شرح لامية العجم للدميري

الدَّمِيري

ترجمة الدميري

ترجمة الدميري (¬1): هو محمد بن موسى بن عيسى بن على الكمال أبو البقاء الدَّمِيريّ الأصل، القاهري، الشافعي، والدميري ـ بالفتح والكسر ـ نسبة إلى دَمِيْرَة قرية في الوجه البحري بمصر وهي تابعة لمركز طلخا في محافظة الدقهلية (حاليا). والدليل على نسبته لهذه القرية هو وجود مسجد في هذه القرية باسمه، والمسجد مازال موجوداً إلى الآن، ويقام احتفال سنوي في القرية لهذا العالم الجليل. كان اسمه أولاً كمالاً بغير إضافة، وكان يكتبه كذلك بخطه في كتبه، ثم تسمى محمداً وصار يكشط الأول، وكأنه لتضمنه نوعاً من التزكية مع هجر اسمه الحقيقي. بدء حياته خياطا حتى أجتذبه العِلم، فالتحق بالأزهر، وتعلم الأدب والفلسفة والحديث والفقه ودرس على يد مجموعة من كبار علماء الأزهر، فتفقه على: ـ الشيخ بهاء الدين أحمد السبكي، ولازمه كثيراً، وانتفع به. ـ والشيخ جمال الدين ألأسنوي. ـ والقاضي كمال الدين أبي الفضل النويري المالكي، الذي أجازه بالفتيا والتدريس. ـ وبرهان الدين القيراطي، الذي أخذ عنه الأدب والعربية. ووصف الدميرى ابنَ الملقن بشيخنا، وذكر السخاوي أنه أخذ عن البلقيني، وأخذ عن البهاء بن عقيل، وسمع جامع الترمذي على المظفر العطار المصري، وعلى علي بن أحمد العرضي الدمشقي مسند أحمد ابن حنبل بفوت يسير، وسمع بالقاهرة من محمد بن علي الحراوي، وغيره؛ وبمكة على الجمال بن عبد المعطي، والكمال محمد بن عمر بن حبيب في آخرين؛ كالعفيف المطري بالمدينة، ومما سمعه على الأول الترمذي في سنة نيف وخمسين، ووصفه الزيلعي في الطبقة بالفاضل كمال الدين كمال، وعلى ثانيهما فقط جل مسند أحمد أو جميعه وجزء الأنصاري. برع في التفسير، والحديث، والفقه، وأصوله، والعربية، والأدب، وغيرها وأذن له بالإفتاء والتدريس، وتصدى للإقراء فانتفع به جماعة، وأصبح من فقهاء الشافعية، وقال الشعر، ودرَّس في عدة أماكن، فقد حدث بالقاهرة، وسمع منه الفاسي فيها، وأفتى ودرس بأماكن بالقاهرة منها جامع الأزهر، وكانت له فيه حلقة يشغل فيها الطلبة يوم السبت غالباً، ومنها القبة البيبرسية، كان يدرس فيها الحديث، وكان يذكر ¬

(¬1) انظر ترجمته في: الضوء اللامع 5/ 16/ المكتبة الشاملة، وطبقات الشافعية 1/ 205/ المكتبة الشاملة، شذرات الذهب 7/ 79 ـ 80

الناس بمدرسة ابن البقري داخل باب النصر في يوم الجمعة غالباً، ويفيد في مجلسه هذا أشياء حسنة من فنون العلم، وبجامع الظاهر في الحسينية بعد عصر الجمعة غالباً، ودرس أيضاً بمكة وأفتى وجاور فيها مدة سنين مفرقة، وسمع منه الصلاح الأقفهسي في جوف الكعبة، وتأهل فيها بأم أحمد فاطمة ابنة يحيى بن عياد الصنهاجي المكية، وولدت له أم حبيبة، وأم سلمة، وعبد الرحمن، وأول قدماته إليها على ما يروي السخاوي في موسم سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وجاور بها حتى حج في التي بعدها، ثم جاور بها أيضاً في سنة ثمان وستين، قدمها مع الرجبية، فدام حتى حج ثم قدمها في سنة اثنتين وسبعين، فأقام بها حتى حج في التي بعدها، ثم قدم مكة في موسم سنة خمس وسبعين؛ فأقام بها حتى حج في التي تليها، ثم قدمها في موسم سنة ثمانين؛ وأقام بها حتى حج في التي بعدها، ثم قدمها في سنة تسع وتسعين؛ وأقام حتى حج في التي بعدها، وانفصل عنها فأقام بالقاهرة. قال المقريزي في عقوده: صحبته سنين، وحضرت مجلس وعظه مراراً؛ لإعجابي به، وأنشدني وأفادني، وكنت أحبه ويحبني في الله؛ لسمته وحسن هديه، وجميل طريقته ومداومته على العبادة، لقيني مرة فقال لي: رأيت في المنام أني أقول لشخص لقد بعد عهدي بالبيت العتيق، وكثر شوقي إليه، فقال، قل: لا إله إلا الله الفتاح العليم الرقيب المنان، فصار يكثر ذلك فحج في تلك السنة رحمه الله وإيانا ونفعنا به. قال الحافظ شهاب الدين ابن حجر في المعجم: وكان له حظ من العبادة تلاوة وصياماً ومجاورة في الحرمين مكة والمدينة. واشتهرت عنه كرامات، وأخبار بأمور مغيبات يسندها إلى المنامات تارة، وإلى بعض الشيوخ أخرى، وغالب الناس يعتقد أنه يقصد بذلك الستر. ويقال أنه كان في صباه أكولاً نهماً ثم صار بحيث يطيق سرد الصيام، وله أذكار يواظب عليها وعنده خشوع وخشية وبكاء عند ذكر الله سبحانه، وقد تزوج بابنتيه الجمال محمد، والجلال عبد الواحد بن إبراهيم بن أحمد بن أبي بكر المرشدي المكي الحنفي، واستولداهما، الأول أبا الفضائل محمداً وعبد الرحمن، والثاني عبد الغني وغيره. ومما ينسب إليه: بمكارم الأخلاق كن متخلقاً ... ليفوح ند شذائك العطر الندي وصدق صديقك إن صدقت صداقة ... وادفع عدوك بالتي فإذا الذي (¬1) ¬

(¬1) يعني ما جاء في الآية 34 من سورة فصلت: [وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]

ألف كمال الدين الدميرى العديد من الكتب في الفقه والحديث والأدب، واختصر وشرح الكثير من الكتب، فشرح المنهاج في أربعة مجلدات، وسماه النجم الوهاج، ضمنه فوائد كثيرة خارجة عن الفقه، وعظم الانتفاع به، وله الديباجة في شرح سنن ابن ماجة في خمس مجلدات، مات قبل تحريره وتبيضه، ونظم في الفقه أرجوزة طويلة، فيها فروع غريبة وفوائد حسنة، وله تذكرة مفيدة، وله خطب مدوّنة جمعية ووعظية، واختصر شرح الصفدي للأمية العجم المطبوع باسم الغيث المسجم في شرح لامية العجم، وهو الكتاب الذي بين أيدينا، على أن أهم مؤلفاته وأشهرها كتاب حياة الحيوان الكبرى، ويعتبر هذا الكتاب مزيجا من العلم والأدب والفلسفة والتاريخ والحديث ـ وقد تمت ترجمته إلى العديد من اللغات وأقتبس منه العديد من الغربيين. رتب الدميري في كتابه هذا الذى يعد أول مرجع شامل في علم الحيوان باللغة العربية الكائنات التى كتب عنها ترتيبا أبجديا، على طريقة المعجم، وتناول بالبحث 1069 كائنا، موضحا الصفات المميزة لكل كائن منها مما كان معروفا في عهده، وموضحا أيضا أسماء تللك الكائنات خلال مراحل نموها، وكذلك أسماءها في مختلف البلدان، وأحكام الشريعة لتلك الحيوانات ومنتجاتها، وبعض الأحاديث النبوية التى ذكرت فيها، وقد جمع مادته من 560 كتاب، و199 ديوان شعر، وأتخذ في مشاهداته لصفات الحيوانات الأسلوب العلمى القائم على الرصد والمشاهدة. ومات بعد حياة علمية حافلة بالقاهرة، في ثالث جمادى الأولى سنة 808هـ / 1405م، وصلي عليه ثم دفن بمقابر الصوفية سعيد السعداء.

[متن] لامية العجم

[متن] لامية العجم أصالةُ الرأي صانتْنِي عن الخَطَلِ ... وحِليةُ الفضلِ زانتني لدَى العَطَلِ مجدي أخيراً ومجدِي أوّلاً شَرَعٌ ... والشمسُ رأْدَ الضُحَى كالشمسِ في الطَفَلِ فيمَ الإقامُة بالزوراءِ لا سَكَني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جَملي نَاءٍ عن الأهلِ صِفْرُ الكفِّ منفردٌ ... كالسيفِ عُرِّيَ متناهُ من الخَللِ فلا صديقَ إليه مشتكَى حزَنِي ... ولا أنيسَ إليه منتَهى جذلي طالَ اغترابيَ حتى حنَّ راحلتي ... ورحُلها وقرَى العَسَّالةِ الذُّبلِ وضَجَّ من لَغَبٍ نضوي وعجَّ لما ... يلقَى رِكابي ولجَّ الركبُ في عَذَلي أُريدُ بسطةَ كَفٍ أستعينُ بها ... على قضاءِ حُقوقٍ للعُلَى قِبَلي والدهرُ يعكِسُ آمالِي ويُقْنعُني ... من الغنيمةِ بعد الكَدِّ بالقَفَلِ وذِي شِطاطٍ كصدرِ الرُّمْحِ معتقلٍ ... لمثلهِ غيرَ هيَّابٍ ولا وَكِلِ حُلْوِ الفُكاهِةِ مُرُّ الجِدِّ قد مُزِجتْ ... بقسوةِ البأسِ فيه رِقَّةُ الغَزَلِ طردتُ سرحَ الكرى عن وِرْدِ مُقْلتِه ... والليلُ أغرَى سِوامَ النومِ بالمُقَلِ والركبُ مِيلٌ على الأكوارِ من طَرِبٍ ... صاحٍ وآخرَ من خمر الهوى ثَمِلِ فقلتُ أدعوكَ للجُلَّى لتنصُرَنِي ... وأنت تخذِلُني في الحادثِ الجَلَلِ تنام عيني وعينُ النجمِ ساهرةٌ ... وتستحيلُ وصِبغُ الليلِ لم يَحُلِ فهل تُعِيُن على غَيٍّ هممتُ بهِ ... والغيُّ يزجُرُ أحياناً عن الفَشَلِ اني أُريدُ طروقَ الحَيِّ من إضَمٍ ... وقد رَماهُ رُماةٌ من بني ثُعَلِ يحمونَ بالبِيض والسُّمْرِ اللدانِ بهمْ ... سودَ الغدائرِ حُمْرَ الحَلْي والحُلَلِ فسِرْ بنا في ذِمامِ الليلِ مُهتدياً ... بنفحةِ الطِيب تَهدِينَا إِلى الحِلَلِ فالحبُّ حيثُ العِدَى والأُسدُ رابضَةٌ ... [حَولَ الكِناسِ لها غابٌ مِنَ الأَسَلِ] نَؤمُّ ناشِئةً بالجزع قد سُقيَتْ ... نِصالُها بمياه الغَنْجِ والكَحَلِ قد زادَ طيبَ أحاديثِ الكرامِ بها ... ما بالكرائمِ من جُبنٍ ومن بُخُلِ تبيتُ نارُ الهَوى منهنَّ في كَبِدٍ ... حرَّى ونار القِرى منهم على القُلَلِ يقتُلنَ أنضاءَ حبٍّ لا حَراكَ بها ... وينحرونَ كرامَ الخيلِ والإِبِلِ يُشفَى لديغُ الغوانِي في بُيوتهِمُ ... بنهلةٍ من لذيذِ الخَمْر ِ والعَسَلِ لعلَّ إِلمامةً بالجِزعِ ثانيةً ... يدِبُّ فيها نسيمُ البُرْءِ في عللِ لا أكرهُ الطعنةَ النجلاءَ قد شُفِعَتْ ... برشقةٍ من نِبالِ الأعيُنِ النُّجُلِ ولا أهابُ صِفاح البِيض تُسعِدُني ... باللمحِ من صفحاتِ البِيضِ في الكِلَلِ

ولا أُخِلُّ بغِزلان أغازِلُها ... ولو دهتني أسودُ الغِيل بالغيَلِ حُبُّ السلامةِ يُثْني همَّ صاحِبه ... عن المعالي ويُغرِي المرءَ بالكَسلِ فإن جَنَحْتَ إليه فاتَّخِذْ نَفَقاً ... في الأرضِ أو سلَّماً في الجوِّ فاعتزلِ ودَعْ غمارَ العُلى للمقديمن على ... ركوبِها واقتنِعْ منهن بالبَلَلِ رضَى الذليلِ بخفضِ العيشِ يخفضُه ... والعِزُّ عندَ رسيمِ الأينُقِ الذُلُلِ فادرأْ بها في نحورِ البِيد جافلةً ... معارضاتٍ مثانى اللُّجمِ بالجُدَلِ إن العُلَى حدَّثتِني وهي صادقةٌ ... في ما تُحدِّثُ أنَّ العزَّ في النُقَلِ لو أنَّ في شرفِ المأوى بلوغَ مُنَىً ... لم تبرحِ الشمسُ يوماً دارةَ الحَمَلِ أهبتُ بالحظِ لو ناديتُ مستمِعاً ... والحظُّ عنِّيَ بالجُهَّالِ في شُغُلِ لعلَّهُ إنْ بَدا فضلي ونقصُهُمُ ... لعينهِ نامَ عنهمْ أو تنبَّهَ لي أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها ... ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ لم أرتضِ العيشَ والأيامُ مقبلةٌ ... فكيف أرضَى وقد ولَّتْ على عَجَلِ غالى بنفسيَ عِرفاني بقيمتِها ... فصُنْتُها عن رخيصِ القَدْرِ مبتَذَلِ وعادةُ النصلِ أن يُزْهَى بجوهرِه ... وليس يعملُ إلّا في يدَيْ بَطَلِ ما كنتُ أُوثِرُ أن يمتدَّ بي زمني ... حتى أرى دولةَ الأوغادِ والسّفَلِ تقدَّمتني أناسٌ كان شَوطُهُمُ ... وراءَ خطويَ إذ أمشي على مَهَلِ هذا جَزاءُ امرئٍ أقرانُه درَجُوا ... من قَبْلهِ فتمنَّى فُسحةَ الأجلِ وإنْ عَلانِيَ مَنْ دُونِي فلا عَجَبٌ ... لي أُسوةٌ بانحطاطِ الشمس عن زُحَلِ فاصبرْ لها غيرَ محتالٍ ولا ضَجِرٍ ... في حادثِ الدهرِ ما يُغني عن الحِيَلِ أعدى عدوِّكَ أدنى من وَثِقْتَ به ... فحاذرِ الناسَ واصحبهمْ على دَخَلِ وإنّما رجلُ الدُّنيا وواحِدُها ... من لا يعوِّلُ في الدُّنيا على رَجُلِ وحسنُ ظَنِّكَ بالأيام مَعْجَزَةٌ ... فظُنَّ شَرّاً وكُنْ منها على وَجَلِ غاضَ الوفاءُ وفاضَ الغدرُ وانفرجتْ ... مسافةُ الخُلْفِ بين القولِ والعَمَلِ وشانَ صدقَك عند الناس كِذبُهمُ ... وهل يُطابَقُ معوَجٌّ بمعتَدِلِ إن كان ينجعُ شيءٌ في ثباتِهم ... على العُهودِ فسبَقُ السيفِ للعَذَلِ يا وارداً سؤْرَ عيشٍ كلُّه كَدَرٌ ... أنفقتَ عُمرَكَ في أيامِكَ الأُوَلِ فيمَ اعتراضُكَ لُجَّ البحرِ تركَبُهُ ... وأنتَ تكفيك منه مصّةُ الوَشَلِ مُلْكُ القناعةِ لا يُخْشَى عليه ولا ... يُحتاجُ فيه إِلى الأنصار والخَوَلِ ترجو البَقاءَ بدارِ لا ثَباتَ لها ... فهل سَمِعْتَ بظلٍّ غيرِ منتقلِ

ويا خبيراً على الأسرار مُطّلِعاً ... اصْمُتْ ففي الصَّمْتِ مَنْجاةٌ من الزَّلَلِ قد رشَّحوك لأمرٍ إنْ فطِنتَ لهُ ... فاربأْ بنفسكَ أن ترعى مع الهَمَلِ

[المقدمة]

[المقدمة] / بسم الله الرحمن الرحيم ... [2 أ] وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله الحمد لله الذي شرح صدر مَن تأدَّب، ورفع قدر مَن تأهَّل للعلم وتأهَّب، وجمَّل مَن تدرَّع لباس الفضل وتدرَّب، وكمَّل مَن ترقَّى إلى غاية ما ترقَّب. أحمده على نعمه الوافرة، وأشكره على مِننه المتكاثرة، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الخلق المخصوص بجوامع الكَلِم، وأفصح ناطق صرف عنان لفظه، وأبلغ صادق أرهف سنان وعظه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين تمسَّكوا بآدابه، وسبقوا إلى مدى لم يطمع أحد من بعدهم في غاية سكابه، صلاة تطول لهم بها القصور، وتحيط بهم بركتها إحاطة الهالات (¬1) بالبدور , وبعد ... فإنّ القصيدة الموسومة بلامية العجم، رحم الله ناظم عقدها، وراقم بردها، تعاطى الناس مدام أكوابه، وتجاذبوا هُدَّاب أهدابه، أهانت الدرّ حتى ما ثمن، وأرخصت قيمة الأمثال والخطباء، كأنّ ناظمها خاض في البحر فأتى بدرّ منضودة، وارتقى إلى السماء فجاء بالدراري من الأفق معقودة. شعر (¬2) (من البسيط) فما لها في الورى مثل يناظرها وكم لها سار بين الناس من مثل أقمارها في تمام النظم قد طلعت تسير في أوج معناها ولم تفُل وزهرها لم تزل تذري عصارته لأن منبته في روضها الخَضِل /يرتاح سامعها حتى يهزّ لها ... من التعجب عطف الشارب الثمل [2 ب] فلا تَعِرْ غيرها سمعا ولا بصرا ... في طلعة الشمس ما يُغنيك عن زُحل وقد شرحها أوحد زمانه، وفريد أوانه، الشيخ صلاح الدين الصفدي، سقى الله ثراه، وجعل الجنة مأواه شرحا تضرب أباط الإبل فيما دونه، وتقف فحول الرجال عنده ولا يعدونه، والتزم أن يذكر فيه ما سمع فوعى، وما جمع فأوعى، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة من فوائده وفرائده إلاّ أظهرها، ولا نكتة بديعة من لطائف معناه إلاّ وفي ذلك الكتاب سطرها، ¬

(¬1) الهالات: جمع هالة، والهالةُ: دارة القمر؛ قال ابن سيده: وإِنما قضينا على عينها أَنها ياء لأَن فيه معنى الهَيُول الذي هو ضوء الشمس، فإِن قلت: إِن الهَيُول رومية والهَالة عربية كانت الواو أَولى به لأَنّ انقلاب الأَلف عن الواو وهي عين أَكثر من انقلابها عن الياء كما ذهب إِليه سيبويه، والجمع هالاتٌ. لسان العرب (هيل). (¬2) يبدو أنّ هذا الشعر للصفدي ـ شارح لامية العجم.

[ترجمة الطغرائي]

ولله درّه، فقد أودعه فوائد جمة، ومسائل مهمة، وكنت حين سمعت بهذا الكتاب، أطلبه من أُولي الألباب، وأحثّ في الوصول إليه من العزم الخيل والركاب، إلى أنْ يسّر الله تعالى الوقوف عليه في هذا العام، فوجدته كبحر أجاج، متلاطم الأمواج، ريحه عاصف، ووبله واكف، وجواهره منضودة، وفرائده معقودة، لم يُنسج في فنه على منواله، ولا سمحت قريحة بمثاله، وقد جمع من كل فن عرنيده (¬1)، ومن كل عالم تالده وطريده، فكان حقه أن يقال فيه (¬2): (من الخفيف) هكذا هكذا وإِلا فلا لا ... طُرُقُ الجدِّ غَيْرُ طُرْقِ المِزاحِ غير أنه ينتقل فيه من علم إلى علم، ومن نكتة إلى نكتة، ومن غريبة إلى غريبة، وكأنه تمسك بقول القائل (¬3): (من البسيط) لا يُصلِحَ النَفسَ إِذْ كانَت مُدبرةً ... إِلّا التَنَقُّلُ مِن حالٍ إِلى حالِ فهو غريب في بابه، عزيز عند طلابه، ومع ذلك اعتذر بخشية الإطالة، واجتنبها خوفا من عدم الإقالة، وذكر أنه حين علّقه كان في هموم / علم الله ترادف نعوتها، وانكشاف غمائم [3 أ] غمها وعيوبها، هذا والزمان قصير، والعلم جمع غزير، فاستخرت الله تعالى ـ وله الخيرة ـ في تلخيصه وتهذيبه، سالكا فيه طريقته في ترتيبه؛ ليكون ذلك سببا لتحصيل مقصوده، وكالرمز على حلّ عقوده؛ فكتبت هذه الأوراق، مستعينا بالمهيمن الخلاق أن يجيرني وأحبائي من عوارض الأيام، وأن يجعلني من العلماء الأعلام، وأن لا يجعل سعينا في طلب العلم وبالا، وأن يحل علينا منة ورحمة وإفضالا. [ترجمة الطغرائي] فصل فيما يتعلق بترجمة الطغرائي ومولده ووفاته وذكر شيء من أشعاره مختصرا: الطغرائي رحمه الله هو العميد مؤيد الدين فخر الكتاب ابن إسماعيل الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد الأصبهاني المنشئ المعروف بالطغرائي، بضم الطاء المهملة، وسكون الغين المعجمة، وفتح الراء، وهذه نسبة إلى من يكتب الطغراء، وهي الطرة التي تكتب في أعلى الكتب، فوق البسملة بالقلم الغليظ، تتضمن نعوت الملك، وألقابه، وهي لفظة أعجمية. قال ابن خلكان (¬4): كان غزير الفضل، لطيف الطبع، فاق أهل عصره بصنعة النظم والنثر، وذكره السمعاني، وأثنى عليه، وذكر شيئا من شعره، وذكر أنه قتل في سنة خمس عشرة وخمسمائة، والطغرائي المذكور له ديوان شعر جيد، ومن محاسن شعره قصيدته ¬

(¬1) العرندد: الصلب، اللسان (عرد) (¬2) البيت لابن قلاقس. ديوانه / الموسوعة الشعرية. وسنرمز لها بالحرف (م) (¬3) لأبي العتاهية، ديوانه، ص، 359، وفيه: لن يصلح. (¬4) وفيات الأعيان 2/ 185 ـ 190.

