شرح لمعة الاعتقاد لخالد المصلح

خالد المصلح

شرح لمعة الاعتقاد [1]

شرح لمعة الاعتقاد [1] تعد لمعة الاعتقاد للموفق ابن قدامة، من الكتب السلفية النافعة في معرفة اعتقاد أهل السنة في أصول الإيمان، فقد بين فيها منهج السلف الصالح تجاه الآيات والأحاديث الواردة في أسماء الله وصفاته، وموقفهم من المحكم والمتشابه، وغيرها من عقيدة أهل السنة.

شرح مقدمة المؤلف رحمه الله

شرح مقدمة المؤلف رحمه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين،وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول الإمام موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى: [الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد، لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، له الأسماء الحسنى والصفات العلى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:6-7] ، أحاط بكل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم] . سنقرأ فيه إن شاء الله تعالى هذه العقيدة المباركة التي ألفها الإمام الموفق عبد الله بن محمد بن قدامة المقدسي رحمه الله، وهذا المتن المختصر من متون الاعتقاد، هو متن (لمعة الاعتقاد) وهو كتاب مختصر في العقيدة ألفه مؤلفه رحمه الله، وضمَّنه مباحث فيما يتعلق بالإيمان بالله عز وجل، والإيمان بكتبه، والإيمان برسله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر، وهذا هو أغلب ما ذكره المؤلف رحمه الله في هذا الكتاب. وقد جرت سنة أهل العلم من أهل السنة والجماعة فيما يؤلفونه من مؤلفات في الاعتقاد أنهم ينسجون مؤلفاتهم ويرتبون كتبهم التي يكتبونها في مسائل الاعتقاد على ضوء ما جاء في حديث جبريل في ذكر أصول الإيمان؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وعلى وآله وسلم عندما سأله جبريل عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) . فإذا تأملت في المؤلفات والمتون والعقائد التي كتبها أهل العلم فستجدها منسوجة على نحو هذه الأصول، فإن العلماء يكتبون في الإيمان بالله، ثم في الإيمان بالملائكة، ثم في الإيمان بالكتب، ثم في الإيمان بالرسل، ثم في الإيمان باليوم الآخر، ثم في الإيمان بالقدر خيره وشره. وقد يركزون في مؤلفاتهم على نوع من أنواع الإيمان؛ نتيجةً لشدة الحاجة إلى بيان ما يتعلق بذلك الأصل، أو جواباً على شبهة شاعت في هذا الأصل، لكنهم من حيث الأصل إذا تناولوا مسائل الاعتقاد فإنهم يأتون ببيان أصول الإيمان التي جاءت في حديث جبريل. ولا غرابة في هذا؛ فإن مباحث الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة مبنية على شرح الأصول الستة: الإيمان بالله والإيمان بالكتب والإيمان بالرسل والإيمان بالملائكة والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره. ولكن لما كان بعض هذه الأصول ليس فيه خلاف كبير، ولم تنتشر فيه المخالفات؛ قلَّ كلام أهل العلم فيه في هذه المتون وفي هذه المؤلفات التي ألفت في العقائد. فمثلاً: الإيمان بالملائكة لا يتكلم عنه المؤلفون في كتب العقائد كلاماً موسعاً، بل يختصرونه ويقتصرون على جمل فيه، وبعضهم قد لا يذكره بالكلية؛ بناءً على وضوحه وظهوره. وهكذا كل المؤلفات في العقيدة، الغالب أنها جاءت استجابة للحاجة إلى التأليف؛ إما لبيان وتجلية منهج أهل السنة والجماعة وما كان عليه السلف الصالح، ليتميز عن طريق أهل البدع، وإما جاءت في الجواب والرد على الشبه التي يثيرها هذا السبيل -سبيل أهل السنة والجماعة- فيما يتعلق بمسائل الاعتقاد. وهذه العقيدة هي من العقائد المشهورة المعروفة عند أهل العلم، وهي من تأليف الإمام عبد الله بن محمد بن قدامة، وهو من أئمة فقهاء الحنابلة وعلمائهم، وله مؤلفات مشكورة مشهورة في الفقه، وأما هذا المؤلف فهو مما يتعلق بالاعتقاد، كما أنه رحمه الله كتب عدة كتابات في مسائل الاعتقاد في غير هذا المؤلف، فمما كتبه في ذلك واشتهر عنه: كتاب (ذم التأويل) فإنه من الكتب المشهورة التي يستفاد منها في رد وإبطال شبه المنحرفين عن السنة والجماعة في مسائل الاعتقاد؛ لأنه ألفه في بيان ذم التأويل، وذكر أدلة ذلك من الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة. كذلك له رسالة في (العلو) ، وكذلك له كتاب باسم (تحريم النظر في كتب أهل الأهواء) .

الإيمان وأقسامه من حيث الإجمال والتفصيل

الإيمان وأقسامه من حيث الإجمال والتفصيل وبعد هذه المقدمة التي ذكر المؤلف رحمه الله فيها الصفات العظيمة للرب جل وعلا على وجه الإجمال، ابتدأ رحمه الله ذكر ما يتعلق بالأصل الأول من أصول الإيمان؛ وهو الإيمان بالله عز وجل فقال: [موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم] . هذا إثبات للصفات على وجه الإجمال، وهذا المسلك تلاحظه في كلام العلماء في عديد من الكتب والمؤلفات، فإنهم إذا ذكروا العقيدة يذكرون في أول اعتقادهم الإيمان المجمل، أعني: الذي ينتظم كل شيء، والذي لا يخرج عنه شيء، بحيث يكون كالمظلة التي يستظل بها جميع ما جاء من مسائل في هذا الأمر. ففيما يتعلق بالصفات: يجب على المؤمن أن يؤمن بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وهذا إيمان مجمل يشمل كل ما يتعلق بصفات الله عز وجل مما أدركه الإنسان وعلمه، أو خفي عنه ولم يعلمه، أو أنه لم يتبين له معناه، فهذا هو الإيمان المجمل. وقد ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث جبريل؛ فإن حديث جبريل تضمن الإيمان المجمل الذي يجب على كل أحد. والإيمان من حيث الإجمال والتفصيل ينقسم إلى قسمين: إيمان مجمل: وهو الإيمان بكل ما جاءت به الرسل. وإيمان مفصل: وهو الإيمان بتفاصيل ما جاءت به الرسل. فإذا قال الإنسان كما قال المؤلف رحمه الله: (موصوف بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان نبيه الكريم) ، فهذا هو الإيمان المجمل بجميع الصفات، والإيمان بكل ما أخبر الله به عن نفسه، وبكل ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم عن ربه. وأما الإيمان المفصل فهو: أن تعلم بأن الله سميع بصير قدير عليم قوي متين، وأن له وجهاً ويدين، وما إلى ذلك من سائر ما جاء به التفصيل في الكتاب والسنة. ففي أول عتبات الإيمان يجب على المؤمن أن يؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله، مما يتعلق بالأسماء والصفات وغيرها. ونحن نتكلم فيما تكلم به المؤلف رحمه الله مما يتعلق بالإيمان بالصفات. فنؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله مما جاء في الكتاب أو صحت به السنة.

معنى كون أسمائه عز وجل حسنى وصفاته عليا

معنى كون أسمائه عز وجل حسنى وصفاته عليا ثم قال: (له الأسماء الحسنى، والصفات العلى) أي: ما تقدم من كونه سبحانه وتعالى ليس له شبيه، وليس له صاحبة ولا ولد، وأنه لا تمثله العقول، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير؛ لا يعني أنه لا يوصف، ولا يعني أنه ليس له أسماء ولا صفات، بل له جل وعلا الأسماء والصفات. ولذلك بعد أن ذكر ما تقدم من نفي المثل والند والشبيه، وأنه سبحانه وتعالى لا تمثله العقول، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير، قال: (له الأسماء الحسنى، والصفات العلى) ، فذكر أن له أسماء وصفات. والأسماء الحسنى، أي: البالغة المنتهى في الحسن، فلا حسن فوق أسمائه، وقد انتهت أسماؤه إلى الحسن جل وعلا، فجمعت كمال المعنى وجمال اللفظ. قال: (والصفات العلى) فله جل وعلا الصفات العليا التي لا شيء فوقها. ( {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:5-7] ) ، ذكر المؤلف رحمه الله هذه الآيات لبيان شيء من أسماء الله وصفاته التي يثبتها أهل السنة والجماعة. وثبوت أسماء الله عز وجل جاء من أدلة كثيرة، من ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180] ، وثبوت الصفات العلى له سبحانه جاء من أدلة كثيرة، ومنها قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] ، المثل معناه: الصفة، وقوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم:27] أي: له الصفة العليا. قال رحمه الله: (أحاط بكل شيء علماً) ؛ أي: فما من شيء من الخلق إلا وقد أحاط به علم الرب جل وعلا، فلا خروج لشيء عن علم الله، وعلم الله أحاط بالماضي والمستقبل، وأحاط بالممكن والمستحيل، ولذلك قال العلماء: صفة العلم هي أعظم وأوسع الصفات تعلقاً؛ فهي تتعلق بكل شيء: تتعلق بالماضي والمستقبل، وبالممكن والواجب والمستحيل، وتتعلق بما كان وبما لم يكن؛ فالله جل وعلا أحاط علمه بكل شيء، فلا شيء يخرج عن علم الله عز وجل. قال رحمه الله: (وقهر كل مخلوق عزة وحكماً) ؛ وهذا فيه كمال صفاته، مع ما تقدم من الصفات، فهو جل وعلا العزيز الحكيم، لا خروج لأحد عن عزته، ولا خروج لأحد عن حكمه، (ووسع كل شيء رحمة وعلماً، كما قال سبحانه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] ) .

شرح البسملة

شرح البسملة يقول رحمه الله في افتتاح هذه الرسالة المباركة: (بسم الله الرحمن الرحيم) . وهذه الجملة جملة تامة، ومعنى جملة تامة: أنها كاملة تحصل بها الفائدة، مع أنه من حيث النظر الإعرابي للكلمات الموجودة، لا تستقل الكلمات الموجودة بإفادة المعنى، إذ لابد فيها من تقدير، واختلف العلماء رحمهم الله هذا المقدر على قولين: فمنهم من قدره باسم، ومنهم من قدره بفعل، وهذا الاختلاف ناشئ عن الاختلاف في: هل جملة البسملة جملة فعلية أو جملة اسمية؟ فمن قال: إنها جملة فعلية قدره بفعل، ومن قال: إنها جملة اسمية قدره باسم. وكلا الوجهين صحيح مقبول، فيصح أن يقدر باسم، ويصح أن يقدر بفعل، والمسألة قريبة والاختلاف فيها ليس بكبير الشأن. وأكثر العلماء رجحوا تقديره بالفعل، وذهب جماعة من العلماء إلى تقديره بالاسم، لكن ينبغي في هذا المقدر أن يكون مناسباً، أي: أن يكون تقديره مناسباً لحال القائل، أو لحال الكاتب لهذه الجملة. فمثلاً: عند قراءة كتاب نقدر: بسم الله الرحمن الرحيم قراءتي أو أقرأ، وعند دخول المسجد: بسم الله الرحمن الرحيم دخولي أو أدخل، وعند الذبح: بسم الله الرحمن الرحيم ذبحي أو أذبح، وعند الكتابة: بسم الله الرحمن الرحيم كتابتي أو أكتب وهلم جراً. وهذا التقدير يناسب أن يكون في آخر الكلام لا في أوله؛ تيمناً بالبداءة بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) . ويصح أن يتقدم - أي: يصح أن يأتي مقدماً- كما في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] ، ولم يقل: باسم ربك اقرأ؛ لأن التقديم في هذه الصورة مناسب، وذلك أن المقصود الأكبر هو القراءة؛ فلذلك قدمه على البسملة. لكن الأنسب في غالب موارد البسملة أن يكون المقدر المضمر مؤخراً، فتقول: بسم الله الرحمن الرحيم قراءتي، أو: بسم الله الرحمن الرحيم أقرأ.

الحمد والثناء على الله عز وجل بصفات الكمال وتنزيهه عن صفات النقص

الحمد والثناء على الله عز وجل بصفات الكمال وتنزيهه عن صفات النقص قال المؤلف: (الحمد لله المحمود بكل لسان) ؛ وهذا شروع في الرسالة بالحمد بعد البسملة. واعلم أن الرسائل والكتب والكلام يفتتح: إما بالبسملة، وإما بالحمد غالباً، وإما أن يفتتح بهما كما فعل المؤلف رحمه الله في هذه الرسالة، فإنه افتتح هذه الرسالة بالبسملة، وافتتحها أيضاً بالحمد. والحمد هو: الإخبار بمحاسن المحمود محبة وتعظيماً. فقول القائل: الحمد لله، أي: أنه يخبر بمحاسن المحمود وهو الله جل وعلا؛ محبة وتعظيماً له جل وعلا؛ ولذلك يلاحظ أنه بعد ذكر الحمد في كتاب الله عز وجل، وفي غالب الكلام أن يأتي بعده ذكر أوصاف المحمود، أو ذكر أفعاله، والأفعال هي في معنى الصفات. وهنا قال المؤلف رحمه الله: (الحمد لله المحمود بكل لسان) ، أي: أن من صفاته جل وعلا أنه محمود بكل لسان، وهذا يدل على عظيم استحقاقه للحمد؛ لأنه ما من لسان إلا يحمد الله جل وعلا، واللسان هنا يشمل في الأصل والابتداء لسان المقال، ويشمل لسان الحال، فما من أحد إلا وهو حامد لله عز وجل بلسان الحال وبلسان المقال. قال: (المعبود في كل زمان) ؛ أي: المستحق للعبادة في كل زمان، فهو جل وعلا المعبود على مر العصور وتعاقب الدهور وتوالي الأيام وكر الليالي، فهو جل وعلا المستحق أن يعبده العابدون من الإنس والجن والملائكة، وغيرهم من خلق الله عز وجل على توالي الزمان. قال: (الذي لا يخلو من علمه مكان) أي: لا يشغر ولا يتعطل مكان من الأمكنة عن علمه، بل أحاط جل وعلا علمه بكل شيء، ووسع كل شيء رحمة وعلماً. قال: (ولا يشغله شأن عن شأن) ؛ وهذا من بديع صفات الله عز وجل، وهو أنه لا يشغله أمر عن أمر، فالشأن هنا بمعنى الأمر، أي: لا يشغله أمر عن أمر، فهو جل وعلا الذي لا تكثر عليه المسائل، ولا تشغله المطالب، يسمع سؤال كل سائل، ويعطي كل من سأله ودعاه. وهو جل وعلا يدبر أمر الكون، فما يكون شيء إلا بمشيئته وتقديره سبحانه وتعالى، لا يشغله إعطاء هذا عن إعطاء غيره، ولا إحياء هذا عن إماتة غيره، ولا تدبير هذا عن تدبير غيره، بل كل شيء بقضاء وقدر، فهو على كل شيء قدير، أحاط جل وعلا بكل شيء، فلا خروج لشيء من خلقه عن قدره ومشيئته وعلمه، كما قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] . قوله: (جل عن الأشباه) : أي عظم عن الأشباه، فهو جل وعلا عظيم عن أن يشبهه شيء، أو أن يكون له ند. والأشباه: جمع شبيه، والأنداد: جمع ند، فالله سبحانه وتعالى متعالٍ عن أن يكون له مثيل، ومتعالٍ عن أن يكون له ند، والند يطلق على المثل ويطلق على الضد، فهو ليس له مثيل وليس له مضاد، بل هو الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد. قال رحمه الله: (وتنزه) ، أي: تقدس (عن الصاحبة) ، أي: الزوجة، (والأولاد) أي: تنزه عن أن يتفرع منه شيء سبحانه وتعالى، وعن أن يكون له ولد، فليس له ولد جل وعلا، كما قال سبحانه وتعالى عن نفسه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:1-3] . قال: (ونفذ حكمه في جميع العباد) أي: مضى، والحكم هنا حكمه القدري، فحكم الله جل وعلا القدري نافذ في كل أحد، فلا خروج لأحد عن حكم الله عز وجل، وكل شيء بقضاء وقدر، وما من شيء إلا ويجري عليه حكم الله جل وعلا. قوله: (لا تمثله العقول بالتفكير) أي: لا تدرك العقول مثالاً له، ومهما أمضت من الوقت في النظر والتأمل والتفكر والتدبر؛ فإنها لا تصل إلى تمثيله، فالمعنى: أنه لا تصل العقول إلى مثله بالتفكير. (ولا تتوهمه القلوب بالتصوير) أي: لا تستطيع القلوب أن تدرك صورته جل وعلا، أي: أن تجعله سبحانه وتعالى في صورة من الصور، فالقلوب تعجز عن تصويره سبحانه وتعالى، قال جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ؛ أي: أنه جل وعلا ليس له مثيل؛ فليس له ما يمثل به ولا ما يلحق به في الصورة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، وقد قال الله جل وعلا في نفي المثل عنه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] ، أي: ليس له سمي، وليس له نظير كما قال سبحانه: {ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] وقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً} [البقرة:22] ، وما أشبه ذلك من الآيات التي نفى الله جل وعلا فيها عن نفسه الكفؤ والند والنظير.

منهج السلف في تأليف كتب العقائد

منهج السلف في تأليف كتب العقائد أيها الإخوة! إن النصوص التي حث الله جلَّ وعلا فيها الأمة على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ جداًً، ولا نستطيع أن نأتي على أكثر مما ذكرنا لِقِصَر الوقت، إلَّا أن في سيرة الصحابة وفيما عملوه، وما حفظته دواوين السنة لنا من هديهم في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جنوا به من البركات والخيرات؛ شاهدٌ على ذلك، فإن جيل الصحابة أكمل الأجيال، وهو خير القرون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) خيريتهم لم تكن لأنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وفلان وفلان من الصحابة، إنما خيريتهم حصلت لما كانوا عليه من العمل والمسابقة إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة لهم تمام الانقياد لما كان يفعله صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك نموذج حفظته السنة وهو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يصلي بأصحابه في إحدى المرات فخلع نعليه وهو في الصلاة، فما كان من الصحابة رضي الله عنهم إلَّا أن خلعوا نعالهم) تأسياً واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لبس الخاتم فلبسوه، خلع الخاتم فخلعوه، وهكذا كانوا ينظرون إليه صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم حفظوا لنا حركة لحيته وهو يصلي؛ لشدة تأسيهم به؛ ونظرهم إلى أفعاله ليقتدوا بها ويتأسوا. ومن عجيب ما حفظوه لنا: عدد ما في رأسه ولحيته من الشيب! فحفظوا أن في رأسه ولحيته سبع شعرات من الشيب فقط لا غير، وهذا دليل على أن الصحابة جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت المجهر عندهم، يرقبون فعله، وينظرون إلى ما يفعل، وليس نظر ترفُّه وتفكُّه وحب استطلاع، وإنما هو نظر اتباع واقتداء، فكانوا يهتدون ويقتدون به في دقيق الأمر وجليله.

معنى عنوان الكتاب وسبب تسميته

معنى عنوان الكتاب وسبب تسميته وهذا الاعتقاد الذي في هذه الرسالة هو اعتقاد مختصر؛ ولذلك سماه المؤلف رحمه الله بـ (لمعة الاعتقاد) واللمعة هي: البلغة والشيء اليسير من العيش، هذا التعريف من حيث اللغة. وهذا الكتاب فيه نبذة يسيرة مما يعتقده أهل السنة والجماعة؛ لأنه ذكر فيه نبذاً مختصرة في مسائل الاعتقاد. وقال بعض أهل العلم: إن سبب تسمية المؤلف رحمه الله لهذا الكتاب بـ (لمعة الاعتقاد) ؛ لأن ما ذكره فيه من العقائد ظاهر واضح، تدل عليه الأدلة من الكتاب والسنة، فأدلته من أظهر ما يكون وأوضح ما يطلب؛ ولذلك سماها (لمعة) ، من لمعان الشيء؛ وهو ظهوره وعدم خفائه. وعلى كل حال: فإنه يصح أن يكون المقصود من هذا الاسم المعنيين، فيصح أن يكون قصده من تسمية هذا الكتاب بـ (لمعة الاعتقاد) أنه نبذة مختصرة، وأنه نبذة ظاهرة واضحة بل جلية في تقرير اعتقاد أهل السنة والجماعة. أما (الاعتقاد) : فالاعتقاد هو الحكم الذهني الجازم، ولا يلزم من الاعتقاد أن يكون صحيحاً، لكنه اعتقاد وحكم ذهني جازم، أي: لا تردد فيه ولا ارتياب عند صاحبه. وقد يكون مطابقاً للواقع فيكون اعتقاداً صحيحاً، وقد يكون مخالفاً للواقع فيكون اعتقاداً فاسداً، فالاعتقاد إذا كان موافقاً للحق فيوصف بأنه اعتقاد صحيح، وإذا كان مجانباً للصراط المستقيم وللحق؛ فيكون اعتقاداً باطلاً فاسداً، والمراد أنه لا يلزم أن يكون الاعتقاد في جميع مواده صحيحاً. وقول المؤلف رحمه الله في تسمية هذا الكتاب: (لمعة الاعتقاد) أي: بيان ما ظهر من مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة. قال رحمه الله: (الهادي إلى سبيل الرشاد) : الهادي، أي: الدال والمبين والموضح. إلى سبيل الرشاد؛ أي: إلى الطريق الذي يحصل به الرشد. وقوله: (الرشاد) هو: ضد الغي، والهداية هي: ضد الضلال، فجمع المؤلف رحمه الله في وصف كتابه وتسميته هذه الأوصاف، وهي الهداية والرشاد والوضوح والظهور.

الواجب في النصوص المتعلقة بالأسماء والصفات

الواجب في النصوص المتعلقة بالأسماء والصفات قال المؤلف رحمه الله: [وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل، والتشبيه والتمثيل، وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله، اتباعاً لطريق الراسخين في العلم، الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] ، وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] ، فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أمَّلوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه، بقوله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7]] . ذكر المؤلف رحمه الله في هذا المقطع ما يجب العمل به فيما يتعلق بالأسماء والصفات، فقال رحمه الله: (وكل ما جاء في القرآن، أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به) أي: وجب اعتقاده، والإقرار به، والطمأنينة له. والإيمان هو: الإقرار المستلزم للإذعان والقبول، ولذلك قال: (وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل) . فالواجب فيما يتعلق بخبر الله في كتابه، أو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من صفات الله عز وجل هو الإيمان بذلك، وأن نقر به ونصدقه، وأن تطمئن قلوبنا له، وأن نقبله كما ذكر المؤلف رحمه الله، أي: نتلقاه بالتسليم والقبول.

العمل فيما أشكل من نصوص الصفات

العمل فيما أشكل من نصوص الصفات بعد أن بين المؤلف رحمه الله الواجب في أسماء الله وصفاته انتقل رحمه الله إلى بيان أن ما جاءت به النصوص مما يتعلق بصفات الله عز وجل؛ منه ما هو مشكل، ولذلك قال: (وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً) . والنصوص من حيث دلالتها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: نصوص واضحة الدلالة بينة، ليس فيها لبس؛ فهي واضحة في اللفظ، وواضحة في المعنى، وهذه هي التي تسمى المحكمة. القسم الثاني من النصوص: ما فيه اشتباه، بمعنى: أن معناه فيه نوع غموض وخفاء، وهذا الغموض والخفاء يرجع شيء منه إلى اللفظ، كأن يكون اللفظ مجملاً ويرجع شيء منه إلى الفهم والعلم. فالمتشابه من النصوص هو ما احتمل أكثر من معنى. والواجب في المحكم الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً؛ هو الإيمان به وإثباته، أما المتشابه فالواجب فيه هو ما ذكره المؤلف رحمه الله فيما سيأتي من كلامه. وقبل أن نفرغ من هذه النقطة نقول: إن النصوص في القرآن والسنة من حيث الدلالة والمعنى تنقسم إلى قسمين: القسم الأول منها: ما هو محكم، وهذا النوع هو الواضح الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً، والنوع الثاني من النصوص: هو الذي يحتمل أكثر من معنى. والمحكم مثل قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، فهذا النص محكم لأنه يدل على معنى واحد، وهو أن الله أحد جل وعلا، فقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] معناه واضح يدركه كل من عرف لسان العرب. ومن النصوص التي يمثل بها العلماء للنص المتشابه قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، فالمتكلم بالقرآن والمنزل له واحد، وهنا يقول: (إنا نحن) فأتى بضمير الجمع، فهذا الضمير يحتمل أن المنزل للقرآن أكثر من واحد، وأن المتكلم بالقرآن أكثر من واحد، ويحتمل أنه أراد تعظيم نفسه وبيان عظيم قدره؛ لأن العرب تستعمل ضمير الجمع في حق من كان عظيم القدر، رفيع المنزلة والمكانة، فهذا يحتمل هذا المعنى، ويحتمل هذا المعنى. والنصارى يقولون: إنكم تقرُّون التعدد، وأن الله ليس بواحد، والدليل قوله في كتابكم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، و (إنا) لا يمكن أن تدل على واحد، فهذا من المتشابه. الواجب في المتشابه أن نرده إلى المحكم، والمحكم في كلام الله عز وجل هنا هو قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، فالمتيقن أن الضمير في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، أنه للتعظيم، ونظائر هذا كل ما جاء من الألفاظ التي عبر الله عز وجل فيها عن نفسه بضمير الجمع، فإن ذلك جاء على وجه التعظيم؛ لأن العرب تستعمل هذا الأسلوب. إذاً: النصوص الواضحة يجب الإيمان بها، والنصوص المتشابهة يجب ردها إلى المحكم والإيمان بها.

معنى المحكم والمتشابه في القرآن

معنى المحكم والمتشابه في القرآن وهنا إشكال: وهو أن الله وصف القرآن بأنه محكم؛ قال الله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] ، فأخبر بأن القرآن محكم، وأخبر أيضاً بأن القرآن متشابه فقال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر:23] ، بينما في آية سورة (آل عمران) قسم الله عز وجل القرآن إلى قسمين: محكم ومتشابه، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] ، فقسم آيات القرآن إلى قسمين: محكم ومتشابه، وA أنه لا تعارض؛ لأن الإحكام والتشابه ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: إحكام عام، وتشابه عام. والقسم الثاني: إحكام خاص، وتشابه خاص. فالإحكام العام والتشابه العام المراد به؛ إدخال الكلام وتصديق بعضه لبعض، وليس فيه تعارض، فقول الله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] أي: أتقنت آياته، وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر:23] المقصود به: أنه يصدق بعضه بعضاً وليس فيه تعارض، فليس فيه أن آخره ينقض أوله، أو أن بعضه يرد على بعض، بل يصدق بعضه بعضاً كما قال الله جل وعلا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] . فالقرآن لا اختلاف فيه، بل يصدق بعضه بعضاً، كما قال سبحانه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، كل هذا من حيث الوصف العام للقرآن. لكن الآيات؛ منها ما هو محكم، ومنها ما هو متشابه، فالإحكام والتشابه الخاص؛ هو أن بعضها واضح المعنى جلي المقصد والغاية، وبعضها يحتمل أكثر من معنى، فلا تعارض بين الإحكام العام والتشابه العام، وبين الإحكام الخاص والتشابه الخاص. فما أشكل يجب رده إلى ما تبين، والمشكل وغير المشكل هو في حق الآيات من حيث المعنى، أما من حيث تصديق الكلام بعضه لبعض، ومن حيث اتفاق المعاني وتوافقها؛ فهذا وصف لكل القرآن.

صحة نفي التمثيل وإثبات التشبيه

صحة نفي التمثيل وإثبات التشبيه والتشبيه والتمثيل متقاربان، والمقصود بالتشبيه هو: أن تجعل لله عز وجل شبيهاً فيما لا يجوز أن يكون له فيه شبيه. وانظر إلى قولنا: فيما لا يجوز؛ لأنه ليس كل تشبيه ممنوعاً، ولذلك استعمل بعض العلماء من المحققين لفظ التمثيل؛ لأنه هو الذي جاء في الكتاب والسنة، ولم يستعملوا لفظ التشبيه؛ لأن التشبيه لفظ غير مطابق للواقع، فإن ما أخبر الله به عن نفسه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم عنه؛ لابد فيه من قدر من المشابهة في المعنى العام الذي يحصل به فهم النص، فليس كل مشابهة منتفية، ولذلك ليس في القرآن لفظ أنه لا شبيه له، بل الذي في القرآن: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، والمماثلة أمر زائد على مطلق المشابهة؛ لأن المماثلة هي المساواة من كل وجه، أما المشابهة فهي اتفاق من بعض الوجوه. فمثلاً: علو الله عز وجل مفهوم المعنى، وهو: الارتفاع عن الغير، لكن ما لله من العلو ليس كما للمخلوق من العلو. والسمع مفهوم المعنى، وهو إدراك الأصوات، فسمع الله معناه إدراك الأصوات، لكن الصفة التي اتصف بها سبحانه وتعالى ليست هي كسمع المخلوق. إذاً: ينحصر المحظور في التمثيل، أما التشبيه فلابد منه في قدر، وهذا القدر هو الاشتراك في المعنى العام. ونقول: إن مراد المؤلف رحمه الله بالتشبيه هنا هو التمثيل؛ ولذلك قال رحمه الله فيما تقدم: (جل عن الأشباه والأنداد) ومقصوده: أنه تعاظم عن أن يكون له مثيل سبحانه وتعالى. فملخص ما في هذه النقطة هو أن نقول: إن طريق أهل السنة والجماعة هو إثبات النصوص كما أثبتها الله أو أثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فلا نكيف صفات الله، ولا نمثل الله بخلقه، ولا نعطل النصوص بتحريف أو تأويل، بل نثبت النصوص كما جاءت في الكتاب والسنة، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

الطريق التي زاغ بها أهل الضلال والانحراف عن نصوص الكتاب والسنة

الطريق التي زاغ بها أهل الضلال والانحراف عن نصوص الكتاب والسنة ثم بعد أن بيَّن الواجب فيما يتعلق بالأسماء والصفات في كلام الله وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ذكر المؤلف رحمه الله ضلال من ضلَّ، وطريق من أخل بمنهج أهل السنة والجماعة- منهج الصحابة- الذين تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: (وجب الإيمان به، وتلقيه، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل) . وهذه الطرق التي ذكرها رحمه الله هي أربع طرق: الرد والتأويل والتشبيه والتمثيل، وحقيقتها ترجع إلى طريقين: التعطيل والتمثيل. فهذا التفصيل: (الرد والتأويل والتشبيه والتمثيل) ، يرجع إلى طريقين بهما يحصل الزيغ فيما يتعلق بخبر الله عن نفسه، أو خبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه. الأول: التعطيل: وهو إبطال ما جاءت به النصوص؛ إما إبطالاً كلياً، أو إبطالاً جزئياً. والثاني: التمثيل: هو أن يجعل ما أخبر الله به عن نفسه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم عن ربه نظير ومثل ما للمخلوق، وهذا لا شك أنه من أعظم المحرمات؛ لأنه شرك بالله عز وجل. فالمؤلف أحسن في بيان ما يجب، حيث قال: (وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول) ، ثم ذكر بعد ذلك طرق الغي والضلال والزيغ فيما يتعلق بمسائل الاعتقاد فقال: (وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل) . قال ابن القيم رحمه الله في نونيته وهو يبين زيغ طريق أهل الضلال، وسلامة طريق أهل الحق قال: فالجحد والإعراض والتأويل والتـ ـجهيل حظ النص عند الجاني فذكر أربع طرق: الجحد والإعراض والتأويل والتجهيل. وقوله: حظ النص، أي: نصيب النص، وهكذا يقابل أهل الزيغ نصوص الكتاب والسنة: إما بالجحد، وإما بالإعراض، وإما بالتأويل، وإما بالتجهيل، وكل هذا مؤداه واحد؛ وهو ترك العمل بالنص. هذا حظ النص عند الجناة من أهل التأويل الذين خالفوا طريق أهل السنة والجماعة- طريق سلف الأمة- في معرفة ما يجب لله عز وجل، وما أخبر الله به في كتابه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته. ثم قال ابن القيم رحمه الله: لكن لدينا حظ التسليم مع حسن القبول وفهم ذي إحسان وقوله: لكن لدينا أي: أهل السنة والجماعة. فطريق أهل السنة والجماعة هو التسليم مع حسن القبول، فهو ليس تسليماً مع ضيق وضجر وقلق ورفض، بل تسليم مع حسن قبول، ولذلك قال بعد التسليم: (مع حسن القبول وفهم ذي إحسان) . وهكذا ينبغي أن نعامل النصوص. يقول رحمه الله: (وترك التعرض لها بالرد) ؛ والرد منه التكذيب، ومنه الإبطال. والتأويل هو: صرف اللفظ عن ظاهره، وتفسيره بما لم يرده الله ورسوله، هذا هو التأويل، ومعنى التأويل هنا هو: تفسير النص هنا بما لم يُرده الله ورسوله.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين التعطيل والتمثيل

الفرق بين التعطيل والتمثيل Q ما الفرق بين التعطيل والتمثيل؟ A الفرق بين التعطيل والتمثيل أن التعطيل: إبطال ما دلت عليه النصوص، أو إلغاء ما دلت عليه النصوص؛ إما إلغاءً كلياً أو جزئياً. والتمثيل: هو أن يجعل لله مثيل. والله تعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله.

الفرق بين الإحكام الخاص والتشابه الخاص والإحكام العام والتشابه العام

الفرق بين الإحكام الخاص والتشابه الخاص والإحكام العام والتشابه العام Q ما هو الفرق بين الإحكام الخاص والتشابه الخاص؟ A الإحكام الخاص، يعني: أن الآية ليس لها إلا معنى واحد، والتشابه الخاص، يعني: أن الآية تحتمل أكثر من معنى، كما مثلنا بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وبقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، فإن الآية الأولى لا تحتمل إلا معنى واحداً. والآية الثانية يحتمل الضمير فيها معنيين كما تقدم. أما التشابه العام فهو الذي يعم القرآن كله، والإحكام العام هو الذي يعم القرآن كله، ومعناه: أنه متقن وأنه يصدق بعضه بعضاً، ويندرج تحته الإحكام الخاص والتشابه الخاص، والله قد وصف القرآن بالإحكام في قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] ،ووصفه كله بأنه متشابه في قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً ٍ} [الزمر:23] ، وفي آية (آل عمران) قسم الله الآيات إلى قسمين فقال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] ، أي: بعض آياته محكمات والأخرى متشابهات، ولا تعارض، فالإحكام العام بمعنى الإتقان، والتشابه العام بمعنى أن يصدق بعضه بعضاً، فليس فيه اضطراب ولا اختلاف، كما قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] . وأما التشابه الخاص الذي ذكره الله في آية (آل عمران) ، والإحكام الخاص، فالإحكام الخاص هو: الآيات واضحة المعنى التي لا إشكال في معناها. وأما قوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] ، فهي التي تحتمل أكثر من معنى، أو في معناها خفاء وعدم وضوح، فالإحكام العام والتشابه العام يندرج تحته الإحكام الخاص والتشابه الخاص.

شرح لمعة الاعتقاد [2]

شرح لمعة الاعتقاد [2] أثبت السلف رضي الله عنهم ما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه من الصفات أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل، ورد المحكم إلى المتشابه، فيجب الوقوف حيث وقف السلف رضوان الله عليهم أجمعين.

أحكام المتشابه من الآيات والصفات

أحكام المتشابه من الآيات والصفات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى في كتابه لمعة الاعتقاد: [وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله اتباعاً لطريق الراسخين في العلم، الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7] ، وقال في ذم مبتغي التأويل بمتشابه تنزيله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ} [آل عمران:7]] .

جعل عهدة المتشابه على ناقله

جعل عهدة المتشابه على ناقله قال: (ونجعل عهدته على ناقله) : العهدة: هي الدَرَك وما يترتب على الشيء، فنجعل عهدة الكلام، أي: ما يترتب عليه من إثبات ما يثبت، ونفي ما ينفى، ودرك هذا الكلام على ناقله الذي نقله إلينا، وهذا في نصوص السنة النبوية. قال: (اتباعاً لطريق الراسخين في العلم) أي: ونحن في هذا متبعون، ولسنا مبتدعين؛ والرسوخ في العلم: هو أن يكون المرء مدركاً لمعاني كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، عالماً بمقاصد الكتاب والسنة، فكلما كان الإنسان راسخ القدم في فهم كلام الله وكلام رسوله فإنه من الراسخين في العلم؛ لأن الرسوخ أصله الثبوت والقرار، ولا يكون ذلك إلا لمن عقل عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. (اتباعاً لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] ، (آمنا به) أي: آمنا بهذا القرآن، (كلٌ) : أي: كل ما في هذا القرآن من محكم الآيات ومتشابهها، (من عند ربنا) فلا نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعض؛ فهذا سبيل الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، إنما نؤمن بكل ما في القرآن؛ فما عقلنا معناه واتضح فالحمد لله؛ وما لم يتبين لنا معناه آمنا به على مراد الله، وعلى مراد رسوله صلى الله عليه وسلم.

وجوب إثبات اللفظ والإيمان بأن له معنى

وجوب إثبات اللفظ والإيمان بأن له معنى تقدم الكلام على جزءٍ من هذا المقطع، وقلنا: إن نصوص الكتاب تنقسم إلى قسمين من حيث الدلالة: ما هو واضح الدلالة، وما هو خفي الدلالة، فواضح الدلالة الذي لا يحتمل إلا معنىً واحداً هو المحكم، وأما ما خفيت دلالته أو احتمل أكثر من معنى فإنه المتشابه، والواجب في المحكم الإيمان به والعمل، والواجب في المتشابه الإيمان به ورد معناه إلى ما دل عليه المحكم، وهذا هو سبيل الراسخين في العلم. يقول رحمه الله: (وما أشكل من ذلك) أي: ما وقع فيه إشكال، كأن اشتبه في دلالته ومعناه، ومن ذلك آيات الصفات، فإن البحث هنا فيها بالذات والخصوص، أما من حيث الأصل فإنه يشمل البحث في آيات الصفات وفي غيرها. يقول رحمه الله: (وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً) وهذا لا إشكال فيه، فإنه لا يمكن أن يلغي أحد شيئاً من كتاب الله عز وجل، ولا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم إذا ثبتت وصحت، لكن البحث في المعنى فيقول: (وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه) أي: وجب إثبات اللفظ، وأما المعنى: فيجب ترك التعرض له، بمعنى: أن نعرض عن قول شيءٍ لم يتبين لنا فيه حجة أو برهان، فلا نقول في آيات الله، ولا فيما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أنفسنا أو آرائنا، بل ما أشكل علينا إذا أمكن أن نرده إلى المحكم فذاك المطلوب، وهذا الذي ينبغي أن يكون. وإذا لم نتمكن من ترجيح شيء في معنى هذا المشكل فالواجب ألا نقول فيه شيئاً ليس لنا فيه حجة، وليس لنا فيه برهان، بل نقف ونقول: الله أعلم بمراده. فمعنى قول المؤلف رحمه الله: (وترك التعرض لمعناه) أي: يجب علينا أن نقف في المعنى، وليس مقصود المؤلف ومعنى كلامه أننا نقول: إنه ليس له معنى، إذ ليس في كلام الله عز وجل ما لا معنى له، بل كل كلام الله عز وجل له معنى؛ لأن الله عز وجل خاطبنا بلسان عربي مبين، يدرك معناه، ويعرف مبتغاه، لكن إذا اشتبه علينا شيء من المعنى وجب علينا الوقوف في تحديد المعنى. إذاً: ما أشكل من الآيات، وما أشكل من الأحاديث فلم نفهم المعنى، فيجب علينا إثبات اللفظ الذي جاء به النص، وأما معنى هذا النص فالواجب علينا أن نتوقف فيه حتى يأتينا برهان أو حجة، ونستطيع من خلالها أن نقول: إن معنى الآية كذا وكذا، وهذا هو معنى قول المؤلف رحمه الله: (وجب إثبات لفظه، وترك التعرض لمعناه) . وبعض الناس يظن أن المؤلف رحمه الله أراد بقوله: (وترك التعرض لمعناه) أي: أنه ليس له معنى، وهذا يأباه سياق الكلام، فإن المؤلف رحمه الله يتكلم عن الآيات المشكلة، وإنما جاء الإشكال لكون المعنى فيها غير واضح، فهو لم يقل: ليس لها معنى، أو أنها كلام لا يقصد منه شيء، إنما أراد المؤلف أن الواجب في المشتبه من المعاني إذا لم يتبين معناه التوقف. إذاً: إذا أشكل عليك شيء من كلام الله ومن كلام رسوله، فما هو الطريق الذي تسلكه؟ الطريق الذي تسلكه: أن تطلب حل هذا الإشكال من كلام الله ومن كلام رسوله، فإن وفقت إلى ذلك فالحمد لله، وهذا المطلوب والمبتغى، وإذا حيل بينك وبين هذا ولم تتوصل إلى المعنى فعند ذلك تثبت أن الكلام له معنى؛ لأن الله خاطبنا بما له معنى، ثم تقول: الله أعلم بمراده. كما سيأتي في كلام الشافعي رحمه الله الذي نقله المؤلف: (ليس في كلام الله ولا في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا معنى له) ، ومن قال: إن آيات الصفات لا معنى لها، أو أن كلها معناها لا نعلمه؛ فقد بخس القرآن حقه، وجنى على النصوص) ، وهو ما أشار إليه ابن القيم رحمه الله في قوله: فالجحد والإعراض والتأويل والتـ ـجهيل حظ النفس عند الجاني التجهيل: أي: أنه ليس له معنى، هذا معنى قوله رحمه الله. فكل من أعرض عن الكتاب، وجحد ما جاءت به النصوص من الصفات وكل من أوَّل وحرف كلام الله عن مواضعه وكل من قال: إن النصوص ليس لها معنى، أو أن لها معنى لا نعلمه في جميع مواردها؛ فإنه قد جنى على النصوص؛ فكل هذا من أنواع الجنايات على كلام الله وكلام رسوله.

رد علم المتشابه إلى قائله

رد علم المتشابه إلى قائله يقول رحمه الله: (ونرد علمه إلى قائله) أي: علم هذا المعنى، ومعناه: أنه إذا كنا سنرد العلم إلى قائله فإن الكلام له معنى.

ذم التأويل

ذم التأويل يقول رحمه الله: (وقال في ذم مبتغي التأويل) أي: قال الله تعالى في ذم مبتغي التأويل -التحريف- وطلب المعنى لمتشابهه، (فأما الذين في قلوبهم زيغ) أي: انحراف وميل عن الحق إلى الضلال (فيتبعون ما تشابه منه) أي: يفرحون بالمتشابه ويتمسكون به؛ (ابتغاء الفتنة) أي: هذا الفعل منهم إنما أرادوه وفعلوه لأجل أن يوقعوا الفتنة، والفتنة: منها ما يتعلق بالشهوات، ومنها مايتعلق بالشبهات، المراد بالفتنة هنا ما يتعلق بالشبهات التي تزيغ عن الحق، وتصرف عن الهدى. (وابتغاء تأويله) أي: وطلب معناه مع أن معناه ليس بميسورٍ لهم.

معنى التأويل في الآية على قراءة

معنى التأويل في الآية على قراءة (وما يعلم تأويله) أي: وما يدرك معناه وتفسيره. (إلا الله والراسخون في العلم) ، فالراسخون في العلم يدركون تأويله، وعلى هذه القراءة يكون معنى التأويل في الآية: التفسير. (وما يعلم تأويله) أي: تفسيره وكشف معناه وبيانه (إلا الله والراسخون في العلم) فالراسخون في العلم يعلمون معنى كلام الله وكلام رسوله، ويردون ما اشتبه عليهم من المعاني إلى ما اتضح؛ فيتبين لهم المعنى. قال رحمه الله: (فجعل ابتغاء التأويل) أي: ابتغاء التفسير في المشكل مع عدم العلم (علامةً على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم) لأنه قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] . يقول: (ثم حجبهم عما أملوه) أي: منعهم عما أملوه من إدراك المعاني مع الزيغ الذي في قلوبهم. (وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] أي: ما يعلم حقيقة ما أخبر الله به عن نفسه إلا الله. وأما على القراءة الثانية: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) أي: أن أصحاب الزيغ لا يتوصلون إلى فهم المعاني؛ لأنه لم تصح مقاصدهم، بل مقاصدهم تحريف الكلم عن مواضعه، ولذلك لا يمكن أن يصل الإنسان إلى الحق بنية فاسدة، بل لا بد في التوصل إلى الحق من نية صالحة وعقلٍ سليم، فمن فقد النية الصالحة في العقل والنظر فإنه لا يصيب الحق؛ لأن النوايا الفاسدة تحجب وتمنع من الوصول إلى الحق.

منهج الإمام أحمد بن حنبل والشافعي في آيات الصفات

منهج الإمام أحمد بن حنبل والشافعي في آيات الصفات قال رحمه الله: [فجعل ابتغاء التأويل علامةً على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أملوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا) أو (إن الله يرى في القيامة) . وما أشبه هذه الأحاديث: نؤمن بها، ونصدق بها، لا كيف، ولا معنى، ولا نرد شيئاً منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه، لا نتعدى ذلك، ولا يبلغه وصف الواصفين. نؤمن بالقرآن كله: محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفةً من صفاته لشناعةٍ شنعت، ولا نتعدى القرآن والحديث، ولا نعلم كيف كنه ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، وتثبيت القرآن] . نعم، هذا الكلام الذي نقله المؤلف رحمه الله عن الإمام أحمد بن حنبل بيان لمنهج أهل السنة والجماعه في آيات الصفات، وقد نقل رحمه الله عن جماعة من أئمة السلف في هذا لبيان القاعدة التي يسير عليها الإنسان فيما يتعلق بالأسماء والصفات.

معنى عدم التعرض للتأويل

معنى عدم التعرض للتأويل قوله رحمه الله: (من غير تعرض لتأويله) يحتمل معنيين: المعنى الأول: من غير تعرض لطلب كيفيته وحقيقته، وهذا يشمل المحكم والمتشابه، فما أخبر الله به عن نفسه، وما أخبر به رسوله عنه؛ نثبته دون التعرض لتأويله. المعنى الثاني: من غير تعرض لتفسيره، وهذا لا يكون في جميع آيات وأحاديث الصفات، لكن في المتشابه فقط؛ فانتبه إلى الكلام. قوله رحمه الله: (من غير تعرض لتأويله) ؛ إن كان المقصود جميع آيات وأحاديث الصفات؛ فالمقصود بالتأويل هنا التكييف، أي: تكييف حقيقة ما أخبر الله به عن نفسه أو أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. وإن كان المقصود بالتأويل هنا التفسير، فإن هذا يختص بالمتشابه من آيات وأحاديث الصفات، لا الجميع.

كلام الإمام الشافعي ومنهج السلف في الصفات

كلام الإمام الشافعي ومنهج السلف في الصفات قال رحمه الله: [قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: (آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله] . وهذا من عميق فقه الإمام الشافعي رحمه الله؛ فيجب على المؤمن أن يقر في قلبه، وأن يطوي فؤاده على هذا العقد: (آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله) أي: على مقصود الله جل وعلا، وعلى ما أراده الله سبحانه وتعالى، لا على ما أتوهمه أو أظنه أو أتخيله، إنما على مراد الله عز وجل. وقوله: (وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله) ؛ هكذا يجب أن يكون المؤمن في كلام الله عز وجل؛ في المحكم والمتشابه، وهذا هو معنى كلام المؤلف رحمه الله الذي تقدم معنا في قوله: (وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه) ، فترك التعرض لمعناه أن نقول: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول رحمه الله: [وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم، كلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات؛ لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله، من غير تعرض لتأويله، وقد أمرنا بالاقتفاء بآثارهم، والاهتداء بمنارهم، وحذرنا المحدثات، وأخبرنا أنها من الضلالات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة) ،وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) ] . ما تقدم من النقل عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل وأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمهما الله، درج عليه السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم؛ فـ (كلهم متفقون على الإقرار) أي: الإثبات، (والإمرار) أي: وعدم التعرض لما جاءت به النصوص برد أو تأويل أو تجهيل أو إعراض، (والإثبات) لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله.

لا نعطل الله من صفاته لأجل تشنيع المبتدعة

لا نعطل الله من صفاته لأجل تشنيع المبتدعة قال رحمه الله: (ولا نزيل عنه صفةً من صفاته لشناعة شنعت) أي: لا نعطل الله عن صفاته لأجل ما يشنعه أهل التشبيه والزيغ، الذين يصفون أهل السنة بصفات لينفروا الناس عن الحق الذي جاءوا به وقالوا به؛ حيث إنهم يصفون أهل السنة والجماعة بأنهم حشوية ومجسمة، وأنهم لا علم عندهم، وما أشبه ذلك من الأوصاف التي تنفر عن الحق، ولا يغرنك ما يجعله أهل الباطل على منهجهم من بهرجة، حيث يقولون: نحن أهل العقول والبصائر، وأهل النظر والفكر والعلم، وأما الذين يثبتون الصفات فهم حشوية مجسمة، مشبهة ممثلة، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي ينفرون بها من ينفرون عن الحق. هذا معنى قول الإمام أحمد: (لا نزيل عنه صفةً من صفاته لشناعة شنعت) أي: لا يمكن أن نعطل الله عز وجل عما أخبر به عن نفسه، أو أخبر به رسوله؛ لأجل قول من يقول: إنكم مشبهة! إنكم مجسمة! إنكم! إنكم! إنما نقول بما قال الله، وبما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم. (ولا نتعدى القرآن والحديث، ولا نعلم كيف كنه ذلك) أي: كيف حقيقة ذلك؛ فالكنه هو الحقيقة، ونحن لا نعلم كيف كنه الصفات ولا حقيقتها؛ فإن علمها إلى الله عز وجل. قوله: (إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن) : (إلا) هنا منقطعة، يعني: لكن نصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ونثبت القرآن، أي: نثبت ما جاء في الكتاب والسنة من الخبر عن الله عز وجل، دون أن نلج في معرفة كيفيات ذلك.

معنى قول أحمد: (بلا حد ولا غاية)

معنى قول أحمد: (بلا حد ولا غاية) قال رحمه الله: (بلا حد ولا غاية) أي: أننا لا نحد لذلك حداً من قبل أنفسنا، وقوله: (ولا غاية) أي: ولا نحدد نهاية من قبل أنفسنا، ولا يعني هذا الكلام أن صفات الله جل وعلا ليس لها حد، فإن أول من قال: إنه لا حد للصفات ولا غاية ولا نهاية جهم بن صفوان، يقول أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله في كتاب (الرد على الجهمية) : لم يعلم عن أحدٍ من العالمين أنه تكلم بهذا الكلام قبل جهم بن صفوان، ومراد جهم بن صفوان بقوله في الصفات: إنه لا حد لها ولا غايه؛ مراده تعطيل الله عن صفاته، ولذلك قيل: (من قال: لا حد ولا غاية، فقد قال بأنه لا إله، وأن الله لا شيء؛ لأنه ما من شيء إلا له حد وغاية. وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن بعض صفات الله عز وجل فقيل له: بحد أو لا؟ قال: بحد، واستدل لذلك بقول الله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر:75] قال: حافين من حول العرش، أي: محدقين، وهذا حد، وأهل السنة والجماعة متفقون على أن الله فوق سماواته، على خلقه، بائنٌ من خلقه سبحانه وتعالى؛ ولا شك أن هذا حد. ولذلك اتفق سلف الأمة على إثبات أن للصفات حداً وغاية؛ لكنهم نفوا أن يكون لهذه الصفات حد يعلمه الإنسان؛ ولذلك قالوا: له حدٌ لا يعلمه غيره، كما ذكر ذلك أبو سعيد رحمه الله؛ فقال: ولا يجوز لأحدٍ أن يتوهم لحده غاية، ولكن نؤمن بالحد، ونكل علمه إلى الله تعالى. فافهم معنى قول الإمام أحمد رحمه الله: (بلا حد ولاغاية) كما اتفق على ذلك سلف الأمة، ونقل ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، وأيضاً نقله قبله أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله، ونقل عن ابن المبارك والإمام أحمد وعن جماعة من أهل العلم. قال رحمه الله: ( {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} الشورى:11] ) ، ونقول كما قال) ، أي: كما قال الله تعالى وكما قال رسوله. (ونصفه بما وصف به نفسه لا نتعدى ذلك) أي: لا نتجاوز الكتاب والسنة، (ولا يبلغه وصف الواصفين) أي: لا يدرك حقيقة صفاته وما له من بديع الصفات وصف الواصفين، بل هو العليم الخبير لا يحيط الخلق به سبحانه وبحمده. قال رحمه الله: (نؤمن بالقرآن كله: محكمه ومتشابهه) المؤلف رحمه الله قسم القرآن إلى قسمين: المحكم والمتشابه، فالمحكم: هو الذي لا يحتمل إلا معنىً واحداً، والمتشابه مثل: (عبد الرحمن) فإنه يحتمل أكثر من معنى.

قبول ما جاء عن الله ورسوله في الصفات وعدم رده

قبول ما جاء عن الله ورسوله في الصفات وعدم رده قال رحمه الله: (ولا نرد شيئاً منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، أي: فالواجب فيما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان لا الرد، فكل من رد ماجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد زاغ عن الصراط المستقيم، ووقع في مهلكة؛ لأن من رد قول الله عز وجل يوشك أن تدركه الفتنة، كما قال الله جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة} [الأنفال:25] ، ومن أعظم الفتنة رد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: (ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه) وهذا لا إشكال فيه، فكل من وصف الله بأكثر مما وصف به نفسه زاغ عن الصراط المستقيم؛ لأنه لا سبيل إلى معرفة صفات الله إلا من طريق خبر الله عن نفسه، أو خبر رسوله صلى الله عليه وسلم عنه، فلا نزيد في الصفات أكثر مما جاءت به النصوص، بل يجب التوقف والتزام ماجاءت به النصوص.

المراد من كلام أحمد (لا كيف ولا معنى)

المراد من كلام أحمد (لا كيف ولا معنى) الإمام أحمد رحمه الله قال في الأحاديث التي جاء فيها الخبر عن صفات الله عز وجل؛ كحديث النزول: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا) وحديث: (أن الله يرى يوم القيامة) ، قال رحمه الله: نؤمن بها ونصدق بها، لا كيف ولا معنى. وقد فرح كثيرُ من المبتدعة بهذا المنقول عن الإمام أحمد رحمه الله، وهو مما نقله حنبل عن الإمام أحمد رحمه الله. فـ (لا كيف) ، لا إشكال فيها، أي: أننا نثبت ما أخبر الله به من هذه الصفات دون النظر في كيفية ذلك، فإن الكيفيات لا سبيل إلى إدراكها ولا إلى علمها، بل هي مما اختص الله بها نفسه، فلا سبيل إلى علم كيفية نزول الله عز وجل، ولا سبيل إلى معرفة كيفية سائر ما أخبر الله به من الصفات عن نفسه، بل الواجب الإيمان بتلك الصفات دون التعرض للكيفيات؛ لأن كيفية الشيء فرع عن معرفة الشيء نفسه، فإذا كنت لا تعرف الشيء ولا تحيط به فأنت جاهل بكيفيته؛ لأن الكلام في الكيفية فرع عن الكلام في الذات وفي الشيء نفسه. فإذا قال لك قائل: كيف سمع الله؟ فقل له: كيف الله؟ فسيقول لك: لا أعرف، وهو الذي لا يمكن أن يتكلم الإنسان بغيره. فحينئذٍ تقول: كذلك صفاته لا تعرف، ولا يمكن أن يدركها الإنسان؛ لقصر عقله وضعفه عن إدراك ذلك، فإن الله لم يطلب منا الإيمان بكيفيات الصفات، إنما طلب منا الإيمان بالصفات نفسها لا بكيفياتها، بل كيفياتها تدخل في قول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] أي: حقيقة ما أخبر الله به عن نفسه لا يعلم إلا من طريق الله عز وجل، والله لم يعلمنا ذلك؛ فلا سبيل إلى علم هذا. ثم قوله: (ولا معنى) أي: لا تأويل، وليس المراد نفي المعنى مطلقاً؛ فإنه مما ينبغي أن يعرف وأن يعلم أنه ليس مراد الإمام أحمد رحمه الله بقوله: (لا معنى) ، أننا لا نعرف معنى ما أخبر الله به عن نفسه من الصفات، بل إن كلام الإمام أحمد رحمه الله صريح صراحةً واضحة بأن آيات الصفات لها معان، وقد صرح بذلك في مواضع عديدة، وقد بين رحمه الله أنه إنما ينكر تأويلات الجهمية، وليس الإنكار للمعاني، فإنها ثابتة. المفوضة هم الذين قالوا: إن الله تكلم بكلام لا نعلم ولا ندرك معناه، أو أنه ليس له معنى؛ فرحوا بقول الإمام أحمد وما نقل عنه من قوله: (ولا معنى) ؛ فظنوا أن المعنى المنفي هنا هو أصل المعنى والتفسير لآيات الصفات وأحاديثها، وخفي عليهم أن ما نقل عن الإمام أحمد في هذا الكلام يرد عليهم، كما سيأتي بعد قليل، كما أن المنقول عن الإمام أحمد رحمه الله يدل دلالة واضحة على أن مراده: (لا معنى) ، أي: لا تأويل وتحريف للكلم عن مواضعه مما يسلكه الجهمية ومؤولة الصفات. فمعنى قوله: (لا كيف ولا معنى) ، أي: لا نكيفها ولا نحرفها بالتأويل؛ فنقول: معناها كذا وكذا دون أن يكون عندنا من الله في ذلك برهان.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) قال رحمه الله: (وقد أمرنا بالاقتفاء لآثارهم -أي: آثار السلف- والاهتداء بمنارهم، وحذرنا المحدثات، وأخبرنا أنها من الضلالات) ، أين ذلك الخبر؟ قال رحمه الله: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) أي: الزموا سنتي، وسنته هي: طريقته صلى الله عليه وسلم، وهديه. (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) ؛ أول وأحق من يصدق عليه وصف الخلفاء هم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين. ويدخل فيهم كل من تحقق بالرشد والهداية من علماء الأمة؛ لأن علماء الأمة خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العلماء ورثة الأنبياء) ، فالعلماء هم خلفاء الرسل في أممهم. قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) ، وإنما يكون راشداً مهدياً من سلم من الغي والضلال. فالراشد: هو السالم من الغي، والمهدي: هو من سلم من الضلال، فمن سلم من هاتين الآفتين كمل علمه وصح عمله، فكمال العلم والعمل في الرشد والهداية؛ لأن المانع من الحق أحد أمرين: الأمر الأول: عدم العلم، الأمر الثاني: اتباع الهوى. فمن كان مهدياً فقد حصل العلم، ومن كان راشداً فقد سلم من اتباع الهوى، وإذا تحقق للإنسان الرشد والهدى فقد فاز بإصابة الحق وصلاح العمل، ولذلك فذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لهذين الوصفين ليس عبثاً ولا لغواً، وليست أوصافاً مترادفة، وإنما هي أوصاف مقصودة؛ لتكشف من هم الذين ينبغي للإنسان أن يسلك سبيلهم، وأن يتمسك بهديهم. وهذا الحديث يفيدنا أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تسع الإنسان في السلامة من كل ضلال، فكل من لم يسعه هدي النبي ولا هدي الخلفاء الراشدين فإنه ضالٌ لا محالة، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يقتصر عند موارد الاشتباه على ما دل عليه الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، وما كان عليه الخلفاء الراشدون المهديون. قال صلى الله عليه وسلم في بيان عظيم وجوب التمسك بهذا: (عضوا عليها بالنواجذ -أي: الأضراس- وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة) ، فكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة يحصل بها الزيغ عن الصراط المستقيم، والخروج عن هدي خير المرسلين صلى الله عليه وسلم.

