مقتضى هذا أن نؤمن -في أي مكان كنا على الأرض- بأن الله سبحانه وتعالى فوقنا.

إحاطة السماء بالأرض لا تستلزم أن يكون الله في كل جهة

إحاطة السماء بالأرض لا تستلزم أن يكون الله في كل جهة وهنا أحب أيضاً أن أشير إلى مسألتين: الأولى منهما: قد يقول قائل: أنا حينما أتجه جهة الأمام فأنا أتجه إلى جهة السماء، ولو اتجهت إلى الأرض مخترقاً الأرض فأنا أيضاً أتجه إلى جهة السماء. فنقول له: أنت حينما تطلب أمراً تأتيه من أقرب الطرق إليه، فالإنسان مفطور على ذلك، فهذا الذي يتجه إلى هذه الجهة يطلب ربه سبحانه وتعالى في السماء مثل ذلك الذي أراد أن يحج من الرياض -مثلاً- فقال: أذهب إلى دمشق ثم أذهب إلى مكة! فنقول له: حينما تذهب إلى دمشق ثم تتجه إلى مكة ستصل إلى مكة، لكن ستوصف بالجنون أو ضعف العقل؛ لأن الذاهب إلى مكة يجب أن يذهب إليها من أقرب الطرق إليها، ولما كان الله سبحانه وتعالى العليم الخبير، وهو سبحانه معبودنا وإلهنا نحبه ونتوجه إليه، فإننا نبحث عن أقرب الطرق إليه، وبحثنا عن أقرب الطرق إليه سبحانه وتعالى إنما يكون بأن نتجه إلى السماء في جهة العلو، فمن طلبه متفلسفاً بطرق معينة فهو شبيه بمن يريد أن يذهب من الرياض إلى مكة عن طريق المغرب أو عن طريق أفغانستان أو غير ذلك. إذاً: ونحن على الأرض نطلب ربنا في السماء، ولا يأتي إنسان ويطلب ربه في جهة أخرى زاعماً أنه يمكن أن يصل إلى هذا الأمر بطريقة معينة، وإنما يطلبه من أقرب الطرق إليه.

إحاطة السماء بالأرض لا تقتضي إحاطة الله بمخلوقاته

إحاطة السماء بالأرض لا تقتضي إحاطة الله بمخلوقاته الثانية: أن القول بأن السماء محيطة بالأرض لا يقتضي أن يكون الله بذاته محيطاً بمخلوقاته كما ادعى أهل الضلال الذين يكيفون ذات الله سبحانه وتعالى. وإنما نقول: إن هذه الأرض ما هي إلا ذرة صغيرة في الكون تحيط بها ملايين المجرات، وتحيط بها السماوات وفوق السماوات عرش الرحمن سبحانه وتعالى، والله فوق العرش وهو أعظم منها، ولايقدر قدره إلا الله سبحانه وتعالى، وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أنه يقبض السماوات بيمينه، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، فإذا كانت هذه السماوات وهذه المجرات وما يتبعها مطويات بيمينه، فلا يتصور أحد أن الأرض تحيط بها السماء من كل جانب، وأن الله سبحانه وتعالى له ذات، وهذه الذات بشكل كيت وكيت وهي تحيط بالمخلوقات. وإنما الواجب أن يعلم المرء أن الله سبحانه وتعالى على العرش استوى، وهذه الأرض وما حولها كلها حقيرة بالنسبة له سبحانه وتعالى. ومن ثمَّ فلا يلزم ذلك اللازم الباطل، ولهذا شبه بعض علماء السلف رحمهم الله تعالى تشبيهاً في هذه المسألة يوضحها فقال: لو أن نسراً طار في السماء، وأمسك برجله شعيرة، فهذه الحبة بالنسبة للنسر تحته، فهل يقتضي هذا أن يكون هذا النسر على هذا النحو محيطاً بالحبة؟ لا يلزم، ولله المثل الأعلى. وقد أخبرنا الله أن السماوات والأرضين كلها مقبوضة بيد الرحمن تبارك وتعالى، وعلى هذا فهي لا تساوي شيئاً، كما ورد في الحديث: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم) . إذاً: الفهم الخاطئ في هذا الأمر نشأ من قصور العقل، ونشأ من التشبيه؛ حيث ظن الإنسان أن الله مثلما نقول: فلك أو جبل أو نحو ذلك، ثم قاس الله سبحانه وتعالى بها، فإذا كانت السماوات بملايين المجرات في يد الرحمن كخردلة في يد أحدهم، فكيف يتصور أحد ذلك التصور الساذج؟! بل نقول: سبحانك يا إلهنا ما أعظمك! وما عبدناك حق عبادتك، ونؤمن بالله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته، ولا يخطر ببالنا أي شيء من هذا الأمر. فالإيمان الصحيح بالله وأسمائه وصفاته وعظمته يجعل الإنسان يعبد رباً عظيماً رحيماً قديراً خبيراً أحاط بكل شيء علماً، يعبد رباً على العرش استوى استواءً يليق بجلالته وعظمته، يعبد رباً لا تساوي هذه المخلوقات بالنسبة له شيئاً، وإذا آمن بذلك أيقن يقيناً تاماً أنه لا يمكن أن يكون الله إلا في جهة العلو، وأن أي اعتقاد عدا ذلك من حلول كامل أو حلول محدد بشخص أو مكان، أو القول بإن الله لا داخل العالم ولا خارجه أو نحو ذلك، ما هو إلا دوران حول أنواع من الشرك بالله، نسأل الله السلامة والعافية.

كروية الأرض وعدد الاتجاهات بالنسبة لها

كروية الأرض وعدد الاتجاهات بالنسبة لها

شرح أثر مالك بن أنس: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول)

شرح أثر مالك بن أنس: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول) ثم قال المصنف رحمه الله تعالى أيضاً: [سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، فقيل: يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم أمر بالرجل فأخرج] . الإمام مالك ولد سنة (93 هـ) ، وتوفي سنة (179 هـ) ، والإمام مالك رحمه الله تعالى عاصر بعض البدع التي وجدت في عهده، فدخل عليه في أحد الأيام رجل وهو في المسجد في الحلقة، فقال: يا أبا عبد الله!: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، كيف استوى؟ إذاً: عندنا أمران: الأمر الأول: أن السائل يعلم بأنه ورد في القرآن إثبات الاستواء، وأنه دل عليه قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] . الثاني: أن السؤال إنما هو على الكيفية؛ لأنه قال: كيف استوى؟ ونحن نقول هذا الكلام لأن جواب الإمام مالك فسره المخالفون لأهل السنة والجماعة تفسيراً خاطئاً، فالإمام مالك قال: (الاستواء غير مجهول) وفي بعض الروايات أنه قال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول) ، وهنا قال: (والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) . فالإمام مالك قال: (الاستواء غير مجهول) يعني أن معنى الاستواء كما نفقهه، ونحن خوطبنا باللغة العربية، فهذا الاستواء معلوم لنا غير مجهول، لكن ما هو الشيء الذي نجهله ولا نعقله؟ A هو الكيف، لأننا لا نعلم كيف الله فكذلك لا نعلم كيف صفاته سبحانه وتعالى. وبعض الذين ينكرون استواء الله ويتأولونه بالاستيلاء يجيبون عن هذا ويقولون: إن قول الإمام مالك: (الاستواء معلوم) يعني أنه مذكور في القرآن، فنقول لهم: لو كان قصد الإمام مالك أن الاستواء مذكور في القرآن لاكتفى بكلام السائل؛ لأن السائل أولاً قال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ ولكان قوله: (الاستواء معلوم) كلاماً لا قيمة له، ولكن السائل سيقول: أنا ما سألتك إلا وأنا أعلم أن الاستواء مذكور في القرآن، لكن أراد الإمام مالك إثبات وبيان قضية منهج السلف رحمهم الله تعالى، ألا وهي أن الاستواء معلوم، أي: نحن نعلم معنى الاستواء بما خوطبنا به في اللغة العربية؛ فإنه بمعنى: علا، وارتفع، واستقر، وصعد، هذه هي الألفاظ الواردة عن السلف رحمهم الله تعالى، وعلى هذا فإن الاستواء معلوم، وأما كونه مذكوراً في القرآن فهذا أمر بدهي، ولا يمكن أن يغفل عنه الإمام مالك، والسائل نفسه ذكر أن سؤاله إنما هو عن الكيفية، والكيفية غير معقولة. وهذا هو منهج السلف رحمهم الله تعالى؛ فإنهم يثبتون الصفات لله سبحانه وتعالى إثباتاً حقيقياً، ويثبتون ما دلت عليه من معانٍ، ويقولون: إن الكيفية لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. وقوله: (والإيمان به واجب) ، أي: أن إثبات الاستواء على منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى واجب، ولا يجوز تأويله. وقوله: (والسؤال عنه بدعة) ، أي أن السؤال عن كيفية الاستواء بدعة، وليس المقصود به السؤال عن إثبات الاستواء؛ لأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث قال فيه: (إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا) ، فهل معنى ذلك ألا نتكلم عن الإيمان بالقدر، ولا نتكلم عن فضل الصحابة؟ الجواب: لا، وإنما المقصود أنه إذا ذكر القدر وخاض فيه الخائضون بالباطل فلا نتكلم، وإنما نكل الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، لكن إثبات الإيمان بالقدر أصل من الأصول؛ بل هو ركن من أركان الإيمان، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (وتؤمن بالقدر خيره وشره) . إذاً: قوله هنا: (أمسكوا) أي: عن الخوض فيه بالباطل، وهكذا ذكر الصحابة، هل معنى ذلك أننا لا نذكر الصحابة بشيء أبداً؟ الجواب: لا، وإنما المقصود أنه إذا ذكر الصحابة وتكلم فيما وقع بينهم كما هو ديدن كثير من أهل البدع، فيجب علينا أن نمسك، وألا نخوض في ذلك، وأن نكل ما جرى بينهم إلى الله سبحانه وتعالى، كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وقوله: (ثم أمر بالرجل فأخرج) ، أي: أن الإمام مالكاً أمر بهذا الرجل فأخرج تأديباً له وتعليماً لأصحابه؛ لأن أهل البدع يجب ألا يمكنوا من نشر بدعهم، وهذا هو منهج السلف الصالح، فبعض الناس يظن أن فتح الحوار يدل على منهج علمي واقعي، وأنه ينبغي أن يفتح الإنسان الحوار لكل من هب ودب، فمن كان من هؤلاء من أهل البدع فإنه حينما يكون هناك قدرة للمتمسكين بمنهج أهل السنة والجماعة فيجب عليهم ألا يتهاونوا، فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه ما ترك صبيغ بن عسل يتكلم بالمتشابهات، وإنما أتى له بعراجين النخل وضربه حتى قال: والله يا أمير المؤمنين لقد ذهب عني الذي أجد. لكن إذا وجدت البدعة وابتلي بها المسلمون، ولم يكن للمسلمين من أهل السنة والجماعة قدرة على منع الخوض فيها، فحينئذ تشرع مناقشتهم لا أن نفتح نحن الحوار ونقول: تعالوا لنشر بدعكم؛ وذلك لأن البدعة قد يصوغها صاحبها ولا يستطيع الجواب عنها، فتثير في النفس شكاً وريبة، فكيف إذا كان هذا يقع عند المتعلمين؟ فكيف بالعوام؟ وكيف بالنساء؟ وكيف بغيرهم؟ فمثلاً: لو أن إحدى البدع تقام في التلفزيون، ويشاهدها الأطفال والنساء وغيرهم، ونقول لصاحبها: نفتح معك الحوار، وهذا يصلح وهذا يرد، فهذا لا شك أنه سيؤدي إلى بلاء قذر. فمنهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى هو بيان الحق وبيان العقيدة بأدلتها؛ حتى تؤمن النفس ويصفو إيمانها، ولا يخوضون في ذلك إلا عند الضرورات وعند الحاجة، وحينما يكون هناك خطر لا يمكن رده إلا بالنقض والبسط، كما فعل أئمة السلف رحمهم الله تعالى في القرن الثالث والرابع وما بعدهما.

الكلام على صفة الكلام

الكلام على صفة الكلام

إثبات صفة الكلام لله عز وجل

إثبات صفة الكلام لله عز وجل ثم قال رحمه الله تعالى: [ومن صفات الله تعالى: أنه متكلم بكلام قديم، يسمعه منه من شاء من خلقه] . وهنا بدأ المصنف يتكلم عن إثبات صفة الكلام لله، وقد ذكر قبل ذلك بعض الصفات، وأعقبها بصفة العلو والاستواء، ثم ذكر كلام الله سبحانه وتعالى. فمن صفات الله تعالى أنه متكلم بكلام قديم، ولفظة (قديم) يرى بعض العلماء أنه لم يرد وصف الله سبحانه وتعالى بالقدم؛ لأن القديم في اللغة العربية هو المتقدم على غيره، والله سبحانه وتعالى ليس له غير حتى يقال: إنه متقدم عليه، ومن ثمَّ قالوا: إن الأولى وصفه تعالى بالأزلي، والأصح منه أيضاً الاسم الشرعي (الأول الذي ليس قبله شيء) لكن ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود أنه قال: (من قال حين يدخل المسجد: أعوذ بالله العظيم وسلطانه القديم) ، وهذا يدل على أن القديم قد يستعمل أحياناً مرادفاً للأزلي. وقوله: (إنه متكلم بكلام قديم) ، أي: أزلي، وأهل السنة والجماعة يثبتون لله سبحانه وتعالى صفة الكلام على ما يليق بجلاله وعظمته؛ لكنهم يقولون: إن كلامه تبارك وتعالى قديم النوع حادث الآحاد؛ لأن الكلام من صفات الأفعال، أي أنه تبارك وتعالى يتكلم إذا شاء متى شاء، وهو سبحانه وتعالى يتصف بصفة الكلام أزلاً، وهو سبحانه وتعالى يتكلم بإرادته ومشيئته؛ ولهذا قال العلماء: هو قديم النوع حادث الآحاد، فقولهم: (قديم النوع) أي أن الله متصف بهذه الصفة في الأزل، وقولهم: (حادث الآحاد) أي أن الله يتكلم إذا شاء متى شاء.

بيان مذهب المعتزلة والأشاعرة في الكلام

بيان مذهب المعتزلة والأشاعرة في الكلام وهذه الصفة أثبتها السلف رحمهم الله تعالى، وأثبتها الأشاعرة؛ لأنهم يثبتون سبع صفات ومنها صفة الكلام، لكن إثبات السلف رحمهم الله تعالى لها هو إثبات حقيقي، أما إثبات أولئك لها فهو مخالف لما دلت عليه النصوص. وحتى نبين مذهب السلف في كلام الله فإننا نذكر قول المعتزلة وقول الأشاعرة؛ لأن هذه القضية هي التي بني عليها القول بخلق القرآن، فعند المعتزلة أن كلام الله تعالى هو شيء منفصل عنه، فهو مخلوق، فهم يقولون: إن الله لا تقوم به صفة الكلام، ولهذا قالوا: إن هذا الكلام وهذا القرآن من جنس مخلوقاته؛ فكما أنه خلق السماوات والسماوات منفصلة عنه، كذلك أيضاً تكلم بالقرآن والقرآن مخلوق منفصل عنه، ومن ثمَّ قالوا: القرآن مخلوق؛ لأنهم لا يثبتون لله صفة الكلام التي تقوم به تبارك وتعالى؛ هذا مذهب المعتزلة. والأشاعرة في مقابل ذلك قالوا: نثبت لله صفة الكلام، لكن الكلام هو الكلام النفسي القائم بذاته، ولا ينفصل عنه. إذاً: هما قولان متضادان، فالمعترلة يقولون: لا تقوم به صفة الكلام، وكلامه من جنس مخلوقاته، فهو مخلوق منفصل عنه، والأشاعرة يقولون: الله تقوم به صفة الكلام، وكلامه لا ينفصل عنه، أي أن الله سبحانه وتعالى يتصف بصفة الكلام أزلاً، وأن كلامه قائم بذاته، وأن الكلام هو ما قام بالنفس فقط، ومن ثمَّ قالوا: إنه بغير حرف وبغير صوت، وعلى هذا فالكلام عندهم هو الكلام الذي في داخل النفس، كما يقال: خواطر النفس، لكن ليس هناك كلام بحرف وصوت مسموع، فجعلوا هذا الوصف لله سبحانه وتعالى.

الرد على الأشاعرة في كلام الله

الرد على الأشاعرة في كلام الله لو قيل للأشعرية: إذا قلتم إن الكلام يقوم بالله لا ينفصل عنه، فهذا المصحف ماذا تقولون عنه؟ قالوا: هذا المصحف ليس كلام الله! وإنما هو عبارة عن كلام الله أو حكاية عن كلام الله، أي أنه نوع من الإلهام عبر عنه جبريل بهذا المصحف، بل بعضهم قال: عبر عنه محمد! ونحن نطعن في المستشرقين وغيرهم من المبشرين الذين يقولون: إن القرآن من محمد، بينما بعض هؤلاء المتكلمين من الأشاعرة يقول: القرآن كلام محمد عبر به عن كلام الله. قيل لهم: هل هناك فرق بينكم وبين المعتزلة، فالمعتزلة يقولون هو مخلوق، وأنتم أيضاً تقولون إنه من كلام محمد؟ قالوا: نعم، القرآن العربي في جانب منه مخلوق، وهو كونه بهذه اللغة العربية، أو بالنسبة للتوراة باللغة العبرانية، أو الإنجيل باللغة السريانية، فهذه كلها مخلوقة لأنها ليست هي كلام الله، وإنما كلام الله هو القائم بذاته الذي لا ينفصل عنه، فقيل لهم: إذاً: ليس بينكم وبين المعتزلة فرق. وأهل السنة والجماعة -وهم الوسط- وفقهم الله سبحانه وتعالى لسيرهم على المنهاج الحق بأن قالوا القول الحق في هذه المسألة؛ فقالوا: القرآن هو كلام الله تعالى تكلم به، والله سبحانه وتعالى يتكلم إذا شاء متى شاء، ومن كلامه القرآن، فيثبتون الكلام القائم بذاته، ويثبتون لله ما ورد الدليل على أنه كلام الله مثل القرآن؛ ولهذا فإن أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله متصف بصفة الكلام أزلاً، وإنه تبارك وتعالى كلم موسى في ذلك الوقت الذي وجد فيه موسى لما كان بجانب الطور. والأشاعرة قيل لهم: ماذا تقولون في كلام الله لموسى؟ قالوا: كلمه بكلامه الأزلي القائم بذاته، قيل لهم: فلماذا موسى؟ قالوا: سمع كلام الله الأزلي القائم بذاته! وهذا الذي قالوه لا يعقل أبداً، وهم إنما قالوا هذا لأنهم لا يثبتون أن الله يتكلم إذا شاء متى شاء، وعندهم أن كلام الله سبحانه وتعالى لا ينفصل عنه أبداً، وإنما هو الكلام الأزلي. ومن قول أهل السنة أن الله يتكلم، وكلامه سبحانه وتعالى تسمعه الملائكة ويبلغونه، ويكتب أحياناً في الصحف، ويكتب في اللوح المحفوظ، وهذا القرآن هو كلام الله، وهو مكتوب في المصاحف؛ ولهذا فإن الكلام إنما هو لمن تكلم به مبتدئاً، فالقارئ للقرآن يتلو القرآن بصوت، لكن المقروء كلام الله تعالى، ولو جاء واحد -مثلاً- وقرأ علينا معلقة امرئ القيس، فهل نقول: هذا هو الذي قال معلقة امرئ القيس أو نقول: المعلقة للشاعر امرئ القيس، وهذا نقلها إلينا أو قرأها علينا أو نحو ذلك؟ فالكلام هو لمن قاله مبتدئاً، والله سبحانه وتعالى تكلم بالقرآن، وهذا القرآن نقله جبريل وتلقاه محمد صلى الله عليه وسلم، وتلقاه الصحابة وكتبوه، فهو كلام الله سبحانه وتعالى. إذاً: القضية هنا هي إثبات صفة الكلام لله، وأن الله سبحانه وتعالى متصف بصفة الكلام أزلاً، وأنه يتكلم إذا شاء متى شاء، فكلم آدم في وقت خلق آدم، وكلم موسى في وقت وجوده، وكلم محمداً في وقت وجود محمد ليلة المعراج، ويكلم أهل الجنة يوم القيامة حينما يدخلون الجنة، فالآن لو فرضنا أن ثلاثة أشخاص: الأول منهم أخرس لا يتكلم، والثاني: يهذي ليلاً ونهاراً لا يكل، والثالث: عنده قدرة على الكلام لكن يتكلم إذا شاء متى شاء، فأي الثلاثة أكمل؟ فالأول الأخرس وقد نتفق على أنه متصف بصفة نقص؛ لأنه لا يتكلم، لكن إذا جاءنا واحد وقال: هذا المهذار الذي يتكلم ليلا نهاراً أحسن من ذلك الذي يتكلم مرة ويسكت، فنقول: لا، فإنه لا شك أن الأكمل هو الذي يتكلم إذا شاء، هذا بالنسبة للمخلوق، ولله المثل الأعلى. وقد دلت النصوص المتكاثرة على أن الله سبحانه وتعالى متصف بصفة الكلام، وأنه يتكلم إذا شاء متى شاء، وأن من كماله تبارك وتعالى أنه كلم موسى في هذا الوقت الذي كان فيه موسى بجانب الطور، كلاماً سمعه موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، أما القول بأنه لا يتكلم فهذه صفة نقص، والقول بأنه لا يتكلم بمشيئته وإرادته هذه أيضاً صفة نقص، والله سبحانه وتعالى منزه عن النقائص، ومن صفات الله تعالى أنه متكلم بكلام قديم النوع حادث الآحاد، يسمعه منه من شاء من خلقه، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى كلم عباده فيسمعهم كلامه.

بيان أن كلام الله يسمع

بيان أن كلام الله يسمع ثم مثل المصنف رحمه الله بقوله: [سمعه موسى عليه السلام منه من غير واسطة] . وهذا دل عليه نص القرآن العظيم، في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] وجاءت الآية بصفة التأكيد، وبعض أهل البدع أراد أن يجد قارئاً يقرأ بنصب لفظ الجلالة، أي: (وكلم اللهَ موسى) ؛ حتى يثبت أن موسى هو فاعل الكلام، يريد بهذا أن ينفي عن الله صفة الكلام، فقال له إمام من أئمة القراء من أهل السنة: هب أننا قرأنا بنصب لفظ الجلالة، فلماذا سنصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ؟ فبهت المبتدع، لأنه ليس هناك خيار إلا أن يحذف الآية، أو يقول: فيها تقديم وتأخير، أما أن يأتي بضمة بدل فتحة أو نحو ذلك ويحل بها المشكلة، فهذه الآية لا تحتمل ذلك. ثم قال: [وسمعه جبريل عليه السلام، ومن أذن لهم من ملائكته ورسله] . وهذا أيضاً ثبت في الأحاديث الصحيحة، ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (ولكن ربنا إذا قضى أمراً سبح حملة العرش، ثم يسبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل السماء الدنيا، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم) ، فهذا يدل على أن جبريل والملائكة يسمعون كلام الله سبحانه وتعالى. إذاً: هو تبارك وتعالى يتكلم بكلام مسموع، وأيضاً رسل الله سمعوا كلامه، كما في قصة موسى، وكما في قصة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله كلمه كفاحاً ليلة المعراج، كما في الصحيحين وغيرهما.

إثبات تكليم الله للمؤمنين في الآخرة

إثبات تكليم الله للمؤمنين في الآخرة ثم قال: [وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه] . وهذا أيضاً ورد فيه أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها: (يقول الله عز وجل لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك وسعديك) إلى آخر الحديث، فهذا نص على أن الله يخاطب أهل الجنة، ويكلمهم ويكلمونه، وهذه أحاديث صحيحة صريحة دالة دلالة قاطعة على ما ذكرناه. ثم قال: [ويأذن لهم فيزورونه] . ورد في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أهل الجنة إذا دخلوا فيها نزلوا بفضل أعمالهم، ثم يؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم) ، رواه الترمذي وابن ماجة، لكنه حديث ضعيف، إنما الثابت: أن إن الله يكلم أهل الجنة ويكلمونه، وهذا ورد في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أدلة إثبات صفة الكلام لله جل وعلا من القرآن

أدلة إثبات صفة الكلام لله جل وعلا من القرآن ثم ذكر المصنف الأدلة على ذلك فقال: [قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]] . وقوله: (تكليماً) مصدر مؤكد أن هذا التكليم حقيقي. ثم قال: [وقال سبحانه: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]] . هذا يدل على أن الله كلمه بكلام مفهوم سمعه: أني اصطفيتك واخترتك على الناس برسالاتي وبكلامي. وهذا يدل على أمرين: الأمر الأول: أن الله كلمه بذلك وقال له: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} [الأعراف:144] . الأمر الثاني: أن الله اصطفاه برسالته، واصطفاه بكلامه، ولهذا سمي موسى كليم الله سبحانه وتعالى. وقد ذكرنا أن العلم عند الله سبحانه وتعالى في سبب تسمية موسى كليم الله، مع أن الله كلم محمداً، وكلم آدم، لكن الله كلم موسى على الأرض، وهو على طبيعته البشرية، بخلاف تكليم الله لآدم فإنه كان وهو في السماء، وتكليم الله لمحمد كان عند أن عرج بروحه وجسده إلى السماء، أما تكليمه لموسى فكان وهو على الأرض، ولعل هذه خصوصية لموسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم. ثم قال: [وقال سبحانه: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253]] . يعني: الرسل، فهذه الآية هي عن رسل الله سبحانه وتعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253] ، وهذا واضح. ثم قال: [وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51]] . قوله: (إِلَّا وَحْيًا) المقصود به في هذه الآية كلام الله مباشرة؛ لأنه قال: {أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى:51] ، ثم قال بعد ذلك {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] ، فهذه التقسيمات الثلاثة تدل على أن قوله: ((إِلَّا وَحْيًا)) هو تكليم الله سبحانه وتعالى لعبده مباشرة. ثم قال: [وقال سبحانه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه:11-12]] . قوله: ((فَلَمَّا أَتَاهَا)) ، أي النار (نُودِيَ) ، والنداء لا يمكن أن يكون إلا بصوت، والذي ناداه وكلمه هو الله سبحانه وتعالى، وهذه الآية نص صريح في إثبات كلام الله لموسى، وأن كلامه له بصوت سمعه موسى. ثم قال: [وقال سبحانه: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] وغير جائز أن يقول هذا أحد غير الله] . أي: من تكليم الله لموسى أنه قال: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12] ، وأيضاً من تكليم الله له أنه قال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] . وبعض الذين تأولوا صفة الكلام لله يقول: إن الذي كلم موسى ملك، أو إن الشجرة هي التي سمع منها الكلام، وهذا التأويل باطل، ودليل بطلانه أنه لا يمكن أن تقول الشجرة: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] ، أو يقول الملك: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] ، ولو كان كلام الملك أو الشجر لقال: إنه هو الله فاعبده، أو إن ربك الله فاعبده، لكن أن يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] فهذا نص صريح على أن هذا كلام الله جل وعلا، وقد ذكر هذا الدليل ابن قدامة نفسه في قوله: (وغير جائز أن يقول هذا أحد غير الله) . ونكتفي بهذا، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا، وأن يهب لنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

سبب وقوع الأشاعرة في الخطأ في صفة الكلام لله عز وجل

سبب وقوع الأشاعرة في الخطأ في صفة الكلام لله عز وجل Q ما هي العلة التي بسببها أنكر الأشاعرة والمعتزلة صفة الكلام لله سبحانه وتعالى؟ وهل كان إنكارهم بدليل معين، أم يرون دليلاً عقلياً، كقولهم: إن صفة الكلام نقص فلا يجب أن نصف الله تعالى بها؟ A الأشاعرة لا ينفون صفة الكلام، بل يثبتون لله صفة الكلام، وإنما وقعوا في الخطأ من جهة فهمهم للكلام حين خصصوه بالكلام النفسي، أما المعتزلة فهم الذين نفوا صفة الكلام عن الله سبحانه وتعالى، ونفيهم لهذه الصفات -ومنها صفة الكلام- إنما كان بسبب شبه عقلية، وإلا فالنقل يرد عليهم من أوله إلى آخره، ومن شبههم العقلية: الخوف من تشبيه الله بخلقه، والخوف من تعدد القدماء؛ لأنه إذا قيل إن الله متصف بصفة الكلام وغيرها من الصفات ظنوا أنه يستلزم التشبيه.

فساد القول بأن الله عز وجل لا داخل العالم ولا خارجه

فساد القول بأن الله عز وجل لا داخل العالم ولا خارجه Q قد يقول قائل: إذا لم يكن الله خارج العالم ولا داخله، فإن ذلك يقتضي أن الله بينهما، فكيف نرد عليه؟ A هذا الكلام غير صحيح؛ فقولهم لا داخل العالم ولا خارجه مستحيل؛ بل إما أن يكون خارج العالم، وإما أن يكون داخل العالم، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! وأهل السنة والجماعة يقولون: إن الله سبحانه وتعالى متصف بصفة العلو، فهو تبارك وتعالى وتقدس بائن من خلقه.

لا يسمى الله عز وجل بالدهر

لا يسمى الله عز وجل بالدهر Q هل من أسماء الله تعالى الدهر؛ لأنه ورد في الحديث: (لا تسبوا الدهر؛ فإني أنا الدهر) ؟ A الدهر ليس من أسماء الله تعالى على القول الصحيح؛ لأن الدهر هو الزمان، والدليل على ذلك ما ورد في نفس الحديث؛ فإنه قال: (فإني أنا الدهر؛ بيدي الليل والنهار، أقلبهما كما أشاء) ، ولو أن القول بأن الله هو الدهر صحيح لكانت نسبة الأمور التي تقع إلى الدهر صحيحة. لكن لماذا قال: (يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر) ؟ الدهر ليس اسماً من أسماء الله سبحانه وتعالى، وإنما يسب الإنسان الزمان فينتقل السب إلى خالق الزمان وموجد الزمان، وهو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه تبارك وتعالى هو الذي بيده كل شيء.

الخلاف حول مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج

الخلاف حول مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج Q هل نقول إن الله تعالى لما كلم محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن محمداً رأى الله سبحانه وتعالى؟ A لا؛ لأن مسألة الرؤية غير مسألة الكلام، فأهل السنة يثبتون الكلام، ويثبتون أن محمداً صلى الله عليه وسلم كلمه ربه بلا واسطة، لكن مسألة الرؤية هذه فيها خلاف، والقول الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بأم عينيه، وإنما رآه بفؤاده؛ ولهذا لما سئل: هل رأيت ربك -كما في الحديث الصحيح- قال: (نور أنى أراه) ، وفي رواية قال: (رأيت نوراً) ، فهذا دليل على أنه لم ير الله، وإنما رأى حجابه النور، وهذا هو القول الصحيح.

أقسام الوحي

أقسام الوحي Q بما أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، وأنه وحي من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فكيف كان يأتي بواسطة جبريل عليه السلام؛ إذ إن مقتضى الوحي أن يكون من الله سبحانه لرسوله مباشرة؟ A بل مقتضى الوحي هو كما أخبر الله بقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى:51] ، فالوحي ينقسم إلى هذه الأقسام: إما أن يكلمه الله مباشرة، أو يكون من وراء حجاب، أو يرسل الرسول، وكل ذلك يسمى وحياً؛ ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى يوحي أحياناً لعباده مباشرة كما كلم موسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يكون عن طريق الملك جبريل عليه الصلاة والسلام، ولا يقتضي هذا أن يقال: إنه ليس بوحي، بل هو وحي.

الجواب عمن يستشكل صفة النزول بانتقال الليل على مدار الزمان

الجواب عمن يستشكل صفة النزول بانتقال الليل على مدار الزمان Q يقال إن ثلث الليل يكون مستمراً على الكرة الأرضية، فكيف نجيب عن نزول الله عز وجل؟ وهل يكون الله نازلاً في جميع الأوقات؟ A سبق أن أجبنا عن هذا، وقلنا إن الله سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه، فنحن نقطع بأن الله سبحانه وتعالى ينزل على أهل كل بلد وأهل كل مكان حين يبقى ثلث الليل الآخر، حتى ولو كان هناك آخرون بعد ساعة لهم ثلث الليل؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه، وليس نزوله كنزول المخلوقين، وكما ضربنا مثلاً: لو قال قائل: كيف يسمع الله دعاء الناس له يوم عرفة، وقد اجتمع أكثر من مليون شخص على مختلف اللغات؟ فالإنسان لا يستطيع أن يسمع أكثر من واحد، لكن كيف يستمع الله عز وجل إلى مليون؟ بالنسبة لنا نحن البشر لا نستطيع أن ندرك ذلك، لكن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى يسمعهم جميعاً، كما أنه يوم القيامة يجتمع آلاف الملايين، وليس مليوناً، ومع ذلك يحدثهم الله جميعاً في ساعة، كل واحد منهم يكلمه ربه ويحاسبه وحده، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) ، فكيف يتم هذا؟! قد يقول العقل: لا يتم هذا، لكن الله تبارك وتعالى هو العظيم، ولا يقدر قدره ولا قدر صفاته إلا هو سبحانه وتعالى، وكل الخطأ ناشئ من قياس الله سبحانه وتعالى بخلقه، والله تبارك وتعالى لا يقاس بخلقه، هذا هو الصحيح.

المتكلمون لا يمسكون عن تحديد المكان لله تعالى

المتكلمون لا يمسكون عن تحديد المكان لله تعالى Q أليس قول القائلين: لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي أنهم يمسكون عن الخوض في ذلك؟ A هم ما قالوا: نمسك، وإنما قالوا: نقطع بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، فنقول لهم: هذا كلام غير صحيح وفضول لم يرد به الشرع.

منهج السلف في رد الشبهات

منهج السلف في رد الشبهات Q كيف يكون ذكر الشبه والرد عليها؟ وهل لها ضابط؟ وماذا تعرف عن كتاب (شبهات حول الإسلام) لـ محمد قطب؟ A منهج السلف رحمهم الله تعالى عدم ذكر الشبهات؛ لأن الشبهة أحياناً تستقر في الذهن، ولا يستقر في الذهن الجواب عليها. وأما كتاب (شبهات حول الإسلام) لـ محمد قطب فـ محمد قطب في كتابه (شبهات حول الإسلام) يرى أنه كان هناك شبه في أيام الاستعمار، فكتب هذا للدفاع عن الإسلام، أما الآن فإن الإسلام ليس بحاجة إلى الدفاع عنه، وهذا في الحقيقة يجب أن يكون منهج المسلمين في كل وقت، فلا يستهينون بدينهم، وإيمانهم، وعقيدتهم، بل الواجب عليهم أن يعتزوا بها. ومن ثمَّ فإن هذا المنهج غير صحيح، لكن إذا صارت القضية منتشرة فترك الشبهة حتى تستقر في النفوس، ثم تختلج ويبحث عن الجواب عنها لا يكون مناسباً، فمثلاً: في مسألة العلو قد ذكرنا شبهتين من شبه أولئك، وما قلناها إلا لأن كثيرين سأل عنها، ولأنني ما طرحت هذه القضية في محاضرة أو درس إلا وجاءني أربعة أو خمسة يسألون عن هذه القضية؛ لأنهم سبق أن نوقشوا فيها، فنحن ذكرناها لذلك، ولم نكن نقصد أن نذكر الشبهة وندافع عنها، وإلا فلو أننا استقصينا شبههم، لعدت بالمئات ولا أقول: بالعشرات، ولأفنينا أعمارنا في ذكرها والجواب عنها، لكن ذكرنا أبرز القضايا التي تعلق في الذهن، خاصة في العصور المتأخرة لما علمت كروية الأرض، وصارت معلومة لدى الجميع، فصارت مثل هذه الشبهة تأتي عند بعض الناس، ويتكلم عنها، فنحن نجيب عنها كما أجاب عنها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتبه التي تحدث فيها عن هذه القضية؛ لأنها كانت موجودة في زمنه، وأثارها المخالفون من أهل الكلام ومن غيرهم، وإلا فإن منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى واضح كل الوضوح. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [7]

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [7] القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، تحدى الله ببلاغته العرب الفصحاء فعجزوا، بل تحداهم أن يأتوا ببعضه فأبلسوا، بل وتنزل معهم إلى الإتيان بسورة من مثله فأخرسوا، بل ضم إليهم جميع الجن والإنس فعاد الجميع خاسرين، ورجعوا خائبين، فسبحان من تفرد بالكمال والجلال والجمال.

إثبات صفة الكلام لله عز وجل بصوت وحرف

إثبات صفة الكلام لله عز وجل بصوت وحرف

إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء

إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء ٍبعد أن ذكر المصنف رحمه الله تعالى أن الله سبحانه وتعالى يتكلم ويكلم عباده، وأن كلامه لهم حقيقة، وأنه سبحانه وتعالى يكلم عباده فيسمعونه، ذكر أيضاً بعض أدلة هذا فقال: [وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم] . المصنف رحمه الله تعالى أورد هذا الأثر موقوفاً فقال: (وقال: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا تكلم) ، وهذا الأثر روي موقوفاً على ابن مسعود بإسناد صحيح، لكنه أيضاً روي برواية أخرى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وروايته مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً واردة بإسناد صحيح، وممن رفعها أبو داود رحمه الله تعالى في سننه وغيره، وكل من المرفوع والموقوف صحيح، لكن لما كان الموقوف أصح علقه البخاري في صحيحه، وقد ذكر الشيخ الألباني هذا الحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1293) وقال رحمه الله: والموقوف -أي: على ابن مسعود - وإن كان أصح إلا أن له حكم الرفع؛ لأنه مما لا يقال بالرأي. يعني: لا يمكن أن يقوله ابن مسعود من عند نفسه، فيكون حكمه حكم المرفوع. قوله في هذا الحديث: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء) ، هذا يدل على إثبات كلام الله، وإثبات أن كلام الله مسموع، وهذا يرد على من قال بالكلام النفسي، أو إن كلام الله ليس بحرف ولا صوت، بل الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم، وكلامه مسموع، وأن أهل السماء يسمعون صوته وكلامه، وكذلك أيضاً لما كلم موسى وكلم محمداً وكلم آدم سمعوا ذلك. ثم قال: (روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم) . كأن المصنف هنا أشار إلى المرفوع وإلى الموقوف.

نداء الله لأهل المحشر بصوت يسمعونه

نداء الله لأهل المحشر بصوت يسمعونه ثم قال: [وروى عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراة حفاة غرلاً بهماً) ] . عبد الله بن أنيس الجهني المدني المتوفى سنة أربع وخمسين هجرية رحمه الله تعالى، أحد الصحابة المعروفين المشهورين. قوله: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراة) ، أي: ليس عليهم كساء ولا لباس ولا غطاء، (حفاة) أي: غير منتعلين، (غرلاً) أي: غير مختونين، (بهماً) أي: طليقي الأيدي لا يحملون معهم أي شيء؛ وهذا لبيان أن الناس يبعثون من قبورهم ويحشرون إلى ربهم سبحانه وتعالى وهم على هذه الحالة، كما في حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها حين قالت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر أكبر وأعظم وأشد من أن يهتموا بهذا الأمر؛ لأن الأمر خطير جداً. [ (فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان) ، رواه الأئمة، واستشهد به البخاري] . الشاهد من هذا: قوله: (فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) ، والنداء كما نعلم جميعاً لا يمكن أن يكون إلا بصوت، وهذا فيه إثبات أن الله سبحانه وتعالى يتكلم، وأنه تبارك وتعالى إذا نادى الخلائق يوم القيامة يناديهم بصوت يسمعونه جميعاً، وهذا الحديث ذكره البخاري أيضاً تعليقاً ورواه الإمام أحمد وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وهو المشهور، وهو الوارد في قصة رحلة جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه حين التقى بـ عبد الله بن أنيس في مصر حين رحل إليه شهراً كاملاً؛ ولهذا ذكره البخاري في كتاب العلم في الباب الذي عقده في مسألة الرحلة في طلب الحديث، لكنه رحمه الله تعالى ذكره معلقاً. وهذا الحديث رواه البيهقي، ورواه البخاري في الأدب المفرد، وهو حديث صحيح، ومن ثمَّ فإن الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى لما تعرض لمسألة إثبات صفة الكلام لله وأنه بصوت، نقل كلام بعض الأشاعرة وتأويلهم للأحاديث الواردة في ذلك، وتضعيفهم لهذه الرواية، وقولهم: إن كلامه تعالى ليس بصوت، فبعد أن نقل كلامهم علق عليه بقوله: والحديث إذا ورد بالطرق الصحيحة فإنه يؤخذ به. وكأنه يقول: ما دام إثبات الصوت لله تعالى ثبت في الأحاديث الصحيحة فلا داعي للمماحكة؛ لأنه ورد بأسانيد صحيحة، وكأن ابن حجر رحمه الله تعالى إنما يرد على أولئك الذين ضعفوا هذه الرواية بناءً على مذهبهم في إثبات الكلام النفسي لله، وأن كلامه عز وجل ليس بحرف ولا صوت، فبناء عليه بحثوا عن الحديث فوجدوا أن البخاري رواه معلقاً، فضعفوا هذه الرواية لهذا السبب، فـ ابن حجر المحدث غلب عليه رحمه الله تعالى هنا جانب الحديث، فرد على أولئك وقال لهم: لا تتعرضوا لتضعيفه من أجل ذلك المعنى الكلامي الذي تريدونه، بل إذا ثبت أمر في الأحاديث الصحيحة فيجب أن تقولوا به، ثم بعد ذلك ابحثوا له عن التأويل، لكن لا تضعفوه وتردوا الحديث؛ لأجل أنه خالف ما عندكم. ومنطق ابن حجر هذا عظيم جداً، مع أنه رحمه الله تعالى من المائلين إلى مذهب الأشاعرة في كثير من المسائل، إلا أنه هنا وقف وقفة الإمام المحدث، وهذا هو الصحيح، ولهذا فإن هذه الرواية صحيحة، ولا كلام فيها، وحتى لو فرض أن البخاري رحمه الله تعالى علق مثل هذه الرواية فإنه لا يطعن فيها؛ لأنها رويت عند غيره بأسانيد صحيحة، بل إن إثبات أن كلام الله بصوت وارد بأدلة كثيرة جداً، ولا يمكن أن يقول قائل: إن موسى عليه الصلاة والسلام سمع كلام الله بلا صوت، ومن قال ذلك فإنه قال ما لا يعقل.