المعروفة بلامية العجم، وكان عملها ببغداد سنة خمس وخمسمائة، يصف فيها حاله، ويشكو زمنه، وذكره أبو المعالي الحظيري في كتابه زينة الدهر، وذكر له مقاطيع، وذكره العماد الكاتب في كتابه نصرة الفترة وعصرة القطرة، وهو تاريخ الدولة / السلجوقية وأنه كان [3 ب] وزير السلطان مسعود بن محمد السلجوقي بالموصل، وذكر العماد الكاتب في الخريدة، قال: كان متولي ديوان الطغراء، ومالك قلم الإنشاء، وتولى الاستبقاء، وتوشح إلى الوزارة الوزارة، ولم يكن في الدولتين السلجوقية والإمامية مَن يضاهيه في الترسل والإنشاء سوى أمير الملك منشئ نظام الملك، قيل: لمّا عزم أخو استاذ الطغرائي على قتله، أمر به أن يُشد إلى شجرة، وأن يقف إلى تجاهه شاب تركي؛ ليرميه بالنبل، وكان الطغرائي يهوى ذلك الشاب، ففعل ذلك، وأوقف إنسانا خلف الشجرة يسمع ما يقول من غير أن يشعر به الطغرائي، وأن يسمع ما يقول، وقال لأرباب السهام: لا ترموه إلاّ إنْ أشرت إليكم؛ فوقفوا والسهام في أيديهم مفوقة؛ ليرموه، فأنشد الطغرائي (¬1) في تلك الحالة: (من الكامل) ولقد أقولُ لمن يفوق سهمَهُ ... نحوي وأطرافُ المَنِيَّةِ شُرَّعُ ... والموتُ في لحظاتِ آخرِ سهمه ... دوني وقلبي دونَهُ يتقطَّعُ باللهِ فتِّشْ عن فؤاديَ هَلْ يُرى ... فيه لغيْرِ هَوى الأَحِبَّةِ مَوْضِعُ (¬2) أهوِنْ بهِ لو لم يكنْ في طَيِّهِ ... عهدُ الحبيبِ وسرُّه المستودَعُ فرق له وأمر بإطلاقه في ذلك الوقت، ثم إنّ الوزير عمل على قتله فيما بعد وقتله، وكان له رحمه الله في حلّ رموز الكيمياء اليد العليا، والسابقية الأولى، وله فيها تصانيف عدة، ومن شعره (¬3): (من الكامل) أما العلومُ فقد ظَفِرْتُ ببغْيتي ... منها فما أحتاجُ أنْ أتعلَّمَا وعرَفت أسرارَ الخليقةِ كلَّها ... عِلماً أنارَ ليَ البهيمَ المُظلما /ودريتُ هُرْمُسَ سِرَّ حكمتِه التي ... ما زال ظنّاً في الغيوب مرجَّما [4 أ] وملكتُ مفتاحَ الكُنوزِ بفطنةٍ ... كشَفتْ ليَ السرَّ الخفيَّ المُبْهَما لولا التَّقِيَّةُ كنتُ أُظهِرُ معجزاً ... من حكمةٍ تشفي القلوبَ من العَمى أهوى التكرُّمَ والتظاهرَ بالذي ... عُلِّمْتُه والعقلُ يَنْهَى عنهما (¬4) وأُريدُ لا ألقى غبيَّاً موسراً ... في العالمينَ ولا لبيباً مُعدِما ¬

(¬1) ديوانه، ص 249 ـ 250. (¬2) كتب في الهامش باللون الأحمر وبالخط نفسه الذي كتبت به المخطوطة هذا البيت: باللهِ فتِّشْ عن فؤاديَ أوّلاً ... هل فيه للسَّهمِ المُسَدَّدِ موضِعُ وهذا هو المثبت في النسخة ب (¬3) ديوانه، ص 366 ـ 367 (¬4) هذا البيت زيادة من ب

والناسُ إمَّا جاهلٌ أو ظالمٌ ... فمتى أُطيقُ تكرُّماً وتكلُّما ومن شعره (¬1): (من الوافر) ولا تستودِعَنَّ السِرَّ إلاَّ ... فؤادَك فهو موضِعُه الأمينُ إِذا حُفَّاظُ سِرِّك زيدَ فيهم ... فذاك السرُّ أضيعُ ما يكونُ ومن شعره في الزهد (¬2): (من الوافر) إِذا ما لم تكنْ ملكاً مُطَاعَاً ... فكنْ عبداً لخالقِه مُطِيعَا وإِن لم تملكِ الدنيا جميعاً ... كما تهواه فاتركْهَا جميعَا قال الشارح: يقال أن أول ما ظهرت الكيمياء في جبابرة قوم هود، وتعاطوا ذلك، وبنوا مدينة من ذهب وفضة، لم يخلق مثلها في البلاد، وكان ابن التيميّة رحمه الله ينكر ثبوتها، وصنف رسالة في إنكارها، وأمّا الإمام فخر الدين رحمه الله فإنه عقد في المباحث الشرقية فصلا في إمكانها، وقد ردّ على الفلاسفة في قولهم بعدم إمكانها، واستدل على إمكانها في الملخص، قال: وأمّا الوقوع فالوصول إليه عسير، فهو يقول أيضا بوقوعها، لكن يعسر، وكذلك/ قال ابن باجة الأندلسي عن الشيخ أبي نصر الفارابي، والظاهر من حال [4 ب] الطغرائي رحمه الله أنه لم يدبر شيئا من الكيمياء، إنما كان يعلمها علما لا عملاً، ألا تراه يقول (¬3): (من الطويل) ولولا ولاةُ الجَورِ أصبحتُ والحصَى بكفَّيَ أنَّى شِئتُ دُرٌ وياقوتُ وصاحب الشذور من جملة أئمة هذا الفن، صرح بأن نهاية الصنع إلقاء الواحد على الألف، ألا تراه يقول رحمه الله في الفائيَّة (¬4): (من الطويل) فعادَ بلطْفِ الحلِّ والعقد جوهراً ... يطاوعُ في النِّيْرانِ واحدهُ الألفُ وفي قوله في القصيدة القافيّة (¬5): (من الطويل) فَذانِ هما البدرانِ فاغْنَ بعلمنا تنلْ بهما ما يصبغُ الألفَ دانقه وكان بعضهم يقول: إنّ المقامات، وكليلة ودمنة رموز على الكيمياء، وكل ذلك من شغفهم وحبهم لها، نسأل الله العافية بلا محنة، وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله مغرما بها، وأنفق فيها مالا وعمرا، وقد صحّت كيمياء العشق مع جمال الدين علي بن النبيه حيث يقول (¬6): (من الطويل) ¬

(¬1) ديوانه، ص 404 (¬2) ديوانه، ص 245 (¬3) لم أجده في المطبوع من ديوانه. وهو في الغيث المسجم 1/ 23 (¬4) لم أجده في المطبوع من ديوانه. وهو في الغيث المسجم 1/ 24 (¬5) لم أجده في المطبوع من ديوانه. وهو في الغيث المسجم 1/ 24 (¬6) ديوانه / (م)

فصل في ذكر شيء من شعر الطغرائي

تعلَّمتُ علمَ الكيمِياءِ بِحُبِّهِ غزالٌ بجسمي ما بِعينَيْهِ مِن سُقْمِ فَصعَّدْتُ أنفاسي وقطَّرْتُ أدمُعي فصحَّ من التدبيرِ تصْفيرُهُ جسمي وقال أيضا (¬1): (من الخفيف) صُنْعِةُ الكِيْمٍياءِ صحَّتْ لعيني * حيث يزدادُ إذْ يَراني احمِرارا فإذا ما ألقيْتُ إكْسيرَ لحظي * في لُجينِ الخدُودِ عادَ نَضارا وأمّا هذه القصيدة اللامية فإنها سُمِّيت بلامية العجم تشبيها لها بلامية العرب؛ لأنها تضاهيها في حِكمِها وأمثالها، ولامية/ العرب هي التي قالها الشنفرى وأولها (¬2): [5 أ] (من الطويل) أَقيموا بَني أُمّي صُدورَ مَطِيَّكُم ... فَإِنّي إِلى قَومٍ سِواكُم لَأَمَيلُ فصل في ذكر شيء من شعر الطغرائي رحمه الله: قال في قصيدته (¬3): (من الطويل) سرى وظلامُ الليلِ أقتمُ أفتخُ ... مِهادُ ضجيعٍ بالعبيرِ مُضمَّخُ وهي قصيدة حسنة لطيفة بديعة فائقة غريبة في معناها. وقال يصف خيلاً (¬4): (من الكامل) سبقتْ حوافرُها النواظرَ فاستوى ... سبقٌ إِلى غاياتِها وشئونُ لولا ترامي الغايتينِ لأقسمَ الـ ... راؤونَ أنَّ حَراكَها تسكينُ وتكاد تُشبهها البُروقُ لَوَ اَنَّها ... لم تَعتلقْها أعينٌ وظنونُ هذه مبالغة في السرعة، والأول مأخوذ من قول أبي الطيب (¬5): (من المنسرح) يُقبِلُهُم وَجهَ كُلِّ سابِحَةٍ ... أَربَعُها قَبلَ طَرفِها تَصِلُ وقال يصف الصبح (¬6): (من الطويل) وردنا سُحيراً بين يومٍ وليلةٍ ... وقد عَلِقَتْ بالقَلب أيدي الكواكبِ على حينَ عرَّى منكِبُ الشرقِ جذبةً ... من الصبح واسترخَى عِنانَ الغياهبِ وقال من أبيات (¬7): (من الطويل) ونفسٌ بأعقابِ الأمور بصيرةٌ ... لها من طِلاع الغيب حادٍ وقائدُ وتأنف أن يَشفي الزلالُ غليلَها ... إِذا هيَ لم تشتقْ إليها المواردُ ¬

(¬1) ديوانه / (م) (¬2) ديوانه / (م) (¬3) لم أجده في المطبوع من ديوانه. وهو في الغيث المسجم 1/ 37 (¬4) ديوانه، ص 381 ـ 382 (¬5) ديوانه، ص180 (¬6) ديوانه، ص 47 (¬7) ديوانه، ص 123 ـ 124

وقال أيضا (¬1): (من الكامل) إني لأذكركمْ وقد بلغَ الظما ... منّي فاشْرَقُ بالزُلالِ الباردِ وأقولُ ليتَ أَحِبَّتي عاينتهم ... قبلَ المماتِ ولو بيومٍ واحدِ / وقال أيضا (¬2): (من الكامل) ... [5 ب] مرِضَ النسيمُ وصحَّ والداءُ الذي ... أشكوهُ لا يُرجى له إِفراقُ وهَدا خفوقُ البرق والقلبُ الذي ... ضُمَّتْ عليه جوانحي خفَّاقُ وقال أيضا (¬3): (من البسيط) تاللهِ ما استحسنَتْ من بعدِ فُرقَتِكُمْ ... عيني سِواكم ولا استمتعتُ بالنَّظَرِ إنْ كان في الأرضِ شيءٌ بعدكم حَسنٌ ... فإنَّ حبَّكُمُ غَطَّى على بَصَري وقال أيضاً (¬4): (من الخفيف) خَبَّرُوهَا أنِّي مَرِضْتُ فقالتْ ... أضنَىً طارِفاً شكا أم تليدَا وأشاروا بأنْ تعودَ وِسَادِي ... فأبَتْ وهيَ تشتَهِي أنْ تعودَا وأتَتْنِي في خِفيةٍ وهي تشكُو ... ألمَ الوجْدِ والمزارَ البعيدا ورأتْنِي كذا فلم تتمالَكْ ... أن أمالتْ علَيَّ عِطْفًَا وجِيدَا وقال في الهلال (¬5): (من الرجز) قوموا إِلى لذّاتِكمْ يا نِيامْ ... ونبِّهوا العودَ وصفُّوا المُدامْ هذا هلالُ الفِطرِ قد جاءنا ... بمنجلٍ يحصدُ شهرَ الصيامْ وقال في تقابل الشمس والقمر (¬6): (من الكامل) وكأنما الشمسُ المنيرةُ إذْ بدتْ ... والبدرُ يجنَحُ للمغيب وماغَرَب متحاربانِ مِجَنُّ ذا قد صاغَهُ ... من فضةٍ ولذا مِجَنٌّ من ذَهَب وقال أيضا (¬7): (من الطويل) سأحجُبُ عنّي أُسرتي عند عسرتي ... وأبرز فيهم إِنْ أصبت ثراءَ / ولي أُسوةٌ بالبدر يُنفق نورَه ... فيخفَى إِلى أن يستجدَّ ضياءَ ... [6 أ] ¬

(¬1) ديوانه، ص 141 (¬2) ديوانه، ص 260 (¬3) ديوانه، ص 172 (¬4) ديوانه، ص 141 ـ142 (¬5) ديوانه، ص 364 (¬6) ديوانه، ص 77 ـ 78 (¬7) ديوانه، ص 41

[شرح القصيدة بيتا بيتا]

ولو أردنا أنْ نذكر الكثير من شعره لذكرنا، ولكن الاقتصار أولى، واليسير من هذا يغني عن الكثير، ولم يبق بعد ذلك إلاّ الشروع في المقصود، نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالطاقة، وأن يجعل ذلك خالصا لوجهه، موجبا للفوز لديه، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [شرح القصيدة بيتا بيتا] أصالةُ الرأي صانتْنِي عن الخَطَلِ ... وحِليةُ الفضلِ زانتني لدَى العَطَلِ اللغة: أصالة: مصدر أصُل الشيء أصالة، مثل ضَخُم ضخامة، قال ابن الأنباري: الأصيل القوي الذي له أصل، والرأي: مصدر رأى رأيا، مهموز، يجمع على آراء، والرأي هو التفكير في مبادئ الأمور، ونظر عواقبها، وعِلْم ما تؤول إليه من الخطأ والصواب، وأصحاب الرأي هم أصحاب القياس، روى نوح الجامع أنه سمع أبا حنيفة يقول: ما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة اخترناه، وما جاء عن غيرهم فهم رجال ونحن رجال، وقال أبو حنيفة رحمه الله: علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه قبلناه، والشافعي رضي الله عنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقال الشافعي رضي الله عنه: ما رأيت كأهل مصر، اتخذوا الجهل علما؛ لأنهم سألوا مالكا مسائل، قال: لا أعلم، فهم لا يقبلونها ممن يعلمها؛ لأن مالكا قال: لا أعلمها، وأهل الرأي هم ضد أهل النظر، صانتني: تقول: صنت الشيء صونا، وصيانا، وصيانة، فهو مصون، ولا يُقال: مُصان، وثوب مصون على النقص (¬1)، ومصوون على التمام، قال (¬2): ليس يأتي ثلاثي من بنات الواو (¬3) إلاّ حرفان: مسك مدووف، وثوب / مصوون، فإن هذين جاءا نادرين (¬4)، الخطل: المنطق الفاسد [6 ب]، وقدخَطِل في كلامه، بالكسر، خطلا، أي أفحش، وريح خَطِل، أي مضطرب، ومنه سُمِّي الأخطل؛ لخطلٍ كان في أُذنيه، وحليةِ: الحِلية للسيف وغيره، جمعها حِلىً، مثل لِحية ولِحىً، وحِلية الرجل صفته، وليست مراده هنا، بل المراد الزينة التي يتحلى بها الإنسان من الفضائل، الفضل: خلاف النقص لغة، وهنا المراد به ما ينطوي عليه الإنسان من العلم والأدب والتجارب والممارسة للأمور، زانتني: ما يُتزين به، لدى: بمعنى عند، العطل: مصدر عطلت المرأة إذا خلا جيدها من القلائد، فهي عطل. الإعراب: أصالة: مبتدأ مضاف إلى ما بعده، الرأي: مجرور بالإضافة إلى المبتدأ أصالة، صان: فعل ماضٍ، والتاء ضمير راجع إلى أصالة، وهو في موضع رفع؛ لأنه فاعل صان، والنون الثانية نون الوقاية، والياء ضمير المتكلم، وهي في موضع نصب على المفعولية، والجملة كلها في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ، والخطل: مجرور بعن، ¬

(¬1) المقصود على لغة االنقص، وعاى لغة التمام. (¬2) يعني الجوهري كما في ب. (¬3) يعني من بنات الواو بالتمام، كما في ب. (¬4) الصحاح (خيط)

مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع ... والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل

وحلية: الواو عاطفة، وقد تقع لغير ذلك، حلية: مبتدأ، لدى: ظرف مكان، فموضعها النصب، والعامل فيها زانت. المعنى: يقول: إن الرأي الأصيل يصونه عن الاضطراب في القول والعمل، وحلية عمله تزينه عند العطل، أي عند التعري عن أعراض الدنيا وزخرفها. قال عليه السلام: الإنسان بأصغريه القلب واللسان، وقال عليه السلام: المرء مخبوء تحت لسانه، وقال علي كرم الله وجهه: قيمة كل امرئ ما يُحسنه، وقال الشاعر (¬1): (من البسيط) واجهدْ لنفسِكَ واستكمِلْ فضائلَها ... فأنتَ بالنَّفسِ لا بالجِسمِ إنسانُ / ولبعضهم في المعنى (¬2): (من الكامل) ... [7 أ] كمل حقيقتك التي لم تكمل ... والجسم دعه في الحضيض الاسفل اتكمل الفاني وتترك باقيا ... هملا وأنت بأمره لم تحفل الجسم للنفس النفيسة آلة ... ما لم تحصلها به لم يحصل يفنى ويبقى دائما في غبطةٍ ... أبديةٍ أو شقوةٍ لا تنجلي شرك كثيف أنت في حبلاتهِ ... بادرْ إلى وجهِ الخلاصِ وعجِّلِ من يستطيع بلوغ أعلى منزل ... ما باله يرضى بأدنى منزل والمشهور بالدهاء والرأي خمسة من العرب: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن الأنصار قيس بن سعد بن عُبادة، ومن المهاجرين عبد الله بن يزيد الخزاعي. ومن شعر مؤيد الدين الطغرائي الناظم رحمه الله (¬3): (من الكامل) لا تحقِرنَّ الرأيَ وهو موافقٌ ... حُكمَ الصوابِ إِذا أتَى من ناقصِ فالدُّرُ وهو أجلُّ شَيءٍ يُقْتَنَى ... ما حَطَّ قيمتَهُ هوانُ الغائصِ قلت وأنشد ابن الجوزي لبعض الحكماء (¬4) في أوائل ذم الهوى: (من البسيط) وأفضل الناس مَن لم يرتكب سَبَباً ... حتى يميّز ما تجني عواقبه مجدي أخيراً ومجدِي أوّلاً شَرَعٌ ... والشمسُ رأْدَ الضُحَى كالشمسِ في الطَفَلِ اللغة: المجد لغةً: الكرم، وقد مجُد بالضم فهو مجيد، قال ابن السكِّيت: الشرف والمجد يكونان بالآباء، والحسب للرجل، وإن لم يكن له أب، وإليه أشار امرؤ القيس بقوله (¬5): ... (من الطويل) ¬

(¬1) لأبي الفتح البستي، ديوانه / الموسوعة الشعرية. (¬2) وردت في الغيث المسجم 1/ 74 دون عزو لقائل. (¬3) ديوانه 1/ 209. (¬4) لم أتمكن من معرفة قائله، ولا على مصدر له. (¬5) ديوانه، ص 129

فَلَو أَنَّ ما أَسعى لِأَدنى مَعيشَةٍ ... كَفاني وَلَم أَطلُب قَليلٌ مِنَ المالِ وَلَكِنَّما أَسعى لِمَجدٍ مُؤَثَّلٍ ... وَقَد يُدرِكُ المَجدَ المُؤَثَّلَ أَمثالي / المؤثل: الموروث، وأراد: كفاني قليل من المال، ولم أطلب، ولو أعمل لم أطلب [7 ب] في قليل لاستحال المعنى، وليس هذا من التنازع؛ لفساد المعنى؛ خلافا لما توهمه أبو علي الفارسي، شرع: سواء، يحرك، ويسكن، ويستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع، رأد الضحى: أي ارتفاع الشمس، والطفل: بعد العصر إذا طفلت الغروب. الإعراب: مجدي: مبتدأ، وأخيراً منصوب على أنه ظرف زمان (¬1)، وكذا قوله أولاً، ومجدي الثانية معطوف على الأول، وشرع: خبر عنهما، كقوله: زيد وعمرو كريمان، والشمس هذه واو الابتداء، رأد الضحى: منصوب على أنه ظرف زمان، والضحى: مضاف إليه، ثم ذكر معاني الكاف وأنها (¬2) تأتي للتشبيه، واستحسن قول ابن قلاقس (¬3) في مدح الحافظ السلفي: (من البسيط) كالبحرِ والكافُ إن أنصفتَ زائدةٌ ... فيه فلا تحسَبْنَها كافَ تَشبيهِ وقد أخذه من قول أبي الطيب (¬4): (من البسيط) كَفاتِكٍ وَدُخولُ الكافِ مَنقَصَةٌ ... كَالشَمسِ قُلتُ وَما لِلشَمسِ أَمثالُ المعنى: يقول: إن مجده في الأول، ومجده في الآخر سواء، لا تفاضل فيه، كما أن الشمس استوى حالتاها في أول النهار وآخره، ومن الكَلِم النوابغ: التاجر مجده في كيسه، والعالم مجده في كراريسه، ومنه أيضا: مَن أخطأته المناقب، لم تنفعه المكاسب، ويحتمل أن المصنف أراد أنَّ (¬5) مجد أسلافه، ومجده واحد، أي ورثت المجد عن آبائي الكرام، وسدتُ كما سادوا، وقد أخذ المصنف هذا المعنى من أبي العلاء المعري (¬6)، حيث قال: (من البسيط) وافَقْتَهُمْ في اختلافٍ من زَمانهمُ ... والبَدرُ في الوهْنِ مثلُ البدرِ في السّحرِ / واعلم أنّ كل حيوان بينك وبينه مشاركة في الجنسية، ألا ترى أنّ بعض العلماء كان [8 أ] يُنكر قتل الكلاب، وينهى عنه، ويقول: كيف تفعل ذلك وهو شريكك في الحيوانية، وما أحسن قول القائل (¬7): (من الوافر) وللزنبور والبازي جميعاً ... لدى الطيران أجنحة وخفق ¬

(¬1) في أ: أخيرا خبر منصوب على أنه ظرف زمان، وكلمة خبر خطأ. وما أثبتناه من ب. (¬2) وأنها زيادة من ب. (¬3) ديوانه / (م) (¬4) ديوانه 2/ 251 (¬5) أنّ زيادة من ب (¬6) ديوان سقط الزند، ص 59 (¬7) للحسين بن عبد الله بن رواحة، معجم الأدباء 10/ 56

ولكن بين ما يصطاد بازٍ ... وما يصطاده الزنبور فرق قال الشارح: وبيت أبي العلاء أبلغ مما قال المصنف؛ لأنه أعذب لفظا، وكلا المعنيين اللذين أشار إليهنا يشبه قول الحريري (¬1): (من البسيط) وطالما أُصْليَ الياقوتُ جَمرَ غضىً ... ثم انطَفى الجَمرُ والياقوتُ ياقوتُ قال: وهو سيّد الأحجار التي لا تذوب، ولا تتأثر بالنار، والذَّكر أردأ أصناف (¬2) الياقوت، قال ابن سينا: ومن خواصّه التفريح، وتقوية القلب، ومقاومة السّموم، ومن خواصّه أنه يقطع سائر الحجارة إلاّ الألماس يقطعه؛ لصلابته وقلة مائيته، ولبعضهم فيمن اسمه ياقوت (¬3): (من البسيط) ياقوت ياقوت قلبي المستهام به ... من المروءة أن لا يمنع القوت سكنت قلبي وما تخشى تلهبه ... وكيف يخشى لهيب النار ياقوت قلت: وكذا الحجر الأسود، لا يتأثر أيضا بالنار، وله خاصيّة أخرى وهو أنه لا يغرق في الماء، وهاتان الخصلتان توجدان فيه عند الامتحان، وقد امتُحن فوُجد كذلك حين أخذته القرامطة في خبر مشهور، لا طائل بذكره، فإن قيل: أليس كون الشمس في بكرة النهار مثل كونها في آخره؛ لأن حالة الإقبال حالة (¬4) ابتداء وتمكُّن، وحالة الانتهاء حالة إدبار، ولهذا / قال المنجمون: إنّ السعي في الحوائج في أول النهار خير منه في آخره. ... [8 ب] قال الشاعر (¬5): (من الخفيف) بَكِّرا صاحِبَيَّ قَبلَ الهَجيرِ ... إِن ذاكَ النَجاحَ في التَبكيرِ قلت: وعلى الشارح اعتراض، وعليه الشاعر، أمّا الشارح فكان ينبغي له أن يستدل بقوله عليه السلام: اللهم بارك لأمتي في بكورها، وبما قاله أصحابنا من استحباب التبكير في الحوائج والمهمات، وعلى الشاعر إذ لو قال: إنّ أصل النجاح، لكان أولى، لما لا يخفى على متأمل، وأجاب الشارح عن السؤال المتقدم أن المصنف إنما أراد ذات الشمس من حيث هي من غير نظر إلى ما يطرأ عليها من حركة فلكها؛ لأن هذه الأحوال إنما هي بالنسبة إلينا لا إلى الفلك؛ لأن الشمس في جرمها واحدة لا تتغير أبدا، وهي هي أبدا ما زالت، ولا طرأ عليها شيء، نعم كان هذا يُراد لو كان لكل يوم شمس تخصه، كما ذهب إليه بعضهم، وليس ¬

(¬1) مقامات الحريري ـ المقامة الحجرية، ص 417، والبيت لمحمد بن حمير الهمداني، ديوانه / (م). (¬2) أصناف زيادة من ب. (¬3) البيتان في الغيث المسجم 1/ 95 دون عزو (¬4) حالة زيادة من ب. (¬5) لبشار بن برد، ديوانه / (م).