وجوب الوقوف على ما كان عليه سلف الأمة

وجوب الوقوف على ما كان عليه سلف الأمة ثم قال رحمه الله: [وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) ] . (اتبعوا) أي: اتبعوا سنة من قبلكم من الأئمه المهديين، (ولا تبتدعوا) أي: لا تحدثوا (فقد كفيتم) أي: قد كفاكم الله أن تحدثوا شيئاً في الدين، أو أن تقولوا فيه ما لم يقل، أو ما لم يأت به الخبر عن نبيكم؛ فإن الله قد أتم الدين وأكمله، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فكل من لم يقتصر على ذلك فإنه يزعم أن الدين لم يكتمل، وأنه بحاجة إلى مزيد. قال رحمه: [وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كلاماً معناه: قف حيث وقف القوم؛ فإنهم عن علم وقفوا، وببصرٍ نافذٍ كفوا، وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم؛ فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسر، وما دونهم مقصر، لقد قصر عنهم قوم فجفو، وتجاوزهم آخرون فغلو، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدىً مستقيم. وقال الإمام أبو عمر الأوزاعي رضي الله عنه: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول. وقال محمد بن عبد الرحمن الأدرمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها: هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها قال: فشيءلم يعلمه هؤلاء علمته أنت؟ قال الرجل: فإني أقول: قد علموها، قال: أفوسعهم ألايتكلموا به ولا يدعوا الناس إليه أم لم يسعهم؟ قال: بلى وسعهم، قال: فشيء وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه، لايسعك أنت؟ فانقطع الرجل، فقال الخليفة وكان حاضراً: لا وسَّع الله على من لم يسعه ما وسعهم] . هذه النقول عن الأئمة رحمهم الله فيها تقرير ما تقدم من وجوب الوقوف في النصوص على ما كان عليه سلف الأمة رحمهم الله. يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله كلاماً معناه: (قف حيث وقف القوم) القوم المراد بهم: سلف الأمة، وما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فإنهم عن علم وقفوا) : هذا فيه الرد على الذين يقولون: إن طريق السلف أسلم وطريق الخلف أعلم وأحكم. بل طريق السلف أعلم وأحكم وأسلم، وأما طريق الخلف فليس فيه علم ولا سلامة ولا حكمة، بل هو مخالف لما كان عليه سبيل الأقدمين من السلف الصالحين. فقوله: رحمه الله: (فإنهم عن علم وقفوا) أي: لم يقفوا عجزاً، ولا كما يزعمون اشتغالاً بالجهاد ونشر الدين، إنما وقفوا عن علم، فوقوفهم وقوف بصيرة، وليس وقوف عجزٍ أو انشغال. (وببصر نافدٍٍ كفوا) أي: ببصرٍ بعيد النظر كفوا عن التعرض للصفات بطلب كيفياتها وتحريفها عما دلت عليه النصوص، (وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى) أي: كان لهم من القدرة والمكانة والقوة ما يتمكنون به كشف معاني تلك النصوص، وبيان كيفياتها، لو كان ذلك خير، ولو كان ذلك فضل، لكنهم أعرضوا عن ذلك؛ لأنهم يعلمون أنه لا سبيل إلى علم ذلك. فهم أهل اللسان وهم شهدوا التنزيل وهم الذين تلقوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما أعرضوا دل ذلك على أن إعراضهم هو الصواب والصحيح، (فلئن قلتم: حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه مايشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فالواجب الاقتصار على ما كانوا عليه، فما فوقهم محسر، وما دونهم مقصر، لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدىً مستقيم) فالواجب لزوم طريقهم. كذا ما نقله رحمه الله عن الأوزاعي، وكذا ما نقله عن الأدرمي في المناظرة، فالواجب على المؤمن أن يقف حيث وقف أولئك، وقد أحسن الخليفة لما قال: لا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ) . يقول: [وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، والأئمة من بعدهم، والراسخين في العلم، من تلاوة آيات الصفات، وقراءة أخبارها، وإمرارها كما جاءت، فلا وسع الله عليه] . ونقف على هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. وبهذا يكون المؤلف انتهى من المقدمة، ويبدأ بعد هذا بذكر شيء من الصفات؛ نسأل الله سبحانه وتعالى العلم النافع والعمل الصالح.

شرح لمعة الاعتقاد [3]

شرح لمعة الاعتقاد [3] لا أحد أعلم بالله من الله، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فما وصف الله عز وجل به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وجب قبوله والإيمان به من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تعطيل ولا تأويل، وما نفاه الله عز وجل عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه يجب نفيه. وذكر المؤلف هنا مجموعة من الصفات الذاتية والخبرية والفعلية لله عز وجل على منهج السلف الصالح.

بعض صفات الله عز وجل التي جاءت في القرآن

بعض صفات الله عز وجل التي جاءت في القرآن بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [فمما جاء من آيات الصفات قول الله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] ، وقوله سبحانه وتعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، وقوله تعالى إخباراً عن عيسى عليه السلام أنه قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] ، وقوله سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] ، وقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ} [البقرة:210] ، وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] ، وقوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، وقوله تعالى في الكفار: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح:6] ، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [محمد:28] ، وقوله تعالى: {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة:46]] .

سبب ذكر المؤلف بعض أنواع الصفات دون غيرها

سبب ذكر المؤلف بعض أنواع الصفات دون غيرها في هذا المقطع ذكر المؤلف رحمه الله عدداً من الآيات التي ذكر الله تعالى فيها شيئاً من صفاته. يقول المؤلف رحمه الله تعالى بعد أن فرغ من المقدمة التي بين فيها سبيل أهل السنة والجماعة في صفات الله عز وجل، وفي آيات الصفات وأحاديثها؛ قال رحمه الله تعالى: (فمما جاء من آيات الصفات قول الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] ) إلى آخر ما ذكر. إن الملاحظ فيما ذكره من آيات الصفات وفيما ذكره من أحاديثها أنه أتى بالآيات المتضمنة للصفات التي وقع فيها مخالفة لأهل السنة والجماعة ولطريق السلف الصالح، فإنه لم يذكر الصفات التي يثبتها مثبتة الصفات.

مذاهب الناس في آيات الصفات

مذاهب الناس في آيات الصفات والناس من حيث إثبات الصفات ينقسمون في الجملة إلى قسمين: قسم ينفي الصفات، وهؤلاء هم المعطلة، وقسم يثبت الصفات بالجملة، وهؤلاء أقسام: منهم -وهم أفضل الأمة وخيرها وأوسطها وأتبعها لطريق النبي صلى الله عليه وسلم- الذين يثبتون ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. القسم الثاني: هم الذين يثبتون بعض الصفات، وينفون بعضها، وهؤلاء يطلق عليهم مثبتة الصفات؛ لأنهم يثبتونها بالجملة وإن كانوا يخالفون أهل السنة والجماعة في إثبات كثير من الصفات، حيث لا يثبتونها، ويخالفونهم أيضاً فيما يثبتون حيث إنهم لا يثبتونها على الوجه الذي أثبته الصحابة رضي الله عنهم وسلف الأمة الصالح، ومن هؤلاء الأشاعرة، الماتريدية، والكلابية. وهناك طائفة غلت في إثبات الصفات وهم الممثلة الذين يثبتون الصفات ويقولون: هي مثل صفات المخلوقين، فهؤلاء مثبتة الصفات، لكنهم غلوا في الإثبات. والمؤلف رحمه الله ذكر آيات وأحاديث الصفات التي خالف فيها مثبتة الصفات، يعني: التي خالف فيها الأشاعرة والماتريدية والكلابية وأشباههم، فبحثه ليس مع الذين نفوا الصفات بالكلية؛ لأن البحث مع أولئك ينحو منحى آخر، يحتاج إلى أن يناقشوا في أصل النفي، أما هؤلاء فمعهم شيء من الحق وهو فيما أثبتوه من الصفات، ولكنهم أخطئوا فيما أولوه من الصفات، فنحتاج إلى أن نقول لهم: إنه يلزمكم فيما أثبتم من الصفات نظير ما نفيتم، ونظير ما فررتم منه فيما نفيتم، فإما أن تثبتوا الجميع وإما أن تنفوا الجميع. ومقصودي من هذا الكلام: أن نعرف لماذا ذكر المؤلف رحمه الله هذه الآيات وهذه الأحاديث المتضمنة للصفات الخبرية والصفات الفعلية، ولم يذكر شيئاً من الصفات المعنوية الذاتية: كصفة السمع، والبصر، والعلم، والقدرة، والحياة، والكلام؛ وذلك لأن المؤلف رحمه الله أراد إثبات ما نفاه وتأخر عن إثباته مثبتة الصفات، كالأشاعرة والكلابية والماتريدية.

صفة الوجه

صفة الوجه فأولاً: مما ذكر من الصفات: صفة الوجه، وصفة الوجه صفة ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، دليل ذلك ما ذكره المؤلف رحمه الله في قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] حيث أثبت الله عز وجل لنفسه وجهاً، وأضافه إليه، والأصل فيما أضيف إلى الله عز وجل وكان لا يقوم بنفسه أن يكون صفة له عز وجل؛ لأن المضاف إلى الله عز وجل نوعان: إما إضافة أعيان تقوم بنفسها وتستقل، وإما إضافة ما لا يقوم بنفسه ولا يستقل. مثال الأول: إضافة الناقة إلى الله عز وجل كما في قوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13] ، فالناقة عين مستقلة قائمة بذاتها، وإضافتها إلى الله عز وجل هي إضافة تشريف وتكريم. ومثله أيضاً قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1] (بعبده) هذه الإضافة إضافة تشريف، ومثله أيضاً قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [البقرة:114] فالإضافة هنا إضافة تشريف، والملاحظ في جميع هذه الإضافات أنها إضافة أعيان مستقلة قائمة، أما إذا كان المضاف لا يستقل ولا يقوم بنفسه، فإنها تكون إضافة صفات، ومنه قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، فالوجه لا يقوم بنفسه مستقلاً، بل لابد أن يكون قائماً بعين، وكذلك اليد، وكذلك سائر الأمور المعنوية التي أضافها الله عز وجل لنفسه. والوجه يسميه العلماء صفة خبرية، وفي تصنيف الصفات يصنفونه من جملة الصفات الخبرية.

أقسام الصفات

أقسام الصفات والعلماء يجعلون الصفات أقساماً، وهذا التقسيم ليس من كلام السلف، أي أنك إذا طلبت في كلام الصحابة والتابعين (صفة خبرية، وصفة ذاتية، صفة فعلية) فلن تجد، لكنه اصطلاح حادث دعت الحاجة إليه؛ فلهذا قبله أهل العلم واستعملوه. فالصفات الخبرية: هي التي لا يستقل العقل بإثباتها، أي: هي الصفات التي لا يمكن أن يتوصل إليها إثباتاً من طريق العقل، بل لابد من السمع، ولابد من نقل، ولابد من نص، ولابد من وحي في إثباتها، فلو أن أحداً قال لك: أثبت لله وجهاً، ما تمكنت من ذلك بالعقل، لأن العقل لا يستقل في معرفة الغيبيات؛ ولذلك سمى العلماء هذا النوع من الصفات: (الصفات السمعية) ، أو (الصفات الخبرية) ، ومعنى السمعية: أنها جاءت بالسمع -الكتاب والسنة- ومعنى (الخبرية) أنها جاء بها الخبر في كلام الله أو في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم. النوع الثاني من أنواع الصفات: الصفات الذاتية، وهي الصفات التي يتصف الله عز وجل بها أزلاً وأبداً: أزلاً: في القدم، وأبداً: في المستقبل، فهو لا ينفك عنها سبحانه وتعالى، مثاله: صفة الحياة، فإنه جل وعلا متصف بها أزلاً وأبداً، والدليل قول الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3] ، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، فهذه الصفة من صفاته الذاتية. مثاله أيضاً: القومية، والسمع، والبصر، والكلام، والقدرة، والعلم كل هذه من الصفات تسمى الصفات الذاتية. القسم الثالث: الصفات الفعلية، وهي التي تتعلق بمشيئة الله عز وجل، أي: الصفات التي يتصف بها متى شاء، كرضاه، وغضبه، ونزوله جل وعلا إلى السماء الدنيا، واستوائه على العرش وما أشبهها من الصفات، فهذه الصفات تسمى صفات فعلية، وإنما تسمى صفات فعلية؛ لأنها متعلقة بالمشيئة، ويسميها بعض العلماء: الصفات الاختيارية؛ لأنها متعلقة بالاختيار والمشيئة. والذي بحثه المؤلف رحمه الله من هذه الأنواع، أو ذكر له أمثلة من الآيات التي ذكرها، هو الصفات الفعلية والصفات الخبرية؛ لأنها هي التي وقع فيها الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين غيرهم.

ذكر بعض الصفات الخبرية لله جل وعلا

ذكر بعض الصفات الخبرية لله جل وعلا

خلاف العلماء في صفة النفس

خلاف العلماء في صفة النفس واعلم أن العلماء من أهل السنة والجماعة رحمهم الله اختلفوا في النفس على قولين: فمنهم من قال: إن النفس غير الذات، وهي صفة زائدة على الذات كالسمع والبصر، ومنهم من قال: إن النفس هي الذات، وهذا الثاني هو الذي عليه جمهور أهل العلم من أهل السنة، فالذي أضيف إلى الله في قوله سبحانه: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] أي: تعلم الذي عندي ولا أعلم الذي عندك، فالنفس هنا هي ذاته جل وعلا.

صفة النفس

صفة النفس ثم قال رحمه الله: (وقوله تعالى إخباراً عن عيسى عليه السلام أنه قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] ) ؛ هذا فيه إثبات أن الله جل وعلا له نفس، وأنه أضاف إليه النفس؛ لأنها صفة من صفاته، فالنفس صفة من صفاته سبحانه وبحمده؛ وذلك لقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة:116] ، ولماذا قلنا إنها صفة من صفاته ولم نقل إن الإضافة هنا إضافة تشريف، ونحن قد ذكرنا أن الإضافة نوعان: إما إضافة تشريف وخلق، وإضافة صفة؟ A الإضافة هنا من إضافة الصفات، ودليل ذلك أن النفس لا تقوم إلا بعين، فلما أضافها إلى نفسه جل وعلا دل ذلك على أنها صفته.

موقف أهل الكلام من صفة اليد

موقف أهل الكلام من صفة اليد وأهل الكلام قالوا: إن قول الله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] أي: نعمتاه، فأولوا اليد وحرفوها وقالوا: هي القدرة، والقوة، والنعمة. ونقول: هذا من تحريف الكلم عن مواضعه، (بل يداه مبسوطتان) لا يمكن أن يفهم منها غير اليد التي هي صفة الله عز وجل، وأما النعمة والقدرة، فهذه من لوازم الصفة، لكن لا يمكن أن نفسر الكلام بلوازمه ونترك ما دل عليه في الأصل، أعني أنه لا يجوز أن نترك المعنى الأصلي ونذهب إلى اللوازم، بل نثبت المعنى الأصلي ونثبت ما يلزم على هذا اللفظ من اللوازم الصحيحة، ولا يمكن أن يلزم على كلام الله عز وجل أو على كلام رسوله صلى الله عليه وسلم معنى باطل بوجه من الوجوه. إذاً: ثاني ما ذكره المؤلف من الصفات هي صفة اليدين لله عز وجل، واستدل عليها بقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] .

صفة اليدين

صفة اليدين ثم ذكر رحمه الله قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، وهذا فيه إثبات اليدين لله عز وجل. واليدان صفة للرب جل وعلا دل عليها الكتاب والسنة وأجمع عليها سلف الأمة، وهما يدان اثنتان كما دل عليه قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، وقد جاء ذكر هذه الصفة في القرآن بعدة صيغ، وعلى عدة أوجه، فجاءت مفردة، وجاءت مثناة، وجاءت مجموعة، جاءت مفردة في قوله تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] وجاءت مثناة في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، وجاءت مجموعة في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] . أما الآية التي في سورة الذاريات وهي: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] فالأيد هنا ليست جمع يد، وإنما الأيد هنا القوة من (أيد) إذا قوي. ثم قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} [يس:71] فيه جمع اليد، فهل يوجد تعارض بين الإفراد والجمع والتثنية؟ A لا تعارض، والدليل على أنه لا تعارض قول الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ، فلا يمكن أن يكون في كلام الله عز وجل تعارض أو تضارب، والتعارض والتضارب الذي يرد في النصوص إنما هو من قبل الناظر لا من قبل النص، فالنص ليس فيه تعارض، بل هو محكم كما قال الله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] ، وكما قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] (حكيم) أي: محكِم، فقد أحكم الله جل وعلا هذا الكتاب، وهو محمود عليه سبحانه وتعالى لأنه أحكمه وأتقنه، ولذلك قال: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] إذاً: لا تعارض بين الإفراد والتثنية، وبين الإفراد والجمع، فهل نقول: لله يد أم يدان أم أيد؟ الجواب: إن لله يدين لا أكثر؛ لأن الله جل وعلا ذكر صفة اليد مثناة، والتثنية هي من أسماء الأعداد، وأسماء الأعداد لا يراد بها إلا العدد المذكور، فإذا قال قائل: جاء خمسة، لم يمكن أن نقول: جاء ستة في اللسان العربي، وإذا قال قائل: أعطيته عشرة، لم يمكن أن يقال: لا هو يريد تسعة، أو يريد أحد عشر؛ لأن أسماء الأعداد نصوص لا تقبل الزيادة ولا النقص. وهل يتعارض التثنية والجمع؟ الجواب: لا تعارض؛ لأن الإفراد جاء ويراد به الجنس، هذا احتمال، الاحتمال الثاني: أن يراد به مطلق اليد ثم جاءت النصوص مبينة لليد، كما قال الله تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] (يد الله) مفردة أضافها إلى نفسه، ومعلوم من قواعد اللغة أن المفرد المضاف يفيد العموم، فيصدق عليه اليد واليدان والثلاث والعشر، إذاً: الإفراد لا يعارض التثنية ولا يعارض الجمع، ولماذا لا يعارض التثنية ولا الجمع؟ الجواب: لأن الإفراد يراد به الجنس، أي: إثبات جنس اليد لله سبحانه وتعالى دون تعرض للعدد، ويراد به أيضاً العموم حيث إنه مفرد مضاف، والمفرد المضاف يصدق عليه الواحد وما هو أكثر من الواحد، فتبين أن: الإفراد لا يعارض التثنية، ولا يعارض الجمع. وهل الجمع يعارض الإفراد والتثنية؟ الجواب: لا يعارضهما؛ لأن الجمع يأتي للتعظيم، كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] مع أن المنزل هو الله جل وعلا، فالقرآن نزل من عنده جل وعلا، قال سبحانه: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، وقال: {كِتَاب أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] فهو الذي فصل وهو الذي أحكم جل وعلا، ومع ذلك أخبر عن المنزل بصيغة الجمع، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فالإتيان بصيغة الجمع فائدته التعظيم. إذاً: تلخص لنا من هذا أن ما جاء في القرآن في صفة اليد مثنىً لا يعارض الإفراد ولا الجمع، ولا الإفراد يعارض الجمع والتثنية، وكذلك الجمع لا يعارض الإفراد ولا التثنية.

موقف أهل التأويل والتعطيل من صفة الوجه

موقف أهل التأويل والتعطيل من صفة الوجه والوجه صفة خبرية ثبتت بالخبر، وأثبتها أهل السنة والجماعة، أما أهل التعطيل وأهل التأويل فإنهم نفوا هذه الصفة، وقالوا: لا نثبت لله وجهاً، وأن المراد بالوجه هنا هو الأجر والثواب، وقالوا في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] أي: يبقى ما قصد به الله، وهذا صرف للفظ عن ظاهره بغير مرجح أو من دون مرجح، فهو من التحريف الباطل الذي يسميه أهله تأويلاً. إذاً: الصفة التي ذكرها المؤلف رحمه الله في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، هي صفة الوجه، وهذه الآية من أقوى الآيات التي يثبت بها أهل السنة والجماعة صفة الوجه لله عز وجل؛ وذلك لأن الله عز وجل وصف وجهه بصفتين: ذو الجلال، وذو الإكرام، ومثل هذا لا يسوغ أن يوصف به الأجر والثواب، لأن الأجر لا يوصف بأنه ذو جلال وذو إكرام، إنما الذي يوصف بهذا الوصف هو الله جل وعلا؛ ولذلك ذكر المؤلف هذه الآية لكونها من أصرح الآيات في إثبات صفة الوجه لله عز وجل.

ذكر بعض الصفات الفعلية لله عز وجل

ذكر بعض الصفات الفعلية لله عز وجل

صفة الغضب

صفة الغضب قال: (وقوله تعالى في الكفار: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح:6] ) ؛ هذا فيه إثبات صفة الغضب لله عز وجل، وهي صفة فعلية أيضاً.

صفة السخط

صفة السخط قال: (وقوله تعالى: {اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَه} [محمد:28] ) الشاهد إثبات صفة السخط له سبحانه وتعالى، والسخط والغضب معناهما متقارب، وهما صفتان ثابتتان لله عز وجل بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.

صفة الكراهة

صفة الكراهة قال: (وقوله: {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة:46] ) ؛ فيه إثبات صفة الكره لله جل وعلا، وهذه الصفات الفعلية لا يلزم عليها أي لازم باطل، بل هي صفات كمال؛ لأن من كمال الله أن يغضب إذا جاء موجب الغضب، وأن يسخط إذا جاء سبب السخط، ويكره إذا جاء موجب وسبب الكره.

صفة المحبة

صفة المحبة قال: (وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ) ، فيه إثبات صفة المحبة لله عز وجل، والمحبة صفة فعلية اختيارية؛ لأنه يحب من يشاء متى شاء، فهي صفة معلقة بمشيئة الله، فهو يحب من يحب، ويبغض من يبغض جل وعلا.

صفة الرضا

صفة الرضا قال: (وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] ) هذا فيه إثبات صفة الرضا لله عز وجل، والرضا معناه: القبول والمحبة للفعل، وأهل الكلام يؤولون الرضا بالثواب، ويقولون: قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] معناه: أثابهم، فرضاه ثوابه، أو إرادة ثوابه.

صفة المجيء وموقف المخالفين لأهل السنة من هذه الصفة

صفة المجيء وموقف المخالفين لأهل السنة من هذه الصفة قال: وقوله سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر:22] انتقل المؤلف إلى ذكر الصفات الفعلية الاختيارية لله عز وجل. واعلم أن الصفات الاختيارية لله عز وجل ينكرها غير أهل السنة والجماعة ويؤولونها بمجيء الأمر أو بمجيء الرحمة، يئولونها بشيء من مخلوقات الله عز وجل، ولا يقولون: إنها من صفاته، يقولون: لأن إثبات الصفات الفعلية يلزم منه أن تقوم به عز وجل الحوادث، وقيام الحوادث للأعيان يدل على أنها حادثة، هكذا زعموا في إبطال ما دلت عليه النصوص من إثبات صفات الفعل. والصحيح: أننا نثبت هذه الصفة لله عز وجل ولا نقول ما يقول هؤلاء من أن الله حادث، بل هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، وكل من أبطل شيئاً من هذا فقد أبطل ما دلت عليه النصوص من أن الله فعال لما يريد، كما قال جل وعلا في إثبات صفة الفعل: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:15-16] فذكر صفة الفعل بصيغة المبالغة للدلالة على كثرة فعله سبحانه وبحمده. فصفات الفعل يثبتها أهل السنة والجماعة لأن الله أثبتها لنفسه في كتابه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا أجمع سلف الأمة، فلم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين ولا من أئمة المسلمين: إن قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] أي: جاء أمره، ولم يقل أحد منهم في قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] : إن الذي يأتي الأمر، أو إن الذي يأتي الملائكة، وإن الله جل وعلا لا يأتي، فإن هذا تشكيك في القرآن، بل الواجب إثبات صفات الفعل لله جل وعلا، كما أثبتها لنفسه في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] ، وكما قال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] أي: ويأتي الملائكة، كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] فالمجيء والإتيان فعل له سبحانه وبحمده يفعله متى شاء وكيف شاء.

بعض صفات الله الفعلية التي جاءت في السنة

بعض صفات الله الفعلية التي جاءت في السنة قال المؤلف رحمه الله: [ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا) وقوله: (يعجب ربنا من الشاب ليست له صبوة) وقوله: (يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة) ، فهذا وما أشبهه مما صح سنده وعدِّلت رواته نؤمن به، ولا نرده، ولا نجحده، ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره، ولا نشبهه بصفات المخلوقين، ولا بسمات المحدثين، ونعلم أن الله سبحانه وتعالى لا شبيبه له ولا نظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، وكل ما يخيل في الذهن أو خطر بالبال فإن الله تعالى بخلافه]

صفة العجب

صفة العجب ثم ذكر من أحاديث الصفات ما رواه الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة) ، وفيه إثبات صفة العَجَب لله جل وعلا، والعجب له سببان: الأول: أن يكون العجب ناشئاً عن جهل، وهذا حاشا أن يكون من وصف الله عز وجل، فهو العليم الخبير جل وعلا، أحاط بكل شيء علماً، وهو بكل شيء عليم. الثاني من أسباب العجب: التعظيم لخروج الشيء عن نظائره مع عدم سبق جهل، وهذا هو الذي يوصف به الله جل وعلا، فمعنى يعجب أي: يعظم هذه الحال لخروجها عن نظائرها. وقد جاء إثبات العجب لله عز وجل في الكتاب في قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12] وقرئ: (بل عجبتُ) وهي قراءة سبعية، والقراءة التي فيها إضافة العجب إلى نفسه هي التي يستدل بها أهل السنة والجماعة على صفة العجب لله عز وجل من القرآن، فقوله صلى الله عليه وسلم: (يعجب ربك) هل هذا عجب ناشئ عن جهل وعدم علم؟ A لا، تعالى الله عن ذلك، إنما هو عجب ناشىء عن تعظيم ومحبة لهذه الحال، وقوله: والشاب: هو الناشئ، وهو من بلغ الحلم، واختلفوا في منتهاه فقيل: إلى الثلاثين، وقيل: إلى الأربعين، والمقصود: ثورة الشباب ووقت خفة العقل وسفه الحلم. وقوله: (ليست له صبوة) ، أي: ليس له ميل إلى الهوى، والصبوة: الميل إلى الهوى، والغالب في الشاب أن يكون ذا صبوة، أي: ذا ميل إلى الهوى، لكن الإنسان إذا أحصن نفسه وعودها على الخير، ورباها على البر، وحبسها عن مشتهياتها في مثل هذا الزمن، كان هذا من دلائل كمال دينه، ورجاحة عقله؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا عن وازع عظيم يمنعه من الميل إلى الهوى. ثم حديث: (يعجب ربك) هو من حديث عقبة، وفي سنده عبد الله بن لهيعة، رواه عنه قتيبة بن سعيد، والحديث ضعيف لضعف عبد الله بن لهيعة؛ لأنه اختلط في آخره، ولكن الصفة لا تبطل بهذا الضعف؛ لأنها قد دلت عليها نصوص أخرى.

صفة الضحك والرد على من عطلها

صفة الضحك والرد على من عطلها وقوله: ((يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة)) ؛ هذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه إثبات صفة الضحك لله جل وعلا، والضحك صفة كمال لله جل وعلا. والذين عطلوا الصفات قالوا: كيف يضحك الله! والضحك خفة، والله يتعالى عن هذا. فنقول لهم: هذا جهل منكم؛ لأن الضحك ليس خفة في كل موارده، بل من الضحك ما هو كمال وهو الضحك عند ورود سببه الذي يدعو إليه، ثم إن ضحك الله عز وجل ليس كضحك المخلوقين، وهؤلاء إنما قالوا: الصحك خفة لأنهم مثلوا ضحك الله بضحك المخلوق. ونحن نقول: إن ضحك الله جل وعلا ليس كضحك المخلوق؛ لأنه سبحانه كما قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فليس كمثله شيء في شيء من صفاته سبحانه وبحمده، وقد روى الإمام أحمد وغيره من حديث أبي رزين العقيلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ضحك الله جل وعلا من قنوط عباده وقرب غيره، فقال أعرابي: أو يضحك ربنا يا رسول الله؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. فقال الأعرابي: لا عدمنا الخير من رب يضحك) ، فاستدل بضحك الله على كمال صفاته وقرب خيره، وأن من يضحك فالخير منه قريب، والبر والإحسان منه متوقع، وهؤلاء يقولون: لا نصف الله بالضحك؛ لأن الضحك خفة، بل خفت عقولهم فردوا ما دلت عليه النصوص، ولو أنهم اتبعوا سبيل السلف الصالح لما قالوا مثل هذا القول.

إثبات الصفات مع نفي التمثيل والتكييف

إثبات الصفات مع نفي التمثيل والتكييف ثم قال رحمه الله في بيان القاعدة العامة بعد ذكر الأمثلة: (فإن هذا وما أشبهه مما صح سنده وعدلت رواته، نؤمن به ولا نرده ولا نجحده) ، أي: مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نؤمن به ولا نرده، وهذا هو الواجب على كل مؤمن، وهو أن يؤمن بكل ما دلت عليه النصوص، وألا يرد على النبي صلى الله عليه وسلم قوله، فإن من رد على النبي صلى الله عليه وسلم قوله فقد رد ما يجب قبوله، وعرَّض نفسه للفتنة كما قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] ، وأي فتنة أعظم من رد قول الله أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم، بل نؤمن به ولا نرده، ولا نجحده، ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره. والرد هو التكذيب أو الإعراض، والمقصود به هنا فيما يظهر هو الإعراض. والجحد هو التكذيب مع الإيقان بصدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم. والتأويل هنا هو التحريف. فنفى المؤلف رحمه الله تعالى عن طريق أهل السنة والجماعة التكذيب والإعراض والتحريف. قال: (ولا نشبهه بصفات المخلوقين) أي: لا نقول: ضحكه كضحكنا، ولا نقول: إن عجبه كعجبنا، ولا نقول: مجيئه كمجيئنا، بل هو عز وجل ليس كمثله شيء، فلا نشبهه بصفات المخلوقين ولا بصفات المحدثين، أي: الخلق الذين أحدثوا، بل نعلم أن الله سبحانه لا شبيه له، أي: لا مثيل، فنفي الشبيه هنا معناه نفي المثيل، ويوجد في كلام أهل العلم أنهم ينفون الشبيه ويريدون به المثيل لا مجرد ومطلق المشابهة، فإن المشابهة المطلقة ثابتة كما تقدم. قال: (ولا نظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ) . ثم قال رحمه الله في نفي أن يصور الإنسان صفات الله عز وجل أو أن يكيفها: (وكل ما تخيل في الذهن أو خطر بالبال فإن الله تعالى بخلافه) أي: على خلاف الصورة التي جاءت في خلدك ودارت في بالك وتحرك بها خاطرك، فالله جل وعلا على خلاف ذلك، وقوله: (فإن الله بخلافه) هذه الجملة يمكن أن يراد بها معنى صحيح ويمكن أن يراد بها معنى باطل، لكن مراد المؤلف هنا صحيح، فمراده أن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، وأحسن من هذا في التعبير أن يقال: إن الله تعالى أعظم وأجل من أن يكون كذلك.

صفة النزول

صفة النزول يقول رحمه الله تعالى في ذكر ما جاء في السنة من الصفات: (ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا)) ، وهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه الخبر عن صفة من صفات الله عز وجل، وهي نزوله سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، والنزول من الصفات الفعلية؛ لأنه يقع بمشيئته واختياره سبحانه وبحمده، ونزوله هو نزول حقيقي، ولا تقل: كيف ينزل؟ ولا يشكل عليك ماهية ذلك وحقيقته وكنهه، فإنك لم تكلف بذلك، وإنما كلفت بأن تؤمن بكل ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم عنه. وتأويل النزول بغير ما دل عليه ظاهر النص كمن يقولون: تنزل رحمته، أو ينزل ملك من الملائكة، فإن هذا خطأ كبير وتحريف خطير للنص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: هل من داع فأجيبه، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له) فهل يسوغ أن يقول هذا القول ملك من الملائكة؟ A لا؛ لأنه لا يملك أن يجيب، ولا يملك أن يغفر، ولا يملك أن يعطي السائل سؤاله إلا الله جل وعلا، والرحمة لا يمكن أن تقول هذا أو أن تفعله، فهذا نزول مضاف إلى الله جل وعلا نؤمن به ونتعبد الله به، بأن نتعرض لنفحاته ورحماته في مثل هذه الساعات، وفي مثل هذه الأوقات.

الكلام على صفتي الاستواء والعلو

الكلام على صفتي الاستواء والعلو قال المؤلف رحمه الله: [ومن ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك) وقال للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) رواه مالك بن أنس ومسلم وغيرهما من الأئمة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ حصين: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة؛ ستة في الأرض وواحداً في السماء، قال: من لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، قال: فاترك الستة واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين، فأسلم وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي) ، وفيما نقل من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة: أنهم يسجدون في الأرض ويزعمون أن إلههم في السماء. وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا، وذكر الخبر إلى قوله: وفوق ذلك العرش، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك) ، فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف رحمهم الله على نقله وقبوله، ولم يتعرضوا لرده، ولا تأويله ولا تشبيهه ولا تمثيله. سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فقيل: يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ثم أمر بالرجل فأخرج] .

صفة العلو

صفة العلو أما صفة العلو التي ذكر المؤلف أدلتها فهي ثابتة بالكتاب والسنة وبإجماع سلف الأمة، والعقل دال عليها، والفطرة المركوزة في نفوس الناس وفي خلق الله تدل عليها، ولذلك يقول شيخ الإسلام: صفة العلو أجمع عليها الناس جميعاً، مسلمهم وكافرهم، وفرعون لما دعاه موسى إلى الله جل وعلا قال لهامان: {ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36-37] ، فلم يطلب الله عز وجل في يمين، ولا في شمال، ولا في خلف ولا في أمام، وإنما طلبه في العلو، وهذا دليل على أن الإقرار بالعلو أمر مركوز في الفطر، حتى في فطر البهائم، ولذلك لما كان الجويني من أئمة الأشاعرة يقرر عدم علو الله عز وجل، قاطعة الهمذاني وهو يتكلم على المنبر فقال: دع عنا العرش وذكره وأخبرنا عن شيء في قلوبنا، فما قال داع قط: يا ألله! إلا وجد من قلبه طلب العلو، فجعل الجويني يضرب على رأسه ويقول: حيرني الهمذاني حيرني الهمذاني؛ لأنه مهما حاول المحاولون أن يبطلوا هذا فإن فطرهم تأباه؛ ولذلك فهم عند الضرورة لا يتوجهون لا إلى يمين ولا إلى يسار، بل يذوب هذا التنظير وهذه المناقشة، ويرجعون إلى ما دل عليه الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة من الإقرار بعلو الله جل وعلا، فتجد الذي ينكر علو الرب يشير بإصبعه إلى العلو عند الإشارة إلى الله جل وعلا، وهذا أمر فطر الله القلوب عليه، فلا سبيل إلى إنكاره. والمؤلف ذكر من الأدلة على علو الله عز وجل عدة أدلة، فمن الكتاب قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] واقتصر عليه لأنه علو خاص، وإلا فمن الأدلة قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] وقوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] وغير ذلك، والأدلة على علو الله عز وجل كثيرة. أما الأحاديث فذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الذي في السماء تقدس اسمك) وهذا الحديث رواه أبو داود بسند حسن كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وهو حديث مشهور بأنه حديث رقية المريض؛ لأنه يقرأ على المريض. والشاهد فيه قوله: (ربنا الذي في السماء) و (ربَّنا) بالنصب، لأنه منادى، والتقدير: (يا ربنا) فحذفت ياء النداء. وقال للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء) أي: في العلو؛ لأن السماء اسم جنس لما علا، ويمكن أن يقال: (في السماء) أي: السقف المحفوظ، وتكون (في) هنا بمعنى (على) ، كما قال تعالى حاكياً عن فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] والتصليب لا يكون في بطن الجذوع وإنما يكون عليها، فكانت (في) هنا بمعنى (على) ، وكقوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] ، والناس لا يمشون في داخلها ولكن عليها، فـ (في) تأتي بمعنى على. فقول الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] وقوله صلى الله عليه وسلم: (ربنا الذي في السماء) معناه: الذي في العلو، وإما أن يكون المراد بالسماء السقف المحفوظ فتكون (في) بمعنى: (على) ، فيكون المعنى: الذي على السماء، والله تعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

صفة الاستواء على العرش

صفة الاستواء على العرش هذا المقطع عاد به المؤلف رحمه الله إلى ذكر مثال من الأمثلة على صفات الله عز وجل التي جاءت في الكتاب والسنة وأثبتها سلف الأمة، فذكر صفتين: صفة الاستواء، وصفة العلو، والاستواء والعلو صفتان مقترنتان في كلام أهل العلم، وسبب الاقتران بين الاستواء والعلو هو أن الاستواء من أدلة العلو؛ لأنه علو خاص. يقول رحمه الله: (من ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ) أي: من الصفات التي يثبتها أهل السنة والجماعة لله عز وجل صفة الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وقد ذكر الله جل وعلا هذا في آيات عديدة من كتابه، ولم يأت في آية من هذه الآيات أن الاستواء بمعنى الاستيلاء، أو أن الاستواء بمعنى مخالف لما تكلم به سلف الأمة من أنه العلو والصعود والاستقرار، فإن سلف الأمة تكلموا في معنى الاستواء في هذه الكلمات كما قال ابن القيم: ولهم عبارات عليه أربع قد حصلت للفارس الطعان وهي استقر وقد علا وكذا ارتفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع فهذه أربعة معان ذكرها العلماء في معنى الاستواء، وهي ثابتة عن السلف الصالح، والذين خالفوا منهج أهل السنة والجماعة قالوا: الاستواء معناه الاستيلاء، واستدلوا على ذلك ببيتٍ مهلهلٍ محدثٍ مصنوعٍ: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق وهذا إبطال لما كان عليه سلف الأمة بما لا دليل فيه، وبما يلزم عليه من اللوازم الباطلة مالا يلزم على إثبات الاستواء، فهذه الآية فيها إثبات استواء الله عز وجل على عرشه، وهذا أمر دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه سلف الأمة، ولم ينقل عن أحد من الأمة أن الله لم يستو على عرشه، بل إن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يقول: إن الاستواء مذكور في كل كتاب من كتب الرسل، وجاء به كل رسول. ولعظيم شأن هذه الصفة ذكرها الله في سبعة مواضع في كتابه، فلا يسوغ مع هذا التعدد والتكرار في ذكر هذه الصفة أن (استوى) بمعنى: استولى، فإن هذا من تحريف الكلم عن مواضعه.

شرح لمعة الاعتقاد [4]

شرح لمعة الاعتقاد [4] من أصول أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل مستو على عرشه استواءً يليق به، معلوم المعنى مجهول الكيف، عال على خلقه فوق سماواته غير مختلط بالخلق. وأنه سبحانه يتكلم بكلام حقيقي بصوت وحرف، قديم بقدمه، متجدد بفعله، وأنه تعالى يتكلم متى شاء سبحانه وكيف شاء.

تابع إثبات صفتي العلو والاستواء

تابع إثبات صفتي العلو والاستواء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فكان آخر ما تكلمنا عليه في هذه العقيدة هو قول المؤلف رحمه الله: (ومن ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك)) ، وذكرنا أن هذا المقطع الذي ابتدأه المؤلف رحمه الله بذكر هاتين الآيتين، ثم ذكر بعدها بعض الأحاديث إنما أتى به المؤلف رحمه الله لتقرير عقيدة السلف فيما يتعلق بعلو الله عز وجل، فإن هذه الآيات دالة على علوه واستوائه على عرشه. أما الاستواء فقول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، قد ذكره الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه، وهو دال على استوائه على عرشه، وقلنا: إن الاستواء يفيد إثبات العلو، ولذلك يذكر دائماً مع آيات العلو في كتب الاعتقاد، ووجه ذلك: أن الاستواء علو خاص، وهذا هو الفرق بين آيات العلو وبين آيات الاستواء، فالاستواء علو خاص، وهو علو اختص الله سبحانه وتعالى به العرش دون غيره من المخلوقات، والعرش مخلوق عظيم خلقه الله جل وعلا، واختصه بهذه الخاصية، وهي أنه استوى عليه جل وعلا بعد أن خلقه. والعرش في لغة العرب: سرير الملك، وهو خلق من خلق الله عظيم.

جواب الإمام مالك للسائل عن الاستواء

جواب الإمام مالك للسائل عن الاستواء يقول رحمه الله في آخر ما ذكر في هذا الفصل: [سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فقيل: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟] : هذه القصة مشهورة عن الإمام مالك رحمه الله تناقلها العلماء، فإنه سأله رجل عن قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ وكان الإمام مالك رحمه الله يحذر من هذا السؤال، فسكت رحمه الله سكوتاً طويلاً كما ذكر الذهبي وغيره، حتى علته الرحضاء، أي: حتى علاه العرق من شدة ما اعتراه رحمه الله من غرابة هذا السؤال وعظمه، فوفق رحمه الله إلى جواب مسدد فقال: (الاستواء غير مجهول) ، وفي بعض الروايات: الاستواء معلوم، والمعنى واحد، فغير المجهول هو المعلوم، أي: أن الاستواء لا يجهل في لسان العرب، فيدركه من له فهم بلغة العرب، هذا معنى قوله رحمه الله: الاستواء معلوم أو الاستواء غير مجهول. ثم قال: (والكيف غير معلوم) ، أي: كيفية هذا الخبر لا سبيل إلى علمها، لأن الله جل وعلا لم يبين لنا كيفية استوائه، فليس عندنا خبر من الله جل وعلا كيف استوى، لكن عندنا منه خبر أنه استوى، فالواجب أن نقف حيث وقف النص، فنثبت استواء الله جل وعلا على عرشه دون أن نتطرق إلى ذلك بطلب الكيفية، فإن الكيفية لا سبيل إلى تحصيلها ولا إلى إدراكها، قال الله جل وعلا، {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] وهذا دليل على أن الكيفيات لا سبيل إلى تحصيلها، وأن الكيف مجهول غير معلوم. فقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [آل عمران:7] معناه: أن حقيقته وكنه خبره وما يئول إليه الخبر لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وهذا معنى قول مالك رحمه الله تعالى: (والكيف غير معقول) أي: لا سبيل إلى عقله وإدراكه؛ لأن العلم بالكيفيات فرع عن العلم بالذات، وليس لنا علم بكيفية الذات حتى نعرف ونعلم كيف صفاته سبحانه وتعالى. ثم قال رحمه الله: (والإيمان به واجب) أي: الإقرار المستلزم للإذعان والقبول، والذي يحصل به طمأنينة القلب وسكونه إلى خبر الله وخبر رسوله في هذه الصفة وفي غيرها واجب، فلا يسوغ لأحد أن ينكر الاستواء لكونه لم يعقل كيفيته، بل الواجب على المؤمن أن يقر بالاستواء الذي أخبر الله به عن نفسه، أما الذي يتعلق بالكيفية فأمرها إلى الله؛ لا سبيل إلى إدراكها ولا إلى العلم بها. والإيمان به، أي: بالاستواء الذي أخبر به في كتابه واجب. (والسؤال عنه بدعة) السؤال عن كيفية الاستواء وعن كيفية سائر الصفات بدعة، أي: محدث في الدين، وإذا كان بدعة فإن كل بدعة ضلالة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ، فالواجب الكف عن هذا، ولو كان خيراً لسبقنا إليه سلف الأمة. ثم أمر بالرجل فأخرج من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحدثه، وفيما ذكره الذهبي رحمه الله من هذه القصة، أن الإمام مالك رحمه الله قال لهذا الرجل: (وإني لأظنك ضالاً، أخرجوه) فلما أخرجوه نادى الرجل الإمام مالك رحمه الله قال: يا أبا عبد الله! لقد سألت عن هذا أهل الكوفة والبصرة والعراق، فلم أجد أحداً وفق إلى ما وفقت إليه. كأن هذا الرجل وجد جواب الشبهة التي دارت في صدره وحارت، وطلب جوابها عند علماء البصرة وعلماء الكوفة وعلماء العراق، فلما أجابه الإمام مالك رحمه الله بهذا الجواب شفى ما في قلبه من شبهة، وأزال ما في قلبه من عارض، وهذا الجواب لم يكن جواباً مخترعاً من الإمام مالك رحمه الله، بل إنه قد نقل عن غيره من أئمة السلف، فهو منقول عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رحمه الله، وقد نقل عن بعض الصحابة كـ أم سلمة، فالمراد: أنه منقول عن غير واحد من سلف الأمة، وقد تلقاه علماء الأمة بالقبول، فكثير من أهل العلم يتناقل هذا القول ويحتج به، وهو قول مسدد في جواب هذه الشبهة.

شرح حديث الجارية وما في معناه

شرح حديث الجارية وما في معناه وأما قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] فهذا فيه إثبات صفة العلو لله عز وجل، وقوله تعالى: {فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] السماء يحتمل أحد معنيين: المعنى الأول: السقف المحفوظ، والمعنى الثاني: أنه العلو؛ لأن السماء في لغة العرب: اسم جنس للعالي، فعلى المعنى الأول، وهو أن المقصود بالسماء: السقف المحفوظ، يكون قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: من على السماء، فـ (في) بمعنى: (على) . وعلى المعنى الثاني، وهو أن السماء اسم لجنس ما علا، تكون (في) على بابها، وليست بمعنى (على) ، على أننا نعتقد أن الله جل وعلا محيط بكل شيء، ليس فيه شيء من خلقه، ولا هو في شيء من خلقه جل وعلا، بل هو العالي الذي لا شيء فوقه، فهو سبحانه عال على كل شيء، مستوٍ على عرشه بائن عن خلقه، فليس فيه شيء من خلقه، ولا هو في شيء من خلقه، تعالى الله عما يظن الجاهلون ويقولون علواً كبيراً، وهذا الذي ذكرناه في قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] يجري في كل ما شابه هذه الصيغة. فقوله رحمه الله: (وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك)) (. (في السماء) فيها وجهان: الوجه الأول: أن المراد بالسماء السقف المحفوظ، والوجه الثاني: أن السماء المراد بها جنس ما علا، تقول: نزل علينا المطر من السماء، يعني: من جهة العلو؛ لأن المطر لا ينزل من السقف المحفوظ، وإنما ينزل من السحاب، كقوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] يعني: يمدد بحبل إلى جهة العلو، فالسماء تطلق على جنس ما علا في لغة العرب، وتطلق أيضاً على السقف المحفوظ الذي جعله الله سبحانه وتعالى طباقاً. ففي كل الموارد التي يرد فيها الخبر بأن الله جل وعلا في السماء، إما أن تقول: السقف المحفوظ، فتكون (في) بمعنى (على) وإما أن تقول: جهة العلو، فتكون (في) ظرفية على بابها. قال رحمه الله: (وقال للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة) ، هذا الحديث في صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم في قصة ضرب جاريته، حيث سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، ثم سألها: أين الله؟ قالت: في السماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة) يقول: (رواه مالك بن أنس ومسلم وغيرهما من الأئمة) .

حديث الأوعال

حديث الأوعال قال: [وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا) وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كم بين كل سماء والتي تليها، وذكر الخبر إلى قوله: (وفوق ذلك العرش والله سبحانه فوق ذلك) أي: فوق العرش، ويمكن أن يقول: والله سبحانه فوق ذلك، أي: فوق كل ما تقدم، وقوله: (والله سبحانه فوق ذلك) ، يحتمل أن يرجع إلى العرش، ويحتمل أن يرجع إلى ما عداه من السموات المذكورة. وهذا الحديث أخرجه أبو داود وغيره من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهو مشهور عند أهل العلم بحديث الأوعال؛ لأن فيه ذكر الأوعال التي تحمل العرش، وهو حديث صحيح رواه أهل السنن أبو داود والترمذي وابن ماجة، ورواه ابن خزيمة، وقد طعن فيه بعضهم، لكن طعنهم واهٍ، فالحديث ثابت، ولا تنتفي صفة العلو بتشغيب من شغب بتضعيفه لأن الحديث والآيات مستفيضة في الدلالة على أن الله تعالى فوق كل شيء. يقول رحمه الله: [فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف رحمهم الله على نقله وقبوله] (هذا) أي: ما تضمنته الآيات والأحاديث المتقدمة من إثبات استوائه جل وعلا وعلوه على عرشه، وما أشبهه مما أجمع السلف على نقله وقبوله، [ولم يتعرضوا لرده، ولا تأويله، ولا تشبيهه، ولا تمثيله] بل جروا في هذه الصفة على ما جروا عليه في سائر الصفات، فهم لا يردون، ولا يكذبون، ولا يحرفون، ولا يمثلون. واعلم أنه لا سلامة لأحد في خبر الله أو خبر رسوله صلى الله عليه وسلم عما يتصف به الرب جل وعلا إلا بسلوك هذا السبيل، فهو أن يثبت ما أثبته الله لنفسه، أو يثبت ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فإن هذه الاحترازات الأربع، وهي نفي التحريف ونفي التعطيل، ونفي التمثيل ونفي التكييف، يسلم بها المرء من الضلالات في باب الأسماء والصفات، ولذلك كرر المؤلف رحمه الله قوله: (ولم يتعرضوا لرده ولا تأويله، ولا تشبيهه ولا تمثيله) ، فإن أهل السنة والجماعة يثبتون ذلك على الوجه اللائق بالله عز وجل، وأذكر دائماً أن حظ النصوص عند أهل السنة التسليم والقبول، مع حسن الفهم كما تقدم ذلك فيما ذكرناه من قول ابن القيم في نونيته: فالجحد والإعراض والتأويل والتجهيل حظ النص عند الجاني أما حظه عندنا فهو التسليم مع حسن القبول وفهم ذي إحسان فإن هذين البيتين يختصران لك الضلالات التي وقع فيها من وقع في باب الأسماء والصفات، ويبينان لك طريق السلامة من هذه الضلالات؛ فيحسن حفظ هذين البيتين.

من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة

من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة قال: (وفيما نقل من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة) ، أي: كتب الأنبياء كالتوراة والإنجيل (أنهم يسجدون في الأرض ويزعمون أن إلههم في السماء) . وهذا وصف صادق على الأمة، فإن أهل الإسلام يسجدون في الأرض، ثم إذا سجدوا يقولون: سبحان ربي الأعلى، وبهذا فهم يزعمون أن إلههم في السماء، أي: في العلو؛ وأول ما ينقدح في القلب عند وصف الله أنه الأعلى، علوه جل وعلا بذاته في السماء. وهذا أمر وقع فيه الخلاف بين أهل السنة وغيرهم، فإن أهل البدعة ينكرون هذا النوع من العلو ويقولون: الأعلى قدراً، والأعلى قهراً، ولا يقولون: الأعلى ذاتاً، والعلو الذي يثبته أهل السنة والجماعة لله عز وجل هو العلو بأنواعه كلها، فله جل وعلا علو الذات، فهو فوق كل شيء سبحانه وبحمده. وله علو القدر والشرف، فهو الذي له المثل الأعلى، وله الصفات العلا والأسماء الحسنى، وهو العالي على عباده قهراً كما قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] . والمتكلمون الذين ينكرون علو ذاته جل وعلا يقولون: إن قول الله جل وعلا: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] وقول الساجد: سبحان ربي الأعلى، إنما هو علو القدر والقهر، وهم في هذا باخسو الله جل وعلا علوه الذي اختص به وهو الأصل، فإن الأصل في العلو الثابت له هو علو الذات، وأما علو القدر وعلو القهر فهو من لوازم علوه جل وعلا. فما ذكر في الكتب المتقدمة من أن هذه الأمة موصوفة بأنهم يسجدون في الأرض ويزعمون أن إلههم في السماء وصف مطابق لحال أمة الإسلام.

حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع حصين بن المنذر الخزاعي

حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع حصين بن المنذر الخزاعي ثم قال رحمه الله تعالى: (وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ حصين) وهو حصين بن المنذر الخزاعي والد عمران بن الحصين رضي الله عنه، وكان في مكة أتاه قومه-وكان شيخاً كبيراً- وقالوا له: إن محمداً يسفه أحلامنا، ويذم آلهتنا، فأته لعله يسمع منك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم قال النبي لأصحابه: (أوسعوا للشيخ) -لكبر سنه-فقال له ما قال ينكر على النبي صلى الله عليه وسلم تسفيه آلهتهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا حصين! كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض وواحداً في السماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من لرغبتك ورهبتك؟) يعني: من لما تحب وترغب؟ ومن لما تخاف وترهب؟ ومن الذي تدخره لمطالبك ومطامعك وآمالك فتسأله؟ قال حصين: (الذي في السماء) يعني: الله عز وجل، فـ حصين في هذه الحال كافر؛ لأنه أخبر بأنه يعبد سبعة، ولا يكون هذا من مسلم، ومع ذلك يعتقد أن الله في السماء، وهذا دليل من الأدلة التي تضاف إلى ما ذكره شيخ الإسلام وغيره من أن إثبات العلو لا يختص أهل الإسلام بل يقر به كل إنسان من مسلم أو كافر، قال: (فاترك الستة واعبد الذي في السماء) أي: لا تتوجه إليهم بعبادة ولا رغبة، (واعبد الذي في السماء) ، أي: أخلص عبادتك لله الذي في السماء. (وأنا أعلمك دعوتين -وفي رواية-: كلمتين، فأسلم) ، ظاهر هذا السياق أنه أسلم في الحال، والذي يظهر من الروايات الأخرى أنه أسلم بعد حين، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أوفني ما وعدتني، علمني الكلمتن) ، فعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمتين جامعتين تجمع للإنسان خير الدنيا والآخرة: (اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي) وفي رواية: (وأعذني من شر نفسي) ومن وفق إلى الرشد وإلى الوقاية من شر النفس فقد جمع الله له الخير؛ لأن الوقاية والرشد تحصل بها الهداية، فإن من ألهم رشده، أي: أعطي الهداية ووفق إليها، ووقي شر نفسه، فقد كمل له العلم النافع والعمل الصالح، فهو سأل الله عز وجل ما يعين على الهداية واجتناب ما يمنع منها. لأن الذي يحصل به الضلال وعدم الاستقامة أمران: الجهل، وهذا يتوقاه بقوله: اللهم ألهمني رشدي، واتباع الهوى، وهذا يتوقاه بقوله: وقني شر نفسي، فإن الإنسان قد يكون عالماً بالحق لكن يحول بينه وبين اتباعه والأخذ به نفسه واتباع شهواته، فإذا وقي هذا ووفق إلى ذلك فقد كمل له الخير، وهذا الحديث رواه الترمذي وقال: غريب، وقد حسنه جماعة من العلماء، وهو من رواية الحسن بن أبي الحسن البصري عن عمران رضي الله عنه.

إثبات صفة الكلام لله تعالى بالأدلة

إثبات صفة الكلام لله تعالى بالأدلة قال الإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله تعالى: [فصل: ومن صفات الله تعالى أنه متكلم بكلام قديم يسمعه منه من شاء من خلقه، سمعه موسى عليه السلام منه من غير واسطة، وسمعه جبريل عليه السلام، ومن أذن له من ملائكته ورسله، وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه، ويأذن لهم فيزورنه. قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] وقال سبحانه: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] ، وقال سبحانه: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253] وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51] وقال سبحانه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} [طه:11] * {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه:12] وقال سبحانه: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] ، وغير جائز أن يقول هذا أحد غير الله. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم) وروى عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراة حفاة غرلاً بهماً، فيناديهم بصوت يسمعه من بعُد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان) رواه الأئمة، واستشهد به البخاري. وفي بعض الآثار أن موسى عليه السلام ليلة رأى النار، فهالته، ففزع منها، فناداه ربه: يا موسى! فأجاب سريعاً استئناساً بالصوت، فقال: لبيك لبيك! أسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك، وأمامك، وعن يمينك، وعن شمالك، فعلم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى، قال: كذلك أنت يا إلهي، أفكلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي يا موسى] . هذا الفصل خصه المؤلف رحمه الله بذكر صفة جليلة من صفات الرب جل وعلا وهي صفة الكلام، والله سبحانه موصوف بالكلام أزلاً وأبداً، فالكلام صفة من صفات الذات، وهي صفة من صفات الفعل باعتبار الآحاد والأفراد، أما باعتبار الأصل فالكلام من الصفات الذاتية.