نداء الله لموسى عند تكليمه بصوت يسمعه

نداء الله لموسى عند تكليمه بصوت يسمعه ثم إن المصنف رحمه الله تعالى قال: [وفي بعض الآثار أن موسى عليه السلام ليلة رأى النار فهالته، ففزع منها، فناداه ربه: يا موسى! فأجاب سريعاً استئناساً بالصوت. فقال: لبيك لبيك ولبيك، أسمع صوتك، ولا أرى مكانك، فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك، وأمامك، وعن يمينك، وعن شمالك. فعلم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى، قال: كذلك أنت يا إلهي، أفكلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي يا موسى] . هذا الأثر إسرائيلي ضعيف لا يؤخذ به، رواه وهب بن منبه ووهب بن منبه معروف بالروايات الإسرائيلية، لهذا فإن هذا المقطع من قصة موسى أورده السيوطي في تفسيره (الدر المنثور) في تفسير سورة (طه) الآية العاشرة، حيث ذكر أثراً طويلاً جداً بلغ صفحات، وذكر منه هذا، وقال السيوطي: أخرجه أحمد في (الزهد) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه. فإذاً: هذا الأثر رواه وهب بن منبه، فهو أثر إسرائيلي، وعلى هذا فلا يعتد به، لهذا فالأولى بمثل هذا الأثر أن يطرح ولا يؤخذ به، والقضية التي أشار إليها ابن قدامة رحمه الله تعالى قد وردت لها أدلة أخرى في الأحاديث الصحيحة، فمثل هذه الآثار الإسرائيلية لا يؤخذ بها، بل إنني أرى أن متنها فيه نكارة؛ لأنه قال: فأين أنت، قال: (أنا فوقك، وأمامك، وعن يمينك، وعن شمالك) إلى آخره، وهذا الكلام كلام غير صحيح وغير دقيق لهذا، فما سبق أن ذكرناه كافٍ في بيان ضعف هذه الرواية، وأنها رواية إسرائيلية.

الكلام على القرآن الكريم

الكلام على القرآن الكريم

بيان أن القرآن الكريم من كلام الله عز وجل

بيان أن القرآن الكريم من كلام الله عز وجل ثم إن المصنف رحمه الله تعالى انتقل من الحديث عن إثبات كلام الله إلى قضية أخرى متعلقة بكلام الله تعالى، ألا وهي القرآن العظيم الذي أوحاه الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: [فصل: ومن كلام الله سبحانه القرآن العظيم] . تكلم الله بالتوراة وبالإنجيل وبالزبور، وكلم أنبياءه، ومن كلامه أيضاً القرآن العظيم. ثم قال عن القرآن: [وهو كتاب الله المبين] . ولا شك أنه كتاب الله الذي أبان الله به المحجة، فهو مبين مفصل محكم، كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة بأنه هدىً ونور وفرقان، ولا يكون هدىً ونوراً وفرقاناً وضياءً إلا إذا كان بين الدلالة واضحاً؛ يقرؤه الجميع فيتعظون به، ويفهمونه على مختلف مستوياتهم؛ فلا يمكن أن يقول قائل: أنا أقرأ القرآن من أوله إلى آخره ولا أفهم منه شيئاً؛ فإن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] . فالقرآن فيه أحكام وفيه مسائل وفيه قضايا لا يعلمها إلا الراسخون في العلم، لكن فيه مواعظ يفهمها الجميع، حتى المرأة وحتى الصغير وحتى العامي، وهذا من نعم الله سبحانه وتعالى على عباده. ثم قال: [وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين] . ولا شك أن من اعتصم بالقرآن واستمسك به فقد استمسك بالعروة الوثقى، واستمسك بهذا الدين القويم؛ فهو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، وهذا واضح المعنى. وقوله: (وتنزيل رب العالمين) هذا كما ورد في آيات كثيرة، منها: قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] ، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] ، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] ، وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً} [الكهف:1] ، وغيرها من الآيات.

نزول جبريل عليه السلام بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم

نزول جبريل عليه السلام بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال المصنف: [نزل به الروح الأمين] . الروح: هو جبريل عليه السلام، والأمين: وصف لجبريل؛ لأنه كان أمين وحي الله سبحانه وتعالى، ولا شك أنه أمين؛ فإن الله سبحانه وتعالى استأمنه على الوحي الذي أوحاه إلى رسله عليهم الصلاة والسلام. قال: [نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين] . وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد في الآيات الكريمات، أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكر القلب هنا؛ لأن القلب هو الذي يعي؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه الوحي فيأخذه غشيان عظيم يشبه الغيبوبة، فيفصم عنه، فإذا به عليه الصلاة والسلام قد وعى كل ما أوحى إليه به جبريل عليه الصلاة والسلام. والوحي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم على صور متعددة، لكن هذا هو الأكثر والأغلب، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم إذا نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم الوحي يسترونه، فيضعون عليه أحياناً لفافاً، وأحياناً يضعون عليه رداءً؛ لأن الوحي يشتد عليه، ولهذا لما نزل قول الله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95] ، نزلت هذه الآية وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، قال: (وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فكادت فخذي أن ترض) ، وهذا من شدة ثقل الوحي. وأحياناً كان الوحي ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو على ناقة فتبرك الناقة، وأحياناً تضع رقبتها على الأرض وتحكها في التراب حكاً لشدة ثقل الوحي، والله سماه ثقيلاً فقال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5] ، فكان ثقيلاً حتى في تنزله. وأول مرة نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم غطه الملك غطة شديدة؛ حتى ظنه عليه الصلاة والسلام الموت. فكان الوحي ينزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، لكن بعد أن ينتهي الوحي ويفصم عنه يكون صلى الله عليه وسلم قد وعى جميع ما قال، ولهذا كان بعض الصحابة يحرص ما استطاع أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل إليه، فبعضهم يقول: قلت لـ عمر بن الخطاب: أريد أن أرى الرسول وهو يوحى إليه، ففي يوم من الأيام كان يوحى إليه، قال: فرفع الستار ونظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه، وقد اشتد عليه الوحي عليه الصلاة والسلام. ثم قال المصنف رحمه الله: [على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين] . وهو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم وسيد الأولين والآخرين. وقوله: (بلسان عربي مبين) هذا واضح جداً، كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف:2] . فالله سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن العظيم بلسان محمد وقومه الذي هو العربية.

بيان أن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود

بيان أن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ثم قال: [منزل غير مخلوق] . وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن القرآن منزل؛ لأه كلام الله، وأنه غير مخلوق، لا كما يقول المعتزلة كما بينا سابقاً. ثم قال: [منه بدأ وإليه يعود] . أي: أن هذا القرآن بدأ من الله تعالى؛ لأن الله هو الذي تكلم به، والكلام ينسب إلى من بدأ به متكلماً، وقد ذكرنا هذا وضربنا له مثلاً بقصيدة امرئ القيس المعلقة التي تنقل منذ عهد الجاهلية إلى الآن، وهذا أحياناً يشرحها، وهذا أحياناً يسجلها بصوت، لكن المعلقة معلقة امرئ القيس؛ لأن المعلقة هي لمن قالها مبتدئاً، وكذلك أيضاً -ولله المثل الأعلى- هذا القرآن العظيم؛ فهو كلام الله؛ لأنه سبحانه هو الذي ابتدأ هذا الكلام، ومن هنا قال السلف رحمهم الله تعالى كما قال ابن قدامة هنا: منه بدأ. وقوله: (وإليه يعود) ، أي: إلى الله سبحانه وتعالى يعود ويرجع هذا القرآن في آخر الزمان، كما ورد في ذلك عدد من الأحاديث والآثار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عدد من الصحابة، منهم عبد الله بن مسعود وأبو هريرة، وهذا أيضاً مما لا يقال بالرأي، فيكون له حكم الرفع. فقد ورد في ذلك ما يدل على أن هذا المصحف أو هذا القرآن يرفع في آخر الزمان من صدور الرجال، ويرفع من الكتب، ويرفع من المصاحف، فيعود إلى الله سبحانه وتعالى، وقد ورد في ذلك حديث صحيح رواه الحاكم وصححه، ورواه ابن ماجة في سننه، وهو أيضاً حديث صحيح، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب) ، ومعنى (يدرس) : ينقرض، يعني: ينقرض الإسلام شيئاً فشيئاً، والوشي هو النقوش التي على الثوب، فإذا كان الثوب ملوناً وعليه نقوش وزهور فإنها مع قدم الزمن تبدأ تنمحي، فشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم اندراس الإسلام باندراس هذه النقوش التي على الثوب. قال صلى الله عليه وسلم: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب؛ حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه حرف) ، ومعنى (يسرى) : أنه يأتي يوم على كتاب الله تعالى فيمحى ويزال من صدور الرجال ومن الأوراق، حتى لا يبقى منه آية، ويرفع إلى السماء، وهذا هو الشاهد هنا: أنه إليه يعود. يقول في بقية الحديث: (وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها) ، هكذا رواه ابن ماجة، وفي رواية الحاكم: قال: صلة بن زفر لـ حذيفة: (ما تغني عنهم لا إله إلا الله؛ وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة، فأعرض عنه، ثم ردها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة، تنجيهم من النار، ثلاثاً) ، قال: الحاكم صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال البوصيري: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وصححه الألباني؛ حيث ذكره في السلسلة الصحيحة رقم الحديث (87) . إذاً: الشاهد هنا: أنه يسرى على هذا الكتاب ولا يبقى منه آية في الأرض، وهذا معناه عودته إلى الله سبحانه.

حكم ترك الصلاة عند اندراس الإسلام

حكم ترك الصلاة عند اندراس الإسلام وهنا مسألة خارجة عن الموضوع، لكن أحببت أن أشير إليها للفائدة: فهذا الحديث قد يحتج به من لا يرى كفر تارك الصلاة، فيقول: إن هؤلاء لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا حج ولا صدقة، وحذيفة يقول: (تنفعهم لا إله إلا الله) ، فدل ذلك على أن من مات وهو يقول لا إله إلا الله فهو من أهل الجنة، وأن تارك الصلاة لا يقتل. أقول معلقاً على هذه القضية: الذي يظهر لي -والله أعلم- أن هذا الحديث ليس فيه حجة لمن قال بذلك، صحيح أن ظاهره أنه قال: (تنفعهم لا إله إلا الله) ، لكن الحديث إنما هو في آخر الزمان الذي درست فيه أمور الإسلام، فصار هؤلاء لا يعرفون إلا لا إله إلا الله، فإذا كانوا لا يعرفون صلاة ولا صياماً فهل يحاسبون عليها؟ A لا يحاسبون عليها، فحالهم شبيه بمن أسلم وهو حديث عهد بالإسلام، ولم يعرف أحكام الصلاة ولا غيرها، ثم إنه مات، فهذا تنفعه لا إله إلا الله، لكنه لو علم الصلاة، وقامت عليه الحجة بها، فعلى القول بأنه يكفر -وهو الصحيح- لا تنفعه لا إله إلا الله، بل لابد أن يؤدي الصلاة. وكذلك هؤلاء الذين يأتون في آخر الزمان وقد اندرست تلك الأمور العظام من أمور الإسلام، فهؤلاء غير مكلفين بها. إذاً: إذا لم يبق معه إلا لا إله إلا الله فإنها تنفعه، وأظن أن المسألة واضحة، والعلم عند الله تعالى.

ترتيب سور وآيات القرآن الكريم

ترتيب سور وآيات القرآن الكريم ثم قال: [وهو سور محكمات، وآيات بينات، وحروف وكلمات] . القرآن كما هو معلوم سور، وأما تقسيم السور وترتيب الآيات فهو توقيفي لم يكن عن اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وإنما كان بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما اختلف العلماء في مسألة ترتيب السور في المصحف، هل هو ترتيب اجتهادي من عند الصحابة أم أن الأمر موقوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والذي يترجح -والعلم عند الله تعالى- أن ترتيبها أيضاً ليس عن اجتهاد من الصحابة، وإنما هو عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يقرءوا القرآن على العرضة الأخيرة التي عرضها عليه جبريل، فإن جبريل في رمضان الأخير الذي انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم بعده إلى الرفيق الأعلى دارس النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن مرتين، فلابد أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ أولئك الصحابة تلك العرضة الأخيرة، ومنها ترتيب سور القرآن. وقوله: (وهو سور محكمات) ، لا شك أن القرآن كله محكم كما بينا. وقوله: (وآيات بينات) أي: واضحة الدلالات. وقوله: (وحروف وكلمات) لا شك أيضاً أن القرآن حروف وكلمات، ومن قال: إن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت فإنه مخطئ، بل كلام الله حروف، والقرآن حروف، وسيأتينا الأدلة الكثيرة التي تدل على أن هذا القرآن العظيم حروف، وأما أولئك الذين قالوا: إن الله يتكلم بغير حرف ولا صوت، أنكروا الأدلة الظاهرة، فما أوصلهم إلى مثل هذا إلا اعتقادهم الفاسد أن كلام الله سبحانه وتعالى إنما هو الكلام النفسي القائم بذاته. إذاً: القرآن الكريم حروف وكلمات، فالله سبحانه وتعالى تكلم به، ونحن نتلوه، وهو كلام الله سبحانه وتعالى.

أجر قراءة القرآن

أجر قراءة القرآن ثم قال: [من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات] . لم يذكر المصنف أن هذا حديث مرفوع أو مروي، وقد ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الطبراني وفيه: عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعربوا القرآن؛ فإن من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، وكفارة عشر سيئات، ورفع عشر درجات) ، وهذا الحديث ضعيف، لكن ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في مضاعفة الحسنات حديث صحيح رواه الترمذي، وفيه أيضاً: عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول. (آلم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، وهذا الحديث الصحيح يغني عن حديث: (من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات) . وقوله: (أعربه) المقصود به أنه تلاه تلاوة صحيحة لم يلحن فيها.

القرآن الكريم له أول وآخر وأجزاء وأبعاض

القرآن الكريم له أول وآخر وأجزاء وأبعاض قال ابن قدامة رحمه الله: [له أول وآخر] . أي: أن القرآن له أول وله آخر، ونقول: إنه مفتتح بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، ومختتم بقوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:6] . ثم قال: [وأجزاء وأبعاض] . نقول: القرآن ثلاثون جزءاً، كما نقول: معك جزء من القرآن، ويقول القائل: معي بعض القرآن، أو معي سور منه، أو معي سورة كذا، وهذا كله واضح، فهذا القرآن العظيم تكلم الله به بمشيئته وإرادته. وفي قوله (أجزاء وأبعاض) رد على من يزعم أن كلام الله عز وجل واحد؛ لأن الأشعرية يقولون: كلام الله واحد لا يتبعض ولا يتجزأ، وإن القرآن والتوراة والإنجيل واحد، لكن لما عبر عنه بالعربية صار قرآناً، وبالعبرية صار توراة، وبالسريانية صار إنجيلاً، وهذا خطأ؛ لأن القول بأن كلام الله واحد لا يتبعض غير صحيح، ولهذا قال لهم العلماء: إذا قلتم إن كلام الله واحد، فموسى لما سمع كلام الله هل سمع كلام الله كله أو بعضه؟ فإن قلتم: بعضه، نقضتم قولكم، وإن قلتم: كله، كان قولكم باطلاً؛ لأنه لا يعقل أن يكون موسى سمع كلام الله كله؛ لأن كلام الله عز وجل لا يتناهى، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] ، ولا مفهوم للعدد هنا، فلو جاء سبعة وسبعة وسبعة ما نفدت كلمات الله. إذاً: الصحيح: أن موسى سمع ما كلمه الله سبحانه وتعالى به.

القرآن كلام الله عز وجل كيفما تصرف

القرآن كلام الله عز وجل كيفما تصرف قال المصنف رحمه الله: [متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان] . فالمتلو بالألسنة هو كلام الله، لكن الألسنة التي تلت والصوت الذي تلي به ينسب للمخلوق. إذاً الكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري، ولهذا قال: (محفوظ في الصدور) ، فإذا قيل: فلان حافظ لكتاب الله تعالى، فهذا المحفوظ هو كلام الله القرآن، لكن صدره وما في صدره من قلب وما في رأسه من دماغ وغير ذلك هذا كله مخلوق، لكن كلام الله تعالى غير مخلوق. فإذا كتب هذا المصحف على الأوراق فهذا المكتوب هو كلام الله. إذاً: هو أينما تصرف وكيفما تصرف فهو كلام الله، أما صوت القارئ، وأما صدر الحافظ، وأما أذن السامع، وأما المداد والحبر، وأما الورق المكتوب به فهذه كلها مخلوقة.

من القرآن محكم ومتشابه وعام وخاص وناسخ ومنسوخ

من القرآن محكم ومتشابه وعام وخاص وناسخ ومنسوخ ثم قال: [فيه محكم ومتشابه] . سبق أن ذكرنا المحكم والمتشابه، وذكرنا أن القرآن فيه ذلك، كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] . وسبق أن بينا أن القرآن كله محكم الإحكام العام، وكله متشابه، أي: يشبه بعضه بعضاً، وفيه آيات محكمات ومتشابهات، وقلنا: إن التشابه أمر نسبي، بمعنى: أنه قد يشتبه على بعض الناس، لكن قد لا يشتبه على الآخرين، وقد سبق أن وضحنا هذه القضية. ثم قال: [وناسخ ومنسوخ] . قال الله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] . والمنسوخ ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما نسخت تلاوته وأحكامه. القسم الثاني: ما نسخت تلاوته وبقي حكمه. القسم الثالث: ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته. وتحصيل هذا في كتب علوم القرآن. ثم قال: [وخاص وعام] . أي: أن فيه آيات خاصة بالنبي، وفيه آيات خاصة بالقضية الفلانية، وفيه آيات تأتي للعموم، وهذا واضح جداً. ثم قال: [وأمر ونهي] . أي: أوامر ونواهٍ، وهذا أيضاً مشاهد.

حفظ الله عز وجل للقرآن وإعجازه وبلاغته

حفظ الله عز وجل للقرآن وإعجازه وبلاغته ثم أخذ المصنف يستدل لذلك بالآيات فقال: [ {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]] . أي: لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه، بل هو تنزيل من حكيم حميد سبحانه وتعالى، والآية واضحة. [وقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]] . أي: مظاهراً ومساعداً، فلا يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، بل ولا يمكن أن يأتوا بسورة منه ولا بآية، ولهذا صنع وجود الخلاف بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش وهم أفصح العرب تحدياً، وقد حلفوا كل الحلف على معاندته إلا أنهم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، فبقي هذا القرآن معجزة، وهذا أيضاً واضح جداً.

معرفة العرب أن القرآن كلام الله، وطعنهم فيه

معرفة العرب أن القرآن كلام الله، وطعنهم فيه ثم قال رحمه الله تعالى: [وهو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} [سبأ:31]] . وهذا للاستدلال على أن هذا القرآن هو كلام الله، وأن هذا المتلو بالأحرف العربية والكلام العربي هو كلام الله، فهذا يدل على أنه كلام الله، وأن الله تكلم به بحرف وصوت. ثم قال: [وقال بعضهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، فقال الله سبحانه وتعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26]] . وقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، معروف أن هذا قاله المشركون، وورد في بعض الروايات أن الذي قال هذا هو الوليد بن المغيرة. وقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] أي: ما هو إلا قول محمد، وليس كلام الله سبحانه وتعالى، فكذبهم الله سبحانه وتعالى ورد عليهم بقوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، وهذا لبيان أن دعواه أنه قول البشر كذب، بل هو كلام الله سبحانه وتعالى، فكيف يأتي قائل ويقول: هذا كلام محمد، أو يقول: إنه مخلوق؟! بل هو كلام الله منزل غير مخلوق، وهذا نص صريح على أن الله تكلم به، وأنه كلام الله تعالى، ولهذا رد الله على ذلك المشرك الباغي الذي قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، فمن قال: إنه قول محمد فهو شبيه بـ الوليد بن المغيرة الذي قال: إن هو إلا قول البشر، نسأل الله السلامة والعافية. ثم قال المصنف رحمه الله: [وقال بعضهم هو شعر، فقال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69]] . أي: ما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم الشعر، وما ينبغي للرسول أن يكون شاعراً، وإنما هذا الذي بلغكم إياه هو كلام الله سبحانه وتعالى وذكر مبين. فسموه شعراً لأن الشعر أحرف وكلمات، لكن الله سبحانه وتعالى رد عليهم فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] . إذاً: هذا القرآن هو كلام الله وليس كلام شاعر، وهذا يدل على أن العرب كانوا يفهمون من القرآن أنه كلمات شبيهة بكلام العرب وأحرف وكلمات شبيهة بكلام الشعراء، ولهذا قالوا: هو شعر، فرد الله عليهم ببيان أنه ليس بقول شاعر، وأن الرسول لا ينبغي له أن يكون شاعراً، وإنما هو كلام الله سبحانه وتعالى. ويفهم من هذا أن القرآن كلام الله، وأنه كلمات، وأنه حروف، وأن العرب فهموا منه هذا، ولهذا لم يعترضوا على هذا وإنما اعترضوا على أن يكون كلام الله سبحانه وتعالى. أما أولئك المتكلمون فإنهم يقرون أنه من الله، لكن ينكرون أن يكون كلام الله، ولا شك أن كلامهم غير صحيح. ثم قال ابن قدامة رحمه الله: [فلما نفى الله عنه أنه شعر وأثبته قرآناً لم يبق شبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو كلمات وحروف وآيات؛ لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد إنه شعر] . وهذا كلام واضح الدلالة من ابن قدامة رحمه الله تعالى؛ فهو تعليق جيد بين القضية التي شرحناها قبل قليل، فالعرب على فطرتهم كانوا أفقه -وإن كانوا كفاراً- في مثل هذه المسائل من أولئك المتمسلمين الذين خاضوا في هذه المسائل بلا علم.

تحدي الله عز وجل للعرب ببلاغة القرآن الكريم

تحدي الله عز وجل للعرب ببلاغة القرآن الكريم ثم قال رحمه الله تعالى: [وقال عز وجل: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة:23]] . أي: إن كنتم في شك من ذلك فائتوا بسورة من مثل هذا القرآن، وابتدعوا نبوة وديانه جديدة، ثم ادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، لكنهم لا يستطيعون. ولهذا قال المصنف رحمه الله: [ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يدرى ما هو ولا يعقل] . وهذا صحيح، إذ لا يمكن أن يتحداهم إلا بشيء هم يفهمونه، ولهذا افتتح الله السور بالحروف المقطعة، تحدياً للعرب، فلما يقول: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1-2] ، كأنه يقول: يا أيها العرب! هذا القرآن هو من الحروف التي أنتم تتكلمون بها، وكلامكم كله يرجع إلى هذه الحروف، وهذا القرآن أيضاً هو متلو بهذه الحروف، ومع ذلك هو كتاب الله لا ريب فيه نزله الله على عبده، وهنا في هذه الآية يقول: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] ، أي: من مثل هذا القرآن العربي، وطبعاً هم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يأتوا بمثله. الشاهد هنا: أنه لو لم يكن هذا القرآن المتلو هو كلام الله سبحانه وتعالى بكلماته وحروفه لما صح في التحدي أن يقال لهم: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] ، وهذا بين واضح جداً. ثم قال: [وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس:15]] . قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} [يونس:15] ، أي: أن هذا قرآن يتلى عليهم، فإذا تلي عليهم قالوا: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس:15] . إذاً: هذا القرآن المتلو ليس كلاماً لمحمد؛ وإلا لما قالوا: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس:15] ، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس:15] ؛ لأن هذا وحي من الله سبحانه وتعالى، ولو كان كلاماً من عنده لقال: لا أريد أن أقول إلا هذا! لكن قال: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس:15] ، أي: وإنما هو وحي أوحاه ربي إلي، هكذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال المصنف: [فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم. وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]] . أي: أن القرآن آيات بينات في صدور المؤمنين حفظة كتاب الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن هذا المحفوظ في الصدور هو كلام الله تبارك وتعالى.

كتابة القرآن الكريم في اللوح المحفوظ

كتابة القرآن الكريم في اللوح المحفوظ ثم قال: [وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77-79] ، بعد أن أقسم على ذلك] . وبداية الآيات: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:75-78] ، أي محفوظ، كما قال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:49] . فما هو هذا الكتاب المكنون الذي (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) ؟ اختلف العلماء فيه على قولين: قيل: إنه القرآن، أي: المصحف، وقيل: إنه المكتوب في اللوح المحفوظ، وهذا هو الراجح، ولهذا قال: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] . فهذا خبر في أن هذا القرآن في ذلك اللوح المحفوظ، وأن ذلك اللوح المحفوظ لا يقربه إلا المطهرون، وهم الملائكة، لكن على القول الأول أنه المصحف فقد يمسه غير المطهر، بل قد يمسه المشرك، فهذا يرجح أن المقصود بالآية أنه مكتوب في اللوح المحفوظ. إذاً لما كان مكتوباً في اللوح المحفوظ ومسطراً بحروفه وكلماته فهو كلام الله سبحانه وتعالى.

الحروف المقطعة في القرآن الكريم

الحروف المقطعة في القرآن الكريم ثم قال: [وقال تعالى: {كهيعص} [مريم:1] ، {حم * عسق} [الشورى:1-2] ، وافتتح تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة] . أراد المصنف رحمه الله تعالى بهذا الكلام أمرين: أحدهما: أن {كهيعص} [مريم:1] ، حروف، وهي من كلام الله، وداخلة في القرآن. وكذلك أيضاً: {حم * عسق} [الشورى:1-2] ، وكذلك {ن} [القلم:1] ، {الم} [البقرة:1] إلى آخره. وقوله: (وافتتح الله تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة) ، أي: أن كل هذه السور افتتحت بهذه الحروف المقطعة، وذكر الله سبحانه وتعالى القرآن بعد كل حروف مقطعة من هذه السور، إلا في موضع واحد، فمثلاً: قال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، وقال: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] ، وقال: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] ، وقال: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] ، وقال: {حم} [الأحقاف:1] ، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [الأحقاف:2] ، وهكذا كل السور بعد الحروف المقطعة ذكر فيها القرآن العظيم، وهذا دليل على أن هذه الحروف هي كلام الله، وعلى أن المقصود -والعلم عند الله تعالى- من هذه الحروف: بيان إعجاز القرآن العظيم، وكأن الله يقول للمشركين: هذه هي الحروف، ومع ذلك هذا القرآن العظيم من عند الله سبحانه وتعالى وأنتم لا تستطيعون أن تأتوا بمثله، وهذا يدل على أن هذا القرآن حروف وكلمات، وأنه كلام الله تعالى. وأما الموضع الذي افتتحت فيه السورة بالحروف المقطعة ولم يذكر بعده القرآن فهي سورة مريم: {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:1-3] . فما ذكره بعضهم من أنه لم تذكر الحروف مقطعة إلا ويذكر فيها كلام الله يستثنى منه هذه السورة، وما قصده ابن قدامة رحمه الله تعالى واضح جداً. نكتفي بهذا، ونستكمل -إن شاء الله تعالى- في الدرس القادم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

إطلاق لفظ (شيء) على جميع المخلوقات

إطلاق لفظ (شيء) على جميع المخلوقات Q من المعلوم أن الله خالق كل شيء، ولكن هناك أشياء غير محسوسة، فهل اللهجات أو اللغات محسوسة؟ وهل يطلق الشيء على كل شيء محسوس أم لا؟ A أولاً: بالنسبة للهجات أو اللغات هي محسوسة، أما بالنسبة لعموم خلق الله سبحانه وتعالى فيطلق عليها شيء، فالله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، وكل شيء موجود سواء كان من الأمور المحسوسة أو غير المحسوسة فهو مخلوق لله سبحانه وتعالى، وكل ما سوى الله سبحانه وتعالى فهو مخلوق.

كتابة القلم للقرآن الكريم

كتابة القلم للقرآن الكريم Q قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: رب! وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فهل كتب القلم القرآن؟ A ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: رب! وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، أما بالنسبة لكلام الله سبحانه وتعالى فكلام الله صفة من صفاته، وورد أن القرآن العظيم مكتوب مذكور في اللوح المحفوظ، فهل كتبه القلم في ذلك الوقت أم بعد ذلك هذا علمه عند الله سبحانه وتعالى.

تكليم الملائكة لله عز وجل

تكليم الملائكة لله عز وجل Q هل للملائكة أن يكلموا الله سبحانه وتعالى متى شاءوا؟ A بالنسبة للتكليم فإن كل إنسان يكلم ربه؛ فأنت إذا دعوت ربك سبحانه وتعالى وقلت: يا ألله! يا رب اغفر لي، فأنت تكلم ربك، أما إذا كنت تقصد الكلام الذي يكلم الله فيه عبده حقيقة، فهذا لا يكون إلا من الله سبحانه وتعالى.

اندراس الإسلام في بعض الأماكن في هذه الأزمنة

اندراس الإسلام في بعض الأماكن في هذه الأزمنة Q هل ينطبق كلام حذيفة على تلك المجتمعات التي غابت عن الدين سنين طويلة، وغير ذلك؟ A نعم؛ غربة الدين قد تنطبق على بعض البلاد الإسلامية في بعض الأوقات، وحديث حذيفة الذي فيه: (يدرس الإسلام في آخر الزمان كما يدرس وشي الثوب؛ حتى لا يعرف الناس ما صلاة ولا صيام ولا حج ولا صدقة، ولا يعرفون إلا كلمة (لا إله إلا الله) ، فسئل حذيفة: هل تنفعهم لا إله إلا الله؟ فقال: نعم، تنفعهم لا إله إلا الله) ، فنقول: نعم، قد يندرس الإسلام في بعض البلاد، وقد اندرس، وأقرب مثال على ذلك ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي، فإن الإسلام هناك كان منتشراً في كثير من الجمهوريات، ولكن على مدى حكم الشيوعية سبعين عاماً كاد الإسلام أن يندرس؛ حتى إن الناس هناك في كثير من أحوالهم لا يعلمون من الإسلام إلا قليلاً.

حكم تكفير الخوارج

حكم تكفير الخوارج Q هل الخوارج كفار؟ A اختلف العلماء في كفرهم، والصحيح أنهم لا يكفرون؛ فقد سئل عنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أكفار هم؟ قال: (من الكفر فروا) ، فهم وقعوا في بدعة التكفير، فلا نقع نحن في بدعة التكفير فنكفرهم، هذا هو القول الراجح إن شاء الله تعالى، وإن كان يطلق على بدعهم أنها بدع كفرية.

حكم كتابة القرآن كتابة إملائية

حكم كتابة القرآن كتابة إملائية Q هل يجوز كتابة القرآن مرة أخرى حسب كتابتنا التي في الوقت الحاضر؟ A إذا كان المراد كتابة القرآن كاملاً فلا يجوز كتابته بالرسم الحديث، بل الواجب كتابته بالرسم العثماني ولو خالف الرسم الإملائي الحديث؛ لأن القراءات مرتبطة بالخط العثماني، وليست مرتبطة برسومنا نحن واصطلاحاتنا المتأخرة، فمن الواجب أن يبقى الخط العثماني تكتب به المصاحف، وألا يغير أبداً، أما إذا كتب الإنسان آية ضمن كتاب معين أو ضمن صفحة من الصفحات أو نحو ذلك، فلا بأس بأن يكتبها بالرسم العثماني أو يكتبها بالرسم الحديث.

تفاوت أجر الذين يقرءون القرآن

تفاوت أجر الذين يقرءون القرآن Q هل تضعيف الحسنات خاص بمن يتلو القرآن من دون لحن، كما قال المؤلف؟ A لا شك أن قارئ القرآن مأجور، لكن الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به له أجر أكبر، كما ثبت في الحديث: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران) ، فالأجر ثابت، لكن الماهر بالقرآن أكثر وأعظم أجراً عند الله سبحانه وتعالى.

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [8]

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [8] من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون رؤية المؤمنين لربهم عز وجل يوم القيامة، كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، ويؤمنون أن رؤية الله عز وجل هي أعظم نعيم أهل الجنة، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويردون على من أول ذلك. ومن عقيدتهم أيضاً الإيمان بالقضاء والقدر، وأنه سر الله في خلقه، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فعلى العبد الرضا والتسليم.

فضل قراءة القرآن وحكم من أنكر شيئا منه

فضل قراءة القرآن وحكم من أنكر شيئاً منه

خسارة من يتعجل أجر تلاوته في الدنيا

خسارة من يتعجل أجر تلاوته في الدنيا قال المصنف رحمه الله تعالى وهو يتكلم عن موضوع القرآن: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة) ، حديث صحيح] . قول ابن قدامة رحمه الله تعالى عن هذا الحديث: (حديث صحيح) هذا قول مرجوح، ولعل المصنف رحمه الله تعالى اختلط عليه هذا الحديث بالحديث الآخر الصحيح الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ((الم)) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، وهذا الحديث رواه الترمذي، وهو حديث صحيح. أما الحديث الذي أورده المصنف هنا وفيه: (من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة) ، ثم قال فيه: (حديث صحيح) فهذا الحديث رواه الطبراني وغيره، وفي سنده رجال ضعفاء، ومن ثمَّ فإن الحديث ضعيف. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا القرآن، قبل أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة السهم، لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون أجرهم ولا يتأجلونه) ] . هذا الحديث رواه الإمام أحمد وغيره، وهو حديث صحيح الإسناد، وهذا الحديث رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. وقوله: (إقامة السهم) يعني: أنها إقامة قوية صحيحة دقيقة، يعني: أنهم يقرءونه ويتلونه تلاوة طيبة جيدة مجودة، ولهذا قال: (يقيمون حروفه إقامة السهم) ، لكن قال عليه الصلاة والسلام: (لا يجاوز تراقيهم) ، والترقوة: هي الحلق، يعني: لا يجاوز حلوقهم، ولماذا لا يجاوز حلوقهم؟ لأنهم لا يتلونه لله سبحانه وتعالى، وإنما يتلونه ليقال: فلان قارئ فلان مقرئ فلان مجود فلان ما أحسن قراءته ما أطول تلاوته! كما هو مشاهد في الأزمنة المتأخرة؛ حيث صار التنافس على القراءة وعلى تجوديها وعلى ما يتعلق بها، بل صار هذا التنافس كبيراً، ومن ثمَّ وقع بعض هؤلاء القراء في أنهم يتعجلون أجرهم في الدنيا، بأن يريد الواحد منهم أن يقال عنه في الدنيا: إنه قارئ مجود. وقوله: (ولا يتأجلونه) ، أي: لا يقرءون القرآن يقصدون به وجه الله سبحانه وتعالى، ويطلبون فيه الأجر من الله تبارك وتعالى يوم القيامة، وهذا مثل بعض الناس الذي يفعل بعض الأمور يريد أجره عاجلاً، فمثلاً: بعض الناس يصبح تاجراً أو غنياً، فيتصدق بالصدقات يريد أن يحمى ماله فقط، وليس له هدف من الصدقة إلا أن تحمي ماله، أو أن تشفي مريضه، ولا يريد بذلك الأجر والثواب عند الله سبحانه وتعالى، فهذا يعجل له ثوابه في الدنيا، لكن لا يجد ثواب صدقته يوم القيامة. وكذلك أيضاً هذا الصنف من القراء يقرأ أحدهم القرآن يريد الشهرة في الدنيا، ولا يريد الأجر والثواب عند الله سبحانه وتعالى، فهذا قد يعجل له ثوابه في الدنيا، فينال بذلك شهرة وسمعة وثناءً ومنزلة إلى آخره، لكنه يوم القيامة لا يجد أجر ذلك وثوابه عند الله سبحانه وتعالى.

فضل إعراب القرآن وتلاوته

فضل إعراب القرآن وتلاوته قال المصنف رحمه الله: [وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: (إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه) ] . أي: أن كون الإنسان يعرب القرآن ويتلوه تلاوة صحيحة أحب من أن يحفظه على خطأ في الإعراب، وكون الإنسان يحفظ قليلاً من القرآن حفظاً متقناً وهو ماهر به أفضل من أن يحفظ هذا القدر أو أكثر منه وهو غير متقن له، وما روي عن أبي بكر وعمر رواه ابن الأنباري في كتابه المشهور (الوقف والابتداء) ، لكن إسناده إلى أبي بكر أو عمر ضعيف.

حكم من كفر بحرف من القرآن الكريم

حكم من كفر بحرف من القرآن الكريم ثم قال المصنف: [وقال علي رضي الله عنه: (من كفر بحرف فقد كفر به كله) ] . هذا الكلام لـ علي بن أبي طالب مروي عنه بسند صحيح، رواه عنه ابن أبي شيبة في المصنف، وأيضاً رواه عنه ابن جرير في مقدمة تفسيره، وهو أثر موقوف صحيح إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما دل عليه قول علي رضي الله عنه وأرضاه صحيح. ولهذا قال المصنف رحمه الله تعالى بعد ذلك: [واتفق المسلمون على عد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه، ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفاً متفقاً عليه أنه كافر، وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف] . فقول علي رضي الله عنه وأرضاه: (من كفر بحرف فقد كفر به كله) قد أجمع العلماء على أن من كفر بحرف من القرآن متفق عليه -أي: اتفق عليه العلماء- ثم أنكره فهو كافر، وهذا يشبه من أنكر القرآن كله أو سورة من سوره أو جزءاً من أجزائه، وهذه قضية واضحة جداً شبيهة بقولنا: من كفر برسول ورد ذكره في القرآن فقد كفر بجميع الرسل، فلو أن إنساناً آمن بالرسل جميعاً وصدق بهم واتبع محمداً صلى الله عليه وسلم ثم إنه قال: أنا لا أؤمن برسالة نبي الله صالح أو نبي الله هود أو غيرهما من الأنبياء فإنه يكون كافراً، بل هو كافر بجميع الرسل؛ لأن السبب الذي من أجله آمن ببقية الرسل موجود في صالح أو في هود، فإذا كفر بواحد فكأنه كفر بالبقية، وكذلك هنا من كفر بحرف من كتاب الله تعالى مجمع عليه فقد كفر بالقرآن كله؛ لأن السبب الذي من أجله أيقن بأن بقية حروف في القرآن كلام الله موجود في هذا الحرف الذي أنكره، فإذا أنكر هذا الحرف فكأنه أنكر القرآن كله، وهذا بإجماع المسلمين، ولم يخالف في ذلك أحد. وقوله: (واتفق المسلمون على عد سور القرآن) ، يقولون: في القرآن مائة وأربع عشرة سورة، ويعددون آياته، ويعددون كلماته، بل ويعددون حروفه، حتى ذكروا عدد حروف القرآن من أوله إلى آخره، وهذا كله دليل على أن القرآن حروف وكلمات، وهذه القضية أراد المصنف أن يبين بها أن مذهب أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله، وأنه حروف وكلمات، وهذا بخلاف ما ذكره المبتدعة من الأشعرية والماتريدية وغيرهم ممن سار على طريقتهم في قولهم: إن القرآن كلام الله، لكن ليس بحروف، فأما أهل السنة والجماعة فيثبتون أنه حروف، وقد سبقت الأدلة على ذلك. وقوله: (ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفاً متفقاً عليه أنه كافر) ، وهذا لا شك فيه، وهو مقرر في كتب العلماء رحمهم الله تعالى. وقوله: (وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف) أي: أن المصنف في هذا الكلام الأخير وفيما قبله مما ذكرناه في الدرس السابق أراد أن يقرر هذه القضية في مذهب أهل السنة والجماعة في كلام الله تعالى وفي القرآن خاصة، ويبين أن كلام الله تعالى حروف، وبهذا يكون المصنف رحمه الله تعالى قد أنهى الكلام في مسألة بعض أسماء الله وصفاته، وما يتعلق منها بقضيتين كبيرتين: إحداهما: قضية العلو لله تعالى. والثانية: قضية إثبات كلام الله تعالى، ومنه الكلام في القرآن.

الكلام على مسألة رؤية الله عز وجل

الكلام على مسألة رؤية الله عز وجل

إثبات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل يوم القيامة

إثبات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل يوم القيامة ثم انتقل المصنف إلى قضية أخرى لها علاقة بالصفات، لكنها قضية مستقلة، فقال رحمه الله تعالى: [فصل: والمؤمنون يرون ربهم بأبصارهم، ويزورونه، ويكلمهم ويكلمونه] . في هذا الفصل ذكر المصنف قضية من قضايا عقيدة أهل السنة والجماعة، ألا وهي إثبات رؤية المؤمن لربه، وأن الله يرى، وهذا لا يخالف فيه أحد إلا الجهمية الغلاة. والمقصود بقوله: (بأبصارهم) أنهم يرونه رؤية حقيقية، وليست رؤية قلب، ولا رؤية فؤاد، ولا رؤية تعقل وتفكر، وإنما هي رؤية عيانية بصرية، فالمؤمنون يرون ربهم يوم القيامة، ويرون ربهم أيضاً في الجنة، نسأل الله العظيم الكريم من فضله. وأهل السنة والجماعة يثبتون هذه الرؤية ويقررونها، وقد ذكروا هذه العقيدة وأدلتها في جميع كتب أهل السنة والجماعة، ولم يؤلف أحد في العقيدة قديماً وحديثاً إلا وذكر قضية الرؤيا، وأن المؤمنين يرون ربهم عز وجل، وقد دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الواردة في الرؤية متواترة، وقد أفرد لها بعض العلماء مؤلفات، فممن أفرد لها الإمام الدارقطني رحمه الله تعالى؛ فإن له كتاباً اسمه (الرؤية) ، وهذا الكتاب مطبوع، وأيضاً ممن أفرد لها كتاباً الآجري؛ فإنه كتب كتاباً اسمه: (التصديق بالنظر إلى الله في الآخرة) ، وهذا الكتاب أيضاً مطبوع، وغيرهم ذكروا الرؤية ضمن كتب عقائد أهل السنة والجماعة.