بشيء، قال: وقد بالغ المصنف حيث ضرب لمجدة مثلا بالشمس، وإنه مثل لا يخفى على ذي عقل، ولا يسعه إنكاره، كما قيل (¬1): (من الوافر) وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَذهانِ شَيءٌ ... إِذا اِحتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ انظر إلى قول أبي تمام (¬2) في هذا المعنى: (من الطويل) أَنا اِبنُ الَّذينَ اِستُرضِعَ المجدُ فيهِمُ ... وَسُمِّيَ فيهِم وَهوَ كَهلٌ وَيافِعُ (¬3) مَضَوا وَكَأَنَّ المَكرُماتِ لَدَيهِمُ ... لِكَثرَةِ ما أَوصَوا بِهِنَّ شَرائِعُ فَأَيُّ يَدٍ في المَجدِ مُدَّت فَلَم تَكُن ... لَها راحَةٌ مِن مجدِهِم وَأَصابِعُ (¬4) / هُمُ اِستَودَعوا المَعروفَ مَحفوظَ مالِنا ... فَضاعَ وَما ضاعَت لَدَينا الوَدائِعُ [9 أ] واعلم أنّ عند الأكثرين أنّ أبا تمام كان أبوه نصرانيا، يقال له نقدوس (¬5) العطار من جاسم، قرية من قرى حوران بالشام فغير اسم أبيه واندسّ في بني طيء، قال، ومن مشهور الحكايات، قال بعضهم: كنت ليلة جالسا عند بعض ولاة الطرق، وقد جاء غلمانه برجلين فقال لأحدهما مَن أبوك، فقال (¬6): (من الطويل) أنا ابن الذي لا يُنزل الدّهرُ قِدره ... وإن نزلتْ يوماً فسوف تعود ترى الناس أفواجاً على بابِ دارِه ... فمنهم قيامٌ حولها وقعود فقال الوالي ما كان أبو هذا إلاّ كريما، ثم قال للآخر: من أبوك، فقال (¬7): (من المنسرح) أنا أبن من ذلَّت الرقابُ له ... ما بين مخزُومها وهاشِمها خاضعة أذْعَنَتْ لطاعَتِهِ ... يأخذ من مالِها ومن دمها فقال الوالي ما كان أبو هذا إلاّ شجاعاً، وأطلقهما، فلما انصرفا، قلت للوالي: أمّا الأول فكان أبوه يبيع الباقلاّء المصلوق، وأما الثاني فكان أبوه حجاما، فقال الوالي (¬8): ... (من المنسرح) كن ابن من شئت واكتسب أدباً ... يُغنيك مضمونُه عن النَّسبِ ¬

(¬1) البيت للمتنبي، ديوانه 2/ 95 (¬2) ديوانه، ص 487. (¬3) في الديوان: استرضع الجود. (¬4) في الديوان: فأي يد في المحل، وليس المجد. (¬5) في الغيث المسجم 1/ 100 سدوس.، وفي الوافي بالوفيات ً 8951 / (م) تذوس، وفي وفيات الأعيان 2/ 11تدوس. (¬6) ورد البيتان في جمع الجواهر في الملح والنوادر، ص 529/ (م)، وفي الغيث المسجم 1/ 101، وفي زهر الأكم في الأمثال والحكم، ص 1478/ (م) من غير عزو. (¬7) ورد البيتان في: زهر الأكم في الأمثال والحكم، ص 1479/ (م)، وفي غرر الخصائص الواضحة، ص 545/ (م)، وفي الغيث المسجم 1/ [101 ب] لا عزو. (¬8) نسب العسكري البيت الأول في جمهرة الأمثال، ص 1423/ (م) لأبي العتاهية، ونسب البيت الأول في معجم الأدباء 19/ 173 لميمونة أبو ربيعة الأصبهاني، والبيتان في غرر الخصائص الواضحة، ص 386/ (م)، وفي الغيث المسجم 1/ [102 ب] لا عزو.

فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي

إنَّ الفتى من يقول: ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقولُ كان أبي قال بعضهم: وجدت مكتوبا على قبر: أنا ابن مَن كانت الريح طوع يده، يحبسها إذا شاء، ويطلقها إذا شاء، قال: فعظم في عيني مصرعه، ثم التفتُّ إلى قبر آخر قبالته، وعليه مكتوب: لا يغترّ أحد بقوله، فما كان أبوه إلاّ بعض الحدادين، يحبس الريح في كيره، ويتصرف فيها، فعجبت منهما يتسابّان ميِّتين. / قال: ومما هجا به مجاهد الخياط أبا الحسين الجزار، قوله (¬1): (مخلع البسيط) ... [9 ب] إنْ تاهَ جزارُّكم عليكم بفطنةٍ في الورى وكَيسِ فليس يرجوه غير كلب ... وليس يخشاه غير تيس ومن بديع شعره، أي أبا الحسين الجزار المذكور قوله (¬2): (البسيط) إني لمن معشرٍ سفك الدماء لهم ... دأبٌ وسلْ عنهُمُ إنْ رُمت تصديقي تضيء بالدم إشراقا عِراصهمُ ... فكل أيامهم أيام تشريق فيمَ الإقامُة بالزوراءِ لا سَكَني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جَملي اللغة: الزوراء: بغداد، وسميت بذلك لانحراف قبلتها، وتُسمى دار السلام، قيل: لأن دجلة يسمى السلام، وقيل: لأنه يُسلَّم فيها على الخلفاء، وهي بلدة أحدثها المنصور من بني العباس، سنة أربعين ومائة، ونزلها في سنة ست وأربعين، والسكن: ما يسكن إليه الإنسان من زوج أو غيره، وبقية البيت مثل من أمثال العرب، الأصل فيه أن الصَّدُوف العدوية كانت تحت زيد بن الأخنس العدوي، وله بنت من غيرها تُسمى الفارعة، وكانت تسكن بمعزل عنها، في خباء آخر، فغاب زيد غيبة، فلهج بالفارعة عدوي، يُدعى شبيبا، وطاوعته، وكانت تركب كل عشية جملا لها، وتنطلق معه إلى ثنية يبيتان فيها، ورجع زيد عن وجهته، فعرّج على كاهنة اسمها طريفة، فأخبرته بريبة في أهله، فأقبل سائرا لا يلوي على أحد، وإنما تخوّف على امرأته حتى دخل عليها، فلما رأته عرفت الشرّ في وجهه، فقالت: لا تعجل واقف الأثر، لا ناقة لي في هذا ولا جمل، فصار ذلك مثلا يُضرب في التبرِّي عن الشيء. قال الراعي (¬3): (من البسيط) /وَما هَجَرْتُكِ حَتّى قُلتِ مُعلَنَةً ... لا ناقَةٌ لِيَ في هَذا وَلا جَمَلُ ... [10 أ] ¬

(¬1) البيت الأول في الغيث المسجم 1/ 102، والبيتان معا في النجوم الزاهرة، ص 4309 / الموسوعة الشعرية، وفي ذيل مرآة الزمان، ص 1696 / الموسوعة الشعرية. (¬2) البيتان في الغيث المسجم 1/ 102، وفي نصرة الثائر على المثل السائر، ص 466 ـ 467/ (م)، وفي فوات الوفيات 4/ 288 (¬3) ديوانه، ص 198، وفيه: وما صرمتك.

الإعراب: فيم: أصله فيما، فحذفوا الألف منها تخفيفا، أو لاتصالها بحرف الجر، أو تفرقة بينها وبين أن تكون اسما، فالأصل في ما، في: حرف جر، وما: استفهامية، وما وموضعه رفع على أنه خبر مقدم، والمبتدأ الإقامة، ويقدم الخبر لأن الاستفهام له صدر الكلام، بالزوراء: الباء للظرفية المكانية، وتكون أيضا للظرفية الزمانية، ومجيئها للمكان أكثر منها للزمان، بالزوراء موضعه النصب على أنه ظرف للإقامة، لا سكني: هذه لا التي لنفي الجنس، وسكن مبني على الفتح؛ لأنه اسم تقديره لا سكن لي، بها: الباء ظرفية، والهاء والألف ضمير يرجع على الزوراء، ولا: الواو عاطفة، ولا: التي لنفي الجنس، ناقتي: اسم لا، وقد أُضيف إلى ياء المتكلم، فالفتحة مقدرة على التاء، فيها: في هنا ظرفية، والضمير للزوراء، ولا جملي: إعرابه كما تقدم. المعنى: يقول: إقامتي في بغداد لأي شيء، ولا سكن لي بها، ولا علاقة لي فيها، بدليل ما ضربه من المثَل، فإذا كان كذلك، فرحيله منها مُتعيِّن (¬1). ... (الطويل) وَإِنَّ صَريحَ الحَزمِ وَالرَأيِ لَاِمرُىٍ ... إِذا بَلَغَتهُ الشَمسُ أَن يَتَحَوَّلا وقد خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة، وكان ما كان، ثم رجع إليها، وقال عليه السلام: العباد عباد الله، والبلاد بلاد الله، فأين ما وجدت الخير فأقم، واتق الله. قال المتنبي (¬2): (من الطويل) وَكُلُّ اِمرِئٍ يولي الجَميلَ مُحَبَّبٌ ... وَكُلُّ مَكانٍ يُنبِتُ العِزَّ طَيِّبُ / والمقادير عجائب، وفوائد قوم عند قوم مصائب، هذا يقول في بغداد هذه المقالة [10 ب] والعِكَوَّك يقول لمَّا كره عنها ارتحاله (¬3): (من السريع) لَهَفِي على بغدادَ مِنْ بَلْدَةٍ ... كانتْ مِنَ الأَسْقامِ لِي جُنّه كأنّنِي عِنْدّ فِراقِي لَها ... آدمُ لَمَّا فَارَقَ الجَنَّه وقال البحتري (¬4): (من الكامل) ما أَنصَفَتْ بَغدادُ حينَ تَوَحَّشَتْ ... لِنَزيلِها وَهيَ المَحَلُّ الآنِسُ لمَّا نبت بغداد بالقاضي عبد الوهاب المالكي خرج منها طالبا مصر، فشيعه من أكابرها وفضلائها، فقال لهم لمَّا ودّعهم: لو وجدت بين ظهرانيكم كل بكرة وعشية رغيفين ما فارقت بغداد، ومن شعره فيها (¬5): (من البسيط) بغداد دارٌ لأهل المال طيبة ... وللمقلين دار الضنك والضيق ¬

(¬1) لأبي تمام، ديوانه، ص 239. (¬2) ديوانه 2/ 232 (¬3) لم أجدها في المطبوع من ديوانه. (¬4) ديوانه 1/ 360 (¬5) البيتان في وفيات الأعيان 3/ 221، وفوات الوفيات 2/ 420

أقمتُ فيها مُضاعاً بين ساكِنِها ... كأنني مصحفٌ في بيت زنديق وهذا كان شأن العلماء رضي الله عنهم؛ لأنهم لا يقيمون إلاّ في مكان تتروح فيه النفوس، ويزول عنهم فيه الهم والبؤس، كما قال ابن شرف القيرواني (¬1): (من البسيط) وَصَيّر الأَرضَ داراً وَالوَرى رَجُلاً ... حَتّى تَرى مُقبِلاً في الناسِ مَقبولا وهو مأخوذ من قول الأول (¬2): (من البسيط) شرقٌ وغربٌ تجدْ من غادرٍ بدلاً ... فَالأَرضُ مِن تُربَةٍ وَالناسُ مِن رَجُلِ وقال مصعب الصقلي (¬3): (من الطويل) إذا كانَ أصْلِي مِنْ تُرابٍ فكلُّها ... بلادِي وكلُّ العالَمينَ أقارِبِي وقال أبو فراس (¬4): (من البسيط) مَنْ كانَ مثْلِيَ فالدُّنيا له وَطَنٌ ... وَكُلُّ قَومٍ غَدا فيهِم عَشائِرُهُ /وَما تُمَدُّ لَهُ الأَطنابُ في بَلَدٍ ... إِلّا تَضَعضَعَ باديهِ وَحاضِرُهُ ... [11 أ] وقال أبو الطيب (¬5): (من المنسرح) إِذا صَديقٌ نَكِرتُ جانِبَهُ ... لَم تُعيِني في فِراقِهِ الحِيَلُ في سَعَةِ الخافِقَينِ مُضطَرَبٌ ... وَفي بِلادٍ مِن أُختِها بَدَلُ قال الشارح: وما أعرف أحدا ضمن هذا المثل، أعني: لا ناقة لي في هذا ولا جملي، أمكن، ولا أحسن من قول الشهاب محمود (¬6): (من البسيط) أستغفرُ اللهَ أين الغيثُ منفصلاً ... من برِّه وهو طولُ الدَّهرِ متَّصِلُ مَن حاتمٌ عدِّ عنه، واطّرحْ فبه ... في الجودِ لا بسواه يضربُ المثلُ أين الذي بِرُّه الآلافَ يُتبعُها ... كرائمَ الخيلِ ممن جوده الإبِلُ لو مُثِّلَ الجودُ سرحاً قال حاتمُهم ... لا ناقةٌ ليَ في هذا ولا جملُ ثم أخذ الشارح يتكلم في التضمين، وينشد شيئا من ذلك، فاخترت من ذلك بيتين للصفي الحلي (¬7)، وهما: (من الخفيف) ¬

(¬1) ديوانه (م) (¬2) للبحتري، ديوانه 1/ 217، ورواية الديوان: شَرِّق وَغَرِّب فَعَهدُ العاهِدينَ بِما ... طالَبتَ في ذَمَلانِ الأَنيُقِ الذُمُلِ وَلا تَقُل أُمَمٌ شَتّى وَلا شِقَقٌ ... فَالأَرضُ مِن تُربَةٍ وَالناسُ مِن رَجُلِ (¬3) البيت في الحماسة المغربية، ص 416/ (م)، وقد نسب في كل من نفح الطيب 2/ 109، ووفيات الأعيان 1/ 244 لأبي الصلت أمية بن عبد العزيز. (¬4) ديوانه، ص 125، ورواية الديوان: يُمسي وَكُلُّ بِلادٍ حَلَّها وَطَنٌ ... وَكُلُّ قَومٍ غَدا فيهِم عَشائِرُهُ وَما تُمَدُّ لَهُ الأَطنابُ في بَلَدٍ ... إِلّا تَضَعضَعَ باديهِ وَحاضِرُهُ (¬5) ديوانه 1/ 179 ـ 180، ولم تعيني: لم تعجزني. (¬6) الأبيات في الوافي بالوفيات، ص 19018/ (م)، وأعيان العصر وأعوان النصر، 4238 ـ 4239 / (م) , وفي معاهد التنصيص، ص 2251 / (م) البيتان الثاني والرابع. (¬7) ديوانه، ص 400

ناء عن الأهل صفر الكف منفرد ... كالسيف عري متناه من الخلل

يا ضَعيفَ الجُفونِ أَمْرَضْتَ قَلباً ... كانَ قَبلَ الهَوى قَوِيّاً مَلِيّاً لا تُحارِب بِناظِرَيكَ فُؤادي ... فَضَعيفانِ يَغلِبانِ قَوِيّاً وقول المصنف: فيم الإقامة، البيت، هذا البيت يسميه أهل البديع عقاب المرء لنفسه، لم ينشد ابن المعتز (¬1) في هذا المعنى غير بيتين، وهما: (من الطويل) عصاني قومي والرشاد الذي به ... أمرت ومن يعص المجرب يندم فصبراً بني بكرٍ على الموت إنني ... أرى عارضاً ينهل بالموت والدم نَاءٍ عن الأهلِ صِفْرُ الكفِّ منفردٌ ... كالسيفِ عُرِّيَ متناهُ من الخَللِ / اللغة: نأى ينأى فهو ناءٍ إذا بَعُد، الأهل: أهل الرجل، وهو اسم جمع، لا واحد [11 ب] له من لفظه، الصفر: الحال، يقال: رجل صفر اليدين، أي لا شيء فيهما، والصفاريت الفقراء، الواحد صفريت، وفي الحديث: إذا اصفر البيوت من الخير، البيت الصفر من كتاب الله تعالى، إذا كان هذا الخبر مرفوعا فمعناه البيت الذي ليس فيه مَنْ يقرأ كتاب الله، أمّا لو كان في البيت مُصحفا مُعلَّقا عنده، ولا يقرأ فيه فهو أيضا صفر؛ لأنه روي أنه مَنْ نزّل مصحفا معلَّقا عنده، ولم يقرأ فيه جاء يوم القيامة آخذا ببعض بدنه، قائلاً ربّ عبدك هذا اتّخذني مهجورا، الكف: معروف، وفي الإنسان عشرة أعضاء أولها كاف، وهي: الكف، والكوع، والكرسوع، والكتف، والكاهل، والكبد، والكلية، والكمرة، والكعب (¬2). يُحكى أنّ بعض أشياخ اللغة طُلب منه عدَّها، فعدَّها تسعة أعضاء، خلا الكمرة، فإنه ذهل عنها، فلمَّا قام إلى بيت الخلاء ذكرها، وكان قد ذكر بدلها الكرش، فقيل له: ليس للإنسان كرش، إنما هي الأعفاج. ويقال: ابن خالويه وضع أسئلة سماها الأنطاكية، اشتملت على ثلاثمائة عضو من أعضاء الإنسان، أول كل كلمة منها كاف، وقوله: كالسيف عُرِّي: أي جُرِّد، والمتن هنا جانبا السيف، الخلل: جمع، واحده خلة، بالخاء المعجمة، والخلل: بطائن كان يُغَشَّى بهما بطائن السيوف؛ منقشة بالذهب وغيره. الإعراب: ناءٍ: اسم فاعل من نأى، مرفوع على أنه خبر، ولم يظهر الرفع فيه؛ لأنه منقوص، مثل قاضٍ، فلا يظهر فيه إلاّ النصب، تقول: رأيت نائياً، فإن قلت: هلاّ رفعته على أنه / مبتدأ، فالجواب أنَّ اسم الفاعل لا يكون مبتدأ حتى يعتمد على الاستفهام [12 أ] أو النفي، أو معنى النفي، قال الشاعر (¬3): (من البسيط) ¬

(¬1) البيتان ذكرهما ابن المعتز في كتابه البديع، ص 116 / (م). (¬2) لقد ذكر تسعة أعضاء، وأظن أن العاشر هو الكَتَد والكَتِدُ: ما بين الكاهل إلى الظَهر. الصحاح (كتد) (¬3) البيت في أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك 1/ 190وقد قال مؤلفه: ولم أعثر ـ رغم طول البحث ـ على نسبة هذا البيت إلى قائل معين، ولا عثرت له على سوابق أو لواحق تتصل به.

أقاطن قوم سلمى أم نووا ظعنا ... إنْ يظعنوا فعجيب عيش مَنْ قطنا وقال آخر (¬1): (الطويل) خليلي ما وافٍ بعهدي أنتما إذا لم تكونا لي على مَن أقاطعُ ألا ترى أنّ قاطنا لمَّا اعتمد على استفهام كان مبتدأ، وأنّ وافيا لمَّا اعتمد على النفي، جاز الابتداء به قولهم معنى النفي؛ ليدخل فيه قول الشاعر (¬2): (من المديد) غيرُ مأسوفٍ على زمنٍ ... ينقضِي بالهَمِّ والحَزَنِ قوله: عن الأهل، عن هاهنا للمجاوزة، والجار والمجرور في موضع النصب باسم الفاعل، صفر الكف منفرد: خبران أيضا مثل ناء، فهي ثلاثة أخبار لمبتدأ واحد، والصحيح جواز تعدد الأخبار، ثم هي على ثلاثة أقسام، لا نطيل بذكرها، إلاّ أنّ هذه الإخبارات الثلاثة تعددت في اللفظ، والمعنى دون الابتداء؛ لأنه واحد متصف بهذه الصفات، فيجوز فيما كان بهذه المثابة أنْ ترد الأخبار فيه معطوفة، وغير معطوفة، كقوله تعالى: [وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ] (¬3)، قوله: كالسيف، الكاف هنا اسم بمعنى مثل، ويجوز في موضعها النصب على الحال، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، تقديره منفرد انفرادا مثل انفراد السيف، أو الرفع إن قُدِّرت فأنا منفرد مثل السيف، عُرِّي متناه: ومتناه مفعول ما لم يسم فاعله، وعلامة رفعه الألف؛ لأنه مثنى، وحذفت نون التثنية لإضافته إلى الضمير، والموجب لحذف الفاعل أمور، لا نطيل بذكرها، وقوله: من الخلل متعلق بعُرِّي، مِنْ هنا لبيان الجنس، وجملة عُرِّي وما بعدها في موضع الجر على الصفة للسيف، ومن الخلل متعلق بعُرِّي. المعنى: هذا البيت متعلق / بما قبله، كأنه يقول لأي شيء أُقيم ببغداد [12 ب] وليس لي بها سكن، ولا ناقة، ولا جمل، وأنا ناء عن الأهل فقير، لا أملك شيئا من المال في كفي، منفرد عن الناس كالسيف الذي جُرِّد عن حليته، إذ المقصود وقت الحاجة هو نفسه دون الحمائل والأجفان، وأمَّا الحمائل والأجفان فلا اعتبار بها، وما الحلى إلاّ حلية لنقيصته، وما أحسن ما كشف أبو العلاء المعري (¬4) عن هذا المعنى بقوله: (من الطويل) وإنْ كان في لُبسِ الفتى شرَفٌ له ... فما السّيفُ إلاّ غِمْدُه والحمائل ¬

(¬1) البيت في أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك 1/ 189وقد قال مؤلفه: ولم أقف لهذا الشاهد على نسبة لقائل معين، ولا عثرت له على سوابق أو لواحق تتصل به. (¬2) البيت في شرح ابن عقيل 1/ 191، وفي خزانة الأدب 1/ 345، وهو لأبي نواس، وهو ليس ممن يستشهد بكلامه، وإنما أورده الشارح مثالاً للمسألة، ولهذا قال: ليدخل فيه قول الشاعر. وبعده بيت ثان وهو: إنما يرجو الحياة فتى ... عاش في أمن من المحن (¬3) البروج 14، 15 (¬4) ديوان سقط الزند، ص 194

فلا صديق إليه مشتكى حزني ... ولا أنيس إليه منتهى جذلي

وقال النمر بن تولب (¬1): فإن تك أثوابي تَمزقن عن فتى فاني كنصل السيف خلق الغمد وقال لبيد بن ربيعة (¬2): (من الطويل) فَأَصبَحتُ مِثلَ السَيفِ أخلَقَ جَفنَهُ ... تَقادُمُ عَهدَ القَينِ وَالنَصلُ قاطِعُ فلهذا قال الناظم ما قاله بمعنى أنني ببغداد، بهذه الحالة من الفقر، واجتناب الناس؛ لخلو ذات يدي، وأنا من الفضل والعلم والأدوات بمحل أسنى، ومع ذلك لا يعبأ بي، ولا ينظر إلى ذاتي من حيث هي كالسيف المُعرَّى من الحلية، وإنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، إذ هما ذات، والمال عرض زائل عنها، قال الشاعر (¬3): (من البسيط) تَسلََّّ عن كلّ شيء بالحياة فقد ... يهون عند بقاء الجوهر العرَضُ وقال المعري في المعنى (¬4): (من الوافر) وأنتَ السيْفُ إنْ تَعْدَمْ حُلِيّاً ... فلم يُعْدَمْ فِرنْدُكَ والغِرارُ وليس يَزيدُ في جَرْي المَذاكي ... ركابٌ فوقَه ذَهَبٌ مُمَارُ /ورُبّ مُطَوَّقٍ بالتّبِر يكْبُو ... بفارسِه وللرَّهَج اعْتِبارُ ... [13 أ] وزَنْدٍ عاطِلٍ يَحْظى بمَدْحٍ ... ويُحْرَمُه الذي فيه السّوارُ وقول الناظم ما قال مأخوذ من قول مسلم بن الوليد (¬5): (من الطويل) وَبايَنتُ حَتّى صِرتُ لِلبينِ راكِباً ... قَرى العَزمِ فَرداً مِثلَ ما اِنفَرَدَ النَصلُ ولابن سناء الملك (¬6) يرثي جماعة من أبيات: (من الرجز) تلك قبورٌ بُنيت بهدمي ... لم تُبْنَ إِلاَّ بدَمِي ولَحْمِي مَناظرٌ كما رأَيتَ تُعْمِي ... وعِشْتُ مِنْ بَعدِهم بِرَغْمي كالسيفِ في الوحدةِ لا كالسَّهم في فقرِ صُوفِيٍّ وذُلَّ ذِمي فلا صديقَ إليه مشتكَى حزَنِي ... ولا أنيسَ إليه منتَهى جذلي اللغة: الصديق: هو الصادق في المودة، الرجل صديق، والمرأة صديقة، الجمع أصدقاء، قد يقال للواحد والجمع، والمذكر والمؤنث: صديق، قال الشاعر (¬7): (من الطويل) نصبْنَ الهَوى ثُمَّ اِرتَمَينَ قُلوبنا ... بأعين أعداءِ وَهن صَديق ومن هنا اختلس أبو نواس معناه في قوله (¬8): (من الطويل) ¬