نداء الله ومناجاته لموسى بحرف وصوت

نداء الله ومناجاته لموسى بحرف وصوت يقول رحمه الله: (وقال سبحانه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى} [طه:11] * {إِنِّي أَنَا رَبُّك} [طه:12] ) . (فلما أتاها) أي: أتى الشجرة، (نودي يا موسى) أي: ناداه الله جل وعلا، فالمنادي هو الله جل وعلا، ودليل ذلك ما ذكره المؤلف وهو قوله سبحانه: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] ، ولا يسوغ أن يصدر هذا من غير الله جل وعلا، فلا يسوغ أن يصدر من مخلوق كما تقول المعتزلة؛ لأن المخلوق لا يمكن أن يقول لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] ، فهذا الكلام لا يجوز أن يصدر إلا من الرب جل وعلا. ويقول رحمه الله: (وغير جائز أن يقول هذا أحد غير الله جل وعلا) ؛ لأنه لا يجوز أن يوصف بهذا إلا الله المتكلم بذلك، فلا يجوز أن يكون من خلق خلقه، ولا يجوز أن يكون من الشجرة، ولا من ملك، إنما هو من الله جل وعلا. فموسى عليه السلام اختصه الله جل وعلا بالتكليم، نداءً ونجاءً، والله جل وعلا قد أخبر في عشرة مواضع في كتابه بأنه ينادي، والنداء في لغة العرب: الكلام بصوت عال، فدل ذلك على أن كلام الله بحرف وصوت؛ لأنه لا يمكن أن يكون الكلام نداء إلا إذا كان بصوت، ولذلك ميز الله جل علا في كلامه لموسى بين نوعين من الكلام، بين النداء الذي يدعى به البعيد، ويسمع بصوت عال، وبين النجاء الذي يكون بين المتقاربين الذي لا يحتاج معه إلى رفع الصوت، قال الله عز وجل: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم:52] فجمع الله لموسى بين النداء وهو الصوت العالي، وبين النجاء وهو الكلام بصوت خفي، فدل ذلك على أن كلام الله جل وعلا بصوت. وفي قوله جل وعلا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ذكرنا وجهاً من أوجه التحريف المعنوي، قالوا: (كلم) معناها: جرح، هذا نجعله من أمثلة التحريف المعنوي، وهذه الآية يجتمع فيها أيضاً نوع آخر من أنواع التحريف سلكه بعضهم وهو التحريف اللفظي، حيث نصبوا لفظ الجلالة في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] فجعلوا موسى هو المتكلِّم، هكذا طلب أحد أئمة البدع من بعض القراء أن يقرأ الآية، قال له: اقرأ: (وكلم اللهَ موسى تكليماً) ، فأجابه بقوله: إن أجبتك في هذه فكيف تصنع في قوله تعالى: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] يعني: لا سبيل إلى إلغاء تلك القراءة؛ لأنه واضح في تلك القراءة أن الكلام مضاف إلى الله جل وعلا، فهذه الآية حاول بعضهم أن يحرفها تحريفاً لفظياً لكنه عجز. قال رحمه الله بعد ذلك: (قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء) ، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم) ، وفي الصحيحين: (إذا تكلم الله في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم) والضمير في (كأنه) يعود إلى كلام الله عز وجل، فـ (كأنه سلسلة) أي: أن صوت الله عز وجل كالسلسلة على الصفوان، والسلسلة: الحديدة التي يربط بعضها بعضاً بحلق صغيرة، أي: كضرب سلسلة على صفوان، والصفوان هو الحجر، أي: يصدر صوت عظيم ينفذهم من جراء تكلم الرب جل وعلا. ثم قال رحمه الله: (وروى عبد الله بن أنيس عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراة حفاة غرلاً، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان) ، يحشر، أي: يجمع الخلائق يوم القيامة، والخلائق: بني آدم والجن وسائر ما خلقه الله جل وعلا، فكل ما له روح يبعثه الله عز وجل يوم القيامة، كما قال الله جل وعلا في ذكر الحشر: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] فالوحوش تحشر يوم القيامة، والوحوش هي كل حيوان متوحش، فإذا كانت الحيوانات المتوحشة التي تفر وتهرب من غيرها تحشر، فما بالك بالحيوانات التي تألف الناس وتكون بينهم! فإن حشرها أيسر، وإنما ذكر الوحوش لأنها في الغالب تهرب ممن يريدها ويطلبها، فهي لا تتمكن يوم القيامة من الهرب من الله جل وعلا، بل يأتي بها الله جل وعلا محشورة، وكما قال تعالى في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38] أي: كل هؤلاء يحشرون إلى الله عز وجل، فكل ما يدب على الأرض ويطير في السماء فإنه يحشر إلى الله جل وعلا، هذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة) ، لكن هنا ذكر صفة حشر بني آدم لأنهم هم المقصودون الأولون بحشر يوم القيامة؛ لأن الجزاء والحساب يطغو عليهم قبل غيرهم، وما يكون من جزاء وحساب لغيرهم فهو تابع لهم. قوله: (حفاة عراة غرلا) أي: مجردين من كل لباس، (حفاة) : أي: ليس معهم ما يقيهم حر وأهوال ذلك اليوم، (غرلاً) : أي: قد كمل خلقهم، فما فرط الله من خلقهم في شيء، بل يأتون غرلاً، أي: غير مختونين كما خلقهم الله جل وعلا: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104] . (فيناديهم الله جل وعلا بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) أي: يسمعه كل أحد، قوله: (أنا الملك أنا الديان) : هذا فيه فائدة، وهي أن الناس في حشرهم متفاوتون في المكان على اتساع المكان، فهم منتشرون فيه، فيهم البعيد وفيهم القريب، يسمعهم الله جل وعلا، يقول: أنا الملك أنا الديان، وهذا لا يكون إلا من الله جل وعلا. (أنا الملك) : فلا ملك غيره جل وعلا في ذلك اليوم، كما قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ، بل كل ملك يسقط فلا يبقى إلا ملك الله جل وعلا، مع أنه مالك الدنيا والآخرة، ولكن يظهر ملكه في ذلك اليوم؛ لأنه لا منازع له فيه سبحانه وبحمده. (أنا الديان) : أي: أنا الذي أحاسبكم، فالديان فعال من المحاسب، أي: كثير الحساب، فهو يحاسبهم جل وعلا حساباً سريعاً يقضي به الحقوق، ويجزي به على الأعمال. يقول رحمه الله: (رواه الأئمة واستشهد به البخاري) ، والشاهد في هذا الحديث قوله: (يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان) ، وهذا فيه فائدة، وهي أن كلام الله جل وعلا بصوت، فإن الله جل وعلا أخبر بأن النداء بصوت، وإنما ذكر الصوت هنا تأكيداً، وإلا فالنداء لا يكون إلا بصوت رفيع كما ذكرنا عن لسان العرب. ثم ذكر بعد ذلك: قال: (وفي بعض الآثار أن موسى عليه السلام ليلة رأى النار) إلى آخر ما ذكر. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أنواع الوحي وكلام الله لبعض الرسل

أنواع الوحي وكلام الله لبعض الرسل ثم قال رحمه الله: وقال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51] ، فذكر الله عز وجل في هذه الآية مراتب الوحي، وجعلها ثلاث مراتب. المرتبة الأولى: الإلهام. المرتبة الثانية: التكليم المباشر. المرتبة الثالثة: التكليم بواسطة، فقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} [الشورى:51] هذه هي المرتبة الأولى، وقوله: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51] هذه المرتبة الثانية، وهي التي حصلت لموسى عليه السلام، وقوله: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] وهذه المرتبة الثالثة والتي يشترك فيها جميع الرسل. فالآية دالة على أن الله جل وعلا يتكلم وأن كلامه جل وعلا أنواع، وهذه الآية احتج بها أهل البدعة على أن كلام الله معنى، ولا يلزم أن يكون كلام الله باللفظ، حيث قالوا: إنكم تقولون: إن من مراتب التكليم: الوحي؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} [الشورى:51] أي: إلهاماً، والإلهام إعلام سريع على وجه الخفاء؛ لأن الوحي في لغة العرب هو الإعلام السريع الخفي، وهذا لا يختص الرسل، بل يكون لكل من شاء الله أن يلهمه، كما قال الله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً} [النحل:68] ، فأخبر بإيحائه إلى النحل، ومنه قول الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص:7] ، مع أنها ليست بنبية ولا رسولة، فهذا الوحي هو الإلهام، لكن هل هذا كلام؟ A ليس بكلام عند الإطلاق، إنما الكلام في لغة العرب عند الإطلاق لابد فيه من ألفاظ، يقول ابن مالك: كلامنا لفظ مفيد كاستقم فالكلام لا يصح أن يوصف بأنه كلام عند الإطلاق إلا إذا توفر فيه وصفان: الوصف الأول: اللفظ، الوصف الثاني: إفادة المعنى، ولذلك يقول: كلامنا-أي: كلام العرب-لفظ مفيد فاستقم فلابد أن يكون لفظاً، ولابد أن يكون مفيداً لمعنى، وإلا فلا يوصف بأنه كلام، والمراد: أن احتجاجهم بهذه الآية ليس في محله؛ لأن الله جل وعلا لم يذكر أقسام الكلام عند الإطلاق، وإنما ذكر أقسام الوحي. ومن الوحي ما يكون إلهاماً، وهذا لا إشكال فيه، لكنه لا يسمى كلاماً، وإنما الكلام ما تلفظ به صاحبه.

كلام الله قديم لا أول له متجدد حسب فعله سبحانه

كلام الله قديم لا أول له متجدد حسب فعله سبحانه والكلام الذي يثبته أهل السنة والجماعة لله عز وجل كلام قديم، بمعنى أنه كلام لا أول له، فليس الكلام صفة حادثة بعد أن لم تكن، وهذا معنى كلام المؤلف رحمه الله: إنه متكلم بكلام قديم. لكن هل هذا الكلام حادث الأنواع، أي: متجدد، أم أنه كلام تكلم به ثم فرغ منه؟ A أنه كلام متجدد، ولذلك فهو بهذا الاعتبار من صفات الأفعال، فلما نادى الله عز وجل آدم وحواء بعدما وقع منهما ما وقع من المخالفة، فهو نداء حادث في وقته وليس نداء متقدماً في الأزل. ولما أنزل الله القرآن على رسوله، فإنه تكلم به وقت نزوله، فالله جل وعلا يتكلم بكلامه متى شاء وكيف شاء، ولكن هذه الصفة لم يزل متصفاً بها، أي: أن الكلام ليس حادثاً بعد أن لم يكن، هذا معنى قول المؤلف رحمه الله: (أنه متكلم بكلام قديم) . قال رحمه الله: (يسمعه منه) ، أي: يسمع كلامه منه جل وعلا لا من غيره، (من شاء من خلقه) ، وهذا السماع سماع مباشرة لا بواسطة؛ ولذلك قال: (سمعه موسى عليه السلام منه) ، أي: من الله جل وعلا (من غير واسطة) ، فلم يكن بين الله وموسى عليه السلام واسطة في سماع الكلام، بل سمعه مباشرة، وهذا لا يختص بموسى عليه السلام من كل وجه، أعني أن أصل سماع الكلام مباشرة ليس خاصاً بموسى، بل كلم الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم مباشرة في ليلة الإسراء، بل كلم بعض أفراد هذه الأمة بعد موته كما في حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إن الله جل وعلا قد كلم أباك كفاحاً) أي: من غير واسطة، وذلك بعد استشهاده رضي الله عنه في غزوة أحد. وأما في الآخرة فإنه يكلم كل أحد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيحين: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان) ، والترجمان: هو المفسر الذي يكشف عن معنى الكلام، بل سيكلمه مباشرة بدون واسطة، لكن ما جرى لموسى عليه السلام من الكلام في رسالته أمر زائد على ما جرى للأنبياء، ولذلك يوصف موسى عليه السلام بأنه كليم الرحمن، ولما يأتي الناس -كما في حديث أبي سعيد وغيره- في المحشر إلى موسى يقولون له: أنت الذي كلمك الله، وخط لك التوراة بيده. فذكروا ما اختص به دون غيره، وإذا نظرت إلى ذكر الله عز وجل للرسل، تجد أن ما اختص الله به موسى مخالف لهم جميعاً، انظر إلى قول الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] ثم ذكر الرسل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:163-164] ثم ذكر موسى مفرداً فقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ، فدل هذا على أن نصيب موسى من تكليم الله له مخالف لما تقدم حتى للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن ما اختص الله به موسى من صفة التكليم مخالف لغيره، فدل ذلك على أن نصيب موسى من هذه الصفة لست لغيره من الرسل. ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (سمعه موسى عليه السلام منه من غير واسطة) ، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن نصيب موسى في هذه الفضيلة وفي هذه الصفة لم يشاركه فيها أحد، ودليل ذلك من القرآن واضح في آيات النساء: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] وذكر جملة من الأنبياء، ثم بعد ذلك قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ولم يقل فقط: (وكلم الله موسى) ، بل أكد ذلك بقوله: (تكليماً) فدل ذلك على أن حظه ونصيبه من التكليم الذي جرى له عليه السلام مخالف للرسل، وهذا هو السبب في كونه عليه السلام يوصف بأنه كليم الرحمن، وأن الناس يقولون له يوم المحشر: أنت الذي كتب الله لك التوراة بيده، وكلمك بنفسه.

كلام الله عام لجميع الناس يوم القيامة

كلام الله عام لجميع الناس يوم القيامة يقول رحمه الله: (وسمعه جبريل عليه السلام) أي: تلقاه جبريل عن الله جل وعلا، قال: (ومن أذن له من ملائكته ورسله) ، أي: يسمع كلام الله عز وجل من يأذن الله عز وجل له أن يسمع كلامه من ملائكته ورسله. (وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه) ، في الآخرة يحتمل أنه في الجنة، ويحتمل أنه في الموقف، ولكن المراد: أنه يكلمهم في الجنة، وخص المؤمنين بالتكليم مع أن ظاهر الحديث: أنه يكلم أهل الإيمان وغيرهم؛ لأن تكليمه لأهل الإيمان أعلى ما يكون من الكلام، أما تكليمه لأهل الكفر فإنه تكليم تقريع وتوبيخ وتعذيب، وليس تكليم إكرام ومنة. وتكليمه لأهل الكفر لا إشكال فيه، دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه) ، والخطاب هنا ليس خاصاً بالصحابة، بل يعم كل أحد، ويدل له ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة، وفيه: (إن الله يخلو بعبده الكافر، فيقول: ألم أسودك؟ ألم أربعك؟ ألم أجعلك ترأس؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: أكنت تظن أنك ملاقي؟ فيقول الرجل: لا، فيقول الله عز وجل: اليوم أنساك كما نسيتني) وهذا لا يمكن أن يكون من مسلم، ولا يكون إلا من كافر. ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى في ذكر الآيات الدالة على إثبات هذه الصفة للرب جل وعلا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] وذكرنا أن هذه الآية من أصرح الآيات في إثبات صفة الكلام لله جل وعلا،؛ لأن الله أكد كلامه بالمصدر في قوله: (تكليماً) ، والعجيب أن المحرفين قالوا: إن هذه الآية تدل على أن موسى لم يحصل له من الفضل أكثر من غيره، وإنما معنى الكلام هنا: الجرح، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بمن يكلم في سبيله) ، أي: يجرح، فقالوا: معنى ((وكلم الله موسى تكليما)) ، أي: جرحه بأظافير الحكمة، هكذا حرفوا الكلم عن مواضعه، مع أن المقام مقام بيان وتشريف؛ لأن الله عز وجل ابتدأ الكلام بقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] ، ثم إنه ذكر تكليمه جل وعلا لموسى وأكد ذلك بالمصدر، ومع ذلك حرفوا الكلم عن مواضعه وقالوا: إن المراد هنا بالتكليم التجريح، وهذا لاشك أنه يدخل فيما ذكره الله تعالى من تحريف الكلم عن مواضعه. وقال سبحانه: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] ، وهذا دليل على أن الله عز وجل كلم موسى، وأنه اختصه بشيء من الكلام لا يشاركه فيه أحد من الناس. ولكن هل هذا يدل على أن موسى عليه السلام أفضل من نبينا عليه الصلاة والسلام؟ A لا، لأن الاختصاص بفضيلة خاصة لا يلزم منه الفضل من كل وجه، وهذه قاعدة مطردة في كل ما ورد من الفضائل، فسيدنا موسى عليه السلام فضل على نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل منه من حيث العموم، بما خصه الله به وحباه به من الفضائل. {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] ، وقال سبحانه: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253] ، فدل ذلك أن تكليم الله لموسى ليس خاصاً بموسى، بل من الرسل من كلم الله عز وجل.

كلام الله وعلاقته بجميع الرسل

كلام الله وعلاقته بجميع الرسل يقول رحمه الله: (ومن صفات الله تعالى أنه متكلم بكلام قديم) : المقصود بالقديم: الأول الذي ليس قبله شيء، فكلامه ليس صفة حادثة بعد أن لم يكن، بل كلامه جل وعلا من صفاته الذاتية التي لم يزل متصفاً بها ولا يزال متصفاً بها، وقد اتفق على إثبات هذه الصفة لله جل وعلا أهل السنة والجماعة، أئمة هذا الدين من الصحابة فمن بعدهم، فلا خلاف بينهم في إثبات هذه الصفة. بل هذه الصفة دل عليها كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا مجال لإنكارها، بل إن إنكار هذه الصفة يفضي إلى إنكار الصفات من أصلها، ولذلك فالذين ينكرون أن يرسل الله رسولاً إما أن ينكروا أن الله يكلم أحداً، وإما أن ينكروا أن الله ينزل على رسوله كتاباً كما قال الله عز وجل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} [يونس:2] ، فجعل الله عز وجل سبب تعجب الكفار أن يوحي إلى رجل منهم؛ ولذلك قال القائل منهم: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، فأنكر أن يكون القرآن كلام الله جل وعلا. فالإنكار لمسألة تكلم الله عز وجل وصفة الكلام له جل وعلا من أخطر ما يكون؛ لكونه يوافق قول المكذبين للرسل، فيلغي الرسالة، ويلغي أن يكون الله جل وعلا قد أرسل رسلاً مبشرين ومنذرين، وأنه أوحى إليهم، وأرسل إليهم. فهذه المسألة من أخطر ما يكون، ولذلك اتفق الرسل جميعاً على إثبات هذه الصفة، فكل الرسل أخبروا أقوامهم بأن الله أوحى إليهم، وأنه كلمهم، وأنه بعثهم وأرسلهم، فإثبات صفة الكلام مما أجمعت عليه الكتب السماوية كلها، فمن أنكر هذه الصفة فقد أنكر ما اتفق عليه الرسل جميعاً.

شرح لمعة الاعتقاد [5]

شرح لمعة الاعتقاد [5] صفة الكلام من الصفات التي أجمع سلف الأمة على إثباتها للمولى عز وجل كما يليق بجلاله، من دون تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ومن كلام الله سبحانه القرآن العظيم، فهو صفة من صفاته غير مخلوق، وقد أضافه المولى عز وجل إلى نفسه، ولا يضاف الكلام إلا إلى من قاله مبتدئاً. والقرآن مكون من سور وآيات، وأجزاء وأبعاض، ومنه محكم ومتشابه، وعام وخاص وناسخ ومنسوخ.

إنكار صفة الكلام لله تعالى يؤدي إلى إنكار الرسالة

إنكار صفة الكلام لله تعالى يؤدي إلى إنكار الرسالة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى: [وروى عبد الله بن أنيس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراة حفاة غرلاً بهماً، فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قُرُب: أنا الملك أنا الديان) ، رواه الأئمة، واستشهد به البخاري. وفي بعض الآثار: (أن موسى عليه السلام ليلة رأى النار؛ فهالته ففزع منها، فناداه ربه: يا موسى! فأجاب سريعاً استئناساً بالصوت، فقال: لبيك لبيك، أسمع صوتك ولا أرى مكانك، فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك وأمامك، وعن يمينك وعن شمالك) ؛ فعلم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى. (قال: كذلك أنت يا إلهي، أفكلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي يا موسى) ] . هذا تتمة للفصل الذي بدأنا فيه، والذي جعله المؤلف رحمه الله لتقرير عقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بصفة الكلام لله عز وجل، وإثباتهم صفة الكلام لله جل وعلا على ما يليق بجلاله وكماله، وذكرنا أن صفة الكلام صفة ثابتة له عز وجل بالكتاب والسنة وبإجماع سلف الأمة؛ فإن الأمة أجمعت على إثبات هذه الصفة للرب جل وعلا، بل إن الكتب كلها تثبت هذه الصفة، والرسل جميعهم جاءوا مخبرين بأن الله عز وجل أوحى إليهم وكلمهم، وأنه سبحانه وتعالى بعثهم إلى الناس، وأنزل عليهم كتباً تكلم بها، فهذه الصفة ثابتة أجمع عليها أهل الإيمان والإسلام على مَرِّ العصور. ومن أنكر صفة الكلام فقد شابه أهل الكفر؛ وذلك أن الكفار أنكروا إرسال الله عز وجل الرسل، وسلكوا في ذلك طريقين: الأول: تكذيب أن يكلم الله جل وعلا أحداً من رسله. الثاني: أنهم قالوا: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91] ، فسلكوا في تكذيب رسالات الرسل هذين المسلكين: إما تكذيب أن يبعث الله إلى الناس رسولاً: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} [يونس:2] ، {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ} [الأعراف:63] ، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91] ؛ فهذه مسالكهم في إبطال الرسالة؛ ولذا قال العلماء: إن حقيقة إنكار صفة الكلام التطرق والتوصل إلى إنكار بعث الله عز وجل للرسل. وتقدم لنا أن الله جل وعلا كلم موسى عليه السلام، وأن ما خص الله به موسى من الكلام فارق به سائر الأنبياء والرسل، كما قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ، وكما قال جل وعلا في خطابه لموسى: (يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] . ثم قال المؤلف رحمه الله في الاستدلال على هذه الصفة: وروى عبد الله بن أنيس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة) ، وذكر صفة حشر بني آدم، فذكر أربعة أوصاف: (عراة حفاة غرلاً بهماً) ، واللفظ الذي في الصحيح ذكر الأوصاف الثلاثة الأولى: (حفاة، عراة، غرلاً) ، وأما الصفة الرابعة: (بهماً) ، فقد جاءت في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن أنيس الذي ذكره المؤلف رحمه الله. قالوا: (يا رسول الله! وما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء) . قال: (فيناديهم بصوت) ؛ وهذا هو محل الشاهد في الحديث، (يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب: أنا الملك أنا الديان) ، وهذا الحديث رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن عبد الله بن أنيس، وهو الحديث الذي رحل جابر في طلبه من المدينة إلى الشام، لما بلغه أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن فصل القضاء والحكم بين الناس، فاشترى بعيراً؛ فشد عليه رحله، ثم رحل إلى الشام، فطرق الباب على عبد الله بن أنيس، فقال: إنه قد بلغني أنك تحدث حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه، فخشيت أن تموت أو أموت قبلك قبل أن أسمعه، فأخذه منه رضي الله عنه، وفيه ما ساقه المؤلف من حشر الخلائق. قال المؤلف: (رواه الأئمة، واستشهد به البخاري) . وأصل الحديث في الصحيحين من حيث ثبوت صفة الحشر، ونداء الله عز وجل للخلائق يوم المحشر في صحيح الإمام مسلم. ثم قال رحمه الله: (وفي بعض الآثار) ، أي: عن الأنبياء المتقدمين: (أن موسى ليلة رأى النار) ، هذا الأثر رواه ابن أبي عاصم في كتاب الزهد بسنده إلى وهب بن منبه، ووهب بن منبه من الرواة الذين أكثروا النقل عن بني إسرائيل، قال الذهبي رحمه الله في ترجمته: له غزارة علم في الإسرائيليات وصحائف أهل الكتاب. يعني أن غالب ما عنده من العلم هو من الإسرائيليات وصحائف أهل الكتاب، وهذا من ذلك والله أعلم، وهو يروي عن ابن عباس، وأبي هريرة. وهذا الأثر من روايته عن أهل الكتاب في الإسرائيليات أو من صحائف أهل الكتاب، يقول فيه: (إن موسى ليلة رأى النار هالته ففزع منها، فناداه ربه: يا موسى! فأجاب سريعاً استئناساً بالصوت، فقال: لبيك لبيك) ، أي: أجيبك إجابة بعد إجابة. (أسمع صوتك، ولا أرى مكانك، فأين أنت؟) ، وهذا فيه أنه سأل عن الله عز وجل (بأين) التي هي أعظم الكبائر عند أهل الكلام؛ مع أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الجارية، فقال لها: (أين الله؟ وموسى في هذا الأثر الإسرائيلي قال: أين أنت؟ قال: أنا فوقك، وأمامك، وعن يمينك، وعن شمالك) ، وهذا ليس فيه أن الله مخالط للخلق بل هذا لا ينافي ما تقدم مما نعتقده ودل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة: أن الله جل وعلا بائن من خلقه، ليس فيه شيء من خلقه ولا هو في شيء من خلقه، بل هو العلي جل وعلا مستوٍ على عرشه بائن من خلقه، والإحاطة المذكورة هنا إنما هي إحاطة العلم والقرب، وليست إحاطة المخالطة والممازجة؛ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. (فعلم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله. قال: (كذلك أنت يا إلهي) ، يعني: هكذا صفة الإله، (أفكلامك أسمع) يعني: هذا الكلام الذي أسمع، وهو النداء: يا موسى، (أكلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي يا موسى) ، ولا شك أن الكلام الذي سمعه موسى عليه السلام في تلك الليلة هو كلام رب العالمين؛ لا يماري في ذلك صاحب عقل سليم، وصاحب قلب من الشبه سليم؛ لأن الله جل وعلا قال في تلك الليلة: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12] ، وقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] ، ولا يمكن أن يكون هذا صادراً عن غير الله جل وعلا؛ لأنه لا يجوز لمخلوق من خلق الله عز وجل أن يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] ، فعلم بهذا أن الكلام الذي سمعه موسى عليه السلام هو كلام رب العالمين، وهذا واضح جلي يدركه كل أحد يطلع على كلام الله عز وجل، ويقرأ ما جاء في شأن هذه القصة من كلام الله عز وجل، وما جاء في السنة النبوية من ذلك؛ لكن هؤلاء لما انحرفت قلوبهم وانصرفت عن الحق شبهوا فشبه عليهم، وخلطوا فاختلط عليهم الأمر، فكانوا كما قال الله عز وجل: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176] ، أي: لفي اختلاف ونزاع وتفرق واضطراب، كما قال الله جل وعلا: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] ، أي: في أمر مضطرب مختلط فاسد، هكذا هي حال كل من خالف الكتاب، أو أعرض عنه، أو لم يقبل ما جاء فيه.

القرآن الكريم.

القرآن الكريم. سماته والرد على المخالفين فيها قال المؤلف رحمه الله: [فصل: ومن كلام الله سبحانه: القرآن العظيم، وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين؛ بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. وهو سور محكمات وآيات بينات، وحروف وكلمات] .

القرآن أجزاء وأبعاض يتلى ويحفظ ويكتب ويسمع

القرآن أجزاء وأبعاض يتلى ويحفظ ويكتب ويسمع ثم قال: (له أول وآخر) ، ولا إشكال في أن للقرآن أولاً وآخراً، فأوله بسم الله الرحمن الرحيم في سورة الفاتحة، وآخره ما ذكر الله في آخر سورة الناس: {مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:6] . يقول رحمه الله: (وأجزاء وأبعاض) ، هذا يرد به على الأشاعرة والكلابية الذين قالوا: إن كلام الله معنى قائم في النفس، ليس له حرف ولا أجزاء ولا أبعاض، وليس فيه أحرف ولا كلمات، بل حتى الذين قالوا: إنه معنى واحد أو ثلاثة أو خمسة يقولون: هذا التقسيم ليس أجزاء ولا أبعاضاً، بل الكلام الذي يصفون به الله عز وجل معنى قائم أزلي أبدي؛ فهو في الأزل والأبد لا يتبين منه حرف ولا صوت، معناه واحد؛ إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بغير ذلك كان على حسب ما عبر عنه من توراة أو إنجيل، هكذا قالوا، وهم بهذا يكذبون القرآن، ويكذبون ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما أجمعت عليه الأمة. إذاً: مراد المؤلف من قوله: (وأجزاء وأبعاض) ، أي: أن كلام الله حروف وكلمات وأجزاء كما تقدم، وليس معنى قائماً بالنفس. قال: (متلو بالألسنة محفوظ في الصدور) ، أي: تقرؤه ألسنة المسلمين، محفوظ في صدورهم، فلا يخرج عن كونه متلواً بالألسنة ولا يخرج بكونه محفوظاً في الصدور عن أن يكون كلام رب العالمين. وذكر المؤلف هذا حتى لا يقول قائل: إن القرآن الذي بين أيدينا ليس كلام الله، وإنما هو شيء في صدورنا، وفي صحائف من كتب، وألسنة من قرأ، فنقول له: لا؛ لأن الكلام يضاف إلى من تكلم به ابتداء لا إلى من قرأه أو كتبه أو حفظه، فنحن نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) ، هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والرواة الذين نقلوه نقلوه على أنه كلامه صلى الله عليه وسلم، والأمة لما تلقت هذا الحديث تلقته عنهم على أنه من النبي صلى الله عليه وسلم، فهو من النبي تلفظ به من تلفظ، وكتبه من كتبه، وحفظه من حفظه، ولا يخرجه هذا كله عن أن يكون كلامه، وهذا هو مراد المؤلف بقوله: (متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف) ، فكل هذا لا يخرج القرآن عن كونه كلام رب العالمين، فهو كلام الله عز وجل سواء كان متلواً أو مسموعاً أو محفوظاً أو مكتوباً.

أجر قارئ القرآن

أجر قارئ القرآن يقول رحمه الله: (من قرأه فأعربه، فله بكل حرف عشر حسنات) ، ليس معنى (فأعربه) أن يقول: هذا مبتدأ وهذا خبر، وهذا فعل وهذا فاعل، وهذا جار وهذا مجرور، بل معنى (أعربه) : أتقن قراءته، فيكون المعنى: رتله؛ لأن قول الله تعالى: {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] ، قيل: الترتيل: هو أن تقرأ القرآن كما أنزل معرباً، فلا تجر المفتوح، أو ما أشبه ذلك من أنواع اللحن التي تجري بسبب ضعف اللسان، فقوله رحمه الله: فأعربه، أي: أتقن قراءته على الوجه الذي نزل به. من قرأه، أي: القرآن، فأعربه فله بكل حرف، أي: بكل كلمة، عشر حسنات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي من حديث ابن مسعود: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (آلم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، قال الترمذي رحمه الله: حديث حسن صحيح.

القرآن سور وآيات وكلمات

القرآن سور وآيات وكلمات قال رحمه الله: (وهو -أي: القرآن- سور محكمات) ، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] ، فالإحكام هنا في قوله رحمه الله المراد به: سور متقنات، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] ، فليس فيه اضطراب، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ، وهذا هو الإحكام الذي يوصف به القرآن كله، ومنه قول الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر:23] ، فمعنى المتشابه: الذي يصدق بعضه بعضاً، ليس فيه تعارض، ولا ينقض آخره أوله، ولا يكذب بعضه بعضاً، بل يصدق بعضه بعضاً، وهذا من الإحكام. إذاً: قوله رحمه الله: (وهو سور محكمات) ، يريد أنه متقن يصدق بعضه بعضاً، لا فيه خلل ولا عيب، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. قال رحمه الله: (وآيات بينات) ، المؤلف رحمه الله بين لنا مما يتكون القرآن، فيتكون من سور. وهذا أكبر ما يكون من الاجتماعات في القرآن، فأكبر التقسيمات للقرآن: سور، ثم آيات، ثم أحرف؛ ولذا قال: (وهو سور محكمات وآيات بينات) ، ومعنى بينات: أي: واضحات الدلالة لا لبس فيها ولا غموض لمن فتح الله بصيرته وهدى قلبه. قال: (وحروف وكلمات) ، إما أن يريد بالحرف الكلمة، وهذا الاستعمال العربي الأول الفصيح الذي جاءت به السنة؛ فالحرف يطلق على الكلمة لا على المفرد الهجائي، ومنه ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه، في قوله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كلام الله فله به حسنة) ، فليس المراد بالحرف هنا المفرد الهجائي، إنما المراد بالحرف: الكلمة، ولذا قال: (لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) لأن القارئ لا يقول: ألم، ولكن: ألف، لام، ميم، فكل حرف من هذه الأحرف هو كلمة؛ لأنه لا ينطق حرفاً واحداً؛ فالحرف في كلام العرب معناه: كلمة. فمثلاً: قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، كم فيها من أحرف؟ أربعة؛ لأن الحرف كلمة (قل. هو. الله. أحد) هذا هو الحرف في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولسان العرب. أما الاصطلاح الحادث بعد ذلك من أن الحرف هو المفرد الهجائي، فـ (قل) فيها حرفان، ولفظ الجلالة (الله) فيه خمسة إذا حسبنا التشديد، و (أحد) فيها ثلاثة أحرف. فهذا المقصود بالكلمة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كلام الله) ، أن الهمزة والحاء والدال ثلاثة حروف في قوله: (أحد) ؛ فقول المؤلف رحمه الله: (وحروف وكلمات) ، قد يكون هذا من عطف الترادف؛ لأن الحروف هي الكلمات، وقد يكون مراده بالحروف الحرف الهجائي؛ لأن الكلمة تتكون من حروف هجائية، فيكون بهذا قد جرى على الاصطلاح الحادث.

القرآن بدأ من الله وإليه يعود

القرآن بدأ من الله وإليه يعود قوله رحمه الله: (منه بدأ) ، هذه اللفظة جاءت عن جماعة من السلف الصالح، ومعناها: أنه هو المتكلم به ولم يبتدئ من غيره، فهو المتكلم بالقرآن سبحانه وبحمده، فـ (من) هنا لابتداء الغاية، والضمير يعود إلى الله جل وعلا، فهو الذي بدأه وتكلم به، لم يكن من غيره ولم يبدأ من غيره؛ لأن الجهمية يقولون: كلام الله، لكنه بدأ من غيره، ففي قصة موسى يقولون: بدأ من الشجرة، والشجرة هي التي تكلمت، أو من ملك، فهو الذي تكلم، وهم بهذا كاذبون مكذبون للقرآن الكريم، مكذبون لما عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون. دليل ذلك الآيات الكثيرة في كلام الله جل وعلا، التي تخبر بأن القرآن تكلم به الرب، من ذلك قول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6] ؛ فـ (من) هنا لابتداء الغاية، ومنه قول الله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] ، وكذلك قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] ، ومنه قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] ؛ فـ (من) في هذه الآيات كلها وما يشابهها تفيد ابتداء الغاية، وهذا دليل قول المؤلف رحمه الله: (منه بدأ) . ويعبر بعض السلف عن هذه الكلمة بقولهم: (منه خرج) ، ويريدون بهذا أن الكلام خرج ابتداء من الله جل وعلا، وقد جاء ذلك في بعض الأحاديث، ففي جامع الترمذي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه) ، قال أبو النضر -أحد رواة الحديث-: يعني القرآن، وهذا الحديث قال عنه الترمذي: غريب، وقد جاء ما يعضده من طريق جبير بن نفير مرسلاً في مسند الإمام أحمد، وذكره الترمذي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن ترجعوا إلى الله بأفضل مما خرج منه) ، وقد تكلم بهذا السلف، ومرادهم بهذه العبارة: أن الكلام من الله ابتدأ ولم يخلقه في غيره كما تقول المعتزلة والجهمية، ومرادهم أيضاً من هذه العبارة: أن الكلام صفة الله عز وجل، فالمتكلم إذا خرج منه الكلام هل يخرج مخلوقاً أو صفة له؟ صفة له؛ ولهذا قال جل وعلا: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] ، هل يخرج الكلام الذي منهم خلق وعين أم أن الكلام صفة له وإن تكلم به وظهر منه؟! الكلام صفة له، وإن ظهر منه وخرج منه، لكنه يكون على وجه الصفة. قال رحمه الله: (وإليه يعود) ، أي: إلى الله جل وعلا يعود القرآن، وإليه يرجع، وقد جاء ذلك في عدة آثار، منها عن ابن مسعود رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن ينزع القرآن منكم، قالوا: يا رسول الله! كيف ينزع وقد أثبته الله في قلوبنا، وأثبتناه في كتبنا، فقال: يسرى عليه في ليلة، فلا يبقى في الصدور منه كلمه، ولا في الصحف منه آية، ويصبح الناس منه فقراء) ، أي: ليس معهم منه شيء، وهذا معنى ما ذكره السلف رحمهم الله من قولهم: (وإليه يرجع) ، فالقرآن يرجع إلى الله عز وجل، ولكن بعدما يتعطل العمل به ولا ينتفع الناس منه؛ وذلك في آخر الزمان، وهذا لعظيم مكانة القرآن عند الرب جل وعلا، فكما أن البيت يرفع وهو القبلة، فكذلك القرآن يرفع وهو صفة الله عز وجل، لأن الناس يعرضون عنه، فإذا أعرضوا عنه رفعه الله عز وجل لعدم انتفاع الناس به.

القرآن منزل غير مخلوق

القرآن منزل غير مخلوق قال رحمه الله: (منزل غير مخلوق) ، هذا فيه رد على الجهمية والمعتزلة، فقوله: (منزل) ، رد على من قال: إن القرآن ليس من لدن الله جل وعلا، وقوله: (غير مخلوق) ، رد على من قال: إنه منزل من الله، وهو كلام الله لكنه مخلوق، وهذا قول الجهمية الذين جرت منهم فتنة عظيمة على أهل الإسلام في أول القرن الثالث الهجري، حيث فتنوا الناس وعذبوا العلماء في مسألة خلق القرآن، وآزرهم في ذلك المأمون، فلما توفي سنة ثمان عشرة ومائتين للهجرة تولى كبر هذه الفتنة بعده ابنه المعتصم. واستمرت الفتنة حتى رفعها الله وأنقذ الأمة بالإمام أحمد بن حنبل، كما قال علي بن المديني رحمه الله: إن الله أنقذ هذا الدين بـ أبي بكر في الردة، وبـ أحمد يوم الفتنة أو يوم المحنة؛ فإن الله ثبت الإمام أحمد على الحق والهدى حتى غدا إمام الدنيا في زمانه وما بعده، حيث ربط الله قلبه وسدده ووفقه إلى التمسك بما دل عليه الكتاب والسنة؛ من أن القرآن كلام الله غير مخلوق، فقول المؤلف رحمه الله: (منزل غير مخلوق) يرد به على الجهمية الذين قالوا: القرآن كلام الله لكنه مخلوق، فقال: (منزل) كما يعتقد أهل السنة والجماعة وكما تعتقد الجهمية، لكنه غير مخلوق. فكلام الله صفة من صفات الله، وليس خلقاً من خلقه.

القرآن صراط الله المستقيم المنزل من عند الله

القرآن صراط الله المستقيم المنزل من عند الله قال: (وصراطه المستقيم) : وصف القرآن بأنه الصراط المستقيم، والصراط في لغة العرب الطريق الواسع، وقد فسر جماعة من العلماء قول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، بأنه القرآن، وقد قال الله عز وجل في وصف رسوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ؛ فالصراط المستقيم هو كتاب الله الحكيم. قال رحمه الله: (وتنزيل رب العالمين) ، يدل على ذلك الآيات الكثيرة التي أخبر الله فيها بتنزيل الكتاب: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:2] ، {تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2] ، وما إلى ذلك من الآيات الكثيرة التي يخبر الله فيها بتنزيل الكتاب من لدنه جل وعلا. (نزل به الروح الأمين) ، أي: جبريل، (على قلب سيد المرسلين) ، أي: محمد صلى الله عليه وسلم، (بلسان عربي مبين) ، قال الله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:102] ، فأنزل الله عز وجل هذا القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم كما قال المؤلف رحمه الله، ولا إشكال في أنه نزل بلسان عربي، أي: بكلام عربي، ليس فيه اشتباه ولا التباس، فهو مبين ظاهر واضح الدلالة والمعاني.

القرآن العظيم من كلام الله سبحانه

القرآن العظيم من كلام الله سبحانه بعد أن قرر المؤلف رحمه الله في الفصل السابق إثبات صفة الكلام لله جل وعلا من الكتاب والسنة والآثار، انتقل إلى الحديث عن القرآن الذي وقع الخلاف فيه بين طوائف من أهل الإسلام؛ فأنكروا أن يكون القرآن كلام الله جل وعلا، كما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الدين ومن بعدهم. يقول رحمه الله: (ومن كلام الله سبحانه القرآن العظيم) : (من) هنا للتبعيض؛ لأن كلام الله جل وعلا لا يقتصر على القرآن، كما قال الله جل وعلا: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109] ؛ فكلام الله جل وعلا كثير متنوع، منه ما يتعلق بالخلق، ومنه ما يتعلق بالشرع، فكلامه الشرعي: هو الذي أوحاه إلى رسله، وكلامه الكوني الخلقي هو الذي يوجد به ما يوجد ويحدث به ما يحدث من أمره سبحانه وبحمده؛ وبه يدبر أمر مملكته جل وعلا. قوله رحمه الله: (ومن كلام الله) . أي: من كلامه الشرعي الذي تلكم به فيما يتعلق بالشرائع والأديان القرآن العظيم، فهو كتاب الله الحكيم الذي أنزله على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو حجة الله على هذه الأمة، وهو أعظم آيات الأنبياء، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الإمام مسلم وغيره: (ما من نبي إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي) ، يعني: كان أعظم وأجل ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات: القرآن؛ ولذلك لم يذكر غيره صلى الله عليه وسلم، ثم بين عظيم هذا الذي خص به صلى الله عليه وسلم؛ فقال: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً) ، لعظيم بركة القرآن وأثره؛ لأنه ليست آية محصورة في زمان أو مكان بل هي آية ممتدة في كل زمان ومكان، فهي آية باقية، ولذا فإن تأثيره وأثره ما زال إلى الآن من أعظم ما يكون. والمراد: أن هذا القرآن كلام الله جل وعلا، ما الدليل على هذا؟ الأدلة على هذا تفوق الحصر؛ فإن الله سبحانه وتعالى أخبر بأنه أنزل القرآن من لدنه جل وعلا، وأنه تكلم به، ووصفه بأنه كلامه، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، ولا خلاف بين أهل التفسير أن المراد بكلام الله في الآية القرآن، فالأدلة من الكتاب والسنة على أن القرآن كلام الله أكثر من أن تحصر، وهذا مما أجمع عليه السلف، وهو معلوم من الدين بالضرورة. ولذلك من جحد أن القرآن كلام الله فهو كافر، وقد تلكم بهذا سلف الأمة، فقالوا: من جحد أن القرآن كلام الله كفر، وذلك لأن الأدلة على هذا من أوضح وأكثر ما يكون، ولذلك قالوا: مما يعلم من الدين بالضرورة أن القرآن كلام الله، أي: لا يحتاج الإنسان إلى أن يصل إلى هذه النتيجة من خلال التفكير والنظر والتدبر وإعادة الفكر في النصوص حتى يستنتج ويتوصل إلى أن القرآن كلام الله، بل إنه يصل إلى ذلك بأدنى نظر في كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وآثار الصحابة والتابعين وسلف الأمة الصالحين، وكون القرآن من كلام الله من أظهر ما يكون.

القرآن كتاب الله المبين وحبله المتين

القرآن كتاب الله المبين وحبله المتين يقول رحمه الله: (وهو كتاب الله المبين) ، كتاب الله أضافه إلى نفسه؛ لأنه الذي تكلم به، ووصفه بأنه المبين؛ لأنه أبان السبل هدى الله به من الضلالة، وأخرج به من الظلمات إلى النور، وهو الكتاب الذي يهدي إلى الصراط المستقيم. قال: (وحبله المتين) ، أي: حبله جل وعلا الممدود منه بينه وبين خلقه. وقد روى الترمذي من حديث زيد بن أرقم: أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الكتاب بأنه (حبل ممدود من السماء) ، والمقصود بالحبل المدود من السماء: القرآن، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً؛ كتاب الله حبله المدود من السماء) ، وقد جاء هذا عن عبد الله بن مسعود وغيره. وقد فسر جماعة من أهل العلم قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران:103] ، بأنه القرآن، وقيل: الإسلام، وقيل: عهد الله، وقيل: طاعته وأمره، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكل هذا حق. يعني: كل هذا يجب الاعتصام به، وكله من حبل الله عز وجل، ويجمع هذا أن يقال: إن حبله القرآن؛ لأنه إذا اعتصم بالقرآن فقد اعتصم بطاعة الله وأمره، واعتصم بدين الإسلام، فالقرآن هو أجمع هذه المعاني، ولذلك قال رحمه الله تعالى: وكل هذا حق. المقصود: أن المراد بقوله: (وحبله المتين) ، أي: وحبله الشديد القرآن الكريم هو حبله، وقد وصفه الله عز وجل بذلك، وقد جاء وصفه في سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث زيد بن أرقم.

من أقسام علوم القرآن

من أقسام علوم القرآن

القرآن فيه خاص وعام وأمر ونهي

القرآن فيه خاص وعام وأمر ونهي قال: (وخاص وعام) ، الخاص: ما كانت دلالته قاصرة على حكم معين، والعام: هو اللفظ الذي يندرج تحته أفراد متعددة، وهذا يتوصل إليه على وجه التفصيل في كتب التفسير ودراستها. مثال الخاص: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] ، هذا حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يشركه فيه أحد، أما العام فأكثر آيات الكتاب عامة، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] ، هذه تعم كل من مات وترك ولداً من أهل الإسلام؛ فهي آية عامة. قال رحمه الله: (وأمر ونهي) ، أي: فيه أمر ونهي، فالأمر والنهي كقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36] ، (اعبدوا الله) هذا أمر، (ولا تشركوا به شيئاً) هذا نهي. ومراد المؤلف بهذا أن القرآن ليس -كما يقولون- معنى واحداً، إنما هو معانٍ، فإن الأشاعرة قالوا: إن القرآن معنى واحد؛ فيه أمر ونهي، وأحكام وقصص، وحكم، المهم أنهم جعلوا القرآن الذي فيه من المعاني ما فيه معنى واحداً، وهذا تكذيب لما في القرآن من المعاني المتعددة، وهذا مراد المؤلف رحمه الله بقوله: (وخاص وعام، وأمر ونهي) . ثم قال رحمه الله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، يعني: هو في هذا كله مؤتلف متفق لا يعتريه باطل ولا يتسرب إليه خلل، بل لا يأتيه الباطل لا من أمامه ولا من خلفه (تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) وهذا معناه: أن القرآن منزل من عند الله جل وعلا.

القرآن ناسخ ومنسوخ

القرآن ناسخ ومنسوخ قال رحمه الله: (وناسخ ومنسوخ) ، ناسخ: أي ناقل للحكم السابق إلى حكم جديد، والنسخ في اللغة: النقل والإزالة، تقول: نسخت الشمس الظل، أي: أزالته، وتقول: نسخت الكتاب، أي: نقلته، فالنسخ في اللغة بمعنى النقل والإزالة، أما في الاصطلاح: فهو رفع حكم شرعي أو لفظه بحكم آخر أو لفظ آخر. ومن هذا نفهم أن النسخ يكون للألفاظ، ويكون للأحكام دون الألفاظ. مثال الناسخ في كلام الله عز وجل: قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:149] ؛ فإن هذه الآية ناسخة للتوجه للقبلة إلى بيت المقدس. ومنسوخ، أي: ومرفوع الحكم، مثاله: قول الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:180] ، فإن الله في هذه الآية طلب الوصية للوالدين والأقربين، وفي آية المواريث بين أنصباء الورثة من الوالدين والأقربين، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لا وصية لوارث) .

القرآن محكم ومتشابه

القرآن محكم ومتشابه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمنه محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، وقوله تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] . وهو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} [سبأ:31] ، وقال بعضهم: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، فقال الله سبحانه: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، وقال بعضهم: هو شعر، فقال الله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69]] . قول المؤلف رحمه الله: (وفيه محكم ومتشابه) ، الضمير يعود إلى القرآن، دليل ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7] ، (هن) يعني: أصله، (وأخر متشابهات) ، فالقرآن فيه محكم ومتشابه، ومعنى الإحكام في قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران:7] الإتقان؛ فهو صفة لكل القرآن. لكنه قال في تقسيم القرآن: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] ، فما معنى الإحكام والتشابه هنا؟ الإحكام هنا هو الآيات التي ليس فيها إلا معنى واحد؛ فهي آيات واضحة المعاني ليس فيها التباس ولا اشتباه. والتشابه في قوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] ، أي: آيات تحتمل أكثر من معنى، فقوله رحمه الله: (فمنه محكم ومتشابه) ، أي: فيه ما هو واضح لا التباس فيه، وفيه ما خفي معناه واحتمل أكثر من معنى، وهذا القسم نصل إلى فهمه برده إلى المحكم.

شرح لمعة الاعتقاد [6]

شرح لمعة الاعتقاد [6] أجمع سلف الأمة رضوان الله عليهم على أن القرآن الكريم كلام الله سبحانه وتعالى، وليس شعراً، ولا نثراً من كلام بني البشر، وإلا لأتى بمثله العرب، وقد تحداهم أن يأتوا ولو بسورة مثله؛ إذ هو معجز في معانيه وألفاظه. ثم إن القرآن كلام الله بحرف وصوت لفظه ومعناه من الله عز وجل.

دحض شبه الطاعنين في القرآن

دحض شبه الطاعنين في القرآن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وقوله تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] ، وهذا هو الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} [سبأ:31] ، وقال بعضهم: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، فقال الله سبحانه: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، وقال بعضهم: هو شعر، فقال الله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69] ، فلما نفى الله عنه أنه شعر وأثبته قرآناً؛ لم يبق شبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو كلمات وحروف وآيات؛ لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد إنه شعر. وقال عز وجل: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة:23] ، ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يدرى ما هو ولا يعقل، وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس:15] ، فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم. وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] ، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77-79] ، بعد أن أقسم على ذلك. وقال تعالى: {كهيعص} [مريم:1] {حم * عسق} [الشورى:1-2] ، وافتتح تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فأعربه؛ فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه؛ فله بكل حرف حسنة) ، حديث صحيح. وقال عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة السهم، لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه) . وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه. وقال علي رضي الله عنه: من كفر بحرف منه فقد كفر به كله. واتفق المسلمون على عد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه. ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفاً متفقاً عليه أنه كافر، وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف] . هذا صلة ما في الفصل من تقرير أن القرآن كلام الله جل وعلا؛ فقد افتتح المؤلف رحمه الله هذا الفصل بقوله: (ومن كلام الله سبحانه: القرآن العظيم) ، ويقول رحمه الله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، وقد تكلمنا على هذا وقلنا: إن قوله تعالى: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، دليل على أن القرآن منزل من الله جل وعلا؛ لأن (من) هنا لابتداء الغاية، فالله جل وعلا هو المتكلم بالقرآن، وهو المنزل له، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6] .

تكذيب الله لمن وصف القرآن بالشعر

تكذيب الله لمن وصف القرآن بالشعر قال رحمه الله: (وهو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} [سبأ:31] ) ، يعني: أن الذي تحدى الله عز وجل الإنس والجن بأن يأتوا بمثله هو هذا القرآن الذي كذب به أهل الكفر حيث قالوا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ:31] ، أي: ولا بالذي تقدمه وسبقه من الكتب. (وقال بعضهم: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ) ، و (إن) هنا بمعنى ما النافية، فهي تنفي أن يكون هذا القرآن شيئاً من الأشياء إلا قول البشر، أي: قول محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كذبهم الله جل وعلا بهذا، وقال: فإذا كان قول البشر فأتوا بمثله؛ فإنكم لا تعجزون بأن تأتوا بمثله وأنتم أصحاب اللسان والبيان. قال الله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، وهذا في حق من قال: إن القرآن قول البشر، فقد تهدد الله جل وعلا وتوعد أنه سيصليه سقر، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:27-30] ، وهي نار جهنم، نسأل الله السلامة والعافية؛ فتهدد الله وتعود كل من قال: إن القرآن كلام البشر بهذا الوعيد الشديد. قال المؤلف: (وقال بعضهم -أي: بعض العرب- هو شعر، فقال الله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] ) ، أي: ما علمنا محمداً صلى الله عليه وسلم الشعر، فهو لا يقول شعراً، وما يكون منه من بيت أو شبهه، فإنه لا يوصف بسببه بأنه شاعر، إنما هو شيء مما قد يرد عن كل أحد، ولا يوصف من قال بيتاً أو بيتين أو ثلاثة بأنه شاعر، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلمه ربه عز وجل الشعر، وذلك أن الشعر وظيفة أهل البيان الذين ينشئون المعاني والألفاظ من قبل أنفسهم، ويتجاوزون الحدود في وصف ما يصفون أو قول ما يقولون، وقال الله عز وجل: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224-226] ، فلما كان هذا هو الوصف الغالب لهؤلاء نفى الله جل وعلا عن رسوله أن يكون شاعراً، بل نفى عنه تعلم الشعر فضلاً عن أن يكون قائلاً له. (وما ينبغي له) : أي: ويستحيل عليه، (إن هو) أي: ما هذا القول وهذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69] ، وشتان بين قول رب العالمين وبين ما ينشئه الشعراء أو يقوله أصحاب البيان من الفصحاء؛ فالبون بينهما شاسع، والفرق بينهما كالفرق بين صفات الله عز وجل وبين صفات المخلوقين: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . وكل من سمع القرآن وقرأه يعلم أنه ليس قول البشر إنما هو قول رب العالمين، أما قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف:104] ، فـ (إن) هنا بمعنى ما النافية، أي: ما هو إلا ذكر وقرآن مبين، (فلما نفى الله عنه أنه شعر وأثبته قرآناً لم يبق شبهة لذي لب أو عقل وبصيرة، بأن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو كلمات وحروف وآيات؛ لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد إنه شعر) .

تحدي الله للمكذبين أن يأتوا بمثل القرآن

تحدي الله للمكذبين أن يأتوا بمثل القرآن قال: (وقوله تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] ) . أتى المؤلف بهذه الآية كدليل من الأدلة على أن القرآن كلام الله وليس بكلام البشر أو غيرهم، ووجه الدلالة هو أن الله جل وعلا تحدى كلاً من الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، أي: معيناً، ومع هذا فإنهم يعجزون عن أن يأتوا بمثله، قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} ، أي: لا يتمكنون ولا يتوصلون إلى الإتيان بمثله، {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} ، أي: ولو كان بعضهم يعين بعضاً في طلب ذلك وتحصيله. وهذه الآية هي من الآيات المعجزة الدالة على أن هذا القرآن كلام الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوحى الله إليه بأن يتحدى كلاً من الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وهذا التحدي ليس مقصوراً على وقت النبي صلى الله عليه وسلم وزمنه، بل هو ممتد بامتداد الزمان والمكان؛ فمع كثرة المعارض المكذب وشدة سعيه في إبطال دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيب رسالته مع ذلك لم يأت أحد من الخلق يدعي أنه جاء بمثل هذا القرآن، وهذا دليل معجز واضح بين على أنه كلام رب العالمين، وأنه لا يأتي به بشر بل لا يأتي بمثله بشر.

القرآن كلمات وحروف وألفاظ من الله

القرآن كلمات وحروف وألفاظ من الله يقول رحمه الله في الاستدلال: (فلما نفى الله عنه أنه شعر) ، أي: نفى عن القرآن أنه شعر، (وأثبته قرآناً لم يبق شبهة) ، الشبهة هي: عارض يعتري القلب ويحول بينه وبين رؤية الحق ومعرفته وإدراكه. يقول رحمه الله: (لم يبق شبهة لذي لب) ، أي: لصاحب عقل، وصاحب بصر (في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم) . (الذي هو كلمات) ، أي: أنه مكون من كلمات وحروف وآيات؛ (لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد: إنه شعر) ، ولولا أن هذا القرآن الذي يخبر الله أنه منه وأنه قوله، ونفى أن يكون قول البشر لو لم يكن محل الخلاف هو القرآن لما نفى أنه شعر، فلما نفى أنه شعر وبين أنه ليس بقول البشر علم أنه قول رب العالمين، كما قال الله جل وعلا: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، في ما ساقه المؤلف من الآيات الدالة على أن القرآن كلام الله جل وعلا. قوله: (وقال عز وجل: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة:23] ) ، ذكر المؤلف دليلاً آخر من الأدلة الدالة على أن القرآن كلام الله، واستدل لذلك بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} ، أي: في شك واشتباه وعدم بصيرة، (فأتوا بسورة من مثله) ، فتحداهم الله جل وعلا أن يأتوا بسورة من مثل ما أنزل الله جل وعلا على رسوله، فـ (من) هنا بيانية، أي: فأتوا بسورة مثل إحدى سور القرآن. وهذا يبين لنا أن التحدي لهؤلاء كان على مراتب: فتحداهم الله جل وعلا أن يأتوا بمثل القرآن، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله، ثم انتهى التحدي إلى أن يأتوا بسورة من مثله، فلم يأتوا، وأقل سورة في القرآن عدد آياتها ثلاث، وهي سورة الكوثر، وهذا يدل على عظيم إعجاز هذا القرآن، وأنه من البيان والفصاحة والقوة في الألفاظ والمعاني، وأنه في أعلى طبقات الكلام لفظاً ومعنى بما لا يمكن أن يدرك شأوه وأن يبلغ حده أبلغ البلغاء وأعظم الفصحاء، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم يميز المؤمن بين كلامه وبين كلام رب العالمين، وترى الفرق واضحاً بيناً بين كلام الله عز وجل وبين كلام الذي أوتي جوامع الكلم، فكيف بغيره؟! فيتميز للإنسان ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكلام وما جاء به كلام رب العالمين. يقول رحمه الله: (ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يدرى ما هو ولا يعقل) ، هذا فيه بيان أن القرآن ألفاظه ومعانيه من كلام رب العالمين، فإن الله جل وعلا تحداهم ليس فقط أن يأتوا بألفاظ مثل ألفاظ القرآن، بل أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله في ألفاظه ومعانيه، فإن إعجاز القرآن لا يقتصر على إعجاز الألفاظ، بل إعجاز القرآن في لفظه ومعناه، وهذا هو الذي وقع عليه التحدي. قوله: (قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [يونس:15] ) ، أي: واضحات لا لبس فيها لا في ألفاظها ولا معانيها، ( {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس:15] ) ، أي: قال الذين لا يخافون، أو لا يطمعون؛ فالرجاء يطلق على الخوف الطمع، فقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس:15] ، أي: الذين لا يطمعون في لقائنا، أو الذين لا يخافون لقاءنا، ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف:110] ، أي: من كان يخاف لقاء ربه، أو من كان يطمع في لقاء ربه، فالرجاء يطلق على الخوف والطمع، فهو من المعاني المشتركة، يقول: ( {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس:15] ) ، يقولون هذا في معرض الاحتجاج والاعتراض على القرآن وعلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} ، أي: أحضر لنا قرآناً غير هذا، أو بدله، أي: غير فيه بحذف بعضه أو بالزيادة عليه أو ما أشبه ذلك من أنواع التبديل والتغيير، فجاء الجواب من رب العالمين: ( {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس:15] ) ، ولو كان من قول النبي صلى الله عليه وسلم، أو كان هو الذي تكلم به وأنشأه، أو كان قول جبريل، لكان يمكن أن يبدل أو أن يغير، لكن الله عز وجل أخبره بأنه لا يمكنه أن يبدله أو أن يأتي بغيره؛ لأنه رسول رب العالمين، ولذلك قال: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} ، أي: ما أتبع إلا ما أوحاه الله إلي، فإذا كان رسولاً متبعاً فليس إليه تبديل القرآن ولا الإتيان بغيره. قال رحمه الله: (فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم) بقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} [يونس:15] ؛ فالقرآن هو كلام الله عز وجل الذي تلاه رسوله صلى الله عليه وسلم على هؤلاء. (وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] ) : الضمير (هو) يعود إلى القرآن، فهو آيات بينات، أي: واضحات في صدور الذين أوتوا العلم، وهذه الآية لها معنيان: الأول: أن القرآن آيات واضحات في صدور الذين مَنَّ الله عليهم بالعلم، فليس فيه التباس ولا اشتباه. الثاني: أنه آيات محفوظات في صدور الذين أوتوا العلم، ولذلك قال: (في صدور الذين أوتوا العلم) . فقوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، يحتمل أنه يريد: أنه بين في صدورهم، ويعلمون أنه الحق ويدركون معانيه، ويحتمل أنه: محفوظ في صدورهم، ويحتمل أنه يريد الأمرين، وهو الصواب، أي: أن القرآن في صدور الذين أوتوا العلم حفظاً وفهماً، فكلما علا نصيب الإنسان من فهم كتاب الله عز وجل كلما كان داخلاً في هذه الآية وكان حقيقاً بها. فقوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، لا يقتصر على حفظه بل على فهمه وهو الأهم ففهم القرآن أهم من حفظ بعض حروفه كما نقل ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حيث قالا: (إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه) ، وليس هذا دعوة إلى أن يترك الإنسان حفظ القرآن، لكنه دعوة إلى أن يجتهد في فهم معناه، وإدراك معانيه، كاجتهاده في حفظه أو أشد، بل ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أن الصحابة كانت عنايتهم الفائقة في فهم الكتاب، وكان الذي يحفظ الكتاب منهم هم القلة، فالأكثرون كانوا يعتنون بمعاني كلام الله عز وجل، ولهم عناية بالحفظ، لكن كانت عنايتهم بالفهم أعظم؛ لأن الفهم هو المقصود الأول من هذا الكلام الذي أوحاه الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم.

إقسام الله على أن القرآن كلامه

إقسام الله على أن القرآن كلامه قال رحمه الله: (وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77-79] ) : (إنه لقرآن كريم) أي: هذا الكلام الذي جئت به يا محمد قرآن كريم، ومعنى: (كريم) : كثير الخير والبركة والإحسان والفضل والأجر، فالكريم فعيل بمعنى فاعل مكرم لأهله، يشفع لهم في القبر، ويشفع لهم في الآخرة، ويحصلون به خيراً كثيراً، كما قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29] ، فهو مبارك في لفظه ومعناه مبارك على حافظه والعامل به مبارك في الدنيا والآخرة والبرزخ والمحشر، بركته من أعظم البركات، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا بركة هذا الكتاب المبين. (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) أي: محفوظ، والمراد بالكتاب المكنون هنا: اللوح المحفوظ؛ فالكتاب في الكتاب المكنون، ولا يخلو هذا من أحد معنيين: المعنى الأول: أن يكون ذكره في الكتاب المحفوظ، لا جميع آياته وكلماته، وهذا نظير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] ، أي: هذا القرآن مذكور في زبر الأولين، وليس أنه قد جاءت به الرسل التي سبقت النبي صلى الله عليه وسلم. المعنى الثاني: أن القرآن بجميع آياته وألفاظه في الكتاب المكنون قبل أن يتكلم الله جل وعلا به، وهذا معنى ثانٍ لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77-79] ، والمقصود به اللوح المحفوظ والمطهرون هم الملائكة، ومن استدل بهذه الآية على أنه لا يجوز مس المصحف إلا بطهارة؛ فإن استدلاله لا يصح على هذا المعنى؛ لأن الكتاب المكنون ليس القرآن، إنما الكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ. يقول رحمه الله تعالى: (بعد أن أقسم على ذلك) ، أي: أقسم على قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77-78] ، والقسم هو قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:75-77] . وقوله: (لا أقسم) : للعلماء فيها أقوال: منهم من قال: إن (لا) هنا زائدة صلة، والتقدير: أقسم بمواقع النجوم، وقيل: هي لنفي كلام سابق مقدم، أي: لا أنظر إلى ما تقولون، ولا أستمع إلى شبهكم، وأقسم بمواقع النجوم، فهي لنفي كلام سابق، وقيل: إنها تفيد التوكيد والتحقيق لهذا القسم؛ فإن العرب تزيد (لا) في القسم لتوكيده، وقيل: هي للنفي، أي: لست محتاجاً إلى أن أقسم لوضوح الأمر وبيانه، والصحيح: أن (لا) هنا صلة تفيد توكيد القسم، ولا نحتاج إلى أن نقدر منفياً كما ذكرت في الأقوال السابقة.