ذكر المخالفين في مسألة الرؤية

ذكر المخالفين في مسألة الرؤية قبل أن نذكر الأدلة نذكر الذين خالفوا في باب الرؤية، فالذين خالفوا في باب الرؤية هم المعتزلة، وسار على منهاج المعتزلة الرافضة؛ فإنهم ينكرون الرؤية تماماً، وكذلك الزيدية، وكذلك الإباضية ونحوهم من طوائف الخوارج؛ فإنهم أيضاً ينكرون الرؤية. أما بالنسبة لغلاة الجهمية والفلاسفة وغيرهم فإنهم ينكرون ما هو أكبر من الرؤية، وأما بقية طوائف أهل السنة المنتسبين إلى السنة فإنهم يثبتون الرؤية في الجملة، فيثبتها أهل السنة، ويثبتها الأشاعرة، ويثبتها الماتريدية، ويردون على المعتزلة في ذلك. والأشاعرة والماتريدية وإن ألفوا كتباً في إثبات الرؤية وردوا بها على المعتزلة إلا أن نفيهم لعلو الله سبحانه وتعالى أوقعهم في ورطة فيما يتعلق بإثبات الرؤية؛ لأن المعتزلة قالوا لهؤلاء الأشاعرة: لا يمكن أن تصح الرؤية إلا بإثبات العلو أما إذا نفيتم علو الله، وأثبتم الرؤية، وكانت الرؤية بلا مقابلة، فمعنى ذلك: أنكم تثبتون رؤية علمية، وهذه لا نخالفكم فيها، وبلا شك أن ما ذهب إليه الأشاعرة والماتريدية في هذه القضية مخالف لمنهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، فإثباتهم للرؤية وإنكارهم للعلو فيه تناقض، فهم إما أن يثبتوا أن المؤمنين يرون ربهم، ويرفعون أبصارهم في الجنة فيرونه ويكلمهم ويكلمونه، وبذلك يثبتون الرؤية ويثبتون العلو، أو يسلكوا مسلك المعتزلة الذين نفوا الأمرين جميعاً؛ حيث نفوا العلو لله سبحانه وتعالى، وعلى إثره نفوا رؤية الله سبحانه وتعالى، وحملوه على الرؤية العلمية أو نحوها. أما أهل السنة والجماعة فهم الذين وفقهم الله سبحانه وتعالى بسلوك المنهج الحق. قول المصنف هنا: (ويزورونه) ، سبق قبل درسين إيراد الحديث الوارد في لفظ الزيارة، وبيان أنه حديث ضعيف. وقوله: (ويكلمهم ويكلمونه) ، أيضاً سبق الكلام عنه، لكن في هذا إثبات لكلام الله تعالى، وأنه تكليم بمشيئته وإرادته، وهذا رد على الذين يقولون: إن صفة الكلام أزلية، وأن الله لا يتكلم إذا شاء، فكون المؤمنين يرون ربهم في الجنة ويكلمهم ويكلمونه في ذلك الوقت يدل على أن تكليم الله لهم إنما هو خاص في ذلك الوقت، أي: يوم القيامة، فتكليمه لهم وهم في الجنة يدل على أن صفة الكلام لله سبحانه وتعالى هي بإرادته ومشيئته، وليست قائمة بنفسه أزلية، كما يدعيه الأشاعرة وغيرهم، وهذا واضح، وقد سبق بيانه.

الأدلة على إثبات رؤية الله من القرآن

الأدلة على إثبات رؤية الله من القرآن ثم ذكر المصنف رحمه الله تعالى الأدلة على إثبات الرؤية من كتاب الله تعالى فقال: [قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23]] . قوله: (نَاضِرَةٌ) من النضرة والنور والضياء، وقوله: ((إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) أي: تنظر إلى ربها سبحانه وتعالى، وهذه الرؤية هي الرؤية العيانية البصرية التي يثبتها أهل السنة والجماعة. وما تأوله المتأولة بقولهم: إن المقصود أنها إلى ثواب ربها ناظرة، أي: منتظرة، فهذا تأويل ضعيف جداً؛ لأن لفظ (نظر) إذا عدي بـ (إلى) كما في هذه الآية: فإنه لا يكون إلا في باب النظر البصري العيني، وإذا عدي بـ (في) فيكون بمعنى التفكر، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ والأرض} [الأعراف:185] ، لكن قوله تعالى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام:99] ، المقصود بالنظر هنا البصر، أي: انظروا إلى ذلك الثمر، ومن ثمَّ فإن الآية نص صريح في إثبات الرؤية، وقد قال بتفسيرها جماهير السلف رحمهم الله تعالى؛ فإنهم فسروها على أن المقصود بها: الرؤية، أما تأويلها بغير ذلك فهو تأويل باطل وضعيف. ثم قال المصنف: [وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضا، وإلا لم يكن بينهما فرق] . هذا الاستدلال والاستنباط من هذه الآية استنبطه عدد من علماء أهل السنة، ومنهم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى؛ فإنه احتج بهذه الآية على إثبات الرؤية؛ لأن الله تعالى يقول في سورة المطففين عن المشركين: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، فذكر الله سبحانه وتعالى من ضمن عذابهم أنهم يحجبون عن ربهم تبارك وتعالى، وهذا الحجاب لو كان شاملاً للكفار وللمؤمنين لما صار بالنسبة للكفار عذاباً وسخطاً من الله سبحانه وتعالى، ولقال قائل: وما الفرق أيضاً؛ فالمؤمنون محجوبون عن ربهم والكفار محجوبون عن ربهم؟ فلماذا هذا التهديد والوعيد؟! إذاً: استنتجوا من هذا التهديد وهذا الوعيد أن هؤلاء الكفار معاقبون بالحجاب، وأنهم لا يرون ربهم سبحانه وتعالى، وعلى ضوء ذلك فإن مقابلهم من المؤمنين الصادقين لا يحجبون عن ربهم سبحانه وتعالى، وإنما يرونه وينظرون إليه، وهذا دليل صحيح وقوي، وهذا استنتاج دقيق وصحيح.

الأدلة على إثبات رؤية الله من السنة

الأدلة على إثبات رؤية الله من السنة ثم قال المصنف: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته) حديث صحيح متفق عليه] . وردت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عشرات من الصحابة كلهم يروون أحاديث الرؤية، فهي أحاديث متواترة، والنبي صلى الله عليه وسلم نوع الأدلة على ذلك، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، فسأله بعض الصحابة: يا رسول الله! كيف نرى ربنا ونحن جميع وهو واحد؟! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا القمر إذا لم يكن بينكم وبينه سحاب هل تضامون في رؤيته؟) . فالجميع يرون القمر، ولا يجدون مشقة في رؤيته وإن كانوا جميعاً، بل يراه الألوف المؤلفة، بل آلاف الملايين لو اجتمعوا لرأوا القمر، ومن ثمَّ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت في هذه الأحاديث أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة عياناً كالقمر، وقد ورد أن المؤمنين لا يجدون ألذ ولا أنعم ولا أطيب من رؤية الله تبارك وتعالى؛ فالجنة وما فيها من النعيم الذي لم يخطر على بال أحد أبداً؛ فيها أنهار من ماء، ومن خمر، ومن لبن، ومن عسل، وفيها القصور، وفيها شجرة طوبى يسير الراكب تحت ظلها مسافة كذا وكذا، وفيها نعيم مقيم، وفيها الحور العين كأنهن الياقوت والمرجان، وفيها من أنواع النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفيها الخلود وعدم الحزن، ومنها الرضا، فكل هذا النعيم في الجنة يكون النظر إلى وجه الله الكريم ألذ منه وأطيب، نسأل الله الكريم من فضله، وأسأل الله سبحانه وتعالى ألا يحرمنا جميعاً من النظر إلى وجهه الكريم؛ فإن النعيم المقيم هو النظر إلى وجه الله الكريم. إنها نعمة كبرى وعظيمة جداً أن يشتاق الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى، لكن من هو الذي يتلذذ بذلك النظر، إنهم المؤمنون، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) ، والذي يحب لقاء الله هو الذي عمَّر آخرته وعمل بما أمره الله به، واجتنب ما نهى الله عنه، وآثر الباقية على هذه الدنيا الفانية، ونظر إلى حقارتها وإلى تنافس منافسيها وإلى نكدها وضيق عيشها، وكونها إذا أفرحت أحزنت وإذا أحزنت أفرحت، وعلم أنها لا تدوم على حال فلم يلتفت إليها، وإنما التفت إلى ما عند الله سبحانه وتعالى، فإذا جاء يوم القيامة يأتي آمناً مطمئناً، وإذا كان من أهل الجنة ينعم ذلك النعيم العظيم برؤية الله سبحانه وتعالى، إنها والله حقيقة لا شك فيها. ووالله إن رؤية المؤمنين لربهم عياناً بأبصارهم يوم القيامة حق لا شك فيه، كما قال عز وجل: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] ، إنه لحق مثلما أننا نؤمن بأننا موجودون أحياء، فكيف لا يعمل الإنسان لذلك؟! والرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة كان يربي أصحابه ويعلمهم، وينقلهم إلى الآخرة، ومن ضمن ذلك هذا الخبر الصادق الذي لا شك فيه: (إنكم سترون ربكم سبحانه وتعالى) ، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم شبه رؤية الله برؤية القمر؛ لأمور: أولها: سهولة الرؤية إذا أراد الله سبحانه وتعالى. ثانيها: أن كثرة الناس وكثرة أهل الجنة لا تمنع من رؤية الله سبحانه وتعالى. ثالثها: أن الرؤية بصرية حقيقية، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (كما ترون القمر ليلة البدر القمر ليس دونه سحاب) ، حتى يؤكد هذه الرؤية العينية البصرية.

الرد على منكري الرؤية في استدلالهم بآية (لا تدركه الأبصار)

الرد على منكري الرؤية في استدلالهم بآية (لا تدركه الأبصار) ليس المقصود أن المؤمنين حين يرون ربهم أنهم يكيفونه، بل هو سبحانه وتعالى لا تحيط به الأبصار، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ، والمتأولة احتجوا بهذه الآية على أن الله تعالى لا يرى، وإذا كان المتأولة هم أهل اللغة فإن الرؤية غير الإدراك؛ فأصحاب موسى لما لحقهم فرعون كانوا يرونه، فلما خشوا أن يلحق بهم فرعون قالوا لموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] ، فلو كان الإدراك بمعنى الرؤية لكان قولهم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] خطأ؛ لأنهم يرونهم، ففرعون وقومه يرونهم، ومع ذلك قال موسى عليه الصلاة والسلام: (كلا) ، أي: لا ندرك، ولو كان المعنى (كلا لا نُرى) لكان الكلام أيضاً غير صحيح؛ لأنهم رأوهم ولم يدركوهم بإذن الله تعالى، وذلك لما أذن الله تعالى لموسى بأن يضرب بعصاه البحر. إذاً: أحياناً أنت ترى الشيء ولا تدركه، بل القمر، أو الشمس، أو الكوكب، أو الجبل العظيم نراه، لكن لا ندركه. إذاً: قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] آية عظيمة دالة على الرؤية، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فإنه قال في أحد مقاماته: ما احتج النفاة بدليل إلا ودل على ضد قولهم، فهذه الآية: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] احتج بها المعتزلة وهي دليل على ضد قولهم؛ لأن قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] نفي، والله سبحانه وتعالى لا يوصف إلا بما يتضمن مدحاً، فلو كان المعنى أنه لا يُرى أبداً لم يكن ذلك مدحاً، لكن لما قال: (لا تُدْرِكُهُ) دل على أن نفي الإدراك مع ثبوت الرؤية هو أعظم المدح لله سبحانه وتعالى، فدلت الآية على هذا.

الرد على منكري الرؤية في استدلالهم بآية (لن تراني)

الرد على منكري الرؤية في استدلالهم بآية (لن تراني) ومثله الآية الأخرى لما قال موسى لربه: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، فهذه الآية أيضاً احتج بها المعتزلة، وقالوا: إن قوله: (لن تراني) ، يدل أنه لا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة، وهذه الآية حجة عليهم من عشرة أوجه ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكرها شارح الطحاوية ابن أبي العز رحمه الله تعالى. وأشير إلى وجهين فقط، وارجعوا إلى بقية الأوجه هناك: الوجه الأول: أن الله تجلى للجبل، كما قال: {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143] ، فالله تعالى تجلى للجبل فاندك، فهذا دليل على أن الله تعالى يُرى. الوجه الثاني: أنه لا يليق بكليم الله سبحانه وتعالى موسى أن يطلب من الله سبحانه وتعالى ما لا يليق، فموسى لا يمكن أن يطلب أمراً غير ممكن، وإنما طلب أمراً ممكناً، ولكن الله أخبره أنه في الدنيا لا يستطيع أن يقوى عليه. وفعلاً فإن الله سبحانه وتعالى لا يرى في الدنيا، وعلى هذا يكاد يكون إجماع العلماء، أي: أن الله تعالى لا يرى حقيقة في الدنيا، وقد ثبت في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) ، والراجح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً لم ير ربه بأم عينيه، وإنما رآه بفؤاده. ولعل الحكمة في ذلك أن الناس في الدنيا لا يستطيعون أن يقووا على رؤية الله سبحانه وتعالى، لكن إذا كانوا عند الله سبحانه وتعالى في الآخرة وفي الجنة، فإن الله سبحانه وتعالى يعطيهم من القوة ما يثبتون ويقوون به على رؤية الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه الأدلة الكثيرة.

رؤية الله عز وجل لا تستلزم التشبيه

رؤية الله عز وجل لا تستلزم التشبيه ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا تشبيه للرؤية، لا للمرئي؛ فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير] . هذا استدراك من ابن قدامة، هذا حتى لا يظن ظان أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر) ، تشبيه لله بالقمر، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد تشبيه مطلق الرؤية، أي: كما أنكم ترون القمر فإنكم أيضاً ترون الله، ولم يقصد تشبيه المرئي بالمرئي، وإنما قصد بيان الرؤية، وأنها حقيقية، أما المرئي -وهو القمر- فإنه لا يشبه الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى لا شبيه له ولا نظير من مخلوقاته سبحانه وتعالى، وهذه قضية واضحة جداً.

الإيمان بالقدر

الإيمان بالقدر ثم انتقل المصنف رحمه الله تعالى إلى فصل آخر، فقال: [فصل: ومن صفات الله تعالى: أنه الفعال لما يريد] . وهذا ربط من المصنف رحمه الله تعالى لمسألة القدر بمسألة صفات الله سبحانه وتعالى، ونحن نعلم أن توحيد الله تعالى في ربوبيته وأسمائه وصفاته هو مقتضى الإيمان بالقدر، والإيمان بعلم الله، والإيمان بصفة الإرادة، والإيمان بأن الله هو الخلاق العليم خالق كل شي.

مراتب القدر

مراتب القدر فالإيمان بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى مرتبط بالإيمان بالقضاء والقدر، ولهذا قال رحمه الله تعالى: [ومن صفات الله تعالى: أنه الفعال لما يريد لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته] . فمن صفات كماله تبارك وتعالى أنه عليم أحاط علمه بكل شيء، فعلم ما كان وما لم يكن، وما سيكون، وما هو كائن، علم سبحانه وتعالى كل شيء مما سبق، ومما سيأتي، وهذا هو علمه المحيط بكل شيء، وهذه أولى مراتب القدر الأربع التي ربما يعرض لبعضها المصنف. المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة، فإن الله سبحانه وتعالى كتب ما هو كائن إلى قيام الساعة، ولهذا ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: رب! وما اكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) ، وفي الحديث الآخر الصحيح أيضاً: (قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) ، رواه مسلم. فهذه أدلة دالة على أن الله كتب، وفي القرآن العظيم أيضاً أدلة على أن الله سبحانه وتعالى كتب ذلك، منها قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] ، والأدلة على إثبات الكتابة كثيرة جداً. المرتبة الثالثة من مراتب القدر هي: مرتبة المشيئة والإرادة، أي أن مشيئة الله الكونية القدرية شاملة ومحيطة بكل شيء، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو الذي شاء وأراد كل ما هو موجود، وكل ما سيأتي فالله سبحانه وتعالى أراده وشاءه كوناً، وهذه أيضاً أدلتها كثيرة جداً، منها قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ، وقوله: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] .

أقسام الإرادة

أقسام الإرادة وقول المصنف رحمه الله تعالى: (ومن صفاته أنه الفعال لما يريد) ، أي أنه سبحانه وتعالى كما وصف نفسه في القرآن فعال لما يريد، فهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويختار، وليس لأحد من الخلق اختيار ولا مشيئة إلا ما كان منها داخلاً تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى. وهذه المشيئة الكونية هي المشيئة العامة الشاملة، وهنا أحب أن أنبه إلى قول المصنف: (أنه الفعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته) ، هنا الإرادة والمشيئة كلاهما بمعنىً، أي: أن المقصود بهما الإرادة الكونية؛ لأن المشيئة لم ترد في كتاب الله تعالى إلا كونية. أما الإرادة فإنها وردت في كتاب الله تعالى وفي السنة على قسمين: القسم الأول: الإرادة القدرية التي هي مرادفة للمشيئة، وهذه هي الإرادة الكونية الشاملة، وهي المقصودة هنا من كلام المصنف. القسم الثاني من الإرادة: الإرادة الشرعية، وهذا الإرادة الشرعية مختصة بما يحبه الله تعالى ويرضاه من أمور الشرع، ولهذا فإن الله تعالى يريد منا الصلاة، والتوحيد، والعمل الصالح، ولا يريد منا ترك الصلاة، ولا الشرك، ولا العمل الفاسد المخالف لأمره سبحانه وتعالى. فنقول: هذا يريده الله، أي: يريده شرعاً، وهذا لا يريده الله، أي: لا يريده شرعاً لأنه من المعاصي، ودليل هذا من كتاب الله تعالى قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، فهذه الإرادة في هذه الآية المقصود بها الإرادة الشرعية، ولا مدخل لها هنا في باب القضاء والقدر، وإنما لها علاقة من طريق سنعرض له فيما بعد إن شاء الله تعالى. أما القسم الثاني من الإرادة -وهي التي قصدها المصنف هنا- الإرادة المرادفة للمشيئة، وهي الإرادة الشاملة لكل شيء، فكل شيء يقع في هذا الوجود: وجود الكفار، والمنافقين، والمؤمنين، ووجود العصاة، ووجود الطاعات وغير ذلك، كله بإرادة الله الكونية، وبمشيئته الكونية، وسيوضح المصنف ذلك بعد قليل إن شاء الله تعالى. وقوله: (أنه الفعال لما يريد) ، قال سبحانه عن نفسه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ، فهو سبحانه وتعالى الذي خلق السماوات والأرض، وأوجدنا، وكلفنا، وأنزل علينا، فهل لنا إرادة في ذلك؟ A لا، وهل لأحد من الخلق إرادة في هذه الأمور كلها؟ الجواب: لا، وإنما الإرادة الكاملة لله سبحانه وتعالى، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذا يدل على تفرده بالربوبية، فتفرده بالخلق والإرادة والتدبير مقتضٍ لربوبيته سبحانه وتعالى، وأنه وحده الرب الخالق المنعم المتفضل. ولهذا قال المصنف هنا: (لا يكون شيء إلا بإرادته) ، أي: إرادته الكونية. وقوله: (ولا يخرج شيء عن مشيئته) ، هذا كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29] ، فالإنسان له مشيئة، لكنه لا يستطيع أن يخرج عن مشيئة الله القدرية الكونية؛ ولهذا قال: ولا يخرج شيء عن مشيئته. وقوله رحمه الله تعالى هنا: (شيء) هذا لبيان العموم؛ حتى يدخل في ذلك المكلفون من البشر، وغير المكلفين من الحيوانات، أو من الجمادات أو غير ذلك، فلا يخرج شيء عن مشيئته، ولهذا لما خلق الله سبحانه وتعالى السماوات والأرض قال لهما: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] ، فلا يخرج عن ربوبيته وتقديره أحد؛ حتى الكفار، ولهذا تجد أن الكفار وغير الكفار على حد سواء في خضوعهم لهذه المشيئة القدرية، فهؤلاء جميعاً يوجدون ويخلقون ويعيشون، وتختلف أشكالهم، وألوان أبدانهم، وطولهم، وقصرهم، ورزقهم، وتنفسهم، ومعيشتهم، وسكنهم، ووفاتهم، كل هذه الأمور لا يملكون منها شيئاً، فمن هو الذي يتصرف فيهم كما يشاء، ولا يخرج أحد منهم عن مشيئته وإرادته؟ إنه الله سبحانه وتعالى.

وجوب الإيمان بالقضاء والقدر والكفر بتأثير الكواكب والبشر

وجوب الإيمان بالقضاء والقدر والكفر بتأثير الكواكب والبشر ثم قال: [وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره] . فتقديره الكوني لا يخرج عنه أحد، فكل ما جرى، وكل ما هو جارٍ الآن، وكل ما سيجري فهو بتقدير الله سبحانه وتعالى، ومن ثمَّ فإن الإيمان بالقضاء والقدر هو أساس الإيمان، وأساسه إيمان العبد بربه تبارك وتعالى. ومن هنا قال المصنف: [ولا يصدر إلا عن تدبيره] . فهو المدبر لكل شيء يجري، أما ما يزعمه بعضهم من أن بعض الملائكة أو بعض الخلق: من ولي، أو رسول، أو نجم أو غير ذلك، له تدبير، فكل ذلك باطل، بل التدبير لله سبحانه وتعالى؛ لأن بعض المشركين -ومن هنا دخل الشرك في عبادة النجوم وعبادة الكواكب، وعبادة الأولياء وغير ذلك- ظنوا أن بعض هؤلاء يملك من الأمر شيئاً، فتجد بعض الناس في حال فقره أو مرضه قد يظن أن من المخلوقات من يملك شيئاً! ولهذا يتعلق بعضهم بساحر، وبعضهم بكاهن، وبعضهم بولي، وبعضهم بصاحب قبر، وكثير منهم يتعلق بالنجم، والذي نجمه نجم الثور، أو نجمه نجم العقرب يتعلق بذلك، وينظر ماذا يقول المنجمون! ومن أين جاء نجم الثور ونجم العقرب وغير ذلك؟ جاء من مذهب الفلاسفة الذين يقولون: إن الله ليس متصفاً بصفات، وإن الله لا يعلم الخلق، وإن الله ليست له إرادة ولا تدبير، ومن ثمَّ فإن الله سبحانه وتعالى بعيد عن الخلق، وليس له من أمرهم شيء، لا يعلم ماذا يصنعون! فقيل لهم: لمن التدبير؟ قالوا: التدبير للعقول، والأفلاك، والنجوم. فتعلقت نفوسهم بتلك النجوم، وقلدهم كثير من المسلمين، وتعلقت نفوسهم بهذه الأبراج، بينما هذا هو الشرك بالله العظيم، وهو شرك نشأ في دار العبودية والربوبية، أما المسلمون فإنهم يوقنون أن الله هو المدبر، كما قال تعالى عن نفسه: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] سبحانه وتعالى! فهو كل يوم في شأن، يغفر ذنباً يقبل توبة يشفي مريضاً يعين ضعيفاً يقوي قوياً يزيل ملكاً يصنع ملكاً، فهو سبحانه وتعالى في كل يوم يفعل ما يشاء؛ فهو مدبر عليم محيط، هذا هو الإيمان بالقضاء والقدر، أما التعلق بغير الله تعالى فمنشؤه الاعتقاد في هذه المخلوقات من نجم أو ولي أو غيره، أن لها علماً يحيط، أو أن لها تدبيراً، وكل ذلك كفر بالله سبحانه وتعالى. ومن هنا كان إيمان المؤمن بالقضاء والقدر يعصمه من أمور كثيرة، ربما نعرض لها إن شاء الله تعالى، وعلى رأسها عصمته في باب توحيد الربوبية الذي هو أساس وعمدة توحيد الألوهية. وثانياً: عصمته في مسيرته في الحياة؛ لئلا يقع في نفسه تعارض بين القضاء والقدر، وبين الأمر والشرع، كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى. ولهذا قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا محيد عن القدر المقدور] . أي: أن الجميع لا محيد لهم عما خط له في القدر المقدور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لـ ابن عباس: (واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف) . ولهذا قال الصحابي الجليل عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه لابنه في مرض الموت: (واعلم يا بني! أنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك) . فمتى يكون المؤمن شاكراً صابراً؟ يكون شاكراً صابراً إذا رضي بالقضاء والقدر؛ فإن أصابته سراء شكر؛ لأنه علم أن هذا من الله، وبشكره يغفر الله له، ويرفع له درجته، وإذا أصابته الضراء علم أنه قضاء وقدر، فصبر؛ فيؤجر على ذلك، وليس ذلك إلا للمؤمن، هكذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. وبقي في القدر موضوعات نكملها إن شاء الله تعالى في الدرس القادم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [9]

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [9] يجب على كل مسلم ومسلمة أن يؤمن بقضاء الله عز وجل وقدره، فإنه لا يتم إيمان العبد إلا بذلك، كما أنه يجب أن يؤمن العبد أن الله عز وجل لا يفعل شيئاً إلا لحكمة، ولا يظلم أحداً، ولذا فلا يجوز الاعتراض على القدر، أو الاحتجاج به على فعل المعاصي.

الإيمان بالقضاء والقدر

الإيمان بالقضاء والقدر

لا يكون شيء إلا بعلم الله ومشيئته

لا يكون شيء إلا بعلم الله ومشيئته يقول ابن قدامة رحمه الله تعالى في كتابه (لمعة الاعتقاد) بعد أن ذكر فصولاً سابقة: [فصل: ومن صفات الله تعالى: أنه الفعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد عن القدر المقدور] . هذا هو لب القدر وأساسه؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو خالق هذا العالم، خلقه بإرادته، ولم يوجد هذا العالم رغماً عنه كما يقول الفلاسفة: إنه آلة موجدة، تعالى الله عما يقولون، بل خلق هذا العالم وأوجده سبحانه وتعالى بإرادته ومشيئته؛ لأنه تبارك وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء. ولما كان هذا العالم مخلوقاً له وحده لا شريك له، وخلقه بمشيئته وإرادته، كان هذا دليلاً على أن ما يجري في هذا الكون فهو بمشيئته وإرادته سبحانه وتعالى، وهذه هي القضية الأولى في باب العقيدة، فإنها ترتبط بمرتبتين وأساسين هما صفتان كاملتان لله سبحانه وتعالى، ثبتت له كما يليق بجلاله وعظمته: الصفة الأولى: أن الله متصف بصفة العلم، قد أحاط بكل شيء علماً، فهو علم أزلاً ما الخلق عاملون، وهو سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما أخبر تعالى عن الكفار أنهم في يوم القيامة يطلبون الرجعة، ويقولون: لو أرجعتنا إلى الدنيا لآمنا واهتدينا، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] ، وليس هذا من باب التقدير، وإنما هو من باب العلم اليقيني لله سبحانه وتعالى، فإنه يعلم أنه لو رد هؤلاء إلى الدنيا مرة أخرى لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والشرك، مع يقينهم باليوم الآخر؛ لأنهم شاهدوه مشاهدة عيان، فهذا من باب العلم الإلهي الكامل، فإنه سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون، ويعلم سبحانه وتعالى ما لم يكن لو كان كيف يكون. والصفة الأخرى لله سبحانه وتعالى هي: صفة المشيئة والإرادة الكاملة، فهو سبحانه وتعالى ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، ومن ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى هنا: (ومن صفاته: أنه الفعال لما يريد) ، والفعال لما يريد هو الذي لا يحد قدرته حاد، ولا يوجه إرادته موجه، فهو يفعل ما يشاء ويختار، ومن إرادته سبحانه وتعالى أن خلق هذا العالم، ومن مشيئته وإرادته أن أوجد الناس على هذه الصفة وهذه الحالة، وابتلاهم واختبرهم، فهو سبحانه وتعالى هو الذي خلق آدم، كما قال سبحانه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] ، وهو سبحانه وتعالى الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً. إذاً: وجود هذا العالم على هذه الصفة ووجودنا نحن البشر على هذه الصفة هو بإرادته سبحانه وتعالى، ولو أنه تبارك وتعالى أراد غير ذلك لكان، أي: لو أراد سبحانه وتعالى أن يجعل الناس كلهم مهتدين مستقيمين مؤمنين لا يعصون الله أبداً لوقع ذلك، كما قال تبارك وتعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35] ، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الشورى:8] . إذاً: وجود الخلق على هذه الصفة وهذا الابتلاء والامتحان، واختلاف أعمارهم، واختلاف أرزاقهم، واختلاف ألوانهم، واختلاف أديانهم، هو بإرادة الله سبحانه وتعالى، وهذه هي قضية القدر الأولى، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي أراد أن يوجد الناس على هذه الحالة، ولو شاء لما وجدوا، ولو شاء لأوجدهم وجعلهم كلهم مؤمنين مهتدين مطيعين.

لا يخرج شيء عن مشيئة الله تعالى

لا يخرج شيء عن مشيئة الله تعالى وجود الخير والشر، والطاعات والمعاصي، والمؤمنين والكفار، هو بإرادة الله سبحانه وتعالى، وهو سبحانه وتعالى خلق ذلك وقدره لحكم عظيمة. ولهذا يقول هنا: (لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته) ، فكل ما يقع ويجري فهو بإرادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته الكونية، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الشورى:8] ، وقال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29] ، {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] ، وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] . وكذلك أيضاً ما وراء ذلك من وجود المخلوقات، وإحيائهم، وموتهم، وآجالهم، وأرزاقهم، وهذه الدنيا، وهذه الأكوان، والبعث بعد الموت، كل ذلك بإرادة الله، ولا يكون لمخلوق فيها إرادة أبداً. ولهذا نجد أن هذه القضية يسلم بها الجميع، وقلما يوجد إنسان ينكرها، حتى الكفار يسلمون بها، ولقد كان مشركو الجاهلية يؤمنون بالقدر، ويصدقون بأن هناك أقداراً، وكذلك أيضاً الكفار اليوم يعلمون أن هذه الأمور مقدرة قدرها الله سبحانه وتعالى، وأكبر دليل على ذلك أنهم قطعوا الأمل في أشياء؛ لأنهم علموا أن الله سبحانه وتعالى قدرها وكتبها على الجميع، فمثلاً: الموت كتبه الله على الجميع، والخلق مهما بلغ طبهم وتقدمهم العلمي إلا أنهم يئسوا عن أن يصلوا إلى جعل الإنسان يبقى مخلداً، أو يبقى زمناً طويلاً يختلف عن الزمن العادي بالنسبة لأعمار الناس، ونحو ذلك. إذاً: هذا دليل على اليقين بأن هذا الأمر كتبه الله سبحانه وتعالى على الجميع، ومن ثمَّ صاروا يفكرون بأمور أخرى. قال: (وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره) . فلا يخرج في هذا العالم شيء إلا وقد قدره الله سبحانه وتعالى، فوجود السماوات، ووجود الكواكب، ووجود هذه الأرض ببحارها بجبالها بحيواناتها بحشراتها بوحوشها برياحها بأشجارها بعبادها بإناثها بذكورها إلى آخره، كل ذلك بتقدير الله سبحانه وتعالى، ولا يخرج شيء عن تقديره الكوني السابق، ولا يصدر أحد إلا عن تدبيره سبحانه وتعالى. ولهذا فإن الإنسان يفعل ويتحرك؛ لأن الله تعالى أعطاه إرادة، وأعطاه حرية، وأعطاه قدرة، لكنه لا يخرج في مجموع ذلك عن تدبير الله سبحانه وتعالى وإرادته وقدرته. ولهذا قال: (ولا محيد عن القدر المقدور) ، وهذا صحيح؛ فكل إنسان لا يستطيع أن يحيد عما قدره الله سبحانه وتعالى وكتبه عليه، وهذا يعلمه كل إنسان من حياته، فكم من أمور أراد الإنسان أن يمنعها فما استطاع؛ لأن الله سبحانه وتعالى كتبها عليه وقدرها، وهذا الأمر يتساوى فيه المؤمنون والكفار.

كتابة الله عز وجل كل شيء في اللوح المحفوظ

كتابة الله عز وجل كل شيء في اللوح المحفوظ قال المصنف رحمه الله: [ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور] . أي: أن الله سبحانه وتعالى كتب كل شيء في اللوح المحفوظ؛ فإنه سبحانه لما خلق القلم أمره أن يكتب فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة، وهذه هي المرتبة الثالثة من مراتب القدر، التي هي مرتبة الكتابة، فإن الله سبحانه وتعالى كتب ما هو كائن في اللوح المحفوظ. فكل ما نصنعه، وكل ما نعمله فهو مكتوب عند الله سبحانه وتعالى، بل كل ما يجري من حركات الجمادات وغيرها مكتوب في اللوح المحفوظ، حتى الشجرة إذا سقطت منها ورقة بسبب الريح أو بسبب جفافها أو غير ذلك، فإن سقوطها في كتاب مبين، كما قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] ، أي: أن أي حبة، وأي رطب، وأي يابس، وأي ورقة تسقط، فكل ذلك في كتاب مبين، فكيف بفعل العباد، وأقوالهم، وحركاتهم، ومجيئهم، وذهابهم إلى غير ذلك؟! كل ذلك مكتوب مسطر، وهذه هي المرتبة الثالثة. إذاً: المرتبة الأولى هي العلم الأزلي المحيط بكل شيء: فالله يعلم ما أنت قائل أيها العبد! وما الذي ستختاره إذا أعطاك الله الاختيار؛ فإنه سبحانه وتعالى يعلم سابقاً ما الذي ستفعله وتختاره. والمرتبة الثانية: مرتبة المشيئة، وهي: أن الله سبحانه وتعالى ما شاء كان، وما لم يشاء لم يكن، ولا يخرج شيء عن مشيئته. المرتبة الثالثة: الكتابة، وهي أن الله سبحانه وتعالى كتب ما هو كائن في اللوح المحفوظ.

إرادة الله عز وجل الكونية

إرادة الله عز وجل الكونية يقول رحمه الله تعالى: [أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه] . وهذه قضية مسلمة، فكل ما يعمله العباد فإن الله أراده كوناً، والإرادة هنا في قوله: (أراد ما العالم فاعلوه) هي إرادة كونية، فكل ما فعله العباد، ووقع منهم فإن الله سبحانه وتعالى أراده وقدره وشاءه كوناً، فأفعال العباد الواقعة منهم هي مرادة لله سبحانه وتعالى إرادة كونية. وقوله: (ولو عصمهم لما خالفوه) أي: لو أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعصهم عن العصيان والمخالفة لما خالفوا، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق الملائكة وجعلهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، فصاروا هكذا كما أراد الله لهم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] ، فيسبحون ربهم أبداً، ويطيعونه ليلاً ونهاراً؛ لأن الله أراد منهم ذلك. وكذلك أيضاً البشر لو أراد الله سبحانه وتعالى منهم كوناً أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، ولم يبق منهم عاصٍ، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35] .

خلق الله عز وجل لكل شيء ومنها أفعال العباد

خلق الله عز وجل لكل شيء ومنها أفعال العباد قال المصنف: [خلق الخلق وأفعالهم] . وهذه هي المرتبة الرابعة من مراتب القدر، وهي مرتبة الخلق: أي أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، كما قال تعالى في أكثر من آية: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فالله سبحانه وتعالى خالق لجميع هذه المخلوقات، ولا شريك له سبحانه وتعالى في خلقه، ويدخل في ذلك أفعال العباد، فالله خالق العباد وأفعال العباد. وبذلك يرد على المعتزلة الذين يستثنون من خلقه أفعال العباد، فيقولون: العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، والله لا يخلق أفعال العباد، ومن ثمَّ ضل المعتزلة في باب القدر حين أنكروا مرتبة الخلق بالنسبة لأفعال العباد، وأنكروا مرتبة الإرادة، وجعلوا للعبد إرادة مستقلة، حتى قالوا: إذا اختلفت إرادة الله وإرادة العبد فالتي تقع هي إرادة العبد! فقول المصنف: (خلق الخلق وأفعالهم) ، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة هو سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ، وكما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] ، فيدخل في ذلك أفعال العباد. وبهذا يكون المصنف قد أشار إلى مراتب القدر الأربع التي عليها مدار القدر، وكلها مرتبطة بقضية الربوبية، فأولها: علم الله المحيط بكل شيء، ثم مشيئته الشاملة التي لا يخرج عنها أحد، ثم إنه تعالى كتب ما هو كائن في اللوح المحفوظ، ثم إن الله سبحانه وتعالى خالق الخلق جميعاً، ومن ذلك أفعال العباد. وهذا هو الذي يؤمن به أهل السنة والجماعة ويقررونه، ويقولون: إن مقتضى وجود الإيمان بالقضاء والقدر في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: (وتؤمن بالقدر خيره وشره) ، الإيمان بهذه المراتب الأربع.

الأرزاق والآجال مقدرة من عند الله عز وجل

الأرزاق والآجال مقدرة من عند الله عز وجل قال المصنف: [وقدر أرزاقهم وآجالهم] . فالله سبحانه وتعالى كتب رزق كل عبد، كما في حديث ابن مسعود الصحيح: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد) . قوله: (بكتب رزقه) ، أي أنه لا يأخذ الإنسان في هذه الدنيا إلا ما كتب له من الرزق، (وأجله) فإذا جاء أجله لا يتقدم ولا يتأخر، كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ، فلكل إنسان أجل محدد، حتى الذي قتل ظلماً وعدواناً قد انتهى أجله، خلافاً للمعتزلة الذين يقولون: إن المقتول لو لم يقتل لعاش. فنحن نقول: بل المقتول قد انتهى أجله، لكن الأسباب مختلفة، فهذا أجله ينتهي على فراشه، وذاك أجله ينتهي بالمرض، وهذا أجله ينتهي بالكبر، وهذا أجله ينتهي بالسقوط من علو، وهذا أجله ينتهي بأن يعتدي عليه معتدٍ فيقتله، لكن الكل أجلهم محدد لا يتأخر أبداً.

تنزيه الله عز وجل عن الظلم، وإثبات أن كل فعله لحكمة

تنزيه الله عز وجل عن الظلم، وإثبات أن كل فعله لحكمة قال المصنف رحمه الله: [يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]] . وهذا لبيان قضية مهمة جداً متعلقة بالقدر ألا وهي: أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم العباد؛ لأن الوهم قد يخطر أحياناً عند الإنسان، فيقول: إذا أثبتنا هذه المراتب الأربع لله، وكان ما يفعله العباد مكتوباً، فلماذا يعذب هؤلاء وينعم هؤلاء؟ ولماذا فرق بينهم؟ فنقول هنا: إن الله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء برحمته، فهو الذي يمن على عباده ويتفضل عليهم، فمن هداه الله ووفقه للهداية فهذه منة من الله، وقد يمن الله سبحانه وتعالى بما هو أخص من ذلك، مثلما منَّ الله سبحانه وتعالى على الرسل بإرسالهم، قال عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء:54] ، فهو الذي اختار هؤلاء الرسل، فإذا منَّ الله على رسول فلا يجوز لإنسان أن يعترض، ويقول: لماذا اخترت محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن يكون رسولاً، ولم تختر فلاناً أو فلاناً، كما قال بعض المشركين! إذاً: اصطفاء الله لرسله منة، وهداية الله لعباده منة، ومن ثمَّ فإن الذي هداه الله سبحانه وتعالى يجب عليه أن يعترف بهذه المنة، وأن يشكر ربه سبحانه وتعالى عليها شكراً عظيماً، ولهذا فنحن نحمد الله سبحانه وتعالى أن جعلنا مسلمين، فليس بيننا وبين الله نسب، فهاهي أمم الأرض تموج؛ فيها الملاحدة، وفيها اليهود، وفيها النصارى، وفيها عباد الأوثان وغيرهم، ويبلغون الملايين، وتفوق أعدادهم أعداد المسلمين. إذاً: من منَّ الله عليه بالهداية فذلك برحمته. قوله: (ويضل من يشاء بحكمته) ، هذا هو الشاهد، وهو أنه سبحانه وتعالى يضل من يشاء، لكن له حكمة في ذلك، فهو سبحانه وتعالى لا يظلم العبد، فقد أقام عليه الحجة، وأعطاه الإرادة والقدرة، وأنزل إليه الكتب، وأرسل إليه الرسل، حتى وضحت لديه المحجة، ووضح لديه الطريق. ولهذا فإن مما يجب أن يقطع به أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً؛ لأنه ليس بحاجة إلى الخلق، وهذه قضية ربما نشير إليها بعد قليل، لكن أشير هنا إلى أنه سبحانه وتعالى يضل من يشاء بحكمته؛ فله الحكمة البالغة؛ لأنه هو الذي اختار أن يوجد أهل الضلال وأهل الإيمان، ولو شاء لجمعهم على الهدى، لكنه اختار أن يكونوا منقسمين هكذا لحكمة يريدها سبحانه وتعالى، فما هي هذه الحكمة؟ هذه الحكمة قد تكون سراً من أسراره؛ فإن الله سبحانه له الإرادة المطلقة، كما قال عن نفسه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ، ونحن قد نتلمس شيئاً من حكم الله سبحانه وتعالى في ذلك، والله سبحانه وتعالى خلق الخلق وأوجدهم على هذه الحالة لتظهر آثار العبودية، وآثار الطاعة، ولهذا تجد أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يخلق شراً محضاً لا خير فيه، وإنما يخلق الله سبحانه وتعالى الشر النسبي؛ حيث يكون شراً لبعضهم، لكنه خير لبعضهم الآخر. فمثلاً: إبليس شر، فقد يقال: لماذا خلق الله إبليس؟ فنقول: خلقه لحكمة أرادها، ونقول أيضاً: خلقه ليبتلي به عباده، فكيف يميز المطيع من العاصي، وكيف يكون الإنسان لربه مطيعاً، وكيف يكون أنين المذنبين، واستغفار المستغفرين، وعبادة العابدين، وتوبة التائبين لو لم يكن هناك ابتلاء وامتحان بإغواء إبليس؟! ولو نظرنا أيضاً إلى بعض مخلوقات الله لوجدنا أن لله فيها حكمة، فمثلاً: لو جاء واحد وقال: لماذا خلق الله الأفعى أو العقرب، وليس فيها خير أبداً؛ بل إن ضررها كبير؟ فنقول: بل خلقها لحكم لا نعلمها، وإن كنا قد نلمس فيها شيئاً من الحكم، فقد يكون فيها أدوية وشفاء، وقد تكون سبباً للدغ إنسان فيكون شهيداً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واللديغ شهيد) . إذاً: لا يوجد شيء خلقه الله سبحانه وتعالى إلا وله فيه حكمة، وأذكر أن أحد الوعاظ دخل على أحد خلفاء بني العباس، فلما دخل عنده وجلس أمامه تسلط ذباب على الخليفة، وصار هذا الذباب يقع على أنف الخليفة، ثم يخرج فيرجع مرة ثانية، ويخرج ويرجع، ويخرج ويرجع، حتى ضاق منه. فقال هذا الخليفة لهذا الواعظ: لماذا خلق الله الذباب؟ فاستحضر الواعظ إجابة لطيفة قال له فيها: خلقه الله ليذل به أنوف الجبابرة! فأعطاه حكمة حاضرة لديه الآن أنه إن تكبر فهذا من أصغر المخلوقات يذله، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ} [الحج:73] . إذاً: بنص القرآن أن الحكمة في خلق الذباب أن الله سبحانه وتعالى جعله بلاءً، يبتلي به عباده المؤمنين، وهكذا في بقية ما خلقه الله سبحانه وتعالى. إذاً: هو سبحانه وتعالى يضل من يشاء بحكمة، لكنه لا يجبر العباد، ولذا فإن العبد هو الذي يختار ويفعل.