(¬1) شعر النمر بن تولب، ص 126 (ما نسب للنمر وغيره من الشعراء) والرواية فيه: تمزقن عن بلىً. (¬2) ديوان لبيد، ص 82، وفيه ـ تغيَّر جفنه، والقين: الحداد. (¬3) للنسابة الحلبي: الأشرف بن الأعز، الوافي بالوفيات، ص 7058/ (م). (¬4) ديوان سقط الزند، ص 133 ـ 134 (¬5) ديوانه / (م) (¬6) ديوانه / (م) (¬7) لنصيب بن رباح، ديوانه / (م). (¬8) ديوانه، ص 394

إِذا امتَحَنَ الدُنيا لَبيبٌ تَكَشَّفَت ... لَهُ عَن عَدوٍّ في ثِيابِ صَديقِ مشتكى: مصدر اشتكى يشتكي، والحزن: خلاف السرور، والأنيس: فعيل من الأنس، ومنتهى: مصدر انتهى الشيء إذا بلغ الغاية، قال تعالى: [وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى] (¬1)، وقال ابن دريد: وكل شيء بلغ الحد انتهى، الجذل، بالذال المعجمة: ضد الحزن. الإعراب: فلا صديق: هذه لا التي لنفي الجنس، إليه: جار ومجرور، مشتكى: مصدرية موضع رفع على الابتداء، ولم يظهر الإعراب/ لأنه مقصور، حزني: مضاف والياء [13 ب] التي هي الضمير للمتكلم في موضع جر، ومشتكى مضاف إلى الحزن، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع نصب على أنه صفة لاسم لا، كان التقدير: فلا صديق سامعا شكوى حزني إليه موجود، والنصف الثاني إعرابه إعراب الأول. المعنى: ما أجد صديقا يكون مشتكى حزني، ولا أرى أنيسا يكون منتهى فرحي، وهذه حالة تشق على مَن تلبس بها، ألا ترى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَّا هاجر من مكة، ما خرج منها إلاّ وأبو بكر رضي الله عنه معه؛ ليكون له أنيسا من الوحدة، ورفيقا في الغربة، يركن إليه في المشورة، ويركن به إذا خلا، وكذلك كان معه في الغار، وموسى عليه السلام لمَّا أمره الله تعالى بالرسالة إلى فرعون سأل ربه أن يكون معه أخوه، قال: [وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي] (¬2) الآية، وقال عليه السلام: إذا أراد الله بملك خيرا قيّض له وزيرا صالحا، إنْ نسي ذكّره، وإنْ نوى خيرا أعانه، وإنْ أراد شرّا كفّه عنه، وكان أنو شروان يقول: لا يستغني أجود السيوف عن الصقل، ولا أكرم الدواب عن السوط، ولا أعلم الملوك عن الوزير، ولو لم يكن في الصاحب والوزير إلاّ المشورة؛ لكان كافيا، قال تعالى لنبيه سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ] (¬3)، قال الشاعر (¬4): (من الطويل) إذا عنَّ أمرٌ فَاستَشِر لكَ صاحِباً ... وإنْ كنتَ ذا رأي تشيرُ على الصحبِ فإني رأيت العينَ تجهل نفسها ... وتدركُ ما قدْ حلَّ في موضع الشهب وقال الأرجاني (¬5): (من البسيط) شاوِرْ سِواكَ إذا نابَتْكَ نائبةٌ ... يوماً وإن كنتَ من أهلِ المشوراتِ فالعَيْنُ تَلْقى كِفاحاً ما نأى ودنا ... ولا تَرى نَفْسَها إلا بمِرآة ¬

(¬1) النجم 42 (¬2) طه 29، 30 (¬3) آل عمران 109 (¬4) لم أتمكن من معرفة قائله، والبيتان في الغيث المسجم 1/ 153. (¬5) ديوانه 1/ 246 ـ 247

واعلم / أنَّ طلبَ الصاحب أمر مقصود عند العقلاء؛ لأنه لا بدّ من خلٍّ تسكن إليه [14 أ] فتشكو إليه حزنك، وتنتصر به على مَن ظلمك، وتتخذه عونا على مآربك، وكان الكندي يقول: الصديق إنسان هو أنت، وفي المثل: ربَّ أخٍ لك لم تلده أمك، وقال بعض الحكماء: ينبغي للعاقل أن يتخذ صديقا ينبهه على عيوبه، فإن الإنسان لا يرى عيب نفسه، وأقل الأصدقاء حالة مَنْ تشكو إليه، ولم يكن عنده غير سماع الشكوى والإصغاء؛ لأن سماع الشكوى وبثّها، فيه تخفيف عن المكروب، والنفس تستريح إليه، ولهذا قال الشاعر (¬1): (من الطويل) ولا بدَّ من شكوى إلى ذي مروءةٍ ... يواسيك أو يسليك أو يتوجّع وإنْ يكُ منْ وصْفِ المروءةِ خالِياُ ... يرائيك أو يبكيكَ أو ليس يسمع كأن المشكو إليه إمَّا أن يواسيك في همك، وهذه الرتبة العليا، وهو الصديق الحكيم المهذب، وإمَّا أنْ يتوجع، وهذه الرتبة السفلى، وهو الصديق العاجز، فإن خلا الصديق من هذين، كان وجوده وعدمه سواء، بل عدمه خير من وجوده. ومن شواهد العربية (¬2): (من الطويل) إِذا أَنتَ لَم تَنفَع فَضُرَّ فَإِنَما ... يُرَجَّى الفَتَى كَيما يَضُرُّ ويَنفَعُ واعلم أنَّ هذا البيت، وهو قوله: ولا بدّ من شكوى، وأمثاله، يسميه أرباب البديع صحة التقسيم، وأوردوا فيه قول الآخر (¬3)، وهو في غاية الرقة: (من الطويل) سريت إليه والظلام كأنه ... صريع كرىً والنجم في الأفق شاهد فلو أن روحي مازجت ثَمَّ روحه ... لقلت ادن مني أيها المتباعد ومن هذه المادة قول ابن سناء الملك (¬4): (من الكامل) لَوْ جُدْت لي بالنَّفْس منك لقلتُ من ... شَرَهِ المحبَّة إِنَّهُ لَبخيلُ والكل أخذوا / من ابن الرومي (¬5)؛ للأنه قال فأطاب، وإن طال: (من الطويل) ... [14 ب] أعانقه والنفسُ بعدُ مشوقةٌ ... إليه وهل بعد العناق تداني فألثمُ فاه كي تموت حرارتي ... فيشتد ما ألقى من الهيمان ولم يك مقدار الذي بي من الجوى ... ليَشْفِيَهُ ما ترشُفُ الشَّفَتانِ كأنَّ فؤادي ليس يَشْفي غليلَه ... سوى أنْ يرى الروحَيْن يمتزجان ¬

(¬1) نسب البيت الأول لكل من بشار بن برد، وابن نباتة المصري، وهو في ديوانيهما (م)، أما البيت الثاني فلم أقف على قائله. (¬2) للنابغة الجعدي، ديوانه / (م). (¬3) ذكره ابن أبي حجلة في ديز\وان الصبابة، ص 448، ولم يذكر قائله. (¬4) ديوانه (م) (¬5) ابن الرومي، ص 71

طال اغترابي حتى حن راحلتي ... ورحلها وقرى العسالة الذبل

وقوله: ولا بدَّ من شكوى، اعلم أنّ العاقل من كتم أمره، ولم يشك لأحد، عملا بقول الأول (¬1): (من الكامل) لا تظهرن لعاذل أو عاذر ... حاليك في السراء والضراء فلرحمة المتوجعين حرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء وقال أبو الطيب (¬2): (من البسيط) وَلا تَشَكَّ إِلى خَلقٍ فَتُشمِتَهُ ... شَكوى الجَريحِ إِلى العِقْبانِ وَالرَّخَمِ عاد الكلام إلى بيت الناظم، ولعمري في بلد بهذه المثابة، لا المثوبة، فحقه أن يفارقها، ولهذا قال أبو الطيب (¬3): (من البسيط) شَرُّ البِلادِ بلادٌ لا أنيسَ بها ... وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإِنسانُ ما يَصِمُ وأين هذه البلدة التي وصفها الطغرائي من البلدة التي وصفها الحريري (¬4): (من الطويل) وجَدْتُ بها ما يمْلأ العَينَ قُرّةً ... ويُسْلي عنِ الأوطانِ كلّ غَريبٍ وأين هؤلاء القوم الذين عاصرهم الطغرائي، وعاشرهم من آل المهلب الذين وصفهم الشاعر (¬5): (من الطويل) نَزَلتُ عَلى آلِ المُهَلَّب شاتياً ... غَريباً عَنِ الأَوطانِ في زَمَنِ المحلِ فَما زالَ بي إِحسانُهم وجميلهم ... وَبِرُّهُمُ حَتّى حَسِبتهمُ أَهلي وزاد القاضي الرشيد بن الزبير (¬6)، فقال: (من الطويل) ولما نزلنا في ظلال بيوتهم ... أمنا ونلنا الخصب في زمنٍ محل ولو لم يزد إحسانهم وجميلهم ... على البر من أهلي حسبتهم أهلي /طالَ اغترابيَ حتى حنَّ راحلتي ... ورحُلها وقرَى العَسَّالةِ الذُّبلِ ... [15 أ] اللغة: الاغتراب: افتعال، من الغربة، تغرّب واغترب بمعنى، فهو غريب، يقال: اغترب فلان إذا تزوج غير أقاربه، وفي الحديث: اغتربوا لا تضووا، معناه تزوجوا الأباعد، دون الأقارب لئلا يحصل الحياء من القرابة، فيجيء الولد ضئيلا نحيفا؛ لعدم التمكن من الزوجة. قلت: واستشهد له السهيلي في الروضة بقول الشاعر (¬7): (من الرجز) ¬

(¬1) تسب البيتان في الوافي بالوفيات، ص 1646/ (م) لأبي علي بن الشبل، وكذا في فوات الوفيات 3/ 340 (¬2) ديوانه 2 262 (¬3) ديوانه 2/ 84 (¬4) البيت في مقامات الحريري، المقامة الحرامية، ص 424، وفيها: رأيت بها , (¬5) لأبي الهندي، ديوانه / (م). (¬6) البيتان في الوافي بالوفيات، ص 5324/ (م) (¬7) لجرير، ديوانه، ص 403.

إِنَّ بِلالاً لَم تَشِنهُ أُمُّهُ ... لَم يَتَناسَب خالُهُ وَعَمُّهُ وبقول الآخر (¬1): (من الطويل) فتًى لم تلِدْه بنتُ عمّ قريبة ... فيضْوى وقد يَضوى رديدُ القرائبِ انتهى. وقد أنشدني في هذا المعنى الشيخ العلامة جمال الدين الشيرازي في سنة ستين بالقاهرة لبعض أهل اليمن (¬2): (من الخفيف) إن أَرَدْتَ الإنجابَ فانكِحْ غَريباً ... وإلى الأقربينَ لا تَتَوسّلْ فانتقاء الثِّمارِ طيباً وحُسناً ... ثَمرٌ غصنُهُ غريبٌ مُوَصّلْ قوله: حنَّ: حنين الناقة صوتها في نزاعها إلى ولدها، والحنين في الآدمي الشوق، الراحلة: الناقة التي تصلح أنْ ترحل، أي يُوضع عليها الرحل، والرحل معروف، وقَرَى: القارية من السنان أعلاه، والعسّالة: الرِّماح، واحدها عَسَّال، عسل الرمح: اهتز واضطرب، الذبل: جمع ذابل، وهو من صفات الرمح، فالذبل صفة بعد أخرى، كأنه يصف الرماح بالخفة والرقة. الإعراب: طال: فعل ماضٍ، اغترابي: فاعله، ولم يظهر فيه الرفع؛ لإضافته إلى ضمير المتكلم، وحتى هنا بمعنى إلى أن، فهي هنا دخلت على جملة فعلية، حنَّ: فعل ماضٍ أصله حنن، فاجتمع مثلان، سكن أحدهما فأدغم في الآخر، وحذف / تاء التأنيث ضرورة [15 ب] كما قال الشاعر (¬3): (من المتقارب) فلا مُزْنةٌَ وَدَقَتْ وَدْقَها ... ولا أَرْضَ أَبْقَلَ إبقالَها كان ينبغي أن يقول: أبقلت؛ لأن الأرض مؤنثة، ولكن اضطره الوزن إلى ذلك فعنى بالأرض المكان، وهو مذكر، وكذلك الطغرائي، عنى بالراحلة الجمل، وهو مذكر، راحلتي: فاعل حنَّ، والضمة مقدرة على التاء؛ لاتصالها بضمير المتكلم، ورحلها: الواو عاطفة، ورحلها معطوف، وهو في موضع جر بالإضافة، وقَرَى كذلك، وهو مرفوع، ولكن لم يظهر الرفع؛ لأنه مقصور، العسَّالة: مجرور بالإضافة إلى قَرَى، والذبل: مجرور على أنه صفة لمجرور، وهو العسَّالة. المعنى: طال اغترابي، وامتدّ سفري إلى أنْ حنَّت راحلتي، وحنَّ رحلها، وحنَّتْ أعالي رماحي إلى الدّعة والسكون والاستقرار، قال عليه السلام: السَّفر قطعة من العذاب، فإذا ¬

(¬1) أورد الخالديان البيت في الأشباه والنظائر، ص 328/ (م) بلا عزو، وكذا في الإمتاع والمؤانسة، ص 1/ 94، والبرصان والعرجان، ص 24. (¬2) للباخرزي، ديوانه / (م). (¬3) لعامر بن جوين الطائي، الكامل 2/ 379، 3/ 91خزانة الأدب 1/ 45

قضى أحدكم نهمته فليعجل الرجوع إلى أهله، ومما يؤكد مشقة الغربة قوله عليه السلام: موت الغربة شهادة، لأنه حصل له ما حصل للقتيل في سبيل الله عزَّ وجلَّ، والمبطون والمطعون، والغريق والميت عشقا، والميتة في الطلق. قلت: ثم اعلم أنَّ الميت على أربعة أقسام: شهيد الدنيا والآخرة، وليس شهيد فيهما، وشهيد في الدنيا دون الآخرة، وعكسه، فالأول مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، والثاني مَنْ مات حتف أنفه، وشهيد في الدنيا دون الآخرة مَنْ قُتل رياءً وسمعة؛ فيجري عليه في الدنيا أحكام الشُّهداء مِنْ عدم غسله، والصلاة عليه، وفي الآخرة لا يكون مع المخلصين، وعكسه المبطون، والغريق، والغريب، ومن ذكر / آنفا، ففي الدنيا لا نعطيه حكم [16 أ] الشهداء، بل هو في الآخرة مع الشهداء، واعلم أنَّ الميت عشقا ليس للفقهاء دليل على أنه شهيد إلاّ حديث: مَنْ عشِق فعفَّ (¬1)، وقد رواه الدارمي في جزئه، وفي طريقه سويد بن سعيد الحدثاني، وهو من شيوخ مسلم، إلاّ أنَّ يحيى بن معين ضعَّفه، وقال فيه: لو ملكت فرسا ورُمحا لقاتلته بسبب هذا الحديث. قال الشارح: ورأيت بعض الناس إنما سُمِّي نور الدين الشهيد؛ لأنه أحبَّ مملوكا، وعفَّ عنه؛ فأكمده الحب؛ فقتله: (من الطويل) خليليَّ هل خُبِّرتُما أوْ سمعْتُما ... بأنَّ قتيلَ الغانياتِ شهيدُ (¬2) وقد استعار الناظم الحنين للرحل، كما استعاره لصدور الأسنة من الرماح؛ طلبا للمبالغة، لأنه إذا كانت الأشياء التي لا تعقل، ولا تدرك، حصل منها الحنين، فالعاقل المدرك بطريق أولى، كما قال أبو الطيب (¬3): (من الطويل) يُخَيَّلُ لي أَنَّ البِلادَ مَسامِعي ... وَأَنِّيَ فيها ما تَقولُ العَواذِلُ معناه أنّ العاذل ما له كلمة مستقرّة في أذن المحب، قد كان الناظم من كثرة الأسفار كما قال الشاعر (¬4): (من البسيط) كَريشَةٍ بِمَهَبِّ الريحِ ساقِطَةٍ ... لا تَستَقِرُّ عَلى حالٍ مِنَ القَلَقِ وقال ابن اللبانة (¬5): (من البسيط) كأنما الأرض عني غير راضية ... فليس لي وطن فيها ولا وطر وبالغ شهاب الدين المناوي في قوله (¬6): (من البسيط) ¬

(¬1) وتمامه: من عشق فعف فكتم فمات فهو شهيد (¬2) ذكر ابن أبي حجلة هذا البيت في ديوان الصبابة، ص 564/ (م)، بلا عزو، وكذا السيوطي في كتابه الأزهار فيما عقده الشعراء من الأحاديث والآثار، ص 72/ (م). (¬3) ديوانه 1/ 78 (¬4) للمتنبي، ديوانه 1/ 275 (¬5) ديوانه / (م) (¬6) البيتان في الغيث المسجم 1/ 170

وضج من لغب نضوي وعج لما ... يلقى ركابي ولج الركب في عذلي

إنْ عشتُ عشتُ بِلا أهلٍ ولا وطَنً وإنْ قضيتُ فلا قبرٌ ولا كفنُ أظنُّ قبري بطونَ الوحشِ ترحلُبي بعدَ المماتِ ففي الحالينِ لي ظَعَنُ قال الحافظ أبو عبد الله محمد الحميدي (¬1): مَنْ تختَّم بالعقيق، وقرأ لأبي عمرو، وتفقه للشافعي، وحفظ قصيدة ابن زريق، استكمل الظرف. قال الشارح: وبعضهم قال: ولبس البياض. فائدة: / طال اغترابي، أذكرني سؤالا في قول الحريري في أول المقامة الأولى: [16 ب] لمَّا قعدت غارب الاغتراب، وهو أن قعد قاصر، لا يتعدى، فكيف أعاد بالتاء والجواب (¬2). وضَجَّ من لَغَبٍ نضوي وعجَّ لما ... يلقَى رِكابي ولجَّ الركبُ في عَذَلي اللغة: الضجيج: الصياح، واللغب، بالغين المعجمة: وهو اللغوب، وهو الإعياء والتعب، قال تعالى: [وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ] (¬3) أي تعب، ولا إعياء، وهو ردٌّ على اليهود، لأنّهم قالوا: إنّ الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثمّ استراح في يوم السبت، فكذَبهم الله تعالى بذلك، والنضو: البعير المهزول، والناقة نضوة، والعجيج: رفع الصوت، وفي الحديث: "أفضل الحج العج والثجّ" (¬4)، والركاب: الإبل التي يُسار عليها، واللجاج مصدر لجِجت بالكسر تَلج بالفتح، فهي لجوج، والركب: أصحاب الإبل في السفر، دون الدواب، وهم العشرة فما فوقها، والجمع أَركُب، قاله الجوهري، والعَذَل: بالتحريك الاسم، وبالسكون المصدر، وهو الملامة. الإعراب: ضجَّ: فعل ماضٍ، أصله ضجج، فاجتمع المثلان، فسكن أحدهما، وأدغم في الثاني، من لغبٍ: جار ومجرور في موضع النصب مع أنه مفعول لأجله، والمفعول لأجله هو الباعث على إيجاد الفعل، فاللغب هنا هو الباعث على الضجيج، نضوي: فاعل ضجَّ، وقد تقدم المفعول له عليه، وهو جائز، ولم يظهر الرفع في الفاعل لإضافته إلى ضمير المتكلم، وعجّ: مثل ضجَّ، ولِما: جار ومجرور، وما اسم ناقص في موضع جر، يلقى: فعل مضارع في موضع نصب (¬5)، عارٍ عن الناصب والجازم، ولم يظهر الرفع فيه؛ لأنه معتل الطرف بالألف، فالضمة مقدرة في آخره، وهذه الجملة من الجار والمجرور، والصلة / والعائد في موضع النصب على أنه مفعول لأجله، ولجَّ: فعل ماضٍ كما تقدّم في [17 أ] ¬

(¬1) كتب اسم هذا العلم في المخطوطة: أبو محمد عبد الله الحميدي، والصحيح ما أثبتناه، فهو: المحدث الإمام أبو عبد الله محمد بن فتوح الحميدي، صاحب كتاب: جذوة المقتبس في علماء الأندلس، وقد ترجم له ابن سعيد في المغرب في حلى المغرب (¬2) كتب في الهامش: الحريري إنما قال: لما اقتعدت غارب الاغتراب، أي اتّخذه قعيدة، والغارب الكاهل، وهو مقدم ظهر الدابة، استعاره للاغتراب، وهو التغرب عن الوطن. (¬3) ق 38 (¬4) كتب في الهامش: العج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: اهراق دم الهدي. (¬5) كتبت: في موضع رفع لا.، وما أثبتناه من الغيث المسجم 1/ 183

نظيره، والركب: فاعله، في عَذَلي: جار ومجرور في موضع النصب؛ لتعلقه بلجَّ، كأنه قال: أسرع الركب عذلي وأعجلوا. المعنى: هذا البيت كالذي قبله، أخذ يُعدد مشاقه، ويُكررها، حتى أنَّ النوق تصيح من تحته، والإبل ترفع أصواتها، والرفاق يلومونه ويعذلونه على مواصلة الأسفار، ومحاولة الأخطار، وفي قوله: وضجَّ من لغب نضوي غنية عن أن يقول فيما بعد وعجّ لما ألقى ركابي؛ لأن المعنى واحد، فكل منهما يغني عن ذكر الآخر، فإنّ ضجيج النوق هو عجيج الركاب، وقد عيب على أبي الطيب قوله (¬1): (من المنسرح) وَأَنكَ بِالأَمسِ كُنتَ مُحتَلِماً ... شَيخَ مَعَدٍّ وَأَنتَ أَمرَدُها إذ كان في محتلما ما يغني عن قوله أمردها، أو يُكتفى بقوله وأنت أمردها عن ذكر محتلما، وكذلك قول أبي الطيب أيضا (¬2): (من الوافر) وَلَم أَرَ مِثلَ جِيراني وَمِثلي ... لِمِثلي عِندَ مِثلِهِمِ مُقامُ وكذا قوله (¬3): (من الطويل) فَقَلقَلتُ بِالهَمِّ ............. البيت وقال الأصمعي لمن أنشده (¬4): (من لطويل) فما للنّوَى، جَدَّ النّوى، قَطعَ النّوى ... كذاك النّوى قطّاعةٌ لوِصالِ لو سلّط الله على هذا البيت شاة لأكلت هذا النوى، قال: وأمَّا قول أبي نواس (¬5): (من الطويل) أَقَمنا بِها يَوماً وَيَوماً وَثالِثاً ... وَيَوماً لَهُ يَومُ التَرَحُّلِ خامِسُ فقال ابن الأثير في المثل (¬6): مراده بذلك أنهم أقاموا أربعة أيام، ويا عجبا له يأتي بمثل هذا البيت السخيف، على العي الفاحش. قال الشارح: وأبو نواس أجل قدرا من أن يأتي بمثل هذه العبارة لغير معنى طائل، بل المفهوم من البيت أنه أقام سبعة أيام، لأنه قال ثالثا، ويوم آخر له اليوم الذي رحلنا / فيه خامس، وابن الأثير لو أمعن في النظر في هذا لما قال ما قال. ... [17 ب] قلت: وقد قال في هذا البيت كما قال ابن الأثير الشيخ أثير الدين أبو حيان، فإنه في شرح التسهيل في باب أخر أنه أراد أنه أقام أربعة أيام، انتهى، ويحتمل أيضا أنه أراد ¬

(¬1) ديوانه 1/ 53 (¬2) ديوانه 1/ 146 (¬3) ديوان المتنبي 1/ 78، تمامه: " ... الذي قلقل الحشا ... قلاقل همٍّ كلهن قلاقل" (¬4) البيت في الغيث المسجم 1/ 184، وفي يتيمة الدهر1/ 165، بلا عزو لقائل. (¬5) ديوانه، ص 300. (¬6) يعني كتابه: المثل السائر.