القرآن كلام الله لفظه ومعناه

القرآن كلام الله لفظه ومعناه قال رحمه الله تعالى: (وقال تعالى: {كهيعص} [مريم:1] {حم * عسق} [الشورى:1-2] وافتتح تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة) . أراد المؤلف رحمه الله بهذا أن القرآن حروف ومعان، وأن الحروف كلام الله، وأن المعاني كلام الله، لا أن الحروف كلام الله دون المعاني، ولا أن المعاني كلام الله دون الحروف، بل القرآن حروفه ومعانيه كلام الله تعالى، وهذا الذي أجمع عليه سلف الأمة، وهو يرد بهذا على من قال: إن القرآن كلام الله من حيث المعنى، أما الحروف فإنها ليست كلام الله كما هو قول الكلابية والأشعرية، وأول من قال إن المعاني هي كلام الله دون الحروف هو عبد الله بن سعيد بن كلاب، وهو أول من أظهر هذا القول في الإسلام، ثم تبعه عليه أبو الحسن الأشعري، ثم قال به كثير من الناس ممن يتبع هذين بعد ذلك، والذي عليه سلف الأمة ودل عليه الكتاب والسنة: أن القرآن كلام الله لفظه ومعناه، فليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الألفاظ، بل الحروف والمعاني هي كلام الله جل وعلا. أما هذه الحروف المقطعة التي افتتح الله بها بعض السور، فقد اختلف العلماء رحمهم الله في تفسيرها على أقوال كثيرة نجملها في ثلاثة: القول الأول: أنه لا معنى لها مطلقاً، وليس لها معنى في ذاتها، وهذا القول قول مجاهد بن جبر إمام التفسير، وقد أخذ تفسيره عن ابن عباس وغيره من الصحابة، لكنه ممن اختص بـ ابن عباس رضي الله عنه. هذا القول استدل له بأن الله عز وجل وصف القرآن بأنه كتاب عربي مبين، وأنه أنزله بلسان عربي مبين، والعرب لا تعرف لهذه الحروف المقطعة معاني؛ هذا القول الأول. القول الثاني: أن هذه الحروف لها معانٍ، وانقسم هؤلاء إلى قسمين، قسم قالوا: لها معنى الله أعلم به، ولا ندرك نحن معناها، والقسم الثاني قالوا أقوالاً في بيان معانيها، فمنهم من قال: إنها أسماء للسور، ومنهم من قال: إنها أسماء للرسول، ومنهم من قال: إنها أسماء من أسماء الله عز وجل، ومنهم من قال: إنها تعبر عن عمر هذه الأمة، وقيل غير ذلك. القول الثالث: التوقف، ومعنى التوقف: أنهم لا يجزمون بأحد القولين، لا يقولون: إن لها معنى، ولا يقولون: ليس لها معنى، بل يتوقفون. هذه ثلاثة أقوال لأهل العلم في الحروف المقطعة التي افتتح الله بها بعض سور القرآن، والراجح من هذه الأقوال الثلاثة هو القول الأول، وهو: أن ليس لها معنى مطلقاً. وإذا كان ليس لها معنى، فهل منها فائدة؟ A نعم، منها فائدة، وفائدتها بيان إعجاز القرآن، وذلك الملاحظ في جميع موارد هذه الأحرف: أنه يأتي بعدها ذكر القرآن تعظيماً وامتناناً، ولم ينخرم هذا الاطراد إلا في موضعين فقط من جميع المواطن، حيث كانت هذه الأحرف معقبة متلوة بذكر القرآن: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1-2] {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1-2] {حم * تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:1-2] وما أشبه ذلك من المواطن التي تذكر فيها هذه الحروف، ثم بعد ذلك يشيد الله جل وعلا بالقرآن الكريم، ولم ينخرم هذا إلا في سورة الروم: {الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:1-3] . وأيضاً في العنكبوت {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1-2] . لكن إذا تأملت في هذه السور التي لم يأت فيها ذكر القرآن صريحاً تجد أنه ذكر فيها ما لا يتلقى إلا من القرآن، فمثلاً قال تعالى في سورة الروم: {الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:1-3] ، هذا خبر عن واقع، وهو ما حدث من ظهور فارس على الروم: {غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:2-3] ، وهذا لا يتلقى من غير القرآن، فلذلك تجد أنه ما لم يذكر فيه القرآن صريحاً في المواضع التي ذكرت هذه الحروف المقطعة ذكر فيها شيء يتعلق بالقرآن، أو لا يمكن ألا يتوصل وألا يحصل إلا من القرآن، فعادت كسائر المواضع أنها بيان للإعجاز. ووجه الإعجاز في هذه الأحرف: أنها من كلام العرب الذي يتكون من هذه الكلمات، ومع ذلك عجزوا عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بسورة من مثله.

منزلة إعراب القرآن في الشرع

منزلة إعراب القرآن في الشرع قال المؤلف رحمه الله: (وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فأعربه) أي: أفصح في قراءته وأبان، ولم تلتبس عليه الكلمات، (فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه) أي: مال عن القراءة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، (فله بكل حرف حسنة) ، وقد روي هذا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه في جامع الترمذي وفيه: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، والحديث صحيح، قال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. ثم ذكر حديث رسول الله: (اقرءوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة السهم) ، أي: يعتنون بإقامة كلماته، (لا يجاوز تراقيهم) ، أي: أنه لا ينفذ إلى قلوبهم؛ لأن الترقوة هي العظمة التي تحيط بالنحر؛ فهم يقتصرون في قراءة القرآن على إقامته على اللسان دون أن ينفذ إلى قلوبهم إصلاحاً وتزكية وتربية، هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجاوز تراقيهم) وقوله: (يتعجلون أجره ولا يتأجلونه) ، أي: يتعجلون تحصيل نفعه والكسب من ورائه في الدنيا ولا يتأجلونه، أي: ولا يحتسبون ذلك عند الله عز وجل في الآخرة، فهم يقرءون إما ليحصلوا كسباً دنيوياً أو ما أشبه ذلك من الأمور التي يدركها بعض من يقرأ القرآن في الدنيا، ولا ينظرون إلى ثواب الآخرة وأجرها، وما أعد الله عز وجل لأهل القرآن فيها. وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: (إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه) ، إعراب القرآن، أي: الإفصاح به وإدراك معانيه. لماذا جاء التركيز على الإعراب؟ لأن الإعراب سلم الفهم، فلا يمكن للإنسان أن يفهم كلام الله إلا إذا أعربه، ولذلك قال ابن عطية رحمه الله: إعراب القرآن أصل في الشريعة؛ لأن به تقوم معانيه التي هي من الشرع. فالمقصود: أن إعراب القرآن بلغ هذا الشأن وهذه الأهمية وهذه المنزلة؛ لأنه سبيل فهم الألفاظ، فإذا لم يقم الإنسان الإعراب لم يتمكن من فهم القرآن، وليس الإعراب أن يعرف الفاعل من المفعول دون أن يفهم ما يترتب على هذا الفهم من الفاعل والمفعول. بل المقصود من الإعراب: أن يفهم كلام الله عز وجل، وأن يدرك المعنى الذي جاءت به الآيات.

حكم من جحد حرفا من القرآن

حكم من جحد حرفاً من القرآن وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (من كفر بحرف فقد كفر به كله) ، وهذا مما لا إشكال فيه: فمن أنكر كلمة أجمعت الأمة أنها من القرآن فقد كفر به كله، أي: كفر بجميعه؛ لأن الإيمان لا يتم ولا يثبت بناؤه ولا يستقر قراره إلا بعد أن نؤمن بجميع القرآن، فمن آمن ببعضه وكفر ببعض فإنه لم يؤمن به؛ لأن الله لم يرض من الإيمان بالكتاب إلا أن يؤمن بجميع ما أخبر به سبحانه وتعالى، وجميع ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم. وإنما قلنا: ما أجمع عليه العلماء؛ لما وقع من الخلاف في بعض الحروف، هل هي من القرآن أم لا؟ وذلك تبعاً لاختلاف أهل القراءات، فلذلك من كفر بحرف أجمع العلماء على أنه من القرآن فقد كفر به كله. قال رحمه الله: (واتفق المسلمون على عد سور القرآن، وآياته، وكلماته وحروفه) ، فأهل الإسلام اعتنوا بهذا القرآن عناية فائقة في ضبطه والإحاطة به، ومعرفته، وهذا من نعمة الله عز وجل على هذه الأمة: فإنه سبحانه وتعالى لم يكل حفظ القرآن إلى فئة من الناس، بل إن الأمة تلقت هذا القرآن جيلاً بعد جيل ينقله السلف عن الخلف بكلمات ثابتة واضحة تلقته الأمة قرناً بعد قرن، ولم يجر فيه أي تغيير، فاذهب حيث شئت من أرض ِأو في سماء تجد أن الأمة متفقة على هذا القرآن ليس بينهم اختلاف فيه، نعم. قد يختلفون في طريقة أداء القرآن من حيث القراءة، لكنهم لا يختلفون على حروفه وكلماته وآياته، فهي محفوظة بحفظ الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] . يقول: (ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفاً متفقاً عليه أنه كافر؛ لأنه آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف) . وكل هذا لبيان وإبطال قول الذين قالوا: إن القرآن معاني لا حروف، والمؤلف رحمه الله أطال في مسألة الحرف والمعنى؛ لكونه يرد على الأشاعرة الذين يقولون: إن القرآن معناه من الله وحروفه من جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم. ولو كانت الحروف من غير الله لما بلغت هذا المبلغ من التعظيم والحفظ والصيانة والمكانة، وأنتم تعلمون أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز العلماء نقله بالمعنى، لكن هذا لم يأت في القرآن، فالأمة مجمعة أنه لا يجوز نقل القرآن إلا كما سمع، وكما تلقته الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا يكون قد انتهى الفصل المتعلق بتقرير أن القرآن كلام الله، ونقف عليه، ونكمل إن شاء الله تعالى في الدرس القادم.

شرح لمعة الاعتقاد [7]

شرح لمعة الاعتقاد [7] إن مما أجمع السلف رضوان الله عليهم وجاء به القرآن والسنة إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، وقد فصل الشيخ أدلتهم والرد على غيرهم في هذه المسألة وما يتعلق بها تفصيلاً حسناً.

إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة

إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى: [فصل: والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه ويكلمهم ويكلمونه، قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضا وإلا لم يكن بينهما فرق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) حديث صحيح متفق عليه، وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي، فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير] .

مذاهب الفرق في إثبات الرؤية

مذاهب الفرق في إثبات الرؤية هذا الفصل عقده المؤلف رحمه الله تعالى لبيان عقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة الرؤية، فإن أهل السنة والجماعة يؤمنون بما دل عليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم صراحة من أن المؤمنين يرون ربهم، وإثبات الرؤية جاء في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، واتفق عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون ومن تبعهم من أئمة الدين. فالرؤية من أعظم ما ينعم به أهل الجنة نسأل الله أن نكون منهم، والأدلة متواترة مستفيضة في إثبات هذا الفضل. وقد خالف في إثبات الرؤية المعتزلة والرافضة والجهمية، وكذلك خالف في هذا الأشاعرة، فهم يقولون: بأن المؤمنين يرون ربهم، لكنهم يخالفون أهل السنة والجماعة في هذا الإثبات، فيقولون: يرونه من غير معاينة ولا مواجهة، وهذا القول انفردوا به دون سائر الناس، وهو من عجائب الأقوال؛ لأن إثبات الرؤية في غير جهة ومن غير معاينة أمر لا يعقل، إذ لابد للرؤية من أن يكون المرئي في جهة وأن يعاين، وإلا فلا تقع رؤية، ولذلك قال محققوهم -أي محققو الأشاعرة-: إن قولهم في الحقيقة قول المعتزلة الذين ينفون الرؤية، أي: ينفون رؤية المؤمنين لله عز وجل في الآخرة. فهذه الصفة يثبتها أهل السنة والجماعة كما دل عليها الكتاب والسنة وإجماع السلف. يقول المؤلف رحمه الله: (والمؤمنون يرون ربهم) ، المؤمنون: هم كل من آمن بالله وباليوم الآخر وأتى ببقية أصول الإيمان، (يرون ربهم بأبصارهم) ، فأثبت الرؤية وأثبت آلتها، فالباء بقوله: (بأبصارهم) للاستعانة، أي: لبيان الآلة التي تحصل بها الرؤية، أي يرونه بأعينهم، وإنما نص على الأبصار نفياً لقول من يقول: إن الرؤية ليست رؤية بصر وإنما هي رؤية كشف، فيكشف لهم من المعارف والعلوم ما ليس لغيرهم، يكشف لهم يوم القيامة من معرفة الرب جل وعلا مالم يكن يعرفونه، وأيضاً للرد على الأشاعرة بالتنصيص على الأبصار لأنهم يقولون: إنهم يرونه من غير معاينة ولا في جهة، فإنه لا يدرك ولا يعقل رؤية بالبصر إلا ما كان في جهة. والمعتزلة أولوا هذا الذي جاءت به النصوص إلى أنه رؤية كشف أو رؤية ثواب الله عز وجل، فالذين لا يثبتون الرؤية يؤولونها برؤية الثواب أو برؤية كشف يحصل لأهل الإيمان.

حصر الرؤية في الآخرة على المؤمنين

حصر الرؤية في الآخرة على المؤمنين وقوله رحمه الله: (والمؤمنون يرون ربهم بأبصارهم) يفيد حصر الرؤية في أهل الإيمان، فخرج بذلك أهل الكفر وأهل النفاق، أما أهل الكفر فلأنهم ليسوا مؤمنين لا في الظاهر ولا في الباطن، وأما أهل النفاق فلأنهم لم يحققوا الإيمان الذي به يحصل الفضل والسبق، وإن كانوا قد أتوا بالإسلام في الظاهر، لكنه لم ينفذ إلى قلوبهم فلم ينتفعوا به. أما دليل حصر الرؤية بالمؤمنين فالأدلة في ذلك كثيرة: منها: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] كما ذكر المؤلف رحمه الله، فالوجوه التي بشرها الله عز وجل بالنضارة يوم القيامة هي وجوه المؤمنين ولا تكون للكفار، بل وجوه الكفار عليها غبرة ترهقها قترة. فالوجوه الناضرة هي وجوه أهل الإيمان كما قال الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران:106] ، فالمسودة هي وجوه أهل الكفر، وكذلك قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] فقد جاء تفسير الزيادة: بأنها النظر إلى الله عز وجل كما في الصحيح للإمام مسلم من حديث صهيب وفيه: (إذا دخل أهل الجنة الجنة ناداهم الله أو ناداهم مناد: إن لكم موعداً عند الله عز وجل يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يدخلنا الجنة ويعيذنا من النار؟ فيقول: بلى، فيكشف الحجاب، فينظرون إلى الله عز وجل) فما يكون من نعيم الجنة شيء عندهم ألذ ولا أطيب ولا أكمل ولا أرضى من النظر إلى الله جل وعلا!!

شبهات حول مسألة الرؤية

شبهات حول مسألة الرؤية

الجواب على المستدلين لنفي الرؤية بقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار)

الجواب على المستدلين لنفي الرؤية بقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) فالأدلة متواترة على إثبات النظر لأهل الإيمان، ولا يلزم منه أن يدرك الناظر ربه جل وعلا، فإن النظر لا يلزم منه الإحاطة والإدراك، ولذلك قال الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ، وقد استدل نفاة الرؤية بهذه الآية على ما ذهبوا إليه من أنه لا يرى جل وعلا، يقول الله جل وعلا: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ، فإذا كانت لا تدركه الأبصار فإنه لا يرى. نقول في الجواب على هذا: إن نفي الإدراك أمر زائد على نفي النظر، ولم يأت دليل ينفي النظر، وأما نفي الإدراك فقد تنظر إلى الشيء لكن لا تدركه، فالإنسان ينظر إلى السماء لكنه لا يحيط بها ولا يدركها، وينظر إلى القمر ولكنه لا يدركه ولا يحيط به، وينظر إلى الشمس ولكنه لا يدركه ولا يحيط به، بل ينظر إلى المخلوق الصغير الذي يمكن أن يحاط بوصفه ولكن قد لا يدركه ولا يحيط به، فليس من لازم الرؤية الإدراك، والمنفي في الآية هل هو مجرد النظر أو أصل النظر أم أنه الإدراك؟ المنفي هو الإدراك، وفرق بين نفي الإدارك ونفي الرؤية.

الجواب على المستدلين لنفي الرؤية بقوله تعالى: (لن تراني)

الجواب على المستدلين لنفي الرؤية بقوله تعالى: (لن تراني) واستدلوا على نفي الرؤية بقول الله تعالى لموسى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ولكن هذا الاستدلال في غير محله؛ لأن نفي الرؤية في قول الله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] هو في تلك الساعة، ولو كان يستحيل أن يرى لقال لموسى: إنني غير مرئي، أو لا تمكن رؤيتي بالكلية، أما {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] فهو نفي للطلب الذي طلبه في تلك الساعة، و (لن) لا تفيد تأبيد النفي كما زعمه بعض المعتزلة حيث قالوا: (لن) تفيد التأبيد، وقد رد عليهم أهل اللغة وأئمة اللسان وقالوا: إن (لن) لا تفيد التأبيد، فسقط استدلالهم. وبقية الأدلة سالمة محفوظة من أن يطرأ عليها ما يناقضها أو يردها: {أَفَلَا يَتَدَبَرُنَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] .

خلاف أهل السنة والجماعة في إثبات رؤية الكفار لربهم يوم القيامة

خلاف أهل السنة والجماعة في إثبات رؤية الكفار لربهم يوم القيامة هل يرى الكفار الله جل وعلا يوم القيامة؟ ذكرنا قول المؤلف رحمه الله: (والمؤمنون يرون ربهم بأبصارهم) ، في حصر الرؤية للمؤمنين، فإن أهل الكفر لا يوصفون بالإيمان وأهل النفاق لا يوصفون بالإيمان وإن كانوا مسلمين في الظاهر، وهذا في الجنة لا إشكال فيه، فإن الجنة لا يدخلها إلا مؤمن، فما ذكر من نعيم أهل الجنة من التنعم بالنظر إلى الله عز وجل لا يكون إلا لأهل الإيمان؛ لأنه لا يدخلها إلا مؤمن. أما في عرصات القيامة فاختلف العلماء رحمهم الله من أهل السنة في رؤية الكفار لله عز وجل على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه لا يراه في أرض المحشر يوم القيامة إلا أهل الإيمان دون غيرهم؛ لقوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، فأخبر الله عز وجل عن حجب الكفار عن الرؤية، فقوله: (يومئذ) يعني: يوم القيامة، وهذا عليه أكثر أهل العلم من المتأخرين. القول الثاني: أنه يراه المؤمنون من هذه الأمة ويراه أيضاً أهل النفاق، أي: أهل الكفر الباطني، أما من أظهر الكفر فإنه لا يراه، واستدلوا لهذا بحديث أبي سعيد وأبي هريرة في الصحيحين وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا جمع الله الناس نادى مناد: ليتبع من كان يعبد شيئاً ما كان يعبد، فيتبع أهل الشمس الشمس، ويتبع عباد القمر القمر، ويتبع عباد الطواغيت الطواغيت، فلا يبقى إلا هذه الأمة وفيها منافقوها، فيأتيهم الله عز وجل في صورة غير التي يعرفون، ثم يأتيهم بالصورة التي يعرفونها؛ فيسجد أهل الإيمان وفيهم أهل النفاق، فيريدون أن يسجدوا فلا يتمكنون من السجود) فقالوا: إن هذا الحديث يدل على أنهم يرونه. القول الثالث: أنه يراه أهل المحشر مسلمهم وكافرهم، ولكن هذه الرؤية يختلف فيها الناس، كما أن رؤية الله جل وعلا في الجنة يختلف فيها أهل الجنة تفاضلاً ومنزلة، فكذلك الرؤية في المحشر، فإنهم يتفاوتون فيها تفاوتاً بيناً كبيراً، فأهل المحشر ينقسمون إلى قسمين في الرؤية، فأهل الإيمان يرونه رؤية تعريف، وهذه دون ما يكون لهم في الجنة، أي: أنها أنزل مما يكون لهم في الجنة، ولذلك إذا رأوه جل وعلا في الجنة لم يكن شيء أنعم ولا أطيب من النظر إليه عز وجل، فدل ذلك على أنها خلاف ما كان في أرض المحشر. ثم إن أهل الجنة إذا قال لهم المنادي: إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، يقولون: ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يدخلنا الجنة؟ ألم ينجنا من النار؟ ولم يذكروا تلك الرؤية التي جرت في المحشر، فالرؤيا التي تكون لأهل الإيمان في المحشر دون ما يكون لهم في الجنة، فهي رؤية تعريف. أما رؤية الكفار على هذا القول بأنهم يرونه في المحشر، فإنها رؤية تعذيب وتحسير، وليست رؤية تنعيم وتكليم، واستدلوا لهذا بقوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، بنفس الآية التي استدل بها القائلون بعدم الرؤية، كيف ذلك؟ قالوا: إن الحجب لا يكون إلا بعد اطلاع، وهذه الأقوال كلها مما تكلم به أهل السنة والجماعة، فالخلاف في هذا خلاف محتمل، لا يخرج من اختار قولاً من هذه الأقوال عن دائرة أهل السنة باختياره.

ترك التخصيص إذا أوهم معنى قبيحا

ترك التخصيص إذا أوهم معنى قبيحاً يبقى تنبيه مهم: أنه على القول بالثالث، وهو أن أهل المحشر جميعهم يرون الله مسلمهم وكافرهم، لا يسوغ أن يطلق بأن الكفار يرون الله، فلا يسوغ أن يأتي أحد ويقول: الكفار يرون الله؛ لأن إطلاق الرؤية يقتضي التكريم والتنعيم، ورؤية الكفار لله عز وجل ليست رؤية إكرام وتنعيم، فلا يسوغ هذا الإطلاق؛ لأن الإطلاق يوهم الإنعام والتكريم، وأفضل النعيم هو نعيم أهل الجنة، فلا يسوغ إشراك الكفار فيها، أو تسويتهم بأهل الإيمان. الوجه الثاني الذي يمتنع به الإطلاق: أنه ما ورد في الشريعة من الأحكام العامة كقول: الله خالق كل شيء، إذا كان يلزم من تخصيصه نقص فإنه لا يسوغ التخصيص، وكذلك إذا كان يلزم من التخصيص معنى قبيح فإنه لا يسوغ التخصيص، مثاله كما قلنا: الله خالق كل شيء، هل يسوغ للإنسان أن يقول: الله خالق الكلاب، أو يدعو فيقول: يا خالق الكلاب! ارزقني؟ لا يسوغ، لماذا لا يسوغ مع أن الله خالق كل شيء ومن ذلك الكلاب؟ لأن مثل هذا يوهم معنى قبيحاً، والحكم العام إذا كان تخصيصه يقتضي معنى قبيحاً فإنه لا يسوغ أن يأتي به الإنسان. مثله أيضاً: الإرادة، فما من شيء في الكون إلا أراده الله تعالى، ولكن لا يسوغ للإنسان أن يقول: يا مريد الزنا! ارزقني العفاف؛ لأن الإرادة وردت عامة في كل شيء، فتخصيصها إذا كان يترتب عليه إيهام معنى قبيح فإنه لا يجوز التخصيص. مثاله الرؤية، جاء الخبر بأنه ما من أحد إلا سيرى الله: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) ، وهذا من الأدلة التي استدل بها القائلون بأن الكافرين يرون الله في المحشر، وفي رواية: (ما منكم أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) قالوا: إن هذا يلزم منه أنهم يرونه في المحشر حتى الكفار، فإذا ورد النص المطلق فلا يسوغ أن نخصص ونقول: يراه الكفار يوم القيامة، وذلك للمعنى الأول الذي ذكرناه؛ ولأن التخصيص يوهم معنى قبيحاً، فلأجل هذين المعنيين منع أهل العلم من إطلاق إضافة الرؤية للكفار، بل لابد من التخصيص، يقال: يرونه في المحشر ثم يعذبون بالاحتجاب أو ما أشبه ذلك من التقييدات.

حقيقة الرؤية وذكر بعض أدلتها

حقيقة الرؤية وذكر بعض أدلتها

حجب الكافرين عن رؤية الله ومعناه

حجب الكافرين عن رؤية الله ومعناه يقول رحمه الله: وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] (إنهم) أي: أهل الكفر، (عن ربهم لمحجوبون) فهم محجوبون عن النظر إلى الله عز وجل، وهذا في حق الكفار. يقول المؤلف رحمه الله: (فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضا) ، فدلالة الآية على إثبات الرؤية من وجهين: الأول: حجب الكفار عن ربهم. الوجه الثاني: مفهوم المخالفة وهو أن المؤمنين يرون ربهم جل وعلا، ولذلك ذكر المؤلف رحمه الله نوعي الدلالة في الآية: دلالة المطابقة، ودلالة المخالفة، فدلالة المطابقة في قوله: حجب أولئك في حال السخط، ودلالة المخالفة في قوله: أن المؤمنين يرون ربهم في حال الرضا. فإذا كان من عقوبة أهل الكفر أنهم لا يرونه سبحانه وتعالى حال الغضب، فكذلك تدل الآية بمفهوم المخالفة أن المؤمنين يرون ربهم سبحانه وتعالى. قال: (وإلا لم يكن بينهم فرق) أي: إذا لم يكن أهل الإيمان يرونه في حال الرضا وهم كالكفار في الحجب، فما فائدة الإخبار بأن الكفار يحجبون عن الله عز وجل؟! فدلت الآية دلالة واضحة على أن أهل الإيمان ينعمون برؤيته جل وعلا كما أن أهل الكفر يعاقبون بحجبهم عنه سبحانه وتعالى.

الحكمة في تشبيه رؤية الله برؤية الشمس والقمر

الحكمة في تشبيه رؤية الله برؤية الشمس والقمر وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) حديث صحيح متفق عليه، وهذا الحديث رواه الإمام البخاري والإمام مسلم وغيرهما من حديث جرير بن عبد الله، وقد جاء من حديث غيره، لكن هذا اللفظ في حديث جرير بن عبد الله يقول شيخ الإسلام رحمه الله: وهو من أصح الأحاديث. وقد أجمعت الأمة على قبوله وتلقيه بالقبول. وفيه إثبات رؤية المؤمنين لله عز وجل: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر) والمشار إليه هو القمر المعروف الذي في السماء، وفي بعض الروايات: (كما ترون الشمس ليس دونها سحاب، والقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) أي: لا يلحقكم ضيم في رؤيته، بل ترونه في سعة، وفي رواية أخرى: (لا تضامّون في رؤيته) أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض لتروه بل هو جلي واضح؛ فالناس إذا أرادوا أن يتراءوا الشمس، هل يحتاج أحدهم أن يقترب إلى الآخر حتى يرى الشمس أم أن كل واحد يراها وهو منفرد عن الآخر بدون تضام واجتماع؟ وهل يلحقهم ضيم في رؤيتها؟ لا، فمن أوسع ما يكون رؤية القمر والشمس، أما رؤية الهلال في أول إهلاله فيحتاج الناس فيه إلى تضام حتى يروه في الغالب، لذلك تجد أحدهم يقترب من الآخر ليريه مكان الهلال، وكذلك يحصل عليهم ضيم؛ لأن إدراكه ليس بالأمر السهل، أما رؤية الشمس والقمر فإنه لا تضام فيها ولا ضيق على أهلها؛ ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا القمر والشمس لأمرين: الأمر الأول: أنهما أعظم ما يرى في الدنيا، فأعظم ما يراه أهل الدنيا وأوضحه الشمس والقمر. الثاني: أن كيفية رؤية الشمس والقمر من أسهل ما يكون، فيراها الحاضر والبادي، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، فليس هناك إشكال في رؤيته، فلا عسر في الرؤية، فهي من أسهل ما يكون، فاجتمعت سهولة الرؤية ووضوحها، فالوضوح من أوضح ما يكون، والسهولة واليسر من أسهل وأيسر ما يكون، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) . يقول رحمه الله: (وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي) ، أي: فلو قال قائل: إن هذا تمثيل، فقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل بالقمر. نقول: لا، ليس التشبيه للمرئي بالمرئي، إنما التشبيه للرؤية، فالكاف في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون) لتشبيه الرؤية، ولذلك قال: (كما ترون) ؛ (ما) : هنا مصدرية، و (ترون) فعل، ما المصدرية والفعل الذي بعدها تؤول بمصدر تقديره: كرؤيتكم، هذا معنى قوله رحمه الله: (هذا تشبيه للرؤية) ، فالمعنى: إنكم سترون ربكم كرؤيتكم القمر، أي: في الوضوح وعدم التضام والضيق في الرؤية، فالتشبيه للرؤية لا للمرئي، أما الله جل وعلا فليس كمثله شيء وهو السميع البصير. قال رحمه الله: (فإن الله لا شبيه له ولا نظير) . أي: لا مثيل له ولا مساو؛ لأن الله تعالى نفى عن نفسه الند والنظير والمثيل والكفء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] ، فليس له ند، ولا يمكن أن يمثل بغيره، كما قال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] . فلا يجوز أن يقال: المرئي كالمرئي فالله تعالى كالقمر، بل تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] .

إثبات زيارة المؤمنين لله عز وجل

إثبات زيارة المؤمنين لله عز وجل يقول رحمه الله: (والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم ويزورونه) : هذا فيه إثبات زيارة المؤمنين لله عز وجل، وحديث الزيارة رواه الدارقطني وغيره عن ابن مسعود وأنس وأبي هريرة وابن عباس وعن غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وقد جاء ذلك أيضاً عن جماعة من التابعين. يقول شيخ الإسلام رحمه الله في حديث الرؤية: وهذه الأحاديث عامتها إذا جرد إسناد الواحد منها لم يخل عن مقال قريب أو شديد، لكن تعددها وكثرة طرقها يغلب على الظن ثبوتها في نفس الأمر. يعني: أن الزيارة ثابتة، وإن كان أفراد هذه الأحاديث ضعيفة. قال رحمه الله: بل قد يقتضي القطع بثبوت الزيارة، فقد روي عن الصحابة والتابعين ما يوافق ذلك، وذكرنا أن المروي عن الصحابة في الزيارة من طريق ابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وأنس، وحديث أنس أمتن الأحاديث في ذلك لم تذكر فيه الزيارة، فقد روى الإمام مسلم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة لسوقاً يأتيه أهل الجنة كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو على ثيابهم ووجوههم فيزدادون طيباً وجمالاً، فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا طيباً وجمالاً أو حسناً وجمالاً، فيقولون لأهليهم: لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقول أهلهم لهم: وأنتم أيضاً ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً) ، فهذا الحديث في صحيح مسلم ليس فيه زيارة لله عز وجل، لكنه جاء عند الدارقطني بأسانيد متعددة عن جملة من الصحابة أن هذه الزيادة ليس سببها الريح فقط، بل سببها الريح ورؤية المؤمنين الله عز وجل، كما قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] (ناضرة) أي: اكتسبت نضرة وجمالاً، ثم ذكر السبب في هذه النضارة وهي النظر إلى الله عز وجل فقال: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] . إذاً: أحاديث الزيارة ثابتة، فزيارة المؤمنين لله عز وجل ثابتة، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (ويزورونه) . قوله: (ويكلمهم) فيه إثبات الكلام أيضاً، وهو ثابت في الصحيحين وفي غيرهما: (ما منكم أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) ، وهذا يعم المسلم والكافر، لكن الفرق في نوع التكليم، فإن تكليم الله لأهل الإيمان تكليم رحمة وبر وتنعيم، وأما تكليمه لأهل النفاق فهو تكليم تقريع وتعذيب وذم، وتكليم الله للكفار ليس مقتصراً على أرض المحشر، بل يكلمهم في المحشر ويكلمهم إذا صاروا إلى النار نسأل الله السلامة والعافية منها؛ فإنهم إذا سألوا التخفيف من العذاب يقول الله عز وجل لهم فيها: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] ، فهذا كلام رب العالمين لأهل النار، فنفي التكليم إنما هو في حال من الأحوال في أرض المحشر، أو يكون المنفي من التكليم هو تكليم البر والإحسان والرحمة والإنعام. قال رحمه الله: (ويكلمونه) فيكلمهم الله عز وجل ويكلمونه. قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وهذه من أقوى الأدلة التي يثبت بها أهل السنة والجماعة نظر المؤمنين لله عز وجل يوم القيامة، فإن الله أخبر عن وجوه أهل الإيمان بالنضارة، فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] أي: حسنة جميلة منعمة مكرمة، فيها من البهاء والنور والجمال ما ليس في غيرها، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] أي: إلى الله جل وعلا ناظرة، فأضاف نظر أهل الإيمان إلى الرب، ثم النظر بأي شيء كان؟ بالقلوب أم بالوجوه؟ بالوجوه، ولذلك قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] ، فنص على الوجوه التي فيها آلة النظر، وهذا دليل ما ذكره المؤلف رحمه الله من أنهم يرونه بأبصارهم؛ لأنه أخبر عن الوجوه بأنها ناضرة إلى ربها، فالوجوه هي التي تنظر إلى ربها وتنظر إليه بأبصارها، بالآلة التي يحصل بها النظر في الوجه وهي البصر، فلا يمكن أن يقول قائل: إنها رؤية كشف؛ لأن الكشف لا يكون للأبصار، بل يكون للقلوب، ولا يمكن إن يقال: إنه نظر إلى النعيم؛ لأن الله أضاف النظر إليه جل وعلا فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا} [القيامة:22-23] فلا يسوغ أن يقال: إلى نعيم ربها، لأنه أضاف النظر إليه جل وعلا، فمن حرف الكلم عن مواضعه وقال: إنه النظر إلى النعيم يكون قد خرج عما دلت عليه الآية من إضافة النظر إليه جل وعلا، فهذه الآية من أقوى وأظهر وأصرح الأدلة في إثبات نظر المؤمنين لربهم جل وعلا، نسأل الله أن نكون منهم.

رؤية الله في الدنيا

رؤية الله في الدنيا

لا يرى الله سبحانه وتعالى في الدنيا يقظة

لا يُرى الله سبحانه وتعالى في الدنيا يقظةً مسألة: هل يرى الله عز وجل في الدنيا أو لا؟ جواب هذه المسألة: أن أهل السنة والجماعة ذهبوا إلى أن الله عز وجل لا يراه أحد من الناس في الدنيا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) كما في صحيح الإمام مسلم، وهذا يدل دلالة واضحة على أن رؤية الله في الدنيا لا تكون، وأن كل من قال: إنه رأى الله أو ادعى ذلك فإنما أتي من قبل وهم أو خيال أو ظن، والذي رآه ليس هو الله جل وعلا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يرى في الدنيا، وقد منع الله جل وعلا أحد أولي العزم من الرسل وهو موسى عليه السلام من أن يراه، فكيف بمن دونه من سائر المؤمنين؟ فإن الله جل وعلا لما قال له موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] فمنعه من أن يراه، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على ذلك فيما يتعلق بأهل الإيمان، والخلاف الذي وقع هو في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، هل رأى الله جل وعلا أم لا؟ فقد اختلف أهل السنة والجماعة على قولين، فأنكر هذا جمهورهم، فمن الصحابة ابن مسعود وغيره، وأثبت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه يقظة جماعة من العلماء، واحتجوا لذلك بما جاء عن ابن عباس وجماعة من الصحابة من أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه. ولكن هذا الذي ذكروه ليس في كلام الصحابة ما يؤيده، بل ما في كلام الصحابة إما إثبات الرؤية مطلقاً كما جاء ذلك عن ابن عباس وعن غيره، وإما أن يكون ذلك مقيداً برؤية القلب أو الفؤاد، فما كان مطلقاً فإنه يحمل على المقيد من كلامهم، والصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه يقظة، إنما رآه في المنام، وما كان من الرؤية التي ذكرها بعض الصحابة فهي رؤية قلب وفؤاد وليست رؤية عين.

خلاف العلماء في حكم رؤية الله في المنام

خلاف العلماء في حكم رؤية الله في المنام مسألة: هل يرى الله جل وعلا في المنام؟ من العلماء من قال: إنه يرى في المنام، والأكثرون على أنه لا يرى، وأن ما يراه الإنسان في منامه ويظن أنه الله جل وعلا فليس هو الله؛ لأن الله عز وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) والموت: هو مفارقة الروح البدن مفارقة تامة كاملة، ولا يصدق هذا على النائم؛ لأن النائم ميت من بعض الوجوه فقط، ولا يصدق عليه أنه ميت مطلقاً، فلا يمكن أن نحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) على حال النوم باعتبار أن النوم موت، لكن نقول: إن الموت الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم هو الموت الكامل الذي يحصل به تمام مفارقة الروح للبدن، وينقطع به العمل، أما النائم فموته موت نسبي وليس موتاً تاماً، وهذا يدل على أنه لا يرى في المنام. وذهب جماعة من العلماء إلى أنه يرى في المنام، وقال شيخ الإسلام: إن النائم يمكن أن يرى الله عز وجل وما يراه في منامه هو على قدر إيمانه، فكلما كمل إيمانه كان رؤيته أتم وأكمل. والذي يظهر أنه لا يمكن لأحد أن يجزم بأنه رأى الله جل وعلا، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد رأى ربه ولا إشكال في منامه، فقد جاءت فيها أحاديث متعددة منها حديث: (رأيت ربي البارحة بأحسن صورة) ، فهذا يحمل على رؤية المنام، وأما من عدا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا دليل على ثبوت الرؤيا في حقه. ثم ما تراه لا تجزم بأنه الله؛ لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وبهذا يكون قد انتهى ما ذكره المؤلف رحمه الله فيما يتعلق بالرؤية، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.

شرح لمعة الاعتقاد [8]

شرح لمعة الاعتقاد [8] الإيمان بالقدر من أركان الإيمان الستة التي يجب على العبد اعتقادها والإيمان بها، ومن مراتب القدر مرتبة الخشية والإرادة، وهي تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية، فلا يقع شيء في الكون إلا بإرادة الله سبحانه وتعالى، فلا محيد للعبد ولا مهرب عن مقدوره جل وعلا.

الإيمان بالقدر

الإيمان بالقدر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ومن صفات الله تعالى أنه فعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يكون إلا عن تدبيره، ولا محيد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] ، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] ، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125] . روى عمر أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فقال جبريل: صدقت) متفق عليه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره) ، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت) . ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره وفعل نواهيه، بل يجب أن نؤمن ونعلم أن الله أنزل الحجة علينا بإنزال الكتب وبعثة الرسل، قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] ونعلم أن الله سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحداً على معصية، ولا اضطره إلى ترك طاعة، قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] فدل على أن للعبد فعلاً وكسباً يجزى على حسنه بالثواب وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره] .

تعريف القدر لغة وشرعا

تعريف القدر لغة وشرعاً والقدر يطلق في اللغة على التقدير، والمراد به في كلام النبي صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) المراد به: علم الله بالكائنات وحكمه فيها. وعرفه جماعة من العلماء بأنه الحكم الكوني، يعني: الحكم وقضاء الله عز وجل في الكون، وعرفه آخرون بأنه علم الله وكتابته ومشيئته وخلقه، وهذا تعريف يسير سهل يجمع لك بيان القدر وبيان مراتب الإيمان بالقدر.

مراتب القدر

مراتب القدر والإيمان بالقدر على مراتب: أولها وثانيها: الإيمان بعلم الله عز وجل، وأنه ما من شيء إلا بعلمه، وأنه ما من شيء من علمه إلا وقد كتبه الله سبحانه وتعالى. الثالث: مشيئته، فما من شيء إلا بمشيئته جل وعلا. الرابع: خلقه، فما من شيء في الكون إلا وهو من خلقه سبحانه وتعالى. وقد قال بعض العلماء في ذلك نظماً: علم كتابة مولانا مشيئته وخلقه وهو إيجاد وتكوين وهذا يجمع لك تعريف القدر. قوله: (وهو إيجاد وتكوين) بيان معنى الخلق وأنه يطلق على الإيجاد، ويطلق أيضاً على التكوين.

الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب الإيمان بالقدر

الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب الإيمان بالقدر هذا الفصل ذكر فيه المؤلف رحمه الله ما يتعلق بالإيمان بالقدر، والإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان الذي لا يتم إيمان أحد إلا بها، فلابد للمؤمن أن يؤمن بالقدر خيره وشره، وكل من كان غير مؤمن بالقدر فإنه لم يحقق الإيمان الذي تحصل به النجاة من النار. وقد دلت الأدلة في الكتاب والسنة، وأجمع سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وأئمة الدين على وجوب الإيمان بالقدر، وأنه ما من شيء إلا بقضاء وقدر، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه في بيان منزلة الإيمان بالقدر: (الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده) ، وهذا يدل على أن كل من لم يؤمن بالقدر فقد انتقض توحيده؛ لأن الإيمان بالقدر أساس التوحيد، فهذا معنى قوله رحمه الله: (نظام التوحيد) ، أي: به ينتظم وبه يستقيم وبه يستقر فمن لم يؤمن بالقدر لا توحيد له، ومن لم يؤمن بالقدر لا إيمان له، فالإيمان بالقدر أصل من أصول الدين، ومن أصول الإيمان وأركانه التي لا يتم إيمان أحد إلا بها. وقد قال ابن عمر رضي الله عنه لما بلغه إنكار من ينكر الإيمان بالقدر ويقول: إن الأمر أنف، قال: (والذي نفس ابن عمر بيده، لو أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر) ، وجاء مثل هذا عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم. وقد أخرج الإمام أحمد وأصحاب السنن والدارقطني وابن حبان وابن خزيمة وغيرهم من أئمة أهل السنة حديث عبد الله بن فيروز بن الديلمي الذي جاء إلى أبي بن كعب فقال: إن في نفسي شيئاً من القدر، فحدثني لعل الله أن يذهبه عني، فقال له أبي رضي الله عنه: (إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو أنه رحم أهل سماواته وأهل أرضه لكانت رحمته لهم، وإنه لو أنفق أحد مثل جبل أحد ذهباً لم يتقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال له: وائت ابن مسعود فاسأله) . يقول ابن الديلمي: فأتيت ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بما حدثني به أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن الصحابة رضي الله عنهم مجمعون على الإيمان بالقدر، وأنه من لم يؤمن بالقدر مات على غير الإسلام. ولذلك جاء في حديث عبادة بن الصامت في وصيته لابنه الوليد بن عبادة لما قال له: واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) وفي رواية: (فمن مات على غير هذا أحرقه الله بالنار) فدل ذلك على وجوب الإيمان بالقدر. وأمر القدر أمر خطير عظيم، إنكاره ينقض التوحيد كما ذكرنا في كلام ابن عباس رضي الله عنه، وهو تكذيب للقرآن وانتقاص لرب العالمين، ولذلك لما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن القدر قال: القدر قدرة الله عز وجل؛ فمن أنكر القدر فقد أنكر قدرة الله جل وعلا. وكل هذا يبين لنا منزلة الإيمان بالقدر، وأن الاختلال في الإيمان به اختلال في أصل الإيمان؛ ولذلك لا يخلو كتاب من كتب الاعتقاد من الحديث عن القدر وبيان منزلته، وبيان ما الذي يجب فيه.

أنواع الإرادة

أنواع الإرادة يقول ابن قدامة في هذه العقيدة: (ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد) . هذا تقرير ما يتعلق بالقدر في إثبات صفات الفعل لله جل وعلا، وأن الإيمان بالقدر فرع عن الإيمان بأنه فعال لما يريد، وإن من قال: إنه لا يقدر مقادير الأشياء وأن في الكون ما يكون بلا تقديره ولا خلقه ولا مشيئته، فإنه مكذب لإيمانه بأن الله جل وعلا فعال لما يريد، فإذا كان جل وعلا فعال لما يريد فإنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وقوله رحمه الله: (فعال لما يريد) مأخوذ من قول الله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] في بيان صفة الرب جل وعلا فيما أخبر به سبحانه وتعالى عما أخبر به عن نفسه في كتابه، و (فعال) جيء بها على صيغة المبالغة لإفادة معنيين: المعنى الأول: كثرة الفعل، والثاني: عظم الفعل، فصيغة المبالغة تستعمل لأحد هذين المعنيين؛ إما لكثرة الشيء وإما لعظمه ولو لم يكن كثيراً، والذي في حقه جل وعلا المعنيان، فأفعاله كثيرة سبحانه وتعالى، ما يكون من شيء إلا بأمره وتقديره، وأيضاً هذه الأفعال عظيمة كبيرة المنزلة والمكانة ورفيعة الشأن.

الإرادة الشرعية

الإرادة الشرعية النوع الثاني من الإرادات: الإرادة الدينية الشرعية الأمرية، كل هذه من أسمائها، فتسمى الإرادة الدينية، وتسمى الإرادة الأمرية، والإرادة الشرعية، وهي لا تكون إلا فيما يحبه الله سبحانه وتعالى ويرضاه، فلا يدخل في هذا النوع من الإرادة شيء من المبغوضات والمكروهات لرب العالمين، بل ليس فيها إلا ما يحبه الله تعالى ويرضاه. إذاً: فهمنا أن الإرادة في كلام الله عز وجل وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين، وهذا أساس في فهم باب القدر والسلامة من الضلال فيه؛ لأن من ضل في هذا الباب لم يميز بين هذين النوعين من الإرادة: بين الإرادة الكونية الخلقية، وبين الإرادة الشرعية الدينية. إذاً: الإرادة الشرعية تختص بما يحبه الله ويرضاه، وتختص بما يتعلق بمحاب الله سبحانه وتعالى، أما الإرادة الكونية الخلقية فهي تشمل جميع الحادثات والكائنات بلا استثناء.

أمثلة على الإرادة الكونية والشرعية

أمثلة على الإرادة الكونية والشرعية مثال النوع الأول من الإرادة وهي الإرادة الكونية الخلقية قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] قلنا: إن الإرادة هنا إرادة كونية؛ لأنها تشمل كل ما في الكون، فإنه داخل في إرادته هذه سواء كان يحبه أو لا يحبه. مثال آخر: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، ومثال الإرادة الكونية أيضاً قول نوح عليه السلام لقومه في نصيحته لهم: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] أي نوع من الإرادة هنا: الشرعية التي يحبها ويرضاها أو الكونية التي تنتظم كل ما يقع في الكون؟ الكونية. قول الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] الإرادة المذكورة في الآية هي الكونية؛ لأنه بها يقع الضلال والفساد، ويقع الخير والصلاح؛ لأنها تنتظم كل شيء، وهذه الآية تشكل على بعض طلبة العلم، ويظن أنها تجمع نوعي الإرادة، لكن هذا ليس مقصوداً، فليس المقصود إثبات نوعي الإرادة، إنما الإرادة هنا إرادة واحدة وهي الإرادة الكونية: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] وهذه الآية نظير قوله تعالى: {مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] . والمشيئة: هل تنقسم إلى مشيئة شرعية ومشيئة كونية أم أنها مشيئة واحدة تنتظم كل شيء؟ المشيئة واحدة لا تنقسم إلى شرعية دينية وخلقية كونية، بل هي واحدة في كل شيء، ولذلك فالإرادة الكونية هي المشيئة. يقول المؤلف رحمه الله بعد أن ذكرنا هذين القسمين: (لا يكون شيء إلا بإرادته) أي الإرادة الكونية، (ولا يخرج شيء عن مشيئته) والمشيئة تشمل كل ما يكون ولا تنقسم، بخلاف الإرادة.

الإرادة الكونية

الإرادة الكونية يقول رحمه الله: (فعال لما يريد) الإرادة هنا: المقصود بها الإرادة الكونية، وإنه لمن المهم لمن أراد أن يفهم باب القدر أن يميز بين نوعي الإرادة، النوع الأول: الإرادة الكونية، وتسمى الإرادة الخلقية، وهذه الإرادة الكونية الخلقية تعني كل ما يقع في هذا الكون، فالإرادة الكونية يحصل بها كل شيء في الكون من خير وشر، من أمر البشر ومن أمر غيرهم، فكل ما يجري في الكون مندرج تحت الإرادة الكونية، من خير وشر من صلاح وفساد من حوادث ووقائع في السماوات والأرض وفي البشر وغيرهم، فهي الإرادة الشاملة المحيطة لكل الوقائع في الكون، وهي التي يقصدها العلماء في قولهم: ما من شيء إلا بإرادة الله ومشيئته. فمقصود العلماء بهذا: كل شيء، وكل ما يقع في الكون؛ ولذلك قال المؤلف: (لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته) ، فالمشيئة هنا والإرادة هي الإرادة الكونية التي تنتظم جميع الحادثات والكائنات بلا استثناء، هذا النوع الأول من الإرادة، وهذا النوع من الإرادة هل يتعلق بمحبة الله عز وجل؟ A لا يتعلق بالمحبة، يعني: لا يلزم من هذا أن يكون مما يحبه الله سبحانه وتعالى، فليس كل ما يقع في الكون محبوباً له، لكنه ما من شيء في الكون إلا وهو مراد له جل وعلا، فصلاح الصالحين، وفساد المفسدين وما إلى ذلك من وقائع الدنيا هي كلها مندرجة تحت إرادته الكونية له سبحانه وبحمده. ولذلك لما قال أحد المبتدعة لأحد العلماء: سبحان من تنزه عن الفحشاء. سجع به هذا المبتدع في مجلس أحد العلماء، يريد بهذا أن ما يقع من الشر والفساد في الدنيا ليس من إرادته سبحانه وبحمده، فماذا أجابه العالم المدرك لمعنى ما يقول هذا المبتدع؟ قال: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء. أيهم أعظم إجلالاً لله عز وجل؟ الثاني، لأنه إذا كان الله جل وعلا المالك، فإنه لا يسوغ أن يكون في ملكه ما لم يرد، لكن لا يلزم من أن يكون جميع ما في ملكه محبوباً له، فإن الزنا والسرقة وفساد المفسدين وترك التاركين للتوحيد والواجبات الشرعية لا يحبه ولا يرضاه، ومع ذلك فهو جل وعلا يقدره لحكمة بالغة، فهو مما يريده الله عز وجل الإرادة الكونية الخلقية التي تنتظم جميع الكائنات والحادثات، ولا يخرج عنها شيء من خلق الله عز وجل.

مخالفة العاصين وعلاقتها بإرادة الله

مخالفة العاصين وعلاقتها بإرادة الله يقول رحمه الله: (ولو عصمهم لما خالفوه) : هذا فيه الجواب عن إشكال: هل معصية العاصين تقع بمشيئة الله أو بغير مشيئته؟ بإرادة الله الكونية أو بغير إرادته؟ A تقع بمشيئته وإرادته وهو على كل شيء قدير جل وعلا، لكنه مكنهم من مخالفته وأذن لهم في عصيانه لحكمة قضاها؛ ولذلك قال: (ولو عصمهم) أي: منعهم من الوقوع في المعصية أو منعهم من ترك الواجب (لما خالفوه) ، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه) ، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:118] أي: في الإيمان والصلاح والتقوى والهدى، {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118] فمنهم مؤمن ومنهم كافر كما قال جل وعلا، والمذكور في سورة هود هو المشار إليه في سورة التغابن، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] ، فقسم الله الناس إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، هذا في المآل، وفي العمل أيضاً قسمهم قسمين: قسماً يؤمن، وقسماً يكفر. فقوله رحمه الله: (ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه) أدلة هذا من القرآن كثيرة منها ما ذكرناه.

ما قدره الله لا يخرج عن اللوح المحفوظ

ما قدره الله لا يخرج عن اللوح المحفوظ (ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور) : أي: ما يصيبك وما ينزل بك، لا يتجاوز ما رقم وكتب في اللوح المسطور، وهو: اللوح المحفوظ الذي كتب فيه القلم مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة. فالمؤلف أثبت مرتبتين من مراتب القدر: المشيئة حيث قال: (لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد عن القدر المقدور) ثم قال: (ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور) ، فأفادنا أن القدر مكتوب، وهذا من مراتب القدر، أن تؤمن بأن الله كتب مقادير كل شيء، فما من شيء إلا قد كتبه الله جل وعلا، وجرى به القلم الذي خلقه الله جل وعلا. (أراد ما العالم فاعلوه) وهذه هي الإرادة الكونية التي تنتظم فعل بني آدم كلهم.

لا مهرب عما قدره الله

لا مهرب عما قدره الله يقول: (ولا محيد) يعني: لا مفر ولا مخرج ومهرب (عن القدر المقدور) وهذا ما قاله عبادة رضي الله عنه لابنه: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك) وهذا قد جاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير حديث عبادة رضي الله عنه، وفيه وجوب الإيمان بأن ما نزل بك لا يمكن أن يندفع عنك مهما فعلت، وما صرفه الله عنك لا يمكن أن يصيبك مهما سعى الناس أن ينزل بك. وهذا معنى ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس في الوصية الشهيرة المعروفة: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإذا اجتمعوا على أن يضروك بشيء، فلن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف) أي: قضي الأمر وفرغ منه، ليس الأمر وليد الساعة أو الآن، أو يمكن زحزحته وتغييره، بل هو أمر قضاه الله وقدره قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. لما خلق القلم قال له: (اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ماهو كائن إلى يوم القيامة) ، فإذا أيقن العبد بهذا اطمأن وعلم أنه لا مفر من تقدير الله عز وجل ولا محيد من القدر المقدور، أي: التقدير الذي قدره الله جل وعلا.

كل ما في الكون لا يخرج عن تقدير الله

كل ما في الكون لا يخرج عن تقدير الله قال رحمه الله: (وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره) : فنؤمن بأنه ليس في الكون شيء يخرج عن تقدير الله عز وجل، فكل حركة وسكون في بر أو بحر أو سماء أو أرض أو في بني آدم أو في غيرهم؛ هي من تقدير الله جل وعلا، حتى نبض عروقنا ولحظ أعيننا وسير أقدامنا كله بتقدير الله جل وعلا، واجعل في بالك أنه ما من حي أو ميت في سماء أو أرض إلا بتقدير الله جل وعلا. دليل ذلك قول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] فكل شيء هو مخلوق بتقدير الله عز وجل، فالقدر ينتظم كل كائن في الكون، لا يخرج عنه شيء من خلق الله عز وجل في العالم.

كل ما في الكون تحت تصرف الله وإرادته

كل ما في الكون تحت تصرف الله وإرادته يقول: (وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره) : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإيمان العبد بهذا يورثه عظيم التوحيد لله جل وعلا، ويعقبه عظيم التعظيم والمحبة لله عز وجل، الذي بيده مقاليد الأمور يصرفها كيف شاء، يهب لمن يشاء ما يشاء، ويمنع من يشاء ما يشاء، فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد-أي: صاحب الغنى- منه الجد، فالجد والغنى لا ينفع صاحبه إذا جرده الله منه، فكم من إنسان يملك من المال العريض الشيء الكثير، لكنه لا يستطيع أن يدخل إلى جوفه قطرة ماء إما لمرض أو لمانع، فكل شيء في هذا الكون لا يصدر إلا عن تدبير الله جل وعلا.

أفعال العباد وضلال الطوائف فيها

أفعال العباد وضلال الطوائف فيها قوله: (خلق الخلق وأفعالهم) : هذا فيه الرد على القدرية، واعلم أن القدر ضل فيه طائفتان من الناس: الطائفة الأولى: القدرية الذين قالوا: إن الله لم يشأ معصية العاصين، ولم يقدر مخالفتهم، فالله لم يخلق أفعال العباد، بل العباد هم الذين يخلقون أفعالهم. وقابل هؤلاء طائفة أخرى غلو في إثبات القدر وهم الجبرية الذين قالوا: إنه ليس للإنسان اختيار ولا له فعل، وإنما هو كالريشة في مهب الريح، لا تملك لنفسها تصريفاً ولا توجيهاً، فأفعال الخلق هي أفعال الله جل وعلا، ليس لهم إرادة ولا اختيار، وإنما هم مجبورون على ما يكون منهم. ويشير رحمه الله في قوله: (ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم) إلى الرد على الذين نفوا أن يكون فعل الخلق من تقدير الله وخلقه، وهم القدرية الذين يقولون: إن فعل المخلوق ليس مقدراً من الله جل وعلا. يقول رحمه الله: (وقدر أرزاقهم وآجالهم) أي: ما ينالهم من الرزق، والأرزاق جمع رزق، والرزق: هو كل ما يصل إلى الإنسان من نعمة الله عز وجل، يشمل هذا النعم الحسية والمعنوية، فيدخل في الرزق صلاح القلب واستقامة الحال، وصلاح العمل، والتقوى والإيمان، فهذا من رزق الله جل وعلا، ويدخل فيه ما يقوم به البدن، فرزق الله يشمل ما يقيم القلوب والأبدان، فكله يدخل في رزق الله. قال: (وآجالهم) أي: قدر سبحانه وتعالى أعمارهم وآجال أعمالهم، وآجال ما يكون منهم. (يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته) أي: هو في فعله جل وعلا بين الهداية والإضلال، لا يخرج عن الرحمة والحكمة.

شرح لمعة الاعتقاد [9]

شرح لمعة الاعتقاد [9] القدر سر الله في خلقه، فمن رام البحث عنه وقع في الهاوية، ولهذا زاغ من زاغ وضل من ضل في هذا الباب بسب التعمق والبحث. فعلى كل مسلم أن يؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، سواء ظهرت له الحكمة في هذا الأمر أم لم تظهر.

وجوب الإيمان بالقدر

وجوب الإيمان بالقدر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] ، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] ، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125] . روى ابن عمر أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فقال جبريل: صدقت) رواه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره) ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت) ] يقول المؤلف رحمه الله في صلة كلامه عما يتعلق بالقدر وما يجب من الإيمان به: (أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه) : وقد تكلمنا على هذا في الدرس السابق، وذكرنا عند قوله: (أراد ما العالم فاعلوه) أن ما يكون في هذا الكون من خير وشر، ومن صلاح وفساد، ومن طاعة ومعصية؛ كله مراد لله جل وعلا، يدخل في إرادته لا يخرج شيء عما أراده الله جل وعلا، وهذه الإرادة هي الإرادة الكونية الخلقية القدرية، أي: التي يصدر عنها خلق الله ويصدر عنها كل شيء، فهي تنتظم كل ما يكون في الكون. وقوله رحمه الله: (ولو عصمهم لما خالفوه) ؛ فيه بيان أن ما يكون من المعصية إنما هو بتقدير الله جل وعلا، ولو شاء لمنع العاصي من أن يعصيه، ولذلك قال رحمه الله: (ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه) ، وقد ذكر الله جل وعلا هذا في مواضع عديدة من كتابه، فذكر أنه لو شاء جل وعلا لهدى الناس جميعاً، كما قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13] ، وكما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس:99] ، فكل هذه الأدلة تدل على أن الله جل وعلا لو شاء هداية أهل المعصية وأهل الكفر لهداهم، لكن هذه المشيئة ليست حجة لهم على ما هم عليه من كفر وعصيان كما سيأتي إن شاء الله تعالى في كلام المؤلف. والذي نريد أن نقرره الآن: أنه ما من شيء في الكون إلا بمشيئة الله عز وجل، ومعلوم أن الإيمان بأن مشيئة الله أحاطت بكل شيء، مرتبة من مراتب الإيمان بالقدر، وقد ذكرنا المراتب في الدرس السابق، وقلنا: إن أولها: علم الله ثم كتابته ثم مشيئته ثم خلقه.

الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية

الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية قال رحمه الله: (وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125] ) هذه الآية فيها إثبات الإرادة لله جل وعلا، وهي هنا الإرادة الكونية الخلقية؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها إرادة الهداية وإرادة الضلال، وما الذي ينتظم هذين النوعين من الإرادة؟ الإرادة الكونية هي التي تنتظمهما؛ لأن هذه الإرادة يصدر عنها كل شيء يحدث في الكون من صلاح وفساد، وهداية وضلال، وخير وشر، فهذا النوع من الإرادة هو الذي يسمى بـ (الإرادة الكونية) وهي: بمعنى المشيئة. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] ، فإنه مطابق لمعنى هذه الآية، حيث ذكر الله مشيئته للهداية ومشيئته للإضلال، وهنا ذكر إرادته للهداية وإرادته للإضلال، فالإرادة هنا هي المشيئة هناك، فيكون المعنى: ما من شيء في الكون إلا بإرادة الله عز وجل، وهذه الإرادة هي الكونية. الإرادة الثانية هي: الإرادة الشرعية، مثالها قوله تعالى: {إنما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33] وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] . فهذه الإرادة المذكورة في هاتين الآيتين هي الإرادة الشرعية. وما الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية؛ لأن هذه المسألة هي التي يسلم الإنسان بمعرفتها من الضلال فيما يتعلق بباب القدر؟ الإرادة الشرعية تتعلق بالمحبة والرضا، فلا يريد الله إلا ما يحبه ويرضاه، وأما الإرادة الكونية فلا تتعلق بمحبة الله ورضاه بل هي متعلقة بكل واقع في الكون من خير أو شر، ومن صلاح أو فساد وغير ذلك، هذا هو الفرق. وهناك فرق آخر بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية، وهو: أن الإرادة الشرعية غير لازمة الوقوع، فيحتمل أن لا تقع، فالله عز وجل يريد من الناس أن يعبدوه كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ، فالعبادة مرادة لله من جميع الناس، ولكن هل حصلت منهم جميعاً؟ لم تحصل كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] ، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118] أي: فمنهم مؤمن ومنهم كافر، فالإرادة الشرعية غير لازمة الوقوع، فقد تقع وقد لا تقع. فإذا قيل: من أي أنواع الإرادة أمر الله عز وجل الناس بالصلاة؟ ف A من الإرادة الشرعية؛ وكيف عرفنا أنها من الإرادة الشرعية؟ الجواب: لأنه مما يحبه الله ويرضاه؛ ولأنه قد لا يقع، فكثير من الناس لا يصلي كأهل الكفر وبعض من هو مسلم يترك الصلوات أو بعضها. والمقصود: أن الإرادة الشرعية تتميز بميزتين: أولاً: أنها محبوبة لله عز وجل مرضية. ثانياً: أنها غير لازمة الوقوع. أما الإرادة الكونية فهي لا تتعلق بالمحبة، وإنما تتعلق بكل شيء في الكون، هذا فرق. والفرق الثاني: أنها لازمة الوقوع، فلابد أن تقع، ولا يمكن أن تتخلف.

الخلاف في عود الضمير في قوله تعالى: (نبرأها)

الخلاف في عود الضمير في قوله تعالى: (نبرأها) والآية تضمنت إثبات جميع المراتب: الكتابة، والعلم، والمشيئة، والخلق: فقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] الضمير في قوله (نبرأها) للعلماء فيه أقوال: منهم من يقول إنه يعود إلى المصيبة، لقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] أي: من قبل أن نبرأ المصيبة، أي: من قبل أن نوجدها، وهذا يدل على الخلق والمشيئة. وقيل: يعود الضمير على الأرض، فقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] أي: من قبل أن نبرأ الأرض، وهذا يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو: (إن الله سبحانه وتعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) . القول الثالث في ضمير (نبرأها) : إنه يعود على الأنفس، أي: من قبل أن نبرأ الأنفس، أي: نخلقها، وهذا مطابق لحديث عبد الله بن عمرو ولحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، وغيرهما من الصحابة الذين أخبروا بالتقدير قبل الخلق، وأن الملك يؤمر بأربع كلمات، ثم ينفخ فيه الروح، وهذه الأربع الكلمات هي قبل الخلق؛ لأن نفخ الروح جاء بعدها، فأي هذه الأقوال الثلاثة أرجح؟ من حيث النظر أرجحها الأخير؛ لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو الأنفس قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] فأقرب مذكور هو الأنفس، وقال ابن القيم رحمه الله: إنه يصلح أن يكون الضمير عائداً إلى كل ما تقدم، ثم قال: وهو أحسن، فيكون قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي: من قبل أن نخلق المصيبة، ومن قبل أن نخلق الأرض، ومن قبل أن نخلق الأنفس، وكل هذه المعاني صحيحة دل عليها الكتاب والسنة، فتحمل الآية على جميع هذه المعاني.

كل شيء بقدر

كل شيء بقدر ثم قال المؤلف رحمه الله في الاستدلال لما تقدم من أن الله خالق كل شيء وأنه ما من شيء إلا بقضاء وقدر: (قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ) : (إنا) الضمير يعود إلى الرب جل وعلا، وتكلم الله عز وجل بضمير الجمع، وهو يريد التعظيم لنفسه جل وعلا، (كل شيء) : يشمل كل شيء في هذا الكون، فكل شيء في هذا العالم قد خلقه الله عز وجل بقدر، (بقدر) : الباء هنا سببية، ويمكن أن تكون للمصاحبة؛ يعني: أنه مع تقدير، وليس خالياً عن التقدير فهو متلبس بتقدير الله عز وجل، وقدر الله محيط به، وقد روى الإمام مسلم عن طاوس قال: (أدركت أناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر) ، وهذه حكاية لإجماع الصحابة على هذا. ثم قال رحمه الله: (وسمعت عبد الله بن عمر يقول: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) يعني: حتى الضعف وعدم إدراك ما تحب، والكيس، أي: الفطنة والذكاء وإدراك المطلوب، فكل شيء بقضاء وقدر، كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] وهذا إجماع أهل الإسلام. فقد دلت الأدلة في الكتاب والسنة ودل أيضاً إجماع سلف الأمة على أنه ما من شيء إلا بقضاء وقدر، وعلى هذا مضى أهل العلم وأئمة الدين، ولم يقع خلاف في ذلك إلا عند أن تكلم معبد الجهني فيما يتعلق بالقدر وأن الأمر أنف، وقد رد الصحابة رضي الله عنهم عليه كـ ابن عمر وواثلة بن الأسقع وغيرهما، فردوا على هذه الشبهة، وبينوا خطرها، وأنه لا يبلغ الإنسان الإيمان إلا بأن يسلم لله عز وجل ويؤمن بالقدر. قال رحمه الله في ذكر الأدلة: (وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] ) أي: خلق كل شيء مصاحباً للقدر، فليس هناك شيء بلا تقدير، فقد خلق كل شيء وقدر كل شيء تقديراً، وأكد القدر بذكر المصدر تأكيداً له وتقريراً لمعناه، وأنه لا شيء إلا بقدر، وأما الخلق فإنه لم يؤكد فقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الفرقان:2] ، أما القدر فذكره مؤكداً لتقريره ولنفي شبه المعارضين الذين يقولون: إن الله جل وعلا لم يقدر بعض أفعال الخلق، وليس كل شيء بقضائه وقدره. ثم قال رحمه الله: (وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] ) . هذه الآية من الأدلة الدالة على ما تقدم من أنه ما من شيء في الكون من حركة وسكون يقع من الأنفس إلا بقضاء الله وقدره، يقول الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) ، وهذا يشمل كل ما يصيب الإنسان وينزل به مما يفرح به ويسر، ومما يسوءه ويكدره، فكل شيء بقضاء وقدر، فقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [الحديد:22] أي: أنه مكتوب، وهذا يدل على شيئين: على علم الله بهذا المصاب وبهذا النازل، وعلى أنه سبحانه وتعالى قد كتبه، وهذه الآية تدل على العلم وتدل على الكتابة.

خلق أفعال العباد

خلق أفعال العباد قال رحمه الله: (خلق الله الخلق وأفعالهم) : خلق الله الخلق، أي: الأعيان، وأفعالهم: أي: ما يصدر عنهم من أعمال وأقوال وسائر ما يعد من كسبهم سواء كان ظاهراً أو مستتراً، فكله خلق الله جل وعلا كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ، وسيأتي دليل ذلك في كلام المؤلف رحمه الله. قال: (وقدر أرزاقهم وآجالهم) : أرزاقهم، أي: أرزاق الخلق، وآجالهم: أي: أعمارهم، وتقدير الأرزاق والآجال هو على مراحل ومراتب، فالتقدير الكلي السابق هو الذي جرى به القلم لما قال الله جل وعلا له: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، كما في حديث عبادة وغيره، فهذا تقدير سابق، وجاء أيضاً في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أن الله قدر مقادير الأشياء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) . وهناك أيضاً التقدير الذي يكون في الأرحام، وهو ما جاء به الخبر عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبعث ملكاً فيكتب أجل الإنسان وعمله ورزقه، وشقي أو سعيد) جاء هذا في حديث ابن مسعود، ومن حديث أبي هريرة، ومن حديث حذيفة وغيرهم. وقد اتفق سلف الأمة على أن الشقي من شقي في بطن أمه، أي: أن الشقاء يكتب قبل الخلق، وقد أشار حديث ابن مسعود الذي في صحيح مسلم إلى مراحل وأطوار الخلق، وما يكون من مجيء الملك لكتابة الأربع الكلمات التي تكون قبل خلق الإنسان. قال رحمه الله: (يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته) : وهذا يدل على أن ما يكون من هداية المهتدين ومن ضلال الضالين، إنما هو بمشيئة الله عز وجل، ومشيئته ليست مجردة عن حكمته بل كل ما شاءه فلحكمة، فهو الحكيم الخبير سبحانه وبحمده.

كل أفعال الله عز وجل فيها حكمة ولكن قد تخفى على البعض

كل أفعال الله عز وجل فيها حكمة ولكن قد تخفى على البعض قال المؤلف رحمه الله في الاستدلال لما تقدم: (قال الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ) : (لا يسأل) أي: الله جل وعلا لا يُسأل عما يفعل، يعني: عما يكون منه من خلق وتقدير، (وهم يسألون) أي: الخلق يسألون، وفي هذه الآية نفي السؤال عن الله عز وجل، فلماذا: هل لكونه يفعل لغير حكمة؟ A لا، وإنما (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) هذا لكمال حكمته وعلمه جل وعلا، وأنه يضع الأشياء في مواضعها، وأنه ليس في فعله خلل ولا عبث ولا فساد حتى يسأل عنه، بل فعله في غاية الحكمة، فله فيما يقضي ويقدر الحكمة البالغة، هذه الحكمة قد يدركها الإنسان بنظره وفكره وتدبره، وقد يحال بينه وبين إدراكها، لكن امتناع الحكمة من أن تدرك ومن أن يعقلها الإنسان لا يدل على أنه ليس لهذا الفعل حكمة أو ليس لهذا القضاء أو هذا القدر حكمة، بل لابد له من حكمة، لكن هذه الحكمة قد تخفى ولا تدرك. فقوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] هذا لكمال حكمته جل وعلا وعلمه وأن ما يفعله ليس فيه خلل ولا عبث، وأنه جل وعلا يضع الأشياء في مواضعها، خلافاً لمن استدل بهذه الآية على نفي التعليل، فقال: إن الله يفعل لا لحكمة. وهذا لجهلهم بكلام الله عز وجل وصفاته وما يجب له، لأن المؤمن يدرك أن الله جل وعلا حكيم كما وصف نفسه بذلك، وحكمته لا تقتصر على شيء من فعله جل وعلا أو من قضائه وقدره، بل هي منتظمة جميع أفعاله، وجميع أقضيته، وجميع ما يقدره الله جل وعلا. وهذه الآية بدأ بها المؤلف في بداية الأدلة الدالة على ما تقدم من الكلام لبيان أنه يجب على الإنسان إذا عجز عن إدراك الحكمة في قضاء الله ألا يعارض القدر، بل يجب أن يسلم للقدر، فالقدر سر الله في خلقه، لم يُطْلِع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، فإذا عجز الإنسان عن إدراك شيء مما يقضيه الله ويقدره، فالواجب عليه أن يسلم وألا يتهم الله جل وعلا بظلم أو بشيء من ذلك، بل يجب عليه أن يعتقد كمال الرب وأن يتهم نفسه، وأنه جل وعلا لعلمه وحكمته لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولذلك لما جاء ابن الديلمي إلى أبي بن كعب وقال له: (إن في نفسي شيئاً من القدر) قال له مبتدئاً الجواب: (لو أن الله عذب أهل سماواتته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أوسع لهم وأفضل لهم) . فالواجب على المؤمن فيما يتعلق بالقدر إذا وقع في قلبه شيء أن يطلب حله من كلام الله وكلام رسوله ومن سؤال أهل العلم، كما قال الله جل وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] فإن لم يجد جواباً فالواجب عليه أن يرد هذا الاشتباه إلى ما يعلمه من عظيم صفات ربه، وأنه الحكيم العليم الخبير الذي لا يظلم الناس شيئاً، وأن يعلم أن قدر الله من جملة ما يدخل في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فإنه ليس كمثله شيء في شأن من شئونه، فإذا اعتقد العبد أنه ليس كمثل ربه شيء، فإنه ينحل ما قد يورثه الشيطان أو ما يوسوسه الشيطان من انتفاء الحكمة أو وجود الظلم أو ما أشبه ذلك في شيء من أقضية الله وقدره، وليكن على باله قول الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] .

الكلام على خلق الشر وتقديره

الكلام على خلق الشر وتقديره بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] ، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] ، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125] . روى ابن عمر أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فقال جبريل: صدقت) رواه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره) ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت) ] يقول المؤلف رحمه الله في صلة كلامه عما يتعلق بالقدر وما يجب من الإيمان به: (أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه) : وقد تكلمنا على هذا في الدرس السابق، وذكرنا عند قوله: (أراد ما العالم فاعلوه) أن ما يكون في هذا الكون من خير وشر، ومن صلاح وفساد، ومن طاعة ومعصية؛ كله مراد لله جل وعلا، يدخل في إرادته لا يخرج شيء عما أراده الله جل وعلا، وهذه الإرادة هي الإرادة الكونية الخلقية القدرية، أي: التي يصدر عنها خلق الله ويصدر عنها كل شيء، فهي تنتظم كل ما يكون في الكون. وقوله رحمه الله: (ولو عصمهم لما خالفوه) ؛ فيه بيان أن ما يكون من المعصية إنما هو بتقدير الله جل وعلا، ولو شاء لمنع العاصي من أن يعصيه، ولذلك قال رحمه الله: (ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه) ، وقد ذكر الله جل وعلا هذا في مواضع عديدة من كتابه، فذكر أنه لو شاء جل وعلا لهدى الناس جميعاً، كما قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13] ، وكما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس:99] ، فكل هذه الأدلة تدل على أن الله جل وعلا لو شاء هداية أهل المعصية وأهل الكفر لهداهم، لكن هذه المشيئة ليست حجة لهم على ما هم عليه من كفر وعصيان كما سيأتي إن شاء الله تعالى في كلام المؤلف. والذي نريد أن نقرره الآن: أنه ما من شيء في الكون إلا بمشيئة الله عز وجل، ومعلوم أن الإيمان بأن مشيئة الله أحاطت بكل شيء، مرتبة من مراتب الإيمان بالقدر، وقد ذكرنا المراتب في الدرس السابق، وقلنا: إن أولها: علم الله ثم كتابته ثم مشيئته ثم خلقه.

نسبة الشر إلى الله

نسبة الشر إلى الله لكن يبقى Q هل الشر في فعل الله عز وجل أو في مفعوله، يعني: في مقضيه وما يقدره؟ A ليس في فعله شر بالكلية، ودليل هذا ما رواه الإمام مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في دعاء الاستفتاح الذي كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين وفيه: لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الثناء على ربه: (والشر ليس إليك) ، أي: لا ينسب إليك، ويفهم هذا من قوله: (والخير كله في يديك) ، فإذا كان الخير كله في يديه فإنه لا ينسب إليه الشر، ولا يوصف به، ولذلك فالشر في كلام الله عز وجل وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم لا يضاف إلى الله جل وعلا، بل إما أن يضيفه الله عز وجل للمخلوق المقضي المقدر، من ذلك قول الله تعالى في سورة الفلق: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1-2] أي: من شر الذي خلقه الله، فأضاف الشر للمخلوق، ومنه أيضاً هنا: (وقني شر ما قضيت) ، فأضاف الشر للمخلوق في سورة الفلق، وأضافه في هذا الحديث للمقضي، حيث أتى ذكر الشر دون ذكر فاعله في كلام الله عز وجل مع التصريح بأن الخير من الله، فلا يضاف إليه الشر. ومنه قول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6-7] ، ثم قال في المغضوب عليهم والضالين: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، فلم يذكر فاعل ذلك وذكر المفعول والواقع، وهو الغضب والضلال. ويذكر الشر على وجه الإجمال، أي: يندرج في غيره ولا يكون منصوصاً عليه، مثل قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] ومنه قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] فلا يشك مؤمن يدرك معاني كلام الله عز وجل وما كان عليه السلف الصالح من مفهوم هذه الآية أن الشر مندرج في هذه الآية لعموم قوله: (كُلَّ شَيْءٍ) فكل شيء من خلق الله عز وجل. إذاً: ليس في كلام الله ولا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم إضافة الشر إلى الرب جل وعلا، وإنما يرد على هذه الصيغ أو الصور التي ذكرناها قبل قليل، فالشر ليس من فعله، إنما يكون في المقضي المقدر، وإنما أضفناه للمقضي المقدر لأنه شر، فالمرض شر، والمعصية شر، ولكنها شر نسبي وليس شراً محضاً، فهي شر من جهة وخير من جهة: شر من جهة المخالفة أو من جهة ما يلحق الإنسان من ضرر، وأما ما يترتب على وجود هذه الأشياء، فإنه يترتب على وجودها الحكمة البالغة والرحمة الواسعة، فمراد المؤلف رحمه الله في سياق هذه الآيات والأحاديث هو تقرير أن القدر يشمل الصلاح والفساد، ويشمل الخير والشر، ويشمل الطاعة والمعصية. وحديث الحسن بن علي رضي الله عنه رواه الخمسة ونبه ابن حبان وابن خزيمة إلى أن لفظ: (في قنوت الوتر) في قول الحسن: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءً أقوله في قنوت الوتر) زيادة تفرد بها أبو إسحاق السبيعي وخالفه فيها شعبة، وشعبة أحفظ من أبي إسحاق، والبون بينهما شاسع، ولذلك رجح جماعة من العلماء رواية شعبة على رواية أبي إسحاق، ورواية شعبة ليس فيها ذكر القنوت، إنما قال: (علمني النبي صلى الله عليه وسلم دعاءً) وليس فيه أنه يقال في الوتر، ولكن جاء عند النسائي من طريق ثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه في دعاء الوتر، فيعضد ما ذكره أبو إسحاق السبيعي عن بريد ابن أبي مريم، فيصح ما ذهب إليه الجمهور من أن هذا الدعاء يقال في قنوت الوتر. والله تعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه.

خلق الله للشر وتقديره له

خلق الله للشر وتقديره له قال: (روى ابن عمر أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر بالقدر خيره وشره)) الشاهد في هذا الحديث قوله: (وبالقدر خيره وشره) ، والحديث مشهور من حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما. وفيه وجوب الإيمان بالقدر، لقوله: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره) ، وفيه أيضاً فائدة تدل على ما تقدم من شمول التقدير لكل ما يكون في الكون وهي في قوله: (خيره وشره) فالقدر -وهو: ما يقضيه الله جل وعلا- يكون فيه خير ويكون فيه شر، قال صلى الله عليه وسلم: (وتؤمن بالقدر خيره وشره) . وقوله صلى الله عليه وسلم: (آمنت بالقدر خيره وشره حلوه ومره) ، هذا الحديث رواه الحاكم في كتابه علوم الحديث، وهو مثال للحديث المسلسل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بلحيته وذكر الحديث، وراوي الحديث أنس بن مالك أخذ بلحيته عند حكاية قول النبي صلى الله عليه وسلم عند قوله: (آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره) ، وهكذا تسلسل هذا الوصف في الرواة، إلا أن الحديث فيه ضعف؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي وهو ضعيف. وعلى كل حال فالشاهد من هذا الحديث قوله: (خيره وشره وحلوه ومره) ، وهذا يفيد ما أفاده حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين وفيه قوله: (وبالقدر خيره وشره) . قال: (ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت) . المقصود من سياق هذا الحديث أن القدر ينتظم الشر، فالشر صادر عن تقدير الله، وليس خارجاً عن قدر الله لعموم قول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] والآيات الدالة على أن القدر يشمل الخير والشر كثيرة.

شرح لمعة الاعتقاد [10]

شرح لمعة الاعتقاد [10] أفعال العباد من الطاعات والمعاصي كلها مخلوقة لله عز وجل، ولكن ليس في ذلك حجة للعاصي على فعل المعصية؛ لأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، فعلى المسلم أن يجتنب المعاصي كلها، وألا يتذرع ويحتج بالقدر على فعل المعاصي، فإن هذا هو مسلك الشيطان وأهل الشرك ومن تبعهم من الجبرية، وقد رد الشيخ عليهم، وبين وجه الضلال في مذهبهم.

حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية

حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنتهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه، بل يجب أن نؤمن ونعلم أن لله علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثة الرسل، قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] ، ونعلم أن الله سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحداً على معصية، ولا اضطره إلى ترك طاعة، قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] ، فدل على أن للعبد فعلاً وكسباً يُجزى على حسنه بالثواب، وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره] . فهذا له صلة بما تقدم من البحث في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالقدر. يقول رحمه الله: (ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه، بل يجب أن نؤمن ونعلم أن لله علينا الحجة بإرسال الكتب وبعثة الرسل) . في هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله إبطال احتجاج أهل المعصية والكفر على ما هم عليه أو على ما هم فيه من معصية الله والكفر به.

الأدلة على أن للعبد مشيئة واختيارا

الأدلة على أن للعبد مشيئة واختياراً فقوله رحمه الله: (وأنه لم يجبر أحداً على معصية، ولا اضطره إلى ترك طاعة) واضح، وأما أدلة هذا فذكر المؤلف رحمه الله منها: (قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] ) أي: طاقتها، أي: ما تتسعه من العمل فعلاً وإيجاداً وتركاً واجتناباً، فالله جل وعلا لا يكلف نفساً إلا ما تقدر عليه وما تستطيعه. قال المؤلف رحمه الله: (وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ) ، وتقوى الله هي: فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، فالأمر وهو إيجاد المطلوب، والنهي وهو ترك المحرم كله ينتظمه قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] أي: اتقوا الله ما قدرتم وتمكنتم من ذلك. قال رحمه الله: (وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] ) وهذا فيه أن ما يكون من الإنسان هو كسبه وعمله، وأنه يجازى على هذا الكسب والعمل يوم القيامة؛ ولذلك قال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] أي: تجازى بما عملت وبما قدمت، فلا يظلم صاحب الطاعة بنقص طاعته، ولا يظلم صاحب المعصية بالزيادة عليه في إساءته ومعصيته. قال رحمه الله: (فدل-أي: دل ما تقدم- على أن للعبد فعلاً وكسباً) ، أي: أثراً في إيجاد فعله، واختياراً في إيجاد فعله، وكسباً، فينسب إليه ما يكون من العمل. قال المؤلف رحمه الله: (يُجزى على حسنه -يعني: من الفعل والكسب- بالثواب، وعلى سيئه-يعني: من الفعل والكسب- بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره) ، أي: ما يكون من فعله وكسبه، من حسناته وسيئاته، فكل ذلك واقع بقضاء الله وقدره، فيجتمع في هذا كمال الإيمان وكمال العبودية لله عز وجل، حيث يؤمن العبد بالشرع ويعمل ويصدق ويؤمن بالقدر، وبه ينتظم إيمانه ويستقيم إسلامه، ولا قرار للإيمان إلا بهذا، وبهذا يكون قد انتهى ما ذكره المؤلف رحمه الله فيما يتعلق بالإيمان بالقدر.

موقف القدرية من القدر

موقف القدرية من القدر يقابل هؤلاء القدرية وهم الذين نفوا خلق الله عز وجل لأفعال العباد، وهؤلاء حادوا وانحرفوا عن الصراط المستقيم، وخالفوا هدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وما عليه الصحابة وأئمة الدين، لكنهم في البدعة أخف من الجبرية الذين احتجوا بالقدر على إبطال الشرع فهؤلاء عندهم تعظيم للأمر والنهي، وعندهم تعظيم للشريعة، بخلاف أولئك الذين أبطلوا الشرائع وأهدروها وليس لها عندهم قيمة؛ لأنه ما من شيء في الكون إلا محبوب لله، فإذا كان كل ما في الكون محبوب لله عز وجل فقد بطل الشرع وبطل الدين، ولا حاجة إلى الشرائع ولا حاجة إلى بعثة الرسل الذين أرسلهم الله جل وعلا إلى الخلق مبشرين ومنذرين.

الرد على من يحتج بالقدر على فعل المعاصي

الرد على من يحتج بالقدر على فعل المعاصي يقول المؤلف رحمه الله: (ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة في ترك أوامره واجتناب نواهيه) . والحجة هي: كل ما يحتج به الخصم من حق أو باطل، فليس من لازم الحجة أن تكون حقاً، بل قد تكون باطلاً، فالحجة إذا كانت باطلاً فهي حجة زاهقة ذاهبة مضمحلة داحضة، وإذا كانت حقاً فهي برهان وبينة. فقوله رحمه الله: (فلا نجعل قضاء الله وقدره حجة) أي: لا نجعلها مما يحتج به في المخاصمة، ولا نجعلها حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه، كما فعل الجبرية الذين قالوا: إن المحبوب هو ما قدره الله وقضاه، فأبطلوا الشرع باحتجاجهم بالقدر. يقول رحمه الله: (بل يجب أن نؤمن ونعلم أن لله علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثة الرسل) أي: علينا الحجة البالغة التي ينقطع بها العذر بإنزال الكتب، وبعثة الرسل، قال الله تعالى: {لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] ، أي: فقد بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين حتى لا يبقى للناس على الله حجة يحتجون بها ويتذرعون بها على ما هم فيه من كفر، وعلى ما هم عليه من عدم التوحيد. ومما ينبغي التنبه له أن بطلان الاحتجاج بالقدر على إبطال الشرع مستقر في الفطر وأنه مما اتفقت عليه الأمم، فإن الأمم متفقة على أنه لا يسوغ إبطال الشرائع بكون الأمر قد قضاه الله وقدره، وقد ذكر أئمة هذا الدين وعلماء المسلمين أوجهاً كثيرة لإبطال الاحتجاج بالقدر، وهي حجة قد يحتج بها كثير من العصاة على تسويغ ما هم عليه من باطل، وعلى مضيهم فيما هم فيه من مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذه بعض الأوجه التي يستدل بها على بطلان الاحتجاج بالقدر في إبطال الشريعة وفي عدم العمل بها: أول هذه الأوجه: أنه يلزم من احتج بالقدر على ترك الواجب وفعل المحرم أن يسوغ كل فساد يقع عليه من غيره، فكل من احتج بالقدر على إبطال الشريعة يقال له: قم صل، وافعل ما أمرك الله أن تفعل، أو اترك ما نهاك الله عنه، فإن قال: ما كتب الله لي، أو هذا أمر قدره الله علي؛ فإن من لازم حجته أن يقال له: كل ظلم يقع عليك في مالك أو أهلك أو نفسك فإنه يجب عليك أن تقبله وألا تنكره؛ لأن الناس يشتركون جميعاً في كونهم تحت قدر الله عز وجل، لا خروج لهم ولا قدرة لهم على أن ينفكوا عن قضاء الله وقدره، فإنه إذا كان ذلك فإنه لا يسوغ لك أن تنكر ظلم الظالم لك؛ لأن ظلم الظالم لك هو بقدر الله عز وجل، وهذا مما لا يقبله أحد مهما كان، حتى لو كان محتجاً بالقدر في إسرافه ومعصيته فإنه إذا جاء عند هذه المسألة لا يمكن أن يقبل الاحتجاج بالقدر، بل يرد الاحتجاج بالقدر ليأخذ حقه وليرفع عن نفسه الظلم في ماله أو أهله أو أي شيء من شئونه. إذاً: هذا هو الوجه الأول من أوجه إبطال الاحتجاج بالقدر على إبطال الشرع. الوجه الثاني من أوجه إبطال الاحتجاج بالقدر على إبطال الشرع؛ أن من لازم ذلك أن كل من أخبر الله عنهم من أهل الكفر وأوعدهم بالهلاك أو أوقع عليهم هلاكاً، أنهم في الحقيقة معذورون، فإذا كانوا معذورين فلماذا يعذبهم الله جل وعلا، فإنه بعث الرسل لقطع العذر، فلم ينفع بعث الرسل لهؤلاء؛ لأنهم كذبوا وخالفوا وأوقع الله عليهم من العذاب والعقاب ما ذكره الله جل وعلا في كتابه، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت عليه الأمم، فدل ذلك على أن الاحتجاج بالقدر باطل؛ لأنه لو لم يكن باطلاً لكان إبليس وفرعون وقوم نوح وغيرهم من الأمم التي أخبر الله بإهلاكها وعقابها لكانوا معذورين فيما هم فيه من الكفر؛ لأنه بقضاء الله وقدره. الوجه الثالث من أوجه إبطال الاحتجاج بالقدر: أن الاحتجاج بالقدر على إبطال الأمر والنهي وعلى إبطال الشريعة، يفضي إلى التسوية بين أولياء الله عز وجل وبين أعدائه؛ لأن المميز والفارق بين أعداء الله وبين أوليائه أن هؤلاء امتثلوا الأمر فكانوا أولياء لله عز وجل، وأن هؤلاء عصوا الله عز وجل وخالفوا أمره فكانوا أعداءً له جل وعلا، فإذا كان الاحتجاج بالقدر على إبطال الشريعة صحيحاً، فإن من لازم ذلك أن يلغى التفريق بين المؤمنين والكفار، وبين الأعمى والبصير، وبين المهتدي والضال، وقد جاء في كتاب الله في مواضع كثيرة ذكر الفرق بين هؤلاء كما قال الله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر:19-21] . ولو كان القدر حجة للفريقين على ما هم فيه لانتفى الفرق ولاستوى هؤلاء جميعاً، وقد قال الله جل وعلا: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] ، وهذا استفهام فيه إنكار التسوية بين هذين الفريقين. الوجه الرابع من أوجه إبطال الاحتجاج بالقدر على الشريعة: ما جاء من حديث علي بن أبي طالب في الصحيحين قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة وعلم مقعده من النار. فقال بعض الصحابة: ففيمَ العمل يا رسول الله؟! أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) . فلم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم القدر مسوغاً لترك العمل، بل لما قالوا له: أفنتكل على الكتاب وندع العمل؟ قال لهم صلى الله عليه وسلم: (اعملوا) ولم يقل: اتركوا، أو: اعتمدوا على الكتاب، أو: اعتمدوا على التقدير وإنما قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) . وكذلك جاء في حديث سراقة بن مالك في صحيح الإمام مسلم أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، فقال رجل: ففيمَ العمل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) وهذا يبين لنا أن الاحتجاج بالقدر من أبطل ما يكون في إبطال الشرائع، أي: أن الاحتجاج بالقدر على إبطال الشريعة وعدم العمل بها وإهدار الأمر والنهي من أفسد ما يكون؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) . ومن أوجه إبطال الاحتجاج بالقدر أيضاً: أنه لو كان القدر حجة على إبطال الشريعة لما عذب الله أحداً في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنه لو عذبهم مع كون القدر حجة لهم لكان ظالماً لهم، حيث إنه لم يمض ما هو حجة، لكن لما كان القدر ليس حجة في إبطال الشريعة عذب الله من خالف أمره، وجعل المخالفة سبباً للعقوبة. وبعد هذا العرض الموجز لبعض الأوجه التي يتبين بها فساد الاحتجاج بالقدر على إبطال الشريعة وترك العمل، نعلم علماً يقيناً لا يخالطه ريب ولا شك أن أهل السنة والجماعة على حق في هذا، وأنهم وسط بين الفريقين المختلفين: بين من ألغى قدر الله عز وجل وقدرته على خلق أفعال العباد، وبين من ألغى قدرة الإنسان واختياره فيما يكون منه وما يصدر عنه. قال رحمه الله: (ونعلم أنه سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك) . وهذا أيضاً يضاف إلى الأوجه التي يبطل بها الاحتجاج بالقدر على إبطال الشريعة. فنعلم أنه سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، أي: المستطيع على القيام بما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، وأنه لم يجبر أحداً على المعصية، أي: ليس هناك إجبار على المعصية، بل العاصي يعصي الله جل وعلا بإرادته واختياره، وكون الله جل وعلا علم ذلك وكتبه وشاءه وخلقه، لا ينافي اختيار العبد، بل العبد مختار لما يفعل ولما يقع منه من معصية الله عز وجل في ترك الواجبات ومواقعة المنهيات والمحرمات، فالعبد ليس مجبوراً على معصية الله عز وجل، بل له الاختيار التام في طاعة الله عز وجل والتزام شرعه، وفي معصيته سبحانه وتعالى والإعراض عن دينه، ولذلك رتب الله العقاب والثواب على امتثال الأمر وترك النهي، فمن امتثل فاز بالفضل، ومن أعرض وتنكب وواقع ما حرم الله عز وجل استحق العقوبة. قال رحمه الله: (ولا اضطره إلى ترك الطاعة) أي: ما اضطره الله جل وعلا إلى ترك طاعة، بل معصية العاصي هي بفعله ومشيئته واختياره، وطاعة الطائع هي بمشيئته واختياره؛ ولذلك إذا وقعت المعصية إكراهاً لم تترتب عليها العقوبة، حتى لو كانت هذه المعصية أكبر ما يكون من المعصية ألا وهي الكفر، كما قال الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ، فإن الله سبحانه وتعالى استثنى من المؤاخذة من أكره وكان منشرح الصدر بالإيمان ومطمئن القلب بحقائق الإسلام، فإنه لا يؤاخذ على ما يكون منه، فدل ذلك على أن الإكراه يخرج الإنسان عن التكليف.

احتجاج الجبرية على المعاصي بالقدر

احتجاج الجبرية على المعاصي بالقدر وذلك أن القدر انقسم الناس من حيث الإيمان به إلى طوائف: فطائفة غلت في إثبات القدر، وجعلت كل ما يكون من الإنسان وما يقع في هذا الكون محبوباً لله عز وجل مرضياً، فكل ما في الكون هو محبوب لله جل وعلا عندهم، وهو فعله ومشيئته، ولا فعل للإنسان ولا مشيئة ولا إرادة، فألغوا فعل الإنسان ومشيئته واختياره وإرادته، وقالوا: كل ما في الكون إنما هو فعل الله ولا فعل لغيره، ومشيئة الله ولا مشيئة لغيره، فاحتجوا بالقدر وبما يقع من قضاء الله وقدره على أمره ونهيه ودينه وشرعه، فجعلوا القدر حجة لإبطال الشرع، وهؤلاء إمامهم فيما ذهبوا إليه إبليس، حيث قال كما حكى الله عنه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16] ، فأضاف الإغواء إلى الله عز وجل، واحتج بإغواء الله له جل وعلا وعدم هدايته على فعل نفسه، وعلى صحة ما هو عليه، فزاده ذلك من الله جل وعلا بعداً وعذاباً. وقد سلك هذا المسلك أهل الشرك أيضاً: فاحتجوا بالقدر على معصية الله عز وجل، كما قال الله عز وجل عنهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام:148] ، فأخبر الله جل وعلا عما سيقوله المشركون من أن ما يقع منهم من الشرك وتحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله؛ أن ذلك واقع منهم بمشيئة الله عز وجل، فاحتجوا بالقدر والقضاء على مخالفة أمر الله جل وعلا في توحيده وإفراده بالعبادة، وقد كذَّبهم الله جل وعلا في ذلك. كما أن هذه الحجة هي حجة أهل التفريط والتقصير الذين أسرفوا على أنفسهم يوم القيامة، فإن مما ذكر الله جل وعلا من أقوالهم: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] ، فلم ينفعهم ذلك في دفع عذاب ولا رفع عقاب، وقد قال أهل الشرك كذلك: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} [النحل:35] ، ولما دعاهم جل وعلا وأمرهم بالإنفاق والإطعام والصدقة قالوا كما قال تعالى حاكياً عنهم: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] وكما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] فاحتجوا بالقدر على إبطال الأمر والنهي وعلى إبطال الشرع، وهذا من أخبث وأخطر الأقوال وأرداها؛ لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة.

النقض على الجبرية في احتجاجهم بمحاجة آدم وموسى

النقض على الجبرية في احتجاجهم بمحاجة آدم وموسى ومما ينبه إليه في مسألة الاحتجاج بالقدر على المعصية هو أن الجبرية الذين غلوا في إثبات القدر، وجعلوا القدر، حجة على إبطال الشريعة، يستدلون بما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في محاجة موسى آدم، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حج آدم موسى، فإن موسى قال سائلاً الرب جل وعلا: أرنا أبانا الذي أخرجنا من الجنة، فلما رآه قال: يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لمَ خرجت وأخرجتنا من الجنة؟ فقال آدم عليه السلام لموسى: يا موسى! أنت الذي اصطفاك الله بتكليمه فكلمك، وكتب لك التوراة بيده، بكم وجدت ذلك مكتوباً علي قال: بأربعين سنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى) ، هذا الحديث يحتج به الذين يقولون: إنه يسوغ أن يحتج بالقدر على المعصية؛ قالوا: إن آدم رد على موسى بأن الله كتب عليه المعصية، حيث قال له: فبكم وجدت مكتوباً علي قبل أن أخلق: وعصى آدم ربه فغوى؟. والصحيح أنه لا حجة لهم في هذا الحديث على ما ذهبوا إليه من الاحتجاج بالقدر على إبطال الشرع؛ لأن الموضوع والمحاجة بين آدم وموسى: هل هي في المعصية أم في المصيبة وهي الإخراج من الجنة؟ وهل قال: يا آدم! لمَ عصيت الله وأكلت من الشجرة، أو قال له: لمَ أخرجتنا؟ A أن المحاجة والمناقشة وقعت في المصيبة التي ترتبت على وقوع المعصية وهي الإخراج من الجنة، فأجاب آدم بأن المصيبة من قدر الله عز وجل، وهذا لا يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة من أنه يجوز الاحتجاج بالقدر على المصائب، فإذا نزلت بالإنسان مصيبة احتج بالقدر، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم المروي في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (استعن بالله ولا تعجز، فإذا أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، أو قدّر الله وما شاء فعل) ، فكان الاحتجاج بالقدر على المصيبة. ولذلك إذا أصابك شيء مما تكره؛ ففاتك خير أو نزل بك ضر، فإنك تقول: قدر الله وما شاء فعل، فدل هذا على أنه يجوز الاحتجاج بالقدر على المصائب، وهذا إجماع من أهل السنة والجماعة ولا خلاف بينهم فيه، لكن هل يسوغ لأحد أن يحتج بالقدر على المعصية؟ الجواب: لا. فآدم عليه السلام احتج بالقدر على الإخراج -وهي المصيبة التي نزلت به وببنيه- لا على المخالفة، وهذا هو الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله ورجحه، وأبطل سائر ما ذكر من الأوجه في إبطال المحاجة؛ لأن من العلماء من قال: إن آدم حج موسى لكونه أباه أو غير ذلك من الأوجه. المهم أن هذا هو أرجح الأقوال، وابن القيم رحمه الله سلك مسلكاً آخر فقال بعد أن ذكر كلام شيخه: ويكون هناك وجه آخر يصلح أن يكون جواباً في هذه المحاجة وهو: أن آدم عليه السلام إنما احتج بالقدر على المعصية بعد أن وقعت وتاب منها. فيقول رحمه الله: فيجوز للإنسان إذا وقعت منه معصية وتاب الله عليه منها أن يحتج بالقدر إذا عاتبه أحد. فمثلاً: إنسان أسرف على نفسه بشرب الخمر وسائر ألوان المعاصي ثم تاب، فجاءه شخص وقال: أنت ما فيك خير، وأنت شارب خمر، وأنت سراق، وما أشبه ذلك، فله أن يقول: ذلك بقدر الله؛ لأنه في الحقيقة بقدر الله، فساغ الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها، وهذا هو الذي وقع من آدم، فإنه ما احتج بالقدر - على ما وجه ابن القيم رحمه الله- على الاستمرار والمضي في المعصية، وإنما احتج بالقدر على أنها قد وقعت وانتهت فلا تعيرني بها، ومن تاب تاب الله عليه، والتوبة تجب ما قبلها، فبطل احتجاجهم بهذا الحديث على مسألة الاحتجاج بالقدر في إبطال الشريعة. وإنما أطلنا في هذا وبينا أوجه إبطال وإفساد احتجاجهم بالقدر على إبطال الشريعة الإسلامية؛ لأن كثيراً ممن ابتلوا بالتصوف يحتجون بالقدر على أخطائهم، وكثير ممن يسرفون على أنفسهم في المعاصي إذا أمروا بالمعروف أو نهوا عن المنكر قالوا: ما قدر الله لنا الطاعة، وما هدانا الله لترك المعصية، وما أشبه ذلك من الحجج الباردة التي يبطلون بها الشريعة.

ذكر الكسب ليس مختصا بالأشعرية

ذكر الكسب ليس مختصاً بالأشعرية قول المؤلف رحمه الله: (فدل على أن للعبد فعلاً وكسباً) . انتقد هذا بعض أهل العلم فقال: إن هذا فيه شائبة أشعرية حيث قال: فدل على أن للعبد فعلاً وكسباً، والصحيح أن كلام المؤلف ليس عليه مؤاخذه، وأنه سالم وجارٍ على طريقة أهل السنة والجماعة، وذكر الكسب ليس دليلاً على أشعرية المؤلف؛ لأن الكسب قد ذكره الله تعالى فقال: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] ، وقد ذكر المؤلف رحمه الله هذه الآية قبل ذكر الكسب، ففهم من الكسب ما دلت عليه الآية من أنه فعل الإنسان الذي يكون باختياره وإرادته ومشيئته. أما الأشعرية فلهم في القدر قول عجب خالفوا به الناس، حيث قالوا: إن أفعال الخلق كسب لهم وليس لهم عليها قدرة، وهذا القول لا نطيل فيه؛ لأنه من الأقوال المستبشعة والمستغربة والتي لا حقيقة لها ولا معنى لها؛ ولذلك فهم يرجعون إلى أنهم يقولون بقول الجبرية، فهم يقولون: إن فعل العبد كسب له لكن لا قدرة له عليه، وهذا لا يمكن أن يكون. إذ كيف يكون فعله كسباً له ولا قدرة له عليه؟! فمن قال: إن كلام المؤلف هنا فيه شائبة أشعرية أو فيه إيهام أو إبهام، ففي قوله نظر وتكلف؛ لأن المؤلف رحمه الله ذكر هذا بعد ذكر الآية التي فيها الكسب وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] ، فيكون معنى الكسب الذي ذكره هو ما دلت عليه الآية، وبهذا يكون قد انتهى ما يتعلق بمسائل القدر في هذا الفصل، وينبغي للمؤمن أن يقر قلباً وأن يقر فؤاداً بأن الله جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً كما قال الله جل وعلا: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ، وكما قال سبحانه وتعالى: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] فإذا استقر في قلب العبد هذا اطمأن من أن يقع ظلم من الله عز وجل أو تعارض بين الشرع والقدر، بل الأمر كله لله جل وعلا يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، والعبد له اختيار ومشيئة وإرادة، ومشيئته وإرادته لا تخرج عما قدره الله وعلمه وكتبه وشاءه وخلقه. والله تعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

شرح لمعة الاعتقاد [11]

شرح لمعة الاعتقاد [11] مسائل الإيمان من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين أهل السنة والجماعة، وبين أهل الأهواء قديماً وحديثاً، فعلى المسلم أن يعلم قول أهل السنة والجماعة في هذا الباب؛ لأنه من أهم الأبواب، بل هو من صميم عقيدة المسلم. وكذلك يجب على المسلم الإيمان بكل ما جاء في كتاب الله، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيب، سواء أدرك معناه وعقله أم لم يدركه.

عقيدة أهل السنة في الإيمان والجواب على مخالفيهم

عقيدة أهل السنة في الإيمان والجواب على مخالفيهم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والإيمان قول باللسان وعمل بالأركان وعقد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] ، فجعل عبادة الله تعالى وإخلاص القلب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كله من الدين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ، فجعل القول والعمل من الإيمان. وقال تعالى: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران:173] ، وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً} [الفتح:4] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال برة أو خردلة أو ذرة من الإيمان) فجعله متفاضلاً] . تقدم الكلام على ما في هذا الفصل، وذكرنا أن الإيمان الذي ذكره المؤلف بقوله: والإيمان قول باللسان وعمل بالأركان وعقد بالجنان، هو عقد أهل السنة والجماعة في بيان معنى الإيمان، وأن لهم على ذلك عبارات متعددة، منها هذه العبارة، ومنها أن الإيمان قول وعمل، ومنها أن الإيمان قول وعمل ونية، كل هذا مما جاء عن سلف الأمة ومعناه متفق وإن اختلف لفظه.

الإيمان قول واعتقاد وعمل

الإيمان قول واعتقاد وعمل وقول المؤلف رحمه الله: (والإيمان قول باللسان وعمل بالأركان وعقد بالجنان) فيه رد على أهل البدع فيما يتعلق بالإيمان، فإن المخالفين في الإيمان على طرق، أشدهم مخالفة الجهمية الذين يقولون: الإيمان هو معرفة القلب، وهذا قول جهم ومن أخذ بقوله، ومعنى هذا: أنه لا يحتاج إلى قول، ولا يحتاج إلى عمل، ولا يحتاج إلى إقرار بالقلب، بل يكفي فيه عندهم مجرد المعرفة. والقول الثاني: هو قول مرجئة الفقهاء الذين قالوا: الإيمان قول باللسان وعقد بالجنان، فأخروا العمل عن مسمى الإيمان، وهؤلاء يسمون بمرجئة الفقهاء، وهم الذين عابهم سلف الأمة وذموا قولهم، فإن هذا القول متقدم على قول الجهمية، أي: سابق لقول الجهمية الذين قالوا: إن الإيمان مجرد معرفة القلب، فما جاء من ذم السلف للإرجاء إنما هو ذم لما أحدثه مرجئة الفقهاء من تأخير العمل وإخراجه عن مسمى الإيمان.

أول من قال بالإرجاء من الفقهاء

أول من قال بالإرجاء من الفقهاء وقد تزعم هذا القول وتكلم به جماعة من الفقهاء من أوائلهم حماد بن أبي سليمان، وممن نسب إليه الأولية في هذا القول ذر بن عبد الله الهمداني، وهو من العباد النساك، ونسب هذا القول إلى غير هذين، لكنه اشتهر في فقهاء الكوفة وهم من كان على طريقة أبي حنيفة رحمه الله؛ ولذلك ينسب هذا القول إلى الحنفية؛ لأنه كثر فيهم. وقد اختلف العلماء هل هو قول أبي حنيفة أم لا؟ فمنهم من قال: إنه قول أبي حنيفة، وهو المشهور عند نقلة الأقوال، ومنهم من قال: إن أبا حنيفة قال به ثم رجع عنه، وليس هناك في كلام منقول عنه ما يشهد لقوله به أو رجوعه عنه، والذي يظهر أنه جار على ما كان عليه السلف من أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، أي: قول باللسان وعمل بالأركان وعقد بالجنان. وأما ما حدث من مرجئة الفقهاء فإنه قول انتشر في الحنفية فنسب إلى مذهب أبي حنيفة، وهو قول مخالف لقول أهل السنة والجماعة.

وجه الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء

وجه الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء ووجه المخالفة بين قول مرجئة الفقهاء وبين قول أهل السنة والجماعة، هو في إخراج العمل، فالمرجئة لم يدخلوا العمل في الإيمان، وقد اضطرب قولهم، نظراً لكون هذا القول فيه نوع إشكال في العمل -عمل القلب- هل هو من الإيمان أم لا؟ فبعضهم قال: عمل القلب من الإيمان، وعلى هذا يلزمهم أن يدخلوا عمل الجوارح، وبعضهم أخرج عمل القلب عن مسمى الإيمان، يقول شيخ الإسلام يرحمه الله: ويلزمهم على هذا أن يوافقوا جهم في قوله: إن الإيمان هو مجرد المعرفة.

الإيمان يزيد وينقص

الإيمان يزيد وينقص والخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء خلاف حقيقي وليس خلافاً لفظياً كما ذكر ذلك ابن أبي العز رحمه الله في شرحه للطحاوية، فالخلاف حقيقي يترتب عليه خلاف معنوي، فإن جمهور العلماء وأهل السنة والجماعة يقولون: إن الصلاة والزكاة -وهما رأس العمل- من الإيمان، ومرجئة الفقهاء يقولون: إنهما ليسا من الإيمان. ويرد عليهم بقول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] ، فجعل الله ذلك من الدين، فدل ذلك على أنها داخلة في الإيمان وأنها من الإيمان، فعلم بهذا أن الخلاف الواقع بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء هو خلاف حقيقي، وإنما قال من قال: بأنه خلاف لفظي بناءً على أن عمل القلب هل يدخل في الإيمان أو لا؟ وهل يؤثر في زيادة الإيمان أو لا؟ وقد ذكر الطحاوي رحمه الله في متنه ما يدل على أن هذا القول مضطرب، فقال رحمه الله: (الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان) ، فلم يذكر العمل، ثم قال: (وجميع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء) ، ثم قال: (والتفاضل بينهم في الخشية) ، فجعل الإيمان متفاضلاً حيث قال: (والتفاضل بينهم في الخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى) ، هكذا قال رحمه الله في متن الطحاوية، وهذا يدلك على أن هذا القول فيه من الاضطراب ما فيه، إذ كيف يقول: الإيمان واحد، ثم يقول: وأهله في أصله سواء؛ لأنه لو كان الإيمان واحداً لم يكن أهله في أصله سواء؛ لأن إيحاءه بأن له أصلاً وفروعاً يدل على أن العمل داخل فيه. ثم قوله: (والتفاضل بينهم في الخشية والتقوى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى) يدل على أنه يثبت تفاضلاً، ومرجئة الفقهاء على أن الإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص بناءً على أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، والزيادة والنقصان إنما هي في الأعمال. فهذا القول الذي ذكره المؤلف رحمه الله في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة قد انتظم في الرد على هذه الطوائف كلها، سواء الجهمية أو المرجئة -مرجئة الفقهاء- أو الكرامية، ولم نذكر قول الكرامية لأنه قول مندثر لا قائل به، فهم يقولون: الإيمان قول اللسان فقط. والصحيح هو: مادلت عليه النصوص من أن الإيمان قول باللسان، وعقد بالجنان، وعمل بالجوارح، فترتب على هذا الاعتقاد اعتقاد أن الإيمان يزيد وينقص، ولذلك قال: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) ، وهذا يخالف فيه كل الفرق التي خالفت في حقيقة الإيمان، فيخالف فيه الجهمية، ويخالف فيه مرجئة الفقهاء، ويخالف فيه الكرامية، ويخالف فيه الخوارج والمعتزلة؛ لأن الخوارج والمعتزلة وإن كانوا يقولون كما يقول أهل السنة والجماعة: الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، ولكنهم يخالفون في زيادة الإيمان ونقصانه، ويقولون: الإيمان شيء واحد، إما أن يثبت جميعاً وإما أن ينتفي جميعاً، هذا هو قولهم فيما يتعلق بالإيمان. قال: (قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] ) وهذا فيه دليل على ما تقدم من أن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، وبين ذلك المؤلف رحمه الله فيما قال: (فجعل عبادة الله وإخلاص القلب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كله من الدين، وقال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) فجعل القول والعمل من الإيمان، وقال: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة:124] ) . وبهذا فرغ المؤلف من الاستدلال لبيان حقيقة الإيمان وأنه قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، ثم انتقل إلى دليل الزيادة والنقصان، فذكر قوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة:124] . ثم قال: (وقال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً} [الفتح:4] وقال صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه مثقال برة أو خردلة أو ذرة من الإيمان) فجعله متفاضلاً) ، وهذا دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، أما الزيادة فبالنص، وأما النقصان فبالمفهوم، كما قال سفيان بن عيينة لما سئل: أينقص الإيمان؟ قال: (إنه لا يزيد شيء إلا وينقص) .

هل يدخل جنس العمل في مسمى الإيمان

هل يدخل جنس العمل في مسمى الإيمان ثم اعلم أن من المسائل التي يكثر الكلام فيها مسألة دخول جنس العمل في مسمى الإيمان، يعني: إذا لم يعمل الإنسان شيئاً بالكلية وإنما قال بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وأقر بقلبه بالألوهية لله، وبالرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فهل يكفي هذا في الإسلام وتحقق الإيمان؟ A لا يكفي، وقد خالف في هذا مرجئة الفقهاء، وتبعهم بعض من تبعهم ممن ينتسب إلى السلف وقال: إن هذا هو اعتقاد السلف، وهذا غلط وخطأ وجناية على السلف فيما قالوا، فليس في كلام السلف شيء يدل على ما ذكر من أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، بل كلامهم واضح وجلي في خلاف هذا وأن العمل من الإيمان. وقول من يقول: إن تخلف جنس العمل لا يؤثر قول محدث تكذبه الأدلة من الكتاب والسنة، ويكذبه ما نقل عن سلف الأمة من أن الإيمان قول باللسان، وعقد بالجنان، وعمل بالأركان. ومن قال هذا القول إنما تأثر بقول من قال من مرجئة الفقهاء: إن العمل ليس من الإيمان، ولا فرق بين هذا وذاك في الحقيقة، وإذا تأمل الإنسان لم يجد فرقاً بين من يخرج جنس العمل عن مسمى الإيمان وبين من يقول: إن الإيمان قول باللسان، وإقرار بالقلب كما هو قول مرجئة الفقهاء. والمشكلة أن الذين يقولون بهذا القول إنما قالوا به نتيجة الفرار من التكفير في بعض الأعمال، وهذا هو منشأ قولهم، فمنشأ قول مرجئة الفقهاء إنما كان ردة فعل للخوارج الذين كانوا يكفرون الأئمة ويكفرون المسلمين بكبائر الذنوب. ولما كان الإيمان عندهم أصلاً واحداً أشكل عليهم ما يقوله الخوارج من أنه إذا كان الإيمان شيئاً واحداً فإما أن يثبت جميعاً أو أن ينتفي جميعاً؛ فقال مرجئة الفقهاء: إن الإيمان شيء واحد إما أن يثبت جميعاً وإما أن ينتفي جميعاً وليس منه العمل، فأخرجوا العمل حتى يسلم لهم بقاء الإيمان فيما إذا خالف الإنسان بسرقة أو زنا أو شرب خمر أو بغير ذلك من الأعمال المحرمة التي نفى الله ورسوله الإيمان عن فاعلها، فكان أول قولهم ردة فعل ثم تكوَّن بعد ذلك هذا المذهب، وهو مذهب المرجئة. وأما من ينصر هذا وينسبه إلى السلف من المتأخرين، فكذلك تكرر الأمر، فهناك -مثلاً- من يكفر بترك الصلاة، ومن يكفر بالحكم بغير ما أنزل الله، فلما رأى هؤلاء أن التكفير بهذه المسائل خلافي وسعوا الخلاف وجعلوا المسألة لا تتعلق بهذين العملين وبالتكفير فيهما أو بأشباههما، وإنما قالوا: لا نكفر بالعمل إلا باستحلال أو بانتفاء عقد جنان، أو بترك القول بالشهادة، فوقع فيما وقعوا فيه سلفهم من مرجئة الفقهاء. فالواجب على المؤمن أن يتحرى في عقيدته ما دل عليه الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، وألا يكون عقده ودينه عرضة لردود الأفعال، فإن من كان كذلك يوشك أن يرد الباطل بالباطل، والواجب على المؤمن أن يرد الباطل بالحق لا أن يرده بباطل مثله، فإنه لا ينفع نفسه ولا يرد الشر عن المسلمين برد الباطل بالباطل، وهذه مسألة قد ألفت فيها مؤلفات، وكتب فيها كتب وكتيبات، وإنما أحببنا أن نشير إلى بعض ما في هذه المسألة، ومن طلب المزيد فليرجع إلى ما ذكره العلماء في ذلك.

وجوب الإيمان بكل غيب أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم

وجوب الإيمان بكل غيب أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله: [ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه، مثل حديث الإسراء والمعراج، وكان يقظة لا مناماً، فإن قريشاً أنكرته وأكبرته، ولم تنكر المنامات، ومن ذلك: أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه، فرد عليه عينه] . ابتدأ المؤلف رحمه الله هذا الفصل بوجوب الإيمان بالغيب، وبكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون في الدنيا ومما يكون في الآخرة. قوله رحمه الله: (ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه، فيما شاهدناه أو غاب عنا) هذا الإيمان يسمى (الإيمان المجمل) الذي يجب أن يقر في قلب كل مؤمن، وهو أن يعتقد ما قاله صلى الله عليه وسلم ويؤمن به، ويصدق به، وأنه حق على حقيقته، هذا هو الواجب على أهل الإيمان، سواء علموه أو لم يعلموه، أدركوه أو لم يدركوه، ظهر لهم أو خفي، من عالم الغيب أو من عالم الشهادة، فيجب أن يؤمنوا بكل ذلك.

من خصائص المؤمن الإيمان بالغيب كله

من خصائص المؤمن الإيمان بالغيب كله ومن خصائص أهل الإسلام وأهل الإيمان أنهم يؤمنون بالغيب، ولذلك قال تعالى في أول صفة ذكرها لأهل الإيمان في كتابه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:2-3] ، فأول صفة ذكرها لعباده المتقين الذين يهتدون بالقرآن أنهم يؤمنون بالغيب، وهو الذي يميز بين أهل التقوى والدين والإيمان، وبين أهل الحجود والكفر والإعراض، فيجب على المؤمن أن يؤمن بكل ما أخبر به تعالى في كتابه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم إيماناً جازماً لا يدخله ريب ولا شك. وهذا هو الإيمان المجمل، ولذلك قال: (يجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم) ، أي: سواء علمناه أو لم نعلم، بلغنا أو لم يبلغنا، فيجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (وصح به النقل عنه) ، أي: ما أخبر به في الكتاب، أو صح به النقل عنه، فالأول يشمل الكتاب والسنة، وأما قوله: (أو ما صح به النقل) فهذا يختص بالسنة؛ لأن النقل إنما تطلب صحته فيما كان من خبر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف خبر الله عز وجل. قوله: (فيما شاهدناه) ، أي: فيما أدركناه، ووقع عليه بصرنا وهو من عالم الشهادة. وقوله: (أو غاب عنا) يعني: مالم ندركه ولم نشاهده. قوله: (نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ماعقلناه وجهلناه) : ما عقلناه: أي: ما أدركته عقولنا وفهمته، وما لم تدركه عقولنا ولم تفهمه، فالواجب الإيمان بجميع هذا، ولا يوقف الإنسان إيمانه بما أخبر الله به ورسوله على إدراك العقل وفهمه، فإن العقل قد يحار في إدراك خبر من الأخبار أو إدراك أمر من الأمور، لكنه لا يجوز له أن يتوقف في إيمانه بذلك، بل يجب عليه أن يؤمن بما أخبر الله به ورسوله. والشريعة تأتي بما يحار فيه الإنسان، لكنها لا تأتي بما تحيله العقول، أي: تتحير في إدراكه وكيفية وحقيقته، فلا يمكن أن تأتي الشريعة بما تحيله العقول، أي: بما تمنعه العقول وتقول إنه مستحيل. فيجب الإيمان بما أخبرت به الشريعة، سواء أدركنا ذلك بعقولنا أم لم ندركه، يعني: أدركنا حقيقته بعقولنا أو لم ندرك ذلك.