الأدلة من القرآن الكريم على القضاء والقدر

الأدلة من القرآن الكريم على القضاء والقدر قال المصنف: [وقال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]] . وهذه بعض الأدلة من القرآن على القضاء والقدر، فهو سبحانه وتعالى يخلق المخلوقات ويوجدها حسب تقديره سبحانه وتعالى، فهو الذي قدرها سابقاً بعلمه أولاً، ثم بما شاء، ثم بما كتب سبحانه وتعالى، ثم تقع وتوجد حسبما قدره الله تبارك وتعالى. قال المصنف: [وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]] . أي: أنه خلق الأشياء كلها، وخلقها إنما يكون بتقدير من الله سبحانه وتعالى. وهذا أمر مشاهد فيما يخلقه الله سبحانه وتعالى ويقدره من آيات في الكون، وفي الأنفس، وفي الأرض، وانظروا إلى كلام الأطباء -مثلاً- في خلق الإنسان، وفي كل جزئية من جزئيات الإنسان تروا عجباً! وانظروا إلى كلام الفلكيين في هذه الأكوان، وبعدها، ومسافاتها تجدوا عجباً! وانظروا إلى هذه الأرض، وتربتها، وما يتعلق بالزراعة فيها تجدوا عجباً! وانظروا إلى البحار إلى آخره. إذاً: الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء فقدره تقديراً، ولذا فالعباد لا يملكون من الأمر شيئاً، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] . وأقول: مع التقدم العلمي العظيم اليوم هل يملك البشر من أمر تدبير هذا الكون شيئاً؟ A لا يملكون شيئاً، بل إن أموراً تجري وضعوا لها الرصد بالأدلة المادية، والأجهزة الدقيقة، ومع ذلك لا يعلمون، وأقرب مثال هذه الزلازل التي وضعوا لها شتى الأجهزة المتطورة الحديثة، ومع ذلك يفجئون بالزلزال يقلب عليهم بيوتهم وجسورهم ونحو ذلك! قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]] . أي: إلا هي مسطورة في كتاب من قبل أن نخلقها، وهذا يعطي الإنسان الرضا بالقضاء والقدر، فما يصيب الإنسان من مصيبة في الأرض من جائحة، أو زلزال، أو عواصف رعدية، أو ما يصيبنا في أنفسنا من مرض، أو حوادث إلا والله سبحانه وتعالى قد كتبها قبل أن يخلق الإنسان ويوجده. إذاً: دل هذا على أن الإيمان بالقضاء والقدر يقتضي الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى قدر هذه الأشياء قبل أن توجد، والإيمان بهذا هو الذي يؤدي بالإنسان إلى أن يؤمن بقضاء الله تبارك وتعالى وقدره، ويسلم، فيتحول أمره إلى راحة نفسية؛ لأن الإنسان إذا علم أن القدر مكتوب ولن يتغير لا يتأثر. ونحن أيها الإخوة! كم يمر علينا في اليوم من حالات نحزن فيها على فوات مقدور، بل يحزن الإنسان أحياناً على إشارة المرور إذا أقبل عليها وقد صارت إشارة حمراء! فكيف إذا تعلق الأمر برزق الإنسان، وبأمور وظيفته، وبأمور أولاده، وبأمور معاشة! فكم يمر على الإنسان من أمور يريدها، لكن يقع ما أراده الله سبحانه وتعالى، فإذا علم الإنسان أن هذا مكتوب مقدر استراح، وإنما عليه أن يحضّر قلبه للإيمان بالمقدور وسوف يستريح، فلا يأسف على ما فاته؛ لأنه لو جمع الدنيا كلها، واجتمع الخلق كلهم على أن يغيروا هذا الأمر -ولو كان صغيراً- فلن يستطيعوا؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أراده وقدره. قال المصنف: [وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125]] . وهذه هي الإرادة الكونية الشاملة التي هي بمعنى المشيئة؛ فتشمل الخير والشر، قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] ، وإذا شرح الله صدره للإسلام استجاب وآمن، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125] ، وجعل الصدر ضيقاً حرجاً إنما يكون بذنب العبد، كما قال تعالى عن الكفار: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] ، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] . فالله سبحانه تعالى لا يمكن أن يظلم العبد، لكنه سبحانه وتعالى يمنع عنه رحمته، وهذا عدل منه تبارك وتعالى؛ لأنه لو رحم الجميع لما وُجد كافر أصلاً، ولا عاصٍ أبداً، لكن لحكمة أرادها سبحانه وتعالى جعل الناس فريقين. إذاً: من يريد الله أن يضله فإنه يبتليه، فيجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء فلا يهتدي، وليس هذا إلا عدل منه سبحانه وتعالى، كما ذكرنا قبل قليل، وكما سنوضح -إن شاء الله تعالى- هذه المسألة بعد قليل.

الأدلة من السنة على القضاء والقدر

الأدلة من السنة على القضاء والقدر قال المصنف: [روى ابن عمر أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، فقال جبريل: صدقت) ، رواه مسلم] . وهذا دليل الإيمان بالقضاء والقدر من السنة النبوية؛ فإنه صلى الله عليه وسلم جعل الإيمان بالقضاء والقدر ركناً من أركان الإيمان، ولذا لا يستقيم إيمان عبد إلا بأن يؤمن بالقضاء والقدر، كما في صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لا يؤمن أحدهم حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه) أي: يؤمن بأن كل ما جرى فهو بقضاء الله وقدره. وكذلك أوصى عبادة بن الصامت رضي الله عنه في مرض موته ولده فقال له: (يا بني! إنك لن تجد طعم الإيمان؛ حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك) . فإذاً: الإيمان لا يكون إلا بالإيمان بالقضاء والقدر، والتصديق به، وأن الله سبحانه وتعالى له الربوبية، وأن ربوبيته مقتضية لأن يكون هو المدبر الخالق الرازق، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. قال المصنف رحمه الله: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره) ] . هذا الحديث رواه الطبراني وغيره، وهنا قوله: (خيره وشره) وردت هذه اللفظة في صحيح مسلم، فعلى العبد أن يؤمن بالخير والشر، وأن كل ما يجري فهو بقضاء الله وقدره. وقوله: (حلوه ومره) حلوه: ما يرضى عنه الإنسان ويريده، سواء كان من طاعة لله، أو كان من أمور الدنيا التي تحبها النفس وتهواها، ومره: ما سوى ذلك، فيؤمن أن كل ذلك بقدر من الله تبارك وتعالى. قال المصنف: [ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت) ] . وهذا الحديث صحيح، وهو في قنوت الوتر. إذاً: كل ما قضاه الله سبحانه وتعالى فهو بقدر، ومن ثمَّ يدعو العبد ويقول: (اللهم قني شر ما قضيت) ، فهذا دليل على أن كل ما يجري من خير أو شر فهو بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره.

لا تعارض بين القدر والشرع

لا تعارض بين القدر والشرع يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره، واجتناب نواهيه، بل يجب أن نؤمن، ونعلم أن لله علينا الحجة بإنزال الكتب، وبعثة الرسل، قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] ، ونعلم أن الله سبحانه وتعالى ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحداً على معصية، ولا اضطره إلى ترك طاعة] . وهذا هو بيت القصيد فيما يتعلق بالقضاء والقدر في كل وقت، لكن في هذه الأيام خاصة؛ فإنه كثيراً ما يقع الخلط في باب القضاء والقدر على وجه باطل، وأحب أن أقول: إن أكبر مشكلة في قضية القضاء والقدر هي: الزعم بأن هناك تناقضاً بين القدر وبين الشرع! فالمؤمن هو الذي يؤمن بقضاء الله وقدره، ويؤمن بأمره وشرعه، فهذه عنده قضية أساسية، قال تعالى {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] ، فالخلق هو القضاء والقدر، والأمر هو الشرع، فمن جعل بينهما تعارضاً وتناقضاً وتصادماً فهذا هو الذي يقع في ورطة الاحتجاج بالقضاء والقدر. أما المؤمنون الصادقون فعندهم إيمان بالقضاء والقدر، وعندهم إيمان بالشرع واتباع له، ولا يخطر ببال الواحد منهم أن بينهما تعارضاً، كما يقول البعض: إذا قدر الله علي المعصية كيف يأمرني بأن لا أعصي؟! فنحن نقول: القضاء والقدر والشرع مصدرها ربنا سبحانه وتعالى، وما كان من الله فلا يمكن أن يكون متعارضاً متناقضاً، وأكبر دليل على ذلك هو أنك لو تأملت حياة ملايين من المسلمين لوجدت أن هؤلاء الملايين يعيشون حياة مستقرة طبيعية دون أن يكون عندهم شعور بالتصادم بين القضاء والقدر، وتجد الواحد من هؤلاء مؤمناً بالقضاء والقدر، وأن كل ما يجري ويقع هو بقضاء الله وقدره، ثم بعد ذلك تجده ممتثلاً لأمر الله وشرعه، وإذا فعل طاعة حمد الله وشكره وزاد في الطاعة، وإذا فعل معصية علم أنها معصية، وأنه هو الذي فعلها، وعلم أنه يستحق العقوبة، فتاب إلى الله واستغفر، وحاول أن يبدل تلك السيئة حسنة. فهل وجدتم واحداً من آبائنا أو أمهاتنا عنده مشكلة الصراع بين القضاء والقدر، وأمر الله وشرعه؟! وهذا يدل على أن الإيمان بالقضاء والقدر والإيمان بالشرع لا يتولد عنهما ما يتوهمه البعض من مشكلة القضاء والقدر. فهذه قضية أولية ينبغي أن نعلمها، وأن نسلم بها أولاً، لأن هذه يجتمع فيها أمران: الأمر الأول: تلازم وتوافق الأدلة التي أتت بالإيمان بالقضاء والقدر، وأتت بوجوب الطاعة في الشرع، وأيضاً من الناحية الواقعية فإن المؤمنين أتباع الرسل، وصحابة رسول الله، والتابعين لهم بإحسان، ومن جاء بعدهم إلى يومنا هذا يؤمنون بالقضاء والقدر، ويعلمون أن كل ما يجري فهو بقضاء الله وقدره، ويصدقون بالشرع، ولا يخطر ببالهم تعارض وتنازع بين القضاء والقدر، وبين الأمر والشرع.

إلزام من يحتج على المعصية بالقدر

إلزام من يحتج على المعصية بالقدر الأمر الثاني: أن جعل القضاء والقدر حجة على ترك الشرع والأمر والنهي شبهة شيطانية، والدليل على أنها شبهة شيطانية أن صاحبها يقع في تناقض عجيب! لأن الإنسان يوجب التعارض بين القضاء والقدر وبين الشرع فيما بينه وبين الله، لا فيما بينه وبين الخلق. فمثلاً: الواحد من هؤلاء الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصي إذا فعل المعصية قال: بقضاء الله وقدره، وإذا وقع في الفاحشة قال: بقضاء الله وقدره، والمفترض فيه أيضاً أن يجعل هذا أيضاً مستمراً حتى في تعامله مع الخلق، لكن لا يفعل كذلك؛ فإن الواحد من هؤلاء لو جاء واحد وسرق ماله، فإن المفترض أن يقول: سرق هذا السارق بقضاء الله وقدره، إذاً هو مكتوب عليه، ومكتوب عليّ، فينبغي ألا نحاسبه. لكن هل يصنع الإنسان الذي يُسرق ماله هذا؟ هل يحتج بالقضاء والقدر؟ A لا، وإنما سيبحث عن السارق، ويذهب إلى الشرطة، وإذا قبض عليه يريد أن ينزل به العقوبات، ولو جاء السارق، وقال: يا أخي ارحمني؛ أنا سرقت بقضاء الله وقدره، فإنه لن يقبل منه. إذاً: دل هذا على أن الإنسان فيما يتعلق بمصلحة نفسه بينه وبين العباد لا يحتج بالقدر، وإنما يحتج به -نسأل الله العافية- فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى. ولذا لو جاء إليه واحد وضربه فالمفترض أن يرضى ويسلم، ويقول: الحمد لله، هذا بقضاء الله وقدره؛ فهذا الذي ضربني ما ذنبه وضربه لي مقدر؟ وهكذا لو جاء واعتدى على عرض زوجته أو أخته، فالمفترض أن يرضى بالقضاء والقدر، ولا يعترض عليه ويقول: هذا مقدر! ولو جاء واحد واعتدى على ابنه أو أخيه وقتله عمداً وعدواناً، فالمفترض فيه أن يسلم، ويقول: مكتوب على القاتل أن يقتل، ومكتوب على هذا الابن أو الأخ أن يُقتل، فالحمد لله، أنت في أمان الله، اذهب لسبيلك، لكن هل يصنع الإنسان هذا؟ الجواب: لا، بل يعترض اعتراضاً عظيماً. ولو جاءه أهل القاتل يقولون له: يا أخي هذا مكتوب عليه، لما ققبل ذلك، فنقول له: لماذا لا تصنع هذا فيما يتعلق بمعصيتك؟! ولماذا إذا كانت المسألة بينك وبين العباد تحولت إلى قدري تنكر القدر، وإذا كانت بينك وبين الله تحولت إلى جبري، وهذا كما قال بعض السلف: أنت عند الطاعة قدري، تفخر على ربك، تقول: أنا فعلت وأريد الثواب، وعند المعصية جبري، تقول: يا رب! أنا مجبور، ما ذنبي؟ كيف أعذب؟ كيف أعاقب؟ إذاً: دل هذا على أن الذي يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصي متناقضون تناقضاً عظيماً، والذي دعاهم إلى ذلك شبهة شيطانية؛ يريد الشيطان بأحدهم أن يسرف على نفسه في الفسق والعدوان، وإلا فإذا كان عاقلاً فعليه أن يأخذ القضية من ناحية عقلية بحتة، فالمفترض فيه أن يحتج بالقدر فيما بينه وبين الله، ويحتج بالقدر أيضاً فيما بينه وبين العباد سواء بسواء. أما أن يعامل الله بطريقة، ويعامل العباد بطريقة أخرى فهذا يدل على الهوى، ويدل على أن المسألة ما هي إلا شبهة شيطانية.

قيام الحجة على الإنسان حتى لا يحتج بالقدر على المعاصي

قيام الحجة على الإنسان حتى لا يحتج بالقدر على المعاصي وقوله: (ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره، واجتناب نواهيه) ، هذا هو الأصل، فمن فعل ما أمره الله سبحانه وتعالى به، واجتنب ما نهاه عنه فإن هذا من توفيق الله، لكن من خالف فلا يلومن إلا نفسه، ولا يجوز له أن يحتج بالقضاء والقدر، ولله عليه الحجة. ونحن نقول هنا: هذا الأمر الثالث، وهو: أن الحجة قد قامت عليك أيها العبد! من وجوه عديدة: أولاً: قامت الحجة على العبد بالتكليف، وهو البلوغ والعقل، فالإنسان المجنون لا يسأل ولا يكلف، وغير البالغ أيضاً لا يسأل ولا يكلف، وهذه رحمة من الله سبحانه وتعالى. الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أعطاك -مع العقل والبلوغ- قدرة بها تفعل، وإذا عدمت القدرة فإنك لا تسأل، فلو أن واحداً أرغمك على فعل وأكرهك فتكون مجبوراً ولا تحاسب. الثالث: وأعطاك الله أيضاً إرادة بها تفعل. إذاً: هناك إرادة، وهناك قدرة، ولهذا لا يمكن أن تأتي لإنسان يفعل معصية بإرادته إلا وهو يعلم يقيناً أنه يستطيع أن يفعلها، ويستطيع ألا يفعلها، ولو أجبر على ذلك لما حوسب، وهذا هو الواقع، فإن العاصي يذهب إلى المعصية بإرادته، ويترك الواجب بإرادته. إذاً: قدرة الإنسان وإرادة الإنسان التي أعطاه الله سبحانه وتعالى إياها هي مناط تكليفه ومحاسبته على فعله. الرابع: أن الله سبحانه وتعالى لا يعاقبك إلا بعد إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبيان الحجة، فالشخص أو الأمة الذين ما بلغهم رسول ولا كتاب لا يحاسبون، وإنما تقوم الحجة على العبد إذا بلغته الرسالة، قال عز وجل: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] ، فبإرسال الرسل وإنزال الكتب تقوم الحجة على العبد. إذاً: قامت الحجة على العبد؛ فهو: أولاً: غير مكره. وثانياً: له القدرة. وثالثاً: له الإرادة. ورابعاً: قد بين له طريق الخير وطريق الشر. ومن ثمَّ فما أعطاه الله من قدرة وإرادة مع البيان هي مناط التكليف، وما عدا ذلك لا يحاسب عليه، فمن كان مجنوناً لا يحاسب، ومن كان صغيراً لا يحاسب، ومن كان مكرهاً لا يحاسب، ومن كان ممن لم تبلغه الرسالة لا يحاسب.

لا يحاسب المرء على ما هو خارج عن إرادته

لا يحاسب المرء على ما هو خارج عن إرادته الأمر الرابع الذي يتعلق بهذه القضية هو: أن المتأمل بالنسبة لما يقع على الإنسان في هذه الحياة يجده ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يقع على الإنسان بلا إرادة منه. والقسم الثاني: ما يقع من الإنسان بإرادة منه. فالقسم الأول لا يحاسب عليه الإنسان، وذلك مثل أن الإنسان ولد في يوم كذا، وكونه قصيراً أو طويلاً أو أبيض أو كونه أحمر أو على شكل كذا، وكذلك أيضاً ما يجري عليه في هذه الحياة بدون إرادته، مثلما يجري عليه من أمراض تمنعه من الطاعات، وما يجري عليه من مصائب أو نحو ذلك، كل ذلك لا يحاسب عليه الإنسان؛ لأنه يفعله بلا إرادة منه. وأما القسم الثاني -وهو ما يفعله الإنسان بإرادته- فهذا القسم هو مناط التكليف، وعليه فإن الإنسان يحاسب على ما يصدر منه قولاً أو فعلاً.

زعم التعارض بين القدر والشرع وهم

زعم التعارض بين القدر والشرع وهم المسألة الخامسة هي: أن الزعم بأن هناك تعارضاً بين الشرع والقدر ما هو إلا وهم؛ وإلا فإن الإنسان لا يعلم المقدور قبل أن يفعل، فالإنسان قبل أن يفعل الطاعة أو المعصية هل عنده علم بما في قدر الله أو ليس عنده علم؟ A ليس عنده علم، فإذا لم يكن عنده علم فالواجب عليه أن يتبع الشرع، فمثلاً: إذا أذن المؤذن للعشاء فإنه لا يدري الذين مع الإنسان هل هو سيصلي أو لا؟ فبالله عليكم هذا الإنسان ما الذي يصنعه الآن؟ هو أصلاً لا يعلم الشيء إلا بعد أن يفعله، فأنت في مستقبل أمرك لا تعلم مقدور الله سبحانه وتعالى، لهذا فما الذي نفعله ونصنعه؟ وما الواجب علينا في مسألة الشرع والقدر؟ الواجب علينا أن نتبع الشرع؛ لأن الله أمرنا بذلك وكلفنا، وقال: ستحاسبون يوم القيامة على أفعالكم، ولا خيار لكم في هذا الحكم. فلما بين الله الطريق، ووضح لنا ما الذي يأمر به، وما الذي ينهى عنه، وأنت الآن في مستقبل الأمر لا تدري، فالواجب عليك أن تفعل الطاعة، وأن تبتعد عن المعصية. فإذا فعل الإنسان الطاعة فإنه يحمد الله، وإذا فعل المعصية فلا يحتج بالقدر، ولا يلومن إلا نفسه. إذاً: أي إنسان قبل أن يفعل الفعل هو لا يدري ماذا في القدر، فالواجب عليه أن يتبع شرع الله، وهذا الأمر لا يمكن أن ينفك عن الإنسان أبداً، ولهذا فإنني أقول: لو جاء إنسان بعدما وقع الأمر وقال: أنا قبل أن يؤذن ما كنت أدري ماذا في قدر الله، لكني فعلاً أنا ما صليت، فتبين لي أنني ما صليت بقضاء الله وقدره. فنقول له: نعم، صدقت، فكونك ما صليت هذا بقضاء الله وقدره، لكن لا حجة لك لأمرين: الأمر الأول: أن تركك للصلاة كان بعد قيام الحجة عليك، وأيضاً أنت تركتها بإرادتك. الأمر الثاني: هناك صلوات أخرى مقبلة، فماذا ستصنع؟ وهل تدري ما قدر الله؟ ولو جاءنا وقال: أنا منذ زمان وأنا لا أصلي ولا أصوم، وأفعل المنكر والفواحش، وهذا دليل على أن الله قد قدر أنني أفعل هذه الأشياء، فنقول: هل تعلم الغيب؟ وهل تعلم ماذا في قدر الله؟ ولماذا لا يكون في قدر الله أنك تكون مثل غيرك؟ وأنك تتوب وتعود إلى الله سبحانه وتعالى، وتفعل الطاعات، وتجد ربك قريباً رءوفاً رحيماً. وعلى كل حال فإن الإنسان لا يمكن أن ينفك عن قيام الحجة عليه أبداً، فحتى لو عصى أسبوعاً، وجاءنا يحتج بالقدر، فنقول له: هل تعلم ماذا في قدر الله؟ وماذا ستصنع الليلة وغداً؟ فسيقول: لا أدري، فنقول له: إذاً: لماذا لا تتوب إلى الله، فإذا ما أصر وعصى فلا حجة له، فدل هذا على أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده باتباع شرعه، والتصديق بقدره، ولا تعارض بين الأمرين.

الاحتجاج بالقدر على المعاصي مشابهة للمشركين

الاحتجاج بالقدر على المعاصي مشابهة للمشركين وهذه الشبهة ليست جديدة، بل هي شبهة قديمة؛ فهي شبهة المشركين الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام، فقالوا كما حكى الله عنهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] ، فنقول: صحيح أنه لو شاء الله ما أشركتم، لكن هل لكم حجة في هذا؟! ولماذا لا تؤمنون كما آمن غيركم ممن كانوا على الشرك؟! ولو جاء إنسان وقال: لو شاء الله أن يهديني لهداني، فنقول له: سبحان الله العظيم! إن طريق الهداية واضح. أيها المشركون! هذا رسول الله يدعوكم ليلاً ونهاراً، وأنتم تقولون: لو شاء الله ما أشركنا! إذاً: هذه حجة باطلة، ولذا فإن الذي يحتج بالقدر على المعاصي هو شبيه بهؤلاء المشركين؛ لأنه يقع في المعصية، ويخالف أمر الله، ويقع فيها بإرادته، ثم يحتج بالقضاء والقدر! وهذه شبه شيطانية واضحة تمام الوضوح، والمؤمن هو الذي يعلم أنه لا حجة له على ربه، ولذا فإن من القضايا والأسس في باب القضاء والقدر: أن تعلم أن الله عدل لا يظلم أبداً، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44] ، فالله سبحانه وتعالى لا يظلم العبد مثقال ذرة، وإنما أنت الذي تظلم نفسك، فأنت الذي فعلت المعصية، والله سبحانه وتعالى غني عنك. والآن لو نظرنا إلى العباد لوجدنا بعضهم يظلم بعضاً؛ لأن الظالم يحب السيطرة، أو يريد مالاً، أو نحو ذلك. أما ربنا جل وعلا فليس بحاجة إلى العباد؛ كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6] ، وقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56-58] ، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] . ويقول ربنا تبارك وتعالى -كما في الحديث القدسي الصحيح-: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك مما عندي شيئاً) . فالله غني عن العالمين، وهو سبحانه وتعالى أيضاً لا يظلم، وقد حرم على نفسه الظلم، كما في الحديث الصحيح: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) ؛ فكيف تخطر ببال الإنسان هذه الشبهة، بحيث تشغله في قلبه ونفسه؟! نسأل الله السلامة والعافية، وهكذا يوحي بعضهم إلى بعض بها؛ ليسهل وييسر العصيان والخروج عن طاعة الرحمن، فيجب أن تجزم وأن تقطع أن فعلك للمعاصي إنما هو بإرادة منك، فلا تلومن إلا نفسك، والله غني عنك. وبهذا أيها الإخوة يتبين أنه لا حجة في القضاء والقدر لأحد أبداً.

منازعة القدر بالقدر

منازعة القدر بالقدر ثم أقول أخيراً: إن الإنسان ينتقل من قدر إلى قدر، ولا يمكن لإنسان أن يسلم بالقدر ويسكت، وإلا عد مجنوناً، بمعنى: أن الإنسان إذا أصابه الجوع، فجوعه بقدر، فهل يمكن أن يعتمد على القدر ويقفل على نفسه الغرفة ويقول: إذا كتب الله لي أن أتعشى تعشيت؟! لا يمكن! إذاً: ما الذي يصنعه هذا الإنسان؟ الذي يصنعه هذا الإنسان أن يذهب ليأكل، وأكله بقدر، وسعيه بقدر، وإن عطش فعطشه بقضاء وقدر، فهل يسلم ويسكت، ويقول: إذا كتب الله علي أني سأروى رويت؟ لو قال هذا إنسان وأقفل على نفسه لعد مجنوناً. إذاً: ما الذي يصنعه الإنسان بحسب طبعه وما قدره الله عليه؟ على الإنسان أن يذهب لينازع قدر العطش والجوع بقدر الري والشبع، وهكذا بقية الحياة، فلو جاء إنسان وقال: بعض الناس يقول لي: تزوج، لكن أنا مؤمن بقضاء الله وقدره، فإن كتب الله لي أولاداً فسيأتيني أولاد، وإن لم يكتب الله لي أولاداً فلن يأتيني أولاد! فماذا يقال عن هذا الشخص؟ أظن أنه سيقال عنه: إن عقله فيه نقص؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بفعل الأسباب. ومثله المزارع لو ترك مزرعته أرضاً ليس فيها حب ولا بذر ولا سقاء، ثم قال: إن كان هذا العام سيكون في مزرعتي نتاج وزراعة فسيكون وإلا فلا! فنقول له: أنت مجنون، لا بد أن تبذر، وأن تسقي، وأن تفعل الأسباب، وقد يحصل لك ذلك، وقد لا يحصل. ولهذا فإن الإنسان مأمور بأن ينازع القدر بالقدر دائماً، ففي كل لحظة هو في قدر، فعليه أن ينازعه بقدر آخر، وهذه حياة الإنسان. لكن الفرق بين المؤمن والكافر، وبين المطيع والعاصي: أن المؤمن بالله ينازع القدر بقدر على وفق الشرع، وذاك ينازع القدر بأي قدر، فمثلاً: لو أن إنساناً أصابه قدر الجوع فلينازعه بقدر الشبع، لكن المؤمن هو الذي يشبع على وفق شرع الله بما أباح الله له، فلا يذهب ليسرق طعاماً حراماً، ولا يأكل طعاماً حرمه الله، كخنزير أو خمر أو غير ذلك. إذاً: المؤمن ينازع القدر بالقدر، لكن على وفق شرع الله، وهذا هو التلازم بين الشرع والقدر. وبهذا تستقيم حياة الإنسان؛ لأنه بتسليمه بالقضاء والقدر والإيمان بحكمته سبحانه وتعالى، وبأن الله عدل لا يظلم، وأن الله غني عن العالمين، إذا تكاملت هذه الجوانب صار الإنسان خائفاً راجياً، يفعل الطاعات ويرجو من الله سبحانه وتعالى أن يتقبلها ويثيبه عليها، وإذا وقع في ذنب لا يحتج؛ لأنه لا حجة له على ربه، وإنما يعترف بذنبه وتقصيره، ثم يستبدل بتلك المعصية طاعة وحسن عمل، هذه هي حال الآمنين المستقيمين، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا منهم. وقوله: (ونعلم أن الله سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك) وهذا كما بينا سابقاً، أما غير المستطيع مثل المكره أو فاقد الإرادة أو المجنون فهذا لا يحاسب، ولا يؤمر ولا ينهى، بمعنى: أنه غير مكلف. قال: (وأنه لم يجبر أحداً على معصية، ولا اضطره إلى ترك طاعة) وهذا مقطوع به؛ فإن الله تعالى ما أجبر أحداً، كما قال سبحانه: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] ، فكل إنسان له مشيئة، لكن مشيئة العباد خاضعة لمشيئة الله؛ لأن الله لو شاء لجعل الناس كلهم مهتدين.

مسألة تكليف ما لا يطاق

مسألة تكليف ما لا يطاق قال المصنف رحمه الله: [قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ} [غافر:17]] . لما كلف الله الإنسان وأمره بالأوامر لم يكلفه ما لا يطيق، وإنما كلف الله الإنسان ما يستطيعه؛ ولذا جاءت التكاليف الشرعية على أحسن نظام، ولذا تجب الصلاة بأركانها، لكن إن لم يستطع القيام فليصل قاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب. ومن لا يستطيع الحج لا يجب عليه الحج، والذي لا يستطيع الصيام يفطر ثم يقضي، أو إذا لم يستطع مطلقاً يطعم، وهكذا جاءت هذه الشريعة، فتكليفات الله وتشريعاته كلها على قدر وسع الإنسان، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] ، أي: كسبته هي، ومذهب أهل السنة والجماعة أن أفعال العباد تنسب إلى العباد أنفسهم، وإذا قلنا: إن الله هو خالق العباد وأفعال العباد فلا ننسب أفعال العباد إلى الله، وإنما نقول: إن الله خالق كل شيء ومن ذلك أفعال العباد، لكن الله سبحانه وتعالى قدر الأسباب والمسببات، فمثلاً: الشمس خلقها الله، وإذا تحركت الشمس وجرت فالذي خلق حركتها هو الله، فإذا تحركت الشمس لا نقول: إن الله هو الذي تحرك. وهكذا أيضاً: الذي خلق العبد هو الله، والذي خلق فعل العبد هو الله، لكن إذا فعل العبد طاعة أو معصية فينسب الفعل إلى العبد، وهذا هو المعنى الدقيق الذي غفل عنه المعتزلة وغيرهم؛ لأن الجبرية ظنوا أن كل ما يفعله العبد ينسب إلى الله، وهذا باطل. والمعتزلة ظنوا أن العبد مستقل بفعله، فهو الذي يخلق فعله، وهذا باطل. وأهل السنة والجماعة قالوا: نحن نفرق بين قدرة تقوم بالله، وبين ما هو من مخلوقات الله ومفعولاته المنفصلة عنه، فأفعال العباد من مخلوقات الله المنفصلة عنه، فتنسب إلى أصحابها، والكل خلق لله سبحانه وتعالى. قال المصنف رحمه الله: [فدل على أن للعبد فعلاً وكسباً يجزى على حسنه بالثواب، وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره] . وهذا هو المنهج الصحيح في فهم قضية الإيمان بالقضاء والقدر.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قوله عليه السلام: (من أحب أن يبسط له في رزقه)

معنى قوله عليه السلام: (من أحب أن يبسط له في رزقه) Q قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ، فهل يتعارض هذا مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه) ؟ A لا تعارض بين الأمرين، وإنما صلة الرحم سبب من الأسباب، وأنت مأمور بفعل الأسباب، فإذا فعل الإنسان السبب فقد يوجد المسبب، وقد لا يوجد، فلو وجد شخص وصل رحمه، ثم لم ينسأ له في أجله، فإننا نقول: قد يكون لم يقع هذا السبب موقعه؛ لوجود مانع من الموانع، فقد يكون وصل رحمه لكن بدون إخلاص، كما أن الدواء لهذا المرض المعين يعطى للمريض الفلاني فيشفى، ويعطى لمريض آخر بذلك المرض ثم لا يشفى؛ لوجود مانع، فالأجل مقدر، ولذا فنحن نقول: إنه في قدر الله وعلم الله أن فلاناً يصل رحمه، وفلاناً لن يصل رحمه؛ لأن علم الله سبحانه وتعالى كامل، وعلى ذلك فنحن نقول: صلة الرحم من الأسباب، ونحن مأمورون بفعل الأسباب، وما دام طريق طاعة، فينبغي لك أن تفعل هذه الطاعة، وحينئذٍ إذا فعلت هذه الطاعة قد يقع المسبب، فينسأ لك في أجلك في الدنيا، وقد لا يقع ويحفظ لك أجر هذه الصلة عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.

حكم نسبة الشر إلى الله عز وجل

حكم نسبة الشر إلى الله عز وجل Q هل ينسب الشر إلى الله؟ A ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والشر ليس إليك) ، فلا ينسب الشر المحض إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما نقول: الله خالق كل شيء، فهو يشمل الجميع، لكن الشر لا ننسبه إلى الله؛ لأن الله منزه عن الشر المحض الذي لا خير فيه، والله سبحانه وتعالى لم يخلق شراً محضاً لا خير فيه بوجه من الوجوه، وإنما يخلق أحياناً شراً، لكن لا يكون محضاً، وإنما يكون فيه خير. ومن باب الأدب مع الله سبحانه وتعالى لا ينبغي للإنسان أن ينسب إلى الله الشر، والله خالق كل شيء.

شرح حديث: (لا يرد القدر إلا الدعاء)

شرح حديث: (لا يرد القدر إلا الدعاء) Q ما هو تعليقكم على حديث: (لا يرد القدر إلا الدعاء) ؟ A هذا حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء في تفسيره، فمنهم من قال: إن الدعاء لا يرد القدر، وإن القدر لا يتغير، ومنهم من قال: إن الدعاء من الأسباب، وما دام من الأسباب فإن الإنسان مأمور بالدعاء، فقد يقع المسبب وقد لا يقع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يدعو بغير إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث خصال: إما أن يستجيب له، أو يصد عنه من الشر مثله، أو يدخر له ذلك عنده يوم القيامة، قالوا: إذاًً: نكثر يا رسول الله؟! قال: الله أكثر) ، ومدلول هذا الحديث أن الله سبحانه وتعالى أمر بالدعاء، فإذا دعوت فقد يستجيب الله، ويكون الدعاء بقدر، ووقوع هذا الأمر أيضاً بقضاء وقدر. الاحتمال الثاني: أن يصد الله عنك من الشر مثله، فهذا الذي يصده هو الذي قصده بعض العلماء في قولهم: لا يرد القدر إلا الدعاء، أي أنه يرد أمراً كان من المحتمل أن يقع فلا يقع، لكن كل الأمور مقدرة. أو يدخر ذلك لك عند الله سبحانه وتعالى.

الفرق بين الإرادة والمشيئة

الفرق بين الإرادة والمشيئة Q ما الفرق بين الإرادة والمشيئة؟ A المشيئة كونية عامة، والإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة دينية، وإرادة كونية، والإرادة الدينية هي الشرع، والإرادة الكونية هي بمعنى المشيئة.

وجوب تعظيم الله عز وجل وعدم قياسه بخلقه

وجوب تعظيم الله عز وجل وعدم قياسه بخلقه Q هناك شبهة قد يستغلها النصارى، وهي أنهم قالوا: إن عيسى عليه السلام -الذي هو الرب عندهم- قد دخل في بطن أمه ثلاثة أيام، فرد عليهم بعض المسلمين وقالوا لهم: من كان يحكم العالم خلال هذه الثلاثة أيام التي بقي فيها في بطن أمه؟ فقد يقولون هم: إنكم معشر المسلمين تقولون: إن الله ينزل في الثلث الأخير من الليل، فمن يحكم العالم خلال هذا النزول؟ A هذا السؤال غير وارد؛ والله سبحانه وتعالى هو مدبر الكون, وهو سبحانه وتعالى بيده الأمر، ولا يشغله شأن عن شأن؛ فهو ينزل في ثلث الليل الأخير، ولا يلزم من نزوله أن الباطل يخطر على بال الإنسان، بل الله سبحانه وتعالى على العرش استوى، ولهذا اختلف العلماء: هل يخلو منه العرش إذا نزل أم لا؟ ولم يرد في ذلك نص كما سبق أن بينا، ولهذا نقول: إن الذي يترجح أنه لا يلزم خلو العرش منه؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء. والخطأ نشأ من قياس الله بخلقه، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] ، فإذا كانت السماوات والأرضون كلها في يد الرحمن مثل الخردلة في يد أحدنا، فكيف يأتي قائل ليقول: إذا نزل هل يلزم وهل لا يلزم؟! إن هذا الوهم وهذا السؤال ناشئ من ظنه أن الله تعالى مخلوق من هذه المخلوقات، والله سبحانه وتعالى هو فوق هذا العالم، وهو عظيم جداً؛ لأن السماوات والأرضين يقبضها الله سبحانه وتعالى بيده، فنزوله سبحانه وتعالى إلى سماء الدنيا هو كما يليق به، ولا يلزم مثل هذا الأمر أو مثل هذا السؤال الذي طرحه السائل.

حكم قول (لو) فيما فات

حكم قول (لو) فيما فات Q ذكرت أنه لا يجوز أن يقول الإنسان: لو فعلت كذا لما حدث لي كذا، فإذا رسب -مثلاً- عن إهمال منه هل يجوز أن يقول: لو اجتهدت لنجحت؟ وما القول الصحيح في مثل هذا الموقف؟ A المشكلة هي فيما إذا كانت (لو) للاعتراض على القدر، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم لما ساق الهدي في الحج -ومعلوم أن من ساق الهدي لا يجوز له أن يحل حتى ينحر هديه- قال للصحابة الذين لم يسوقوا الهدي: (أكملوا عمرتكم، وحلو) يعني: تمتعوا بالعمرة إلى الحج، فالصحابة قالوا له: وأنت يا رسول الله؟! قال صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) ، يعني: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما عقدت الهدي معي من هناك، ولجئت بلا هدي، ثم أكملت عمرتي، ثم يوم العيد أنحر هدياً بمكة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو استقبلت أمري ما استدبرت ما سقت الهدي) ، فـ (لو) الممنوع منها ما كان اعتراضاً على قدر الله سبحانه وتعالى، وذلك مثل إنسان أصيب بمصيبة فبدأ يتحسر ويقول: لو أنني فعلت كذا ما حدث كذا، ولهذا من رسب في الامتحان فقال اعتراضاً على القدر لم يجز، لكن إذا كان من باب العبرة والعظة فهو صحيح، كأن يقال له: لو فعلت السبب وذاكرت لنجحت.

حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي

حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي Q قد يحتج بعض الناس فيقول: إن الله قدر علي بأن أذنب وأن أعصي، فلو لم يقدره لي لم أفعل، فكيف نجيب؟ A سبق الجواب على هذا، وذلك أننا نقول له: ما أدراك حينما تقول: إن الله قدر لي أو لم يقدر؟ فأنت الآن في لحظة لا تعلم ما في الغيب، ولا تعلم هل في قدر الله أنك تعصي أو لا تعصي، ولك إرادة، ولك قدرة، فالواجب عليك أن تتبع ما أمر الله سبحانه وتعالى، وألا تبحث عما في المقدور؛ لأن المقدور لا تعلمه أنت ولا غيرك إلا بعد أن يقع، وما دمت جاهلاً فالواجب عليك أن تصنع ما أمرك الله به، فإذا عصيت وذهبت إلى المعصية فأنت ذهبت إليها بإرادتك، ولم تجبر عليها، فأنت محاسب، فإذا ما وقعت منك واحتججت بالقدر فلا حجة لك، وصحيح أنها بعد وقوعها هي بقدر، لكن لا حجة لك. ولهذا إذا جاءنا إنسان الآن وقد سبق أن عصى، وقال: إن معصيتي بقدر الله، فنقول: تعال، والآن ماذا أنت صانع؟ نحن نقول لك: إنك لا تعلم ماذا في قدر الله الآن؟ فاستبدل تلك المعصية بتوبة، وتكون التوبة بقضاء الله، واستبدلها بطاعة، وتكون الطاعة بقضاء الله وقدره. وكما سبق في الدرس الماضي، فإنه لا يحتج أحد بالقدر إلا ولله الحجة البالغة عليه، وكما سبق أن ضربنا لكم مثلاً بذلك الذي يحتج بالمعصية لأنها فيما بينه وبين الله، فالشيطان هو الذي سول له، والشيطان يريد أن يغويه، فيأتيه بمثل هذه الشبهة، لكن هذا الإنسان نفسه لا يحتج بالقدر في أمور أخرى هي بقضاء الله وقدره، فلو أن أحداً ضربه أو أخذ ماله أو اعتدى على عرضه أو نحو ذلك، واحتج له ذلك المعتدي بالقضاء والقدر ما قبل منه، مع أنه فعله بقضاء الله وقدره، لكن لم يقبله منه؛ لأنه في حظ نفسه، أما فيما يتعلق فيما بينه وبين ربه فإنه يحتج بالقدر، وهذا منهج يدل على ضعف الإيمان، وعلى أن وساوس الشيطان قد استحوذت عليه، وإلا فالإنسان إذا أطاع الله ثم إن الله سبحانه وتعالى أثابه على ذلك بالجنة، فإنه لا يحتج بالقدر ويقول: أنا طاعتي بقضاء الله وقدره، وليس لي فضل فيها، فلماذا يثيبني الله عليها؟ فتجده يحتج بالقدر في القسم الأول وهو المعصية، ولا يحتج به في القسم الثاني وهو الطاعة، فهذا التفريق دال على أن المسألة وسوسة شيطان، ونفس أمارة بالسوء، تريد أن تزين للإنسان المعصية، وتقول له: افعل هذه المعاصي فإنها مكتوبة عليك، وهي مقدرة. نعم، إنه لا يكون شيء إلا بقضاء الله وقدره، لكن احتجاجك باطل، وهو مثل احتجاج اللص أو القاتل، فاللص الذي سرق أو القاتل الذي قتل لو قيل له: كيف تقتل فلاناً عمداً وعدواناً وتزهق نفساً مؤمنة؟ وقال: هذا بقضاء الله وقدره، فهو صادق أنه بقضاء الله وقدره، لكن حجته باطلة، واحتجاجه مردود عليه، فلا يقبل منه. وقد جيء بأحد اللصوص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان هذا اللص ذكياً، وكان يعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه رجاع إلى الحق حينما يذكر له الدليل، فلما جيء به وقد ثبتت عليه السرقة قال له: لماذا سرقت؟ قال: يا أمير المؤمنين! سرقت بقضاء الله وقدره، يريد أن يوحي لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه إذا كان فعلاً بقضاء الله فهذا مسكين، فسامحوه، لكن قال له عمر: (ونحن نقطع يدك بقضاء الله وقدره) ، فقطعت يده بقضاء الله وقدره؛ فكلامه صحيح أنه بقضاء وقدر، لكن احتجاجه باطل. وهكذا يجاب عن كل من احتج بذلك.