تسعة أيام، كأنه قال: أقمنا يوما ويوما، أي ثلاثة ويوما واعلم أنّ بعض الشعراء رزقه الله حظا في شعره، كما قال: ما من شاعر في الغالب إلاّ وعارض الشريف الرضي في القصيدة التي أولها (¬1): (من البسيط) يا ظَبيَةَ البانِ تَرعى في خَمائِلِهِ ... لِيَهنَكِ اليَومَ أَنَّ القَلبَ مَرعاكِ وما منهم من رزق مُساعدةً. قال الشارح: والذين رزقوا السعادة في أشياء لم يأت بعدهم مَن نالها جماعة لا بأس بسردهم هنا، وهم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه في النسب، فإنه فرد زمانه، وعلي رضي الله عنه في القضاء، وأبو عبيدة رضي الله عنه في الأمانة، وأبو ذرّ في الصدق، أُبي في القرآن، زيد رضي الله عنه في الفرائض، ابن عباس رضي الله عنه في التفسير، الحسن البصري في التذكير، وهب (¬2) في القصص، ابن سيرين في التعبير، نافع في القراءات، أبو حنيفة في الفقه قياسا، ابن إسحاق في المغازي، مقاتل في التأويل، الكلبي في قصص القرأن، ابن الكلبي الصغير في النسب، أبو الحسن المدائني في الأخبار، أبو عبيدة في الشعوبية، محمد بن جرير الطبري في علوم الأثر، الخليل في العروض، فضيل بن عياض في العبادة، مالك في العلم، الشافعي في فقه الحديث، أبو عبيدة في الغريب، علي بن المديني في علل الحديث، يحيى بن معين في الرجال، أحمد بن حنبل في السنة / البخاري في نقد الصحيح، الجنيد في التصوف (¬3)، الأشعري في الكلام، [18 أ] الطبراني (¬4) في العوالي، عبد الرزاق في ارتحال الناس إليه، ابن منده في سعة الرحلة، الخطيب (¬5) في سرعة القراءة، ابن حزم في الظاهرية، سيبويه في النحو، أبو الحسن البكري في الصدق (¬6)، إياس في التفرس، عبد الحميد في الكتابة والفاء، أبو مسلم الخرساني في علو الهمة والحزم، الموصلي النديم في الغناء، صاحب الأغاني في المحاضرة، أبو معشر في النجوم، الرازي في الطب، عمارة (¬7) في التيه، الفضل بن يحيى في الجود، جعفر بن يحيى في التوقيع، ابن زيدون في سعة العبارة، ابن القرية في البلاغة، الجاحظ في الأدب والبيان، الحريري في المقامات، البديع الهمداني في الحفظ، أبو نواس في المجون والخلاعة، ابن حجاج في سخف الألفاظ، المتنبي في الحكم والأمثال شعرا، الزمخشري في تعاطي العربية، النسفي في الجدل، جرير في الهجاء الخبيث، حماد الراوية في شعر العرب، معاوية في ¬

(¬1) ديوانه / (م) (¬2) يعني وهب بن منبه .. (¬3) أغفل ذكر محمد بن نصر المروزي في الاختلاف، الجبائي في الاعتزال، الغيث المسجم 1/ 192ـ 193 (¬4) المكتوب: الطبري، والصواب أبو القاسم الطبراني، كما في الغيث المسجم 1/ 193 (¬5) أبو بكر بن الخطيب، كما في الغيث المسجم 1/ 193 (¬6) كتبت في الكذب، وما أثبتناه من الغيث المسجم 1/ 193 (¬7) عمارة بن حمزة، كما في الغيث المسجم 1/ 193

أريد بسطة كف أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلى قبلي

الحلم، المأمون في حب العفو، عمرو بن العاص في الدهاء، الوليد في شرب الخمر، أبو موسى الأشعري في سلامة الباطن، عطاء السلمي في الخوف من الله، ابن البواب في الكتابة، القاضي الفاضل في الترسل، العماد الكاتب في الجناس، ابن الجوزي في الوعظ، أشعب في الطمع، الفارابي في نقل كلام القدماء ومعرفته وتفسيره، حنين بن إسحاق في ترجمة اليوناني إلى العربي، ثابت بن قرة الصابي في تهذيب ما نقل من الرياضي إلى العربي، ابن سينا في الفلسفة، الإمام فخر الدين (¬1) في الاطلاع على العلوم، السيف الآمدي في التحقيق، النصير الطوسي في المجسطي،، ابن الهيثم في الرياضي (¬2)، الكاتبي (¬3) في المنطق، أبو العلاء المعري / في الاطلاع على اللغة، أبو العيناء في الأجوبة المسكِّتة [18 ب] مزيد في البخل، القاضي أحمد بن أبي دؤاد في المروءة وحسن التقاضي، ابن المعتز في التشبيه، ابن الرومي في التطيُّر، الصولي في الشطرنج، الغزالي في الجمع بين المعقول والمنقول، أبو الوليد بن رشد في تلخيص كتب الأقدمين الفلسفية والطبية، محيي الدين بن عربي في التصوّف.، أُريدُ بسطةَ كَفٍ أستعينُ بها ... على قضاءِ حُقوقٍ للعُلَى قِبَلي اللغة: الإرادة: المشيئة، البسط: السعة، ومنه قوله تعالى: [وَزَادَهُ بَسْطَةً] (¬4) والكف: معروف، أستعين: أصله أستعون، ومعناه أطلب، والقضاء: الحكم، وقضى ربك، أي حكم، وقد يكون بمعنى الفراغ، وقد يكون بمعنى الأداء والانتهاء، تقول: قضيت دَينِي، هذا المعنى هو المراد هنا، والحقوق: جمع حق، وهو خلاف الباطل، والمراد به هنا ما يلزم ذمة الإنسان من المروءة في الجود، وما أشبهه، العلى: هو الرفعة والشأن والشرف، والجمع المعالي، فإذا فتحت العين مددت، فقلت: العَلاء، وإذا ضممتها قلت: العُلى، والقبل: الطاقة، ما لي به قبل، أي طاقة. الإعراب: أريد: فعل مضارع، ماضيه أرادَ، وهو مرفوع؛ لخلوه من الناصب والجازم، بسطة: مفعول به، فلهذا نصبه، كف: مضاف إليه، أستعين: فعل مضارع مرفوع؛ لخلوه من الناصب والجازم، كما تقدم، وأصله أستعون من العون، فاستُثقِلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى العين، ثم قلبت ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها، وموضعه النصب، إمَّا على الحال، أو على أنه مفعول لأجله، أو على الصفة لبسطة، بها: جار ومجرور، على ¬

(¬1) الفخر الرازي، كما في الغيث المسجم 1/ 193 (¬2) في العلم الرياضي، كما في الغيث المسجم 1/ 193 (¬3) نجم الدين الكاتب،، كما في الغيث المسجم 1/ 193 (¬4) البقرة 247

قضاء حقوق: جار ومجرور، ومضاف إليه، للعلى: جار ومجرور، ولم يظهر الجر فيه؛ لأنه مقصور، واللام هاهنا لشبه المِلك، وهي أحد معاني / اللام، قبلي: [19 ب] منصوب بنزع الخافض على أنه ظرف مكان، يعني كأنه قال: على قضاء حقوق للعُلى في طوقي وسعيي، وما أقدر على الإتيان به. المعنى: أحاول من الزمان بسطة كف من المال المتَّسع لأجل الإعانة على وفاء حقوق استقرّت في ذمتي للعلى، وكنَّى عن الغني ببسطة الكف؛ لأن الغني يبسط كفه بالنفقة، وكل منفق باسط كفه، وما زال الإنفاق يُسمى بسطا، والإمساك قبضا، قال الله تعالى: [وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ] (¬1)، وقال تعالى: [وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ] (¬2). سؤال: إن قيل ما الفائدة في تثنية اليد هنا، الجواب: إنْ فسّرنا اليد بالنعمة فالمراد نعمة الدنيا والدين، أو الباطنة والظاهرة، أو ما يتعلق بالدنيا والآخرة إن أردنا القوة، فالمراد الاقتدار على الموت والحياة، أو الخذلان والنصر، أو الغنى والفقر، وما أشبه ذلك، فعلى كل تقدير من التفسير يداه مبسوطتان، ينفق كيف يشاء، أي يتمكن من إعطاء الدنيا والدين والأمانة والإحياء والإسعاد أو الإشقاء، ردا على اليهود فيما زعموا. حُكي أنَّ بعضهم كان من المسرفين على أنفسهم، فلمَّا توفي رآه مَن كان يعلم حال باطنه، فقال له: ما فعل الله بك، قال: غفر لي، قال: بمَاذا، قال: كنت إذا تلوت هذه الآية قلت: غُلَّت أيديهم، وأطلت التشديد في اللام، كالمتشفي بهم، انتهى. رجعنا إلى معنى البيت، قال عليه السلام: اللهم أعط كل منفق خلفا، وكل ممسك تلفا، وما ظلم الناضم في طلب المال لإنفاقه فيما يكتسب من المحامد، ويقيم به الأمور، قال عليه السلام: نعم المال الصالح مع العبد الصالح، وقال الحسن رضي الله عنه: إذا أردت أن تعرف مِن أين أصاب الرجل ماله فانظر فيما ينفقه، فإن الخبيث يُنفق في السرف، وقال أبو ذرٍّ: أموال الناس تشبه الناس، وروي عنه عليه السلام [أنه] (¬3) كان يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم، ويأمر الفقراء باتخاذ الدجاج، وفي المثل: مال المرء موئله، وقوَّته قُوته (¬4)، قال بعضهم: لا أدري أيهما أمر، موت الغني، أو حياة الفقير. قال الشاعر (¬5): (من الطويل) وما رفعَ النفسَ الدَّنيةَ كالغنى ولا وضعَ النفسَ الشريفةَ كالفقر ¬

(¬1) المائدة 64 (¬2) الإسراء 29 (¬3) زيادة من الغيث المسجم 1/ 220 (¬4) الذي كتب: وفي المثل المرء حوله وقوته، وما أثبتناه من الغيث المسجم 1/ 220 (¬5) البيت في الغيث المسجم 1/ 220، بلا عزو.

وقال ابن المعتز (¬1): (من المتقارب) إِذا كُنتَ ذا ثَروَةٍ في الورى ... فَأَنتَ المُسَوَّدُ في العالَمِ وَحَسبُكَ مِن نَسَبٍ صورَةٌ ... تُخَبِّرُ أَنَّكَ مِن آدَمِ وما يبعد أنّ الطغرائي رحمه الله كان ذا نفس شريفة سخيّة، وهمة عالية، يؤثر المال؛ لينفقه في مصارفه. ومن شعر الناظم (¬2) رحمه الله تعالى: (من الطويل) سأحجُبُ عنّي أُسرتي عند عسرتي ... وأبرز فيهم إِنْ أصبت ثراءَ ولي أُسوةٌ بالبدر يُنفق نورَه ... فيخفَى إِلى أن يستجدَّ ضياءَ وهذه نفوس الأشراف، تظهر عند الثروة، طلبا للإنفاق، وتخفى عند الفقر، طلبا لكتمان حالها، فلا يكلف الناس سؤالا. ولمّا أنشد الغزالي البيت المشهور (¬3): (من الكامل) خلتِ الديار فسدتُ غير مُسَوَّدِ ... ومن الشقاء تفَرُّدي بالسؤدَدِ قلت: وهذا البيت أنشده المستظهري (¬4) لمَّا ولي تدريس النظامية، وهو لسفيان الثوري، وعلم أنه لم يترفع إنما أراد أنه / تفرد بالسؤدد على زعمهم، وقولهم، فخاطبهم على ما [20 أ] في نفوسهم، قال الرافعي: سمعت الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد بن القاضي الحسين يقول: أتى القاضي رحمه الله رجلٌ فقال: حلفت بالطلاق أنه ليس أحد في الفقه والعلم مثلك، فأطرق رأسه ساعة ثم قال: هكذا فعل موت الرجال، لا يقع طلاقك، وقول الطغرائي: وأبرز فيهم إن أصبت ثراءً من قول الآخر، وهو أبو تمام (¬5): (من البسيط) إِنَّ الكِرامَ إِذا ما أَسهَلوا ذَكَروا ... مَن كانَ يَألَفُهُم في المَنزِلِ الخَشِنِ ¬

(¬1) ديوانه، ص 414 (¬2) ديوان الطغرائي، ص 41 (¬3) لحارثة بن بدر الغداني، ديوانه / (م). (¬4) المستظهري: أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي الأصل الفارقي المولد، المعروف بالمستظهري، الملقب فخر الإسلام الفقيه الشافعي، كان فقيه وقته، تفقه أولا بميافارقين على أبي عبد الله محمد بن بيان الكازروني، وعلى القاضي أبي منصور الطوسي، ثم رحل إلى بغداد، وانتهت إليه رياسة الطائفة الشافعية. وصنف تصانيف حسنة، من ذلك كتاب حلية العلماء في المذهب، وذكر فيه مذهب الشافعي، ثم ضم إلى كل مسألة اختلاف الأئمة فيها، وجمع من ذلك شيئا كثيرا وسماه المستظهري لأنه صنفه للإمام المستظهر بالله، وصنف أيضا في الخلاف. وتولى التدريس بالمدرسة النظامية بمدينة بغداد، سنة أربع وخمسمائة إلى حين وفاته، وكانت ولادته في المحرم سنة تسع وعشرين وأربعمائة بميافارقين. وتوفي في يوم السبت خامس عشري شوال سنة سبع وخمسمائة ببغداد، ودفن في مقبرة باب أبرز، مع شيخه أبي إسحاق في قبر واحد، وقيل دفن إلى جانبه، رحمهما الله تعالى. الوافي بالوفيات 4/ 219 ـ221 (¬5) لم أجده في المطبوع من ديوانه، وهو في ديوان كل من: دعبل الخزاعي / (م)، وإبراهيم بن العباس الصولي / (م).

حُكي أن الأمير بيليك الخازندار أحضره إلى البلاد تاجرٌ كان يُحسن إليه، وهو في رقة، فلما باعه تنقّلت به الإيام إلى ما صار إليه، وافتقر التاجر فيما بعد، فحضر إليه إلى الديار المصرية، وكتب إليه رقعة فيها: كنَّا جميعَيْنِ في بؤسٍ نكابدُهُ ... والقلب والطَّرف منَّا في أَذًى وقَذَى (¬1) والآنَ أَقبلَتِ الدُّنيا عليكَ بما ... تهْوَى فلا تنْسَنِي "إنَّ الكرامَ إذا ... إشارة إلى البيت المتقدم، فأعطاه عشرة آلاف درهم، رحمه الله. لطيفة: قيل: أرسل المبرد غلامه، وقال له بحضرة الناس: امض فإن رأيته فلا تقل له، وإن لم تره فقل له، فذهب الغلام ورجع، وقال: لم أره، وقلت له فجاء، فلم يجئ، فسئل الغلام عن معنى ذلك فقال: أرسلني إلى غلام يهواه، فقال: إن رأيت مولاه فلا تقل له شيئا، وإن لم تر مولاه فادْعه، فذهبتُ فلم أر مولاه، فقلت له فجاء مولاه، فلم يجئ الغلام. حكي أنّ الملك الظاهر لمَّا استعرضه مولاه ليشتريه، فقال التاجر: يا خوند هو يحسن يكتب ويقرأ، فأحضرتْ له دواة وقلم وورقة، وتقدمت إليه بأن يكتب شيئا يراه فكتب: (من البسيط) لولا الضرورات ما فارقتكم أبداً ... /ولا تنقلت من ناس إلى ناس (¬2) [20 ب] فأعجبه الاستشهاد بهذا البيت ورغبه ذلك في شرائه. وحكي أنّ إنسانا رفع قصة إلى الصاحب كمال الدين بن العديم فأعجبه خطها فأمسكها وقال لرافعها هذا خطك قال لا ولكن حضرت إلى مولانا فوجدت بعض مماليكه فكتبها لي، وقال عليَّبه، فلما حضر وجده مملوكه الذي يحمل مداسه، وكان عنده في حالة غير مرضية، فقال: أهكذا خطك، قال: نعم، فقال: هذه طريقتي، مَنْ الذي وقفك عليها؟ فقال: يا مولانا، كنت إذا وقفت لأحد على قضية، أخذتها منه، وسألته المُهلَة حتى أكتب عليها سطرين، أو ثلاثة، فأمره أن يكتب بين يديه، فكتب: (من الطويل) وما تنفعُ الآدابُ والعلمُ والحجا ... وصاحبُها عندَ الكمالِ يموتُ (¬3) فكان إعجاب الصاحب بالاستشهاد أكثر من الخط. رجعنا إلى إرادة الناظم بسطة اليد، أمَّا حُبّ المال وطلبه للإنفاق فلم يزل الشعراء يتداولون معناه، قال سيد الطائفة الإمام الشافعي (¬4) ي رضي الله عنه: (من البسيط) ¬

(¬1) البيتان في الغيث المسجم 1/ 223، والوافي بالوفيات، ص 8121 / (م)، معاهد التنصيص، ص 2236 / (م)، بلا عزو. (¬2) نسب هذا البيت لمجنون ليلى، وروايته في ديوانه / (م): لَو أَنصَفَ الدَهرُ ما فارَقتُكُم أَبَدا ... وَلا تَنَقَّلتُ مِن ناسٍ إِلى ناسِ (¬3) هذا البيت نسب لكل من: ابن الوردي، وابن نباتة المصري، وشهاب الدين الخزرجي، وهو في دواوينهم / (م). (¬4) ديوانه / (م) وفيه: يا لهف نفسي على مال أفرّقه، والغيث المسجم 1/ 226

يالَهفَ قَلْبِي عَلى مالٍ ٍأّجودُ به ... عَلى المُقِلّينَ مِن أَهلِ المُروآتِ إِنَّ اِعتِذاري إِلى مَن جاءَ يَسأَلُني ... ما لَيسَ عِنديَ مِن إِحدى المُصيباتِ وقال الشافعي (¬1) رضي الله عنه أيضا: (من الوافر) أرَى نفسِي تتُوقُ إلى أمُورِ ... يُقصِّرُ دونَ مَبلَغهُنَّ مالي فلا نفسِي تطاوِعني ببخلٍ ... ولا مالي يُبلِّغُني فِعالي ولعمري ما يطلب المال إلاّ للإنفاق، وبلوغ المقاصد، كما أن السيف للذبّ والردع، والمدية للقطّ والقطع، عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه: إنما مالك لك، أو للحاجة، أو للوراثة، فلا تكن أعجز الثلاثة، قال سعيد بن المسيب: لا خير فيمن لا يكسب المال / ليكفّ به وجهه [21 أ]، ويؤدي بها أمانته، ويصل بها رحمه، ولله درّ القائل (¬2): (من الطويل) وَلا يَجمَعُ الأَموالَ إِلّا لِبَذلِها ... كَما لا يُساقُ الهَديُ إِلّا إِلى النَحرِ وقد بالغ أبو الطيب في قوله (¬3): (من البسيط) وَكُلَّما لَقِيَ الدينارُ صاحِبَهُ ... في مُلكِهِ اِفتَرَقا مِن قَبلِ يَصطَحِبا مالٌ كَأَنَّ غُرابَ البَينِ يَرقُبُهُ ... فَكُلَّما قيلَ هَذا مُجتَدٍ نَعَبا هذا البيت الأول من معاني أبي الطيب، التي يناقض أولها آخرها، لأنه قرر أولاًً أن الدينار يلقى صاحبه، ثم قال يفترقان، قبل اصطحابهما، وهذا تناقض. قلت: ليس كما زعم الشارح من التناقض؛ لأن الصحبة أخص من اللقاء، فليس كل مَن لقيته صحبته، فكأنه يقول: إذا أتاه الدينار لا يمكث عنده، بل يخرج عن قريب (¬4)، كقول الأول (¬5): (من الرمل) رَكِبَ الأَخطارَ في زَورَتِهِ ... ثُمَّ ما سَلَّمَ حَتّى وَدَّعا ولله در أبي الحسن الجزار حيث يقول (¬6): (من الطويل) إذا كان لي مال على ما أصونه؟ ... وما ساد في الدنيا من البخل دينه ومن كان يوماً ذا يسار فإنه ... خليق لعمري أن تجود يمينه ¬

(¬1) نسب هذا البيت لإسحاق الموصلي، وهو في ديوانه / (م). (¬2) لعلي بن الجهم، ديوانه / (م). (¬3) ديوانه 1/ 143 (¬4) كتب في الهامش: والاستشهاد بهذا البيت أولى: لاَ يألَفُ الدَّرْهمُ المضْرُوبُ صُرَّتَنَا ... لكِنْ يَمُرُّ عَلَيهَا وَهْوَ مُنْطَلِقُ والبيت من البسيط، وقد نسبه صاحب معاهد التنصيص، ص 379/ (م) للنضر بن جؤية. وكذا في الغيث النسجم 1/ 229 (¬5) البيت لمجنون ليلى، ديوانه/ (م). (¬6) البيتان في الكشكول، ص 855 / (م).

واعلم أن المال تارة يطلب لذاته، وهذا مذموم، نطقالقرآن الكريم بذمه، والتوعّد عليه، فمن يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله، وأي أرب في جمع المال، وعدم إنفاقه، وأي فرق بين ما يكون في الصندوق ذهبا وجوهرا، وبين أن يكون حجارة. قال أبو الطيب (¬1): (من الطويل) لِمَن تَطلُبُ الدُنيا إِذا لَم تُرِد بِها ... سُرورَ مُحِبٍّ أَو إِساءَةَ مُجرِمِ انظر رحمك الله إلى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحارثة ما قال، وهو أنّ حارثة قال: يا نبي الله أصبحت مؤمنا حقا، فقال عليه السلام: يا حارثة: إن لكل حقٍّ حقيقة، فما حقيقة / إيمانك، قال: يا رسول الله عرّيت نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي ذهبها ومدرها (¬2)، [21 أ] وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وإلى أهل الجنة في الجنة يتنعمون، وأهل النار في النار يعذبون، فقال عليه السلام: يا حارثة عرفت فالزم، سماه عارفا بسبب عرفان ما تقدم، ولو بسطنا القول على هذا الحديث لطال، ولخرجنا عن المقصود، والشارح لم يتعرض لهذا الحديث البتة. وقال الشارح: وقول الطغرائي في هذا البيت وما بعده يشبه قول أبي الطيب (¬3): (من الطويل) وَأَتعَبُ خَلقِ اللَهِ مَن زادَ هَمُّهُ ... وَقَصَّرَ عَمّا تَشتَهي النَفسُ وُجدُهُ فَلا مَجدَ في الدُنيا لِمَن قَلَّ مالُهُ ... وَلا مالَ في الدُنيا لِمَن قَلَّ مَجدُهُ وَفي الناسِ مَن يَرضى بِمَيسورِ عَيشِهِ ... وَمَركوبُهُ رِجلاهُ وَالثَوبُ جِلدُهُ وَلَكِنَّ قَلباً بَينَ جَنبَيَّ مالَهُ ... مَدىً يَنتَهي بي في مُرادٍ أَحُدُّهُ والدنيا كل أمورها غريبة، وكلها عجائب، وعلى الصحيح ما فيها عجيبة، هذا الطغرائي منشد السلطان محمد كما تقدم، وصاحب الطغراء، له يد في الكيمياء، وحل رموزها، ومع هذا يقول: أريد بسطة كف أستعين بها، ولكن الزمان حرب الفضل، وسلم الجهل، والظاهر من أثره أنه كان يعرف الكيمياء علما لا عملا، ولكن الأيام ما ساعدته إلى التمكن من عملها حتى يبرزها من القول إلى الفعل، لأنه قال (¬4): (من الطويل) ومن عجب الأشياء أني واقفٌ ... على الكنز من يظفر به فهو مبخوت وأن كنوز الأرض شرقاً ومغرباً ... مفاتحها عندي ويعجزني القوت ولولا ملوك الجور في الأرض أصبحت ... وحصباؤها درٌّ لدي وياقوت ¬

(¬1) ديوانه 2/ 224 (¬2) المَدَر، مُحرَّكة: قِطَعُ الطِّينِ اليابِس المُتَماسِك، أو الطِّينُ العِلْكُ الذي لا رَمْلَ فيه، واحدَتُه بهاءٍ. ومن المَجاز قولُ عامر بن الطُّفَيْل للنبيِّ صلّى الله عليه وسلَّم: "لنا الوَبَر ولكم المَدَر". إنّما عنى به المُدُن أو الحَضَر، لأنَّ مَبانيها إنّما هي بالمَدَر، وَعَنَى بالوَبَر الأَخْبِيَة لأنّ َبْنِية الباديةِ بالوَبَر. تاج العروس (مدر). (¬3) ديوانه 2/ 216 (¬4) لم أجدها في المطبوع من ديوانه، وهي في الغيث المسجم 1/ 230 ـ 231، وفي الوافي بالوفيات، ص 10071 / (م).