وجوب الإيمان بالإسراء والمعراج

وجوب الإيمان بالإسراء والمعراج يقول رحمه الله: (ولم نطلع على حقيقته معناه) ، ثم مثل لذلك فقال: (مثل حديث الإسراء والمعراج) . والإسراء: هو انتقال النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، كما قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] ، فأسرى الله عز وجل برسوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، هذا هو الإسراء، وقد أخبر به عز وجل في كتابه وسبح نفسه عليه، فدل ذلك على أنه من عظيم قدرته، وأنه دال على عظيم صفاته وكمال قوته جل وعلا. وقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] أي: ليرى ويشهد آياتنا الدالة على صدق خبرنا، وقد وقع ذلك له صلى الله عليه وسلم. أما المعراج فجاء ذكره في القرآن الكريم في سورة النجم في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:1-9] ، وكل هذا كان في تلك الليلة، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:10-12] أي: أتجادلونه وتناقشونه على ما رأى من تلك الآيات العظيمة الكبيرة التي تجلت له وشاهدها في تلك الليلة في معراجه؟! فالمعراج ثابت بالقرآن أيضاً، وثبوته في السنة لا مجال لإنكاره ولا شك فيه ولا ريب، فإن السنة قد دلت على ذلك دلالة واضحة جلية يدركها كل عقل مؤمن وقلب سليم، ولكن هل نحن ندرك كيف كان ذلك؟ A لا ندرك كيفية ذلك؛ لأن إدراك الكيفيات أمر زائد على التصديق بالخبر، فنحن نصدق بالخبر لكننا لا ندرك كيفية ذلك، ولذلك مثل به المؤلف على الأمور التي يجب الإيمان بها وإن كنا لا نعقل معناها، لأنا ولم نطلع ولم نشاهد كيف أسري به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى سابع سماء، ثم عاد في ليلة واحدة، فكل هذا جرى له صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة!

بيان أن الإسراء كان يقظة لا مناما، وكان بالروح والجسد

بيان أن الإسراء كان يقظة لا مناماً، وكان بالروح والجسد يقول رحمه الله: (وكان يقظة لا مناماً) ، وهذا عليه جمهور أهل العلم، ودل عليه كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن الإسراء والمعراج كانا بالجسد والروح لا بالروح وحدها كما يقوله من يقوله، بل كان بهما جميعاً كما دلت على ذلك النصوص، وهو ظاهر كتاب الله وظاهر سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

موقف قريش من الإسراء والمعراج

موقف قريش من الإسراء والمعراج قوله: (فإن قريشاً أنكرته وأكبرته) : أي: أنكرت الإسراء والمعراج وأكبرته، وعدته من أكبر دلائل كذب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فرحوا به وشنعوا على النبي صلى الله عليه وسلم فيه؛ حتى إن بعض أهل الإسلام ممن أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ارتد بسبب ما وقع في قلبه من شك وريب وشبهة من خبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان على رأس من أسلم أبو بكر رضي الله عنه، لكنه قال لما قالوا له ذلك: (إن كان قال ذلك فهو صادق، فإني أصدقه في أعظم من ذلك، أصدقه في خبر السماء الذي يأتيه في أي ساعة من ليل أو نهار) . ثم قال: (ولم تنكر المنامات) ، أي: لو كان الإسراء مناماً لما كان هناك وجه لإنكار قريش؛ لأن قريشاً لا تنكر المنامات، وإنما أنكرت على النبي صلى الله عليه وسلم وجادلت في الإسراء الذي كان بالروح والجسد لا بالروح فقط.

مجيء ملك الموت إلى موسى عليه السلام

مجيء ملك الموت إلى موسى عليه السلام قال: (ومن ذلك) ، أي: مما يجب التصديق به وإن لم ندرك حقيقته ولم نعقل كيفيته ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم (من أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فرد إليه عينه) . وهذا الخبر جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله بعث ملك الموت إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه، فجاءه فقال له: إن الله أمرني بقبض روحك، فلطمه موسى ففقأ عينه، فرجع ملك الموت إلى الله جل وعلا وقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، فرد الله عز وجل على الملك عينه، وأمره بأن يذهب إلى موسى وأن يضع يده على جلد ثور فما وقع تحت يده من الشعر فله به سنوات من العمر) الحديث. والشاهد من هذا الحديث هو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من فقء عين الملك، فإن هذا مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وقد لا يدركه كثير من الناس، فعدم إدراكهم له وعدم تصورهم لذلك لا يعني أنه يسوغ لهم أن ينكروه وأن يردوه، بل الواجب عليهم أن يؤمنوا به ويقبلوه. وهذا مثال آخر ذكره المؤلف لما يجب الإيمان به مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وصح به النقل مما غاب عنا ولم نعلم حقيقته وكيفيته. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

شرح لمعة الاعتقاد [12]

شرح لمعة الاعتقاد [12] ما سيأتي من أشراط الساعة، وما سيحصل في البرزخ ويوم القيامة؛ كله من الغيب الذي يجب على المسلم الإيمان به، وكذلك ينبغي على المسلم الاستعداد لذلك بالطاعة وتجنب المعصية.

من الإيمان بالغيب الإيمان بأشراط الساعة

من الإيمان بالغيب الإيمان بأشراط الساعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ومن ذلك أشراط الساعة، مثل: خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل] . هذا الفصل لما بدأه المؤلف رحمه الله بقوله: (ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه) ، علمنا أنه يتكلم عما يتعلق بالإيمان بالغيب، وقلنا: إن الإيمان بالغيب من أوصاف المتقين التي يجب على المؤمن أن يتحلى بها، فإنه لا تقوى ولا إيمان إلا لمن صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من أمر الغيب، سواء أدرك حقيقته ومعناه، أم لم يدرك حقيقته ومعناه. ومثل المؤلف رحمه الله لما يجب الإيمان به مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح النقل عنه بالإسراء والمعراج، فإن حديث الإسراء والمعراج مما لا تدرك العقول حقيقته ويصعب عليها إدراك كيف كان ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، لكنه من آياته صلى الله عليه وسلم، كذلك مثل بما جاء من الخبر في قصة مجيء ملك الموت لموسى عليه السلام. وهنا يقول رحمه الله في صلة ما وقفنا عليه: (ومن ذلك) ، أي: ومما يجب الإيمان به مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه صلى الله عليه وسلم (أشراط الساعة) ، فقوله: (ذلك) المشار إليه هو ما تقدم في أول الفصل. وقوله: (أشراط الساعة) ، أشراط: جمع شرط، بفتح الراء وهي العلامة، والمقصود بأشراط الساعة: علاماتها التي تدل على قربها ودنوها.

بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة

بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة وأعظم هذه العلامات وأولها ظهوراً بعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والتي تليها) ، وقد أشار الله جل وعلا إلى ذلك في قوله تعالى: {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] فجعل انشقاق القمر مقارناً لاقتراب الساعة، وانشقاق القمر هو ما جرى من الآية العظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة كما جاء عن ابن مسعود وغيره في الصحيح وغيره: (أن الله شق للنبي صلى الله عليه وسلم القمر فلقتين: فلقة على الجبل، وفلقة دونه، فرآه أهل مكة، فقالوا: سحرنا محمد) ، فهذا أيضاً من الآيات الدالة على قرب الساعة.

أقسام أشراط الساعة

أقسام أشراط الساعة والأشراط تتنوع، وقد أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة مستفيضة، فلا إشكال في ثبوت علامات الساعة وأشراطها، فإنه قد جاء الخبر عنها في كتاب الله عز وجل في قوله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] ، وكذلك في قوله تعالى: {أَزِفَتْ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:57-58] ؛ فهاتان الآيتان في سورة النجم فيهما الدليل على قرب الساعة وقرب علاماتها؛ لأن الله عز وجل أخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم نذير من النذر الأولى، ثم أخبر بقرب الساعة لما ذكر نذارة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورسالته. فأشراط الساعة كثيرة متنوعة ثبتت بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه العلامات تنقسم إلى أقسام: قسم منها ظهر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كبعثته وانشقاق القمر وما أشبه ذلك من الآيات التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم وظهرت في زمانه. وقسم منها ظهر بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ينقسم إلى قسمين: آيات وأشراط صغرى، وهي كثيرة لا حصر لها، ومنها ما رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سؤال جبريل عن الساعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في جواب جبريل: (ما المسئول عنها بأعلم بها من السائل) ، ثم سأله عن علاماتها وأماراتها، فذكر من ذلك: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى العراة الحفاة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) ، فهذه من العلامات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت في حديث اتفقت الأمة على قبوله والعمل به، فهو من أصح الأحاديث، وهذا الذي تضمنه الحديث هو من علامات الساعة الصغرى. القسم الثاني من علامات الساعة: العلامات الكبرى، وهذه العلامات ليست على درجة واحدة، بل هي متفاوتة في الدلالة على قرب الساعة، فمنها ما يكون بين يدي الساعة مباشرة، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن أول ما يكون من الآيات خروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأيهما كانت قبل كانت التي بعدها تليها) فهذا يدل على أن الأولية في أشراط الساعة الكبرى نسبية، فمنها ما يكون قريباً ومباشراً للساعة يدل على اختلال نظام الكون وقرب حصولها، ومنها ما يكون من العلامات الكبار والأشراط البينة الكبرى، لكنها ليست قريبة بين يدي الساعة، أي: ليست في القرب كالتي أخبر بأنها أول ما يكون من شأن الساعة، وذلك كخروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم، وما أشبه ذلك من الآيات التي أخبر بها كالخسف الذي يكون في المغرب، والخسف الذي يكون في المشرق، والخسف الذي يكون في جزيرة العرب.

فائدة معرفة أشراط الساعة وعلاماتها

فائدة معرفة أشراط الساعة وعلاماتها هذه الأشراط كلها علامات تدل على الساعة وتبين وتوضح قربها، والواجب على المؤمن أن يستشعر قرب الساعة لا بمجرد آية أو آيتين، بل بمجموع هذه الآيات، ومنها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر الله عز وجل بقرب الساعة ودنوها فقال: {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] وقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] وقوله تعالى: {أَزِفَتْ الآزِفَةُ} [النجم:57] ، وما إلى ذلك من الآيات التي أخبر الله عز وجل بقرب الحساب وقرب قيام الساعة التي يقوم الناس فيها لرب العالمين. فالواجب على المؤمن ألا ينتظر آية معينة يستدل بها على قرب الساعة، بل الآيات كثيرة منتشرة منها ما حصل ومنها ما سيحصل، ومنها ما هو واقع وحاصل في دنيا الناس، ومن ذلك: ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين بقوله: (لا تقوم الساعة حتى يقل العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا، وتشرب الخمر) ، فهذه علامات قائمة في دنيا الناس اليوم، فإن العلم قليل والجهل منتشر، والزنا فاشٍ، وإن كان لا يلزم من فشوه أن يكون فاشياً في كل بلاد العالم، لكن ظهور الزنا فيما نسمعه وينقل إلينا من ظهوره في بلاد الكفار أمر واضح وجلي، وكذلك شرب الخمر استهان به كثير من الناس من المسلمين ومن غيرهم. والمراد: أن العلامات منها ما يعايشه الناس، ومنها ما قد جاء وفرغ منه، ومنها ما هو مستقبل، أي: يستقبله الناس ولم يأت بعد، فالواجب على المؤمن أن يستفيد من هذه الأشراط لا في حسبها وعدها أو وقعت أو لم تقع، وإنما في الاستعداد لليوم الآخر؛ لأن الله عز وجل إنما ذكرها في مساق التنبيه ولفت النظر إلى قرب قيام الساعة الذي يوجب للإنسان العمل الصالح، ويوجب للإنسان استدراك ما مضى وما فات من صالح العمل، ولذا قال الله عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد:18] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: (بادروا بالأعمال ستاً: الدجال الدابة الدخان طلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة-يعني: يوم القيامة-وخاصة أحدكم) يعني: موته، فهذه الست التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هي من علامات الساعة، فينبغي للإنسان أن يبادرها، ومنها ما هو من علامات الساعة الكبرى، وهي الأربع الأولى التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالواجب على المسلم أن يبادر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال) ، فالفائدة المرجوة من معرفة أشراط الساعة هي المبادرة، لا ما يهتم به كثير من الناس اليوم من عدها، وهل انحسر الفرات عن جبل من ذهب أو لم ينحسر؟ وهل قد حصل خسف في المشرق وخسف في المغرب؟ وما إلى ذلك من خلاف ونزاع في تحديد بعض أشراط الساعة، وإنما المقصود والمراد هو أن يتهيأ لها أهل الإسلام، وأن يستعدوا لذلك اليوم.

الأشراط الكبرى للساعة

الأشراط الكبرى للساعة ثم إن الساعة منها ماهو عام كالساعة التي هي صعق وموت كل بني آدم وجميع الخلائق، ومنها ما يكون خاصاً وهي موت الواحد منا، فإن القيامة الصغرى هي أن تموت، وقد قرر الله عز وجل في كتابه في كثير من المواضع ذكر القيامتين: الخاصة التي تتعلق بكل واحد منا، والقيامة التي تعم الناس ويهلك فيها جميع الخلق. إذاً: فائدة بحث هذه الشروط ليس في مجرد عدها أو معرفتها والنظر في وقوعها أو لا، وإنما النظر في المبادرة بالعمل الصالح والاستعداد لها.

من أشراط الساعة خروج الدجال

من أشراط الساعة خروج الدجال قال رحمه الله: (مثل خروج الدجال) : وهذا من أشراط الساعة الكبرى، والدجال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي أرسله الله عز وجل إلا وأنذر أمته الدجال) ، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه وحاله وعمله ما لم يسبقه إليه أحد من الرسل المتقدمين. وخروج الدجال أمر مجمع عليه، وهو خروج حقيقي يحصل به من الفتنة والشر ما الله به عليم.

من أشراط الساعة نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال

من أشراط الساعة نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال قال رحمه الله: (ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله) ، وهذا أيضاً مما جاء به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ودل عليه الكتاب، فإن عيسى رفعه الله تعالى إليه كما قال الله جل وعلا: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] ، فهو مرفوع عند الله جل وعلا لم يمت، ثم ينزله الله عز وجل متى شاء، فإذا نزل في وقت هذه الفتنة العظيمة، فيكون على يديه نهايتها وإبطالها وقتل الدجال.

من أشراط الساعة خروج يأجوج ومأجوج

من أشراط الساعة خروج يأجوج ومأجوج قال رحمه الله: (وخروج يأجوج ومأجوج) ، وهذا دل عليه قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء:96-97] ، فجعل خروج يأجوج ومأجوج مقترناً باقتراب الوعد الحق. ويأجوج ومأجوج خلق من خلق الله عز وجل عظيم، وقد أخبر الله في كتابه أن ذا القرنين بنى سداً يمنعهم من الانتشار والإفساد في الأرض، فإذا أذن الله خرجوا ووقع الفساد منهم، ووقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال التي تكون منهم من الكفر والشر الذي يعم الأرض، ثم تبطل فتنتهم ويبطل شرهم بإذن الله تعالى.

من أشراط الساعة خروج الدابة

من أشراط الساعة خروج الدابة قال: (وخروج الدابة) : وخروج الدابة أمر أخبر الله به في قوله: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ} [النمل:82] ، فهذا ما أشار إليه المؤلف بقوله: (وخروج الدابة) . وخروج الدابة ثابت في السنة في أحاديث لا مجال لردها، فهي تبلغ حد الاستفاضة والتواتر. والدابة ليس هناك وصف دقيق لها وكيف تكون، ولكن هناك وصف لما تخرج من أجله، وهو: أنه يحصل بها بيان وتمييز المؤمن من الكافر.

من أشراط الساعة طلوع الشمس من مغربها

من أشراط الساعة طلوع الشمس من مغربها قال رحمه الله: (وطلوع الشمس من مغربها) : وهذه آية سماوية آفاقية تدل على انخرام نظام الكون، وقد جاءت الإشارة إليها في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158] ، فهذه الآية دالة على خروج الشمس من مغربها، وهي آية عظيمة كبرى تُرد بعدها التوبة ويغلق بابها، ولا ينتفع أحد بعد ذلك بعمل لم يكن قد علمه من قبل، وهذه الآية من أوضح الآيات وأعمها وأظهرها دلالة على دنو الساعة وقربها. قال رحمه الله بعد ذلك: (وأشباه ذلك مما صح به النقل) ، وهو كثير من الآيات الصغرى والآيات الكبرى.

وجوب الإيمان بعذاب القبر ونعيمه وفتنته

وجوب الإيمان بعذاب القبر ونعيمه وفتنته قال المؤلف رحمه الله: [وعذاب القبر ونعيمه حق، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه، وأمر به في كل صلاة] . عذاب القبر: هو ما يكون من العذاب الذي يكون في القبر، ونعيمه: أي النعيم الذي يكون في القبر. وعذاب القبر ونعيمه ثابت بالكتاب والسنة، وقد أجمع عليه سلف الأمة، فأدلة الكتاب وأدلة السنة في ثبوته كثيرة. يقول المؤلف: (وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه، وأمر به في كل صلاة) أي: أمر بالاستعاذة منه في كل صلاة. وعذاب القبر: أي العذاب الواقع في القبر، وهذا من باب إضافة الشيء إلى محله، وليس هذا حصراً على القبور، فمن لم يقبر فإنه يدركه عذاب القبر ونعيمه ولو لم يكن في قبر، فهو إضافة للعذاب إلى محله الغالب، وإلا فإن العذاب يكون للمقبور ويكون لغير المقبور. ودليله من الكتاب قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، فأخبر الله عز وجل في هذه الآية بأن آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشيا، ثم أخبر ما يكون من حالهم يوم القيامة، فقال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] . ومن الأدلة التي يستدل بها العلماء على عذاب القبر قول الله عز وجل: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً} [نوح:25] . ومن الأدلة الدالة على عذاب القبر أيضاً قول الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50] ، فذكر الله عز وجل حالهم في العذاب وقت قبض أرواحهم، ثم قال: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) فذكر بعد ذلك عذاب الحريق الذي هو عذاب بالنار، نسأل الله السلامة والعافية. والمراد: أن الأدلة الدالة على العذاب الواقع في القبر كثيرة، وكذلك النعيم فإن أدلته كثيرة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه) أي: من عذاب القبر، وذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استعيذوا بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) وقد قال ابن عباس: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن) وقالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من أربع: من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) ، وهذا العذاب يستحقه كل من كان كافراً بالله العظيم، فإنه يعذب في القبر عذاباً دائماً كما قال تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر:46] ولم يذكر لذلك منتهى، ثم قال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، ففهم من هذا أن عذابهم دائم ومستمر. النوع الثاني من العذاب: العذاب المنقطع، وهو ما يكون لبعض العصاة الذين يعذبون جزاء ما اقترفوا من جرم وما وقعوا فيه من ذنب، ثم يرفع عنهم العذاب. ومن أدلة أن العذاب في القبر متفاوت من حيث الدوام وعدمه، ومن حيث الشدة والخفة، حديث ابن عباس رضي الله عنه في قصة مرور النبي صلى الله عليه وسلم على القبرين حيث غرز على كل قبر جريدة وقال صلى الله عليه وسلم: (لعله يخفف عنهما مالم ييبسا) ، فدل ذلك على أن عذاب القبر ليس على درجة واحدة، بل هو متفاوت من حيث الشدة والخفة، وهو أيضاً متفاوت من حيث الدوام والانقطاع، فالكفار عذابهم فيه دائم، وأما أهل الإسلام الذين وقع منهم بعض المعاصي التي يستحقون العقوبة من أجلها في القبر فإنه قد يكون منقطعاً، وهذا العذاب الذي يصيب بعض أهل الإسلام في القبر يكفر الله به عنهم من الخطايا، ويكون حاطاً عنهم ما قد يعاقبوا بسببه في النار، فهو من جملة ما يصاب به المسلم، ويكفر به من خطاياه، حتى لا يعاقب عليها في الآخرة.

عذاب القبر ونعيمه حق

عذاب القبر ونعيمه حق قال المؤلف رحمه الله: [وعذاب القبر ونعيمه حق، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه، وأمر به في كل صلاة، وفتنة القبر حق، وسؤال منكر ونكير حق، والبعث بعد الموت حق، وذلك حين ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور: {فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] ، ويحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً، فيقفون في موقف القيامة، حتى يشفع فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويحاسبهم الله تبارك وتعالى، وتنصب الموازين، وتنشر الدواوين، وتتطاير صحائف الأعمال إلى الأيمان والشمائل] . ما ذكره رحمه الله هو في بيان ما يجب الإيمان به واعتقاده مما يندرج تحت الإيمان باليوم الآخر.

فتنة القبر

فتنة القبر قال: (وفتنة القبر حق) أي: الامتحان الواقع للموتى في قبورهم إذا دفنوا، فإن أهل القبور إذا دفنوا يمتحنون ويختبرون ويسألون ويقال للميت: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وهذا السؤال يسأله الإنسان سواء قبر أو لم يقبر، لكن من كان سيقبر فإنه سيسأل في قبره؛ لحديث أنس وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضع العبد في قبره أتاه ملكان) ، فإتيان الملكين هو من أجل السؤال، وهو الفتنة التي تكون في القبر، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتنة القبر وبينها في أحاديث مستفيضة تبلغ حد التواتر، فلا مجال لإنكارها ولا للتكذيب بها، وهذه الفتنة هي لجميع أهل التكليف، أعني: هي لجميع من كان مكلفاً.

هل يفتن الأنبياء والشهداء في قبورهم؟

هل يفتن الأنبياء والشهداء في قبورهم؟ واختلفوا في الأنبياء هل يفتنون أم لا؟ والصحيح: أنهم لا يفتنون؛ لأن الأنبياء هم المسئول عنهم لا المسئولون، كما أنهم اختلفوا في الشهداء هل يفتنون أم لا؟ والصحيح: أنهم لا يفتنون؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى ببارقة السيوف فوق رءوسهم فتنة) ، فهذا مما يعطاه أهل الشهادة.

هل يفتن الصغير والمجنون والمعتوه في قبورهم

هل يفتن الصغير والمجنون والمعتوه في قبورهم واختلفوا فيمن مات دون البلوغ، ومن بلغ وهو مجنون أو معتوه لا عقل له، فهل هؤلاء يفتنون أم لا؟ على قولين لأهل العلم: فمنهم من قال: إنهم يفتنون ويمتحنون، وهذا قول أكثر أهل العلم. والقول الثاني: أنهم لا يفتنون ولا يختبرون؛ لأنه ليس معهم عقل، وهذا في حق المجانين، وليس عليهم تكليف من أجل أن تقع عليهم الفتنة والاختبار، وهذا في حق الصغار. والذين قالوا بالفتنة استدلوا بما رواه مالك وغيره: أن أبا هريرة كان إذا صلى على جنازة قال: (وقه عذاب القبر) ، ومن جملة ما يكون في عذاب القبر ما يكون من الفتنة؛ لأن الفتنة قد يعقبها العذاب، فاستدل بعضهم بهذا على أن الصغار ومن لا عقل له يفتنون، والذي يظهر أنهم يفتنون والعلم عند الله، ولكن هذه الفتنة لا شيء فيها عليهم؛ لأن من لا عقل له يمتحن يوم القيامة، فإن أجاب دخل الجنة وإن امتنع ولم يجب فإنه يكون من أهل النار، والله حكم عدل كما قال عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44] .

الرد على من أنكر فتنة القبر وعذابه

الرد على من أنكر فتنة القبر وعذابه يقول رحمه الله في بيان الفتنة: (وفتنة القبر حق) ، أي: ثابتة لا مجال لإنكارها وردها، ومن أنكرها من المعتزلة وغيرهم إنما أنكروها لكون عقولهم قصرت عن إدراك هذه الفتنة العظيمة التي تكون في القبور، وقالوا أيضاً: إننا نفتح القبر ولا نرى ملائكة تسأل، ولا بدناً يُقعد، ولا نراه يضرب بمرزبة من حديد وما أشبه ذلك مما جاء به الخبر في فتنة القبر. والجواب عن هذا أن يقال: إن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الإقعاد والسؤال إنما هو في الأصل للروح لا للبدن، وذلك أن دار البرزخ التي بين الدنيا والآخرة يقع الحكم فيها على الأرواح لا على الأبدان، وما يكون مما ذكر بلوغه للبدن أو ظهر أثره حساً على الأبدان إنما هو تبع، وإلا فالأصل أن أحكام دار البرزخ تتعلق بالأرواح ولا تتعلق بالأبدان، فالبدن لا يظهر عليه إقعاد، ولا يظهر عليه أثر الضرب الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يجب ولم يوفق في فتنة الملكين، فإنهما كما في حديث أنس في الصحيحين: (يضربانه بمرزبة بين أذنيه أو بمطرقة من حديد يبن أذنيه فيصيح فيسمعه كل أحد إلا الثقلين) فهذا إنما يكون على الروح لا على البدن. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله وأيضاً ابن القيم أنه قد يظهر أثر ذلك على البدن، وقد يقوى اتصال الروح بالبدن، فيقعد البدن، ولا تقل: كيف؟ فإن هذا أمر لا ندركه نحن، فإننا لو فتحنا القبر أو وضعنا جهاز تصوير بعد الدفن فلن نجد بدناً يقعد، ولا ملكاً يأتي؛ لأن البدن متعلق بالروح، والآن الروح يحصل لها ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الانتقال والسؤال وما إلى ذلك، ولا يظهر على البدن أثر، كما أن الإنسان إذا نام ورأى في المنام أنه يدخل في عراك وقتال تجده يتأثر ويستيقظ فزعاً، وقد يجد أثر هذا على بدنه وهو في منام؛ لأن الروح مرتبطة بالجسد، والحكم في الدنيا الأصل أنه على الأجساد، فكذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر ونعيمه، فالأصل فيه أنه واقع على الأرواح وما يكون للأبدان إنما هو تابع، وهكذا ما يكون من نعيم الروح في الدنيا فهو تابع لنعيم البدن، أما الآخرة فيقترن الروح بالبدن اقتراناً تاماً في التعذيب والتنعيم، أي: في العذاب والنعيم، فيكون عليهما جميعاً. فالذين أنكروا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر ومن فتنة القبر، ومن سؤال منكر ونكير وما أشبه ذلك، إنما اعتمدوا في الإنكار على العقل والحس، وقالوا: لا ندرك ذلك ولا نشاهده. فنقول: نعم، أما العقل فلا مجال لإعماله فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون من أمر الغيب؛ لأنه بأي عقل يوزن خبر الله وخبر رسوله؟ كما قال الإمام مالك: ليت شعري بأي عقل نزن الكتاب والسنة؟! وأما الحس فنقول: إن الحكم ليس على الأبدان حتى تعترضوا، وإنما الحكم في دار البرزخ على الأرواح لا الأبدان.

سؤال منكر ونكير للميت وسبب تسميتهما بهذين الاسمين

سؤال منكر ونكير للميت وسبب تسميتهما بهذين الاسمين ثم قال رحمه الله: (وسؤال منكر ونكير حق) : هذا بيان تفصيل الفتنة، وأن الفتنة تكون بسؤال منكر ونكير. ومنكر ونكير ملكان كريمان، وإنما سميا بهذين الاسمين منكَر-بفتح الكاف- ونكير؛ لأنهما لا يعرفهما الإنسان، فهما غير معروفين لمن يأتيان إليه، فالنكارة هنا ليست لفعلهما، ولا لحالهما، وإنما النكارة لكون الإنسان يجهلهما. وقيل: إنهما يأتيانه على صورة منكرة فظيعة، تدهش العقول وتذهب الألباب، وتذيب القلوب، وهذا الموقف هو الذي يحصل به الفضل لأهل الفضل كما في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] ، فالثبات الذي يكون في الآخرة منه ما يكون في القبر عند سؤال منكر ونكير، بل هو سبب نزول هذه الآية كما في الصحيح، فهذان الاسمان لهذين الملكين إنما هما في الحقيقة وصف لحالهما وليس تقليلاً لشأنهما، فهما من الملائكة الكرام الذين سخرهم الله عز وجل. وقد جاء إطلاق هذين الاسمين عليهما في السنة فيما رواه ابن حبان في صحيحه، وأيضاً جاء في مسند الإمام أحمد، فهذان الاسمان لهذين الملكين ثبتا بالسنة، وإن كان بعض أهل العلم يضعف ما ورد في ذلك. ثم قال: (والبعث بعد الموت حق) : البعث هو ما أخبر به الله به عز وجل من قيام الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، ولعلنا نترك التفصيل بما يتعلق بالبعث إلى الدرس القادم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

شرح لمعة الاعتقاد [13]

شرح لمعة الاعتقاد [13] من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بكل ما ورد من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الآخرة، ومن ذلك: الشفاعة العظمى الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي يحمده عليه أهل الموقف، ثم ما يتبع ذلك من حساب ونصب للموازين، ووزن للأعمال، وتطاير الصحف، ونشر للدواوين، والجواز على الصراط.

الإيمان بحشر الخلائق

الإيمان بحشر الخلائق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ويحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً، فيقفون في موقف القيامة حتى يشفع فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويحاسبهم الله تبارك وتعالى، وتنصب الموازين، وتنشر الدواوين، وتتطاير صحائف الأعمال إلى الأيمان والشمائل {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق:7-12] . والميزان له كفتان ولسان توزن به الأعمال: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102-103]] . هذا صلة لما تقدم من الكلام على الإيمان باليوم الآخر، والمؤلف رحمه الله ذكر شيئاً مما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر ولم يستوعبه، وقد تقدم أن الإيمان باليوم الآخر يقتضي الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يكون بعد الموت، كما قال رحمه الله: (والبعث بعد الموت حق) ، ثم قال: (وذلك حين ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور) (فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] ) . وقد جاء النفخ في القرآن في ثلاثة مواضع: الموضع الأول قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87] ، هذه النفخة الأولى وتسمى نفخة الفزع. والنفخة الثانية والثالثة في سورة الزمر في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] ، فحصل من هذا ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة القيام والبعث. والمؤلف رحمه الله ذكر في هذه الآية نفخة البعث التي يقوم بها الناس لرب العالمين، كما قال الله عز وجل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1-3] ، {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4-6] ، فهذا القيام عقب النفخ هو الذي يقوم به الناس من قبورهم، ويحشرون به إلى ربهم، قال رحمه الله في قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] أي: يأتون من كل مكان، ويجتمعون من كل صوب، والنسل في قوله تعالى: (ينسلون) يدل على كثرة وعظم هذا البعث، وأنه بعث عظيم يأتي بالناس ويجمعهم من كل مكان. قال رحمه الله: (ويحشر الناس يوم القيامة) . بعد أن ذكر البعث وقيام الناس لرب العالمين ذكر الحشر، ويحشرون: أي يجمعون، وهذا الجمع ليس خاصاً بالناس، وإنما خصهم المؤلف رحمه الله بالذكر لكونهم هم الذين يقصدون بالبعث والنشور والحشر؛ لأن مقصود الحساب والجزاء أن يتبين أهل السعادة وأهل الشقاء، وأما بعث ونشر وحشر غيرهم فهو تابع، قال الله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] ، فالوحوش تحشر وتجمع، وقال تعالى في حشر الخلائق:: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38] ، أي: كل ما طار وما درج وكل ما خلقه الله عز وجل يحشر يوم القيامة، فكل ذي حياة يبعث يوم القيامة ويؤتى به إلى أرض المحشر. قوله رحمه الله: (ويحشر الناس) تخصيص لقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] ، فيحشرون ويجمعون على الصفة التي ذكرها الله عز وجل. وسمى اليوم بيوم القيامة؛ لأنه {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] ، ولأنه اليوم الذي يقام فيه الميزان بالقسط، ولأن الله عز وجل يقيم فيه العدل؛ فهذا هو سبب تسمية هذا اليوم بيوم القيامة. قال رحمه الله في صفة حشر الناس: (حفاة عراة غرلاً بهماً) ، وهذه الأوصاف جاءت بها السنة، ففي حديث ابن عباس في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنكم ملاقو ربكم حفاة عراة غرلاً) ، وأما زيادة: (بهماً) فجاءت في مسند الإمام أحمد بسند لا بأس به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً، قالوا: ما بهماً يا رسول الله؟ قال: ليس معهم شيء) ، أي كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] ، {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} [الأنعام:94] ؛ فكل الناس يأتي يوم القيامة ليس معه شيء من هذه الدنيا إلا ما كان من العمل الصالح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (يأتي الرجل يوم القيامة فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه -جهة شماله - فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار) ، وإنما ذكر العمل عن اليمين وعن اليسار؛ لأن به يحصل فكاكه مما بين يديه. يقول المؤلف رحمه الله في بيان ذلك الموقف: (حفاة) : أي ليس معهم شيء يقي أقدامهم، (عراة) : ليس معهم ما يستر أجسادهم، (غرلاً) : قد تم خلقهم فلا نقص فيهم بوجه من الوجوه، حتى هذه القطعة التي تؤخذ من الذكور عند ختنهم بعد ولادتهم تعاد: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104] ، فلا يضيع شيء من خلق الناس: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] ، أي: يحفظ كل قطعة وكل جزء وكل ذرة من خلق الإنسان، ويعلم أين ذهبت؛ فيجمعها الله عز وجل ويتركب منها هذا الخلق يوم القيامة. قال: (فيقفون في موقف القيامة) ، أي: في أرض المحشر يقفون قياماً على أقدامهم في ذلك اليوم الشديد العصيب.

الشفاعة العظمى للنبي في الموقف

الشفاعة العظمى للنبي في الموقف قال رحمه الله: (حتى يشفع فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم) . فإنهم يقفون مدة طويلة، وهذه المدة ليست مدة لهو وابتهاج ونظر؛ إنما هي مدة عظيمة طويلة يطولها الله على أهل المعصية والكفر، ويقصرها جل وعلا ويخففها على أهل الإيمان والتقى والصلاح الذين قال الله فيهم: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] ، اللهم اجعلنا منهم! يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم من حديث المقداد بن الأسود: (تدنو الشمس يوم القيامة من رءوس الخلائق. قدر ميل أو ميلين، فيكون الناس في عرقهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يأخذه العرق إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه العرق إلى حقويه - يعني إلى منتصف جسمه - ومنهم من يأخذه العرق إلى ثدييه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً) ، هكذا يتفاوت الناس في شدة ذلك اليوم بسبب صهر الشمس لهم بقدر ما كان من أعمال لهم في هذه الدنيا قف الآن في الشمس وانظر مدى أثرها عليك، وهل تطيق ذلك أو لا؟ فما ظنك بهذه الشمس عندما تدنو من رءوس الخلائق قدر ميل أو ميلين، والميل إما أن يكون ميل المكحلة، وهو الجزء الذي يدخل في أداة الاكتحال، وإما أن يكون المسافة المعروفة، وكلاهما قريب. يقف الناس في ذلك الموقف العصيب الشديد، ثم يضيقون لطول الموقف وشدته، فيطلبون فكاكاً من ذلك الموقف، ويطلبون شفاعة سادات الخلق وهم الرسل الكرام، فيبدءون بآدم أبي البشر، فيأتون إليه ويقولون له: يا آدم! أنت الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، فاشفع لنا، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! يعنون: من الشدة والكرب، فيقول: لست لها، اذهبوا إلى نوح، فيذهبون إلى نوح فيعتذر ويحولهم إلى إبراهيم، فيعتذر إبراهيم ويحولهم إلى موسى، فيعتذر موسى ويحولهم إلى عيسى وهكذا أربعة من أولي العزم من الرسل خامسهم آدم عليه السلام، فيحولهم عيسى عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فيأتون إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ذلك الموقف الشديد العظيم فيقولون: ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟! فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا لها، أنا لها) ، فيقوم صلى الله عليه وسلم ويخر لله عز وجل ساجداً، فيقال له: (ارفع رأسك، واشفع تشفع) فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم في فصل القضاء، أي: أن يأتي الله جل وعلا لفصل القضاء بين الخلائق، وهذه هي الشفاعة العظمى التي اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المقام المحمود الذي يحمده عليه الناس كلهم مسلمهم وكافرهم. وهذه الشفاعة لجميع الخلق مسلمهم وكافرهم؛ لأن الموقف موقف عظيم يضيق بالناس، سواء المسلم منهم والكافر، ولذا فإن هذه الشفاعة فيها نوع شفاعة للكفار، لكنها لا تنفعهم في الحقيقة، إذ إن ما يقبلون عليه وما يقدمون إليه أعظم مما خلفوا، فهو يشفع فيهم ليتخلصوا من شدة وكرب الموقف وينتقلوا إلى النار؛ نعوذ بالله من الخذلان والكفران، وهناك يكون الأمر أشد وأعظم. وهذه الشفاعة مشار إليها أيضاً عند أنواع الشفاعة، وهي الشفاعة العظمى والمقام المحمود الذي يحمد فيه النبي صلى الله عليه وسلم كل الخلائق.

حساب الله للخلائق يوم القيامة

حساب الله للخلائق يوم القيامة قال: (ويحاسبهم الله تبارك وتعالى) ، أي يحاسب الناس، وظاهر هذا أن الحساب لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم.

كيفية محاسبة الله للمؤمنين والكافرين

كيفية محاسبة الله للمؤمنين والكافرين ذكر الله جل وعلا المحاسبة، ووصف حسابه بأنه سريع، ووصف نفسه بأنه سريع الحساب، وهذه المحاسبة لا تختص بأهل الإيمان، بل تكون لأهل الإيمان وأهل الكفر، إلا أن أهل الإيمان حسابهم يسير، كما قال الله عز وجل: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8] . أما من نوقش الحساب فإنه يعذب، كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من نوقش الحساب عذب، قالت: يا رسول الله! ألم يقل الله عز وجل: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8] فقال: لا، إنما ذلك العرض) ، أي: أن الله عز وجل يعرض الأعمال على أهل الإيمان ويقررهم عليها، لكنه لا يحاسبهم عليها ولا يعاقبهم بها. أما الكفار فإنهم يحاسبون؛ لكن محاسبتهم ليست محاسبة موازنة تحصى فيها حسناتهم وسيئاتهم، فينظر أيهما يرجح؛ لأن الكافر لا حسنات له، وقد قال الله جل وعلا: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، والهباء هو الأشياء المتطايرة في شعاع الشمس، وهل هذه توزن أو يتكون منها شيء؟ لا يتكون منها شيء؛ ولذلك قال الله عز وجل في الكافر: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105] ، أي: لأنه لا عمل له يوزن، لكن المحاسبة التي ثبتت لأهل الكفر هي إحصاء الأعمال وعرضها على الكفار. وأما المحاسبة التي توضع فيها الحسنات في كفة والسيئات في كفة؛ فلا تكون لأهل الكفر، لأنهم ليس لديهم حسنات حتى توزن وينظر هل ترجح بما معهم من السيئات أو لا؛ إنما معهم سيئات، وهي التي تهوي بهم في النار، نسأل الله السلامة والعافية. أما أهل الإيمان فهم يحاسبون، وحسابهم عرض أعمالهم عليهم، وأيضاً الموازنة بين الحسنات والسيئات، وينقسم الناس في هذا إلى أقسام: منهم من ترجح حسناته، ومنهم من ترجح سيئاته، ومنهم من تستوي الحسنات والسيئات.

نصب الموازين للحساب

نصب الموازين للحساب يقول رحمه الله: (وتنصب الموازين) ، أي: تقام كما قال الله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] ، فالله عز وجل يضع الموازين. وقول المؤلف: (الموازين) ، يظهر منه أن الوزن ليس بميزان واحد بل بموازين متعددة، لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} ، أي: الموازين العدل التي لا تحيف ولا تضل، فلا يهضم صاحب الطاعة شيئاً ولا يبخس شيئاً، ولا يحمل صاحب السيئات شيئاً من السيئات لم يعمله، بل هي موازين قسط. والميزان معروف في كلام العرب، وهو ما يوزن به الشيء، والوزن للأعمال هو الأصل، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) . ولا تقل: كيف يوزن العمل؟ فيوم القيامة شأنه مختلف عن شأن الدنيا؛ فإن الأعمال يكون لها وزن عند الله عز وجل يزنها بها سبحانه وتعالى، فنحن نؤمن بالميزان، لكن لا ندرك كيفية الوزن؛ لأن حقائق ما أخبر الله به مما يكون في الآخرة أمر لا تتصوره العقول بل نؤمن بما أخبر الله به ورسوله على مراد الله وعلى مراد رسوله دون أن نلج وأن ندخل في طلب الكيفيات والحقائق لتلك الأخبار. إذاً: ذكرنا أن الأصل في الوزن أن يكون للأعمال، ولكن هل يوزن غير الأعمال؟ نعم يوزن العمال وتوزن الصحائف، كما في حديث عبد الله بن مسعود في مسند الإمام أحمد، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحك الصحابة من دقة ساقي عبد الله: (أتضحكون من دقة ساقيه! فوالله إنهما لفي الميزان أثقل من جبل أحد) ، وفي صحيح الإمام مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل الكافر العظيم -العظيم الوزن والجرم- فلا يزن عند الله جناح بعوضة) ، فهذا يدل على أن الوزن يكون للعمال كما يكون للأعمال، لكن هل هذا عام في الجميع، الله أعلم؟ والذي نوقن بأنه عام وللجميع هو وزن الأعمال. كذلك توزن السجلات، والسجلات هي دواوين العمل التي يسجل فيها ما يكون من الإنسان، ودليل ذلك: ما رواه الإمام الترمذي في جامعه والحاكم في مستدركه، من حديث عبد الله بن عمرو بسند جيد قال: (يؤتى برجل يوم القيامة ويؤتى معه بتسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر، فتوضع في كفة من السيئات، ويؤتى ببطاقة فتوضع في الكفة الأخرى فتطيش تلك السجلات) ، وهذه البطاقة فيها لا إله إلا الله، فدل هذا على وزن سجلات الأعمال. فقوله رحمه الله: (وتنصب الموازين) ، المقصود فيه الموازين التي توزن بها الأعمال والعمال وسجلات العمل، وهذا كله في حق أهل الإيمان، أما الكفار فليس لهم حسنات توزن، بل كل ما قدموه من حسنات يذهب هباء منثوراً، وهل هذا ظلم؟ A لا، تعالى الله عن أن يظلم أحداً: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً) ، هذا لكونهم جوزوا وكوفئوا على هذه الأعمال في الدنيا، والله لا يظلم الناس شيئاً؛ فيقدمون يوم القيامة ليس لهم عمل.

نشر الدواوين وتطاير الصحف بأعمال العباد

نشر الدواوين وتطاير الصحف بأعمال العباد يقول رحمه الله: (وتنشر الدواوين) ؛ النشر ضد الطي، وهو: البسط والكشف والإشاعة، والدواوين: جمع ديوان، وأصل الديوان: الجريدة التي يتكون منها الكتاب، فالديوان قرطاس من قراطيس الكتاب، فالدواوين هي القراطيس التي يكون فيها عمل بني آدم، وتنشر هذه الدواوين على الخلق، وقد ذكر الله عز وجل في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق:7-12] . يقول رحمه الله: (وتتطاير الصحائف) الصحائف: جمع صحيفة، وهي الدواوين، وهي صحف الأعمال. (إلى الأيمان والشمائل) ، أي: أن من الناس من يأخذ كتابه بيمينه -نسأل الله أن نكون منهم- ومنهم من يأخذ كتابه بشماله، واستدل لذلك بقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} ، وهؤلاء هم أهل السعادة أهل التوحيد والإيمان، أهل الإسلام يؤتون كتبهم بأيمانهم، {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ، الحساب اليسير هو عرض العمل عليه؛ فيعرضه الله عليه ويقرره به ويقول له: قد غفرت لك، وتطوى تلك الصحائف ويئول إلى الجنة، {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} بفوزه ونجاته. {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} وهذا يأخذ كتابه بيده اليسرى، وإنما قال: (وراء ظهره) بناء على سوء الحال، وأن الإنسان يخفي هذه الصحيفة ولا يفرح بها، ويتمنى أن لم تصل إليه لما فيها من سوء الشهادة عليه، وبيان مآله ومصيره، وأنه من أهل النار، ولذلك يخفيها، ولذا قال الله تعالى في صفة أخذها: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق:10-11] ، أي يقول: يا ثبوراه! يا ثبوراه! وذلك لما بان له واتضح من عظيم الخسارة، وكثير الفوات الذي حصله في ذلك الموقف. {وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق:12] ، أي: ويحرق بالنار -نعوذ بالله- ويُصلَى كما تصلي ما تطبخه على النار، كذلك هذا الذي أخذه كتابه وراء ظهره يصلى سعيراً، وقد ذكر الله عز وجل الأخذ بالأيمان والشمائل في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي} [الحاقة:19-25] هذا السر يبينه لنا الله فيه كيف يأخذ كتابه من وراء ظهره (فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25-27] ، يا ليت الموتة السابقة كانت القاضية {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28-29] . هذا الخبر في سورة الحاقة ذكر الله فيه انقسام الناس في أخذ الكتاب؛ فذكر الأخذ بالشمائل، وهنا ذكر موضع الأخذ، وأنه يؤخذ من وراء الظهر. ومن العلماء من قال: إن الناس في أخذ الكتاب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: منهم من يأخذ كتابه بيمينه، ومنهم من يأخذ كتابه بشماله، ومنهم من يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، والذي يظهر والعلم عند الله: أن الناس ينقسمون في ذلك إلى قسمين: - قسم يأخذ كتابه بيمينه. - وقسم يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره. ولا تعارض بين ما في آية الحاقة، وبين ما في آية الانشقاق؛ فإن آية الانشقاق أخبرت بأنه يأخذه من وراء ظهره، وآية الحاقة أخبرت بأنه يأخذه بشماله.

وصف الميزان

وصف الميزان قوله رحمه الله: (والميزان له كفتان ولسان) ، هكذا جاء في بعض الآثار، ويشهد لهذا ما في حديث عبد الله بن عمرو في جامع الترمذي ومستدرك الحاكم؛ حيث ذكر أن السجلات توضع في كفة، والبطاقة التي كتب فيها لا إله إلا الله توضع في الكفة الأخرى، قال رحمه الله: (وتوزن به) أي بالميزان (الأعمال) وذكرنا أن الوزن يكون للعمل وللعامل وللصحائف {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} ، أي: وأعماله {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102] اللهم اجعلنا منهم. ما معنى وصفهم في الآية بالمفلحين، في قوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ؟ المفلح هو من أمن من الطالب وأدرك المطلوب، فهؤلاء أمنوا مما يخافون ويرهبون، وأدركوا ما يطلبون ويرجون، فتحقق لهم الفلاح. {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} ، أي: خفت وطاشت ولم يكن لها ثقل ترجح بالميزان {فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:103] هذا في حق أهل الكفر، وهذا مما يستدل به على أن الكفار يحاسبون وتوزن أعمالهم، لكن الوزن ليس وزن الموازنة بين الحسنات والسيئات؛ لأنهم كما ذكرنا لا حسنات لهم إنما توضع سيئاتهم وتبين بها سوء حالهم ومنقلبهم.

صفة الحوض

صفة الحوض قال المؤلف رحمه الله: [ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حوض في القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأباريقه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً] . هذا بيان شيء مما يكون في ذلك الموقف، قال: (ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حوض في القيامة) ، الحوض: هو مجتمع الماء، فيكون لنبينا محمد حوض في أرض المحشر، دليل ذلك: أن الله جل وعلا قال لنبيه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] ، ومن الكوثر الذي أعطاه الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك الحوض في ذلك الموقف، والأصل في معنى الكوثر: الخير الكثير، والله عز وجل قد أعطى رسوله صلى الله عليه وسلم خيراً كثيراً في الدنيا والآخرة، من ذلك ما خصه به من الحوض المورود، وإنما وصف الحوض بأنه حوض مورود؛ لكثرة من يرده من الناس، وذلك أن حوض النبي صلى الله عليه وسلم أكثر أحواض الأنبياء وارداً. وفي جامع الترمذي من حديث سمرة: (أن لكل نبي حوضاً، وأعظم الأنبياء حوضاً النبي صلى الله عليه وسلم) ، والحوض كما هو ثابت في الكتاب فقد تواترت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة وعلماؤها وأئمتها، وهو من أعظم ما خص الله به رسوله صلى الله عليه وسلم في أرض المحشر. قوله: (ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأباريقه عدد نجوم السماء؛ من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً) ، هكذا جاء وصف الحوض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي ذر وثوبان وغيرهما من الصحابة. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: (بأن الله قد أعطاه حوضاً ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وعدد كيزانه كعدد نجوم السماء، من شرب منه فلا يظمأ بعده أبداً) ، وجاء في رواية أبي ذر عند مسلم: (طعمه أحلى من العسل) ، وجاء أيضاً في رواية ثوبان، وجاء في رواية أبي ذر أيضاً أن: (طوله وعرضه سواء طوله شهر) هكذا جاءت الأحاديث في وصف هذا الحوض، نسأل الله عز وجل أن نكون ممن يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه؛ فمن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً. وموضع هذا الحوض قبل الصراط فيما يظهر من سياق ما يكون في الموقف: أنهم يشربون منه قبل أن يردوا الصراط.

صفة الصراط ومن يجوزه

صفة الصراط ومن يجوزه ثم ذكر المؤلف رحمه الله الصراط قال: [والصراط حق يجوزه الأبرار، ويزِل عنه الفجار] . الصراط على وزن فعال بمعنى مفعول، أي: مصروط، والصراط في لغة العرب يطلق على الطريق الواسع الرحب الذي لا ضيق فيه؛ ولذلك قال جماعة من العلماء: إن الصراط واسع؛ لأنه لا يطلق هذا الوصف إلا على ما اتسع، وقال آخرون في وصفه حسب ما جاءت به بعض الآثار من أنه: (أدق من الشعرة وأحد من السيف) ، ولا يعارض هذا وصفه بالصراط لكونه صراطاً مسلوكاً يمر عليه الناس، فالصراط هو الجسر المضروب على جسر جهنم، ولا يدخل أحد الجنة إلا بالمرور عليه، فكل من صار إلى الجنة فقد مَرَّ على الصراط. والصراط إنما يمر ويسير عليه أهل الإسلام دون غيرهم، وأقصد بأهل الإسلام كل من كان مسلماً سواء من هذه الملة أو من الأنبياء من قبل، فأهل الكفر لا يجوزون الصراط ولا يأتون إليه، بل يصار بهم إلى النار ابتداءً، كما في حديث أبي سعيد وأبي موسى في الصحيحين: (أنه ينادى في الناس يوم القيامة فيقال: من كان يعبد شيئاً فليتبعه) ؛ فيتبع عباد الشمس الشمس، ويتبع عباد القمر القمر، ويتبع عباد الطواغيت الطواغيت، ويصيرون إلى النار يلقون فيها يكبكبون، كما قال الله عز وجل: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء:94-95] ، فيلقون فيها إلقاءً. أما الصراط فإنه لا يجوزه ولا يمر عليه إلا أهل الإسلام، وذلك أن كل أمة كانت تعبد شيئاً فإنها تتبع ما كانت تعبد، ثم يبقى أهل الإسلام في مكانهم في أرض المحشر؛ فيأتيهم الله عز وجل في الصورة التي يعرفون فيسجدون له، ثم بعد ذلك يجوزون الصراط على حسب أعمالهم. يقول رحمه الله: (والصراط حق يجوزه) أي: يعبره وينفذ منه (الأبرار، ويزل عنه الفجار) ، أي، يسقط ويتباطأ سير أهل الفجور والفسق، لكنه ليس زللاً أو سقوطاً مؤبداً، إنما على حسب ما يكون من العمل. الناس في عبورهم على الصراط يتفاوتون كما وضحت السنة: (فمنهم كالبرق، ومنهم كالريح الشديدة، ومنهم كأجاويد الخيل، ومنهم كركاب الإبل، ومنهم يمشي على رجليه، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من تخطفه الكلاليب) ، أسرعهم من يمر كلمح البصر، ثم بعد ذلك كالبرق، ثم كالريح الشديدة، ثم كأجاويد الخيل، ثم كأجاويد الإبل، على حسب الترتيب السابق، وهذا التفاوت في السير على الصراط ناشئ عن التفاوت في العمل، قال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] ، فالسابقون إلى الطاعات والمبرات والخيرات في الدنيا هم السابقون إلى فضل الله ورحمته، والفوز بالنجاة في الآخرة، والنجاة من النار والفوز بالجنة، نسأل الله أن نكون منهم. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

شرح لمعة الاعتقاد [14]

شرح لمعة الاعتقاد [14] من مذهب أهل السنة والجماعة إثبات الشفاعة بأنواعها، واعتقاد أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، وقد خالف في ذلك بعض أهل البدع، وقد ذكر الشيخ حفظه الله في هذه المادة المسائل بدلائلها وما فيها من تفصيلات.

أنواع الشفاعة في الآخرة

أنواع الشفاعة في الآخرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويشفع نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر، فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحماً وحمماً؛ فيدخلون الجنة بشفاعته. ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات، قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28] . ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين] . هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله فيه بيان لما يكون من أنواع الشفاعة في ذلك اليوم العظيم، وقد تقدمت لنا إحدى الشفاعات التي تكون في ذلك اليوم، وهي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف في أن يأتي الله جل وعلا لفصل القضاء، ومن الشفاعات التي تكون يوم القيامة: ما ذكره المؤلف رحمه الله في قوله: (ويشفع نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر) .

معنى الشفاعة لغة واصطلاحا

معنى الشفاعة لغة واصطلاحاً الشفاعة في اللغة: من الشفع، وهو جعل الفرد زوجاً، ولذلك تسمى الركعتين شفعاً؛ فالشفع: هو جعل الفرد زوجاً. هذا من حيث اللغة. وأما من حيث المعنى الاصطلاحي: فالشفاعة هي التوسط في جلب الخير أو دفع الضر؛ فتكون الشفاعة دائرة على أمرين: جلب المنفعة ودفع البلاء، وشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وشفاعة من يشفع يوم القيامة هي لدى الله جل وعلا في أن يجلب الخير للمشفوع ويدفع عنه البلاء والشر، وهذه الشفاعة التي تكون يوم القيامة أنواع ودرجات: منها: ما هو للمؤمنين جميعاً؛ وإن كانوا يتفاوتون في نصيبهم منها. ومنها: ما يكون للأنبياء. ومنها: ما يكون للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره. فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين: 1- شفاعة خاصة به لا يشركه فيها غيره. 2- شفاعة له ولغيره، أي: تكون منه ومن غيره.

الشفاعات التي اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم

الشفاعات التي اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم أما الشفاعة التي اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره فهي أنواع: النوع الأول: هو شفاعته في فصل القضاء، وهي الشفاعة العظمى التي يشفع فيها النبي صلى الله عليه وسلم عند الله جل وعلا في فصل القضاء وإراحة الناس من الموقف، وقد جاء خبرها في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن، وهو أمر مجمع عليه، ولا خلاف فيه بين أهل الإسلام. النوع الثاني: شفاعته صلى الله عليه وسلم في دخول الجنة لأهل الجنة، كما في حديث أنس عند مسلم: (أنا أول شفيع في الجنة) ، وقد جاء في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: أن أهل الإيمان يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة في دخول الجنة، فيعتذر ويحيلهم إلى نوح، ونوح يحيلهم إلى إبراهيم، وإبراهيم يحيلهم إلى موسى، وموسى يحيلهم إلى عيسى، وعيسى يحيلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة التي تكون في أرض المحشر في فصل القضاء. على أن بعض العلماء يقول: هذه هي تلك؛ لأنه بعد ذكر هذه الشفاعة جاء ذكر الصراط، وما يكون من أحوال الناس في مرورهم عليه. لكن مما لا شك فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يشفع لأهل الجنة في دخولها، ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك) ؛ فدل ذلك على أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم شفيع لأهل الجنة في دخول الجنة. هذا ثاني ما اختص به صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الشفاعات. النوع الثالث: شفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف الله عنه من العذاب، كما في الصحيحين من حديث العباس بن عبد المطلب: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! عمك أبو طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك، ما أغنيت عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) ، والضحضاح: هو الماء الرقيق على وجه الأرض الذي لا عمق له، والأصل في الضحضاح ما لا قعر له، وقد جاء في بيان ذلك: (أنه في ضحضاح من نار إلى كعبيه) ، فهو أهون أهل النار عذاباً ممن يخلد فيها، وهذا التخفيف لا يفيده من حيث الواقع؛ فإنه: (عليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا إكرام للنبي صلى الله عليه وسلم في تخفيف العذاب وتهوينه؛ فهذا النوع من الشفاعة خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم. إذاً هذه الأنواع الثلاثة هي مما اختص به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

شفاعة الأنبياء وقت اجتياز الصراط

شفاعة الأنبياء وقت اجتياز الصراط وهناك نوع من الشفاعة خاص بالأنبياء والرسل لا يشركهم فيه غيرهم، وهو شفاعتهم للناس عندما يجوزون الصراط، فإنه عندما يجوز الناس الصراط لا يتكلم أحد إلا الرسل ودعواهم: (اللهم سلم سلم) كما الصحيحين، وفي رواية سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وعند ذلك حلت الشفاعة) ، وهذا النوع من الشفاعة هو شفاعة لأهل الإيمان، ولكنها شفاعة خاصة بالرسل، وما جاء في جامع الترمذي من حديث المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شعار المؤمنين على الصراط يوم القيامة: اللهم سلم سلم) ؛ فهذا لا يعارض ما جاء من أنه لا يتكلم أحد على الصراط إلا الرسل؛ فإن الرسل يصدق عليهم وصف الإيمان بل هم أعلى المؤمنين إيماناً، فيكون شعار المؤمنين -الرسل- الذين يتكلمون على الصراط ولا يتكلم أحد من الناس سواهم، شعارهم ودعواهم: اللهم سلم سلم؛ لعظم الأمر وشدة الكرب؛ فهم يدعون لأنفسهم ولأممهم ولمن آمن بهم بالسلامة. هذه شفاعات ثلاث:

الشفاعات المشتركة بين الأنبياء وغيرهم

الشفاعات المشتركة بين الأنبياء وغيرهم وهناك شفاعات للنبي صلى الله عليه وسلم يشركه فيها غيره من الرسل والأنبياء، وسائر أهل التقى من الصديقين والشهداء والصالحين، وذلك كشفاعته في قوم استحقوا النار أن يدخلوها فيشفع لهم ألا يدخلوها، وكذلك شفاعته وشفاعة أهل الإيمان في قوم دخلوا النار أن يخرجوا منها، وكذلك شفاعته صلى الله عليه وسلم وشفاعة أهل الإيمان في رفع درجات أهل الجنة، فهذه الأنواع الثلاثة من الشفاعات تكون للأنبياء صلى الله عليهم وسلم وتكون لغيرهم من المؤمنين، لكن نصيبه صلى الله عليه وسلم وما يكون له منها هل هو مثل غيره أو أعلى؟ A نصيبه منها أعلى من نصيب غيره، فحظه من هذه الشفاعة أعلى من سائر الخلق. وهذه الشفاعات كلها جاءت بها النصوص، وأجمع عليها سلف الأمة وعلماؤها وأثبتها أهل السنة والجماعة، وخالفت فيها ثلاث طوائف. المعتزلة والخوارج: فهؤلاء لا يثبتون الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر؛ لأن من دخل النار عندهم لا يخرج منها أبداً. ووافقهم في إنكار الشفاعة المرجئة الغلاة: فإنه لا يدخل عندهم النار مؤمن، ولو ارتكب ما ارتكب من الموبقات والسيئات والأعمال القبيحة، فهؤلاء وافقوا الخوارج في نفي الشفاعة، وقالوا: لا شفاعة، وما جاء من نصوص الشفاعة جعلوها في رفع الدرجات، وهذا تكذيب لما دلت عليه النصوص من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل النار الذين استحقوها، أو الذين دخلوها أن يخرجوا منها. يقول المؤلف رحمه الله: (ويشفع نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر) ، أي: أهل الذنوب الكبيرة الموجبة لدخول النار، والكبائر: جمع كبيرة، وهي: كل ما جاءت النصوص بلعن صاحبه، أو التبري منه، أو ذكر عقوبة له في الدنيا أو الآخرة. هذا أقرب ما يقال في ضابط وحدِّ الكبيرة، فهؤلاء أصحاب الكبائر يستحقون النار إن لم يتوبوا منها وكانت سيئاتهم راجحة على حسناتهم، فإذا دخلوها ليمحصوا فقد يشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد أهل الإيمان ليخرجوا منها، وأدلة أحاديث الشفاعة أكثر من أن تحصى. يقول رحمه الله: (فيخرجون بشفاعته بعد ما احترقوا وصاروا فحماً وحمماً) ، يخرجون بعدما احترقوا وعذبوا وعوقبوا وصاروا إلى هذه الحال فيخرجون فحماً وحمماً من جراء الاحتراق بالنار والاصطلاء بها. نسأل الله السلامة والعافية، فيلقون في نهر الحياة عند أبواب الجنة، فينبتون فيه كما تنبت في حميل السيل، فينتعشون ويحيون ويكونون من أهل الجنة، فيدخلون الجنة بشفاعته صلى الله عليه وسلم. ثم قال رحمه الله: (ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات) ، وإنما قدم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم مع أن غيره يشركه في هذا النوع من الشفاعة؛ لكونه صلى الله عليه وسلم أعظم الناس شفاعة، وأعظم الخلق شفاعة، فشفاعته فوق كل شفاعة، وإلا فإن الأنبياء والمؤمنين يشفعون والملائكة تشفع.