حكم الحلف برب المصحف

حكم الحلف برب المصحف Q هل يجوز الحلف برب المصحف كالحلف برب الكعبة؟ A، لا؛ لأن الكعبة مخلوقة، والحلف برب الكعبة هو كما نقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] فالكعبة والناس مخلوقات، فأنت حلفت بربك، لكن المصحف ليس بمخلوق، وإنما هو كلام الله سبحانه وتعالى، فلا يجوز أن تحلف برب المصحف، وإنما يجوز أن تحلف بالرب تعالى، أو تحلف بالمصحف، يعني: بالقرآن؛ لأن الحلف بالله أو بكلامه أو بصفة من صفاته جائز.

القرآن كلام الله وإن كتب على الورق

القرآن كلام الله وإن كتب على الورق Q هل الآيات المكتوبة في المصحف من كلام الله؟ A نعم، القرآن هو كلام الله محفوظ في الصدور، مكتوب على السطور، متلو بالألسنة، لكن الورق والحبر الذي تكتب به مخلوق، لكن القرآن المكتوب به هو كلام الله سبحانه وتعالى غير مخلوق.

نصيحة لمن يتخيل ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته

نصيحة لمن يتخيل ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته Q عند الكلام على أسماء الله وصفاته قد يدور في الذهن تصور وتخيل لا شعوري، سواء في الذات أو في الصفات، وهو يدافع هذه التصورات، فما هي النصيحة؟ A هذه الأمور قد تخطر على البال، وهذا شيء طبيعي أن يخطر بالبال شيء من تصور الصفة أو نحو ذلك، لكن الذي ننصحك به أن تعلم أن كل ما خطر ببالك فالله بخلافه، وأن أي تكييف خطر لك إنما هو نابع مما شاهدته من المخلوقات، والله لا يقاس بالمخلوقات، فتكييفك نابع مما شاهدته أنت من المخلوقات.

القول الحق في دوران الشمس

القول الحق في دوران الشمس Q هل الذي تدور هي الشمس أم الأرض؟ وما حكم من يقول: إن الشمس ثابتة والأرض متحركة، مع العلم أن هذا الكلام يدرس في المدارس، ويلزم به الطلاب؟! A بالنسبة لقضية إخضاع الآيات القرآنية للعلم هذا خطأ، فنحن نفرح حينما نجد شاهداً من شواهد العلم يفسر شيئاً من كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا دلالة على إعجاز كلام الله عز وجل، لكن الخطأ أن نخضع القرآن للعلم الحديث، وأن نلهث وراء العلم الحديث لنعرف صحة القرآن. والقضية بالعكس تماماً؛ فنحن واثقون بالقرآن وبما في القرآن وأنه حق لا شك فيه، ثم بعد ذلك ننظر في العلم، فما وافق نص القرآن فرحنا به، وعلمنا أنه دلالة على الحق، وما خالفه نرفضه، ولا نركض وراء العلم لاهثين نتأول من أجله كتاب الله سبحانه. وهذا من الأخطاء التي يجب أن يتنبه لها من يتصدى لدراسة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم؛ فإن هذا باب عظيم، وفيه خير كثير، لكن بشرط أن يتدارك هذا الخطأ؛ لأن بعض الناس يلهث وراء العلم ليصحح القرآن به، وتجده أحياناً يلهث وراء التأويلات البعيدة جداً لبعض الآيات حتى تتوافق مع العلم الحديث! ومنها هذه القضية التي سأل عنها السائل، وهي قضية هل الشمس ثابتة أو متحركة؟ فالعلم الحديث والفلك وغيره يقول: إن الشمس ثابتة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] ، ويقول: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38] ، فعندنا نص قاطع أن الشمس تجري. إذاً: مهما جاءنا من العلم الحديث فإننا نقول: قد يكون ثباتها ثباتاً نسبياً، يعني: أحياناً لما تأتي بحركة شديدة وحركة أخرى بطيئة، ثم تأتي بحركة ثالثة، فإنها تتحول بين الحركتين كأنها ثابتة، بينما هي متحركة، لكن نظراً لتوازنها بين الحركتين تصبح وكأنها واقفة، مع أنها متحركة، فقد يكون الذي في نظرية العلم الحديث في مسألة ثبات الشمس مرتبطاً بهذا، لكن الشيء الذي نجزم به جزماً أكيداً أن الشمس تجري، وأنها ليست ثابتة، ونقول لهؤلاء ولعلمهم: إن كان قد بلغ عندكم مثل هذا باليقين فقد بلغ عندنا كتاب الله تعالى يقين اليقين، وسيأتي اليوم الذي يتبين فيه صحة ما في كلام الله سبحانه وتعالى.

أنواع الشهداء

أنواع الشهداء Q هل الذي يموت باللدغ أو الحرق أو الغرق أو أي سبب يكون موته موت شهيد؟ A ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تسمية بعضهم أنه شهيد: والغريق، والحريق، والمبطون، والمطعون، وأيضاً المرأة في نفاسها، فهؤلاء شهداء، لكن الشهداء ثلاثة: شهيد الدنيا والآخرة، وشهيد الدنيا دون الآخرة، وشهيد الآخرة دون الدنيا. الأول: شهيد الدنيا والآخرة هو: المؤمن الصادق الذي يموت في معركة القتال، فهذا شهيد الدنيا، تطبق عليه أحكام الشهيد، فنكفنه بثيابه، ولا نغسله، ولا نصلي عليه، وفي الآخرة هو عند الله بمنزلة الشهداء. الثاني: شهيد الدنيا دون الآخرة، وهو: الذي جاهد ولم يكن جهاده في سبيل الله، مثل المنافق الذي يحضر المعركة ولا يطلب وجه الله، فهذا إذا قتل في المعركة بين المسلمين يطبق عليه في الدنيا أحكام الشهيد، فيكفن في ملابسه، ولا يصلى عليه إلى آخره، لكنه في الآخرة ليس بشهيد. الثالث: شهيد الآخرة دون الدنيا، وهو: الحريق والمبطون وميت الهدم ونحو ذلك، فهذا في الدنيا لا تطبق عليه أحكام الشهيد، فإن هؤلاء يعاملون مثلما يعامل الذي يموت على فراشه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه يكون يوم القيامة شهيداً، وأما منزلة هذه الشهادة فدلائل النصوص -والعلم عند الله سبحانه وتعالى- تدل على أنها نوع من الشهادة، لكنها دون شهادة القتيل في المعركة، فالقتيل في المعركة له خصوصيات، منها: تنعمه في الحياة البرزخية، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران:169] ، ففي الحياة البرزخية تكون روحه في حواصل طير خضر في الجنة، تمرح وتأكل منها، بينما روح الميت المؤمن في قنديل معلقة في الجنة، أي: ثابتة بهذا القنديل، لكن روح الشهيد في حواصل طير تمرح بالجنة، وأيهما أشد تنعماً في الحياة البرزخية؟ روح الشهيد. وأيضاً: منزلة الشهيد وكونه يشفع في سبعين من أهله، فالشهيد في المعركة لا شك أنه أعلى وأفضل من هذا الشهيد، لكن هذه بشرى من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاءت هذه البشرى حينما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: هل الشهيد هو من كان في المعركة؟ فقال: (إن شهداء أمتي إذاً لقليل، لكن الغريق شهيد، والهدم شهيد) إلى آخره، فهذه بشرى من الرسول صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الذي يموتون بهذه الطريقة أن الله سبحانه وتعالى يكتب لهم أجر الشهادة.

مكان عقل الإنسان

مكان عقل الإنسان Q أين يقع عقل الإنسان؛ هل هو في الرأس أو في القلب؟ A لا أدري، لكنهم اختلفوا قديماً في هذا، فبعضهم قالوا: هو في الدماغ، وبعضهم قالوا: هو في القلب، واستدلوا بقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] ، وبحثوا في هذا الموضوع علاقة القلب بالدماغ إلى آخره، وهي قضية لعلها سر من أسرار الله تعالى، وإلا فلو تأملنا لوجدنا أن الدماغ الذي في الرأس هو موطن التفكير والتحليل إلى آخره، والقلب من الناحية المادية ما هو إلا موطن ضخ للدماء، لكن هناك شعوراً يحسه الإنسان في قلبه، فعندما يحزن الإنسان يقول: أحس بوخزة داخل القلب، ولا يقول: أحس بوخزة داخل الدماغ، فهذا الإحساس سر من أسرار الله سبحانه وتعالى، فما علاقة هذه الروح وأين موضع هذه الروح من الجسد؟ والله تعالى يقول: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله) ، وهذا يدل على أن القلب له مكانة، لكن علاقته بالدماغ سر من أسرار الله تبارك وتعالى، وقد يحتج محتج بقول الله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] ، لكن يحتاج الأمر -والله أعلم- إلى خبر صادق ينفي هذا ويثبت هذا، يعني: أن النصوص دالة على أن القلب له دور عظيم، ولهذا اختلفوا في الموت، متى يتحقق الموت؟ هل يكون بموت القلب، أو يكون بموت الدماغ؟ لأن بعض الأموات يموت دماغه، ولكن يبقى جسمه وقلبه بأجهزة معينة متحركاً، فهل هو يموت بموت القلب أم لا؟ في هذا كلام طويل، ولا أظن أن هناك فائدة فيه. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [10]

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [10] من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. ومن الإيمان الواجب: الإيمان بكل ما أخبر الله عز وجل به، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب، كأشراط الساعة، وعذاب القبر، والجنة، والنار، وغير ذلك.

الكلام على الإيمان

الكلام على الإيمان

تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة

تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة بعد أن أنهى المصنف رحمه الله تعالى الكلام في باب القدر بدأ يعرض لتعريف الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين معنى الإيمان في حديث جبريل فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) ، وقد أجاب عن الإسلام بأنه: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) . إذاً: فسر الإيمان هنا بالأمور الباطنة، وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، لكنه في حديث آخر في صحيح البخاري وغيره، قال لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنتم) ، ففسر الإيمان هنا بالأعمال الظاهرة. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون -وفي رواية مسلم: بضع وسبعون- شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) ، فقوله: (وأدناها إماطة الأذى) الإماطة عمل ظاهري. وقوله: (أعلاها قول لا إله إلا الله) إيمان ظاهري، كما قال قائل: الرسول يقول: (بضع وستون، أو بضع وسبعون) ، فعددوها لنا، فسنذكر له أولاً أركان الإيمان؛ ثم نقول: الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، وبر الوالدين إلخ، فشعب الإيمان ليست مختصة بعمل القلب، وإنما تشمل أعمال الجوارح. هذا هو الذي انطلق منه أهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة لما جاءوا يعرفون الإيمان عرفوه بما قال المصنف هنا، فإنه قال: [فصل: والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان] . قوله: (الإيمان قول باللسان) ، أي نطق، ونطق اللسان هو أن ينطق الإنسان بالشهادتين، وهذا إيمان، وكذلك إذا نطق بذكر الله، فقولك بلسانك: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ هذا نطق باللسان، وهكذا بقية الأذكار التي ينطق بها الإنسان بلسانه. وقوله: (وعمل بالأركان) ، الأركان الجوارح، ومثال العمل بالأركان الصلاة والركوع والسجود، والحج، والزكاة، والجهاد في سبيل الله، فكل ما تفعله بيدك من طاعة لله فهو عمل، وكل ما تمشي إليه برجلك فهو عمل، وكل ما تعمله بجسدك فهو عمل بالأركان. وقوله: (وعقد بالجنان) ، أي: ما يعتقده الإنسان بالجنان وهو القلب، أي: اعتقاد القلب، واعتقاد القلب هنا يشمل أمرين: يشمل تصديقه، وذلك أن يصدق الإنسان بقلبه، ويشمل أعمال القلوب، مثل الخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والمحبة. إذاً: استنتجنا من تعريف أهل السنة والجماعة للإيمان أنه يشمل أموراً ثلاثة: يشمل نطق اللسان، ويشمل اعتقاد القلب، ويشمل عمل الجوارح، وهذا واضح جداً. وقال بعض السلف: (الإيمان قول وعمل) ، وقوله هذا صحيح، فقوله: (قول) أي نطق باللسان، وقوله: (وعمل) يشمل عمل القلب وعمل الجوارح. فهم بهذا التعريف الصحيح المنطبق على ما عليه أهل السنة والجماعة يحددون المعنى الموافق للتعريف الآخر الذي ذكره المصنف هنا. ونحن نحدد هذا المعنى لأهل السنة والجماعة، لأن الأدلة دلت على ذلك، فقوله صلى الله عليه وسلم: (آمركم بالإيمان: أن تشهدوا) هذا قول، وهو واجب، وهو من الإيمان. واعتقاد القلب هو الإخلاص، وقوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، وقوله: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175] ، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] ، هذه من أعمال القلوب. فأعمال الجوارح هي كل ما يتعلق بشعب الإيمان المتعددة التي تعمل بالجوارح، وكلها داخلة في الإيمان، والأدلة على ذلك متواترة.

تعريف الإيمان عند المخالفين لأهل السنة والجماعة

تعريف الإيمان عند المخالفين لأهل السنة والجماعة الذين ضلوا وانحرفوا في باب الإيمان، سبب ذلك هو قصرهم الإيمان على تعريف معين، فوقعوا في أخطاء؛ لأن منهم من قال: الإيمان قول اللسان فقط، فمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فهو مؤمن، ونحن نقول: هل يكون المنافق مؤمناً؟ قالوا: هو مؤمن ظاهراً، لكن في الباطن هو كافر. وجاءت طائفة أخرى فقالت: لا اعتبار بهذا، إنما الاعتبار بمعرفة القلب، فالإيمان هو المعرفة، فمن عرف الله وعرف الرسول أنه صادق فهو مؤمن. فقلنا لهم: ما تقولون في الشخص إذا كان قد عرف لكنه كذَّب مثل إبليس، فإبليس في قرارة نفسه كان عارفاً بالله، ولكنه كفر بالجحود، وكفر بالإباء والاستكبار. وهكذا فرعون كان عارفاً بالله، قال تعالى عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] . إذاً: التعريف للإيمان بأنه المعرفة كما عرفته الجهمية تعريف باطل؛ لأنه يلزم منه أن يكون إبليس وفرعون مؤمنين؛ لأنهما يعرفان الله. وبعضهم قال: الإيمان هو التصديق، وهذا تجده عند الأشعرية والماتريدية، فقلنا لهم: ما تقصدون بالتصديق؟ إن قصدتم به المعرفة -يعني: أن يصدق بقلبه- فإبليس وفرعون كانا مصدقين، واليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مصدقين بقلوبهم أن محمداً رسول الله، لكنهم كفروا. فقالوا: نحن نفرق بين المعرفة وبين التصديق، فالتصديق يلزم منه شيء من عمل القلب. فنقول: هذا كلام أردتم به التفريق، لكن لا يتم ذلك إلا بأن تفسروا الإيمان بما دلت عليه النصوص، وإلا ففرعون مصدق، بل الله سبحانه وتعالى ما جعله تصديقاً وإنما سماه يقيناً، فقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} واليقين تصديق جازم، ومع ذلك كانوا كفاراً وإن كانوا مصدقين، فكيف تقولون: الإيمان هو التصديق؟! ولهذا كانوا متناقضين حينما عرفوا الإيمان بأنه التصديق. كذلك أيضاً مرجئة الفقهاء كـ أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى قالوا: الإيمان هو قول باللسان، واعتقاد بالقلب فقط، ولم يدخلوا العمل، فقلنا لهم: إن النصوص الصريحة الصحيحة دلت على دخول أعمال الجوارح في مسمى الإيمان، فتعريفكم ناقص، وأنتم -رحمكم الله- وإن أوجبتم العمل ولكنكم أخرجتموه عن مسمى الإيمان، إلا أن إخراجكم له مخالف للنصوص الصريحة الصحيحة. فهؤلاء كلهم انحرفوا على تفاوت فيما بينهم في تعريف الإيمان، لكن التعريف الصحيح هو ما ذكره أهل السنة والجماعة وعبر عنه المصنف هنا.

زيادة الإيمان ونقصانه

زيادة الإيمان ونقصانه قال المصنف: [يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان] . إدخال أعمال الجوارح في مسمى الإيمان وإدخال أعمال القلوب في مسمى الإيمان يقتضي قضية أخرى من قضايا الإيمان دلت عليها النصوص، وهي أن الإيمان يزيد وينقص، وكل من ذكرناه سابقاً من الطوائف غير أهل السنة والجماعة يخالفون في هذا؛ فالمرجئة يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن الإيمان عندهم مجرد التصديق، ولا تفاوت بين المصدقين، بينما لو تأملنا لوجدنا أنه حتى في باب التصديق يتفاوت الناس؛ لأن الناس لا يتفاوتون إذا كان الأمر خبراً عن حاضر، فمثلاً: عندما أقول لأناس: هذا كتاب، وكل واحد منهم رآه وعلم أنه كتاب؛ لأنه أمر حاضر قريب منه، فتصديقهم له لا يتفاوت، ولا يجيء واحد ويقول: أنا أكثر منهم إيماناً بأن هذا كتاب، لكن عندما يتعلق الأمر بخبر عن غائب فإنه يتفاوت، فمثلاً: لو كنا في مسجد وجاءنا واحد وأخبرنا بخبر جرى -مثلاً- في الجامعة، فقال: قبل قليل حدث كذا وكذا، فإيماننا وتصديقنا بهذا الخبر سيختلف؛ لأن واحداً منا رأى أن القائل غريب فما صدق، وواحداً آخر يعرف أنه فلان بن فلان الثقة فصدق، وواحداً شك، وواحداً كذب، فكلنا سنتفاوت في هذا؛ لأنه خبر عن غيب. ومجمل مسائل الإيمان هي خبر عن غيب، إذاً: عندما يقول المرجئة إن التصديق واحد، نقول: لا، بل التصديق متفاوت؛ فهذا مصدق بالله وهذا مصدق بالله، لكن هل تصديقهم وإيمانهم بالله واحد؟ A لا، وهكذا الإيمان بالملائكة والإيمان باليوم الآخر، فهل تصديقنا باليوم الآخر واحد أم متفاوت؟ الجواب: متفاوت؛ فهذا قوي الإيمان، وهذا أقل منه. وهكذا التصديق بالقضاء والقدر، والتصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. إذاً: لا شك أن التصديق يتفاوت، فإذا جئنا لأعمال الجوارح، فهل يتفاوتون؟ فذلك الإنسان الذي هو مصدق لكنه لا يعمل شيء، وذلك الإنسان الذي هو مصدق صوام قوام مطيع لله، أمار بالمعروف نهاء عن المنكر، صاحب خير وأعمال صالحات، هل إيمان هذا مثل إيمان هذا؟! الجواب: لا يمكن أن يكونا متساويين. إذاً: تصديق القلب يتفاوت الناس فيه، وأعمال الجوارح من الطاعات يتفاوت الناس فيها، ومن ثمَّ دلت الأدلة الصحيحة على أن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا قال المصنف هنا: (يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان) .

أدلة زيادة الإيمان ونقصانه

أدلة زيادة الإيمان ونقصانه ثم ذكر الأدلة فقال: [قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]] . أي: ملة إبراهيم الحنيفية التي هي صدق الإخلاص في العبادة لله سبحانه وتعالى. قال: [فجعل عبادة الله وإخلاص القلب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كله من الدين] . وإذا كان من الدين فهو من الإيمان. إذاً: الدين والإيمان كل منهما يدخل فيه قول اللسان، ويدخل فيه اعتقاد القلب، ويدخل فيه أعمال الجوارح، كإيتاء الزكاة وإقام الصلاة، وهذا أيضاً دليل صريح في هذا الباب. ثم قال المصنف: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) فجعل القول والعمل من الإيمان] . فدل هذا على أن الإيمان قول وعمل، خلافاً للمرجئة. ثم إن المصنف بعد أن دلل على تعريف الإيمان، وأنه قول واعتقاد وعمل، أخذ يدلل على زيادته ونقصانه فقال: [وقال تعالى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124]] . قال تعالى في أول هذه الآية: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124] ، فنزول الآيات القرآنية تزيد في الإيمان، وهذا يدل على الزيادة، وإذا قبل الزيادة فهو قابل للنقصان. قال المصنف: [وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} [الفتح:4]] . هذه الآية في سورة الفتح، وفيها: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفتح:4] ، وفيها أيضاً دلالة على زيادة الإيمان. قال المصنف: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال برة -حبة بر- أو خردلة -معروفة، وهي: الهباءة في الهواء- أو ذرة من الإيمان) فجعله متفاضلاً] . الدليل هنا على زيادة الإيمان ونقصانه في الحديث قوله: (وفي قلبه مثقال برة) ، ولذلك جاء في بعض روايات هذا الحديث: (يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان) ، وأدنى وأدنى هنا دليل على النقصان. وورد أيضاً أدلة على ذلك من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، منها قوله عليه الصلاة والسلام (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ، وقوله: (أكمل) دليل على زيادة الإيمان. وأيضاً يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي لا تصلي وقت الدورة الشهرية: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين) ، فلما سئل عن نقص الدين ذكر أنها تترك الصلاة أيام أقرائها، أي: أيام حيضها، فهذه المرأة وإن كان تركها للصلاة حكماً شرعياً إلا أنه ينقص إيمانها، لكنه تنقيص لا تأثم به، وهذا مشاهد، فالمرأة إذا تركت الصلاة وتركت بعض الأعمال كالصيام ونحو ذلك لا شك أنه ينقص إيمانها، لكنها لا تأثم بذلك، فنحن نستدل من الحديث على نقصان الإيمان، لكن ليس بلازم يترتب عليه إثم. فمثلاً: إنسان يقوم الليل، فنقول: زاد إيمانه، ثم بعد شهر ترك قيام الليل، فنقول: نقص إيمانه، لكن نقصه لنقص الطاعة لا لفعل المعصية، أما الذي يفعل المعصية فإن مجرد فعل المعصية ينقص الإيمان، وهذا واضح جداً. وفي مسائل الإيمان قضايا كثيرة، لكن نكتفي بما ذكره المصنف رحمه الله.

وجوب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم

وجوب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ثم انتقل رحمه الله تعالى إلى قضية أخرى فقال: [فصل: ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وصح به النقل عنه، فيما شاهدناه أو غاب عنا نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه، ولم نطّلع على حقيقة معناه، مثل حديث الإسراء والمعراج] . هذه قضية كبرى من قضايا الإيمان، وهي الإيمان بكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن عرضنا لهذه القضية عند قول المصنف: (ويجب أن نصف الله بما وصف به أو وصفه به رسوله) ، وقلنا: إن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حق يجب الإيمان به، فذكره المصنف هناك في باب الصفات، وذكره هنا في غير باب الصفات، فكلما ورد النص الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الخبر الغيبي سواء كان هذا الغيبي سابقاً أو سيأتي فنحن نؤمن به، ونصدق به، بشرط أن يكون هذا الحديث صحيحاً؛ ولهذا قال: (ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا) . فما أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم مما شاهده الصحابة في وقته، أو نشاهده نحن من بعض أخباره ومعجزاته، أو غاب عنا مثل خبره عن الله، أو عن الملائكة، أو عن السماوات، أو مثل خبره عن عذاب القبر ونعيمه، وخبره عن اليوم الآخر، وماذا يكون في اليوم الآخر، والميزان والصراط، وخبره عن أشراط الساعة التي تكون في آخر الزمان، وخبره عن أهل الجنة، وأهل النار، كل هذه الأمور إذا صح الحديث بها فنحن نؤمن به.

الرد على القرآنيين والعقلانيين

الرد على القرآنيين والعقلانيين وهذه قضية إيمانية بدهية، لكن المؤسف حقاً هو أنه وجد في المسلمين من يستهين بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يصدق ما جاء به! ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (يوشك رجل متكئ على أريكته يقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما جاء في كتاب الله أخذنا به! ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه) ، أي: السنة، والسنة بيان، والله سبحانه وتعالى أخبر أنه أنزل القرآن للبيان فقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] ، ولا يمكن أبداً أن نعمل بالقرآن إلا بالسنة، فنصوص القرآن عامة، ولو لم نعمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما هو مذهب القرآنيين لما عملنا بالقرآن، فهناك طائفة يسمون القرآنيين، يقولون: الحديث فيه صحيح وضعيف فلا نأخذ به! وأولئك الذين ينكرون السنة وقعوا في خلط عجيب جداً! فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، فكيف نعمل بالآية؟ ومن هو السارق؟ هل السارق الذي سرق ثلاث حبات شعير، والذي سرق درهماً، والذي سرق ثلاثة دراهم، والذي سرق مليون درهم سواء، إذا أخذنا بالعموم فنقطع يد كل سارق حتى ولو سرق دون النصاب، وحتى ولو كان أمراً تافهاً؟! ثم إذا جئنا لننفذ الحد؛ لقوله تعالى: (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ، فما هي اليد؟ هل اليد من الكف، أو من منتصف الساعد، أو من المرفق، أو من العضد، أو من الكتف؟! وكيف نقطع هذه اليد؟! فلا يمكن أن ننفذ هذا الحكم الشرعي إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم. وهكذا بقية الأحكام الشرعية. إذاً: الأحكام الشرعية والأخبار الغيبية التي صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم نحن نأخذ بها، ونؤمن بما كان فيها من أخبار، ونعمل بما كان فيها من حكم وتشريع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن ربه سبحانه وتعالى، وما جاء به حق وصدق. وإذا أتانا خبر من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم نأخذ به، مثل حديث الذباب، فبعضهم يرد هذا الحديث؛ لقول فلان أو علان أو أهل الطب أو غيرهم: إن الذباب ينقل العدوى! فنقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحكم، وتبين فعلاً أنه حق، وهذا البيان للاطمئنان، وإلا فما في إيماننا شك بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال عن الذباب: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه؛ فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء) وقد تبين أنه كما أخبر عليه الصلاة والسلام. فيجب الإيمان بكل الأمور التي يخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم.

الإيمان بحديث الإسراء والمعراج

الإيمان بحديث الإسراء والمعراج مثل المصنف هنا بأمثلة فيها شيء من الغيبيات، فقال: (مثل حديث الإسراء والمعراج) ؛ لأن الإسراء والمعراج غيب، وكان يقظة لا مناماً، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، والرسول صلى الله عليه وسلم أسري به إلى بيت المقدس. والإسراء هو السير ليلاً، والمعراج مفعال من العروج، وهي الآلة التي يصعد بها، والله أعلم بكيفيتها، والمقصود العروج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وأهل السنة والجماعة يقولون: إنه كان يقظة، وكان بروحه وجسده، وهذا هو الصحيح. وهذا الإسراء والمعراج معجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن من حكمة الله تعالى أن جعل فيها الإسراء الذي يستدل به عملياً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ لأن الله قادر على أن يعرج به من المسجد الحرام إلى السماء، لكن لو عرج به إلى السماء، وجاء الرسول في الصباح يقول: عرج بي إلى السماء، لقال المشركون: هذا مثل كقولك إنه ينزل عليك ملك! أي: أن هذا أمر غيبي لا يمكن أن نستدل به على صدق ما تقول، لكن من حكمة الله أن جعل الإسراء إلى بيت المقدس؛ ولهذا لما اعترض المشركون لم يعترضوا على العروج به إلى السماء، وإنما اعترضوا على الإسراء به إلى بيت المقدس؛ لأن هذه هي القضية المادية التي يرون أنها لا يمكن أن تتم في ليلة واحدة؛ ولهذا لما أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك أنكرته قريش وأكبرته، وقالت: هذا شيء لا يمكن أن يتم ولا يمكن أن يقع، وبقية القصة معروفة. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرهم عن أشياء دلت على أن هذا وقع فعلاً، فأخبرهم عن العير، وماذا جرى لها، ومتى ستقدم، بل وأخبرهم عن تفاصيل دقيقة عن بيت المقدس، وهم يقطعون ويجزمون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذهب إلى فلسطين، فإنه حين سأله المشركون عن المسجد الأقصى رفعه الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، وصار كأنه ينظر إليه، فجعل عليه الصلاة والسلام يصفه وصفاً دقيقاً؛ حتى إن الواحد من المشركين قد يكون استقر في ذهنه جزئية بسيطة في المسجد، كالمدخل، والعتبة الفلانية، والمكان الفلاني، أما ماذا فيه من وصف فلا، فالرسول صلى الله عليه وسلم جعل يصفه وصفاً دقيقاً، لكن لو كان مناماً كما يزعم البعض ويقول: الإسراء والمعراج كان مناماً، فإنهم لا ينكرونها؛ لأن المنامات لا تنكر، فإذا جاء واحد وقال: رأيت في النوم أنني ذهبت إلى كذا وصعد بي وعرج بي إلى آخره، فسيكون هذا مناماً ليس بمستغرب، لكن قريشاً وهم كفار فهموا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم إنه أسري بي، ثم عرج بي إلى السماء، أنه كان بروحه وجسده، يقظة لا مناماً. بقي إشكال، وهو أنه في بعض روايات الإسراء أن الرسول ذكر فيه أنه استيقظ، وفي بعضها: أنه كان مناماً، وقد أجاب العلماء عن ذلك بأنه لا يبعد أن الرسول كان يرى رؤيا ثم تقع مثل فلق الصبح، فقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا ثم بعد ذلك وقعت حقيقة، لكن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين إنما هو إخبار بالإسراء بروحه وجسده، يقظة وليس مناماً. وأما كيف تم ذلك؟ فهذا علمه عند الله، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن البراق، وعن شيء من وصفه، وعن شيء من سرعته، وأخبرنا عما جرى له في السماوات، وكيف استفتح كل سماء، وكيف التقى ببعض الأنبياء، وكيف أنه بلغ سدرة المنتهى، وكيف أنه سمع صريف الأقلام، وكيف أنه رأى جبريل، وكيف أن الله كلمه في السماء، وخاطبه مباشرة بدون واسطة، وفرض عليه الصلوات الخمس إلى آخره. فنؤمن ونصدق بجميع ذلك، وهذا مثال فقط ذكره المصنف في بداية هذه القضية الكبرى، وهي الإيمان بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال: [وكان يقظة لا مناماً؛ فإن قريش أنكرته وأكبرته، ولم تنكر المنامات] .

الإيمان بفقء ملك الموت عين موسى عليه السلام

الإيمان بفقء ملك الموت عين موسى عليه السلام ثم قال المصنف: [ومن ذلك -أي: من الأخبار الغيبية التي نصدق بها- أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه لطمه، ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فرد عليه عينه] . هذه القضية لاك فيها المتقدمون والمتأخرون، ففي الزمن القديم -قبل ألف سنة- وجد من لاك في هذا الحديث، وقال: كيف يفقأ موسى عين ملك الموت؟ وفي العصر الحديث أيضاً وجد من المستشرقين وأذنابهم ممن ينتسب إلى المسلمين من يعترض بنفس الاعتراض، بينما هذا الحديث حديث متفق عليه، رواه البخاري ورواه مسلم، ورواه الإمام أحمد بأسانيد صحيحة، لا شك فيها أبداً، وليس فيها علة، ولا شذوذ، ولم يتكلم أحد بنقدها لا إسناداً ولا متنا، ً وإنما اعترض عليها من يعترض على خبر الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن ثمَّ فإن أهل السنة والجماعة يؤمنون بمثل هذا الحديث، ويصدقون بما جاء به، وهو أن ملك الموت لما جاء إلى موسى ليقبض روحه، فقأ موسى عينه، ثم إن الله سبحانه وتعالى رد على ملك الموت عينه، وجاء إلى موسى مرة أخرى، كما هو معروف في بقية الحديث وقال: (إن الله يقول لك: تعال إلى ثور، وامسح على جلده، فلك بكل شعرة من جلده سنة من عمرك، فقال موسى: وبعد ذلك؟ قال: الموت، قال: إذاً الآن) ، أي: ليقبض روحي الآن. قد يقول قائل: وكيف ذلك؟ فنقول: الأمر يسير؛ فنحن نصدق بهذا، لكن نحن سنقرب الأمر تقريباً وليس جزماً فنقول: أليس جبريل عليه السلام كان يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي الصحابي المشهور رضي الله عنه، حتى إنه كان يدخل على الرسول فيقولون: دخل عليه دحية، بينما هو جبريل؟! أليس الرسول وأصحابه جاءهم جبريل على صورة رجل في حديث جبريل المشهور: (طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد) ؟! وفي بعض الروايات: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما علم إلا بعد نهاية الحديث. إذاً: فهل يمنع مانع من أن يأتي ملك الموت على هيئته في صورة بشر؟ A لا يمنع ذلك شيء. هذا أولاً. ثانياً: لما دخل على موسى ألا يحتمل أن يكون موسى نظر فإذا في بيته رجل، فغضب لمحارمه؟ ونحن نعلم أن من اطلع على بيت أحد ففقأ عينه -كما في الحديث- فعينه هدر. ثم إذا كان الملك يأتي على صورة بشر فتفقأ عينه فليس فيه إشكال، ولهذا لما جاء في المرة الثانية وقال: أنا ملك الموت؛ اختلفت صورة الواقعة هنا، ولما قال له: (أمرر بيدك على جلد ثور، فلك بكل شعرة سنة) أجابه موسى عليه الصلاة والسلام بما سبق أن ذكرنا. إذاً: المسألة ليس فيها إشكال، وما دام الخبر قد جاء بالإسناد الصحيح فلا إشكال، فنحن نؤمن بذلك ونصدقه، ولا نعترض، ولا ندخل بعقولنا وتوهماتنا.

وجوب الإيمان بما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة

وجوب الإيمان بما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ثم قال المصنف: [ومن ذلك: أشراط الساعة] . أي: من الأمور التي صحت بها الأخبار، ونحن نصدق بها أشراط الساعة، وأشراط الساعة علاماتها.

أشراط الساعة قسمان: صغرى وكبرى

أشراط الساعة قسمان: صغرى وكبرى وأشراطها قسمان: قسم منها أشراط صغرى بعيدة، والقسم الثاني أشراط كبرى قريبة. فالصغرى هي الأشراط الصغيرة التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل موته عليه الصلاة والسلام، ومثل فتح بيت المقدس، ونحو ذلك. والكبرى هي التي تأتي في آخر الزمان، مثل الدجال، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، والخسوفات الثلاثة، فكل هذه أشراط كبرى. والأشراط الصغرى أشراط بعيدة؛ لبعدها عن يوم القيامة، أي: بعيدة بعداً نسبياً عن يوم القيامة، لكن الأشراط الكبرى قريبة؛ لقربها من يوم القيامة؛ لأنه ورد أن الأشراط الكبرى تأتي متتابعة، ويأتي بعدها قيام الساعة. وأشراط الساعة كثيرة تكلم عنها العلماء، وذكروها، ونحن نؤمن بما صح من أشراط الساعة، مثل ما ورد في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً) ، وما ورد أن نهر الفرات ينحسر عن جبل من ذهب، ويقتتل الناس عليه، وما ورد من فتح رومة، وأنه في آخر الزمان تكثر النساء، ويقل الرجال، حتى يكون الرجل الواحد قيماً لخمسين امرأة؛ ولهذا فإن هذه الأشراط ليست كلها سيئة؛ فإن بعض الناس يظن أن الأشراط كلها فتن، وليس الأمر كذلك، بل الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عما سيجري، فبعضها فتن، وبعضها ليس بفتن، مثل كون الرجل قيماً لخمسين، فإنسان يبتلى في آخر الزمان بأن يكون قيماً لخمسين امرأة، هل هذا سيئ بالنسبة له؟ ليس سيئاً، بل هذا قضاؤه وقدره، فإذا قام بهن ورعاهن فله أجر عظيم عند الله سبحانه وتعالى. والمقصود بكونه قيماً لهن: أنه يعولهن؛ لأنهن بناته وأخواته وعماته وخالاته وقريبات له، حتى وإن لم يكن محارم له، فليس لهن إلا هو.

الإيمان بخروج المسيح الدجال

الإيمان بخروج المسيح الدجال ثم مثل المصنف بأمثلة مختصرة؛ لأن هذه العقيدة مختصرة لا يريد أن يطيل فيها فقال: [مثل خروج الدجال] . وقد وردت الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في خروجه في آخر الزمان، وهو دجال كذاب، وورد في صفته عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخرج في آخر الزمان، وأن الله يفتن به الناس، ويتبعه اليهود، ويتبعه كثير من النساء، وضعفة العقول، وأنه يجوب الأرض، وأن الله يؤيده بخوارق، وهذه الخوارق يفتن بها الناس، فيأمر السماء أن تمطر، ويأمر الأرض أن تنبت، ويأمر الخربات أن تخرج كنوزها، وهذه الخربة لو جاء إنسان فإنه يحتاج إلى سنين حتى يبعثرها ليخرج ما فيها من مال أو ذهب أو نحو ذلك، لكن الدجال يأمرها فتخرج كنوزها، ويأمر الأرض نفسها فتخرج كنوزها من ذهب وجواهر ونحو ذلك، وكلها فتنة. وأيضاً يأتي برجل يكذب به، فيقول الدجال للناس: أرأيتم إن قتلته وأحييته، أتصدقوني؟ فيقولون: نعم، فيأتي بهذا الرجل فيشقه نصفين، ويمشي بينهما، ثم يعود فيحييه من جديد، ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: والله ما ازددت فيك إلا يقيناً أنك الدجال الذي أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيريد قتله مرة أخرى فيعجز عنه، فيأخذه ويرمي به إلى ناره، وإنما رمى به إلى الجنة. ففتنة الدجال فتنة عظيمة؛ ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حذر من المسيح الدجال أصحابه حتى قالوا: (ظننا أنه على أطراف المدينة من شدة تحذيره) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي إلا وقد حذر أمته من فتنة الدجال) ؛ لأن فتنته عظيمة جداً في الأمة؛ ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سمع منكم بـ الدجال فلا يأته) . والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الذهاب إلى الكاهن والساحر؛ لأنه فتنة، وأنت إذا قيل لك: هذا كاهن وساحر يدعي علم الغيب! فإنك تقول: هو كذاب، لكن إذا ذهبت إليه وبدأ يخبرك عن شعوذاته ربما يصير عندك شك، فهذه هي حكمة النهي عن الذهاب إلى الكاهن، قال عليه الصلاة والسلام: (من أتى كاهناً فصدقه -وفي رواية: من أتى كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) ، وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من سمع منكم بـ الدجال فلا يأته) ، فلا تجعلها مسألة فرجة، وتقول: نحن نعرف أنه كذاب، لكن سنذهب لننظر! فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في هذا الحديث: (فإن الرجل ليسمع بـ الدجال فيقول: هذا هو الدجال، أشهد أنه الكذاب الذي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه) ، يعني: أن عنده الأدلة، والمعرفة اليقينية بأنه كذاب، لكن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ثم إنه يأتي إليه فلا يزال به حتى يؤمن به ويصدقه!) ، أي أنه يفتن به؛ لأنه إذا جاءه قال للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض: أنبتي فتنبت، وأخرجي كنوزك فتخرج كنوزها. وهذه الفتنة العظيمة حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها، وهو يخرج في آخر الزمن، وإذا خرج يخرج معه اليهود، ويقتله عيسى بن مريم عليه السلام.

الإيمان بنزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان

الإيمان بنزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان قال المصنف: [ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله] . أي: نؤمن بأن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ينزل في آخر الزمان، وأنه يقتل الدجال، يعني: أن عندنا قضيتين من أشراط الساعة الكبرى: القضية الأولى: مجيء الدجال وخروجه. والثانية: نزول عيسى بن مريم. لكن نزول عيسى بن مريم يكون بعد خروج الدجال؛ ولهذا فإن هذا الدجال يكون معه اليهود، فيقاتلهم عيسى عليه السلام ومعه المؤمنون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا أقبل عليه ذاب الدجال كما يذوب الملح في الماء، ثم إن عيسى يقتله ويريح المسلمين من شره، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد وردت آيات في القرآن فيها إشارات إلى نزول عيسى، كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] ، ووردت أحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيخرج في آخر الزمان، وينزل في شرقي مدينة دمشق على المنارة البيضاء، ينزل عليه السلام متكئاً على ملكين، ورأسه يقطر، كأنما خرج من ديماص -وهو: الحمام- فإذا خفض رأسه قطر الماء، فينزل وقد اجتمع المسلمون ومعهم المهدي الذي يأتي في آخر الزمان، وقد حضرت صلاة العصر. إذاً: عيسى عليه السلام يحضر مع المسلمين، ويصلي صلاة المسلمين، فيقولون له: صل لنا، فيأبى، ويصلي عيسى عليه السلام خلف المهدي تكرمة لهذه الأمة، ثم يتولى قيادة الأمة، ويمكث سنين، ويحكم بالقرآن، ويقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويبطل دعوى النصارى أن عيسى صلب، ويضع الجزية، فلا لا يقبل من أهل الكتاب -اليهود والنصارى- إلا الإيمان بالقرآن والإسلام، أو السيف، أما قبل نزول عيسى عليه السلام فلهم أحكام ثلاثة: إما الإسلام، وإما أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وإما السيف إذا أبوا ذلك، فإذا نزل عيسى في آخر الزمان بطلت موضوع شبهة أهل الكتاب؛ فيقال: هذا نبيكم المرسل إليكم قد جاء يأمر بطاعة محمد؛ لأن الله أخذ على عيسى العهد والميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن بمحمد؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والله! لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) ، والرسل يصدق بعضهم بعضاً. ويحكم عيسى بالقرآن ولا يحكم بالإنجيل، فلا يأتي قائل ويقول: إن قولكم إن الأناجيل محرفة صحيح؛ فقد حرفها الأحبار والرهبان وغيرهم، لكن الآن جاءنا من نزل عليه الإنجيل، فالإنجيل عنده غير محرف، فلماذا لا يحكم بالإنجيل؟ فنقول له: الإنجيل المحرف وغير المحرف منسوخ بالقرآن، وعيسى لأنه رسول الله يؤمن بهذا النسخ، ويصدق به، ويتبع محمداً، ولهذا لا يقبل إلا الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: خبر الدجال الغيبي حق وصدق نؤمن به، وخبر نزول عيسى بن مريم وما فيه من أحداث حق نؤمن به، ولهذا ورد أنه يحج أو يعتمر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ليهلن عيسى بن مريم بالبيداء حاجاً أو معتمراً) ، وهذا حق وصدق نؤمن به، ونصدق بنزوله وبما يجري في ذلك.