والدهر يعكس آمالي ويقنعني ... من الغنيمة بعد الكد بالقفل

/والدهرُ يعكِسُ آمالِي ويُقْنعُني ... من الغنيمةِ بعد الكَدِّ بالقَفَلِ [22 أ] اللغة: الدهر: الزمان، قال الشاعر: (من الخفيف) إِنَّ دَهراً يَلُفُّ شَملي بِليلي ... لَزَمانٌ يَهُمُّ بِالإِحسانِ (¬1) ويُجمع على دُهور، ويقال: الدهر الأبد، وقولهم: دهر داهر، أبدٌ آبد،، ودهر دهارير، أي شديد، كقولهم: ليلة ليلاء، ونهار أنهر، ويومٌ أيوم، وساعة سوعاء، وفي الحديث: لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر؛ لأنهم كانوا يضيفون النوازل إليه، فقيل لهم: لا تسبّوا فاعل ذلك بكم، فإن ذلك الفاعل هو الله، والدُّهري: الملحد، بضم الدال، وَهِمَ الشارح، فقال بفتح الدال، وهو معذور في ذلك؛ لأن الجوهري لم يذكر ذلك في بابه، إنما ذكره في .... (¬2)، والعكس: ردُّك الشيء إلى أوله، الآمال: جمع أمل، وهو الرجاء، والقناعة: الرضا بما قُسِم، والغنيمة: واحدة الغنائم، معروفة، والكدّ: الشدّة في طلب الكسب، والقفل: الرجوع من السفر، والقافلة: الرفقة الراجعة من السفر، ولا يقال لها ذلك حقيقة إلاّ إذا كانت راجعة خاصة، وقولهم لها قافلة تفاؤلاً بالرجوع، وأول من نطق بهذا المثل امرؤ القيس، فإنه قال: (من الوافر) وَقَد طَوَّفتُ في الآفاقِ (¬3) حَتّى ... رَضيتُ مِنَ الغَنيمَةِ بِالإِيابِ وقال عبيد بن الأبرص (¬4): (من الوافر) وَلَو لاقيْتُ عِلباءَ بنَ عمروٍ ... رَضِيْتُ مِنَ الغَنيمَةِ بِالإِيابِ الإعراب: والدهر: الواو للابتداء، والدهر مرفوع على أنه مبتدأ، يعكس: فعل مضارع مرفوع؛ لتجرده من الناصب والجازم، آمالي: جمع أمل، وهو منصوب بيعكس، ولم يظهر النصب فيه؛ لأنه مضاف إلى ياء المتكلم، ويقنعني: الواو عطف / الفعل على [22 ب] الفعل، من الغنيمة: جار ومجرور، بعد الكدّ: ظرف، ومخفوض به، بالقفل: جار ومجرور، فالدهر في البيت مبتدأ، وخبره يعكس، كأنه قال: الدهر عاكس آمالي، يقنعني موضعه الرفع عطفا على الخبر، والياء فيه مفعول أول، وبالقفل مفعول ثان له، ومن الغنيمة متعلق بيقنع، والجملة كلها من يقنع إلى آخره في موضع الرفع على أنه خبر معطوف على خبر المبتدأ، والبيت كله في موضع النصب على الحال لما في أريد بسطة كفٍّ في حالة ¬

(¬1) نسب هذا البيت لكل من: حسان بن ثابت، وعمر بن أبي ربيعة، وهو في ديوان حسان / (م): يلف شملي بِجُملٍ، وفي ديوان عمر، ص 163: يلف شملي بسعدي. (¬2) فراغ بمقدار كلمة، وفي ب: في س. (¬3) كتبت بالآفاق، وما أثبتناه من ديوانه، ص 43، ومن الغيث المسجم 1/ 232 (¬4) ديوانه / (م).

الدهر عاكس آمالي فيها، قال الجوهري في صحاحه (¬1): أقنعه الشيء إذا أرضاه، فعلى هذا لا يتعدّى إلى مفعول ثان، إلاّ أن يشدّد، تقول: قنّعته بالقليل من الرزق. المعنى: والدهر يعكس ما أُؤمله وأرجوه من البسطة والرفعة؛ حتى أقنع من الغنيمة بالرجوع بعد التعب والمشقة، وهذا المثل يضرب لمن مسعاه، وطال سفره، وتمنى العود إلى بلده، نعوذ بالله من هذه الحالة، كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعوّذ من طمع في غير مطمع، ومن طمع يعود إلى طبع (¬2)، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، والدهر ما زال يعكس المقاصد، ويراقب الخيبة، ويُراصد، فقد تدنو المقاصد والأماني، فتعترض الحوادث والمنون، والشعراء أكثروا من هذا المعنى، قال أبو الطيب (¬3): (من البسيط) أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني ... ما لَيسَ يَبلُغُهُ في نَفسِهِ الزَمَنُ ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ ... تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُفُنُ قلت: وصواب هذا البيت أن يُقرأ: تجري الرياح بما لا يشتهي، بالياء المثناة في أوله، والسفِن / بكسر الفاء، أي صاحب السفينة، ويخلص بذلك عن المجاز. ... [23 أ] وقال أبو الطيب (¬4): (من الطويل) أَهُمُّ بِشَيءٍ وَاللَيالي كَأَنَّها ... تُطارِدُني عَن كَونِهِ وَأُطارِدُ وقال ابن القيسراني (¬5): (من الطويل) إلى كم أسومُ الدَّهرَ غير طباعه وأصدُقُهُ عن شيمتي وهو حانثُ وأسمو مُجدَّاً في العُلى وتَحُطُّني خطوبٌ كأنَّ الدهرَ فيهنَّ عابثُ (¬6) حكى الخالديان في اختيار شعر مسلم بن الوليد أنه كان في بعض أطراف البصرة رجل يخيف السبيل، فأعيى أمره السلطان، ثم ظفر به، فأمر بقتله، وصلبه، فلما قُدِّم لذلك قال للموكل به: إن رأيت أن تتوقف عني قليلاً، وتأتيني بقرطاس ودواة أكتب شيئا في قلبي، فإذا فرغت من ذلك فشأنك وما أُمِرت به، فأجابه إلى ما سأل، ثم لمَّا كتب قال للمُوكَّل: إفعل ما بدا لك، فنظر الموكل في الرقعة فإذا فيها مكتوب: (من السريع) قالت سُليمى كم تُمَنينا ... وعدُكَ وعدُ ليس يأتينا (¬7) ¬

(¬1) الصحاح (قنع) (¬2) الذي كتب: من طمع في مطمع، ومن طمع يهذي إلى طمع، وما أثبتناه من بهجة المجالس، ص 185/ الموسوعة الشعرية، ومن الغيث المسجم 1/ 234 (¬3) ديوانه 2/ 234 ـ 235 (¬4) ديوانه 2/ 69 (¬5) لم أجدهما في المطبوع من ديوانه، وهما في الغيث المسجم 1/ 235 (¬6) البيتان في الغيث المسجم 1/ 235 (¬7) الأبيات في الغيث المسجم 1/ 236

يا قانِعاً بالدُّون من عيشهِ ... حتى متى تُصبحُ محزونا فحركت أشرس ذا مرّةٍ ... من بعد ثنتين وخمسينا إنْ كنتُ قصَّرتُ ولم أجتهدْ ... في طلب الرزق فلومينا وأيُّ بابٍ يُرتجى فتحُهُ ... وما قرعناهُ بأيدينا ما قصَّرَ السعي ولكنها ... مقادرٌ جاريةٌ فينا فرفع قصته إلى مَنْ أمر بقتله؛ فأمر بإطلاقه، وصفح عنه. خرج الوزير نظام الملك أبو الحسن علي إلى الصلاة فجلس قليلا ثم التفت إلى الحاضرين، وقال: هنا بيت شعر أريد له أولا، وهو: (من الكامل) فكأنني وكأنه وكأنها ... أمل ونيل حال بينهما القضا (¬1) وكان في الجماعة أبو القاسم مسعود بن محمد الخجندي الشافعي، فقال: أفدي حبيباً زارني مُتنكراً فبدا الوشاة له فولّى مُعرضا (¬2) / رجعنا إلى كلام الناظم، فهو يقول: إنّ الدهر يعكس مأموله، فهو دائما في [23 ب] الحضيض الأسفل عما يرومه ويختاره. قال الشارح: وقد خطر لي أن أردّ على الطغرائي ما قاله من أنّ الدهر يعكس آماله على وزن القصيدة اللامية: (من البسيط) تقولُ يعكسُ آمالي وأنتَ كما علمت في عالمٍ في التربِ مُستفلِ أمَا ترى الشمسَ تلقى عكس مقصدها ... في كل يومٍ ولولا ذاك لم تفلِ (¬3) قال: وكنتُ نظمتُ قبل هذا: (من السريع) لا يعجب المرءُ لِعكسِ المُنَى ما فكرهُ في مثل ذا نافعِ فالأنجمُ السبعُ العُلى ما نجتْ من عكسها بالفَلَكِ التاسعِ (¬4) قال الشارح: وليس عكس المقاصد عند الدهر مطّرداً، بل هو مع الأذى جار، وعلى نهج الردى سار، فإن تمنى الإنسان شرا قرَّبه، وإنْ تمنى خيرا قلّبه. وقال أبو الطيب (¬5): (من الطويل) وَأَحسَبُ أَنّي لَو هَويتُ فِراقَكُم ... لَفارَقتُكم وَالدَهرُ أَخبَثُ صاحِبِ فَيا لَيتَ ما بَيني وَبَينَ أَحِبَّتي ... مِنَ البُعدِ ما بَيني وَبَينَ المَصائِبِ وقال ابن دقيق العيد (¬6) شيخ الإسلام: (من البسيط) ¬

(¬1) للشاعر مسعود بن محمد، النجوم الزاهرة، ص 9200 / (م). (¬2) البيت في الغيث المسجم 1/ 236 (¬3) البيتان في الغيث المسجم 1/ 239 (¬4) البيتان في الغيث المسجم 1/ 239 (¬5) ديوانه 1/ 267 (¬6) ديوانه / (م).

وذي شطاط كصدر الرمح معتقل ... بمثله غير هياب ولا وكل

الحمدُ لله كَمْ أسْمُو بِعزميَ فِي ... نَيْل العُلاَ وَقَضاءُ الله ينْكسُه كَأَنَّني البَدْرُ يبغى الشرقَ والفلكُ الـ ... أعلى يعارضُ مسراه فيعكسه يقال: من نكد الوجود أنْ يرى الإنسان في منامه أنه وجد مالاً، أو أصاب جوهرا، أو ظفر بخير، فإذا انتبه لم ير من ذلك شيئا، وربما [يرى] (¬1) أنه قد أحدث، فإن انتبه كان ذلك يقينا. قال الشاعر (¬2): (من الطويل) أَرى في مَنامي كُلَّ شَيءٍ يسوءني ... وَرُؤيايَ بَعدَ النَومِ أَدهى وَأَقبَحُ فَإِن كانَ خَيراً فَهُوَ أَضغاثُ حالِمٍ ... وَإِن كانَ شَرّاً جاءَني قَبلِ أُصبِحُ وقال أبو العلاء المعري (¬3): (من الطويل) إلى اللهِ أشْكو أنّني كلَّ ليلةٍ ... إذا نِمْتُ لم أعْدَمْ خواطِرَ/ أوْهامي [24 أ] فإنْ كان شرّاً فهْوَ لا بُدّ واقِعٌ ... وإنْ كان خَيْراً فهْوَ أضْغاثُ أحلام وقال الأحنف العكبري (¬4): (من الوافر) وأحلم في المنام بكل خير ... فأصبح لا أراه ولا يراني ولو أبصرت شراً في منامي ... لوافى الشر من قبل الأذان وذِي شِطاطٍ كصدرِ الرُّمْحِ معتقلٍ ... بمثلهِ غيرَ هيَّابٍ ولا وَكِلِ اللغة: ذي: بمعنى صاحب، الشطاط: بالفتح والكسر، اعتدال القامة، والاعتقال: أنْ يضع الفارس رمحه بين ساقه وركابه، والهيّاب: الجبان، وكذلك الهيوب، وفي الحديث: الإيمان هيوب، أي صاحبه يهاب المعاصي، والوكل: العاجز. الإعراب: الواو واو ربّ، ولا شكّ أنّ ربّ حرف تقليل، ويستعمل في التكثير، كما قال تعالى: [رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ] (¬5)، وهي مختصة بالنكرات، وفي ربّ تسع لغات (¬6): رُبْ، ورُبَّ، ورُبُّ، ورُبَّتْ، ورُبَّتَ، ورَبَّتْ، ورَبَّتَ، ورَبَّ، وربَّتما، ذي: هي بمعنى صاحب هنا، وهي مجرورة برب مضمرة، وعلامة جرها الياء، شطاط: مضاف إلى ذي، كصدر: الكاف بمعنى مثل، وهي في موضع الجر؛ لأنها صفة لذي، ¬

(¬1) زيادة يقتضيها السياق، وهي في الغيث المسجم 1/ 240 (¬2) سبط ابن التعاويذي، ديوانه / (م). (¬3) ديوان سقط الزند، ص 241 (¬4) ديوانه / (م). (¬5) الحجر: 2 (¬6) قال ابن هشام في المغني، ص 184: وفي ربَّ ست عشرة لغة: ضم الراء وفتحها، وكلاهما مع التشديد والتخفيف، والأوجه الأربعة مع تاء التأنيث ساكنة أو محركة ومع التجرد منها، فهذه اثنتا عشرة، والضم والفتح مع إسكان الباء، وضم الحرفين مع التشديد ومع التخفيف.

وصدر مجرور بالإضافة، والرمح: مجرور بالإضافة إلى صدر، معتقل: مجرور أيضا على الصفة، فهو صفة بعد صفة لذي، بمثله: جار ومجرور، والهياب: في موضع جر بالإضافة، وهي ترجع إلى الرمح، والجملة في موضع نصب على أنه مفعول لاسم الفاعل، وهو معتقل، كأنه قال: معتقل بمثله، غير هياب: مجرور على أنه صفة لمعتقل، فإن قيل: كيف وصفت النكرة بالمعرفة، فالجواب أنّ غير لا تتعرف بالإضافة إلاّ إذا وقعت بين متضادّين، وكانا معرفتين / كما تقول: عجبت من قيامك غير قعودك، أو عجبت من [24 ب] الحركة غير السكون، وهيّاب لم يضاد معتقلاً، فغير نكرة هنا مع وجود الإضافة، ولا وكل: الواو عاطفة، ولا حرف نفي، وغير للنفي، فعطف النفي على النفي، وكِل: مجرور بالعطف على هياب. المعنى: وصاحب قامة معتدل مثل صدر الرمح معتقل برمح، غير جبان، ولا عاجز، أخذ يصف صاحبه، ويعدد ما هو عليه من كمال الخَلق والخُلُق والصفات التي تُطلب من رفاق السفر بالليل من الشجاعة والإقدام، وغير ذلك، والتفت إلى هذا، وترك ما كان يذكره من حال نفسه ومقامه ببغداد، وغربته وفقره، وعدم أصحابه، وعكس مقاصده إلى وصف الرفيق، والالتفات من عادة البلغاء، يلتفتون من فن إلى فن، ومن أسلوب إلى أسلوب كعادة العرب في كلامها، وهذا الذي فعله المصنف يسمى الاقتضاب، وهو نوع من الالتفات. واعلم أنَّ ابن الأثير رحمه الله يقول: إنّ الالتفات إنما يكون من الغيبة إلى الحضور، وعكسه، وليس كذلك، بل هو أعم من ذلك، وأرباب البلاغة يسمون الالتفات شجاعة العربية، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: الرجوع من الغيبة إلى الخطاب، وبالعكس، كقوله تعالى: [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] (¬1) الآيات، ثم قال: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] (¬2)، انتقل من الغيبة إلى الخطاب. والثاني [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ] (¬3)، انتقل من الخطاب إلى الغيبة. القسم الثاني: الرجوع من الفعل المستقبل إلى الأمر، فالأول كقوله تعالى: [إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ /بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ] (¬4)، [25 أ] ¬

(¬1) الفاتحة: 2 (¬2) الفاتحة: 5 (¬3) الفاتحة: 6، 7 (¬4) هود: 54

انتقل من الاستقبال إلى الأمر، والثاني كقوله تعالى: [قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] (¬1) الأية. القسم الثالث: الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل وبالعكس، كقوله تعالى: [الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا] (¬2) الآية، انتقل من الاستقبال إلى الماضي، والثاني كقوله تعالى: [وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ] (¬3)، وقوله تعالى: [وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ] (¬4) الآية، انتقل من الاستقبال إلى الماضي، فانظر إلى ما أعطى الالتفات في هذه المواضيع من المعاني، وأفـ ادها من الحكم، فتبارك الذي أنزل الفرقان، وجعله معجزا، تنزيل من حكيم حميد. واعلم أنّ صدر بيت الطغرائي هو بعينه صدر بيت الحريري في مقامته الرابعة والأربعين في قصيدته البائية؛ لأنه قال (¬5): وذي شطاط كصدر الرمح قامته صادفتُه بمنىً يشكو من الحَدَبِ قال الشارح: ومثل هذا لا يُعدُّ سرقة؛ لأن المعنى ليس ببديع، ولا لفظه بفظيع، ولا الطغرائي عاجز عن الإتيان بمثله، بل جرى على لسانه، ونسي أنّ هذا لغيره؛ لعدم الاهتمام بأمره، إذ ليس هو بأمر كبير، وهذا كثير الوقوع للناس، لا يكاد يسلم الفحول منه، ولهذا قال أشياخ الأدب: ما حفظ أحدٌ المقامات ونسيها إلاّ ونظم ونثر، وقوله مثل صدر الرمح معتقل بمثله من الايجاز والاختصار؛ لأنه استغنى بقوله: بمثله عن أن يقول: برمح طوسيل قويم معتدل، وما أحسن قول المثل المشهور: يكفيك من القلادة / ما أحاط [25 ب] بالعنق، وقال البحتري (¬6): (من المنسرح) وَالشِعرُ لَمحٌ تَكفي إِشارَتُهُ ... وَلَيسَ بِالهَذرِ طُوِّلَت خُطَبُه وأحسن ما ورد في الإيجاز قوله تعالى: [وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي] (¬7) الآية، وقد تكلم أرباب البلاغة فيها وأكثروا، قال ابن أبي الأصبع: هذه الآية اشتملت على أحد وعشرين نوعا من المحاسن، وذكرها، ثم فسّر ذلك، وشرحُهُ يطول هنا، والآية مشهورة بين أرباب البلاغة بالإبداع، وأعظم ما فيها شرح قصة نوح في الطوفان من أوله إلى آخره ¬

(¬1) الأعراف: 29 (¬2) فاطر: 9 (¬3) الكهف: 47 (¬4) النمل: 87 (¬5) وهي المقامة الشتوية، مقامات الحريري، ص 387 (¬6) ديوانه 1/ 196 (¬7) هود: 44

حلو الفكاهة مر الجد قد مزجت ... بقسوة البأس فيه رقة الغزل

في هذه الألفاظ القلائل، وقد جاء مثل الطغرائي بمثله كثير في كلام الشعراء (¬1)، كقول أبي تمام (¬2): (من الطويل) وَرَكبٍ كَأَطرافِ الأَسِنَّةِ عَرَّسوا ... عَلى مِثلِها وَاللَيلُ تَسطو غَياهِبُه فاستغنى بقوله: بمثلها من أن يقول: على نوق كأطراف الأسنة. قال الشارح: وقريب من هذه المادة، أعني قول الطغرائي وغيره بمثله، قول أبي العتاهية فيما أظن (¬3): (من الرمل) حُلِقَتْ لِحيَةُ موسى بِاسمِهِ ... وَبِهارونَ إِذا ما قُلِبا إنّ هارون إذا ما قلبا ... صيّر الذقن سريعا عجبا كتب الشيخ جمال الدين الموقاني إلى جمال الدين موسى بن يعمور، وقد أهدى له موسى: (من الطويل) وأهديت موسى نحو موسى وإن يكن ... قد اشتركا في الاسم ما أخطأ العبدُ (¬4) فهذا له حَدٌّ ولا فضلَ عنده ... وهذا له فضلٌ وليس له حدُّ وقال الشارح ملغزا في موسى (¬5): (مخلع البسيط) رأيت في جلَّقٍٍ غزالاً تحار في جسنه العيون فقلت ما الاسم قال موسى قلت هنا تُحلقُ الذُّقون ومن محاسن الأجوبة أنّ بعضهم أراد أن يشتري جارية عُرِضَتْ عليه، فقال لها: كم دُفِع فيكِ، فقالت:/ وما يعلم جنود ربك إلاّ هو. ... [26 أ] وقيل: إنّ رجلاً رمى عصفورا فأخطأه، فقال آخر: أحسنت، فغضب وقال: أتهزأ بي، قال: لا، إنما قلت أحسنت إلى العصفور. قال المدائني: قال رجل من أهل الحجاز لابن شبرمة: العلم من عندنا خرج، قال: صدقت، إلاّ أنه لم يرجع إليكم. حُلْوِ الفُكاهِةِ مُرُّ الجِدِّ قد مُزِجتْ ... بقسوةِ البأسِ فيه رِقَّةُ الغَزَلِ ¬

(¬1) هذه العبارة ركيكة، وقد جاءت في الغيث المسجم 1/ 260 هكذا: ومثل قول الطغرائي بمثله في كلام الشعراء كثير. (¬2) ديوانه، ص 48 (¬3) لم أجدهما في المطبوع من ديوانه، والبيت الأول فقط في الغيث المسجم 1/ 261. (¬4) البيت في الغيث المسجم 1/ 261 (¬5) لقد أخطا الدميري هنا، فهذان البيتان لجمال الدين محمد بن نباتة، ديوانه / (م) أمَّا بيتا الصفدي ـ الشارح ـ فهما: وما شيءٌ له حدٌّ وخدٌّ ... يكلِّم مَنْ يلامسُه بحقِّهْ وكلٌّ حلقُه من تحت رأسٍ ... وهذا الرأس يصبح تحت حلقه. ومرجع الخطأ أن بيتي ابن نباتة جاءا بعد بيتي الصفدي، فوقعت عين المختصِر ـ الدميري ـ علي بيتي ابن نباتة، انظر الغيث المسجم 1/ 262

اللغة: الحلو: نقيض المر، يقال: حلا الشيء يحلو حلاوة، فهو حلوٌ، واحلولى افعوعل على مثله، وقد عدَّاه حميد بن ثور في قوله (¬1): (من الطويل) فَلمّا أَتى عامانِ بَعدَ فِصالِهِ ... عَن الضّرع واحلولى دِماثاً يَرودُها ولم يجئ افعوعل متعديا إلاّ هذا، وحرف آخر، وهو اعروربت الفرس، والطعوم تسعة، وهي: الحلو، والمرّ: والحامض، والمِزّ، والمالح، والحريف، والعفص، والدسم، والتفه، وما أرشق قول البدر يوسف (¬2): (المجتث) يا عاذلي في هواه ... إذا بدا كيف أسلو يمر بي كل وقت ... وكلما مر يحلو فائدة: قولهم: فلان يحبّ الحموضة، معناه يحب الدبر؛ لأن الإحماض في اللغة الانتقال من شيء إلى شيء؛ لأن الإبل إذا ملّت الخلة اشتهت الحمض، فتُحوَّل إليه، وفي حديث الزهري: الأذن مجاجة، وللنفس حمضة، أي شهوة الانتقال، فكأنّ اللاّئط انتقل من الأمر الطبيعي المعتاد إلى غيره، الفكاهة بالضم: المزاح، وبالكسر طيب النفس، والجد: نقيض الهزل، وهو الاجنهاد في الأمور، والمزج: الخلط، والشدة: ضد اللين، والبأس: الشجاعة، والرقة: ضد الغلظ، والغزل: معازلة النسوان، وهي محادثتهن / ومراودتهن، وتغزّل إذا تكلف الغزل، وزعم بعض الأدباء أن الغزل في [26 ب] الذكور، والنسيب (¬3) في الإناث. الإعراب: حلو: صفة لذي في البيت الذي تقدّم، الفكاهة: مجرور بالإضافة، وهذه لفظية، وليست بمعنى من، مرّ الجد: صفة أخرى، الجد: مضاف إليه، والكلام فيه كالكلام فيما تقدم، قد مزجت: قد حرف يصحب الأفعال، ويقرب الماضي من الحال، وهي لتحقيق الفعل، مزجت: فعل مبني لما لم يُسم فاعله، والتاء: علامة التأنيث للفاعل، بشدة البأس: جار ومجرور، ومضاف، والإضافة بمعنى اللام، منه: جار ومجرور، رقة الغزل: رقة مرفوع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، والغزل: مضاف إليه، والإضافة بمعنى اللام، وفيه تقديم وتأخير، تقديره: قد مزجت رقة الغزل بشدة البأس، والجملة كلها في موضع الجر على أنها صفة لذي، تقديره: ممزوجة فيه رقة الغزل. ¬

(¬1) ديوانه (م) (¬2) ابن لؤلؤ 607 - 680 هـ / 1210 - 1281 م يوسف بن لؤلؤ بن عبد الله الذهبي، بدر الدين. من شعراء الدولة الناصرية بدمشق، ووفاته بها، كان كثير المقطعات اللطيفة، كقوله: وكان أبوه (لؤلؤ) مملوكاً، أعتقه الأمير بدر الدين صاحب (تل باشر) في شمالي حلب. ديوانه (م). (¬3) في الغيث المسجم 1/ 270: التشبيب.