شروط الشفاعة

شروط الشفاعة قال رحمه الله: (قال الله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28] ) ، هذا فيه بيان أن أهل الإيمان والملائكة يشفعون، وأنهم لا يشفعون إلا لمن رضي الله عنه، وهذا فيه بيان شرط الشفاعة، وأنه لا يُشفع إلا فيمن رضي الله عنه، فمن لم يرض الله عنه لا تنفع فيه شفاعة. (وهم) ، أي: هؤلاء الشافعون وهم الملائكة (من خشيته مشفقون) ، وهذا يبين لنا أن شفاعة الشافعين لا تكون عن استحقاق للشفاعة وإنما هي محض فضل الله عز وجل على الشافع والمشفوع. ولذلك كانت حقيقة الشفاعة: إكرام الله عز وجل للشافع في أن يخلص المشفوع فيه؛ فهي كرامة للشافع بسبب توحيده، وإقراره لله بالإلهية، فيكرمه الله عز وجل بالشفاعة وينفع بها المشفوع، لكن لا يمكن أن تكون الشفاعة إلا بشرطين: برضا الله جل وعلا عن الشافع والمشفوع وبإذنه، قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] ، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] ، فتبين لنا من هذا: أن الشفاعة لا تكون إلا لمن رضي الله عنه، ولمن أذن له جل وعلا في أن يشفع.

الشفاعة المنفية في القرآن عن الكافرين

الشفاعة المنفية في القرآن عن الكافرين قال رحمه الله: (ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين) ، قال الله تعالى في ذلك: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] ، ونفى الله عز وجل الشفاعة في مواضع كثيرة من كتابه، والشفاعة المنفية في القرآن العظيم هي الشفاعة في أهل الشرك، أو الشفاعة التي يزعمها من يزعمها من المشركين، أو التي يظنها ويتوهمها من لم يفهم كلام الله وكلام رسوله من أن أحداً يشفع فيه دون إذنه ورضاه. وقوله رحمه الله: (ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين) ، موافقة لقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] فنفى الله عز وجل عن أهل الكفر نفع الشفاعة، وهل هذا نفي للنفع بالكلية؟ A هذا هو الأصل، إلا أن السنة دلت على أن من الكفار من ينتفع بالشفاعة لكنه ليس نفعاً تاماً، إنما هو نوع تخفيف، ومن ذلك الشفاعة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب، وقد وسع بعض أهل العلم الدائرة فجعلها شفاعة تشمل كل من نصر النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار، ومعلوم أن الكفر درجات، وليس على مرتبة واحدة، فكما أن الإيمان شعب ودرجات؛ فكذلك الكفر يتفاوت فيه أهله، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] ، فجعل النسيء: وهو تأخير الأشهر الحرم وتقديمها والتلاعب بها مما يزيد كفر الكافر، والنار معلوم أنها دركات، وهذا التفاوت في دركات النار إنما هو بتفاوت درجات الكفر، فالكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين في رفع العذاب وإزالته، ولكن في تخفيفه، وذلك في مثل عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو واضح؛ حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم نفعه له حيث قال: (إنه في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) ، والحديث في الصحيحين. ومن التخفيف للكفار: حديث الشفاعة العظمى؛ فإن الناس يجتمعون يوم القيامة ويأتون إلى الأنبياء طالبين منهم الشفاعة عند رب العالمين في فصل القضاء، هذه الشفاعة هل الذي يطلبها الكفار أو أهل الإيمان؟ كثير من النصوص جاءت مطلقة: (أن الناس يأتون إلى آدم) ، ولفظ الناس يصدق على المسلم والكافر، وفي بعض روايات الحديث عند الإمام مسلم في صحيحه قال: (فيجتمع المؤمنون؛ فيأتون آدم) فيكون الطالب للشفاعة هم أهل الإيمان، لكن حتى على هذه الرواية فإن طلب الشفاعة فيه نوع شفاعة للكفار، لكنها شفاعة تخفيف وليست شفاعة رفع؛ لأن ما يقبلون إليه أعظم وأشد مما أدبروا عنه، والمراد أن قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] ، هل يدخلها التخفيف أو لا يدخلها؛ لأن تخفيف العذاب لا ينتفع به الكافر انتفاعاً تاماً، وإنما يحصل النفع الكامل في رفع العذاب وإزالته. فـ أبو طالب مع عظيم نفع النبي صلى الله عليه وسلم له في هذه الشفاعة نصيب؛ حيث إنه صار أهون أهل النار عذاباً، فهل ينتفع بهذا؟ لا، فهو يرى أنه أعظم أهل النار عذاباً، وهذا مصداق قول الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] .

وصف الجنة والنار ووصف أهلهما

وصف الجنة والنار ووصف أهلهما قال رحمه الله: [والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، فالجنة مأوى أوليائه، والنار عقاب لأعدائه، وأهل الجنة فيها مخلدون: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:74-75]] . الجنة هي دار النعيم الكامل التي أعدها الله عز وجل لعباده الصالحين، والنار: هي دار العذاب التام التي أعدها الله عز وجل للكافرين والعصاة.

عقيدة أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان

عقيدة أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان يقول المؤلف رحمه الله: (مخلوقتان) ، أي: الآن، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وأجمع عليه سلف الأمة، ودل عليه الكتاب والسنة؛ ففي القرآن يقول الله عز وجل عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] ، ويقول عن النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] ، ويقول: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ:21] ، ولا يكون هذا إلا فيما أعد ووجد. وأما الأحاديث فهي أكثر من أن تحصى، ومن أبرزها ما رواه الإمام مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الجنة والنار، قال لجبريل: اذهب فانظر إلى الجنة وما أعددت لأهلها فيها، فيأتي إلى الجنة فينظر إليها فيقول: يا رب! لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم توضع المكاره حول الجنة فيقول الله عز وجل: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فينظر فيأتي فيقول: إني خشيت ألا يدخلها أحد لما حفت به من المكاره، ثم يرسله الله إلى النار لينظر إليها وإلى ما أعد لأهلها فيها، فيقول جبريل عليه السلام للرب جل وعلا: إنه لا يسمع بها أحد فيدخلها، فتحف بالشهوات، فيأتي إليها فينظر إليها فيقول: إني خشيت ألا ينجو منها أحد لما حفت به من الشهوات) . الشاهد في هذا الحديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله الجنة والنار) ، فالجنة وما أعده الله لأهلها موجود، والأدلة على هذا في السنة أكثر من أن تحصى، منها ما رواه أنس وعائشة وابن عباس في الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف: (رأيت في مقامي هذا الجنة والنار، وهَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يتناول قطفاً من الجنة، ولما رأى النار يحطم بعضها بعضاً تأخر) ، فالأدلة على وجود الجنة والنار في الكتاب والسنة كثيرة، وهذا مما أجمع عليه أهل الإسلام. أما أهل الاعتزال الذين بلاهم الله بمحاكمة النصوص إلى عقولهم فقد قالوا: ما فائدة وجود الجنة والنار الآن؟ لا فائدة، ووجودها الآن عبث، والله منزه عن العبث، وعليه فالجنة والنار ليستا موجودتين، فنفوا وجود الجنة والنار، وقالوا: يخلقهما الله عند الحاجة إليهما، وكذبوا بذلك النصوص الدالة على وجود الجنة والنار، لكن هذا التكذيب هل معهم فيه نص؟ هل لهم فيه بينة؟ A لا، إنما معهم عقول كليلة وبصائر حسيرة حكموا بها على النصوص، فأبطلوا ما دلت عليه من وجود الجنة والنار، وما ذكره المؤلف رحمه الله من الأدلة على أن الجنة والنار مخلوقتان واضحة وظاهرة يدركها كل من قرأ كتاب الله عز وجل، أو سمع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

الجنة والنار لا تفنيان

الجنة والنار لا تفنيان قال المؤلف رحمه الله: (لا تفنيان) أي: لا تضمحلان وهما باقيتان، وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم من السلف والخلف، والأدلة عليه دالة. واعلم أنه لا خلاف بين أهل السنة وأهل الإسلام في بقاء الجنة وأنها لا تفنى، وإنما الخلاف الذي وقع بين أهل السنة في فناء النار، فذهب جماعة من السلف والخلف من أهل السنة والجماعة إلى أن النار تفنى، ونقل ابن القيم هذا القول عن جماعة من الصحابة منهم عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما وغيرهما، والذي عليه جمهور السلف والخلف: أن النار باقية، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر عذاب النار وخلوده، وذكر تأبيده في ثلاثة مواضع من كتابه. فما ورد من النصوص مما يوهم انقطاع عذاب النار يجب حمله على المحكم الدال على بقائه وتأبيده، فمثلاً قول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} [هود:106] {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] ، فقد قيل: إن قوله تعالى: (إلا ما شاء ربك) يدل على عدم الخلود، وكذلك قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] ، أي: مدداً متطاولة، لكن قالوا: هي مدد متطاولة تنتهي، وما أشبه ذلك من النصوص التي ليس فيها ذكر التأبيد. ولكن مثل هذه النصوص يجب حملها على ما جاء من النصوص الدالة على أن عذاب النار ممتد مؤبد لا ينقطع، وقد ذكر الله ذلك في ثلاثة مواضع من كتابه. الموضع الأول: في سورة النساء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:168-169] ، ولا يمكن أن يقال: هذا لا خلود فيه، فإن الله ذكر الخلود والتأبيد. والموضع الثاني: في سورة الأحزاب في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الأحزاب:64-65] . والموضع الثالث: في سورة الجن في قول الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23] . فهذه المواضع ذكر فيها التأبيد، وهي تقضي على غيرها من النصوص التي قد يتوهم أو يفهم منها أن النار تفنى، فعلم بهذا صحة ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله وذكره في عقد أهل السنة والجماعة، حيث قال: (لا تفنيان) ، وهذا هو الصحيح الذي نؤمن به ونجزم بأنه الصواب، بدلالة الكتاب والسنة، لكن هل هذه المسألة يبدع فيها المخالف؟ A لا، لأنه قد نقل عن بعض سلف الأمة هذا القول؛ فهو من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين أهل السنة. والذي انفرد بقول: إن الجنة تفنى هو جهم بن صفوان وتبعه عليه من تبعه، وهو قول محدث لم يسبق إليه، ولم يسبقه إليه أحد من السلف ولا من الخلف. فيميز بين فناء النار وفناء الجنة!

صفات أهل الجنة والنار

صفات أهل الجنة والنار قال رحمه الله: (فالجنة مأوى أوليائه) أي: أي مصير ومآل أوليائه، والأولياء هم أهل التقوى، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] ، فكل من حقق الإيمان واتصف بالتقوى فإنه من أولياء الله عز وجل الموعودون بالجنة، كما في الصحيحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ، فالأولياء هم الصالحون الذين أصلحوا بواطنهم وظواهرهم. قال: (والنار عقاب لأعدائه) ، وهم كل من حادَّ الله من أهل الكفر والمعصية، ولكنها متفاوتة؛ فالنار دركات: منها ما يكون للعصاة، ومنها ما يكون لأهل الكفر. ثم قال رحمه الله: (وأهل الجنة مخلدون) ، وسكت رحمه الله عن ذكر حال أهل النار، لكنه أجاب عن حالهم بالآية، والسبب -والعلم عند الله-: أن أهل الجنة لا خلاف في أنهم مخلدون، فلا قائل من السلف ولا من الخلف بأن أهل الجنة لا يخلدون، لكن لما كان الخلاف في أهل النار قال المؤلف رحمه الله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:74-75] ، فأتى بالآية الدالة على تخليد أهل النار. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

شرح لمعة الاعتقاد [15]

شرح لمعة الاعتقاد [15] النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين، وقد خصه الله بخصائص كثيرة في الدنيا والآخرة، ومن ذلك الشفاعة العظمى التي يحمده عليها الأولون والآخرون، وشفاعته لأهل الجنة أن يدخلوها، وهو صاحب الوسيلة والفضيلة يوم القيامة، إلى غير ذلك من الخصائص التي شرفه الله بها.

ذبح الموت يوم القيامة

ذبح الموت يوم القيامة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. قال المؤلف رحمه الله: [ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح؛ فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت] . تقدم الكلام على أول هذا البحث عند قول المؤلف رحمه الله: (والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان) ، وصلة لهذا الموضوع قال رحمه الله: (ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح) الموت هو مفارقة الحياة، والصحيح أنه خلق من خلق الله عز وجل، ولذلك يؤتى به في صورة كبش أملح، ودليل ذلك قول الله جل وعلا: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] ، فالموت ليس مجرد العدم؛ إذ العدم ليس بشيء، إنما الموت خلق من خلق الله جل وعلا، وهو مفارقة الحياة، ويؤتى به يوم القيامة إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار -نعوذ بالله من الخسران- في صورة كبش أملح، أي: يمثله الله عز وجل على صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار على مرأى من أهل الجنة والنار، وكل يراه ويعرفه؛ لأنه قد ذاقه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] ، فإذا جاء لا يؤتى به على صورة منكرة غير معروفة مجهولة للمخاطبين، بل على صورة معروفة معلومة لمن يدعون ويخاطبون من أهل الجنة وأهل النار، فيذبح بين الجنة والنار، أي: يذبح وينتهي الموت، فلا موت بعد هذا الذبح، ثم يقال: (يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت) ، وهذا يدل على بقاء كل من أهل الجنة والنار فيما هو فيه إلى أبد الآباد. وقد تقدم أن خلود الجنة لا خلاف فيه بين أهل العلم، وأن أول من أحدث القول بفناء الجنة هو الجهم بن صفوان، وهو قول مبتدع أنكره عليه أهل الإسلام، وأما خلود النار ففيه قولان لأهل العلم من السلف والخلف، وجمهور العلماء من السلف والخلف على أن النار باقية خالدة لا تتحول ولا تفنى. والقول الثاني: أنها تفنى، وهو قول لجماعة من الصحابة ومن بعدهم من سلف الأمة وخلفها، والصحيح من هذين القولين بقاء النار، وأنها لا تفنى، كما دل على ذلك ثلاث آيات في كتاب الله عز وجل في ثلاثة مواضع: الآية الأولى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:168-169] . والشاهد ذكر التأبيد، وإلا فإن ذكر التخليد في مواضع كثيرة، لكن الكلام على التأبيد، وأنه لا نهاية للنار. الآية الثانية: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الأحزاب:64-65] . الآية الثالثة: في سورة الجن: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23] . هذه ثلاثة مواضع في كلام الله عز وجل تدل على صحة ما ذهب إليه جمهور العلماء من السلف والخلف من أن النار باقية لا تفنى، نسأل الله السلامة منها! وقد يرد سؤال وهو: كيف فهم الصحابة القائلون بفناء النار ذلك الفهم من النصوص؟ فنقول: الأفهام تختلف، لكن العبرة بفهم الغالب العام، والذي عليه جمهور الصحابة ومن بعدهم من سلف الأمة وخلفها أن النار باقية لا تفنى، وقد تكون خفيت عليهم هذه الآيات، بمعنى أنهم ما استحضروها، وربما أجابوا عليها بما في الآيات الأخرى أن التأبيد طول المدة وليس التخليد المطلق، وهذه مسألة أطال العلماء البحث فيها، لكن الكلام على دلالات النصوص لا على ما قال المخالف فيها؛ لأن المخالف قد يخفى عليه النص لما تكلم بالكلام، وقد يكون عنده مانع من القول بدلالة آية أخرى، والمراد أننا بالنظر إلى الأدلة تبين لنا فيما يظهر أنه الصواب: أن النار خالدة لا تفنى كما دلت عليه هذه النصوص، لكن هل يبدع من قال: إن النار تفنى؟ A لا، إنما يبدع الذي يقول: إن الجنة تفنى، أما النار ففيها خلاف العلماء المتقدم.

خصائص النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا

خصائص النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا قال المؤلف رحمه الله: [فصل: ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وسيد المرسلين، لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته، ولا يقضى بين الناس في يوم القيامة إلا بشفاعته، ولا تدخل الجنة أمة إلا بعد دخول أمته. صاحب لواء الحمد، والمقام المحمود، والحوض المورود، وهو إمام النبيين وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم، أمته خير الأمم، وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام] . هذا الفصل ذكر المؤلف رحمه الله في أوله ما خص الله به محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الفضائل والخصائص، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطاه الله جل وعلا من الخصائص والفضائل ما لم يعط نبياً غيره، كما في حديث جابر في الصحيحين: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي) ، فله من الخصائص والفضائل ما ليس لغيره، وهذه الخصائص منها ما يتعلق به، ومنها ما هو له ولأمته، ومنها ما هو في الدنيا، ومنها ما هو في الآخرة: منها ما هو له خاصة، كقوله: (وبعثت للناس عامة) . ومنها ما هو له ولأمته كقوله: (نصرت بالرعب) ، وأوضح من هذا قوله: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) . ومنها ما هو في الدنيا كهذه التي ذكرناها. ومنها ما هو في الآخرة: كشفاعته صلى الله عليه وسلم في الموقف؛ فهذه له دون غيره. ومنها: أن أمته تدخل الجنة قبل الأمم، وهذا له ولأمته صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فما خصه الله به شيء كثير، وما شاركه فيه غيره من الأنبياء ففي غالب موارده له فيه التقدم، وإن كان في بعض الخصائص يتقدم عليه غيره، لكن هذا التقدم لا يعني أنه أفضل منه، بل هو أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، كما قال في حديث أبي هريرة وغيره: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر) ، وسيادته يوم القيامة تدل على سيادته في الدنيا ولا شك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إذا قدمه الله في يوم الجزاء فهو المقدم في هذه الدنيا؛ لأن التقديم يوم القيامة دليل على التقدم في الدنيا، كما قال الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] .

دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام

دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام قال رحمه الله: (ومحمد رسول الله) ، أي: أرسله الله جل وعلا، وأدلة هذا كثيرة جداً من الكتاب ومن السنة، والشواهد الدالة على صدقه، والآيات والبراهين الدالة على صحة رسالته؛ كثيرة جداً لا تنحصر في قول الله ولا في قول النبي صلى الله عليه وسلم، بل دلائل صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم منها ما هو حالّ فيه، ومنها ما هو في خبره، ومنها ما هو في أسماء الله عز وجل وصفاته؛ فدلائل النبوة متعددة كثيرة كلها تدل على صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول رب العالمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أرسله الله عز وجل إلى الناس عامة. يقول المؤلف رحمه الله: (خاتم النبيين) ، أي: ختم الله به النبيين، وقد جاء هذا في قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ، فختم الله به الرسالات. خاتم لها وجهان: خاتَم وخاتِم، الخاتِم بالكسر هو الذي ختمهم وأغلقت به الرسالة. والخاتَم بالفتح كالخاتم الذي يلبس فيتجمل ويتزين به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو جمال الأنبياء وزينتهم وإمامهم صلى الله عليه وسلم، وهو خاتِمهم أي: الذي ختم الله عز وجل به الرسالات، فلا نبي بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وخاتم المرسلين أيضاً؛ لأنه إذا كان خاتم النبيين فهو خاتم المرسلين؛ لأن كل رسول نبي، فإذا كان قد ختم الله به النبوات فإنه قد ختم به الرسالات صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال: (وسيد المرسلين) ، أي: صاحب الشرف والعلو والمقام الرفيع فيهم صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، ويدلك على ذلك تدافع أولي العزم من الرسل للشفاعة في ذلك الموقف حتى تصير إليه صلى الله عليه وسلم، فيقول: (أنا لها، أنا لها) ؛ فهذا يدل على سيادته وشرفه وعلو مكانته ورفيع منزلته صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) ، فهو سيد كل من ولده آدم، وسيادته لولد آدم تدل على سيادته للمرسلين؛ لأن المرسلين جميعهم من ولد آدم.

وجوب الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم

وجوب الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله: (لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته) ، ولا شك أنه لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثه الله بين يدي الساعة بالحق بشيراً ونذيراً، من لم يؤمن بهذا فإنه لا يصح له إيمان، ولا يثبت له عقد، ولا يستقر له في الإسلام قدر، ولذلك كان مفتاح الدخول إلى هذه الشريعة أن يقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله) ، فمن لم يشهد بذلك لم يتحقق له إسلام ولا إيمان. يقول رحمه الله: (ويشهد بنبوته) ، هذا مكمل للأول، ودليله دليل السابق.

خصائص النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة

خصائص النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة

شفاعته للقضاء بين أهل الموقف

شفاعته للقضاء بين أهل الموقف قال رحمه الله: (ولا يقضى بين الناس في القيامة إلا بشفاعته) ، وهذا قد جاءت به النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها ما في الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة: أن الأنبياء يتدافعون الشفاعة إذا جاءهم الناس يطلبون منهم، فتصير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها، أنا لها) ، فيسجد تحت العرش ثم يقول الله له: (ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع) ، فيشفع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أن يأتي الله عز وجل لفصل القضاء والحكم بين الناس؛ فإذا شفع صلى الله عليه وسلم جاء الرب جل وعلا للفصل بين الناس فيما يكون بينهم، هذا معنى قوله رحمه الله: (ولا يقضى بين الناس في القيامة إلا بشفاعته) ، أي: بتوسطه لدى الله جل وعلا أن يأتي لفصل القضاء، وهذا مما لا شك فيه، وقد ثبتت به السنة، وجاءت الإشارة إليه في قول الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ؛ فالمقام المحمود جاء بيانه في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مقامه بين الناس حين يشفع لهم في فصل القضاء، فإنه يحمده على هذا كل أحد.

شفاعته لأهل الجنة بدخولها

شفاعته لأهل الجنة بدخولها قال رحمه الله: (ولا تدخل الجنة أمة إلا بعد دخول أمته) ، الجنة هي دار النعيم الكامل التي أعد الله فيها لعباده الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. نسأل الله أن نكون من أهلها! هذه الدار لا يدخلها أحد قبل أمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة) أول الأمم دخولاً الجنة أمة الإسلام، أمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ مع كونها آخر الأمم من حيث الزمن والتاريخ في الحياة الدنيا، لكن هذا التأخر الزمني لم يمنع من أن يسبقوا الأمم قبلهم في دخول الجنة، وذلك لما خصهم الله به من كمال الشريعة، وتمام العبودية لله عز وجل. ويدل لهذا: أن أول شفيع في دخول الجنة هو النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم أشفق ما يكون على أمته؛ ولذلك يشفع في أمته، والأحاديث التي جاءت في ذكر الشفاعة العظمى ومجيء الناس للنبي صلى الله عليه وسلم لطلب الشفاعة، إذا نظرت إلى سياقها في أكثر ما ورد في الصحيحين وغيرها من دواوين السنة؛ تجد أنه إذا جاءه الناس لطلب فصل القضاء يشفع النبي صلى الله عليه وسلم لدى الله عز وجل في أمته (فأقول: أمتي أمتي، فيقول الله عز وجل: أخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) . وهذه الشفاعة التي ذكرها أهل العلم في داويين السنة ليست هي الشفاعة العظمى التي هي المقام المحمود، إنما هي شفاعته في بعض من دخل النار من أمته أن يخرج منها، أو من استحق النار ألا يدخلها، والسبب في ذكر هذا دون ذكر الشفاعة العظمى في أكثر هذه الأحاديث: أن الشفاعة العظمى لم ينكرها الخوارج ولا المعتزلة، إنما أنكروا وناقشوا وخالفوا في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، أما شفاعته في الأمم لفصل القضاء فإنهم لم ينكروا ذلك، ولم يخالفوا فيه. والمراد: أن هذه الأمة هي أول الأمم دخولاً الجنة، وهذا معنى قوله رحمه الله: (ولا يدخل الجنة أمة إلا بعد دخول أمته) .

لواء الحمد المعقود للنبي صلى الله عليه وسلم في الموقف

لواء الحمد المعقود للنبي صلى الله عليه وسلم في الموقف ذكر المؤلف رحمه الله شيئاً مما اختص الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (صاحب لواء الحمد) ، واللواء هو الراية التي يحملها قائد الجيش في الغالب؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع له يوم القيامة لواء يحمله، وهذا اللواء يسمى بلواء الحمد، ولذلك أضاف اللواء إلى الحمد فقال: (صاحب لواء الحمد) ، والحمد أي حمد الله جل وعلا، وهو: ذكر المحمود بصفات الكمال محبة وتعظيماً، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أعلى الناس حمداً لربه في ذلك الموقف، ويدل لذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الشفاعة قال: (فأسجد فأحمد الله عز وجل بمحامد يفتحها علي لا أعلمها الآن) ، محامد يدركها ويعلمها في تلك الساعة، وفي ذلك الوقت؛ ولذلك يعطى لواء الحمد صلى الله عليه وسلم؛ لكونه أعظم الخلق حمداً لربه في ذلك الموقف. وهذا اللواء للعلماء فيه قولان: منهم من قال: إنه لواء معنوي، ومنهم من قال: إنه لواء حقيقي، والصواب أنه لواء حقيقي؛ لأن الأصل فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم الحقيقة لا المجاز، ولا تقل: كيف يكون حقيقياً، نقول: أمر الآخرة ليس مما تدرك العقول حقائقه وتتبين كيفياته، بل نؤمن به على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم دون أن نلج في كيفية ذلك، فإن النصوص قد أخبرت بألوية تكون يوم القيامة، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينصب لكل غادر يوم القيامة لواء، يقال: هذه غدرة فلان) ، وهذا اللواء حقيقي، ولذلك يشار إليه ويقال: هذه غدرة فلان، وهذا اللواء الذي عقد للغادر لواء حقيقي يدرك، فما المانع من أن يكون لواء الحمد الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم هو لواء حقيقي، وهذا هو الأصل?! واختلف العلماء رحمهم الله في سبب اللواء، فقيل: إن اللواء سببه أنه يفتح للنبي صلى الله عليه وسلم من الحمد ما لا يفتح لغيره، وقيل: إن هذا اللواء سببه موقف النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، حيث يفتح الله له من الفضل والمكانة والعمل ما ينفع به جميع الناس مسلمهم وكافرهم في الشفاعة في فصل القضاء؛ لأنه قد جاء في بعض الآثار: أن الكفار يطلبون الخلاص من موقف القيامة حتى ولو كان ذلك إلى النار؛ لأن الإنسان في الشدة قد يتصور أن هذا أعلى ما يكون من العذاب، ويغيب عنه أن ما سيقبل عليه أعظم وأشد؛ ولذلك جاء في بعض الآثار: أن شدة الموقف على أهله تحمل الكفار أن يقولوا: ربنا خلصنا ولو إلى النار، ويظنون أن النار أهون من ذلك الموقف، وهي في الحقيقة أشد وأنكى، نسأل الله السلامة والعافية! والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم يحمده في ذلك الموقف كل أحد حتى الكفار، وهذا من معاني اللواء المحمود، وثم أقوال أخرى في سبب اللواء المحمود منها: أنه لإجلاس الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم على العرش، والذي يظهر: أنه لما له من المنزلة في ذلك الموقف، والفضائل العامة التي تعم كل أحد، والخاصة التي تختص بها أمته، وتختصه هو صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

حوض النبي عليه الصلاة والسلام

حوض النبي عليه الصلاة والسلام ثم قال: (والمقام المحمود) ، أي: صاحب المقام المحمود، والمكان هو مكان القيام؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقوم المقام المحمود الذي يحمده عليه كل أحد، وهو: شفاعته لفصل القضاء. ثم قال: (والحوض المورود) ذكرنا ذلك فيما تقدم عند قول المؤلف رحمه الله على الحوض: (ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حوض في القيامة) ، وقلنا: إن معنى الحوض: مجمع الماء، وهو مجمع عظيم يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، ثبت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] ، وبما جاء متواتراً عنه صلى الله عليه وسلم من إثبات حوضه يوم القيامة.

إمامته وقدوته للأنبياء في الموقف

إمامته وقدوته للأنبياء في الموقف قال: (وهو إمام الأنبياء) أي: مقدمهم الذي يؤمه الأنبياء، ويأتمون به، ويقتدون به؛ لعظيم منزلته ورفيع مكانته، وهو إمامهم في الدنيا وإمامهم في الآخرة، أما إمامته لهم في الدنيا؛ فلأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى بهم وأمهم في بيت المقدس ليلة المعراج، وأما إمامته لهم في الآخرة؛ فأولوا العزم وأصحاب العلو والرفعة والمكانة من الأنبياء يتدافعون الشفاعة حتى تصير إليه صلى الله عليه وسلم، وهذا من إمامته لهم صلى الله عليه وسلم. قال: (وخطيبهم) الخطيب هو الذي يتكلم في بيان الحاجة، وقوله: (خطيبهم) أي: خطيب الأنبياء، وقد جاء هذا في جامع الترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (أخبر بأنه خطيب الأنبياء إذا وفدوا) ، أي: إذا وفدوا على الله عز وجل في أرض المحشر؛ وذلك أنه هو الذي يطلب من الله عز وجل الشفاعة للخلق، ويتأخر عنها كل الأنبياء، ولا يتكلم عندها أحد {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109] ، وأولهم رسولنا صلى الله عليه وسلم، فهو أول من يكلم الله جل وعلا في المحشر، فهو خطيبهم إذا وفدوا، وشعيب عليه السلام خطيب الأنبياء، وقد جاء في وصفه في بعض الآثار: (أنه خطيب الأنبياء) ، لكنه خطيبهم في الدنيا، وذلك لجميل بيانه وحسن كلامه في دعوته لقومه صلى الله عليه وسلم، أما الخطيب الذي يكون يوم القيامة فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وصاحب شفاعتهم) يعني الذي تصير إليه الشفاعة في ذلك الموقف؛ فإن الأنبياء يتدافعونها حتى تصل إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. يقول: (أمته خير الأمم) ، ولا شك أن هذه الأمة خير الأمم، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ، فهاتان الآيتان تدلان على خيرية الأمة في الدنيا، والخيرية في الدنيا تدل على الخيرية في الآخرة. وأما الخيرية في الآخرة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث علي في مسند الإمام أحمد في بيان ما أعطاه الله عز وجل وخصه: (وجعلت أمتي خير الأمم) ، فأمة النبي صلى الله عليه وسلم خير الأمم، خيريتها في التوحيد والعمل به، والثواب عليه، وفي الشريعة، وخيريتها في الآخرة لتقدمها على الأمم وسبقها لهم إلى كل فضل، فخيرية الأمة لها من الأوجه والجوانب ما يطول تتبعه وذكره. ثم قال رحمه الله: (وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام) ، بدأ بهذه الجملة في الكلام عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونشرح ذلك إن شاء الله تعالى في الدرس القادم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

شرح لمعة الاعتقاد [16]

شرح لمعة الاعتقاد [16] أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خير أصحاب الأنبياء، وأجمع أهل السنة والجماعة على أن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر رضي الله عنه، وأنه أحق بالخلافة من غيره، ثم يليه في الفضل عمر، ثم اختلفوا في عثمان وعلي، ثم استقر الإجماع بعد ذلك على أن التفضيل يكون على ترتيب الخلافة، وقد أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بالالتزام بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده رضوان الله عليهم أجمعين.

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمفاضلة بينهم

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمفاضلة بينهم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام، وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى رضي الله عنهم أجمعين؛ لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره) . وصحت الرواية عن علي رضي الله عنه أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ولو شئت سميت الثالث) . وروى أبو الدرداء: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر) ، وهو أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وسابقته، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة. ثم من بعده عمر الفاروق رضي الله عنه لفضله وعهد أبي بكر إليه، ثم عثمان رضي الله عنه لتقديم أهل الشورى له، ثم علي رضي الله عنه لفضله وإجماع أهل عصره عليه] .

أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هم خير الصحاب الأنبياء

أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هم خير الصحاب الأنبياء ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الفصل ما يتعلق بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وفضائل أمته، فذكر ما خص الله به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من عظيم المنزلة ورفيع المكانة، قال رحمه الله: (وأصحابه) أي: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام) وهذا قد أجمعت عليه الأمة، ودل عليه قول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] فشهادة هذه الأمة على غيرها من الأمم دليل على خيريتها. وخير هذه الأمة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما جاء في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) كما في حديث عمران بن حصين وغيره. هذا الحديث يدل على أن أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهم في الجملة أفضل الأمة، وهم أفضل الناس بعد الأنبياء كما ذكر المؤلف رحمه الله.

المفاضلة الخاصة بين الصحابة دون التنقص لأحد

المفاضلة الخاصة بين الصحابة دون التنقص لأحد هذا الفضل العام في جيل الصحابة رضي الله عنهم يشملهم جميعاً، ثم هم بعد هذا الفضل العام يتمايزون في الفضل على درجات متفاوتة، أعلاهم وأرفعهم منزلة وأعظمهم فضلاً أبو بكر رضي الله عنه، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (وأفضل أمته أبو بكر الصديق) فأفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق عليه رضوان الله؛ وذلك أن أبا بكر له من الخصائص والفضائل والمزايا ما لا يشركه فيه غيره من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، بل اختص بها وهي أعلى الفضائل الخاصة. ثم وصفه رضي الله عنه بـ الصديق؛ لكونه الذي صدق النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم لما وقع ما وقع بين أبي بكر وعمر من المخاصمة، قال: (لقد جئتكم فقلتم: كذبت. وقال أبو بكر: صدقت) فشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالتصديق، فهو صديق هذه الأمة وهو الصديق الأكبر رضي الله عنه. ثم عمر الفاروق ويصدق عليه أنه صديق، فقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم أعظم تصديق، لكنه اختص بهذا الوصف؛ لأن الله فرق به بين الحق والباطل، فـ عمر رضي الله عنه معه من القوة ورباطة الجأش وعظيم العزيمة ما حقق الله على يديه الفرق بين الحق والباطل. ثم عثمان ذو النورين، أي: صاحب النورين رضي الله عنه، والنواران هما بنتا النبي صلى الله عليه وسلم، حيث خصه الله بأن جمع له بين بنتين من بنات النبي صلى الله عليه وسلم، تزوج إحداهما فماتت ثم تزوج الثانية. ثم بعد ذلك قال: (ثم علي المرتضى) : وعلي هو رابع الصحابة رضي الله عنهم في الفضل، والمنزلة والمكانة، ووصفه بأنه المرتضى لما روى البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة لما خرج إلى غزوة تبوك، فتبع علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أتتركني في النساء والصبيان؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟) ، فرضي رضي الله عنه فسمي بعد ذلك بالمرتضى، هكذا ذكر بعض أهل العلم في سبب تسميته أو وصفه رضي الله عنه بالمرتضى، وقيل: لأنه رضيه الله ورسوله، وقيل غير ذلك. وعلى كل حال: فهذا وصف شاع بين أهل العلم في وصف علي رضي الله عنه. ورضي الله عن الصحابة أجمعين. والمفاضلة بين الصحابة لا يترتب عليها النقص أو التنقص للمفضول، بل بيان الفضل لا يترتب عليه همز المفضول ونقصه، بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فإذا ترتب على المفاضلة أن يكون هناك تنقص فإنه لا تجوز المفاضلة في هذه الحال، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على يونس بن متى) فنهى عن المفاضلة بين الأنبياء وعن التفضيل بينه وبين يونس بن متى وهو رسول ونبي صلى الله عليه وسلم. والسبب أنه إذا كانت المفاضلة تفضي إلى تنقص المفضول فإنها لا تجوز، فإذا كانت هذه في الأنبياء مع وضوح فضل النبي صلى الله عليه وسلم وظهوره وتأكده وتقريره، فكيف بالمفاضلة بين غيرهم؟! فلا يسوغ المفاضلة بين أهل الفضل إذا كان ذلك على وجه التنقص للمفضول، أما إذا كان على وجه بيان الفضل والسبق والمنزلة وما خص الله به أحدهم، فإن هذا لا بأس به، وهذا ليس خاصاً في المفاضلة بين الأنبياء أو الصحابة، بل في المفاضلة بين كل من تجري بينهم مفاضلة، إذا كان يترتب على هذه المفاضلة تنقص المفضول، ولا ينبغي أن يفاضل بين الناس على هذا الوجه؛ لأنه يفضي إلى مفسدة، والمفاضلة ليس المقصود منها إيغار الصدور، ولا تنقص المفضول، وإنما المقصود منها بيان فضل الله عز وجل، وما خص به كلاً من أهل الفضل.

ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل كترتيبهم في الخلافة

ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل كترتيبهم في الخلافة يقول رحمه الله: (لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي -أي بين أظهرهم- أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي) . الذي في الصحيحين وفي سنن أبي داود وفي غيرهما ذكر أبي بكر وعمر وعثمان دون ذكر علي رضي الله عنه، ولذلك قال: ثم نترك المفاضلة بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فقد أجمع الصحابة وأقر النبي صلى الله عليه وسلم على فضل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان، وأنهم في الفضل والسبق للصحابة ما لا يحتاج إلى منازعة ولا مناقشة؛ لكون الصحابة أجمعوا على هذا، ولكون النبي صلى الله عليه وسلم سمع ذلك منهم ولم ينكره، قال: (فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره) وصحت الرواية عن علي رضي الله عنه أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت سميت الثالث) . واختلف أهل العلم في الثالث، فقيل: إنه يعني نفسه. وقيل: إنه يعني عثمان. والصحيح والذي يظهر أنه يعني عثمان رضي الله عنه، وإنما امتنع من تسمية الثالث لكون كثير من أتباع علي رضي الله عنه في ذلك الوقت كانوا ممن وقعت منهم الفتنة في موضوع عثمان رضي الله عنه، وما جرى له من الحصار والخروج عليه رضي الله عنه، فخشي أن يبين الثالث فيكون ذلك سبباً لوقوع فتنة من أتباعه، ويقع في ذلك مزيد شر لأهل الإسلام؛ لأنه قد وقعت الفرقة وتشقق الناس وافترقوا إلى قسمين في مقتل عثمان رضي الله عنه، فخشي من زيادة الشر، فقال: (ولو شئت لسميت الثالث) ، فالذي يظهر أن الثالث هو عثمان رضي الله عنه. يقول رحمه الله: (وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر) ، فـ أبو بكر رضي الله عنه أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، بل هو أفضل الناس بعد الأنبياء.

خلاف أهل السنة في المفاضلة بين عثمان وعلي

خلاف أهل السنة في المفاضلة بين عثمان وعلي ثم بعد أن ذكر الفضل قال: (وهو أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم) والعلماء رحمهم الله يذكرون مسألة المفاضلة ببين الصحابة، ثم يذكرون الخلافة؛ وذلك لكون هاتين المسألتين من المسائل التي يجب اعتقادها في الصحابة، فبدأ المؤلف رحمه الله بذكر الفضل، وبين عقيدة أهل السنة والجماعة في المفاضلة، واعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في تقديم أبي بكر ثم عمر على سائر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما عثمان وعلي فبعد أن أجمعت الأمة على أن الذي يلي الأولين هو عثمان وعلي اختلفوا في أيهما أفضل، فمنهم من قال: الأفضل عثمان ثم علي، أي: فيكون الترتيب أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وهذا الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة، واستقر عليه قولهم، وأن ترتيبهم في الفضل والمنزلة كترتيبهم في الخلافة. القول الثاني: أن علياً مقدم على عثمان، وهذا قال به جماعة من السلف من أشهرهم سفيان الثوري رحمه الله، وقيل: إنه رجع عنه لما ناقشه من ناقشه من أهل العلم، وبين له تقدم عثمان على علي. القول الثالث: التوقف، أي: لا يقول إن عثمان أفضل ولا علي أفضل. والصحيح من هذه الأقوال هو القول الأول الذي لا ريب في صحته واستقرار قول أهل السنة عليه، وهذه المسألة هل يضلل فيها المخالف؟! الجواب لا يضلل فيها المخالف؛ لأنه قد وقع فيها الخلاف بين السلف، لكن المسألة التي يضلل فيها المخالف هي مسألة الخلافة، فإن ترتيب في الخلافة لا إشكال فيه، وقد اتفق عليه أهل السنة، فمن قال إن علياً أحق ممن تقدمه بالخلافة فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار؛ لأن المهاجرين أجمعوا على تقدم عثمان في الخلافة على علي رضي الله عنه، وقد قال عبد الرحمن بن عوف وهو الذي أوكل إليه عمر رضي الله عنه النظر فيمن يخلفه بين من بقي من أهل الشورى يقول بعد بحث ونظر واستشارة وQ لم أر الناس يعدلون بـ عثمان أحداً. فأجمع المهاجرون والأنصار على خلافة عثمان، بل إن خلافة عثمان خلافة إجماعية لم يقع فيها خلاف بالكلية، حتى علي رضي الله عنه بايعه ووافق، فلم يجتمع الناس في خلافة أحد كما اجتمعوا في خلافة عثمان رضي الله عنه، فالذي يطعن في خلافة عثمان أو يقول إن علياً أولى بالخلافة منه فإنه أضل من حمار أهله كما قال الإمام أحمد رحمه الله، لظهور الإجماع على خلافة عثمان رضي الله عنه.

أدلة استحقاق الخلفاء الراشدين للخلافة على الترتيب

أدلة استحقاق الخلفاء الراشدين للخلافة على الترتيب قال رحمه الله: (وهو أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة، وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة) هذه المسوغات والاستدلالات ذكرها المؤلف رحمه الله لبيان أفضلية أبي بكر رضي الله عنه، وأنه أحق الصحابة بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. واعلم أن خلافة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم أجمع عليها أهل السنة، ولا خلاف بين علماء الملة في أن أحق الناس بالخلافة وأولاهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر رضي الله عنه، وإذا نظرت إلى خلافة أبي بكر وجدت أن خلافة أبي بكر قد أومأ إليها النبي صلى الله عليه وسلم. بل قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص عليها، وأقوى ما يستدل للنص عليها ما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً لا يختلف عليه الناس ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) ، فترك الكتابة بناء على أن استحقاق أبي بكر رضي الله عنه أمر مجمع عليه، وأن الله سيصير الأمر إليه شاء من شاء وأبى من أبى. ومعنى: (يأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر) أي: إلا أن يكون هو الخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى كل حال: فالنظر إلى ما جاء في السنة يجد الإنسان الشواهد المتضافرة العديدة التي تدل على استحقاق أبي بكر رضي الله عنه للخلافة، وأن خلافته أشبه ما يكون بالمنصوص عليها؛ لفضله وسابقته، فهو أفضل الصحابة رضي الله عنهم، وهو أسبقهم إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأسبقهم إلى تصديقه، ولم يقاربه أحد في تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قدمه النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم، بل إن عائشة رضي الله عنها لما اعتذرت عن تقديم أبي بكر وقالت: إنه رجل أسف، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكن صواحب يوسف) ؛ لأن عائشة رضي الله عنها كرهت أن يتقدم أبوها الناس في مرض النبي صلى الله عليه وسلم خشية أن يتشاءم الناس به، فاعتذرت بأنه بكاء، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون المقدم في الصلاة أبا بكر رضي الله عنه.

إجماع الصحابة على تقديم أبي بكر ومبايعته

إجماع الصحابة على تقديم أبي بكر ومبايعته قال رحمه الله: (وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته) وهذا مما وقع، فإن الصحابة أجمعوا على مبايعته رضي الله عنه، وإن كان قد وقع في أول الأمر نوع تردد كما جرى في سقيفة بني ساعدة، إلا أن خلافته رضي الله عنه أجمع عليها الصحابة، وما ذكر من تأخر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه لم يكن تأخراً فيه الرفض وعدم القبول لمبايعته، إنما كان لشيء في نفسه رضي الله عنه، وأما المبايعة فإنه قد قبل بيعته وقبل المسلمون بيعته رضي الله عنه. ثم إنه لو قدرنا أن علياً قد صح عنه التأخر للبيعة، فإنه لا يضر وقد أجمعت الأمة وسادات الصحابة وأشرافهم وكبراؤهم وأعيانهم رضي الله عنهم على بيعة أبي بكر رضي الله عنه، فلا يضر أبا بكر رضي الله عنه تخلف علي عن بيعته، ثم إنه قد رجع إلى الحق ووافق الجماعة إن قلنا بأنه تأخر في بيعته رضي الله عنه. ثم قال رحمه الله: (ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة) ، ولا شك أن هذه الأمة لا يمكن أن يجمعها الله على ضلالة، لا سيما أولئك الذين إجماعهم هو الإجماع المعتبر رضي الله عنهم، فأجمعوا واتفق أمرهم وانتظم عقدهم على تقديم أبي بكر وخلافته رضي الله عنه.

استخلاف أبي بكر لعمر وفضله

استخلاف أبي بكر لعمر وفضله قال: (ثم من بعده عمر رضي الله عنه لفضله وعهد أبي بكر إليه) ؛ أي: لفضله واستحقاقه الخلافة، فإنه قرين أبي بكر في الفضل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) وقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الإمام مسلم في حديث أبي قتادة: (إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا) . فـ عمر رضي الله عنه قرين أبي بكر في الفضل والمكانة والمنزلة رضي الله عن الجميع، وإن كان السبق لـ أبي بكر ولا شك، لكنه قرنه به رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضع عديدة.

فضل عثمان رضي الله عنه

فضل عثمان رضي الله عنه (ثم عثمان رضي الله لتقديم أهل الشورى له) ، وأهل الشورى هم الذين أوكل إليهم عمر رضي الله عنه النظر فيمن يكون خليفة بعده رضي الله عنه، الستة بقية العشرة، وهم: عبد الرحمن بن عوف ولكن ليس له من الأمر شيء، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعلي وعثمان رضي الله عن الجميع، وسابعهم عبد الله بن عمر، ولكن ليس له من الأمر شيء.

فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه

فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم قال: (ثم علي رضي الله عنه -هذا رابع الخلفاء الراشدين- لفضله وإجماع أهل عصره عليه) ، فله من الفضل والمكانة رضي الله عنه ما تشهد به أهل السنة والجماعة له وتعتقده فيه، وأما إجماع أهل عصره عليه فإنه لم يجمع على خلافة علي رضي الله عنه، بل خالف في ذلك من خالف من الصحابة، ووقعت الفتنة بينهم رضي الله عنهم، فانقسم الناس إلى قسمين: أهل الشام بقيادة معاوية رضي الله عنه ومن معه، وأهل العراق بقيادة علي رضي الله عنه ومن معه.

الالتزام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده

الالتزام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده ثم قال بعد ذلك: [وهؤلاء الخلفاء الراشدون، والأئمة المهديون الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (الخلافة من بعدي ثلاثون سنة) وكان آخرها خلافة علي رضي الله عنه] . هذا المقطع يقول فيه المؤلف رحمه الله: (وهؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون) أي هؤلاء الأربعة: أبو بكر عمر عثمان علي، هم أولى وأصدق من يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، فإنهم أصدق من يصدق عليه هذا الوصف، وأحق من يتنزل عليه هذا القول بثلاثة أوصاف: الوصف الأول: أنهم خلفاؤه؛ وهم من أتى بعده رضي الله عنه وقام مقامه. الوصف الثاني: أنهم راشدو؛ وهذا ضد الغي. الوصف الثالث: أنهم مهديون؛ وهذا ضد الضلال. فجمع لهم بين الهدى والرشد وبهما يكمل العلم النافع والعمل الصالح، والهدي المستقيم. (عضوا عليها بالنواجذ) ، أي: تمسكوا بها تمسك العاض على الشيء بأضراسه ونواجذه. ثم ذكر رحمه الله في الاستدلال على أن هؤلاء هم الخلفاء الراشدون حديث: (الخلافة من بعدي ثلاثون سنة) وقد جاء في مسند الإمام أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً) أو (ثم يؤتي الله ملكه من يشاء) فدل ذلك على أن الذين يلونه مدة ثلاثين سنة يصدق عليهم الخلافة. وبالنظر إلى مدة خلافة هؤلاء رضي الله عنهم التي ابتدأت بالسنة الحادية عشرة إلى سنة الأربعين يتبين أنهم رضي الله عنهم كلهم داخلون في قوله صلى الله عليه وسلم: (الخلافة من بعدي ثلاثون) فإن خلافة علي رضي الله عنه انتهت على رأس الثلاثين، وهذا من الأدلة على أنهم المقصودون بقوله صلى الله عليه وسلم: (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) فكان آخرها خلافة علي رضي الله عنه. نقف على هذا، ونكمل إن شاء الله تعالى في الدرس القادم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

شرح لمعة الاعتقاد [17]

شرح لمعة الاعتقاد [17] من منهج أهل السنة والجماعة أنهم يشهدون للعشرة المبشرين بالجنة كما شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويشهدون لغيرهم ممن شهد له عليه الصلاة والسلام بالجنة، ولا يجزمون لأحد بعد ذلك من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب، وأن الجهاد والحج ماضيان خلف كل بر وفاجر.

الشهادة للعشرة المبشرين بالجنة

الشهادة للعشرة المبشرين بالجنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ونشهد للعشرة بالجنة كما شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة) وكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها، كقوله: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) ، وقوله لـ ثابت بن قيس: (إنه من أهل الجنة) ] . الفصل الذي تقدم كان فيما يتعلق بفضائل الصحابة رضي الله عنهم، وهذا ذكر فيه الشهادة لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم منهم بالجنة، واعلم أن الشهادة بالجنة نوعان: شهادة لموصوفين وشهادة لمعينين. أما الشهادة التي تكون للموصوفين فهي كثيرة في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يأتي فيها ذكر أن من فعل كذا فله الجنة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم) فكل من أفشى السلام وحصل منه الحب لإخوانه المسلمين فإنه موعود بهذا الفضل، وهو دخول الجنة، فهذه شهادة لمن اتصف بهذا الوصف، وهذا النوع لا إشكال فيه وهو مجمع عليه. النوع الثاني من أنواع الشهادات بالجنة: الشهادة لمعينين، كالشهادة لمن ذكر المؤلف رحمه الله، وأول وأبرز من يشهد لهم بالجنة من خصوا بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وغيره، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة) ، هذه الشهادة لهؤلاء المعينين هي أشهر الشهادات، وهم المعروفون بأنهم العشرة المبشرون بالجنة؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم جمع ذكرهم في حديث واحد. يقول المؤلف رحمه الله: (ونشهد للعشرة) وهم من ذكروا في الحديث، أي: نشهد ونوقن بأنهم من أهل الجنة، وهذه الشهادة مبنية على خبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. يقول رحمه الله: (كما شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أبو بكر في الجنة)) وأبو بكر هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه. (وعمر) : هو عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء، (وعثمان) وهو ثالث الخلفاء عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عن الجميع، هؤلاء كلهم شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة؛ فنشهد لهم بأنهم في الجنة، وأن خبر النبي صلى الله عليه وسلم فيهم صدق، فهم من أهل الجنة قبل أن يموتوا بخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

كل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له

كل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له كذلك شهد النبي صلى الله عليه وسلم لغيرهم من الصحابة، يقول المؤلف رحمه الله: (وكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها) ؛ اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وطاعة لأمره، وتصديقاً لخبره، يقول رحمه الله: كقوله: (الحسن والحسين) وهما الحسن بن علي والحسين بن علي رضي الله عنهما، سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم (سيدا شباب أهل الجنة) أي: لهما السيادة على شباب أهل الجنة، والسيادة: هي العلو والشرف والارتفاع، فهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم لهذين الصحابيين الجليلين بالجنة. يقول رحمه الله: (وقوله لـ ثابت بن قيس: (إنه من أهل الجنة)) وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وقصة شهادته صلى الله عليه وسلم لـ ثابت بن قيس في الجنة مشهورة معروفة، وهي أنه لما نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] اعتزل ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه في بيته وبكى، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: إنه يبكي لقوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] ، فإنه كان يرفع الصوت عندك، فهو جهوري الصوت، فخشي أن يدخل في هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه من أهل الجنة) فكانت بشارة له بأنه من أهل الجنة. كذلك شهد النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة وشهد لـ بلال ولجماعة من الصحابة رضي الله عنهم بأنهم من أهل الجنة، فكل من شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالجنة فإن من تمام الإيمان به صلى الله عليه وسلم أن نصدقه في ذلك، وأن نشهد لمن شهد له صلى الله عليه وسلم.

من اعتقاد أهل السنة أنهم لا يقطعون لأحد بجنة أو نار

من اعتقاد أهل السنة أنهم لا يقطعون لأحد بجنة أو نار يقول رحمه الله: [ولا نجزم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار] بعد أن فرغ من بيان حكم من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وما الواجب تجاهه، انتقل إلى بيان المسكوت عنهم، ما حكمهم؟ فمن سكت عنه ولم يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هل هو من أهل الجنة أو لا، هل نشهد له بالجنة أو لا؟ A يقول: (ولا نجزم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار) ففهم من هذا: أننا لا نجزم لأحد كائناً من كان بأنه من أهل الجنة أو بأنه من أهل النار، بل الواجب التوقف حتى يأتي بيان من الله أو بيان من رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة أو أنه من أهل النار، وقوله: (لا نجزم) أي: لا نقول ذلك على وجه الجزم والقطع، وهل نقوله على وجه الرجاء؟ الجواب: نعم، نقول فيمن قام فيه دليل الصلاح وعلامات الاستقامة: إننا نرجو أن يكون من أهل الجنة، فنرجو للمحسن ونخاف على المسيء، لكن الرجاء أمر دون الشهادة والجزم، فالبحث في الجزم، فإننا لا نجزم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار؛ لأن هذا من الغيب، وهو من الخبر الذي لا يمكن أن يقبل إلا بقول الله أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم. وقول المؤلف رحمه الله: (لأحد من أهل القبلة) أي: سواء كان من أهل الفضل والإحسان، أو كان من أهل الإساءة والتقصير، فيشمل كل من توجه إلى القبلة من أهل الإسلام، وأهل القبلة هم أهل الإسلام، ويعبر العلماء عن المسلمين بهذا الاسم لكونهم يجتمعون في هذا الأمر، فكل من ادعى الإسلام فإنه لا بد أن يتوجه إلى القبلة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (من استقبل قبلتنا، وذبح ذبيحتنا، ونسك نسيكتنا؛ فهو المسلم الذي له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين) وهذا يبين أن كل من اتصف بهذا الوصف فإنه من أهل القبلة، فهذا الوصف مأخوذ من هذا الحديث ونظائره، ويوصف أهل الإسلام بأنهم أهل الصلاة؛ ولذلك سمى بعض من ألف في مقالات المسلمين قال: ومقالات المصلين، يريد بذلك أهل الإسلام، فقوله رحمه الله: (ولا نجزم لأحد من أهل القبلة) يعني: لأحد من أهل الإسلام. (بجنة ولا نار) أي: لا نقول: إنه في الجنة، ولا نقول: إنه في النار [إلا من جزم له الرسول صلى الله عليه وسلم] فلا نجزم لمعين بأنه في الجنة إلا إذا جاءنا الخبر عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أنه في النار إلا إذا جاء الخبر عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول: [لكنا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء] ، نرجو الإثابة والفضل والأجر والجنة للمحسن، وهو الذي حقق الإسلام بالعمل الصالح والنية الخالصة، وأما المسيء فهو من خالف ذلك، إما فساد في العمل وإما فساد في النية. فالمحسن نرجو له فضل الله عز وجل ورحمته، وأما المسيء فإننا نخاف عليه، وذلك أن الحساب بين يدي الله عز وجل لا يجري على الظواهر فحسب، بل إنه يجري على ما يقوم في القلب، وقد يظهر من إنسان الاستقامة وحسن الحال، والباطن على خلاف ذلك، فالعبرة بما يقوم في القلوب وتصدقه الأعمال، كما في حديث أبي هريرة في صحيح الإمام مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم) وفي رواية: (وأعمالكم) فالنظر والحساب والجزاء على ما يقوم في القلوب من الإيمان والتصديق، وحسن الاعتقاد الذي يتبعه صلاح العمل، فإنه لا يمكن أن يستقيم القلب ويصلح وتكون الجوارح على خلاف ذلك، ما لم يوجد مانع.

شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لمعينين بالنار

شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لمعينين بالنار فهمنا من كلام المؤلف رحمه الله أن الشهادة والجزم بالجنة لا يمكن أن يكون إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الشهادة بالنار لا يمكن أن تكون إلا لمن أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار، وقد جاء في الكتاب الخبر عن جماعة أنهم من أهل النار، من ذلك على وجه التعيين أبو لهب وامرأته، فقد شهد الله لهم بالنار: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1-5] فهذان شهد لهم الله جل وعلا بأنهما من أهل النار. كذلك جاءت الشهادة لمعينين بالنار، كشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن لحي الخزاعي أول من بدل دين إبراهيم عليه السلام من العرب، حيث قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (رأيته يجر قصبه في النار) وهذا يدل على أنه في النار، فالشهادة للمعينين جاءت في خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذلك شهد لـ أبي طالب بأنه في النار، وجاء في صحيح مسلم الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أن أباه في النار، لما سأله الرجل عن أبيه فقال: أبوك في النار قال: ثم كأن الرجل وجد في نفسه واشتد عليه الأمر، فهون عليه النبي صلى الله عليه وسلم الخبر فقال له: (أبي وأبوك في النار) فهذه شهادة لمعينين. لكن هل هؤلاء من أهل القبلة؟ A لا، ليسوا من أهل القبلة؛ لأنهم ممن لم يبعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانوا قبله. أما أهل القبلة فإنه لا يجوز الشهادة لأحد منهم مهما بلغ عصيانه وساءت أحواله وكثرت سيئاته بالنار، ما لم يرتكب مكفراً يخرج به عن ملة الإسلام، ويخلع به عن رقبته ربقة الإيمان، ففي هذه الحال يكون كافراً مرتداً، أما ما دام عصيانه لا يصل به إلى حد الكفر فإنه لا يحكم بكفره، ولا يشهد له بالنار. كذلك الشهادة بالنار للمرتد، هذه محل خلاف بين أهل العلم؛ لأن كلام المؤلف السابق في أهل القبلة، لكن غير أهل القبلة من الكفار هل يشهد لهم بالنار؟ اختلف العلماء في هذا على قولين: منهم من قال: إنه يشهد لمن علم موته على الكفر بأنه في النار. وقال آخرون: إن عقيدة أهل السنة والجماعة أن لا نشهد لمعين بجنة ولا نار ولو كان من أهل الكفر؛ لأننا لا نعلم حكم الله فيه، لكننا من حيث الحكم الدنيوي نحكم بكفره، وأنه من أصحاب الجحيم على وجه العموم، أما على وجه التعيين فنحتاج إلى نص ودليل. فهذه المسألة فيها قولان لأهل العلم، لكل قول ما يسنده ويعضده، والسلامة أن لا نشهد لمعين بنار حتى يقوم الدليل والنص والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

أهل السنة لا يكفرون بالذنوب

أهل السنة لا يكفرون بالذنوب ثم قال رحمه الله: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه عن الإسلام بعمل، ونرى الحج والجهاد ماضيين مع طاعة كل إمام، براً كان أو فاجراً، وصلاة الجمعة خلفهم جائزة، قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل) ] يقول رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) أي: لا نحكم بالكفر على أحد من أهل القبلة الذين ثبت إسلامهم بإقامة الصلاة واستقبال البيت (بذنب) أي: بسبب ذنب. الذنب يشمل الصغير والكبير، الدقيق والجليل من الذنوب، ما عدا ما يحصل به الكفر والردة، فمن كفر بالله عز وجل كفرناه، ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم أو كذبه كفرناه، ومن امتهن القرآن ودنسه كفرناه، فقوله رحمه الله: (بذنب) يعني من كبائر الذنوب التي لم يأت النص بأنها كفر، كشارب الخمر والزاني والسارق وغير ذلك من الكبائر والذنوب، فإننا لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب؛ لأن الأصل أن من كان إسلامه ثابتاً بيقين فإنه لا ينقل عنه إلا بيقين، وهذه قاعدة مهمة يستفيدها طالب العلم لا سيما عند الاشتباه، والأصل بقاء ما كان على ما كان، وأن من حكم بإسلامه فهو باق على هذا الوصف لا يرتفع عنه إلا بدليل، فإذا اشتبه الإنسان هل هذا يحصل به الكفر أو لا يحصل به الكفر؟ فالأصل أنه لا يحصل به الكفر، وأنه باق على الإسلام. (فلا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) ينبغي أن تقيد هذه الجملة بما عدا ما وقع الخلاف فيه بين أهل العلم من المسائل هل يكفر بها صاحبها أو لا، فهناك من المسائل ما وقع فيها الخلاف بين العلماء وهي من جملة الذنوب. فمثلاً: ترك الصلاة، هذا من الذنوب التي اختلف فيها العلماء رحمهم الله من حيث الكفر إلى قولين: فمنهم من يرى التكفير بترك الصلاة ولو كانت صلاة واحدة إذا تركها عمداً دون عذر حتى خرج وقتها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) والحديث الآخر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل والشرك أو الكفر ترك الصلاة) ، فهذا خارج عن قول المؤلف رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) . فما وقع فيه الخلاف بين أهل العلم من الذنوب هل يكفر بها صاحبها أو لا فإنها لا تدخل في هذه الجملة، لوقوع الخلاف بين السلف، والمقصود بالذنوب ما اتفق العلماء على أنها ذنب، كالكبائر من الزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك. فأركان الإسلام مما اختلف العلماء رحمهم الله في تاركها هل يكفر أو لا؛ أعني الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، فالخلاف بين العلماء في تاركها مشهور، فهذه خارجة عن بحثنا. قوله رحمه الله (ولا نخرجه عن الإسلام في عمل) ما لم يكن هذا العمل ينتقض به إسلامه، ويرتفع به عنه وصف الإسلام، مثاله: الذبح لغير الله، فهذا عمل، فهل نخرجه من الإسلام بذلك؟ A نعم، لكن المقصود بالعمل: ما كان من كبائر الذنوب والخطايا والآثام، أما الشرك فإنه كفر، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:72] ، فلا بد من الحكم بمقتضى ما قام بالإنسان من وصف، فإذا قام به وصف الكفر مع اعتقاده دون عذر مع توفر الشروط وارتفاع الموانع فإنه يحكم بكفره.

من عقيدة أهل السنة الحج والجهاد مع كل إمام

من عقيدة أهل السنة الحج والجهاد مع كل إمام ثم قال رحمه الله: (ونرى الحج والجهاد ماضيين مع طاعة كل إمام، براً كان أو فاجراً) ، وهذا بيان لعقيدة أهل السنة والجماعة في هذا الشأن، وهو ما يتعلق بنظر أهل السنة والجماعة للأئمة، وهم ولاة الأمر الذين يتولون أمر أهل الإسلام، وذكر الحج والجهاد لأن الحج والجهاد من الأعمال التي لا بد فيها من اجتماع، ولا بد لكل اجتماع من أمير، يصدر عن رأيه، ويرجع إليه في تدبير شأنه، فذكر الحج والجهاد ليس قصراً على هذين العملين، بل هو نموذج للأعمال التي تحتاج إلى اجتماع ولأنها من العبادات التي يحتاج فيها الناس إلى رأي، وإلى أمير يأتمرون به، ويقتدون بعمله، ويسيرون خلفه يرتبهم وينظمهم ويدير شئونهم ويصلح أمورهم: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا فلا بد للناس في مثل هذه الاجتماعات من تدبير، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على مضي الجهاد والحج مع كل أمير براً كان أو فاجراً. قوله: (نرى الحج والجهاد ماضيين) أي: قائمين، لا يجوز إبطالهما، ولا التوقف عنهما لفساد من يتولاهما أو لتقصيره. قوله: (براً كان أو فاجراً) براً: أي قائماً بالطاعة، عاملاً بها، عادلاً بين الخلق، أو فاجراً: أي فيما يتعلق بنفسه أو فيما يتعلق بولايته، ففيما يتعلق بنفسه كأن يكون شارباً للخمر، أو زانياً، أو غاشاً، وفيما يتعلق برعيته كالغاش، أو الذي يظلم ويأخذ حقوق الناس، فإن هذا يجب له من الطاعة ما يجب لغيره من ولاة الأمر، لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب الاجتماع والطاعة حتى ولو حصل التقصير من ولي الأمر. وهذا مما تميز به أهل السنة والجماعة، وإنما تميزوا به لاستمساكهم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولاستمساكهم بما أرشد إليه الله عز وجل من الاعتصام بحبله، والاجتماع على طاعته، وحذراً وتجنباً لما نهى عنه من الفرقة والاختلاف، فإن الله سبحانه وتعالى نهى عن الفرقة والاختلاف، ولو أن كل أحد رأى من أميره أو إمامه أو وليه ما يكره من المعصية، فجعل ذلك مسوغاً لنزع يده عنه وعدم طاعته لما استقام الأمر لأحد؛ لأنه ما من أحد إلا ويخطئ، وما من أحد إلا وعنده تقصير، والتقصير يتفاوت؛ لكن ينبغي للمؤمن أن يصبر على الخطأ، وأن لا يوافق على المعصية، ومع هذا فينبغي ألا ينزع يداً من طاعة كما دلت على ذلك النصوص المتواترة. يقول رحمه الله: (وصلاة الجمعة خلفهم جائزة) ، صلاة الجمعة يقع بها الاجتماع خلفهم مع فجورهم وتقصيرهم، فهي: (جائزة) أي: تبرأ بها الذمة، وفي قوله: (جائزة) رد على من يرى أنه لا تجوز الصلاة خلف أئمة الجور، ولا يعني أن الإنسان مخير بين أن يصلي أو لا يصلي، بل الواجب عليه أن يصلي خلفه، وذكر الجواز هنا لا لاستواء الطرفين، وإنما لرد قول من يقول: إنه لا يصلى خلفهم، وقد صلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف الحجاج، وحجوا مع الحجاج مع ظلمه وظهور شره، وقتله لأهل الفضل والعلم، وتسلطه على عباد الله، ومع ذلك لم ينزعوا يداً من طاعة، بل صلوا خلفه وحجوا معه، ولم يكن في ذلك طعن عليهم، بل كانوا في ذلك مهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم متبعين لسنته. ثم قال رحمه الله: [قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله ولا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله عز وجل حتى يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار) ] فاجتمع لنا في هذا الحديث ثلاث خلال الصفة الأولى: الكف عمن قال لا إله إلا الله، ثم بين معنى الكف فقال: ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل؛ فهذا معنى الكف عمن قال: فلا إله إلا الله، لا نكفره بذنب ما لم يكن هذا الذنب مكفراً، ودلت النصوص على أنه كفر، ولا نخرجه من الإسلام بعمل ما لم تدل النصوص الأخرى على أنه من الكفر والشرك الذي يخرج به الإنسان عن ملة الإسلام. ثم قال: (والجهاد ماض) ، أي: مستمر لا ينقطع ولا يقف، (منذ بعثني الله عز وجل حتى يقاتل آخر أمتي الدجال) ، وذلك بقيادة عيسى بن مريم عليه السلام، يقول: (لا يبطله) أي: لا يبطل الجهاد (جور جائر) أي: ظلم ظالم (ولا عدل عادل) بل هو ماض باق إلى قيام الساعة. قال: (والإيمان بالأقدار) هذا ثالث الأصول التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، قال المؤلف رحمه الله: [رواه أبو داود] ، وهذا الحديث أخرجه أبو داود وسكت عنه، وقد ذكر أبو داود في سننه أن ما رواه وسكت عنه فإنه حسن عنده، إلا أن هذا الحديث في بعض رجاله بعض المقال الذي يقصر به عن درجة الصحاح، وما جاء فيه من خلال هي خلال تشهد لها الأحاديث الأخرى فلا إشكال فيما تضمنه من المعاني، ثم ذكر المؤلف رحمه الله ما يجب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، ونؤجل ذلك إن شاء الله إلى الدرس القادم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

شرح لمعة الاعتقاد [18]

شرح لمعة الاعتقاد [18] جيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم هو خير جيل وجد على وجه الأرض، فقد اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالواجب على كل مسلم موالاتهم وحبهم، فإن حبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. ويجب أيضاً معرفة حقوق أمهات المؤمنين زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاهرات المبرآت من كل رجس ودنس رضي الله تعالى عنهن.

حقوق الصحابة رضي الله عنهم

حقوق الصحابة رضي الله عنهم بسم الله الرحم الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن السنة: تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم وذكر محاسنهم، والترحم عليهم والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] ، وقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ] . يقول المؤلف رحمه الله في بيان ما يجب اعتقاده فيما يتعلق بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن السنة) أي: التي يجب اعتقادها والعمل بها، وليس المقصود هنا السنة الاصطلاحية التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، بل السنة هنا هي الطريقة التي يسلكها أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالصحابة رضي الله عنهم. قوله: (تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) التولي: مأخوذ من ولي الشيء إذا قرب منه، والمقصود بالتولي هنا القرب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بمحبتهم وإجلالهم وتقديرهم ومعرفة سابقتهم. وهذا بيان مجمل لما يجب للصحابة رضي الله عنهم، ثم جاء تفصيل ذلك في قوله: (ومحبتهم وذكر محاسنهم، والترحم عليهم والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم) ، فكل هذا إنما هو من معاني التولي، فإن من لوازم التولي ما ذكر رحمه الله من هذه الواجبات التي تجب لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تعريف الصحابي وتفاوت الصحابة في الصحبة

تعريف الصحابي وتفاوت الصحابة في الصحبة قول المؤلف رحمه الله: (تولي أصحاب رسول الله) أصحاب: جمع صاحب، والصحابي: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك ولو كان ذلك ساعة من ليل أو نهار، ولكن لا شك أن الصحابة رضي الله عنهم، يتفاوتون في الحقوق بقدر تحقق الصحبة لهم، فالذين صحبوه صلى الله عليه وسلم أطول وكانت صحبتهم له أحسن وأكمل، فإن لهم من الحق والفضيلة والمزية أكثر مما هي لمن قصر نصيبه من ذلك، فالصحبة وصف كلما ازداد في الشخص تحققه كلما علا حقه وارتفعت قدمه فيما ذكره المؤلف رحمه الله من المحبة وذكر المحاسن. وأعلى الصحابة صحبة هو: أبو بكر رضي الله عنه، فله من المحبة والفضل والسبق والتولي ما ليس لغيره من صحابة رسول صلى الله عليه وسلم، فعلى سبيل المثال: من أسلم بعد الفتح ليس كمن أسلم قبل الفتح، كما ميز الله جل وعلا ذلك فقال: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] ، فهذه الآية ميزت بين طبقات الصحابة، فحق الذين أسلموا قبل الفتح -وهو صلح الحديبية- من المحبة وذكر المحاسن والترحم والاستغفار والولاية أعظم من حق من جاء بعد ذلك؛ لأن من أسلموا قبل الفتح تحقق الصحبة فيهم أعظم من تحقق الصحبة فيمن أسلموا بعد الفتح، وهذا هو معنى قولنا: الصحبة وصف يزداد فيه الحق بازدياد هذا الوصف، فكلما ازداد نصيب الإنسان من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم كلما ازداد حقه من هذه الخصال الذي ذكرها المؤلف رحمه الله.

وجوب محبة الصحابة وتوليهم والكف عن ذكر مساوئهم

وجوب محبة الصحابة وتوليهم والكف عن ذكر مساوئهم يقول رحمه الله: (ومن السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبتهم) أي: محبة قلبية، وذلك لما كانوا عليه من عظيم الإيمان وصدق اليقين ورسوخ القدم في سبيل المتقين، ولما كانوا عليه من الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كانوا عليه من الدعوة إلى الله عز وجل والنصح للخلق، فهم رضي الله عنهم لهم القدم السابقة في هذه الأمور كلها التي لا يمكن أن يُحلقوا فيها رضي الله عنهم. ويكفيهم فضلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم) فهم خير الناس، وهم أحق من يدخل في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وهم أحق من يدخل في قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ، وهم المعنيون بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] فالمهاجرون والأنصار السابقون منهم هم الذين رضي الله عنهم رضاً مطلقاً فلم يقيد ذلك باتباع بإحسان فيما كان منهم، بل قال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] فاشترط الإحسان في التابعين لا فيهم هم. فهم رضي الله عنهم لهم من الفضائل ما ليس لغيرهم، ولهم من المنزلة والمكانة ما ليس لغيرهم، فحقهم أن يحبوا؛ لأن محبة الصالحين من عبادة الله عز وجل ومن طاعته التي يؤجر عليها الإنسان ويثاب، فينبغي للمؤمن أن يستشعر هذا المعنى وأن يلاحظه، فليست المحبة لكوننا مأمورين بمحبتهم، بل نحن نحبهم محبة قلبية لما كانوا عليه من الفضل، ولما كانوا عليه من الخير، ولما وصلنا عن طريقهم من الشريعة، فهم حفظة الشريعة وحملتها رضي الله عنهم. يقول: (وذكر محاسنهم) ، فالواجب ذكر محاسنهم؛ لأن ذكر المحاسن مما يزداد به حبهم ويزداد به توليهم. قال: (والترحم عليهم) أي: والواجب أيضاً أن نترحم عليهم وأن ندعو لهم بالرحمة والمغفرة، وأن ندعو لهم بالرضى وبكل خير. قال: (والاستغفار لهم) ؛ أيضاً يجب طلب المغفرة لهم؛ لأنه ما من إنسان إلا ويخطئ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) فنحن لا نقول: إنهم معصومون، لكننا نقول لهم: من السبق والفضل والمكانة والخير والتقوى ما يستوجب أن يحبوا وأن يذكروا بإحسان، وأن يترحم عليهم وأن يستغفر لهم رضي الله عنهم. يقول رحمه الله: (والكف عن ذكر مساوئهم) الكف: الامتناع، فيجب الامتناع عن ذكر مساوئهم، أي: عن ذكر ما ينسب إليهم من المساوئ سواء كانت صحيحة النسبة أو لم تصح؛ لأنهم قد رضي الله عنهم، ومن رضي الله عنه فلا يسوغ لمؤمن أن يبحث عن عيوبه أو أن يتلقط زلاته أو أن يبحث عن عثراته، فإن هذا مما يضعف مكانتهم وينزل في منزلتهم التي أنزلهم الله عز وجل إياها. ثم اعلم أن كثيراً مما يذكر من المساوئ المنسوبة إلى الصحابة: إما أنها آثار لا تصح، وإما أنها صحيحة لكن فيها زيادة أو نقص، وإما أنها غيرت عن الوجه الذي جاءت عليه، فبدل أن تكون إحساناً حولت إلى أن تكون سيئة ومثلبة. كذلك إذا ثبت هذا الذي ينسب إليهم فالواجب أن نعتقد أنهم مجتهدون رضي الله عنهم، ولا يخلو حالهم عن إصابة فيكون لهم أجران، أو أن يكونوا قد أخطئوا فيكون لهم أجر واحد رضي الله عنهم، وهذا لا يعني أننا نقول: إنهم معصومون كما تقدم قبل قليل، لكننا نعتقد فيهم كل خير، ونعتقد فيهم كل بر، ونسأل الله لهم العفو والعافية والمغفرة، رضي الله عنهم وأرضاهم.

وجوب اعتقاد فضل الصحابة والكف عما شجر بينهم

وجوب اعتقاد فضل الصحابة والكف عما شجر بينهم قال: (والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم) يعني: الكف عن ذكر مساوئهم وعن ذكر ما شجر بينهم، أي: اشتبك ووقع بينهم من خلاف، فإن الواجب الكف عما شجر بينهم، فلا يجوز لمؤمن يرغب في النجاة ويحب السلامة أن يقع في ذكر ما وقع بين الصحابة من خلاف، بل الواجب الإعراض عن تلك الفتنة وعدم الوقيعة فيها أو التكلم بها أو ذكرها. قال رحمه الله: [واعتقاد فضله] أي: يجب أن يعتقد فضلهم، فالواجب أن نعتقد فضلهم رضي الله عنهم، وأن نعرف ما لهم من السابقة والمكانة؛ ولذلك قال: (واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم) أي: أنهم سبقوا إلى الخير، وسبقوا إلى الفضل، وسبقوا إلى نصرة الشريعة ونصرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثم استدل المؤلف رحمه الله لما تقدم من واجبات في حق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10]] هذه الآية جاءت في سياق بيان الذين يستحقون الأخذ من الفيء، والفيء: هو ما يوقف عليه من أموال الكفار بلا قتال، فجعل الله عز وجل الحق فيها: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:8] ثم ذكر الله عز وجل ممن يستحق الفيء بعد ذكر المهاجرين والأنصار: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: من بعد المهاجرين والأنصار، لكن ليس كل أحد جاء بعدهم إنما من كان على هذه الصفة {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ، فهذا فيه الدعوة لهم بالرحمة والدعوة لهم بالمغفرة. قال: [وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]] وهذا من أبرز ما تميز به الصحابة رضي الله عنهم أنهم أشداء على أعداء الله الذي يحادون الله ويكذبون رسله، وهم فيما بينهم أهل رحمة وتواضع وخفض جناح وذلة وتقارب، حتى إنه وصفهم الله عز وجل بهذا الوصف في قوله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] والرحماء: جمع رحيم، والرحيم: هو الذي يسعى في إيصال الخير وقطع الشر عن المرحوم، فهم رضي الله عنهم كانوا يسعون في إيصال كل خير لكل من يعرفونه من أهل الإسلام، ويسعون في قطع كل شر عمن يعرفونه من أهل الإسلام رضي الله عنهم وأرضاهم، وكفى بتزكية الله عز وجل لهم تزكية في هذه الآية وفي غيرها من الآيات.

حرمة سب الصحابة

حرمة سب الصحابة قال: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ] هذا الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وقد ذكر مسلم له قصة وهي: أن خلافاً وقع بين خالد بن الوليد رضي الله عنه وبين عبد الرحمن بن عوف، فتكلم خالد رضي الله عنه في عبد الرحمن وسبه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تسبوا أصحابي) يقول هذا ويوجه هذا لـ خالد بن الوليد، وخالد صحابي، لكنه من الذين أسلموا بعد الفتح، أي: بعد صلح الحديبية، فهو ممن تأخر إسلامه، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين تأخر إسلامهم أن يسبوا وأن يتكلموا فيمن تقدم إسلامهم كـ عبد الرحمن بن عوف وغيره من الصحابة الذين أسلموا قبل الفتح، فكيف بمن جاء من غير الصحابة من بعدهم؟! فإذا كان الصحابة فيما بينهم يتفاضلون هذا التفاضل ففضل الصحابة -على وجه الإجمال- على من بعدهم كفضل الأولين منهم على المتأخرين. معنى هذا: أن هذا النهي نهي لكل مسلم عن أن يسب أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان ممن تقدم إسلامه أو ممن تأخر إسلامه؛ لأن نسبة من بعد الصحابة إلى الصحابة كنسبة المتأخرين منهم إلى المتقدمين، وهذا دليل على ما ذكرنا قبل قليل من أنه كلما ازداد وصف الصحبة في شخص فإنه يستحق من الفضل والمكانة والمحبة وسائر ما يلزم من التولي أكثر من غيره، فإن عبد الرحمن بن عوف يستحق من المحبة والتولي والاستغفار والترحم، أكثر ممن جاء بعده كـ خالد بن الوليد، وإن كان الجميع يشتركون في أصل الحق وهو التولي والمحبة والاستغفار والكف عن مساوئهم والكف عما شجر بينهم والاستغفار لهم، وما إلى ذلك مما تقدم ذكره في كلام المؤلف. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الإسلام عن سب أصحابه، فكل من كان صاحباً للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز سبه، لكن أيهما أعظم وأشد في السب: أن يسب الإنسان أبا بكر رضي الله عنه أو أن يسب وحشياً رضي الله عنه؟ A أن يسب أبا بكر. وأيهما أعظم أن يسب عمر أو أن يسب من تأخر إسلامه أو من تأخر إيمانه من الصحابة رضي الله عنهم؟ الجواب: لا شك أن سب عمر رضي الله عنه أعظم، ولذلك يجب أن يكف المؤمن عن سب كل أهل الإيمان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن يشتد الأمر بالمؤاخذة والذنب بقدر ما يكون من الوقيعة فيهم رضي الله عنهم، فسب معاوية -مثلاً- ممن أسلم بعد فتح مكة، أو عمرو بن العاص رضي الله عنه محرم؛ لكن سب أبي موسى وأبي هريرة أعظم من سبهما، وكذلك سب طلحة والزبير وسعد وسعيد أعظم من سب أبي موسى وأبي هريرة، وكذلك سب أبي بكر وعمر أعظم من سب من دونهم من الصحابة رضي الله عنهم. فقوله: (لا تسبوا أصحابي) نهي عن سب الجميع، ويتأكد هذا النهي في حق من عظمت منزلته في الصحبة وطالت صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً) أي: مثل جبل أحد وهو جبل معروف بالمدينة، يقع في جهة الشمال منها، فلو أنفق غير الصحابي مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم، أي: ما بلغ في الأجر والمثوبة قدر ما ينفق أحد المتقدمين من الصحابة ملء يديه، فالمد هو: ملء اليدين أو نصيفها أي: نصف المد، وهذا يبين أن الفضل فيما يقوم في القلب، وأن السابقة لها فضل عند الله عز وجل كما قال الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] . فكل من سبق إلى الفضل فله من المنزلة والمكانة ما ليس لغيره ممن تأخر عن هذا الفضل وعن هذا الخير، فمعنى الحديث: لو أنفق قدر ما تملأ اليدين نفقة في سبيل الله، فإن نفقة الواحد منهم نصف المد خير من أن ينفق غيره مثل جبل أحد ذهباً.

فضل أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وحقوقهن

فضل أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وحقوقهن قال المؤلف رحمه الله: [ومن السنة: الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء، أفضلهن خديجة بنت خويلد، وعائشة الصديقة بنت الصديق، التي برأها الله في كتابه، زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم. ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، أحد خلفاء المسلمين رضي الله عنهم] .

حكم سب الصحابة

حكم سب الصحابة يقول المؤلف رحمه الله: (ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقبل أن نتكلم عن هذا المقطع نسأل: ما هو حكم سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ A سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن يسبهم بالكفر، بمعنى أن يكفر من علم إسلامه منهم، ويقول -مثلاً-: الصحابة كفروا إلا نفراً قليلاً، فهذا لا شك في كفره. الحالة الثانية من أحوال السب: أن يسبهم ويلعنهم ولا يتهمهم بالكفر، فهذا لا شك أنه ذنب عظيم كبير يوجب المؤاخذة والعقوبة، وهذا باتفاق أئمة الدين ولا خلاف بينهم. الحالة الثالثة: أن يصفهم بما لا يقدح في دينهم من بغض أو ما أشبه ذلك، فهذا أيضاً من المحرمات، والفارق بين هذا والذي قبله أن الذي قبله اختلف العلماء فيه على قولين: فقيل: إنه يكفر، وقيل: إنه لا يكفر، أما هذا الذي هو سب بما يقدح وينقص منزلتهم لكن بما لم يلحقهم به نقص في دينهم فإنه يكون من الكبائر والآثام. فهذه هي منازل ومراتب سب الصحابة رضي الله عنهم. وأشهر من عرف بسب الصحابة هم الباطنية الرافضة عليهم من الله ما يستحقون، فإنهم يتقربون إلى الله بسب الصحابة، وهم لا يزدادون بهذا من الله إلا بعداً، ويسوغون هذا ويبررونه بحب آل البيت، وأهل السنة والجماعة أعظم منهم حباً لآل البيت، وأعظم منهم نصرة لله ورسوله، وقد جمعوا بين الفضيلتين، وليس بين حب آل البيت وحب الصحابة تعارض، بينما عند الرافضة أنه لا ولاء إلا ببراء، ولا ولاء لأهل البيت إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر، والسابقين الأولين من الصحابة رضي الله عنهم. ونحن نقول: لا ولاء إلا بولاء، فلا ولاء لأهل البيت إلا بمحبة وولاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

من هن أمهات المؤمنين؟ وكم عددهن؟

من هن أمهات المؤمنين؟ وكم عددهن؟ ومن جملة حقوق الصحابة ما بينه المؤلف رحمه الله في هذا المقطع حيث قال: (ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء) ؛ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أي: من نكحهن صلى الله عليه وسلم. وهن رضي الله عنهن قد أثنى الله عليهن وبين منزلتهن في قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] وهذا الخبر من الله عز وجل فيه بيان ما لهن رضي الله عنهن من المنزلة، فهن أمهات المؤمنين، ومعنى الأمومة هنا أي: في الحرمة والاحترام والتوقير والإعظام والإكرام، وليست أمومة نسب بلا شك، ولا توجب محرمية، أي: ليست أمومة تبيح الخلوة، وتبيح ما يستبيحه الإنسان من النظر إلى أمه وما إلى ذلك، وإنما هي أمومة احترام وإجلال وتقدير لما لهن رضي الله عنهن من المنزلة، فهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وأزواجه في الآخرة. والمؤلف رحمه الله أثبت هذا لجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذلك، فهن رضي الله عنهن في أصل هذه المنزلة سواء باستحقاقهن ذلك. يقول: (المطهرات المبرآت من كل سوء) المطهرات: اللواتي طهرهن الله جل وعلا، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] فلا شك أن المراد بأهل البيت في هذه الآية زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فهن من أهل البيت بنص القرآن؛ لأن الكلام السابق واللاحق كله في شأن زوجاته صلى الله عليه وسلم وفي شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (المبرآت من كل سوء) أي: أنهن سليمات بريئات من كل سوء يلحقه أحد بهن، وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم منهن من توفيت في حياته وهن خديجة بنت خويلد أول زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وزينب بنت خزيمة الهلالية رضي الله عنها، وهي مشهورة بـ أم المساكين، هاتان الزوجتان توفيتا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وبقي من أزواجه: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وصفية بنت حيي، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث الهلالية، وميمونة بنت الحارث المخزومية، وأم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية وسودة بنت زمعة. وأما مارية فليست زوجته، وإنما هي سريته رضي الله عنها. فتلك هن اللواتي توفي عنهن رسول الله صلى اله عليه وسلم، أضف إليهن الثنتين اللتين توفيتا قبله، فيكون المجموع إحدى عشرة امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم. هؤلاء هن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولهن من الحق والمكانة ما ذكر رحمه الله.

أفضل أمهات المؤمنين خديجة وعائشة

أفضل أمهات المؤمنين خديجة وعائشة ثم ذكر التفضيل بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أفضلهن خديجة بنت خويلد -وهي أول زوجاته- وعائشة الصديقة بنت الصديق التي برأها الله في كتابه) ذكر المؤلف رحمه الله في المفاضلة عائشة وخديجة، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في التفضيل بين هاتين الزوجتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأما من بقي من الزوجات فإنهن لم يذكرن، أي: لم يذكر العلماء رحمهم الله التفاضل بينهن، فالخلاف في التفضيل بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو في خديجة وعائشة، وعلم بذلك أن أفضل زوجات النبي صلى اله عليه وسلم هما: خديجة بنت خويلد وعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما. وأما أقوال العلماء: فمنهم من قال: خديجة أفضل، ومنهم من قال: عائشة أفضل، ومنهم من توقف وقال: لا نفضل، ومنهم من قال: إن خديجة أفضل من وجه وعائشة أفضل من وجه، خديجة في صدر الإسلام لما كان لها من المكانة في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وإعانته وتثبيته على الرسالة، وعائشة أفضل في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم لما كان لها من حفظ الشريعة وحسن التبعل للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه لما سئل صلى الله عليه وسلم: (من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، ثم قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) فلها من المنزلة رضي الله عنها ما لم يشاركها فيه أحد، فيكون الفضل مقسوماً بين خديجة رضي الله عنها، وبين عائشة، وكل لها فضل.

حكم من قذف أمهات المؤمنين

حكم من قذف أمهات المؤمنين يقول رحمه الله في حق عائشة: (التي برأها الله في كتابه) أي: برأها من الإفك الذي اتهمت به رضي الله عنها، فهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وهذا لا تختص به عائشة رضي الله عنها بل يشركها فيه جميع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (فمن قذفها) أي: قذف عائشة رضي الله عنها (بما برأها الله منه) أي: بما طهرها الله من الإثم ومن الزنا والفاحشة: (فقد كفر بالله العظيم) ، ولماذا كفر بالله العظيم؟ A لأنه كذب القرآن الذي فيه البراءة واضحة جلية في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] فسماه الله عز وجل إفكاً لكذب وفداحة ما وقعوا فيه من وصف عائشة رضي الله عنها بما وصفوها به من الزنا الذي برأها الله منه! رضي الله عنها.

فضل معاوية رضي الله عنه

فضل معاوية رضي الله عنه يقول رحمه الله: (ومعاية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، وأحد خلفاء المسلمين رضي الله عنهم) جاء ذكر معاوية على وجه الخصوص للرد على الذين سبوه وكفروه ووقعوا فيه رضي الله عنه، فـ معاوية بن أبي سفيان وقع فيه الرافضة والخوارج فكفره الخوارج، وكفره الرافضة وسبوه وشتموه، وهو رضي الله عنه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، له من الحق مثلما لغيره، فهو داخل في كل ما للصحابة من فضائل وما لهم من الحقوق رضي الله عنه.

هل يعد أقارب أمهات المؤمنين أقاربا للمؤمنين

هل يعد أقارب أمهات المؤمنين أقارباً للمؤمنين ووصفه المؤلف رحمه الله بقوله: (خال المؤمنين) لأنه أخو أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الوصف اختلف العلماء رحمهم الله فيه على قولين: هل يوصف إخوان زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم أخوال المؤمنين وأخواتهن بأنهن خالات المؤمنين فتكون -مثلاً- أسماء بنت أبي بكر خالة المؤمنين، ويكون عبد الله بن عمر خال المؤمنين؟ وكذلك اختلفوا في بناتهن هل يوصفن بأنهن أخوات المؤمنين؟ واختلفوا أيضاً في آبائهن -آباء أمهات المؤمنين- هل يوصفون بأنهم أجداد المؤمنين وأمهاتهن جدات المؤمنين؟ الذي عليه جمهور العلماء أنهم لا يوصفون بذلك؛ لأن هذه الفضيلة خاصة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهن، وهي أمومة حرمة واحترام وتقدير وفضل وإجلال، وليست أمومة نسب حتى تنتشر وتتسع، فوصف معاوية بخال المؤمنين هو من هذا الوجه، وقد ذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجوز أن يوصف بهذا الوصف. يقول: (وكاتب وحي الله) أي: أنه كتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو من كتبة الوحي رضي الله عنهم، وأحد خلفاء المسلمين رضي الله عنهم إذ اجتمع عليه المسلمون بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنه عن الخلافة، فاجتمع المسلمون في سنة إحدى وأربعين على معاوية رضي الله عنه، وأصبح بذلك الخليفة للمسلمين الذي ولي من قبله من الخلفاء. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح لمعة الاعتقاد [19]

شرح لمعة الاعتقاد [19] من ضروريات حياة الناس أن يكون لهم إمام، لتستقيم حياتهم وتصلح معيشتهم، حتى قيل: إمام غشوم ولا فتنة تدوم. ولما كانت الإمامة بهذه المنزلة أمر الشرع بطاعة ولاة الأمور ما لم يأمروا بمعصية، فإن أمروا بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

طاعة ولاة أمور المسلمين

طاعة ولاة أمور المسلمين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن السنة: السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين، برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار الخليفة وسمي (أمير المؤمنين) ، وجبت طاعته، وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين] . عاد المؤلف رحمه الله إلى ذكر ما يجب لولاة الأمر من أئمة المسلمين، وقد بينا أن قوله رحمه الله: (من السنة) أي: من الطريقة التي سار عليها أهل السنة والجماعة، وسلكها أئمة هذا الدين من الصحابة فمن بعدهم. قوله: (السمع والطاعة لأئمة المسلمين) السمع معناه: القبول، والطاعة معناها: الامتثال، وليس المراد بالسمع هنا إدراك الأصوات، إنما المراد بالسمع في مثل هذا المقام القبول، والطاعة: التنفيذ والامتثال، ومنه قول القائل في صلاته: سمع الله لمن حمده، أي: أجاب الله من حمده، فالسمع ليس المراد منه في مثل هذه الموارد إدراك الأصوات، بل المراد به ما هو أكثر من ذلك من قبول ما يقول وامتثال ما يأمر. والأئمة جمع إمام، والإمام هو من يؤتم ويقتدى به ويجتمع عليه. وقوله رحمه الله: (لأئمة المسلمين) أي: الذين يأتم بهم أهل الإسلام ويجتمعون عليهم. قال: (وأمراء المؤمنين) أي: من تأمروا على أهل الإيمان، فحقهم أن يسمع لهم وأن يطاع لهم، وأدلة هذا أكثر من أن تحصى، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فأمر الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر الذين لهم ولاية، وهذه الآية لا تختص بمن له الولاية العليا فحسب، بل هي شاملة لمن له الولاية العليا ومن كان دونه من أصحاب الولايات، فإنه يطاع كل ولي فيما له فيه ولاية، هذا هو الواجب، وهذا هو الذي دلت عليه الآية. وأما السنة فقد جاء ذلك في أحاديث كثيرة ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على المرء المسلم السمعُ والطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا طاعة، أو فلا سمع ولا طاعة) وهذا يدل على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر، وقد قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه في بيان ما بايع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والسمع والطاعة، والنصح لكل مسلم) ، وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر على أثرة علينا، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) . كل هذه الأدلة وغيرها كثير في سنة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على السمع والطاعة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوجوب السمع والطاعة عند الاختلاف والتفرق كما في حديث العرباض بن سارية: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) الحديث. ومن سنته صلى الله عليه وسلم: السمع والطاعة، ولو كان المتأمر عبداً حبشياً، أي: ممن لا يرى له العرب حقاً في الولاية، هذا هو المقصود من التمثيل بالعبد الحبشي، وليس ذماً له أو انتقاصاً له، لكن لما كانت العرب تأبى نفوسهم في ذلك الوقت أن يتأمر عليهم مثل هذا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: حتى ولو كان على هذه الصفة.

حكم الطاعة في المعصية

حكم الطاعة في المعصية ولما أخبر صلى الله عليه وسلم باختلاف الأمور بعده كما في صحيح الإمام مسلم لما قالوا له: (أفلا ننابذهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) ، وفي حديث عبادة: (وألا ننازع الأمر أهله قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) . فهذا كله يدل على وجوب السمع والطاعة في المعروف فيما فيه مصلحة العباد والبلاد، أما إذا كان الأمر في معصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية كائناً من كان، لأن الله فرض طاعة ولاة الأمر وجعلها فرعاً عن طاعته، وهذا هو السر في أن الله لم يُعد ذكر الأمر في الطاعة في ذكر طاعة ولاة الأمر؛ لأن طاعتهم ليست طاعة مستقلة بل هي طاعة تابعة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} لم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم، وإنما قال: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فلم يذكر فعل الطاعة في حق ولاة الأمر؛ لأنها تابعة لطاعة الله ورسوله، أما طاعة الله فهي واجبة استقلالاً، وطاعة النبي واجبة استقلالاً كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] . وهذه مسألة تميز بها أهل السنة والجماعة عن غيرهم، وإذا راقبت وتأملت خيرة سلف الأمة من الصحابة فمن بعدهم وجدتهم على هذه السنة الظاهرة المشتركة بينهم رحمهم الله ورضي الله عنهم، لتضافر الأدلة عليها. ولا يعني هذا ألا يأمر الإنسان بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، بل الواجب هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن على ما تقتضيه الشريعة. يقول رحمه الله: (برهم وفاجرهم) أي: تجري الطاعة لمن كان براً ولمن كان فاجراً، سواء كان براً في خاصة نفسه وولايته أو كان فاجراً في خاصة نفسه وولايته، ما لم يبلغ الفجور إلى الكفر، فإذا بلغ فلا طاعة لكافر، ومما حكى القاضي عياض إجماع المسلمين عليه أنه لا طاعة للكافر إذا تولى على المسلمين. قال رحمه الله: (ما لم يأمروا بمعصية الله فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله) ، لا إشكال في هذا، والأدلة على هذا الأمر واضحة وجلية.

المقصود بالولاية

المقصود بالولاية قال رحمه الله: (ومن ولي الخلافة) أي: من تولى الأمر. والخلافة المقصود بها الولاية سواء كانت الخلافة متسعة الرقعة كخلافة الراشدين وخلافة بني أمية وبني العباس في أولها، أو كانت الخلافة ضيقة، كالحال في أواخر الدولة العباسية، فإن حال الناس في آخر الخلافة الإسلامية -خلافة بني العباس- تقسمت بلاد المسلمين وأصبح لكل جهة ولاية وولي، بل إن هذا الأمر كان في عهد الصحابة رضي الله عنهم، فكان معاوية على الشام وكان علي رضي الله عنه على العراق ومصر واليمن والحجاز، فهذا التقسم ليس أمراً حادثاً، ومع هذا يجب طاعة كل من ولي أمر المسلمين في تلك الجهة التي هو فيها.

طرق الولاية

طرق الولاية قال رحمه الله: (ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وجبت طاعته، أو غلبهم بسيف حتى صار خليفة وجبت طاعته) وهذا فيه بيان طريقة الولاية: منها: ما تكون عن اجتماع ورضاً. ومنها: ما يكون عن غلبة وظهور، والواجب في الولايتين من حيث السمع والطاعة واحد؛ لأنه يجب السمع والطاعة لمن اجتمع عليه أهل الإسلام ورضوا به ونصبوه خليفة عليهم أو إماماً لهم، وكذلك يجب طاعة من تغلب وظهر بقوة على المسلمين، جمعاً للكلمة ودفعاً للشر الذي يحصل بالفرقة والاختلاف والمنازعة وإراقة الدماء.

فائدة ولاة الأمر

فائدة ولاة الأمر قال رحمه الله: (وسمي أمير المؤمنين وجبت طاعته، وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين) كل هذا مما يجب لولاة الأمر، وبه تنتظم مصالح الدنيا ومصالح الآخرة، ففي هذا الأصل تنتظم مصالح الناس في دينهم وفي دنياهم فإنه لا استقامة للناس في دنياهم بلا ولاة، ولا يمكن أن يقوم الدين بلا ولاية، وهذا أمر لا إشكال فيه، ولذلك جاءت الشريعة بالتأمير في الاجتماع العارض، فإذا سافر ركب من ثلاثة فأكثر أمروا عليهم أميراً كما جاء ذلك في السنة، فكيف بالاجتماعات الدائمة القائمة؟! فالإمارة والولاية فيها من باب أولى، ومن باب آكد ولا خلاف في هذا، وقد قال الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا وأمثلة وشواهد هذا في حال غياب الولاية وما يحصل من فساد بين الناس موجودة في التاريخ الحديث والتاريخ القديم؛ لأن الناس إذا لم يكن لهم سلطان يردعهم ويصلح شئونهم ويدير أمورهم -ولو كان في سلطته جور وظلم وتعد ومعصية- فسدت أحوالهم ومعيشتهم.

التعامل مع أهل البدع

التعامل مع أهل البدع قال المؤلف رحمه الله: [ومن السنة: هجران أهل البدع ومباينتهم] .

هجر أهل البدع

هجر أهل البدع (من السنة) أي: من طريقة السلف التي كان عليها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أئمة الدين هجران أهل البدع، والهجر: هو الترك والإعراض، والهجر سنة في محلها، وذلك فيمن يستحق الهجر، فقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين تخلفوا عنه في غزوة تبوك، وأمر المسلمين بهجرهم. فالهجر يختلف حكمه باختلاف الباعث عليه وما يحققه، لكن ندرك أن الهجر مصلحة، أي أن الهجر مقصوده تحصيل المصلحة كما هو الشأن في جميع أحكام الشريعة، فإذا كان الهجر يترتب عليه مفسدة فإنه لا يؤمر به وليس من الشرع، إنما يؤمر به ويعمل به إذا كان مصلحة. يقول رحمه الله: (هجران أهل البدع) المقصود بأهل البدع هنا: من كانوا على طريقة مخالفة لطريق السلف ينافحون عنها ويدعون إليها ويعملون بها، وليس المراد بأهل البدع من وقع في مخالفة لطريق أهل السنة والجماعة في أمر من الأمور، إنما المقصود من كان طريقه مختلفاً عن طريق أهل السنة، يدعو إلى غير هدي السلف الصالح، ويعمل به وينافح عنه، وسيمثل المؤلف رحمه الله لأهل البدع الذين يقصدهم ويعنيهم بكلامه بقوله: (كالرافضة والجهمية والخوارج والقدرية والمرجئة والمعتزلة والكرامية والكلابية ونظائرهم) أي: ممن كان على مرتبتهم ودرجتهم، فالمقصود بأهل البدع الذين من السنة هجرهم هم: من كان على طريق مخالف لطريق أهل السنة والجماعة في قوله وعقده، وعمله ودعوته. قال رحمه الله: (هجران أهل البدع ومباينتهم) أي: عدم الاختلاط بهم حتى لا يشتبه حالهم على الناس فيقبلون منهم.

ذم الجدال والخصومة في الدين

ذم الجدال والخصومة في الدين قال المؤلف رحمه الله: [وترك الجدال والخصومات في الدين] : الجدال المقصود به: المماراة والمناقشة التي لا مصلحة فيها ولا فائدة، وليس المراد بالجدال ما كان محققاً للمصالح مبيناً للحق ذابَّاً عن السنة، فإن هذا مأمور به في أهل الكفر الذين هم أشد من أهل البدعة كما قال الله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] فأمر الله بالمجادلة وأمر بصفة هذا الجدال أن يكون بالتي هي أحسن، يعني: بأحسن ما يحصل به بيان الحق وتوضيحه، وإيصاله إلى المقصود بالمجادلة.

قراءة كتب أهل البدع، وسماع كلامهم

قراءة كتب أهل البدع، وسماع كلامهم قال المؤلف رحمه الله: [وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة والإصغاء إلى كلامهم، وكل محدثة في الدين بدعة] . المقصود: الجدال الذي لا نفع فيه والذي يقصد فيه المجادل إظهار قوة عقله، وسرعة بديهته، وعظيم حجته، ولا يقصد منه إظهار الحق وبيانه، فإن هذا لا يقبل، وليس من هدي السلف. قال رحمه الله: (وترك النظر في كتب المبتدعة) لما في ذلك من الشر، فإن القلوب إذا لم تتمكن من الحق يُخشى عليها أن تنصرف وأن تزيغ وأن تضل وأن تفتتن، فكان حقاً على أهل السنة أن يجتنبوا كتب المبتدعة على وجه العموم، لكن إذا دعت حاجة إلى أن يطالع إنسان كلامهم ليرد عليهم أو يبين باطلهم أو يكشف زيف قولهم فهذا لا بأس به. قال: (والإصغاء إلى كلامهم) كذلك الإصغاء هو كمطالعة كتبهم، فإنه لا ينبغي أن يُصغى لكلامهم.

تعريف البدعة

تعريف البدعة قال: (وكل محدثة في الدين بدعة) بعد أن بين هجر المبتدع بين ما هي البدعة، والبدعة هي: كل محدثة في الدين، أي: كل محدثة في طريق التعبد لله عز وجل، فالبدعة هي: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بها صاحبها مضاهاة الشريعة، هذه هي التي عنى المؤلف رحمه الله أهلها بقوله: هجران أهل البدع.

حكم الانتساب إلى غير الإسلام والسنة

حكم الانتساب إلى غير الإسلام والسنة قال المؤلف رحمه الله: [وكل متسم بغير الإسلام والسنة مبتدع] أي: كل من خلع على نفسه اسماً خلاف ما رضي الله لأهل هذه الملة من الأسماء فإنه مبتدع، قال الله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] فالله عز وجل سمى أهل هذه الملة بالمسلمين، وقيل: إن الضمير يعود إلى إبراهيم فيكون هذا من تسمية إبراهيم التي رضيها الله ورضيها رسوله صلى الله عليه وسلم، فكل من تسمى بغير هذا الاسم فهو مبتدع. قال رحمه الله: (وكل متسم بغير الإسلام والسنة مبتدع) أما السنة فالتسمي بها جائز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) فالمستمسك بالسنة مستمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، والانتساب إلى السنة مفخرة وفضيلة؛ لأنه انتساب إلى ما أمر الله عز وجل ورسوله بالانتساب إليه، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) أما ما عدا هذين الوصفين فإنه ينبغي للمؤمن ألا ينتسب إليه، حتى تلك الأوصاف التي يقصد بها شيء من التميز عن غير أهل السنة من الألفاظ الحادثة ينبغي أن يتجنبها الإنسان ويكتفي بما اكتفى به سلف الأمة، فالانتساب الذي هو فضل ومفخرة هو الانتساب إلى كتاب الله عز وجل وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

بيان مذاهب بعض الطوائف المبتدعة

بيان مذاهب بعض الطوائف المبتدعة قال المؤلف رحمه الله: [كالرافضة والجهمية والخوارج والقدرية والمرجئة والمعتزلة والكرامية والكلابية ونظائرهم] . مثل بأسماء من أسماء الطرق المبتدعة التي سلك أهلها طريقاً مخالفاً لأهل السنة والجماعة وانتسبوا لها.

الرافضة

الرافضة قوله: (كالرافضة) : هم الإثنا عشرية، الذين رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنهم سمو (رافضة) لأنهم سألوا زيداً عن أبي بكر وعمر فترضى عنهما وترحم عليهما فرفضوه، فسموا من ذلك الوقت (رافضة) . وهم لا يرضون بهذا الاسم وإنما يسمون أنفسهم بـ (الشيعة) لكن هذا الاسم قد علق بهم، وعرفوا به فلا مناص لهم من التخلي عنه إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه سلف الأمة الأبرار من أهل البيت وغيرهم، فإن الفضل والسبق لم يختص في أهل البيت، بل غير أهل البيت كـ أبي بكر رضي الله عنه أفضل من كثير ممن هم من أهل البيت من حيث العموم، وإن كان أهل البيت لهم من الخاصية والسبق كونهم من بيت النبوة، لكنه ليس فضلاً مطلقاً يسقط كل فضل ويُغيب كل منقبة.

الجهمية

الجهمية قال رحمه الله: (والجهمية) : وهم الذين ينتسبون إلى الجهم بن صفوان، وهم أهل بدعة وضلالة، وهم درجات: منهم الغلاة، ومنهم دون ذلك، ويطلق هذا الوصف على المعتزلة؛ لأن المعتزلة في كثير من أقوالهم جهمية.

الخوارج

الخوارج قال: (والخوارج) : الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكفروه وكفروا من معه، وكفروا من يقابله، فقد كفروا علياً وعثمان وكفروا معاوية وسائر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل الإسلام في ذلك الزمان.

القدرية

القدرية وأما (القدرية) فهم الذين قالوا بالقدر، وقالوا: إن الله جل وعلا لم يخلق أفعال العباد، بل العباد هم الذين يخلقون أفعال أنفسهم.

المرجئة

المرجئة (والمرجئة) هم الذين أرجئوا العمل عن الإيمان فقالوا: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.

المعتزلة

المعتزلة قال: (والمعتزلة) والمراد بالمعتزلة: هم الذين عطلوا الصفات فلم يثبتوا صفة لله عز وجل، وهم أتباع واصل بن عطاء.

الكرامية

الكرامية وأما الكرامية: فهم أتباع عبد الله بن كرام، وهم من الممثلة الذين غلوا في إثبات الصفات حتى قالوا: يد الله كأيدينا.

الكلابية

الكلابية والكلاّبية: هم أتباع عبد الله بن سعيد بن كلّاب ممن حاول أن يسلك طريقاً يرد به على المعتزلة فكان على طريق مخالف لطريق السلف وطريق المعتزلة، فلم يصب قول السلف فيما ذهب إليه، ومنه أخذ الأشعري كثيراً من أقواله. وهذه الفرق قد ألفت فيها مؤلفات، وتكلم عليها العلماء رحمهم الله كلاماً وافياً واسعاً، والمقصود إعطاء لمحة عن أصول هذه الفرق، وإلا فالذي يطلب الزيادة يجدها في مظانها. وقال المؤلف رحمه الله: [ونظائرهم، فهذه فرق الضلال وطوائف البدع، أعاذنا الله منها] : هذه المذكورات هي من فرق الضلال التي خالفت هدي سلف الأمة، وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، ونسأل الله أن يعيذنا وإياكم من البدع ما ظهر منها وما بطن.

الانتساب إلى إمام من أئمة أهل السنة في فروع الدين

الانتساب إلى إمام من أئمة أهل السنة في فروع الدين قال: [وأما النسبة إلى إمام في فروع الدين كالطوائف الأربع فليس بمذموم] : الانتساب إلى إمام في فروع الدين، أي: في مسائل الأحكام العملية، فالمقصود بفروع الدين الأحكام العملية التي تكون في الصلاة والحج والزكاة والمعاملات، فالانتساب إلى إمام من الأئمة في هذا (كالطوائف الأربع فليس بمذموم) ؛ أي: كالذي ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة أو ينتسب إلى أحمد أو ينتسب إلى مالك أو ينتسب إلى الشافعي فإنه لا بأس بهذه النسبة، وهذه النسبة لا تخرجه عن أهل السنة والجماعة؛ لأن هؤلاء الأئمة هم أئمة أهل السنة والجماعة، فتقليدهم تقليد لإمام من الأئمة الذين أخذوا بقول من أقوال الصحابة أو بقول يسعه ويقبله مذهب أهل السنة والجماعة. قوله رحمه الله: (كالطوائف الأربع) المراد بالطوائف الأربع المذاهب الأربعة: مذهب أبي حنيفة ومذهب مالك ومذهب الشافعي ومذهب أحمد، وهل هذا محصور في هؤلاء؟ A لا، إنما هو على وجه التمثيل، فمن اقتدى في قول بإمام من الأئمة من الصحابة فمن دونهم فإنه لا بأس به، وإن انتسب إليه فلا بأس به، وإنما ذكر الطوائف الأربع لأنها الأشهر في الانتساب، وهي المذاهب التي بقيت واشتهرت وظهرت وأصبح لها أتباع ومؤلفات.

حكم الاختلاف في الفروع

حكم الاختلاف في الفروع قال المؤلف رحمه الله: [فإن الاختلاف في الفروع رحمة] : وقد جاء ما يشهد لهذا في كلام المؤلف رحمه الله فإنه قال: (واختلافهم رحمة) والاختلاف في الفروع العملية رحمة لما فيه من السعة، قال عمر بن عبد العزيز: (لم يسؤني أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اختلفوا، فإن في اختلافهم رحمة) وقال غير واحد من السلف: (في الخلاف توسعة) . والمقصود بالخلاف: الخلاف في مسائل العمل لما فيه من التوسعة ورفع الحرج عن الناس. قال المؤلف رحمه الله: [والمختلفون فيه محمودون] يعني: هذا الاختلاف لا يلحق المختلفين فيه ذنب، بخلاف الاختلاف الذي يكون في أصول الدين فإن أصحابه مذمومون وهم الذين قال الله جل وعلا فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام:159] ، فإن هؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً هم الذين فرقوه في أصل الاعتقاد، فتشعبت بهم الطرق وكانوا شيعاً قال الله عز وجل: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] أي: ليس أتباعك، وقد برأ الله عز وجل رسوله منهم، فكل من فرق دينه ولم يعتصم بما جاء به الكتاب وما جاءت به السنة فقد دخل في الاختلاف المذموم، إذاً: عندنا اختلاف مذموم، واختلاف سائغ مقبول. أما الاختلاف المذموم فهو الاختلاف الذي يكون في أصل الدين الذي يخالف به الإنسان طريق السلف الصالح. وأما الاختلاف السائغ المقبول فهو: الاختلاف في مسائل الأحكام الفرعية. وقوله رحمه الله: (والمختلفون فيه محمودون) ، أي أنهم لا يذمون؛ لأنهم مجتهدون فيما وقع بينهم من اختلاف، فلا يخرجون عن الأجر والأجرين، فمن أصاب منهم فله أجران ومن أخطأ منهم فله أجر. قال المؤلف رحمه الله: [مثابون في اجتهادهم] أي: سواء أصابوا أم أخطئوا، ثم قال: [واختلافهم رحمة واسعة] وهذا جاء في كلام كثير من العلماء، وأما حديث: (اختلاف أمتي رحمة) فليس له إسناد يعتمد عليه، وقد تناقله بعض العلماء في كلامهم واستشهدوا به، لكن ليس له ما يستند إليه، أي: من حيث السند، أما الذي جاء بسند ضعيف فهو ما رواه البيهقي من حديث ابن عباس بلفظ: (واختلاف أصحابي رحمة) ، لكن الحديث ضعيف فيه تطاعن، وأيضاً في سنده راو متروك. وقوله رحمه الله: (واختلافهم رحمة واسعة) هل هذا باعتبار الاختلاف ذاته أو باعتبار ما حصل به من التوسعة على الناس؟ A باعتبار ما حصل به من التوسعة على الناس، وهل يعني هذا أن الاتفاق عذاب؟ الجواب: لا، فكون الاختلاف رحمة لا يعني أن الاتفاق عذاب، بل الاتفاق مطلوب ولذلك قال: [واتفاقهم حجة قاطعة] وإنما كان الاختلاف رحمة لما فيه من التوسيع على المجتهدين وعلى العاملين، أما على المجتهدين فالتوسعة عليهم أنهم إذا أخطئوا لا ينالهم ذنب باجتهادهم أو بخطئهم، بل ينالون الأجر لأجل اجتهادهم وإن كانوا لم يصيبوا الصواب. وأما الناس الذين يقلدون ويسألون العلماء، فهؤلاء أيضاً يحصل عندهم سعة إذا أخذوا بقول أحد العلماء فيما ذهب إليه، ولذلك قال يحيى بن سعيد: (لم يكن الخلاف سبباً للهلاك فيمن كان قبلنا) ، يعني: من الصحابة، فإنهم كانوا يختلفون فيحلل أحدهم أمراً ويحرمه الآخر، فلا يرى من حلل أن المحرم قد هلك لتحريمه ولا يرى من حرم أن المحلل قد هلك بتحليله، فالخلاف فيه رحمة وتوسعة للناس، ولكن لا يعني ذلك أن اتفاقهم عذاب، فكون الشيء رحمة لا يلزم منه أن يكون المقابل عذاباً، ودليل ذلك أن الله عز وجل الليل رحمة لنا لنسكن فيه، فهل يعني هذا: أن النهار عذاب؟ الجواب: لا، فمقابل الليل النهار ومع ذلك لم يكن عذاباً، فالمقصود بالرحمة هو ما يحصل به من الرفق بهم والإحسان إليهم، ولا يعني هذا أن مضاده ومقابله يكون عذاباً. قال رحمه الله: (واتفاقهم حجة قاطعة) يشير بذلك إلى الإجماع، فإن الإجماع حجة بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبإجماع السلف، لكن الاتفاق الذي يكون حجة قاطعة هو ما اتفق عليه علماء الإسلام، والإجماع المعتبر المنضبط هو ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خاتمة الكتاب

خاتمة الكتاب ثم قال المؤلف رحمه الله في آخر هذه العقيدة: [نسأل الله أن يعصمنا من البدع والفتنة، ويحيينا على الإسلام والسنة، ويجعلنا ممن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياة، ويحشرنا في زمرته بعد الممات برحمته وفضله، آمين. وهذا آخر المعتقد، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً] . ختم المؤلف رحمه الله هذه الرسالة بالدعاء بسؤال الله عز وجل العصمة من شرين: البدعة والفتنة، والبدعة هي من الفتنة، لكنه ذكرها لما لها من الخطورة، والفتنة تكون بالبدعة وتكون بالمعصية وتكون بغير ذلك. ثم قال: (ويحيينا على الإسلام والسنة) ، والحياة على الإسلام رحمة وفضل، ويكمل ذلك باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم سأل الله عز وجل مسألتين: المسألة الأولى في الدنيا وهي مقدمة ما يكون في الآخرة، فسأله أن يكون في الدنيا ممن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياة في ظاهر الأمر وباطنه، في عقده وقوله وعمله، ونتيجة ذلك ما سأل الله: (ويحشرنا في زمرته بعد الممات) أي: في جماعته وفي حزبه بعد الممات، فإن الحشر في حزبه من أسباب الفلاح والنجاة. قال: (برحمته وفضله) يعني: لا بجهدنا وعملنا، إنما ذلك محض فضل الله ورحمته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) . قوله: (آمين) . أي: اللهم استجب. ثم قال: (وهذا آخر المعتقد، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسلماً) . ختم هذه الرسالة بالحمد لله عز وجل على التوفيق إلى هذا العقد وإلى كتابة هذا العقد لينتفع به من ينتفع، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما تعلمناه نافعاً لنا يوم العرض عليه. وبهذا نكون قد انتهينا من هذه العقيدة المباركة (متن لمعة الاعتقاد) تأليف الإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1