الإيمان بخروج يأجوج ومأجوج في آخر الزمان

الإيمان بخروج يأجوج ومأجوج في آخر الزمان قال المصنف رحمه الله: [وخروج يأجوج ومأجوج] . أي: أن من أشراط الساعة خروج يأجوج ومأجوج، وهم طائفتان عظيمتان من بني آدم، ورد أنهم يخرجون في آخر الزمان، وقد ورد ذكر لهم في قصة ذي القرنين حينما وضع السد، وأنهم يخرجون إذا قرب قيام الساعة، كما قال عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} [الكهف:98] ، ويأجوج ومأجوج عددهم كبير، ويفسدون في الأرض، ويأكلون الطعام، ويشربون المياه، حتى إنهم يشربون مياه البحار أحياناً، ويؤذون الناس. ويأجوج ومأجوج إذا أفسدوا في الأرض يكون عيسى موجوداً بين أظهر المسلمين، فيأتي المسلمون إلى عيسى ويقولون: يا عيسى! انظر ماذا فعل يأجوج ومأجوج، فادع عليهم، فيدعو الله سبحانه وتعالى أن يخلص المؤمنين من شرهم، فينزل عليهم النغف فيموتون جميعاً، ويصبحون وقد امتلأت الأرض من جثثهم، فتنتن أجسامهم، ويتأذى المسلمون بذلك، فيأتون عيسى، فيدعو ربه سبحانه وتعالى. وفي بعض الروايات: أنه يأتي سيل عظيم، فيكنس جثثهم من الأرض، ويريح الله المؤمنين من شرهم. وفي بعضها: أنها تأتي طيور فتأكل أجسادهم وتريح المسلمين من شرهم إلى آخر هذه التفاصيل. فيأجوج ومأجوج فتنة عظيمة، ومفسدة عظيمة، لكن نحن نؤمن بذلك ونصدق به. ويأجوج ومأجوج من بني آدم، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم: يا آدم! أخرج بعث النار، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، فهذا يوم يجعل الولدان شيباً) ، أي: هذا يوم يشيب فيه الولدان، لكن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم اشتد عليهم هذا، فقالوا: (فمن ينجو إذاً؟) فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تفزعوا؛ فتسعمائة وتسعة وتسعون من يأجوج ومأجوج، وواحد منكم) فدل على أنهم من بني آدم. وورد في وصفهم أن نعالهم الشعر، وأنهم صغار الأنوف، صغار الأجسام، كأن وجوههم المجان المطرقة. وقد يقال: لقد اكتشفت الكرة الأرضية، فهل سور الصين هو السد؟ ف A كل هذه الأخبار لا تتوافق مع النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والعلم عند الله تعالى، لكن نحن نصدق بذلك، ونؤمن به. وبعضهم فسر بأنهم أهل الصين، وأنه في آخر الزمان يكثر عدد أهل الصين ويهجمون، لكن الذي يظهر -والله أعلم- أنه ليس بيننا وبين الصين سور الآن، بل التنقل بيننا وبينهم وارد، فالقول بأن يأجوج ومأجوج هم أهل الصين قول لا يتوافق مع النصوص الواردة بذلك. ونقول: ما دام ورد في كتاب الله تعالى ووردت بذلك الأحاديث الصحيحة، فنحن نصدق بذلك ونؤمن به، قال عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] .

الإيمان بخروج الدابة في آخر الزمان

الإيمان بخروج الدابة في آخر الزمان ثم قال: [وخروج الدابة] . وهذه أيضاً من أشراط الساعة الكبرى، وهذه الدابة تخرج وتكلم الناس، وتسمهم، يعني: ورد أن هذه الدابة تخرج وتسم الناس؛ لأن وسمهم يكون بعد انقطاع التوبة، فتسمهم، وتكتب على وجه كل واحد: هذا كافر، وهذا مؤمن، حتى ورد في بعض طرق الحديث: أن الناس يتبايعون، فيسأل: من اشترى منك؟ فيقول: اشترى مني فلان الكافر، أو فلان المؤمن. ولعل هذا -والله أعلم- يكون بعد طلوع الشمس من مغربها وانقطاع التوبة. وهذه الدابة ما صفتها، وما شكلها، ومن أين تخرج إلى آخره؟ كل هذا علمه عند الله سبحانه وتعالى، لكن ورد أنها دابة، والدابة معروف معناها لغة، لكن ورد أنها تسم الناس، وأنها تكلمهم، فنحن نؤمن بذلك ونصدق.

الإيمان بأن من أشراط الساعة طلوع الشمس من مغربها

الإيمان بأن من أشراط الساعة طلوع الشمس من مغربها ثم قال المصنف: [وطلوع الشمس من مغربها] . كذلك أيضاً من أشراط الساعة طلوع الشمس من مغربها، وهذا أيضاً ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح، وإذا طلعت من المغرب فذاك يوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن التوبة باقية إلى أن تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها انقطعت التوبة، وهذه آية كونية عظمى.

وجوب الإيمان بكل أشراط الساعة التي صح بها النقل

وجوب الإيمان بكل أشراط الساعة التي صح بها النقل قال المصنف: [وأشباه ذلك مما صح به النقل] . أي: من أشراط الساعة الكبرى، مثل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار عن الخسوف الثلاثة: خسف في المشرق، وخسف في المغرب، وخسف في وسط جزيرة العرب، وأيضاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى عليه السلام، وخروج الدجال. وأيضاً من الآيات: الدخان، وهو آية من آيات الله سبحانه وتعالى في آخر الزمان. وأيضاً من الآيات الكبرى: النار التي تخرج وتحشر الناس، فقد ورد أن النار تخرج في آخر الزمان، وتحشر الناس، فتبيت معهم إذا باتوا، يعني: أنهم عند خروجهم يجد بهم المسير، فإذا جاء الليل اشتد عليهم الإعياء فناموا، فإذا ناموا نامت معهم، وإذا أصبحوا حشرتهم، حتى يجتمعوا عند المحشر، فإذا اجتمعوا عند المحشر قامت عليهم الساعة. ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا من ذلك.

وجوب الإيمان بعذاب القبر ونعيمه

وجوب الإيمان بعذاب القبر ونعيمه قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعذاب القبر ونعيمه حق] . عذاب القبر ونعيمه دلت عليه الأدلة القرآنية، قال الله تعالى عن فرعون وقومه: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، والنار التي يعرضون عليها هي عذاب القبر، فعذاب آل فرعون دليل على أنهم يعذبون قبل دخولهم النار، وعلى هذا فإن المؤمن أيضاً ينعم قبل دخوله الجنة. وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، كحديث البراء بن عازب وغيره عن عذاب القبر ونعيمه حينما ذكر قصة الموت، وفيه أن المؤمن يوسع له في قبره، ويفتح له باب إلى الجنة، ويأتيه من نعيمها وروحها إلى آخره. وعكسه الكافر؛ فإنه يفتح له باب إلى النار، ويأتيه من سمومها وحميمها. كذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى إلى قبرين: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله) ، فهذا دليل على عذاب القبر ونعيمه. وأما كيف يتم عذاب القبر ونعيمه؟ فيتم على أي حالة كان عليها الإنسان؛ لأنه أمر غيبي، وهذا العذاب والنعيم هو للجسد وللروح، هذا هو القول الصحيح، وأما كيف يتم هذا؟ فهذا أمر غيبي. فلو أن واحداً أكلته السباع فتحول إلى أن يكون طعاماً يجري في دمائها وعروقها فإنه يعذب أو ينعم. ولو أن واحداً أحرق -كما هو عند الهندوس- فإنه يعذب أو ينعم، فالهندوس عندهم من الطقوس أنه يأتي الواحد ويحرق أعز الناس إليه، كما نشر في الصحف صورة إحراق غاندي، حينما أحرقها ولدها أمام الناس؛ لأن هذا طقس بوذي عندهم، حيث أتى بالنار ووضع جسدها وأحرقها، لتنال عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة. نسأل الله السلامة والعافية! إذاً: هذا الذي أحرق أو أكلته السباع، أو أكلته الأسماك، أو غرق أو مزق، أو أكلته الأرض، أو قطع أو غير ذلك، يعذب أو ينعم بحسب أعماله، وأما كيف يتم هذا؟ فهذا غيب لا نعلمه، لكن نؤمن بذلك ونصدقه. قال: [وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه، وأمر به في كل صلاة] . وهذا في الأحاديث الصحيحة أنه كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ دبر كل صلاة من عذاب القبر، ومن المسيح الدجال، وأمر بالاستعاذة منه في كل صلاة.

الأسئلة

الأسئلة

الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء

الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء Q ما رأيكم فيمن يقول: إن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء خلاف لفظي؟ A هذا الكلام من جانب صحيح؛ لأن مرجئة الفقهاء -كالأحناف- رحمهم الله تعالى أوجبوا العمل، وقالوا: إن صاحبه يوم القيامة -أي: المقصر فيه- عرضة للعقوبة، فلم يقولوا بقول غلاة المرجئة: إن مرتكب الكبيرة أو تارك الواجب مؤمن كامل الإيمان، ويوم القيامة يكون في الجنة، وإنما وافقوا أهل السنة والجماعة في أنه يكون يوم القيامة تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، لكن مرجئة الفقهاء خالفوا أهل السنة في أمور: منها: قولهم إن أصل الإيمان عند الناس جميعاً واحد لا يتفاوتون فيه، وهذا غير صحيح، بل الناس يتفاوتون في التصديق، ويتفاوتون في الأعمال، ومن ثمَّ يتفاوتون في الإيمان. وكذلك أيضاً قولهم إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وفي كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التنصيص على ذلك. كذلك أيضاً تحريمهم الاستثناء في الإيمان، أي أن يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله، من غير شك. وكذلك أيضاً قول بعضهم أو بعض أتباعهم: إيماني كإيمان جبريل، أو كإيمان محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا خطأ. فإذا نظر إلى القضية من هذه الأوجه تبين أن الخلاف فيه جوانب حقيقية، وليس لفظياً.

نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان لا ينافي كون النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين

نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان لا ينافي كون النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين Q كيف نجمع بين أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ولن يأتي بعده نبي، وبين نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، فيقتل الدجال، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، فهذا مشكل علي أرجو أن توضحوه؟ A نحن أشرنا إلى هذا، وقلنا إن أدلة القرآن والأحاديث المتواترة دلت على أن عيسى عليه الصلاة والسلام سينزل في آخر الزمان، وأن هذا لا يتعارض مع قوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ، أي: لا يتعارض مع ختم الرسالة، وذلك لعدة أمور: أولها: أن عيسى إذا نزل في آخر الزمان إنما ينزل ويحكم بالقرآن وبشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو إذاً تابع للرسول عليه الصلاة والسلام، كما ثبت في الحديث لما رأى الرسول مع عمر رضي الله عنه قطعة من التوراة قال له: (والله! لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) ، فعيسى يكون تابعاً. ومن أدلة أنه تابع لمحمد صلى الله عليه وسلم: أنه إذا نزل وقد تهيأ المسلمون لصلاة العصر يقولون لعيسى: صل بنا، فيقول: لا، فيصلي بهم واحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا دليل على أنه تابع. الأمر الثاني: أنه لا يأخذ بما يوافق آراء أهل الكتاب، فالنصارى اليوم يأكلون الخنازير، ويشربون الخمور، واليهود منهم يتبعون الدجال، وكذلك أيضاً يعتقدون أن عيسى مصلوب، وهذه الأمور كلها يبطلها عيسى عليه الصلاة والسلام موافقة لما سبق أن بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن عيسى يوضح الحقيقة الناصعة إذا نزل، ومن ذلك ما في القرآن العظيم والسنة من أن عيسى عبد الله ورسوله، وأنه ليس إلهاً، وأنه لم يقتل ولم يصلب، وإنما رفعه الله، كل هذه الحقائق تظهر. الأمر الثالث: أن عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل يقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، بمعنى: أنه لا يقبل ممن يتسمون بأهل الكتاب الجزية كما كان سابقاً، وإنما يؤمرون بأحد أمرين: إما باتباع دين الإسلام الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعة القرآن، أو السيف، ولا يقبل منهم أمراً ثالثاً، وهو أن يبقوا على دينهم، ويُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. الأمر الرابع: أن نزول عيسى عليه الصلاة والسلام وتفاصيل نزوله جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو الذي أخبرنا، وهو الذي بلغنا أنه خاتم النبيين، وأنه لا نبي بعده. إذاً: يتبين من خلال هذه الأوجه كلها أن نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان حق، وأنه لا يتعارض مع كون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين.

مكان عرش إبليس

مكان عرش إبليس Q جاء بيان أن عرش إبليس على الماء في صحيح مسلم، فهل جاء في كتاب الله ما يدل على ذلك؟ وهل جاء في كتاب الله ما يدل على أن عرش الله سبحانه وتعالى على الماء؟ A الدليل على أن عرش الله سبحانه وتعالى على الماء قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] أما بالنسبة لكون عرش إبليس على الماء فلم يرد في القرآن، وإنما ورد في حديث ابن صياد، الذي رواه مسلم، فقد كان الرسول والصحابة يخشون أن يكون ابن صياد هو المسيح الدجال، فقال الرسول لـ ابن صياد: (ماذا ترى؟ قال: أرى عرشاً على الماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك عرش إبليس) .

وجود الدجال

وجود الدجال Q ورد في حديث الجساسة خبر عن الدجال وهيئته، وهناك بعض أهل العلم يضعف هذا الحديث؛ لأنه غريب من جهة متنه، فما رأيكم؟ A حديث الجساسة ثابت في صحيح مسلم، ولا يمنع أن يكون الدجال موجوداً، وأنه يخرج في آخر الزمان، ومما يقوي وجوده أن النبي صلى الله عليه وسلم خافه على أمته، فهذا دليل على أنه ربما يكون موجوداً، ثم يخرج في آخر الزمان.

منزلة السنة من القرآن ووجوب الأخذ بهما جميعا

منزلة السنة من القرآن ووجوب الأخذ بهما جميعاً Q هناك من قال: إن السنة تأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن، فجعل القرآن في المرتبة الأولى وجعل السنة بعد القرآن، فهل هذا صحيح أم خطأ، حيث يدرس هذا في مادة الأصول؟ A هذا صحيح؛ لما في حديث معاذ أنه قال: (بمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله) ، فلا شك أن القرآن مقدم على السنة، لكن لا يفصل بينهما، أي أنه لا يمكن أن تؤخذ السنة بدون القرآن، ولا يمكن أن يعمل بالقرآن كاملاً بدون سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا تجدون أن هناك طوائف أنكرت السنة، ومنهم طوائف كثيرة في باكستان والهند يسمون بالقرآنيين، يرفضون السنة جملة وتفصيلاً، ولا يأخذون إلا بما في القرآن، وهؤلاء إذا فتشت عن أحوالهم تجد كأنهم أصحاب دين جديد في عبادتهم، وفي أمورهم كلها؛ لأنه لو جاء الإنسان إلى مثل قول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [هود:114] ، وقال: أنا لا آخذ بالسنة في تفاصيل الصلاة، فكيف سيعمل بهذه الآية، هل سيرجع إلى اللغة العربية، ويقول: الصلاة في اللغة الدعاء، إذاً معنى قوله: (وأقم الصلاة) أنني أقف لحظات وأرفع يدي وأدعو، وأكون قد أديت الصلاة بنص القرآن؟! وهل تقبل منه صلاته هذه؟! وهكذا قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، إذا جاء الإنسان ليأخذ هذا الحكم بدون السنة يقع في حيص بيص، فأي سارق ولو سرق شيئاً تافهاً يعتبر سارقاً؛ فيقطع، ثم كيف تقطع اليد؟ ولهذا لما كان الخوارج قد ضلوا في هذا الباب ولم يأخذوا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورد من مذهبهم أن السارق تقطع يده من الكتف! وهذا كله ضلال، والله سبحانه وتعالى بنص القرآن أمر باتباع السنة، والآيات في ذلك بالعشرات، أي: التي فيها الأمر لكل من يقرأ هذا القرآن أن يتبع السنة، ولهذا لما لعن ابن مسعود الواصلة والمستوصلة، نازعته إحدى النساء، فقال لها: إن هذا في القرآن، فبحثت في القرآن من أوله إلى آخره فلم تجد هذا الأمر أو هذا الحكم الشرعي، فقالت له: ما وجدته، قال: بلى، هو في القرآن، ثم أوقفها على قول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] ، وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] ، وقال لها: هذا الأمر جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: من اتبع القرآن فلا بد أن يؤدي به إلى أن يتبع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. أما الفصل بينهما فهو منهج خطير جداً، بل هو من أخطر المناهج، خاصة في عصر المسلمين الحاضر؛ فإن كثيراً من أصحاب الأفكار العقلانية المائلة للاعتزال يريدون الفصل بينهما، وهؤلاء يدّعون أنهم في دائرة الفكر المسمى بالفكر المستنير، وله دعاته، وهكذا غيرهم، ولا أقول: الحداثيين؛ لأن الحداثيين لهم جذور إلحادية، فهم أعمق كفراً لكن أقول: حتى أصحاب الفكر المستنير من الإسلاميين تجدهم يميلون إلى ألا يؤخذ بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أو على الأقل ببعضها.

مكان الجنة والنار

مكان الجنة والنار Q قلت في معرض إجابة أحد الأسئلة: إن الجنة في السماء، والنار في أسفل سافلين، فماذا نفعل في قوله تعالى: {جَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21] ؟ A قولنا: في السماء، معناه في العلو، وكون عرضها السماوات والأرض أو كعرض السماء والأرض هذا حق، فإن الجنة كما ذكر الله تعالى: عرضها السماوات والأرض، ولا يتعارض مع كونها في السماء، أما بالنسبة للنار فهي في أسفل سافلين، والله أعلم أين مكانها، لكن هي في أسفل سافلين.

فعل الله عز وجل كله عدل ولا يجوز الاعتراض عليه

فعل الله عز وجل كله عدل ولا يجوز الاعتراض عليه Q إذا كان الله يعلم أنه سيخلق الخلق، وسيخلق آدم، ثم سيسكنه الجنة، ثم سيخرجه منها بسبب إبليس، ثم سيهبطهم إلى الأرض، ومنهم صائر إلى الجنة، ومنهم صائر إلى النار، فلماذا خلقهم إذاً؟ وهل يقال: إن هذا من عمل الشيطان فاجتنبه، أم يقال: إن هذا لحكمة يريدها الله عز وجل؟ A هذا سؤال يرد على كل شيء؛ لأنه إذا علم الله ما العباد فاعلون فلماذا خلقهم؟ ولماذا كلفهم؟ بل لماذا يحاسبهم يوم القيامة؟ هذا كله اعتراض على الله سبحانه وتعالى، والله تبارك وتعالى لا يقيم الحجة على عباده بمقتضى علمه فقط، وإنما يقيم الحجة على العباد بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ولهذا إذا قيل: إذا علم الله سبحانه وتعالى أعمال العباد وأحصاها، فلماذا يقفون بين يدي الله للحساب؟ فيقال: لله حكمة في أن يقرر كل عبد بذنوبه؛ حتى يكون من يدخل الجنة يعلم أنه أخطأ وأذنب، وأنه دخل الجنة برحمة الله، ومن استحق العذاب يدخل النار، ويعلم أنه استحقها بسبب ذنوبه التي أذنبها؛ ولهذا يقرره الله سبحانه وتعالى بذنوبه واحداً واحداً، ويكلم كل واحد كلاماً خاصاً به، وهذا كله من إظهار العدل، وإلا فالسؤال الأكبر: ما هي حاجة الله أصلاً إلى الخلق؟ إن الله غير محتاج إلى الخلق، ولو شاء لجعلنا كلنا أغنياء، أصحاء، لا نعصي أبداً، لو شاء لجعلنا بخلاف ذلك. وقد ورد في الحديث الصحيح: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فيما عندي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك مما عندي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) ، فإذا أدخلت الإبرة في البحر فإنها لا تنقصه شيئاً، وكذلك لو كل الخلق سألوا الله عز وجل فأعطى كل إنسان مسألته لا ينقص ذلك من ملك الله سبحانه شيئاً. إذاً: خلق الله العباد، وتفاوت أعمالهم وألوانهم وأرزاقهم وآجالهم لله سبحانه وتعالى فيها حكمة، ونحن نلمس شيئاً من هذه الحكم، ولو لم يكن في ذلك إلا قيام سوق العبودية لله وحده لا شريك له، بأن يعبده العابدون، ويتوكل عليه المتوكلون، ويطلب رحمته المسترحمون، ويتوجه إليهم سبحانه وتعالى المحتاجون المضطرون، ويخافه الخائف، ويرجوه الراجي، كل هذه الأمور من أمور العبودية الكبار العظام لا تتحقق إلا بما كان من أمر الله سبحانه وتعالى وقدره، وهو وجود الناس وابتلاؤهم وامتحانهم، ووجود الخير ووجود الشر، ووجود الكفر، ووجود الطاعات والإيمان إلى آخره، والله سبحانه وتعالى أقام الحجة على عباده، وهذا هو أهم شيء، فلا تسأل ربك بلمَ؛ لأن هذا السؤال إنما هو سؤال عن سر القدر، أي: سر تقدير الله، فلو جاء واحد وقال: لماذا الناس كلهم فيهم غني وفيهم فقير؟ فهذا سؤال عن سر القدر، فنقول: هكذا أراد بإرادته، ولو شاء الله سبحانه وتعالى لجعل الناس كلهم أغنياء. فالمهم أن الحجة قد قامت عليك أيها العبد! فقد أعطاك الله عقلاً، وأعطاك الله إرادة، وأعطاك الله قدرة، وأرسل لك الرسل، وأنزل عليك الكتب، وبين لك الطريق، وأمرك ونهاك، وقال: إن عملت خيراً فاحمد الله، وإن عملت شراً فلا تلومن إلا نفسك. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [11]

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [11] الموت هو القيامة الصغرى، وهو الفاجعة الكبرى، لكن ليت الأمر ينتهي عند ذلك! فبعده أهوال وأمور أخبر الله تعالى عنها في كتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، فيجب على كل مسلم الإيمان بها، ومن تلك الأمور: فتنة القبر، والحشر، والصراط، والميزان، والشفاعة، والجنة، والنار، وغيرها.

الإيمان باليوم الآخر وما فيه من مواقف

الإيمان باليوم الآخر وما فيه من مواقف

الإيمان بفتنة القبر وسؤال الملكين

الإيمان بفتنة القبر وسؤال الملكين يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وفتنة القبر حق، وسؤال منكر ونكير حق] . فتنة القبر هي سؤال القبر، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هذه الأمة تفتن في قبورها) ، أي تسأل، وورد أيضاً سؤال منكر ونكير، فكل إنسان يُسأل في قبره، والصحيح أنه عام لهذه الأمة ولغيرها، فيسأل الإنسان ملكان أحدهما منكر، والآخر نكير، يسألانه ثلاثة أسئلة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فالمؤمن يجيب إجابات صحيحة، والكافر أو المنافق يقول: ها ها لا أدري! كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، ومنها حديث البراء بن عازب الطويل، الذي ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم رحلة الموت بطولها. وتسمية منكر ونكير ورد في حديث صحيح رواه الترمذي وغيره، ومن ثمَّ فلا مانع من أن نقول: يأتيه ملكان: أحدهما منكر، والآخر نكير. وقد ورد أن الشهيد في سبيل الله إذا مات لا يفتن في قبره، وورد أيضاً أن المرابط في سبيل الله إذا مات وهو مرابط لا يفتن في قبره، وهؤلاء يستثنون من فتنة القبر، نسأل الله الكريم من فضله. والمرابط هو المرابط في ساحات القتال، ولقد كانت الأمة الإسلامية إلى عهد قريب لها ثغور على حدود الممالك الإسلامية، وكان يقيم فيها المسلمون ثغوراً يرابطون فيها للجهاد في سبيل الله، فيذهب الواحد منهم يرابط هناك ستة شهوراً، أو سنتين، أو ثلاث سنوات، ثم يرجع إلى أهله، وهكذا، وهذا كله من باب إحياء الجهاد في سبيل الله تعالى الذي محي وأوقف هذه الأيام إلا ما عصم ربي.

الإيمان بالبعث بعد الموت

الإيمان بالبعث بعد الموت ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [والبعث بعد الموت حق] . البعث لغة: الإرسال، وفي الاصطلاح: إحياء الناس وبعثهم من قبورهم يوم القيامة للحساب والجزاء. وهذا البعث حق، وقد وردت أدلته الصريحة في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأحب أن أنبه هنا إلى أن الأدلة القرآنية على إثبات البعث بعد الموت كثيرة جداً، وهي أكثر مما ورد من الأحاديث النبوية، يعني: أن من تأمل أدلة البعث يجد أن الذي ورد في السنة منها قليل، لكن ما ورد في القرآن العظيم فهو كثير. ولقد تنوعت أدلة القرآن العقلية على إثبات البعث بعد الموت، منها: الاستدلال بإحياء الأرض الميتة، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] ، وهكذا في آيات كثيرة جداً في القرآن يستدل بإحياء الأرض الميتة على قدرة الله تعالى على البعث وإحياء الناس من قبورهم. ومنها دليل البدء على الإعادة: فإن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من عدم، فهو قادر على أن يعيده مرة أخرى، كما قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] ، وهذا دليل عقلي واضح جداً، أي: أن الذي أحياها أول مرة قادر على أن يعيدها مرة أخرى، ولهذا قال تعالى في آية أخرى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] ، وقوله: (أهون) هذا بالنسبة للبشر، أما بالنسبة لله تعالى فإن كلا الأمرين هين عليه تعالى؛ فلا فرق بين الأمرين. ومنها الاستدلال بخلق الشيء الكبير على الشيء الصغير: كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57] ، وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81] . وهكذا جاءت الأدلة كثيرة، بل جاءت الأدلة بشواهد عينية، فالإنسان ينام ويغيب عن الدنيا، ثم يصحو، وهذا بعث، كما قال تعالى: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى} [الزمر:42] . وكذلك أيضاً: ذكر قصص أناس ماتوا فأحياهم الله، مثل أصحاب الكهف، ومثل إحياء صاحب الحمار الذي مر على قرية وقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة:259] إلى آخر الآية، ومثل صاحب البقرة من بني إسرائيل. المهم أن الأدلة القرآنية كثيرة جداً، وهي أدلة عقلية صريحة في إثبات قدرة الله سبحانه وتعالى للبعث؛ ولهذا قال أهل السنة الجماعة: والبعث بعد الموت حق.

البعث والحشر والعذاب يكون على الأجساد والأرواح جميعا

البعث والحشر والعذاب يكون على الأجساد والأرواح جميعاً بقي هنا قضية، وهي أن البعث والحشر والنعيم وما يتعلق بذلك عند أهل السنة والجماعة يكون للأرواح وللأجساد، خلافاً للفلاسفة؛ فإن الفلاسفة يرون أن البعث يكون فقط للأرواح وليس للأجساد، وهذه عقيدة الفلاسفة، ومنهم فلاسفة الإسلام المعظمين عند كثير من الناس، فإنهم ينكرون بعث الأجساد، ويقولون: إن ذلك إنما هو على الروح، والروح لا تفنى ولا تموت أبداً عندهم، بل تنعم بعدما يموت صاحبها إذا كان خيّراً، أما أن يكون هناك بعث للأجساد، وحشر ونشر وميزان، ونعيم مادي في الجنة، وفواكه وأنهار وقصور، ونساء، وحبور، وكذلك في النار سلاسل وأغلال وسعير، فهذه كلها لا يقرون بها، وينكرونها، نسأل الله السلامة والعافية! والمسلمون جميعاً أتباع الرسل يرون أن البعث للأرواح وللأجساد حق. وقد سبق أن قلنا في الدرس الماضي: إن عذاب القبر ونعيمه للروح وللجسد على أي شكل مات عليه الإنسان، وأما الكيفية فهذه حياة برزخية لا نعقلها نحن، لكن نؤمن أن الإنسان يكون بعد موته في روضة من رياض الجنة، أو في حفرة من حفر النار.

النفخ في الصور

النفخ في الصور قال المصنف: [وذلك حين ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور: (فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) ] . إسرافيل هو أحد الملائكة المعروفين، والصور لغة هو القرن، والمقصود به هنا قرن لا يعلم قدره إلا الله سبحانه وتعالى ينفخ فيه إسرافيل إذا أذن الله سبحانه وتعالى له بذلك. وقوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] ، الأجداث هي القبور أي: إذا هم من القبور إلى ربهم يسرعون للحساب وللجزاء. وبالنسبة للنفخ في الصور اختلف فيه العلماء، والوارد مؤكداً أن هناك نفختين: نفخة الصعق، ونفخة البعث، وبعضهم يجعلها ثلاثاً: نفخة الصعق، ونفخة الفزع، ونفخة البعث، لكن الشيء المؤكد الذي دلت عليه الأدلة أن هناك نفخة يصعق منها الناس جميعاً، ويموت فيها من كان حياً على وجه الأرض، وهذا معنى قولنا: إن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، ومعنى قيام الساعة هنا بدايتها، وهي النفخة الأولى التي يصعق فيها الجميع فيموتون، حتى الملائكة، وحتى حملة العرش، وحتى ملك الموت، ولا يبقى أحد حياً إلا الواحد القهار، وحينئذٍ يأخذ الله السماوات بيمينه والأرضين بشماله ويهزهن ويقول: أنا الملك، أنا الجبار، أين ملوك الأرض؟! لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه سبحانه: لله الواحد القهار. ثم تأتي النفخة الثانية التي هي نفخة البعث، كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] ، فالنفخة الثانية تكون للبعث بعد الموت، وحينئذٍ يقوم الناس لرب العالمين للحساب والجزاء، ولهذا قال: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] ، وذلك بعد النفخة الثانية، فإنهم يخرجون من قبورهم إلى المحشر.

الإيمان بالحشر

الإيمان بالحشر قال المصنف: [ويحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً] . قوله: (يحشر الناس) أي يجمع الناس لمكان الحشر، (حفاة) : غير منتعلين، (عراة) عراة الأجسام، (غرلاً) غير مختونين، (بهماً) ليس معهم متاع، وهؤلاء يحشرون يوم القيامة في صعيد واحد، وتكون أرض المحشر مستوية، وقد شبهها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها تكون كقرص النقي، والنقي هو الدقيق المنخول، وقرصه يكون أبيض مائلاً إلى الحمرة، لكنه يكون مستوياً، هكذا شبه الرسول صلى الله عليه وسلم أرض المحشر، فيجتمع الخلائق أولهم وآخرهم، وكلهم على تلك الحال حفاة عراة غرلاً؛ حتى قالت عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: الأمر أكبر وأشد من أن يهمهم ذلك) ، ونضرب لهذا مثالاً في الدنيا: لو أن الناس في مكان، فوقعت زلزلة، وبدأت البيوت تتهدم وخرج الناس، فهل سينظر بعضهم إلى بعض؟! وهل سيفكر الإنسان أن هذه امرأة خرجت نافشة شعرها أو كاشفة نحرها؟! A لن يفكر في هذا، وإنما تفكيره في النجاة، فكيف إذا كان في وقت الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى، والأعين شاخصة إلى السماء، لا شك أن الإنسان لن يفكر في هذه الأمور أي تفكير؛ لأن القضية أكبر من ذلك بكثير.

الشفاعة الكبرى لفصل القضاء

الشفاعة الكبرى لفصل القضاء قال المصنف: [فيقفون في موقف القيامة حتى يشفع فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم] . هذا بيان للشفاعة العظمى والكبرى المسماة بالمقام المحمود، وهي أن الناس يقفون في العرصات على هذه الحالة عراة حفاة، وتدنو الشمس منهم، ويشتد كربهم، فيطالب الجميع بفصل القضاء، فجميع الناس المؤمن منهم والكافر يطالب بفصل القضاء؛ لشدة الكرب الذي هم فيه، فيتساءلون فيقولون: ابحثوا عن وسيلة، ابحثوا عن شافع إلى ربكم حتى يقضي الله بينكم، فيذهبون إلى آدم، ثم إلى نوح، ثم إلى موسى، ثم إلى عيسى، وكل واحد من هؤلاء يعتذر عن الشفاعة، وكل منهم يوجه الناس إلى النبي الذي بعده، حتى يقول عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويقولون: يا محمد! نطلب منك أن تشفع لنا إلى ربك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا لها، ثم يسجد تحت العرش ويلهمه الله سبحانه وتعالى بمحامد ما ألهمه إياها من قبل، فيقول الله له بعد ذلك: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط واشفع تشفع، وحينئذٍ يحمده الخلائق على هذا، وينزل الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء. والمقصود هنا الشفاعة العظمى التي هي المقام المحمود، أما أنواع الشفاعات الأخرى فسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

الإيمان بالحساب

الإيمان بالحساب قال المصنف: [ويحاسبهم الله تبارك وتعالى] . لأن الحشر إنما هو للحساب والحساب أن يحاسب الله الإنسان على أعمال وأقواله كلها، ولهذا ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو ويقول: (اللهم اجعل حسابي يسيراً) ، لأن الله تعالى أخبر أن من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (من نوقش الحساب عذب، قالت عائشة: ألم يقل الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8] ؟! قال صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك العرض، من نوقش الحساب عذب) . فكل من نوقش الحساب لابد أن ينتهي به الأمر إلى أن يعذب؛ حتى ذلك الرجل الذي عبد الله سبعين سنة، وتفرغ للعبادة ليلاً ونهاراً، وقدم بين يدي الله تعالى للحساب فقال الله له: أدخلك الجنة برحمتي أم بعملك؟ ونظراً لأن هذا عبد الله سبعين سنة قال: بعملي، فقال الله للملائكة: حاسبوه، فحاسبوه عن عبادة السبعين سنة، فوجدوها لا تساوي نعمة البصر، فقال الله لهم: اذهبوا به إلى النار، أي أنه خرجت عبادته بالنسبة للقياس خاسرة؛ لأنها لم تساو إلا نعمة البصر، فيقول: يا رب! بل برحمتك، فيقول الله: أما برحمتي فاذهبوا به إلى الجنة. إذاً: كل من حوسب لابد أن يكون خاسراً، لكن الله سبحانه وتعالى يعفو ويتجاوز؛ ولهذا قال: (يحاسبهم الله) ، وهذا في يوم الحساب، وسمي يوم الحساب لأنه يحسب للإنسان حسناته وسيئاته، ويطرح هذا من هذا إلى آخره.

نصب الموازين ونشر الدواوين

نصب الموازين ونشر الدواوين قال المصنف: [وتنصب الموازين] . أي: توضع الموازين لتوزن بها الأعمال، وقد ورد أنه ميزان، وورد أنها موازين متعددة، ولا خلاف في هذا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] ، والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الميزان ميزان حقيقي له كفتان، وأنه توزن به الأعمال. وأما كيف توزن وهي أعراض؟ فنقول: إن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، فيؤتى بإيمان الإنسان بصدق الإنسان بإخلاص الإنسان بحبه لله بحبه للرسول الله صلى الله عليه وسلم بأعمال القلوب وأعمال الجوارح، وتوزن كلها، ويشاهدها الإنسان وهي توزن، ولهذا ورد أن (لا إله إلا الله) توضع في كفة الميزان. وكذلك أيضاً ورد أن العباد أنفسهم يوزنون، قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل السمين من أهل الدنيا -أي: من فجار أهل الدنيا- يوم القيامة، فلا يزن عند الله جناح بعوضة) ، ولما تعجب الصحابة من دقة ساقي عبد الله بن مسعود وضحكوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعجبون من دقة ساقيه، لهما عند الله أثقل من جبل أحد) أو (في ميزان الله أثقل من جبل أحد) ، ولهذا فالصحيح أنه ميزان حقيقي، وأنه توزن به الأعمال، وأيضاً يوزن به العاملون، هذا هو الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة. ثم قال المصنف: [وتنشر الدواوين] . والدواوين جمع ديوان، والديوان هو الصحيفة التي كتبت فيها الملائكة، وأحصت فيها أعمال العباد، ولكل شخص ديوان قد أحصيت فيه أعمال هذا الإنسان، وهذه الدواوين تنشر أمام أصحابها.

تطاير الصحف واستلام الكتب

تطاير الصحف واستلام الكتب قال: [وتتطاير صحائف الأعمال إلى الأيمان والشمائل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق:7-12]] . بعد الحساب وبعد الموازين وبعد نشر الدواوين تتطاير الصحف التي هي نتائج ذلك الحساب وتلك الموازين، فمن أوتي كتابه بيمينه فهو الناجي السعيد، نسأل الله الكريم من فضله، ومن أوتي كتابه بشماله من وراء ظهره فهو الخاسر، نسأل الله السلامة والعافية. وفي ذلك اليوم العظيم يتبين من هو الخاسر ومن هو الرابح، أما موازين الدنيا وخسارات الدنيا بجاهها وبمناصبها وبأموالها وبشهاداتها وبغير ذلك، فهذه كلها أمور لا تساوي شيئاً أمام ذلك الموقف العظيم، وليس بيننا وبين قربنا من ذلك الموقف إلا الموت، وكل منا لا يدري متى أجله. وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7-8] ، أي: من أعطاه الله الكتاب باليمين فهذا هو الذي حوسب حساباً يسيراً. وقوله: {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:9] ، أي: إلى أهله وبيته في الجنة مسروراً أعظم السرور بنجاته من النار، وبفوزه بالجنة. وقوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق:10] ، وقد ورد أنه يعطى بالشمال، فقيل: يجمع بينهما بأنه يعطى بشماله من وراء ظهره، قال: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق:11] ، أي: يدعو على نفسه بالويل وبالثبور والهلاك، ولهذا قال الله تعالى: {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] ، فهو يدعو بالهلاك والثبور على نفسه، متمنياً أنه لم يكن شيئاً، وأنه لم يخلق، ولات ساعة مندم؛ ولهذا قال تعالى: {وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق:12] ، فلا ينفعه صراخه، ولا دعاؤه بالويل والثبور، وإنما تذهب به إلى النار ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. قال المصنف: [والميزان له كفتان، ولسان، توزن به الأعمال: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102-103]] . سبق بيان ذلك، واللسان يكون في وسط الميزان وهو معروف، ثم احتج بقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102-103] ، هذه هي نتيجة الحساب، فمن ثقلت موازينه فهو الرابح، وهو المفلح، وهو الناجي، ومن خفت موازينه فهو الخاسر؛ لأنه يوم القيامة ليس هناك إلا طريقان، وليس هناك طريق ثالث، ولا شيء وسط.

حوض النبي صلى الله عليه وسلم

حوض النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حوض في القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأباريقه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً] . حوضه صلى الله عليه وسلم وردت فيه أحاديث كثيرة مفصلة في الصحيحين وفي غيرهما، وما ورد من وصفه هنا هو ثابت في الأحاديث الصحيحة، وأحب أن أشير هنا إلى أن حوض النبي صلى الله عليه وسلم موجود الآن؛ لأنه ورد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن) . وورد في حديث حسن عند الترمذي وغيره: أن لكل نبي حوضاً، لكن حوض النبي صلى الله عليه وسلم أكبرها وأكثرها وارداً، نسأل الله الكريم من فضله، ولهذا ورد أن الأنبياء يتباهون أيهم أكثر وارداً، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولعلي أكون أكثرهم وارداً يوم القيامة) . وحوض النبي صلى الله عليه وسلم هذا إنما هو في العرصات، يصب فيه من نهر الكوثر الذي في الجنة ميزابان، ولأنه من الجنة فإن من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، لكن توجد حاجة للشرب من الناس الذين ألجمهم العرق بذنوبهم وبعضهم بلغ منه العرق إلى كعبيه، وليس أمراً سهلاً أن يعرق الإنسان حتى يبلغ عرقه إلى كعبيه أو إلى ركبتيه أو إلى حقويه أو إلى منكبيه، ففي العرصات تدنو الشمس ويكثر الخوف، ويشتد العطش، فيا بشرى من رأى حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عليه، ثم شرب من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم شربة لا يظمأ بعدها أبداً، فهذه لا شك أنها بشرى وأي بشرى! نسأل الله الكريم من فضله، ونعوذ به من أن نكون ممن يذاد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمنع من الشرب.

الإيمان بالصراط

الإيمان بالصراط ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [والصراط حق] . والصراط هو جسر ممدود على متن جهنم، أحد من السيف وأدق من الشعر، عليه كلاليب من نار، فيها ما هو كشوك السعدان، تختطف الناس، وهذا الصراط المنصوب على متن جهنم يمر منه الجميع، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] ، فالجميع يردونها. قال المصنف: [يجوزه الأبرار، ويزل عنه الفجار] . وهذه خلاصة لما يجري حينما ينصب الصراط على متن جهنم، وإلا فالوارد في الأحاديث الصحيحة أنه إذا نصب على متن جهنم يعبر منه الناس على قدر أعمالهم: فمنهم من يعبر الصراط كالبرق، ومنهم كالريح، ومنهم كأجاود الخيل، ومنهم كالرجل المسرع، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يخطو خطوة ويعثر أخرى، وكل هؤلاء على درجات. أما بالنسبة للكافر أو المنافق فإنه إذا أراد أن يعبر خطفته الكلاليب التي على الصراط، فتزل به قدمه، فيكردس في نار جهنم، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله النجاة من النار، ولهذا قال العلماء: نؤمن بالصراط ونصدق به؛ لورود الأدلة الصحيحة فيه.