المعنى: إنه صاحب حلو المزاح، طيّب الأخلاق، كريه الجد، وهذه صفة مدح؛ لأن الشدة في الاجتهاد محمودة، فهو قد مزجت فيه الحلاوة من رقة الغزل، بالمرارة من شدة البأس، وما أحق صاحب هذا المعنى بقول القائل (¬1): (من الطويل) وكالسَّيفِ إنْ لايَنْتَهُ لانَ مَتْنُهُ ... وحَدَّاهُ إنْ خاشَنْتَهُ خشنانِ وقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يباسط أصحابه وجلساءه، ويمزح حقاً، ويلين جانبه لمن حضره ويؤنسه، فإذا كانت الحرب، واشتد البأس، وحمي الوطيس يَقدُمُ أصحابه، ولقي بنفسه، ومن خصائصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جرّد سيفه لا يغمده حتى ينال به من عدوه، وتحريم الهزيمة عليه من العدّ في الحرب، ولا شكّ في لطفه ورحمته / وحنوه على قومه، [27 أ] وهم كافرون، يؤذونه ويكذبونه، ويصدّون عنه، ويحاربونه، وهو يحلم عليهم، ويشقّ عليه عنادهم، قال الله تعالى: [عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ] (¬2)، قال عليه السلام لما اتفق ما اتفق: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، حتى وصفه الله تعالى بكمال الأوصاف، فقال تعالى: [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] (¬3) ثناء على صفته الحميدة، وخلاله الجميلة، وكان عليه السلام أشد حياء من العذراء في خدرها، ولا شكّ أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من النجدة والشجاعة والبأس والإقدام ولقاء العدو في الغاية التي تكبو دونها سوابق الأبطال، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كنَّا إذا اشتد الحرب اتّقينا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقربنا إلى العدو، وأبصر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثرقوة أبي بن خلف من فرجة من سابغة الدرع، وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوتُ إنْ نجا، فطعنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحربته، فوقع أبيٌّ عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، ومع هذا فقد مزح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يقل إلاّ حقا. قال الشارح: وفي سيرة الذهبي التي قرأتها عليه في ضمن كتاب التاريخ، قال زيد بن أبي الزرقاء (¬4) عن ابن لهيعة عن عمارة بن غزية عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أفكه الناس، تفرد به ابن لهيعة، وضعفه معروف، وجاء من طريق آخر لابن لهيعة: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أفكه الناس مع صبي (¬5)، انتهى. ¬

(¬1) نسب هذا البيت لكل من: أبي الشيص الخزاعي، وبشار بن برد، وليلى الأخيلية، وهو في دواوينهم / (م) (¬2) التوبة 128 (¬3) القلم 4 (¬4) المكتوب في المخطوط: ابن أبي الوفا، وفي الغيث المسجم 1/ 273: ابن أبي أوفى، وما أثبتناه من تاريخ الإسلام للذهبي 1/ 134/ المكتبة الشاملة (¬5) تاريخ الإسلام ـ الذهبي 1/ 129، 134 / المكتبة الشاملة.

وجاءته امرأة فقالت: يا رسول الله احملني على حمار (¬1)، قال: أحملك / على ولد [27 ب] الناقة، قالت: لا يطيقني، قال لها الناس: وهل الجمل إلاّ ولد الناقة، وجاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إنّ زوجي مريض، وهو يدعوك، فقال لها: لعل زوجك الذي في عينيه بياض، فرجعت وفتحت عين زوجها، فقال: مالك، قالت: أخبرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن في عينيك بياضا، فقال: وهل أحدٌ إلاّ وفي عينيه بياض، وقالت أخرى: يا رسول الله أدع الله أن يدخلني الجنة، فقال: يا أمّ فلان إنّ الجنة لا يدخلها عجوز، فولّت وهي تبكي، فقال عليه السلام: أخبروها أنها لا تدخل الجنة وهي عجوز، إن الله تعالى قال: [إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا، عُرُبًا أَتْرَابًا] (¬2)، وبالجملة فصفاته وشمائله، وما انطوى عليه أجلّ من أن يحيط به وصف، وأشرف من أن يضم جواهرها نظم، أو رصف، فلو جرى القلم إلى أن يحفى، وصرّ لسانه إلى أن يخفت ويخفى، ما جنى زهرا أنبتته حدائق تلك الحقائق، ولا التقط درّاً ملأ حقائب هاتيك الخلائق، إن في الموج للغريق لعذرا واضحا أن يفوته تعداده. وروى الشارح بإسناده عن ابن سيد الناس إلى حريم بن أوس، قال: كنا عند رسول تالله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له عمه العباس: يا رسول الله إني أُريد أن أمتدِحك، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل لا يفضض الله فاك (¬3)، فأنشأ يقول: (من المنسرح) مِن قَبلِها طِبتَ في الظِلالِ وَفي ... مُستَودَعٍ حَيثُ يُخصَفُ الوَرَقُ (¬4) ثم هبطتَ البلادَ لا بَشَرٌ ... أنتَ ولا مضغةٌ ولا عَلَقُ بل نطفةٌ تركبُ السّفين وقد ... ألجمَ نسراً وأهلَه الغرقُ (¬5) تنقَّلُ من صلبٍ إلى رحم ... إذا مضى عالمٌ بدا طبقُ /حتّى احتوى بيتك المهيمن منْ ... خندف علياء تحتها النّطق [28 أ] وَأَنتَ لَمّا وُلِدتَ أَشرَقَتِ الْـ ... ـأَرضُ وَضاءَت بِنورِكَ الأُفُقُ فنحن في ذلك الضّياء وفي النّـ ... 000 ... ور وسبل الرّشاد تخترق عاد الكلام إلى بيت الطغرائي، هذه الصفات التي ذكرها قلَّ ما تجتمع في إنسان إلاّ مَن خصّه الله بهذه الموهبة؛ لأنها مع تضادها محمودة، ولا يتفق ذلك إلاّ مِن اعتدال المزاج، وقول الناظم هذا يشبه قول أبي تمام (¬6): (من الكامل) ¬

(¬1) في الغيث المسجم 1/ 273 احماني على جمل. (¬2) الواقعة 35 ـ 37 (¬3) انظر تاريخ الإسلام ـ الذهبي 1/ 8 / المكتبة الشاملة. (¬4) نسب البيتان الأول والسادس للعباس بن مرداس، وهما في ديوانه / الموسوعة الشعرية. (¬5) يشير بقوله نسرا إلى صنم قوم نوح المذكور في آية [وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا] نوح 23 (¬6) ديوانه، ص 23

الجِدُّ شيمَتُهُ وَفيهِ فُكاهَةٌ ... سُجُحٌ وَلا جِدٌّ لِمَن لَم يَلعَبِ شَرِسٌ وَيُتبَعُ ذاكَ لينَ خَليقَةٍ ... لا خَيرَ في الصَهباءِ ما لَم تُقطَبِ ما أحسن قوله: لا خير في الصهباء ما لم تقطب؛ لأن الخمرة إذا كانت صرفا كانت حادة، لا يمكن استعمالها، فإذا مُزجت بالماء، وهو طبع بارد، تولّد عنها كيفية أخرى، تقارب الاعتدال، فأمكن استعمالها. وقول أبي تمام الطائي أيضا (¬1): (من الكامل) لا طائِشٌ تَهفو خَلائِقُهُ وَلا ... خَشِنُ الوَقارِ كَأَنَّهُ في مَحفِلِ فَكِهٌ يُجِمُّ الجِدَّ أَحياناً وَقَد ... يُنضى وَيُهزَلُ عَيشُ مَن لَم يَهزِلِ وفي بيت الطغرائي من حسن الصناعة ما يشهد لقائله بفوز قدحه في البلاغة، فإنه جمع فيه بين ثمانية أشياء: الحلاوة، والمرارة، والفكاهة، والمزج، والجد، والقسوة، والرقة، والبأس، والغزل، وهي ثمانية لم تجتمع لغيره بهذا الانسجام والعذوبة، وأرباب البديع يسمون هذا النوع بالمقابلة، واستشهدوا فيه بقوله تعالى: [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى] (¬2) الآيتين، في كل آية ما يقابل الأخرى، هكذا قرره الجميع، ومن أحسن ما استشهدوا به في هذا النوع قول أبي الطيب (¬3): (من البسيط) أَزورُهُم وَسَوادُ اللَيلِ يَشفَعُ لي ... وَأَنثَني وَبَياضُ الصُبحِ يُغري بي قالوا: قابل / فيه خمسة بخمسة، وهي: أزورهم مقابل وأنثني، وسواد مقابل بياض، والليل مقابل الصبح، ويشفع لي مقابل يغري بي، والخامسة لفظة لي تقابل لفظة بي؛ لأن الشفاعة له، ضدّ الإغراء به، كأنه قال: ذلك لي، وهذا عليَّ. قال الشاعر (¬4): (من المتقارب) فَيَومٌ عَلَينا وَيَومٌ لَنا ... وَيَومٌ نُساءُ وَيَومٌ نُسَر ألا تراه قابل ما عليهم بما لهم، لما في ذلك من الإساءة والسرور، وقد أخذ بعضهم قول أبي الطيب أخذا مليحاً، فقال (¬5): (من الكامل) أقلي النهار إذا أضاء صباحه ... وأظل أنتظر الظلام الدامسا فالصبح يشمت بي فيقبل ضاحكا ... والليل يرثى لي فيدبر عابسا وفيه مقابلة خمسة بخمسة. ¬

(¬1) ديوانه، ص 221 (¬2) الليل 5 (¬3) ديوانه 2/ 210 (¬4) للنمر بن تولب، ديوانه، ص 57. (¬5) البيتان في ديوان الصبابة، ص 273/ (م)، وفي الغيث المسجم 1/ 283

طردت سرح الكرى عن ورد مقلته ... والليل أغرى سوام النوم بالمقل

كان ابن سيد الناس يقول: سمعت شيخنا تقي الدين بن دقيق العيد يقول، قل لهؤلاء علماء المعاني والبيان والبديع أتحسنون أن تقولوا مثل أزورهم، البيت، فإذا قالوا: لا، قل لهم: فأي فائدة فيما تصنعونه، أو كما قال، يريد بهذا أنّ العمل غير العِلم، والمباشرة دون الوصف، والطعن في الهيجاء غير الطعن في الميدان. حُكي أن بعض الوعاظ كان على منبره يتكلم في المحبة وأمور العشق وأحواله، ومدّ أطناب الإطناب في ذلك، فقام إليه بعض الجماعة، وقال (¬1): (من الوافر) بهيشِِكَ هَل ضَمَمتَ إِلَيكَ لَيلى ... قُبَيلَ الفجرِ أَو قَبَّلتَ فاها وَهَل رَفَّت عَلَيكَ قُرونُ لَيلى ... رَفيفَ الأُقحُوانَةِ في نَداها فقال الواعظ: لا والله، فقال له: فافشر [ما شئت] (¬2). قال عبد الله بن أَسباط الكاتب القيرواني (¬3): (من مجزوء البسيط) قال الخلي الهوى محالٌ ... فقلت لو ذقته عرفته فقال هل /غير شغل سرٍّ ... إن أنت لم ترضه صرفته * وهل سوى زفرةٍ دمعٍ ... إن لم ترد جريه كففته فقلت من بعد كل وصفٍ ... لم تعرف الحب إذ وصفته طردتُ سرحَ الكرى عن وِرْدِ مُقْلتِه ... والليلُ أغرَى سوامَ النومِ بالمُقَلِ اللغة: الطرد: الإبعاد، السرح: المال السائم، تقول: سرحت السائمة، وسرَّحتها، وسرحت هي نفسها، وسرَّحت فلانا إلى مكان كذا، أي أرسلته، الكرى: النعاس، قال الشاعر (¬4): (من البسيط) فَلا يَمِيلُ وَلاَ يَكرَى مجالسُهَا ... وَلاَ يَمَلُّ مِنَ النَّجوَى مُنَاجِيهَا والوِرْد: خلاف الصدر، والمقلة: شحمة العين التي تجمع البياض والسواد /* وتجمع على مقل، والحدقة: السواد الأعظم، والناظر: هو الأسود والأصفر، والإنسان يكون في الناظر كالمرآة إذا استقبلتها رأيت شخصك فيها، قال أبو الطيب (¬5): (من المنسرح) جاريةٌ طالَما خَلَوتُ بِها ... تُبصِرُ في ناظِري مُحَيّاها ¬

(¬1) لمجنون ليلى، ديوانه / (م) (¬2) الذي جاء في المخطوط: فانشد، وما أثبتناه من الغيث المسجم 1/ 284، والفشر الكذب. (¬3) الأبيات في ديوان الصبابة، ص 58 / (م)، وفي الغيث المسجم 1/ 284 * لقد فقدت الورقتان 29، 30 من المخطوطة أ، فأتممنا التحقيق من النمخطوطة ب، وهذا الذي ابتدأنا به بعد الشرطة (/) في الورقة [22 ب]، من المخطوطة ب. (¬4) لابن الدمينة، ديوانه / (م). * من هنا تبدأ الصفحة [23 أ] في المخطوطة ب. (¬5) ديوانه 2/ 303، وفيه: شآميّة طالما ...

يصف شدة قربها منه، وذبابة العين: مؤخّرها، واللحظ: طرف العين مما يلي الصدغ، والموق: طرفها مما يلي الأنف، والحملاق: باطن جفن العين، والإغراء: ضد التحذير، والسوام: هو المال الراعي، يقال: سامته الماشية، وهي سائمة وسوام، والنوم: معروف، وهو ضد اليقظة. الإعراب: طرد: فعل وفاعل، سرح: مفعول به، والكرى: مجرور بالإضافة، عن ورد: جار ومجرور، ومضاف إليه، وهو في موضع نصب؛ لأنه مفعول ثان لطردت، وعن هنا للتجاوز، والليل: الواو واو الحال، والليل مرفوع على أنه مبتدأ، أغرى: فعل ماض سدّ مسد الخبر للمبتدأ، إذ الفاعل فيه ضمير مستتر يرجع إلى الليل، والخبر إذا كان فعلاً وجب تأخيره؛ لأنه لو تقدّم خرج عن باب المبتدأ والخبر إلى باب الفعل والفاعل، سوام: منصوب على أنه مفعول به، والنوم: مضاف إليه، بالمقل: جار ومجرور موضعه النصب، متعلق بأغرى، والباء هنا للتعدية، وقوله: والليل أغرى سوام النوم بالمقل في موضع النصب على الحال؛ كأنه قال: طردت الكرى عنه في حالة أغرى الليل سوام النوم بالمقل. المعنى: إني منعته النوم بالمحادثة، ونحن في ليل قد أقبل بالنوم على العيون، وحببه إلى المقل، واستعار الطرد للمنع، كما استعار الكرى سرحا، إذ هو من متعلق السرح، ولذلك أكّده بالاستعارة الثانية؛ لأنه أبدل السرح للنوم بالسوام، وهما من باب واحد، وحسن الاستعارة هنا أنّ السرح السائم إذا ورد الماء كان كأنه يذهبه بالشرب، وإذا سام في النبات رعاه، فأذهب ما فيه من العشب، وقد يكون فيه زهر يشبه العيون اليقظى، فإذا ذهب بالرعي أشبه العين التي زال رونقها، وغاب بياضها وسوادها بالنوم/* (¬1) وكذلك الماء المورود للسرح يشبه العين اليقظى، فإذا ذهب أشبه تغميضها. قال الشارح: وقد ناكد الطغرائي الرفيق، ومنعه نومه، فكان كما يُقال لا ينام، ولا يدع الناس ينامون، ولو كفاه شرّه لسرّه، فإنّ الخليّ لا يلزم بحال الشجيّ، والوزير المغربي (¬2) كان أشد الناس إنصافا منه حيث قال: (من الكامل) لي كلما ابتسم النهارُ تعلةٌ ... بمحدثٍ ما شان قلبي شانه فإذا الدجى وافى واقبل جنحه ... فهناك يدري الهم أين مكانه ¬

(¬1) * من هنا بدأت الصفحة [23 ب] في المخطوطة ب. (¬2) الوزير المغربي: 370 - 418 هـ / 980 - 1027 م الحسين بن علي بن الحسين، أبو القاسم المغربي. وزير، من الدهاة، العلماء الأدباء، يقال إنه من أبناء الأكاسرة، ولد بمصر، وتقلبت به الأحوال إلى أن استوزره مشرف الدولة البويهي ببغداد، عشرة أشهر وأياماً، واضطرب أمره وأقام بميافارقين إلى أن توفي، وحمل إلى الكوفة بوصية منه فدفن فيها. له كتب منها (السياسة- ط) رسالة، و (اختيار شعر أبي تمام)، و (اختيار شعر البحتري)، و (اختيار شعر المتنبي والطعن عليه)، و (مختصر إصلاح المنطق) في اللغة، و (أدب الخواص)، و (المأثور في ملح الخدور)، و (الإيناس)، و (ديوان شعر ونثر) وهو الذي وجه إليه أبو العلاء المعري (رسالة المنيح). ديوانه / (م).

وهو مأخوذ من قول مجنون بني عامر (¬1): (من الطويل) أُقَضّي نَهاري بِالحَديثِ وَبِالمُنى ... وَيَجمَعُني وَالهَمَّ بِاللَيلِ جامِعُ نَهاري نَهارُ الناسِ حَتّى إِذا بَدا ... لِيَ اللَيلُ هَزَّتني إِلَيكِ المَضاجِعُ ولمح المعنى منه محمد بن يحيى بن حزم، فقال: (من الطويل) إذا طلعت شمس عليك بسلوةٍ ... أثار الهوى بين الضلوع غروبها (¬2) وقل المجنون (¬3): (من الكامل) وَشَغِلتُ عَن فَهمِ الحَديثِ سِوى ... ما كانَ مِنكَ وَحُبُّكُم شُغلي وَأُديمَ نَحوَ مُحَدِّثي نظري كأنيَ ... قَد فَهِمتُ وَعِندَكُم عَقلي ومن هنا أخذ أمين الدين جوبان (¬4) قوله: دوبيت لا أسمعُ الحديثَ عن غيرِكم من لذّةِ فكري واشتغالي بكم ألوي نظري كأنني أفهمُهُ من قائله وخاطري عندكم ولعمري إنّ هذه الاستعارات التي في كلام الطغرائي واقعة مواقعها، وهي في غاية الحسن، والاستعارة عند أرباب البيان، هي ادّعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه، مع طرح ذكر المشبه من البين لفظا أو تقديرا، ألا ترى أنه شبّه الليل وإرادة النوم على المقل بالراعي الذي يسوق الماشية إلى المرعى، وشبّه منعه النوم صاحبه، وشغله عنه بالطرد كالذي يطرد السرح عن ورود الماء، ولا شكّ أنّ الاستعارة أبلغ من التشبيه، وأوقع في النفس، وانظر إلى قوله تعالى: [وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا] (¬5) وإلى ما فيه من الطلاوة، بخلاف ما إذا قيل: وشيب الرأس كالنار يشتعل، فهو أدعى أن حقيقة الاشتعال في الشيب دون النار، ووجه المناسبة التي حسّنت هذه الدعوى، [أن الشيب] (¬6) لمّا كان بياضا يأخذ في /* (¬7) الشعر الأسود شيئا فشيئا إلى أن يقوى ذلك ويشتد حتى يأتي على السواد جميعه، فيذهبه حُسن إدعاء الحقيقة، كما أن النار تأخذ في الفحم شيئا فشيئا، وتدب دبيب الشيب في الشَّعَر حتى تأتي على الفحم، ومن هنا عيب على القائل (¬8) قوله: (من الكامل) ¬

(¬1) ديوانه، (م) (¬2) البيت في الغيث المسجم 1/ 293 (¬3) ديوانه، (م) (¬4) جوبان، أمين الدين القواس: جوبان بن مسعود بن سعد الله، أمين الدُّنيسري القواس التوزي الشاعر. كان من أذكياء بني آدم وله النظم الجيد. كتب عبد الرحمن السّبتي وغيره. وقال شمس الدين الجزري: اسمه رمضان، وقال: لم لم يكن يعرف الخط ولا النحو. قال القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله قال شيخنا شهاب الدين محمود: ابن جوبان كان يدّعي الأميّة وكان بخلاف ذلك، قرأ وكتب وحفظ المفصّل، وتوفي في حدود الثمانين وستمئة. الوافي بالوفيات، ص 8799 ـ 8800، والبيتان في الغيث المسجم 1/ 293 (¬5) مريم 4 (¬6) زيادة من الغيث المسجم 1/ 293، ويقتضيها السياق ليتضح المقصود. (¬7) * من هنا تبدأ الصفحة [24 أ] في المخطوطة ب. (¬8) للفرزدق، ديوانه، ص 323

والركب ميل على الأكوار من طرب ... صاح وآخر من خمر الهوى ثمل

وَالشَيبُ يَنهَضُ في الشَّبابِِ كَأَنَّهُ ... لَيلٌ يَصيحُ بِجانِبَيهِ نَهارُ فإنّ الصياح هنا لا مناسبة له، ولا معنى. سأل رجل عمرو بن قيس عن الحصاة يجدها الرجل في ثوبه أو خفِّه من حصى المسجد، قال: ارمِ بها، فقال الرجل: زعموا أنها تصيح حتى تعود إلى المسجد، قال: دعها تصيح حتى ينشف حلقها، قال الرجل: سبحان الله! أوَلها حلق! قال: فمن أين تصيح؟ ومثل هذا ما حكاه أشعب الطمّاع، قال: جاءت لي جارية بدينار، فقالت: أودعه لي عندك، فقلت: دعيه تحت المُصلى، فلما راحت وضعتُ إلى جانبه درهما، فلمَّا كان بعد جمعة جاءت إليّ تطلبه، فقلت: هو مكانه، ولكن إنْ كان ولد شيئا فخذيه، فنظرت إلى الدرهم، فقالت: نعم، فقلت: ما دام تحت المصلى فهو يلد لك في كل جمعة درهما، فلما انصرفتْ أخذتُهُ، وحضرتْ بعد جمعة فطلبته، فلم تجده، فقلتُ: مات في النفاس، فقالت: ويلي، وكيف يموت، فقلتُ: يا بظراء كيف تُصدقين بحمله، ولا تصدقين بموته في النفاس. قال الشريف العقيلي (¬1): (من الخفيف) كُلَّما لاحَ وَجهُهُ بِمَكانِ ... كَثُرَت زَحمَةُ العُيونِ عَلَيهِ وقال (¬2): (من المتقارب) فَلَمّا تَبَدّى لَنا وَجهُهُ ... نَهَبنا مَحاسِنَهُ بِالعُيون والركبُ مِيلٌ على الأكوارِ من طَرِبٍ ... صاحٍ وآخرَ من خمر الهوى ثَمِلِ اللغة: الركب: تقدم الكلام عليه، ميل: جمع أميل، وهو الذي لا يستوي على السرج، قال جرير (¬3): (من البسيط) لَم يَركَبوا الخَيلَ إِلّا بَعدَما هَرِموا ... فَهُم ثِقالٌ عَلى أَكتافِها ميلُ /* (¬4) والأكوار: جمع كور، وهو القتب، والطرب: خفة تلحق الإنسان. ... [31 أ] قال الشاعر (¬5): (من الرمل) وَتََراِني طَرِباً في إِثرِهِم ... طَرَبَ الواِلهِ أَو كالمُختَبل ¬

(¬1) الشريف العقيلي ? - 450 هـ / ? - 1058 م علي بن الحسين بن حيدرة بن محمد بن عبد الله بن محمد العقيلي. ينتهي نسبه إلى علي بن أبي طالب (وقيل أنه ينسب إلى عقيل بن أبي طالب). شاعر هاشمي زار القاهرة وجزيرة الفسطاط وأقام بها أيام الفاطميين وفي شعره أرجوزة طويلة ناقض فيها ابن المعتز في أرجوزته التي ذم فيها الصبوح ومدح الغبوق. ديوانه، (م). (¬2) ديوانه، (م). (¬3) ديوانه، ص 349 (¬4) * من هنا بدأ العود إلى المخطوطة أ. (¬5) للنابغة الجعدي، ديوانه / (م).