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر ثم قال المصنف بعد أن عرض مسائل اليوم الآخر كلها: [ويشفع نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر] . والشفاعة حق، والمقصود بالشفاعة الواسطة، أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشفع إلى ربه تبارك وتعالى في أهل الكبائر من أمته أن يخرجوا من النار؛ ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وهو حديث صحيح. وأيضاً شفاعته صلى الله عليه وسلم لمن مات وهو يقول: لا إله إلا الله. وهذه الشفاعة يثبتها أهل السنة والجماعة، وينكرها المعتزلة والخوارج وغيرهم، فإن المعتزلة والخوارج ينكرون هذا النوع من الشفاعة، ويقولون: إن من مات من أهل الكبائر واستحق الوعيد بالنار ودخل النار فإنه لا يخرج منها أبداً، ولهذا قالوا بتخليد أهل الكبائر في نار جهنم. ولا شك أن قولهم باطل مردود بهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي فيها بيان أن الرسول عليه الصلاة والسلام يشفع، وكذلك أيضاً الملائكة وبقية الأنبياء والصالحون والشهداء كلهم يشفعون. لكن هذه الشفاعة لا تكون إلا بشرطين: الشرط الأول: أن يأذن الله سبحانه وتعالى بالشفاعة. الشرط الثاني: الرضا عن الشافع والمشفوع له. فلابد من الإذن من الله، ولابد من الرضا عن الشافع والمشفوع له. ومن ثمَّ يشفع رسول الله والملائكة، بل ورد أن الشهيد يشفع لسبعين من أهل بيته فيشفعه الله فيهم، وورد أن الفرط الذي يموت صغيراً يشفع لوالديه عند الله تعالى يوم القيامة، فيشفعه فيهما، فيدخلهما به الجنة، نسأل الله الكريم من فضله. وهؤلاء الذين يشفع لهم على درجات: فمنهم من يكون قد أمر به إلى النار، فيشفع له قبل دخوله النار، ويدخل الجنة. ومنهم من يدخل النار ويعذب فيها حتى يحترق ويصير فحماً أسود وحمماً، ثم يشفع لهم النبي والأنبياء، ويخرجون بهذه الشفاعة، ويوضعون في نهر الحياة؛ حتى ينقون ويحيون مرة أخرى، ويدخلون الجنة برحمة الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال: [فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحماً وحمماً، فيدخلون الجنة بشفاعته] .

شفاعة الأنبياء والملائكة والمؤمنين

شفاعة الأنبياء والملائكة والمؤمنين ثم قال المصنف: [ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات، قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]] . أي: أن هؤلاء الأنبياء وغيرهم لا يشفعون إلا لمن رضي الله عنه، وهم من خشيته وخوفه سبحانه وتعالى مشفقون، وهذا قد دلت عليه الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم قال المصنف: [ولا تنفع الكفار شفاعة الشافعين] . هكذا كما قال تعالى عن الكفار: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] ، فإن الكفار لا ينالون الشفاعة، ولهذا فإن من شرط الشفاعة التي تقتضي إخراج المعذب من النار أن يكون مسلماً، أما الكافر فلا شفاعة له. أما شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي طالب فتلك شفاعة خاصة بتخفيف العذاب عنه، ومع ذلك فإن أبا طالب يعذب في النار، ولا يظن أن أحداً من أهل النار أشد عذاباً منه، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أهون الناس عذاباً في النار من يوضع تحت أخمص قدميه جمرتان من نار) وفي وراية: (أنه في ضحضاح من النار، يغلي منهما دماغه، ما يظن أن أحداً من أهل النار أشد عذاباً منه) ، أما الخروج من النار فلا، فكل من ماتوا على الكفر -نسأل الله السلامة والعافية- فإنهم لا يخرجون منها أبداً؛ ولهذا قال المصنف: (ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين) .

الإيمان بوجود الجنة والنار

الإيمان بوجود الجنة والنار ومما يؤمن به أهل السنة والجماعة ما ذكره المصنف هنا بقوله: [والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان] . وذلك لقوله تعالى في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] ، وقوله في النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] ، وأيضاً لما ثبت من الأحاديث الصحيحة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت الجنة فرأيت فيها، واطلعت على النار فرأيت فيها) فهذا كله يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن. ومما يؤمن به أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار باقيتان لا تفنيان ولا تبيدان أبداً، خلافاً للجهمية وغيرهم الذين يقولون بفناء الجنة والنار، وخلافاً لمن قال: بأن النار تفنى. فالجنة والنار باقيتان، وأهلهما فيهما خالدون أبد الآباد، كما وردت بذلك الأدلة الصريحة من كتاب الله تعالى والأدلة الصحيحة من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال المصنف: [فالجنة مأوى أوليائه، والنار عقاب لأعدائه، وأهل الجنة مخلدون: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:74-75]] . فهذا العذاب مستمر لا يفتر أبداً، ولهذا ورد في الآيات أن أهل النار يدعون ربهم: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] ، وفي آية أخرى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] ، ومع هذا لا يستجاب لهم، فهم في عذاب دائم، كما قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] ، وهم في هذا العذاب مبلسون، نسأل الله السلامة والعافية. ولهذا ورد أنهم ينادون ويدعون ربهم ولا يستجاب لهم، وإنما يجيبهم الله بقوله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] ، وهذا غاية التسكيت لهم. فأهل النار يخلدون، وأهل الجنة في الجنة مخلدون أبد الآباد، ومن أعظم نعيم الجنة الخلود، ولهذا تجد أنه كثيراً ما يوصف نعيم الجنة بأنه نعيم دائم، وبأن أهله خالدون فيه أبداً؛ لأنه والحالة هذه تنقطع الأحزان، وينقطع الخوف، فإن النعيم في الدنيا يكدره الخوف من زواله، حتى الغني إذا استوى له غناه، والملك إذا استوى له ملكه، أول ما يكدر عليه أنه يفكر في زوال هذا عنه، لكن أهل الجنة ليسوا كذلك، بل هم في نعيم: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] ، أي: عند الله تبارك وتعالى، قد أحل الله عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبداً، فهم في نعيم مقيم، نسأل الله الكريم من فضله. قال المصنف رحمه الله: [ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت] . ثبت في البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، ويقال لأهل النار: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم نعرفه، ويقال لأهل الجنة: هل تعرفونه؟ فيقولون: نعم نعرفه فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت) ، وهذه كلها حقائق إيمانية عقدية دلت عليها الأدلة الثابتة الصريحة من كتاب الله سبحانه وتعالى ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أهمية تدبر حقائق يوم القيامة

أهمية تدبر حقائق يوم القيامة حقائق اليوم الآخر يجب أن يتدبرها المؤمنون، ونحن أيها الإخوة! في غفلة، فقد كان السلف الصالح يربون أولادهم ونساءهم وأطفالهم على معرفة أشراط الساعة؛ لأن معرفة أشراط الساعة تقرب الإنسان إلى الله، وهذا الحاجز الكبير -الذي هو طول الأمل في هذه الدنيا- تختصره تلك المعاني الإيمانية، بل تختصر هذه الدنيا بمشاكلها وتنقل الإنسان إلى الآخرة. وكذلك أيضاً بالنسبة لليوم الآخر وفزع الناس، والحساب، والجزاء، والصراط، والموازين، وتطاير الصحف، والشفاعة إلى آخر هذه الأمور الإيمانية التي هي حقائق لا شك فيها، يجب أن تكون لنا فيها قراءات، وهي مما يقوي الإيمان، وينقل قلب الإنسان نقلة من هذه الدنيا الفانية إلى ربه سبحانه وتعالى، وينقل هذه النفس المتهالكة على الدنيا ومادياتها إلى عبادة الله، والسعي لابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى. فهذه حقائق إيمانية لا شك فيها أبداً، فالواجب علينا أن نتدبرها، وأن نتدارسها، وأن نتعرف عليها؛ علَّ الله سبحانه وتعالى أن يجعلها خيراً لنا في دنيانا، وأن يجعلنا يوم القيامة ممن يكون آمناً، وممن يكون فائزاً، وممن يكون قد أعيذ من عذاب جهنم. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الجنة، وأن تعيذنا من النار. وصلى الله وسلم على نبينا وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

معنى الاستثناء في قوله تعالى: (إلا ما شاء ربك)

معنى الاستثناء في قوله تعالى: (إلا ما شاء ربك) Q ما معنى (إلا ما شاء ربك) في قول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:106-107] ، وقوله في الذين سعدوا: {فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:108] ؟ A هذا ربط للأمر بمشيئة الله تعالى، وقد اقتضت مشيئة الله الخلود، فالكفار مخلدون في نار جهنم أبد الآباد، والمؤمنون مخلدون في الجنة أبد الآباد، فالاستثناء إنما هو لبيان ربط جميع الأمور بمشيئة الله سبحانه وتعالى.

حكم إخراج العمل من مسمى الإيمان

حكم إخراج العمل من مسمى الإيمان Q هل إخراج العمل من مسمى الإيمان -كما قال به مرجئة الفقهاء- يقدح في العقيدة؟ A نعم، إخراج العمل مخالف لمنهج السلف رحمهم الله تعالى، لكن هذا القدح ليس كبيراً، لكن هو مخالفة لمنهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، والأولى هو اتباع منهجهم في إدخال العمل في مسمى الإيمان، وفيما يترتب على ذلك من زيادة الإيمان ونقصانه، والاستثناء في الإيمان إذا كان بغير شك، ونحو ذلك.

أعظم نعيم أهل الجنة

أعظم نعيم أهل الجنة Q أليس أعظم ما يتنعم به المؤمنون هو رؤيتهم لله سبحانه وتعالى يوم القيامة؟ A نعم، أعظم نعيم بالنسبة للمؤمنين هو رؤية الله سبحانه وتعالى، ومن أعظم النعيم أيضاً أن الله يحل عليهم رضوانه، فيخلدون في الجنان، ولا يسخط عليهم ربنا سبحانه وتعالى أبداً، نسأل الله الكريم من فضله.

حكم القول بتخليد آكل الربا في النار

حكم القول بتخليد آكل الربا في النار Q ذكرتم أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار، وكما نعلم أن الربا من الكبائر، وليس هو من أكبر الكبائر الثلاث، والله تعالى يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275] ، فبمقتضى هذه الآية هل يخلد آكل الربا؟ A إن هذه الآية ومثلها آية القتل العمد: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] ، قال العلماء: إن هذا الخلود ليس خلوداً دائماً، وإنما المقصود به المكث الطويل، وبعض العلماء قال: إن الخلود هنا في المستحل، فمن استحل أكل الربا فهو كافر مخلد، ومن استحل قتل المؤمن بغير حق فهو أيضاً خالد في النار مخلد فيها. أما من كان مؤمناً بالله سبحانه وتعالى ومات وهو آكل للربا دون استحلال، فبإجماع العلماء رحمهم الله تعالى أنه لا يخلد في النار بسبب ذلك، بل هو تحت مشيئة الله؛ إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه وغفر له.

الكلام في صحة قول ابن القيم بفناء النار

الكلام في صحة قول ابن القيم بفناء النار Q هل الجنة والنار تفنيان؟ وما حكم من قال: إن ابن القيم قال بذلك؟ A أولاً: ابن القيم ما قال بأن الجنة ستفنى، فالسائل يبدو أنه خلط بين القضيتين، إنما أثر عنه القضية الأخرى، وهي أن النار تفنى، وهذا الذي حكي عن ابن القيم إنما حكي عنه لأنه ذكره في بعض كتبه، مثل (حادي الأرواح) وغيره، وابن القيم لم يقل بهذا القول، وإنما حكى الخلاف، ومن قرأ ما كتبه ابن القيم رحمه الله تعالى يظن أنه يرجح أن النار تفنى، وأن أهلها يخرجون منها، لكن في الحقيقة أن ابن القيم رحمه الله تعالى يكاد يميل إلى التوقف؛ لأنه بعد أن ذكر الخلاف الطويل في أحد كتبه، وذكر الأقوال في ذلك والأدلة قال: فإن قيل فما تقول؟ قلت: أقول كما قال عبد الله بن عمرو بن العاص: (ثم يفعل الله ما يشاء) ، فهو لم يجزم بأن النار تفنى، ومذهب أهل السنة والجماعة وهو مذهب جماهير العلماء رحمهم الله تعالى أن النار لا تفنى، وأنها باقية كالجنة، وأن أصحابها من الكفار والمشركين والمنافقين وغيرهم ممن هو على غير دين الحق مخلدون فيها أبد الآباد.

بيان المراد بقوله تعالى: (جعلا له شركاء فيما آتاهما)

بيان المراد بقوله تعالى: (جعلا له شركاء فيما آتاهما) Q ما معنى قوله تعالى في آدم وحواء: {فلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف:189-190] ؟ A ذكر بعض المفسرين أنها في آدم وحواء، لكن القول الصحيح بأن هذا ليس في آدم وحواء، وإنما هذا خبر عن بعض بني آدم، وهذا هو القول الراجح إن شاء الله تعالى.

الرؤيا بقدر ووقوعها بقدر

الرؤيا بقدر ووقوعها بقدر Q هل تأويل الأحلام من قبل المؤولين ثم التحري لهذه الأمور التي أولت في الرؤيا كما في حادثة العزيز مع يوسف عندما قال: {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} [يوسف:43] إلى آخره، هل هو من باب الاحتجاج على القدر، أم غير ذلك؟ A لا؛ فالرؤيا هي بقدر، ووقوعها إن وقعت بقدر، وتفسيرها بقدر، ثم صدق التفسير أو عدم صدقه أيضاً بقضاء وقدر، والأمر والحمد لله واضح جداً ليس فيه معارضة للقدر، فالإنسان إذا رأى رؤيا فرؤياه بقدر، ثم إذا طلب من أحد أن يفسر له هذه الرؤيا ثم فسرها له فإنه إن وقعت فوقوعها أيضاً بقضاء وقدر، وإن لم تقع فعدم وقوعها هو لأن الله سبحانه وتعالى لم يقدر وقوعها.

لا تعارض بين الدعاء والقدر

لا تعارض بين الدعاء والقدر Q كيف يدعو الإنسان أن الله يكفيه شر ما قضى وقد كتب من قبل في اللوح المحفوظ؛ فهل هناك تعارض؟ A سبق أن بينا أنه لا تعارض بين الدعاء وبين القدر، بل الدعاء من الأسباب، فالإنسان المأمور بالدعاء، فيدعو ربه أن يكفيه شر ما قضى، ويدعو ربه ويسأله الرزق، يدعو ربه أن يعطيه الحياة الطيبة، ويدعو ربه أن يوفقه للعمل الصالح، هذه كلها أدعية مأمور بها، فيفعلها الإنسان وهي من جملة الأسباب. وحينئذٍ لا تتعارض مع القدر، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصانا بالدعاء، وأن الدعاء عبادة، فقال: (الدعاء هو العبادة) ، وقال الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، والرسول أيضاً في الحديث الآخر بين أن الإنسان إذا دعا لابد أن يعطى إحدى ثلاث خصال إذا كانت دعوته صحيحة، وليس فيها قطيعة رحم، وكانت تامة الشروط: فإما أن يستجاب له دعاؤه، وإما أن يدفع عنه من الشر مثله، أو يدخر له ذلك إلى يوم القيامة، فيجده عند الله سبحانه وتعالى. إذاً: الإنسان مأمور بذلك، وكون الإنسان دعا فاستجيب له تبين لنا أن حصول هذا الأمر بسبب الدعاء، وكون الإنسان الآخر دعا ولم يستجب له تبين لنا أن هذا الإنسان لم يتحقق له هذا الأمر الذي دعا الله أن يحققه له، ولكن هو مأجور على دعائه، ومصيب فيه، وله أجره عند الله سبحانه وتعالى.

بيان أن الجنة التي كان فيها آدم عليه السلام هي التي أعدت للمتقين

بيان أن الجنة التي كان فيها آدم عليه السلام هي التي أعدت للمتقين Q في الحديث: (في الجنة ما لا عين رأيت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ، هل الجنة التي كان فيها آدم هي المراد هنا في الحديث؟ وهل كيفية نزول آدم معروفة؟ A القول الراجح أن الجنة التي كان فيها آدم هي الجنة التي أعدت للمتقين، أما كيفية نزول آدم فلم يرد في ذلك لدينا دليل عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

حكم عد حروف القرآن ومعنى إعرابه

حكم عد حروف القرآن ومعنى إعرابه Q هل من قال إن عد حروف القرآن ليس شيئاً مهماً، مصيب أو مخطئ؟ وهل إعراب القرآن هو إعراب كل كلمة، أو تفسيره أم ماذا؟ A إعراب القرآن هو أن يكون الإنسان ماهراً به، يقرؤه بصفة طيبة، بحيث يرفع المرفوع وينصب المنصوب ويجر المجرور ويجزم المجزوم، هذا الذي يقال إنه يعرب القرآن، وقد لا يشترط أن يكون عارفاً بأوجه إعراب القرآن، فهذا هو الذي يقال عنه إنه معرب للقرآن وماهر به، وهو المقصود بالأثر الوارد في فضل من أعرب القرآن، فليس شرطاً أن يكون الإنسان ملماً بقضاياه النحوية ومسائله. أما بالنسبة لعد حروف القرآن فعد حروف القرآن جائز، لكن التكلف في ذلك وجمعها وغير ذلك مما يؤدي إلى إضاعة وقت بدون فائدة يستفيد منها المسلمون، هذا هو الذي يُنهى عنه.

إثبات صفة الكتابة لله عز وجل

إثبات صفة الكتابة لله عز وجل Q هل نستطيع أن نقول إن الكتابة من صفات الله تعالى؟ A نعم، من صفات الله أنه كتب، فإن الله كتب كتاباً عنده فوق العرش، فيقال عنه سبحانه وتعالى: إن من صفاته أنه كتب.

مقدار يوم القيامة على المؤمن

مقدار يوم القيامة على المؤمن Q هل صحيح أن فترة البرزخ للمؤمن كصلاة ظهر أو صلاة عصر؟ وهل مدة القيامة للمؤمن أيضاً كصلاة ظهر أو صلاة عصر؟ وإن كان هذا صحيحاً فهل لو مات المؤمن فإنه يدخل الجنة بعد هذه المدة البسيطة؟ A الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يوم القيامة على طوله يكون بالنسبة للمؤمن كصلاة مكتوبة، أي أن الله سبحانه وتعالى يهونه عليه، وييسر هذا اليوم الطويل عليه، لكن لا يعني ذلك أنه يتغير الزمن، بل الزمن هو الزمن، والطول هو الطول، وهو بالنسبة للكفار وللمنافقين والعصاة بحسب عصيانهم طويل وشاق، لكن بالنسبة للمؤمن الصادق ييسره الله سبحانه وتعالى ويسهله عليه حتى يصير كصلاة مكتوبة، نسأل الله الكريم من فضله.

المتساقطون من الصراط يدخلون النار

المتساقطون من الصراط يدخلون النار Q هل الذي يسقط من على الصراط في جهنم يعد ممن دخل النار؟ A نعم، ممن يدخل النار أولئك الذي يتساقطون من على الصراط، نسأل الله السلامة والعافية. والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [12]

شرح كتاب لمعة الاعتقاد [12] أهل السنة والجماعة يعرفون للنبي صلى الله عليه وسلم منزلته العالية، ومكانته العظيمة، فلا يغلون فيه، ولا يجفون عنه؛ بل يقولون عنه ما أرشدهم نبيهم أن يقولوا عنه: عبد الله ورسوله، فهو عبد فلا يعبد، ورسول يطاع ولا يعصى. ويعرفون أيضاً فضل صحابته الأطهار، الأماجد الأخيار، وينزلونهم منازلهم من غير وكس ولا شطط، ويؤمنون أن أولى الناس بالإمامة والخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ويحبون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ويترضون عنهم وعن الصحابة أجمعين، كما أنهم يدينون بالسمع والطاعة لأئمة المسلمين، ويرون الجهاد معهم، والصلاة خلفهم، ولو كانوا فجرة ما لم يظهروا كفراً بواحاً، كما أنهم لا يرضون التسمي بغير الإسلام والسنة وكفى بهما تسمية وشرفاً.

حقوق النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه

حقوق النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وسيد المرسلين] . وهذا في بيان بعض حقوقه صلى الله عليه وسلم، وما يجب له، ولهذا فإن الأمر يتعلق بقضيتين اثنتين بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم: إحداهما: ما هو الواجب على كل مسلم بالنسبة لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم. والأخرى: ما هي خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم التي تميز بها عن غيره من الأنبياء.

حقوق النبي صلى الله عليه وسلم

حقوق النبي صلى الله عليه وسلم أما الأولى: فهي القضية الإيمانية المرتبطة بشهادة أن محمداً رسول الله، ولهذا فإن هذه الشهادة مقتضاها عدة أمور، سأشير إليها فقرة فقرة باختصار شديد: أولها: تصديقه في كل ما أخبر به. ثانيها: طاعته في كل ما أمر به. ثالثها: اجتناب ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. رابعها: ألا يعبد الله إلا بما شرعه صلى الله عليه وسلم. خامسها: الإيمان بأنه بلغ البلاغ المبين، فما انتقل إلى الرفيق الأعلى إلا وقد بلغ جميع ما أنزل إليه من ربه. سادسها: الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ولا نبي بعده، فمن اعتقد أن هناك نبياً بعده، وأن نبوته صحيحة، فإنه قد انتقضت عليه شهادة أن محمداً رسول الله. وقد سبق بيان أن نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان لا يتعارض مع ما هو مقرر من أن محمداً خاتم النبيين. سابعها: محبته صلى الله عليه وسلم، وهي محبة واجبة، وتقديم هذه المحبة على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده وماله ونفسه والناس أجمعين) . هذه أهم القضايا التي هي قضايا واجبة، وهي من مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله.

االنبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين

االنبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين، فلا نبي بعده. ومن خصائصه أنه سيد المرسلين، وسيد الأولين والآخرين، ولهذا فإن أفضل الأنبياء والرسل هم الرسل، وأفضل الرسل هم أولو العزم، والقول الصحيح أنهم الخمسة المذكورون في قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7] . وأفضل هؤلاء الخمسة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو أفضل الأنبياء والرسل، ولما كان الأنبياء والرسل هم أفضل الأمم، والرسول هو أفضل الرسل، فهو سيد ولد آدم، وهو أفضل خلق الله صلى الله عليه وسلم. ثم يقول المصنف: [ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته] . أي: أن يؤمن أنه رسول، وأن يشهد أنه نبي من أنبياء الله سبحانه وتعالى.

اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى

اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى ثم يقول: [ولا يقضى بين الناس في القيامة إلا بشفاعته] . أي: لابد من الإيمان بهذه الخصيصة له صلى الله عليه وسلم، وهي أنه صاحب الشفاعة العظمى، وقد سبق بيانها. وأحب أن أشير هنا إلى أن قول الله سبحانه وتعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ، قال كثير من المفسرين: المقام المحمود هو شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، حينما يطلب الخلائق جميعاً من ربهم سبحانه وتعالى فصل القضاء بينهم في العرصات، فيبحثون عن شفيع لهم عند الله سبحانه وتعالى، فيأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، إلى أن ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وورد أيضاً أن المقام المحمود هو استفتاح الجنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يستفتح باب الجنة فيفتح له، وأن خازن الجنة حينما يقرع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بابها يقول: من؟ فيقول: محمد، فيقول: لقد أمرت بألا أفتح إلا لك؛ ولهذا يفتح للنبي صلى الله عليه وسلم، ويدخل وتدخل أمته، ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (نحن الآخرون السابقون) ، أي: نحن جئنا في آخر الزمان لكننا السابقون يوم القيامة، أي: أننا نسبق الأمم جميعاً، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم هي أكثر الأمم داخلاً الجنة يوم القيامة، وكذلك أيضاً هي أول الأمم دخولاً إلى الجنة، نسأل الله الكريم من فضله. ولهذا قال المصنف رحمه الله: [ولا يدخل الجنة أمة إلا بعد دخول أمته] .

إثبات لواء الحمد للنبي صلى الله عليه وسلم

إثبات لواء الحمد للنبي صلى الله عليه وسلم ثم قال المصنف: [صاحب لواء الحمد] . ولواء الحمد ورد بيان شيء من معناه في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذٍ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر) ، هذا الحديث بتمامه رواه الترمذي، وهو حديث صحيح، لكن أوله: (أنا سيد ولد آدم) وآخره: (وأنا أول من تنشق عنه الأرض) ، هو في صحيح مسلم، لكن ما يتعلق بالموضوع وهو قوله: (وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما نبي يومئذٍ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي) هذا هو الذي رواه الترمذي، وهو حديث صحيح. وهذا اللواء للرسول صلى الله عليه وسلم معناه أنه يكون قائد المرسلين، وقائد الأمم، ومن علامات هذه القيادة الشفاعة العظمى، ومن علاماتها دخوله عليه الصلاة والسلام وأمته الجنة أول الداخلين.

إثبات المقام المحمود والحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم

إثبات المقام المحمود والحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم قال المصنف: [والمقام المحمود] الذي هو الشفاعة العظمى وسبق بيانه، [والحوض المورود] وهو أكبرها، وورد أن لكل نبي حوضاً، وقد سبق بيان ذلك. قال المصنف: [وهو إمام النبيين وخطيبهم] . فهو إمامهم وسيدهم عليه الصلاة والسلام، وهو أيضاً خطيبهم، ولهذا ورد هذا في حديث حسن رواه أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين، وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم، من غير فخر) ، فهو صلى الله عليه وسلم الإمام، وهو الخطيب، وهو صاحب الشفاعة، ولهذا فإنه صلى الله عليه وسلم يقوم يوم القيامة مقاماً يحمده عليه جميع الخلائق.

فضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم

فضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم قال المصنف: [وصاحب شفاعتهم، أمته خير الأمم] . أمة النبي صلى الله عليه وسلم هي خير الأمم، وعدد من يدخل الجنة منها أكثر ممن يدخل من الأمم، ومن ثمَّ تميزت هذه الأمة بعدد من الفضل والخير العميم، فكانت خير الأمم جميعاً، ولو لم يكن إلا أن عدد الداخلين إلى الجنة من أهلها أكبر، لكان كافياً في بيان أفضليتها.

فضائل الصحابة رضي الله عنهم

فضائل الصحابة رضي الله عنهم

فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المصنف: [وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام] . وهذا أيضاً من خيرية هذه الأمة، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم أفضل صحابة نبي، فهم خير من صحابة إبراهيم، ومن صحابة نوح، ومن حواريي عيسى، ومن أتباع موسى؛ ولهذا فإن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لهم من الفضل العظيم ما يجب أن يحفظه كل مسلم لهم؛ وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير القرون قرني، ثم الذي يلونهم، ثم الذي يلونهم، ثم يلونهم) ، ومثل هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ، والمد ربع الصاع والنصيف نصف الصاع، وهذا لبيان فضلهم. وينبغي أن تعلموا أن فضل هؤلاء الصحابة إنما هو لصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن الصحابي هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع به مؤمناً به عليه الصلاة والسلام، ومات على ذلك. فيخرج بذلك من لقيه وهو كافر، ثم لم يجتمع به بعد ذلك ولو آمن، ويخرج أيضاً من لقيه وهو مؤمن ثم ارتد ومات كافراً. وهؤلاء الصحابة لهم أفضلية الصحبة التي لا يشاركهم فيها أحد ممن جاء بعدهم مهما بلغ عمله، وقد يقول قائل: فما معنى حديث: (يأتي في آخر الزمان أناس يكون أجر العامل منهم كأجر خمسين منكم) ؟ فنقول: نعم، قد يأتي بعد الصحابة من هو أكثر عملاً، أي: أن أعماله الصالحات كثيرة أكثر من بعض آحاد الصحابة، فيكون أكثر منه عملاً بهذا الخصوص، ولكن هذا العمل كله لا يبلغ درجة الصحبة، أي أن ذلك الصحابي نال أفضلية خاصة اسمها درجة الصحبة، لا يبلغها ولا ينالها أحد إلا من كان صحابياً، أما من جاء بعده ولو عمل ما عمل فإنه لا ينال هذه الدرجة، فهي درجة تشريف وفضل أجره عظيم عند الله، ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ومن ثمَّ فإنه لا يناله إلا من كان صحابياً، أما من جاء بعده فقد يكون له من العمل ما ينال به أجراً كثيراً عند الله سبحانه وتعالى، فوضح الفرق بين الأمرين.

عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة

عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة ثم إن المصنف رحمه الله تعالى بدأ يقرر ما يتعلق بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعقيدة أهل السنة فيهم، فإن عقيدة أهل السنة فيهم هي الترضي عنهم جميعاً، وأن منهم المهاجرين، ومنهم الأنصار، وأن بعضهم أفضل من بعض بنص القرآن الكريم، كما قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] فدل على أن بعضهم أفضل من بعض، لكن هؤلاء الصحابة نترضى عنهم جميعاً.

إمامة أبي بكر رضي الله عنه

إمامة أبي بكر رضي الله عنه وربما يأتي بعد قليل ما يتعلق بهدي الصحابة رضي الله عنهم، لكن المصنف ابتدأ بقضية من القضايا الكبرى في منهج أهل السنة والجماعة، إلا وهي قضية الإمامة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فأهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى يقولون ما قاله المصنف هنا حين قال: [وأفضل أمته أبو بكر الصديق] . وهو عبد الله بن عثمان رضي الله عنه وأرضاه، شهرته تغني عن التعريف به، فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو أفضل الأمة على الإطلاق عند أهل السنة والجماعة، وعندهم أيضاً أنه هو الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما كيف ثبتت له الإمامة؟ فاختلف العلماء في ذلك: فبعضهم قال: ثبتت له بالنص، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر) ، ومثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم للمرأة التي سألته وواعدها من العام القادم قالت: (فإن لم أجدك يا رسول الله؟! قال: تجدين أبا بكر) ، ومثل قوله: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، ومثل قوله: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) ، ومثل حديث القليب حين دلى صلى الله عليه وسلم رجليه في القليب، فجاء أبو بكر وجلس عن يمينه، ثم جاء عمر وجلس عن شماله، فأول ذلك بخلافتهم إلى آخره. وبعض العلماء قالوا: إن خلافة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه إنما ثبتت بمبايعة الصحابة له بعد توجيه النبي صلى الله عليه وسلم وإشارته عليهم بأن يختاروه. وهذا القول الثاني هو الصحيح، والدليل عليه حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه، لما قيل له حين طعن: استخلف، فقال: (إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني: أبا بكر - وإن لا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني) يعني رسول الله، فهذا دليل على أن الرسول لم يستخلف أبا بكر. هذا الدليل الأول. والدليل الثاني: أنه لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد نص على أبي بكر لما تخلف الصحابة عن مبايعته لحظة، ولما كان هناك حاجة إلى اجتماع السقيفة، ولما جرى فيها كلام، ولا بايعوا أبا بكر، أي: أنه لو جاءهم واحد من الصحابة وقال: سمعت الرسول يقول: بايعوا أبا بكر، لبايعوه ولما ترددوا، لكن الصحابة فهموا ذلك من إنابته في الصلاة، ومن بعض أحاديثه، ولأنه كان يحب أن يكون هو من بعده، ثم إن الرسول عزم على أن يكتب كتاباً، ولكن لما اختلف الصحابة واشتد اللغط قال لهم: (قوموا) ، فهذه الكتابة يحتمل أن تتعلق ببعض الأحكام مثل أحكام الجدة والعول والجد والإخوة والعقل، وغير ذلك من الأحكام التي تمنى الصحابة أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغهم علم عنها، ويحتمل أنه قد كان أراد أن يكتب لـ أبي بكر كتاباً يوصي فيه بأن يكون هو الخليفة من بعده.

طعن الرافضة في رسول الله لعدم وصيته لعلي

طعن الرافضة في رسول الله لعدم وصيته لعلي وهنا ملحوظة صغيرة هي أن بعض الرافضة يقولون: إنه لما حدث اللغط، وقد كان الرسول أراد أن يكتب بالخلافة لـ علي، قال عمر: حسبنا كتاب الله، فاختلف الصحابة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (قوموا عني، ما كان لصحابة نبي أن يختلفوا عنده) ، فهؤلاء يقولون: إن هذه مؤامرة، وإن الرسول أراد أن يكتب الوصية لـ علي، لكن لما علموا أنه سيكتب لـ علي قاموا وفعلوا هذا الفعل لأجل ألا يكتب الرسول صلى الله عليه وسلم! وهذه فرية سخيفة، ويدل على سخفها أن الرسول بدأ معه المرض أياماً، واشتد عليه يوم الخميس، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ما توفي إلا يوم الإثنين، فلو كان عازماً على أن يولي علياً أو غيره فهل يرده راد؟ A لا يمكن أن يرده راد أبداً، ولا يمكن أن يكتم الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً. ومن تأمل قضية الإمامة يرى أن الأحق بها هو أبو بكر، لكن يقول الرافضي عليه لعنة الله: صاحب المشكلة هو صاحب القبر! يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، وقال: (اقتدوا بـ أبي بكر وعمر) ، وقال للمرأة: (تجدين أبا بكر) ، فالرسول صلى الله عليه وسلم في زعم هذا الرافضي الخبيث هو صاحب المشكلة. إذاً: هذا إقرار منهم بأن اختيار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لـ أبي بكر بأن يكون خليفة من بعده كان اختياراً موافقاً لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كيف تمت مبايعة أبي بكر

كيف تمت مبايعة أبي بكر قال بعض العلماء: وإنما لم يكتب الرسول لـ أبي بكر كتاباً لما علم أن الصحابة لن يعدلوا به غيره، وهذا هو ما حصل، فإنه باجتماع السقيفة جرى ما جرى بين الأنصار والمهاجرين، ثم بويع أبو بكر، وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لم يكن مترتباً للخلافة، ولهذا جاء في حديث السقيفة أنه لما أراد عمر أن يتكلم أجلسه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر وأحسن الكلام، وتكلم مع الأنصار بكلام عظيم، وقال: (إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، وإني قد رضيت لكم أحد هذين فبايعوهم يعني عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة) ، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقال: (لقد رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا -يقصد: الصلاة- أفلا نرضاك لدنيانا، مد يدك) ، فبايعه عمر، وبايعه المسلمون، وأجمعوا على مبايعته حتى علي رضي الله عنه وأرضاه كان من المبايعين له، وإن ورد في بعض الروايات أنه تأخر قليلاً جبراً لخاطر فاطمة رضي الله عنها وأرضاها؛ لأنها رضي الله عنها وأرضاها ظنت أن لها ميراثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبته من أبي بكر، فأبى أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أن يعطيها هذا الميراث الموجود؛ لنص عنده، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) . فهي رأت أن لها ميراثاً وأبو بكر رأى أن ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مال للمسلمين، فلما لحقت فاطمة البتول رضي الله عنها وأرضاها بأبيها بايع علي رضي الله عنه وأرضاه، وفي بعض الروايات أنه بايع قبل ذلك. وعلى القول الثاني فإنه بايع وعاش مع أبي بكر وعمر وعثمان وزيراً لهم، مؤيداً لهم، ناصحاً لهم، قاضياً لهم، حتى كان عمر رضي الله عنه وأرضاه يقول: (قضية ولا أبا حسن لها) يعني أن أي قضية ليس لها غير أبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه. فقد كانوا إخوة متآخين في الله، حتى وإن جرى بينهم ما جرى، فقد جرى من الفتن بينهم ما جرى، وكلهم مجتهدون، ولذا قال علي رضي الله عنه وأرضاه: (إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] ) ، لكن الذي أفسد بين المؤمنين وفرق بينهم، وسب صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم، هم أولئك الرافضة عليهم من الله ما يستحقون.

خلافة عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم

خلافة عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم قال المصنف: [ثم عمر الفاروق] . وعمر بن الخطاب هو الخليفة بعد أبي بكر باستخلاف أبي بكر له، ثم ببيعة المسلمين جميعاً. قال المصنف: [ثم عثمان ذو النورين] . وعثمان رضي الله عنه وأرضاه تولى الخلافة بعد ما استشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وذلك بعد أن جعل الأمر شورى في الستة، وبعد أن تشاوروا اجتمعوا على عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وبايعه جميع الصحابة، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم علي المرتضى، رضي الله عنهم أجمعين] . ثم الخلافة من بعده لـ علي رضي الله عنه وأرضاه بإجماع المسلمين، ولم يخالف أحد في أنه رضي الله عنه هو الأحق بالخلافة.

الأدلة على أفضل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم

الأدلة على أفضل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وهؤلاء الأربعة كل واحد له من الفضل العظيم ما ذكرته كتب الفضائل: فـ أبو بكر له فضائل، وعمر له فضائل، وعثمان له فضائل، وعلي له فضائل، ولو سردنا فضائل كل واحد منهم لقلت: ما أعظم هذه الفضائل، فكل واحد منهم له المنزلة والمكانة الرفيعة عند أهل السنة والجماعة. قال المصنف: [لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره) ] . هذا الحديث رواه الطبراني، ومسلم وغير واحد، فهو صحيح، لكن الإشكال في عبارة المصنف في قوله: (ثم علي) ، وأقول: لعلها هي الصواب. وقوله: (أبو بكر ثم عمر ثم عثمان) هذا دليل على أن الصحابة مجمعون على تقديم هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم وأرضاهم. قال المصنف: [وصحت الرواية عن علي رضي الله عنه أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ولو شئت لسميت الثالث) ] . وقد ورد في بعض الروايات أنه قيل له: ثم أنت، فقال علي رضي الله عنه وأرضاه تواضعاً: (وهل أنا إلا رجل منكم) ، ولهذا أجمع العلماء على تقديم أبي بكر ثم عمر، ثم قال جماهير أهل السنة: إن الأفضل بعد عمر هو عثمان، ثم بعد ذلك علي، وقليل جداً من أهل السنة من قالوا: علي أفضل من عثمان. والقول الصحيح في هذه المسألة هو أن عثمان أفضل من علي، ولهذا ورد عن بعض السلف رحمهم الله تعالى أنه قال: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار. أي: لأنهم هم الذين اختاروه، كما في قصة مشاورة عبد الرحمن بن عوف بالخلافة، وكيف أنه أخذ يداول الأمر بين الصحابة جميعاً، ثم قال عند البيعة: (يا علي! لقد رأيت الناس لا يعدلون بـ عثمان، تعال يا عثمان فامدد يدك أبايعك، فبايعه) ، فدل على أن الغالبية العظمى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقدمون عثمان على علي رضي الله عنه وأرضاه. وأما من قال بخلاف ذلك من أهل السنة فنقول: إن قوله مرجوح.

ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل كترتيبهم في الخلافة

ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل كترتيبهم في الخلافة قال المصنف: [وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر) ] . هذا ذكره المصنف وهو مما رواه أبو نعيم في الحلية وغيره، لكن في فضائل أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أحاديث كثيرة أخرى موجودة في كتب الفضائل. ولهذا ذكر المصنف رحمه الله تعالى قضية الخلافة بعد ذكر الأفضلية فقال: [وهو أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لفضله، وسابقته، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة] . وهذه أدلة قوية مختصرة ذكرها المصنف واحداً واحداً، فذكر فضله وسابقته في الإسلام، وتقديمه في الصلاة، وإجماع الصحابة عليه، وما كان الله ليجمع هذه الأمة على ضلالة، فهذا يدل على أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو أحق بالخلافة. ثم من بعد أبي بكر قال المصنف: [ثم من بعده عمر رضي الله عنه؛ لفضله وعهد أبي بكر إليه] . ونقول أيضاً: ولمبايعة جميع الصحابة له؛ حيث لم يتخلف عن ذلك أحد. ثم قال: [ثم عثمان رضي الله عنه؛ لتقديم أهل الشورى له] . أي إن الأحق بالخلافة عند أهل السنة والجماعة هو عثمان؛ بتقديم أهل الشورى له. قال المصنف: [ثم علي رضي الله عنه؛ لفضله وإجماع أهل عصره عليه] . أي أن علياً رضي الله عنه هو الإمام الرابع، وهذا أيضاً واضح. ثم قال المصنف: [وهؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) ،] . والنواجذ هي الأضراس، وهؤلاء الخلفاء الأربعة هم المهديون، وهم الذين يجب أن نتبع سنتهم وطريقتهم رضي الله عنهم جميعاً. قال المصنف: [وقال صلى الله عليه وسلم: (الخلافة من بعدي ثلاثون سنة) ] . وهذا حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود وغيره من حديث سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المصنف: [آخرها خلافة علي رضي الله عنه] . لأن نهاية خلافة علي والحسن كانت عام (41هـ) والرسول صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى سنة إحدى عشرة من الهجرة، فالمدة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خلافة معاوية رضي الله عنه وأرضاه تبلغ ثلاثين سنة، وهذا موافق لما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (الخلافة من بعدي ثلاثون سنة) .

فضل العشرة المبشرين بالجنة

فضل العشرة المبشرين بالجنة ثم قال المصنف بعد ذلك: [ونشهد للعشرة بالجنة] . وهذا أيضاً مما يختص به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هؤلاء العشرة المبشرين بالجنة لهم من الفضل ما هو معروف. قال المصنف: [كما شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة -وهو ابن عبيد الله - في الجنة، والزبير -وهو ابن العوام - في الجنة، وسعد - وهو ابن أبي وقاص - في الجنة، وسعيد -وهو ابن زيد بن عمرو بن نفيل - في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة) ] . ولكل واحد من هؤلاء العشرة خصائص.

الكلام على الشهادة بالجنة والنار

الكلام على الشهادة بالجنة والنار

نشهد بالجنة لكل من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بها

نشهد بالجنة لكل من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بها ثم قال المصنف مقرراً لقاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة: [وكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها] . فأهل السنة والجماعة يشهدون بالجنة لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، أما من لم يشهد له الرسول فإنه يشهد له شهادة عامة، فيقال: كل من مات من المؤمنين فهو من أهل الجنة، نرجو له ذلك. لكن لا نشهد بأن فلاناً بعينه في الجنة إلا لمن شهد له الرسول مثل العشرة، ومثل ما أورده المصنف هنا في قوله: [كقوله: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) ] . أي: فنشهد لهما رضي الله عنهما وأرضاهما أنهما من أهل الجنة. قال المصنف: [وقوله لـ ثابت بن قيس: (إنه من أهل الجنة) ] . وهذا أيضاً ثبت في الحديث الصحيح، وثابت بن قيس صحابي كان جهوري الصوت، ولما نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] ، خاف أن يكون هو المقصود، فقال: (أنا جهوري الصوت، وأرفع صوتي، فأخاف أن عملي قد حبط) ، ولهذا ورد أنه بقي في بيته وقال: (والله لا أخرج منه حتى يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أموت) ، وفي إحدى الروايات عند ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وغيرهما: أنه رضي الله عنه وأرضاه حبس نفسه في اصطبل الفرس، وأمر زوجته بأن تضرب مسماراً على صاج الباب؛ ليكون ذلك تصبيراً نهائياً، وقال: (والله لأبقين في هذا المكان حتى يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أموت) ، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما جرى لهذا الصحابي الجليل قال صلى الله عليه وسلم: (أخبروه وبشروه أنه من أهل الجنة) ، فلما بشر بذلك ما استطاع أن يخرج بسبب المسمار؛ لأنه كان قد سمره تسميراً نهائياً رضي الله عنه وأرضاه، فكسر المسمار، وفتح الباب وخرج. ومثله أيضاً عكاشة بن محصن، ومثله خديجة بنت خويلد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهما بالجنة، ومثله الرميصاء رضي الله عنها وأرضاها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمع لها صوتاً في الجنة فقيل: من هذه؟ قيل: هذه أرجل الرميصاء بنت ملحان، رضي الله عنها وأرضاها، وهي التي تزوجها أبو طلحة، فكان مهرها الإسلام، فإنه خطبها وهو مشرك، فقالت: لا أقبل وأنت على الشرك، لكن إن أسلمت فيكفيني مهراً، فأسلم أبو طلحة، وتزوجها، فكان مهرها الإسلام. فمن شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة فإنا نشهد لهم.

لا نجزم بالنار إلا لمن جزم له الرسول صلى الله عليه وسلم

لا نجزم بالنار إلا لمن جزم له الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال المصنف في المقابل: [ولا نجزم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار، إلا من جزم له الرسول صلى الله عليه وسلم] . بالنسبة لأهل الجنة نشهد لمن سبق، وبالنسبة لأهل النار نجزم بها لـ أبي لهب عبد العزى بن عبد المطلب، ونجزم بها لزوجته؛ لورود النص القرآني بذلك، كما نجزم أن عمرو بن لحي من أهل النار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار) ، فمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل النار فنشهد أنه من أهلها، نسأل الله السلامة والعافية.

عقيدة أهل السنة والجماعة في الحكم على المعين بجنة أو نار

عقيدة أهل السنة والجماعة في الحكم على المعين بجنة أو نار ثم قال المصنف: [لكن نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء] . وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، فنحن نرجو للمحسن أنه من أهل الجنة، ونخاف على المسيء من عذاب الله تعالى. أما الشهادة العامة فنطلقها، ونقول: كل من مات على الإيمان نشهد أنه من أهل الجنة، وكل من مات على الكفر نشهد أنه من أهل النار، لكن الكلام هنا في الشهادة لمعين، فأي معين لا نشهد له بجنة ولا بنار، فلا نقطع أن من مات على الكفر من أهل النار؛ لاحتمال أنه تاب وأنت لم تعلم بذلك، فأنت لا تشهد، لكن إذا رأيت كافراً أو كفاراً فبشرهم بالنار، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا تجزم بأن الشخص الفلاني من أهل النار، إلا إذا جاء الدليل؛ لأن هناك احتمالاً أن يكون قد أسلم ومات على ذلك. ولسنا نحن الذين ذكرنا هذا؛ لأن بعض الناس يخاف من مثل هذا الكلام، بل هذا منهج، فنحن نقطع بأن كل من مات وهو على الإيمان فهو من أهل الجنة، وكل من مات وهو على الشرك والكفر فهو من أهل النار، لكن لا نشهد لفلان وفلان إلا لمن دل عليه النص.

منهج أهل السنة والجماعة في الحكم على أصحاب الذنوب والكبائر

منهج أهل السنة والجماعة في الحكم على أصحاب الذنوب والكبائر ثم انتقل المصنف رحمه الله تعالى إلى قضية من قضايا الأحكام وهي مسألة التكفير فقال: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه عن الإسلام بعمل] . أي: بعمل كبيرة، فمنهج أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بالذنوب كما فعلت الخوارج، ولا يخرجونهم من الإيمان بعمل كبيرة كما فعلت الخوارج، ولا يحكمون بخلودهم في النار، كما فعلت الخوارج والمعتزلة. وليس معنى ذلك أن أهل السنة لا يكفرون أحداً بأي ذنب مهما كان، وإنما المقصود بذلك الكبائر التي هي دون الشرك والكفر بالله تعالى، لهذا فإن من ارتكب مكفراً فهو مذنب، وأهل السنة والجماعة يكفرون من سب الله تعالى، أو سجد لصنم وهو يعلم، أو أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، أو كان منافقاً، أو عمل ناقضاً من نواقض الإسلام، فأهل السنة والجماعة يقطعون بأن هذه الذنوب مكفرة لصاحبها، لكن مقصودهم هنا: أنهم لا يكفرون مرتكب الكبيرة غير المستحل لها، فالذين يعملون ما دون الشرك بالله مثل: آكل الربا، والزاني، والسارق، وشارب الخمر، والعاق لوالديه إلى آخره، فهؤلاء إذا ماتوا وهم على التوحيد فإنهم عند أهل السنة والجماعة في الدنيا غير كفار، ولهذا تقام عليهم الحدود، ويورثون، ويدفنون في مقابر المسلمين، وكذلك أيضاً يقول أهل السنة والجماعة: إنهم يوم القيامة تحت مشيئة الله؛ إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، وقد يُشفع لهم، ولا يخلدون في النار ولو دخلوها. هذا هو منهج أهل السنة والجماعة. أما الخوارج فعندهم أن كل من ارتكب كبيرة فهو كافر في الدنيا حلال الدم والمال، ويوم القيامة يكون مخلداً في نار جهنم. والإباضية -وهم طائفة من الخوارج- قالوا: هو في الدنيا كافر وفي الآخرة مخلد في نار جهنم. والمعتزلة قالوا: إذا ارتكب كبيرة من هذه الكبائر خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، أي: أننا لا نستحل دمه وماله، لكن حكمه في الآخرة عندهم أنه خالد مخلد في نار جهنم، وهذا كله مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة.

موقف أهل السنة من أئمة الجور

موقف أهل السنة من أئمة الجور

وجوب إقامة الحج والجهاد مع الإمام وإن كان فاجرا

وجوب إقامة الحج والجهاد مع الإمام وإن كان فاجراً ثم انتقل المصنف رحمه الله تعالى إلى قضية أخرى تتعلق بالإيمان، فقال رحمه الله: [ونرى الحج والجهاد ماضيين مع كل إمام، براً كان أو فاجراً] . وهذا أيضاً تقرير لمذهب أهل السنة والجماعة: أن السمع والطاعة واجبة للإمام الشرعي سواء كان براً أو فاسقاً، وطاعته إنما هي في المعروف، وفي غير معصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة، فتجب الطاعة له ولو كان فاجراً، أي: ولو كان مرتكباً لكبيرة، كان كان ظالماً يضرب هذا ويفعل مع هذا بعض الأفاعيل، هذه الأمور التي هي من قبيل الظلم والفسق والفجور لا ترفع طاعة هذا الإمام عند أهل السنة والجماعة، بل توجبها، وهذا قد دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) . ولما ذكر عليه الصلاة والسلام الأمراء الذين يؤثرون أنفسهم بالأموال ونحوها، وأحياناً يأمرون بالمنكرات، قال بعض الصحابة: (يا رسول الله! أفلا نناجزهم؟ -وفي بعض الروايات: أفلا نقاتلهم- فقال صلى الله عليه وسلم: لا، حتى تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) . وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قيل له: (أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا) ، فدل هذا على أن الإمام تجب له السمع والطاعة، ولا يجوز الخروج عليه إلا أن يترك الصلاة، أو يأمر بترك الصلاة، أو أن يأتي بكفر بواح ظاهر عندنا من الله سبحانه وتعالى فيه برهان، وهذا هو منهج جماهير أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى. ومن ثمَّ فإن الحج والجهاد أيضاً عند أهل السنة والجماعة ماضيان مع الإمام، سواء تولى الإمامة باختيار المسلمين له، أو باستخلاف من قبله، وحالة ثالثة ذكرها كثير من السلف: إذا تسلط بالقوة، وحكم بين الأمة بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فالسمع والطاعة واجبة له، ففي هذه الحالات الثلاث يجب له السمع والطاعة، بشرط أن يحكم بين الأمة بالكتاب والسنة. وكذلك أيضاً يجب الحج معه، فلا يأتي قائل ويقول: هذا فاجر، وعلى هذا فنحن هذه السنة لا نحج، فنقول: بل إذا قاد حجيج المسلمين فيجب الحج معه، وقد كان الخلفاء من قديم الزمان يقودون الحج، أو يرسلون من ينوب عنهم في قيادة الحج، وهذا كان موجوداً في زمن الدولة الأموية والعباسية، والمؤرخون في الحوليات إذا وصلوا إلى شهر الحج قالوا: وحج بالناس فلان، فيذكرون من حج بالناس، سواء كان الخليفة أو من ولاه أو غير ذلك. وكذلك أيضاً الجهاد في سبيل الله، ولهذا قال علي رضي الله عنه وأرضاه: (لابد لهذه الأمة من إمامة برة أو فاجرة. قالوا: يا أمير المؤمنين! قد عرفنا البرة فما الفاجرة؟ قال رضي الله عنه وأرضاه: الفاجرة حتى تحمي البيضة، وتقيم الحق، وتقيم الحدود) . إذاً: الجهاد لا بد منه حتى مع الفاجر، فما دام مجاهداً للكفار وللمشركين فيجب أن يكون المؤمنون معه مطيعين مجاهدين في سبيل الله، وكل هذه الأمور إنما هي ما دام يحكم بالكتاب والسنة، وما دام لم ينقض ذلك بكفر بواح ظاهر عندنا من الله سبحانه وتعالى فيه برهان.

الصلاة والجهاد مع الإمام ولو كان فاجرا

الصلاة والجهاد مع الإمام ولو كان فاجراً ثم قال أيضاً: [وصلاة الجمعة خلفهم جائزة] . مذهب أهل السنة والجماعة أن الصلاة خلفهم جائزة ولو كانوا فجاراً، ولو كان يعلم أن هذا الإمام أنه يؤخر الصلاة، أو أنه يشرب الخمر؛ فإن الصلاة خلفه جائزة، وقد ورد في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال المصنف: [قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال لا إله إلا الله) ] . قوله: (الكف) يعني: عدم الاعتداء على دمه وماله، فما دام قد أظهر الإيمان فنأخذه بظاهره، فإن كان باطنه كظاهره فالحمد لله، وإن لم يكن كذلك فإننا نحكم عليه بظاهره والله يتولى باطنه، إلا أن يظهر لنا ذنباً آخر أو كفراً وردة فيجب أن نقيم حد الردة عليه. قال: [ (الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله عز وجل حتى يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار) ، رواه أبو داود] هذا الحديث رواه أبو داود، لكنه حديث ضعيف، ضعفه المنذري وغيره، وسبب تضعيفه أن فيه يزيد بن أبي نشبة، ضعفه العلماء، لكن ما فيه من الإيمان بالأقدار، ومضي الجهاد، وأن لا نكفر أحداً، كلها دلت عليها أدلة أخرى من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. والشاهد هو قوله: (لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل) أي: أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة.

عقيدة أهل السنة فيما شجر بين الصحابة

عقيدة أهل السنة فيما شجر بين الصحابة

تولي أصحاب رسول الله ومحبتهم والترضي عنهم

تولي أصحاب رسول الله ومحبتهم والترضي عنهم ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم، وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم] . هذه من حقوق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب توليهم، ونصرتهم، والدفاع عنهم، ومحبتهم، والترضي عنهم جميعاً، وذكر محاسنهم حين يذكرون؛ لأنهم نقلة كتاب الله ونقلة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا، ولهذا فنحن نستغفر لهم جميعاً، ونترضى عنهم جميعاً، ونترحم عليهم جميعاً.

السكوت عما وقع بين الصحابة

السكوت عما وقع بين الصحابة ومن أهم ما يتعلق بهم ما قاله المصنف: [والكف عن ذكر مساوئهم، وما شجر بينهم] . وهذا أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة، فإن ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يجب الكف عنه، خاصة ما جرى في الجمل وصفين؛ فإن هؤلاء الصحابة كلهم كانوا مجتهدين، وصحيح أن بعضهم كان أحق من بعض، وأقرب إلى الحق من بعض، فـ علي رضي الله عنه وأرضاه كان أحق من غيره، وكان رضي الله عنه وأرضاه أفضل، لكن لا يجوز لنا في مقابل ذلك أن نطعن في بقية الصحابة: في عائشة أو في الزبير أو في طلحة أو في معاوية رضي الله عنهم جميعاً، بل يجب أن نكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم، ونقول كما قال أحد العلماء: تلك دماء طهر الله منها أيدينا فنحن نطهر منها ألسنتنا، فنترضى عنهم جميعاً، ونعتقد أنهم مجتهدون، ومن اجتهد منهم فأصاب فله أجران، ومن اجتهد منهم وأخطأ فله أجر واحد، وكلهم لهم الفضل ولهم القربى، فلا يجوز سبهم، ولا الطعن فيهم، فضلاً عن القول بردتهم، أو غير ذلك.

اعتقاد فضل الصحابة ومعرفة سابقتهم

اعتقاد فضل الصحابة ومعرفة سابقتهم قال المصنف: [واعتقاد فضلهم، ومعرفة سابقتهم] . فلهم الفضل، ولهم السابقة؛ فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم حواريوه، وهم نقلة سنته. قال المصنف: [قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10]] . وهذه الآية في سورة الحشر جاءت بعد ذكر المهاجرين والأنصار، فقد ذكر الله الذين هاجروا، وذكر الذين تبوءوا الدار والإيمان، ثم ذكر الذي جاءوا من بعدهم فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ، وهذه الآيات هي في الفيء؛ لأن في الآيات السابقة: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر:7] إلى آخره، ثم قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} [الحشر:9] ، ثم قال: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) ، قال الإمام مالك رحمه الله وتعالى وغيره: (من كان في قلبه غلٍ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له من الفيء شيء) ، وهذا اجتهاد منه رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن الآية كانت في الفيء، وهذا منهج أهل السنة والجماعة. ثم قال المصنف: [وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]] . وهذا أيضاً بيان لوصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال المصنف: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ] . وهذا الحديث رواه البخاري، فهو حديث صحيح، وقد ورد في المفاضلة بين صحابيين، ومع هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي المتأخر: (لا تسبوا أصحابي) ، قال العلماء: فإذا كان هذا في المفاضلة بين صحابيين فما الشأن في المفاضلة بين الصحابة وبين من بعدهم؟ فدلالة الحديث على أن من بعدهم لا يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه أقوى وأكبر، وهذا ظاهر الدلالة لمن تأملها.

الترضي عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم

الترضي عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال المصنف رحمه الله تعالى أيضاً: [ومن السنة: الترضي عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء] . وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم قد ألفت فيهن مؤلفات، وهن إحدى عشرة زوجة، فأزواج النبي عليه الصلاة والسلام نترضى عنهن جميعاً، ونؤمن بأنهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الجنة، رضي الله عنهن جميعاً.

أفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وعائشة

أفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وعائشة قال المصنف: [أفضلهن خديجة بنت خويلد، وعائشة الصديقة بنت الصديق، التي برأها الله سبحانه وتعالى في كتابه، زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم] . أفضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم خديجة، وعائشة، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قيل: من الرجال؟ قال: أبوها) لكن أيضاً ورد في فضل خديجة فضائل، ولهذا قال العلماء: إن خديجة أيضاً متقدمة في الفضل، وعائشة رضي الله عنها وأرضاها ما كانت تغار على أحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهن موجودات ما كانت تغار على خديجة؛ لكثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها، حتى إنه عليه الصلاة والسلام كان يكرم صواحبها وقريباتها، فقد أتت امرأة عجوز فبش لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاشة لفتت انتباه عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فسألت الرسول صلى الله عليه وسلم: من هذه العجوز؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إن هذه كانت تأتينا أيام خديجة) ، رضي الله عنهن جميعاً. فـ خديجة لها فضل، وعائشة لها فضل، لكن عائشة تتميز بأنه يجب الترضي عنها، والإيمان بأنها زوجة النبي في الدنيا والآخرة، وتبرئتها مما برأها الله سبحانه وتعالى منه في كتابه العزيز، فمن طعن فيها بعد نزول الآيات البينات فهو مرتد بإجماع المسلمين، وأما الرافضة فإنهم إلى الآن يقذفون عائشة، والواحد منهم إذا أراد أن يسب ابنته إذا وقعت في خطأ أو ذنب أو أراد أن يبلغ أقصى ما يريد من عقوبة بالنسبة لها فإنه يقول لها: يا عائشة! أو يا عويش! فحينئذٍ تبكي بكاءً مراً طويلاً؛ لأنه شبهها بأم المؤمنين عائشة، وهذا منه -عليه من الله ما يستحقه- اتهام لـ عائشة بما برأها الله سبحانه وتعالى من ذلك. فمن اتهمها بعد نزول القرآن بما برأها الله سبحانه وتعالى منه -أي: من اتهمها بالزنا- فهو مرتد لا شك في ردته، ويكون خارجاً عن دائرة الإسلام.

حكم سب الصحابة رضي الله عنهم

حكم سب الصحابة رضي الله عنهم وبالنسبة لسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فهذا السب على درجات: الأولى: إن سب الصحابة فيما يتعلق بدينهم وإيمانهم أو قال بردتهم، فهذا لا شك في كفره وردته. الثانية: أن يسبهم باللعن والشتم والغضب ونحو ذلك، فهذا فيه قولان للعلماء: فبعضهم يقول هو مرتد، وبعضهم يقول إنه غير مرتد، لكن يعزر ويؤدب، والقول الراجح في هذا -والعلم عند الله- أنه لا يلعنهم إلا من كان خارجاً عن دائرة الإسلام. الثالثة: أن يسب الصحابي بغير هذين النوعين، مثل أن يسبه ببخل، أو بجبن، كأن يقول: فلان الصحابي بخيل، أو جبان، أو نحو ذلك، فهذا يجب تعزيره وتأديبه؛ حتى يرتدع عن مثل هذه الكلمات.

فضل معاوية رضي الله عنه

فضل معاوية رضي الله عنه ثم قال: [ومعاوية خال المؤمنين] . وإنما ذكر المصنف معاوية رضي الله عنه لأن كثيراً من الرافضة يطعن في هذا الصحابي الجليل؛ نظراً لما جرى بينه وبين علي رضي الله عنه وأرضاه في يوم صفين. ومعاوية رضي الله عنه وأرضاه هو كاتب الوحي، وهو مجتهد، صحيح أن علياً أولى منه في الحق، لكنه مجتهد، وأراد الخير للمسلمين، لهذا فنحن نترضى عنه، ولا يجوز لنا أن نطعن فيه، ولا أن نسبه، ومن طعن فيه وسبه فحكمه حكم الساب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (خال المؤمنين) ؛ لأنه أخو أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها وعن أبيها وعن أخيها، وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، والخال هو أخو الأم. فهل يطلق على مثل معاوية أنه خال المؤمنين؟ صنيع المصنف هنا يدل على أنه يرى جواز الإطلاق، فمن كان أخاً لزوجة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيصح أن يلقب بأنه خال المؤمنين؛ لأن زوجات النبي هن أمهات المؤمنين، وبعضهم لا يرى هذا الإطلاق والأمر فيه واسع. ثم قال عنه: [وكاتب وحي الله، أحد خلفاء المسلمين، رضي الله عنهم] . ثبت أن معاوية من كتاب الوحي، ولو كان فيه شيء ما ائتمنه الرسول صلى الله عليه وسلم على أعظم أمر، وهو أحد خلفاء المسلمين.

موقف أهل السنة والجماعة من أئمة المسلمين وأمرائهم

موقف أهل السنة والجماعة من أئمة المسلمين وأمرائهم ثم قال المصنف أيضاً: [ومن السنة السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين، برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله؛ فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله تعالى، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته، وحرمت مخالفته، والخروج عليه، وشق عصا المسلمين] . أي: وحرم شق عصا المسلمين، وهذا بشرطين: أحدهما: أن يغلب بسيفه فيحكم بينهم بالكتاب والسنة. الثانية: ألا يقع منه كفر بواح، وهذا الذي أشار إليه هو ما ذكره أئمة أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى من أن الخلافة تثبت إما بالمبايعة العامة، أو بوصية من سبقه إليه، أو بأن يتغلب بسيفه، فإذا تغلب بسيفه وحكم بينهم بالكتاب والسنة فإنه تجب طاعته، والسمع له، ويحرم الخروج عليه.

موقف أهل السنة والجماعة من هجران أهل البدع والخصومات معهم

موقف أهل السنة والجماعة من هجران أهل البدع والخصومات معهم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن السنة هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين] . هجران أهل البدع ومبيانتهم من منهج أهل السنة والجماعة؛ لأن أهل البدعة سواء كانت بدعهم عقدية مثل الخوارج والمعتزلة وغيرهم، أو عملية مثل المتصوفة الذين يبتدعون الأوراد والأذكار ونحوها، فإن من منهج أهل السنة هجران هؤلاء؛ لأن في هجرهم ومباينتهم ردعاً لهم، وهذا من الولاء والبراء. قوله: (وترك الجدال والخصومات في الدين) ، أيضاً من منهج أهل السنة ترك المجادلات التي لا يقصد منها الحق، وهكذا ترك الخصومات في دين الله سبحانه وتعالى. أما ما كان منها من قبيل المناقشات العلمية والردود الطيبة بالأسلوب الطيب فإن هذا قد وقع بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ورد بعضهم على بعض، مع حبهم لبعض، وكذلك أيضاً فيمن جاء بعدهم من التابعين والأئمة، فهذا لا شيء فيه. أما الجدال بالباطل والخصومات الباطلة فإنها منهي عنها، وكذلك أيضاً بالنسبة لأهل البدع؛ فمن لم يرتدع منهم بهجره أو مباينته، وخيف من شره ومن شر بدعته على المسلمين، فإن الواجب الرد عليه ونقض بدعته، كما فعل أئمة أهل السنة والجماعة فيما بعد.

خطر النظر في كتب أهل البدع والإصغاء إليهم

خطر النظر في كتب أهل البدع والإصغاء إليهم قال المصنف: [وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم] . لأن المبتدعة قد يوردون شبهاً، ويميلون إلى ما تشابه من نصوص الكتاب والسنة، فإذا قرأ الإنسان كتبهم واطلع عليها وسمع كلامهم ربما تأثر بذلك، فالأصل أن تربى النفوس ويربى الطلبة على العقيدة الصحيحة، والأصل أيضاً ألا يمكَّن لأهل البدع، فلا يأتي قائل يقول: دعونا نتحاور، ودعه يا أخي يشرح بدعته، فنحن مع نبي وعقيدة سليمة لا نخاف، فنقول: كيف لا نخاف؟! فالبدعة إذا ظهرت وانتشرت في الكتب، أو سجلت البدعة في أشرطة، أو أذيعت بوسائل الإعلام، وسمعها الكثير، فربما أن عشرة أو عشرين أو ثلاثين من العلماء ومن طلاب العلم لا يتأثرون، لكن كم من صغار الطلبة، وكم من ضعفاء الناس وعامتهم من إذا سمع مثل هذه الشبه، واستقرت في نفسه وقلبه سيتأثر! فلا شك أن هناك كثيرين سيتأثرون، لهذا فمنهج أهل السنة والجماعة عدم السماح لهم، وعدم فتح الحوار معهم؛ لأن الحوار معناه إيذان بأنه قد يكون الحق معهم، والأمر واضح جداً أنهم مبتدعون، والحوار ليس بين حق وباطل، لا نأتي إلى يهودي ونقول له: تعال نتحاور معك أمام العالمين وأمام المسلمين جميعاً، وإنما نقول: أنت مبطل من أول الطريق، ونقول للنصراني: أنت مبطل من أول الطريق، ولا نفتح الحوار معهم؛ لأن الحوار يكون في مسائل الاجتهاد بين علماء المسلمين وفقهائهم، هذا هو الحوار الذي يفيد وينفع، أما أن يؤتى بمبطل ويقال: تعال ربما يكون باطلك حقاً، فهذا خطأ، ولم يفعله السلف رحمهم الله تعالى. ولهذا فإن السلف ما فتحوا باب الحوار، وإنما ناقشوا وردوا، فردوا في زمن محنة خلق القرآن على المعتزلة، وهكذا ردوا على القدرية، وردوا على الرافضة، وردوا على الخوارج، لكن لم يفتحوا باب الحوار معهم، وفرق بين هذا وهذا، ولهذا فإن من الواجب التربوي على الشباب وعلى المبتدئين في طلب العلم أن يغرسوا أولاً في أنفسهم العلم النقي الصافي من عقيدة السلف، ثم يأخذون مما عدا ذلك ما يحتاجون إليه، وحينما تنتشر بدعة أو حينما يظهر خطر شبهة أو نحو ذلك، يتعلمون الرد عليها بالطرق السليمة، وبمناهج سليمة، ومن علماء موثوقين. أما أن يأتي إنسان فيقرأ في كتب الفلاسفة أو في كتب المتكلمين، وربما يمكث سنين طويلة، فإن هذا يخاف عليه أن يتشرب شبهة أو بدعة، وقد سبق أن ذكرنا مثالاً مهماً جداً وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع منكم بـ الدجال فلا يذهب إليه) ، وسبق أن بينا أن الدجال يؤيده الله بخوارق فتنة للناس: يأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، ويأمر الخربات فتأتي بكنوزها، ويقتل الرجل ويعيده، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: (من سمع منكم بـ الدجال فلا يذهب إليه، فإن الرجل قد يسمع بـ الدجال فيقول: هذا هو الدجال الذي أخبرنا عنه الرسول، فإذا ذهب إليه ورآه وسمع منه لا يزال به حتى يصدقه) ، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فهنا جاء الخطر، وهذا الإنسان الذي صدق بالرسول صلى الله عليه وسلم لو بقي بتصديقه وقال: لا حاجة لي في أن أذهب إلى الدجال لسلم، وهكذا نفس الشيء بالنسبة لكثير منا، فالبعض منا يقول: أنا عقيدتي قوية، وما عندي مانع أن أقرأ في كتب الفلسفة، أو في كتب المنطق، أو في كتب المفكرين اليساريين والشيوعيين والملاحدة، ثم لا يزال يقرأ ويقرأ حتى يتأثر، وكثير منهم قد لا يصل به ذلك إلى الإلحاد، لكن يضعف إيمانه ويضعف يقينه بالقرآن والسنة، وهذا من الآثار الخطيرة بالنسبة للفلسفة وعلمها، فإنها حتى ولو لم توصل الإنسان إلى الإلحاد والكفر بالله إلا أنها تضعف إيمانه، وتضعف ثقته بالكتاب، وتضعف ثقته بالسنة، ولهذا تجد المتشبعين بكتب الفلسفة وعلم الكلام وأهل البدع ونحو ذلك، تجد هؤلاء عن بكرة أبيهم إلا ما عصم ربي يستهينون بالقرآن، ويستهينون بالسنة، حتى ولو لم يصرح أحدهم بذلك، فإن القرآن عنده ما وضع إلا للعوام، والسنة ما هي إلا أمور يسيرة ليس فيها حقائق علمية، هكذا يؤمنون. فمن أين جاء هذا التهوين لتلك المصادر الحقة التي لا يأتيها الباطل أبداً؟ جاءهم من خوضهم في علم الكلام والفلسفة والمنطق، فظنوا أن تلك العقول وذلك المنطق وأولئك الفلاسفة عندهم من العلم واليقين والوصول إلى الحقائق ما ليس في الكتاب والسنة، ولهذا قال المصنف: (والإصغاء إلى كلامهم) . ثم قال: [وكل محدثة في الدين بدعة] . وهذا بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتفصيل البدعة ليس هذا موضع الكلام فيه.

كل فرقة تسمت بغير الإسلام والسنة فهي مبتدعة

كل فرقة تسمت بغير الإسلام والسنة فهي مبتدعة ثم قال: [وكل متسمٍ بغير الإسلام والسنة مبتدع] . قوله: (بغير بالإسلام) ، مثل ذلك الذي لا ينسب نفسه إلى الإسلام، أو لا ينسب نفسه إلى السنة، وإنما أتى ببدعة، فنسب نفسه إليها. قال: [كالرافضة] . والرافضة لهم أصول معروفة، وكثير منها أصول كفرية، تخرجهم عن دائرة الإسلام، ولو لم يكن من ذلك إلا اعتقادهم العصمة في الأئمة، وأنهم يعلمون المغيبات، وعبادتهم لأئمتهم والحج إلى قبورهم؛ لكفى، فإنهم يعبدونهم ويدعونهم من دون الله تعالى. وكذلك اعتقادهم بردة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولو لم يكن إلا ذلك لكفى دليلاً على ردتهم وخروجهم عن دائرة الإسلام، ولهذا فإننا نقول: من كان من الرافضة يقول بهذه الأصول فهو مرتد خارج عن دائرة الإسلام. ثم قال: [والجهمية] . وهم أتباع الجهم بن صفوان، الذي قتله سلم بن أحوز بعد أن ظهرت بدعته، فهو من المبتدعة الذين أقيم فيهم حكم الله. والجهمية لهم ضلالات كثيرة، ومن أعظم ضلالاتهم إنكار الأسماء والصفات ومنها القول بالجبر، أي أن العباد مجبورون، وأن العبد لا قدرة له ولا إرادة، وإنما يتحرك بأفعاله كما تتحرك الأوراق، فأوراق الشجر إنما تحركها الريح. ومن ضلالاتهم أن الإيمان هو المعرفة، فعندهم أن من عرف الله فهو مؤمن، وهذا مذهب الإرجاء، وهو مذهب خطير، ففرعون كان يعرف الله، وإبليس كان يعرف الله. إذاً: عندهم أن فرعون وإبليس وغيرهما من الملاحدة والطواغيت الذين عرفوا الله مؤمنون، وهذا خطير جداً، ولهذا صار الجهمية من غلاة المرجئة، فقد اجتمعت في الجهمية ثلاث جيمات: جيم التجهم الذي هو نفي الصفات، وجيم الإرجاء، وجيم الجبر، فهم جبرية، جهمية، مرجئة. ثم قال: [والخوارج] . والخوارج هم المارقة الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وأجمع المسلمون على قتالهم، وأهم ما يميزهم في عقيدتهم تكفيرهم لمرتكب الكبيرة، فكل من ارتكب كبيرة فهو عندهم كافر في الدنيا مخلد في نار جهنم، ولهذا فإنهم كفروا عثمان في آخر خلافته، وكفروا علياً، وكفروا الزبير، وعائشة، وطلحة، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فهؤلاء هم الخوارج المارقون الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووردت فيهم أحاديث كثيرة. ثم قال: [والقدرية] . والقدرية هم نفاة القدر، أي: الذين نفوا عن الله القدر، وقالوا إن الإنسان مستقل عن الله سبحانه وتعالى في الإرادة، ومستقل بفعله، فهو خالق الإرادة، وهؤلاء هم المعتزلة القدرية، وقد ورد في الحديث الذي يحسنه بعض العلماء: (القدرية هم مجوس هذه الأمة) سموا وشبهوا بالمجوس لأنهم يقولون: إن العبد خالق لفعله. ثم قال: [والمرجئة] . وهؤلاء المرجئة هم الذين يؤخرون الأعمال عن الإيمان، فلا يدخلونها، فكل من لم يدخل الأعمال في مسمى الإيمان فهو مرجئ. وهؤلاء المرجئة على درجات: فغلاتهم هم الجهمية، وقد سبق بيان عقيدتهم؛ لأنهم يقولون: الإيمان هو المعرفة فقط، ومن المرجئة أيضاً الكرامية الذين يقولون إن الإيمان قول اللسان فقط، فكل من قال بلسانه فهو مؤمن، لكن يقولون: إن المنافق الذي لا يوافق قلبه لسانه يكون يوم القيامة مخلداً في النار. ومن المرجئة أيضاً الأشعرية والماتريدية الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق فقط. ومن المرجئة أيضاً مرجئة الفقهاء رحمهم الله تعالى الذين يقولون: إن الإيمان قول وتصديق، فهؤلاء الطوائف كلهم مرجئة؛ لأنهم لم يدخلوا العمل في مسمى الإيمان. ثم قال: [والمعتزلة] . والمعتزلة هم الذين بدأت حركتهم باعتزال واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري رحمه الله تعالى، وذلك لما جعلوا النقاش حول مرتكب الكبيرة، فقال واصل بن عطاء: لا أقول هو مؤمن، ولا أقول هو كافر، بل هو في منزلة بينهما، فاعتزل حلقة الحسن البصري، فسموا معتزلة. والمعتزلة اشتهروا بأصولهم الخمسة: الأول: العدل، وهو إنكار القدر، أي: إنكار المرتبة الثالثة والرابعة من مراتب القدر، وهما مرتبة المشيئة، ومرتبة الخلق، ونسبتهما إلى العبد. الثاني: التوحيد، وهو نفيهم لجميع الصفات عن الله سبحانه وتعالى، فهم يثبتون الأسماء وينفون الصفات، لكن إثباتهم للأسماء لم ينفعهم؛ لأنهم انقسموا حيالها إلى قسمين: قسم منهم قال: إنها أعلام محضة لا تدل على معانٍ ولا صفات، والقسم الثاني منهم قال: إن الله عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، فكان مؤدى قولهم نفي الصفات عن الله سبحانه وتعالى. الثالث من أصولهم: القول بمنزلة بين المنزلتين في مرتكب الكبيرة: أي أنه في الدنيا لا مؤمن ولا كافر. الرابع: إنفاذ الوعيد: وهو أن مات من أهل الكبائر من غير توبة فلابد أن ينفذ فيه الوعيد فيكون مخلداً في نار جهنم. الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربطوا بالأصل الخامس الخروج على أئمة الجور، وقالوا: إنه يجوز الخروج على الإمام إذا كان جائراً. هذه أصول المعتزلة الخمسة التي اشتهروا بها. وأضافوا إلى ذلك أموراً كثيرة، منها: إنكار الشفاعة، وقد سبق بيان ذلك، ومنها: إنكار رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، وقد سبق أيضاً الإشارة إلى ذلك. ثم قال: [والكرامية] . والكرامية هم أتباع محمد بن سعيد بن كرام، وابن كرام هذا أشهر أقواله: إثبات الصفات مع الغلو أحياناً في إثباتها، وأيضاً من أقواله: الإرجاء في باب الإيمان، فإنه يقول: إن الإيمان هو قول اللسان فقط، لكنه قال: إن المنافق الذي يقول بلسانه وإن قلنا عنه في الدنيا إنه مؤمن، لكنه إذا مات فهو يوم القيامة مخلد في النار، فوافق أهل السنة والجماعة في الحكم عليه على الظاهر. ثم قال المصنف: [والكلابية] . والكلابية هم أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، وأشهر ما اشتهر عن ابن كلاب هو أنه نفى بعض الصفات وأثبت بعضها، وقبل ابن كلاب كان الناس على طريقتين: المعتزلة ينكرون جميع الصفات، وأهل السنة يثبتون جميع الصفات، فجاء عبد الله بن سعيد بن كلاب بشبه عقلية وردت عليه، فأثبت لله بعض الصفات، مثل: صفة العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، ومثل الوجه واليدين، والعينين وغير ذلك، ونفى عن الله ما يتعلق بمشيئته وإرادته، مثل: الاستواء، فإنه أثبت لله صفة الاستواء من باب أنها صفة علو لله سبحانه وتعالى، لكن لم يثبتها كصفة من صفات الفعل، فهو يثبت الاستواء لله سبحانه وتعالى، وينكر على من يتأوله بالاستيلاء؛ لأنه يثبت العلو لله سبحانه وتعالى. وكذلك أيضاً يتأول بعض صفات الله سبحانه وتعالى، كصفة النزول، وصفة الضحك، والعجب، والرحمة، والمحبة وغير ذلك، أي أنه في الجملة يتأول الصفات الفعلية، ويثبت لله الصفات الذاتية، وسار على منهاجه في باب الصفات الأشاعرة والماتريدية، فهم ساروا على خطاه، وإن كان متأخرو الأشاعرة ومتأخرو الماتريدية قد زادوا عنه بعداً عن مذهب السلف الصالح في باب الصفات. ثم قال المصنف: [ونظائرهم] ، فهذه فرق الضلال، وطوائف البدع، أعاذنا الله منها؛ لكن طوائف الضلال متفاوتة، فمنها طوائف قد تصل أحياناً فيها البدع إلى الكفر، ومنها ما قد تكون بدعاً دون الكفر، لكن نحن ننكر البدع، ونتبرأ من هذه كلها، ولا نسمي أنفسنا بهذه التسميات، وإنما نربط أنفسنا بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

حكم الانتساب إلى إمام في فروع الدين

حكم الانتساب إلى إمام في فروع الدين ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما النسبة إلى إمام في فروع الدين كالطوائف الأربع فليس بمذموم؛ فإن الاختلاف في الفروع رحمة] . لم يرد في ذلك حديث صحيح، لكن قد رحم الله هذه الأمة بالتوسعة عليها، والصحابة كانوا يجتهدون ويختلفون. فالانتساب إلى المذهب المالكي أو الشافعي أو الحنفي أو غير ذلك ليس فيه بدعة، إنما يكون بدعة إذا تحول إلى تعصب، ورفض للدليل الحق، أو إلى تنقص من الأئمة الآخرين، فإذا أدى إلى تعصب مذموم، أو تنقص بالأئمة الآخرين، فإنه حينئذٍ يكون انتسابه إلى هؤلاء أو أحدهم مذموماً. فمن انتسب إلى الحنفية أو المالكية أو الحنابلة وقال: إن معهم الحق، وتعصب ولو جاءه الدليل الصحيح، أو انتقص الآخرين، وقال: المذهب الحق هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل أو أبي حنيفة وما عداهم فمذهبه غير حق، فنقول: هذا تعصب مذموم. ثم قال المصنف: [والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم مثابون في اجتهادهم، واختلافهم رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة] . وهذا واضح جداً، فما اتفق عليه المسلمون وأجمعوا عليه فهو حجة، وما اختلفوا فيه فإننا نحمدهم عليه، لكن الواجب علينا أن نتبع من كان معه الدليل، ولو أن الإنسان انتسب إلى المذهب الحنفي أو المالكي أو الشافعي أو الحنبلي ثم رأى في مسألة من المسائل أن الدليل مع القول الآخر والمذهب الآخر، فالواجب عليه أن يتبعه. ثم دعا المصنف رحمه الله تعالى بهذا الدعاء العظيم فقال: [نسأل الله أن يعصمنا من البدع والفتنة، ويحيينا على الإسلام والسنة، ويجعلنا ممن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياة، ويحشرنا في زمرته بعد الممات برحمته وفضله آمين] . ونحن أيضاً ندعو معه بهذا الدعاء ونقول: اللهم إن نسألك أن تعصمنا من البدع ومن الفتنة، وأن تحيينا على الإسلام والسنة، وأن تجعلنا ممن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياة، وتحشرنا في زمرته بعد الممات برحمتك يا أرحم الراحمين! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

المقصود بسنة الخلفاء الراشدين

المقصود بسنة الخلفاء الراشدين Q ورد في حديث العرباض: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) ، فهل نعتبر سنة الخلفاء الراشدين كسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم أن سنة الخلفاء الراشدين كغيرهم؟ A هذا أمر فيه تخصيص، فنتبع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وما لم يأت في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مما مشى عليه الخلفاء الراشدون فنحن نتبعه، وإذا اختلفوا نرجح، ولهذا فإن المقصود بالسنة هنا سنتهم العامة، فيما هو مميز لهم عن غيرهم. أما ما كان رأياً لواحد منهم، وقد خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الواردة، فهذا نحكم عليه بحكم أهل الحديث في باب الترجيح، وفي مسألة إذا عمل الراوي بخلاف روايته أو غير ذلك. فالمقصود هو الاتباع في هديهم، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الشيخين أبي بكر وعمر وبين بقية الخلفاء، فقال في الخلفاء: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) ، لكن قال في أبي بكر وعمر: (اقتدوا باللذين من بعدي) ، والاقتداء أخف من ذلك، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن أبا بكر وعمر لم يقع منهما شيء يخالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان الاقتداء بهما مطلوباً.

سبب تخصيص الخلفاء الراشدين بهذا الوصف

سبب تخصيص الخلفاء الراشدين بهذا الوصف Q ما هو سبب تسمية الأربعة الخلفاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالخلفاء الراشدين؟ A لأنهم كانوا على الرشاد والهدى.

شروط الخروج على الإمام الكافر

شروط الخروج على الإمام الكافر Q وهل يشترط القدرة في الخروج على الإمام الكافر؟ A نعم، لابد من القدرة؛ فإن الخروج من غير قدرة يؤدي بالمسلمين إلى التهلكة، فلو أن واحداً يعيش في بريطانيا، والحكومة كافرة لا شك في ذلك، وقال: هل يجوز لي الخروج عليهم؟ فنقول: نعم يجوز، ونتمنى أن تقيموا دولة الإسلام هناك، لكن لو قال: ما رأيكم لو خرجت، فنقول: لا تخرج؛ لأنكم لا تستطيعون. والرسول صلى الله عليه وسلم بقي في مكة، وكثر العدد، وكان الرسول معهم، وكان بعض المسلمين يموت تحت التعذيب، ومع هذا لم يأمر الرسول بالانتقام، حتى إنه أمر بالإحصاء وقال: (أحصوا كم يلفظ الإسلام) ، فإذا هم قرابة الخمسمائة. بل لما أسلم بعض أهل المدينة وجاءوا في بيعة العقبة الكبرى في منى، وصاح الشيطان وقال بعضهم لما سمعوا صيحة الشيطان: يا رسول الله! إن شئت لنميلن على أهل منى، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم) ، فكل ذلك دال على أنه إذا كان المسلمون مستضعفين ليس لهم مكان يؤويهم فلا يجب عليهم الجهاد، والرسول ما بدأ الجهاد إلا بعد أن كانت المدينة داراً للمؤمنين تؤويهم، حيث كان يرسل الجيش ويرجع إلى مكان آمن. وهذه القضية يخطئ فيها كثير من الجماعات الإسلامية، فلا يكون الجهاد إلا إذا وجد مكان يؤويهم، وهذا هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الأجر والثواب، وألا يحرمنا ذلك، وأن يوفقنا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1