وهو يحتمل أن يكون من الفرح، وأن يكون من الحزن، ولكنّه هنا من الحزن أقرب؛ لأنه جاء في سياق شدة السَّهَر، صاحٍ: صحا يصحو من سكره، فهو صاحٍ، الخمر: معروف، والكرا: تقدَّم، الثمل: السكران. الإعراب: والركب: الواو للابتداء، والركب مبتدأ، ميل: خبره، من طرب: جار ومجرور، وطرب اسم فاعل هنا مكسور الراء، وليس هو مصدر بفتح الراء؛ لأنه لو كان مصدرا لفسد المعنى، وكان الجار والمجرور مفعولاً من أجله، وكان قوله وآخر من خمر الكرى، معطوفا على غير شيء، صاحٍ: مجرور على أنه صفة لطرب، وآخر: عاطف ومعطوف، من خمر: جار ومجرور ومضاف إليه، ولم تظهر الكسرة في المضاف لأنه مقصور، والجار والمجرور متعلق، ومن هنا لبيان الجنس، ثمل: مجرور على أنه صفة لآخر، والبيت بمجموعه في موضع النصب على الحال، كأنه قال: طردت الكرا عن سرح مقلته في حالة إغراء النوم بالمقل، وفي حالة ميل الركب على ظهور مطيهم (¬1). المعنى: نادمته وحادثته والرفاق قد مالوا على مطاياهم بين صاحٍ من النوم، وبين ثملٍ من الكرى، وهذا دليل على أنهم كانوا في أخريات الليل، وفي ذلك الوقت يكون بعضهم قد صحا من خمر النوم، والآخر في نشوته يميل يمنة ويسرة. قال ابن صردر (¬2): (من السريع) قلتُ وهم من نَشواتِ الكرى ... موائلٌ كالسُّجَّد الرّكَّعِ حُثُّوا مطاياكم فكم غاية ... قد بُلَغَتْ بالأينق الظُّلّعِ وقال بديع الزمان الهمذاني (¬3): (من الطويل) لك الله من جوبٍ / أجوب جيوبه ... كأني في أجفان عين الردى كحل [31 ب] كأن الدجى نقع وفي الجو حرمة ... كواكبها جند طوائرها رسل كأن مطايانا سماء كأننا ... نجوم على أقتابها برجها الرحل كأن السرى ساقٍ كأن الكرى طلا ... كأنا لها شرب كان المنى نقل ¬

(¬1) كتبت مطيها، وما أثبتناه وهو الصحيح من الغيث المسجم 1/ 307. (¬2) صردر بن صربعر ? - 465 هـ / ? - 1073 م علي بن الحسن بن علي بن الفضل البغدادي أبو منصور. شاعر مجيد، من الكتاب، كان يقال لأبيه (صرّبعر) لبخله، وانتقل إليه اللقب حتى قال له نظام الملك: أنت (صرَّدرَّ) لا (صرّبعر) فلزمته. مدح القائم العباسي ووزيره ابن المسلمة. قال الذهبي: لم يكن في المتأخرين أرق طبعاً منه، مع جزالة وبلاغة. تقنطر به فرسه فهلك، بقرب خراسان. له (ديوان شعر - ط). ديوانه (م). (¬3) ديوانه (م)

وقال الشهاب محمود: (من الطويل) نشاوى على الأكوار من خمر السرى وكأس الكرى قد ألويا بطلاها (¬1) كأن غصونا في الرمال يميلها سحيرا على الأنضاء مرّ صباها وقال أيضا: (من البسيط) كرر حديث الثنايا فهو أعذب لي ... على الظما من رضابِ الخرَّد العربِ (¬2) فقد سرتْ نفحةٌ أنشأتُ نسمتَها ... فينا فملنا على الأكوار من طرب وقال أيضا: (من الطويل) برانا الهوى حتى تَوهّمَنا الذي يرانا خيالاً في الدجى قد سرى وهْنا كأنا على الأكوار أفنان دوحةٍ يُميِّلُها مَرُّ الصبا غُصُنا غُصنا (¬3) وقال أيضا: (من الخفيف) لا تردْها على جواها ودعها الْـ ... ـآن تهوي بين الوهاد هويَا (¬4) إنّ بين الضلوع منها إلى الريِّ ... بعين الزرقاء داءً دويّا ضمر كالقصي ترعى بشِعبٍ ... فوقها كالسهام مرمى قصيا بلبلتهم كأس السرى فتثنّوا ... نشوةً ما سقوا بها البابليا واعلم أنّ في بيت الطغرائي من البديع الجمع مع التقسيم؛ لأنه جمعهم في الميل على الأكوار، ثم قسمهم فقال: منهم مَن مال من التعب، ومنهم مَن مال من النعاس، ومن أمثلة هذا النوع قول أبي الطيب (¬5): (من البسيط) حَتّى أَقامَ عَلى أَرباضِ خَرشَنَةٍ ... تَشقى بِهِ الرومُ وَالصُلبانُ وَالبِيَعُ لِلسَبيِ ما نَكَحوا وَالقَتلِ ما وَلَدوا ... وَالنَهبِ ما جَمَعوا وَالنارِ ما زَرَعوا وأحسن من هذا قول رسول الله / صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي اوتي جوامع الكلم، [32 أ] واختُصر له الكلام اختصارا: ليس لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وقيل: فأبقيت. وقف أعرابي على حلقة الحسن البصري فقال: رحم الله مَن تصدق من فضل، أو واسى من كفاف، أو آثر من قوت، فقال الحسن: ما ترك أحدا منكم حتى عمّه بالمسألة. ومن المجون قول القائل: (من الخفيف) وبديعُ الجمالِ مُعتَدِلُ الَقا ... مَةِ كالغصنِ حنَّ قلبي إليهِ (¬6) ¬

(¬1) البيتان في الغيث المسجم 1/ 307 ـ 308، وفيه البيت الأول هو الثاني. وفيه أيضا أنهما للقاضي أبي الثناء محمود. (¬2) البيتان في الغيث المسجم 1/ 308 (¬3) البيتان في الغيث المسجم 1/ 308 (¬4) الأبيات في الغيث المسجم 1/ 308 (¬5) ديوانه 2/ 63، وقد سقط البيت الثاني من نسخة ديوانه المطبوع في دار الكتب العلمية، وهو موجود في التبيان في شرح الديوان المنسوب خطأ لأبي البقاء العكبري 2/ 224. (¬6) البيتان في الغيث المسجم 1/ [311 ب] لا عزو، وكذا في معاهد التنصيص، ص 1293 ـ 1294/ (م).

فقلت أدعوك للجلى لتنصرني ... وأنت تخذلني في الحادث الجلل

أشتهى أن يكونَ عنْدِي وفي بَيْتي وبَعْضي فيهِ وكلِّي عَلَيهِ فقلتُ أدعوكَ للجُلَّى لتنصُرَنِي ... وأنت تخذِلُني في الحادثِ الجَلَلِ اللغة: دعوته: صِحتُ به، الجلى: الأمر العظيم، وجمعها جُلل، مثل كُبرى وكُبَر، قال جرير (¬1): (من البسيط) وإنْ دعوتِ إلى جُلّى ومكرُمَةٍ يوما كراماً من الأقوامِ فادعينا والنصرة: ضد الخذلان في الحرب وغيرها، وهي الإعانة على في ما أهم، وفي الحديث: انصر أخاك ظالما أو مظلوما، خذلته: الخذلان معروف، الحادث الجلل: الواقع العظيم من الدهر. قال الشاعر (¬2): (من الكامل المرفل) فلئن عفوت لأعفون جللاً ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي والجلل أيضا: الهيّن، فهو من الأضداد، قال امرؤ القيس لمَّا قُتل أبوه (¬3): (من منهوك الكامل) أَََلاَ كُلُّ شَيءٍ سِوَاهُ جَلَلْ والمراد به هنا في كلام الطغرائي الواقع العظيم. الإعراب: الفاء: للتعقيب، أي عقبت طرد الكرى بقولي، والمعنى فالتفت إليّ، فقلت له، أو لم يلتفت إليّ فقلت له، وما أحسن الفاء التي تكررت في قول الشنفرى (¬4): (من الطويل) بعينَيَّ ما أمْسَتْ فباتَتْ فأصبحَتْ ... فقضتْ أموراً فاستقلتْ فولتِ ومن ألطف ما في هذا الباب قول شمس الدين محمد بن عفيف / الدين التلمساني (¬5): [32 ب] (من البسيط) لِلْعاشِقينَ بِأَحْكَامِ الغَرَامِ رِضَا ... فَلا تَكُنْ يا فَتى بِالعَذْلِ مُعْتَرِضا رُوحي الفِدَاءُ لأَحْبابي وَإِنْ نَقَضُوا ... عَهْدَ الوفيِّ الَّذي لِلْعَهْدِ مَا نَقَضَا قِفْ واسْتَمِعْ رَاحِماً أخْبَارَ مَنْ قُتِلوا ... فَماتَ في حُبِّهِم لَمْ يَبْلُغِ الغَرَضَا رَأَى فَحبَّ فَرامَ الوَصْلَ فامْتَنَعُوا ... فَسامَ صَبْراً فَعْيَا نَيْلُهُ فَقَضَى ¬

(¬1) لم أجده في المطبوع من ديوانه، وقد نسب للمرقش الأكبر، كما نسب لنهشل بن حَرِّي، وروايته في ديوانيهما: وَإِن دَعَوتِ إِلى جُلّى وَمَكرُمَةٍ ... يَوماً سُراةَ كِرامِ الناسِ فَاِدعينا (¬2) نسبه العبيدي في التذكرة السعدية، ص 30 / (م) ... للحارث بن وعلة الذهلي، وكذا البكري في اللآلي في شرح أمالي القالي، ص 508 / (م). (¬3) عجز بيت، وصدره: بقَتْل بَني أَسَدٍ رَبَّهُمْ، ولم أجده في المطبوع من ديوانه، وهو في الشعر والشعراء، ص 51 (¬4) ديوانه (م) (¬5) ديوانه (م).

الإعراب (¬1): فقلت: فعل ماض وفاعل، أدعوك: فعل مضارع، والكاف ضمير المفعول، للجلى: جار ومجرور، واللام للتعدية، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف؛ لأنه مقصور، وموضعها النصب على المفعول، لتنصرني: اللام لام كي، فهي تنصب الفعل المضارع، فالفعل منصوب بها، والنون نون الوقاية، والياء ضمير المفعول. وما أحلى قول شرف الدين بن الفارض (¬2): (من الرمل) نَصباً أكسبَني الشّوقُ كما ... تُكْسِبُ الأفعالَ نَصباً لامُ كَي وأحسن منه قول شمس الدين التلمساني (¬3): (من المتقارب) وَمُسْتَترٍ مِنْ سَنَا وَجْهِهِ ... بِشَمْسٍ لَهَا ذَلِكَ الصُّدْغُ فيْ كَوَى القَلْبَ مِنِّي بِلامِ العِذا ... رِ فَعَرَّفني أَنَّها لامُ كَيْ وأنت: الواو واو الابتداء، وأنت اسم مضمر في موضع رفع بالابتداء. قيل: سمع المازني قرقرة في بطن إنسان، فقال: هذه ضرطة مضمرة، تخذلني: فعل مضارع مرفوع؛ لخلوه من الناصب والجازم، والنون نون الوقاية، والياء ضمير المفعول، والجملة في موضع الخبر لأنت، في الحادث: جار ومجرور في موضع نصب على أنه ظرف لتخذلني، فتقديره: تخذلني وقت الحادث، الجلل: مجرور على أنه صفة للحادث، وقوله: أدعوك للجلى .... إلى آخره، البيت، في موضع نصب لقوله: فقلت. المعنى: فقلت له مستفهما: أدعوك للأمر العظيم؛ طالبا / نصرتك، وأنت تخذلني [33 أ] في هذا الأمر العظيم، فهذا استفهام ومعناه التوبيخ، كقوله تعالى: [وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ] (¬4) الآية، الاستفهام هنا للمسيح على الملام، والتوبيخ للنصارى، والاستفهام هنا من المسيح أبلغ من الاستفهام من النصارى؛ لأنه يحتمل أنهم يقولون: نعم كذا قال، فيرجع للمسيح على الملام، ويستفهم منه، فابتدئ بالاستفهام منه في أول الأمر، فيرى الأمر يفضي إلى آخره، فيجعل آخره أولا، وبالجملة فهذه القصة يحتمل الكلام عليها مجلدا لطيفا؛ لأنها قد تضمنت من البلاغة والحكم ما يعجز المتكلمون عن استغراق ذلك، واستخراج جواهره، واستنباط معانيه، [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا] (¬5) فسبحان مَن أنزله هدىً ورحمة. ¬

(¬1) كرر هنا قوله الإعراب، وربما نسي أنه ذكر ذلك، ولو قال عود إلى الإعراب لكان أفضل. (¬2) ديوانه (م). (¬3) ديوانه (م). (¬4) المائدة 116 (¬5) الكهف 109

رجعنا إلى كلام الطغرائي، اعلم أنه قد جُبلت النفوس الأبية على تحقيق الظنون بها، وتصديق الأمل فيها، والرجاء فيما يُطلب منها من نصرة وإعانة وإزالة ضرورة، وسدّ خلة، وغير ذلك، والنفوس اللئيمة بخلاف ذلك، تكذِّب الظنون فيها، وحسن الظن بالله أمر واجب، قال عليه السلام: لا يموتن أحدكم إلاّ وهو يحسن الظن بالله، وروي عن أحد أهل البيت أنه لمَّا حضرته الوفاة قال: يا بني اقرأ عليّ الرخص لأموت وأنا أُحسن الظن بالله تعالى، وقال علي كرم الله وجهه: حسن الظن بالله أن لا ترجو إلاّ الله، ولا تخاف إلاّ ذنبك، وأنشد الشهاب محمود لنفسه: (مجزوء الرمل) قيل ما أعددت للحتـ ... ـف فقد جئت محله (¬1) قلت أعددت من التو ... حيد حسن الظن بالله وقال ابن سيد الناس: (من البسيط) / فقري لمعروفك المعروفِ يغنيني ... يا مَن أرجّيه والتقصيرُ يرجيني [33 ب] إن أوبَقَتْني الخطايا عن مدى شرفٍ ... نجا بإدراكه الناجون من دوني أو غضّ من أملي ما ساءَ من عملي ... فإنّ لي حسنَ ظن فيك يكفيني (¬2) ويتعين على ذوي المروءات احتمال الأذى والضرر في تصديق أمل الآمل، وتحقيق رجائه، وإيصاله إلى مآربه، وتبليغه مقاصده، فإنه: (من البسيط) لَولا المَشَقَّةُ سادَ الناسُ كُلُّهُمُ ... الجودُ يُفقِرُ وَالإِقدامُ قَتّالُ (¬3) ومن الكلم النوابغ: محك المودة والإخاء، حال الشدة لا الرخاء، ولهذا قال الشاعر (¬4): (من الكامل) دعوى الاخاء على الرخاء كثيرةً ... بل في الشدائد تعرف الأخوانُ قيل إنّ يوسف الصديق عليه السلام لمَّا خرج من السجن كتب على بابه: هذا قبر الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء. على أنّ الإنسان يتعين عليه التفرس أولاً، والتكهن (¬5) ليختار لحاجته مَن ينهض بحملها، ويقوم بكلّها؛ حتى تنزل من جانبه بالرحب، ويتلقّاها بالبشر، ويكون بها كفيلا، قال أبو الطيب (¬6): (من الطويل) ¬

(¬1) البيتان في الغيث المسجم 1/ 328 (¬2) الأبيات في الغيث المسجم 1/ 328 (¬3) للمتنبي، ديوانه 2/ 254 (¬4) لأبزون العماني، ديوانه / (م). أبزون العماني ? - 430 هـ / ? - 1038 م أبزون بن مهمرد الكراني، أبو علي الكافي العماني. شاعر عماني، اختلف كثيراً في اسمه واسم أبيه، عاش في جبل من جبال عمان، ويقول حاجي خليفة أنه كان يعيش في نزوى. ومن خلال شعره نرى أنه كان يتردد على العراق أحياناً، وفي شعره أيضاً إشارة إلى أيام له أمضاها بجرجرايا، وهي بلدة من أعمال النهروان الأسفل بين واسط وبغداد. (¬5) كتبت التمسكن، وما أثبتناه من الغيث المسجم 1/ 330 (¬6) ديوانه 2/ 223

وَلَم أَرجُ إِلّا أَهلَ ذاكَ وَمَن يُرِد ... مَواطِرَ مِن غَيرِ السَحائِبِ يَظلِمِ وإلاّ يكون قد أخطأ في التأمل قبل التأميل (¬1)، وأضاع الفراسة قبل الافتراس، والناس يختلفون في الهمم، ويتفاوتون في القيم، قال أبو الطيب (¬2): (من الكامل) ما كُلُّ مَن طَلَبَ المَعالِيَ نافِذاً ... فيها وَلا كُلُّ الرِجالِ فُحولا ولهذا قال آخر (¬3): (من السريع) أمّلْتُهم ثم تأمّلْتُهم ... فلاحَ لي أنْ ليس فيهم فَلاح ولا يبعد قول الطغرائي من قول الأرجاني (¬4): (من الطويل) فإن يك أعدائي عليَّ تَناصَروا ... فما هو إلاّ من تَخاذُلِ خُلاّني ولم أدْعُ للجُلَّى صديقاً أجابَني ... ولم أرضَ خِلاًّ للوِدادِ فأرْضاني وقال آخر (¬5): (من الوافر) وإخوانٍ تخذتهمُ دروعاً ... فكانوها ولكنْ للأعادي وخِلتهم سهاماً صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي /* (¬6) ... وقالوا قد صفت منا قلوبٌ ... لقد صَدَقوا ولكن من ودادي ... وقالوا قد سعينا كل سعيٍ ... لقد صدقوا ولكن في فسادي وقال ابن الرومي (¬7): (من الطويل) تخذتكُمُ دِرعاً حَصيناً لتدفعوا ... سِهامَ العدى عنِّي فكنتُمْ نصالَها وقد كنتُ أرجو منكُم خيرَ ناصرٍ ... على حينِ خذلان اليمين شِمالَها فإنْ أنتُمُ لم تحفظوا لمودّتي ... ذِماماً فكونوا لا عليها ولا لَها قفوا موقفَ المعذورِ عنّي بمعزلٍ ... وخلّوا نبالي للعِدى ونبالَها قال علقمة بن لبيد العطاردي (¬8) لابنه: يا بني إنْ نزعت بك إلى صحبة الرجال حاجةٌ فاصحب مَنْ إنْ صحبته زانك، وإنْ أصابتك خصاصة مانك، وإن قلت سدد قولك، وإن صلت شدّد صولك، وإنْ مددت يدك بفضل مدّها، وإنْ بدت منك ثلمة سدّها، وإن رأى منك حسنة عدّها، ¬

(¬1) في الغيث المسجم 1/ 330: في التأميل قبل التأمل (¬2) ديوانه 1/ 193 (¬3) لناصح الدين الأرجاني، ديوانه 1/ 296 (¬4) ديوانه (م) (¬5) لابن الرومي، ديوانه (م)، والبيت الرابع ليس في المطبوع من ديوانه. (¬6) * من هنا بدأنا النقل عن النسخة ب، لأن الأوراق 33، 34 ـ 35، 36 مكررة في النسخة أ، وهذه الصفحة هي [27 أ] في ... النسخة ب. (¬7) ديوانه (م) (¬8) كتبت: العطاري، وما أثبتناه من الغيث المسجم 1/ 332، وهو الصحيح.

وإن سألته أعطاك، وإن سكتَّ عنه ابتداك وإنْ نزلت بك إحدى الملمات (¬1) واساك، مَنْ لا تأتيك منه البوائق، ولا تختلف عليك منه الطرائق، ولا يخذلك عند الحقائق. قال الشارح: وذكرت بوصية علقمة لولده قول الفضل بن عبد الرحمن لرقيّة بنت عتبة بن أبي لهب: انظري لي امرأة معروفة النسب، كريمة الحسب، فائقة الجمال، مليحة الدلال، إن قعدت أشرفت، وإنْ قامت أضعفت، وإنْ مشت ترقرقت، تروع من بعيد، وتفتن من قريب، تسرّ مَنْ عاشرت، وتُكرم مَنْ جاورت، وتبدُّ من فاخرت، ودودا ولودا، لا تعرف أهلها، ولا تسرّ إلاّ بعلها، فقالت له: يا ابن العم، أخطب هذه من ربِّك في الآخرة، فإنك لا تجدها في الدنيا. قال أبو موسى المكفوف لنخّاس: اطلب لي حمارا ليس بالصغير المحتقر، ولا بالكبير المشتهر، إن خلا الطريق تدفّق، وإن كثر الزحام ترفق، لا يصدم بي السواري، ولا يدخلني تحت البواري، إنْ أكثرت علفه شكر، وإن قللته صبر، وإن ركبته هام، / (¬2) وإن ركبه غيرك نام، فقال له النخاس: اصبر أعزك الله، عسى أن يُمسخ القاضي حمارا فتصيب حاجتك. وعلى الصحيح فالكمال معدوم إلاّ في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا بدّ في الإنسان من لو ولولا، ومَنْ كانت ماهيته متضادة فالنقص به أولى، وما سلك الصواب صديق إلاّ ونُكِب، فلا تغترّ، أي الرجال المهذب (¬3)، ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها (¬4). ولوِ انتقَدْتَ بَني الزّما ... نِ وجَدتَ أكثرَهُم سقَطْ (¬5) وقد هوّن الأمر في الصحبة مؤيد الدين الطغرائي رحمه الله في قوله (¬6): (من الوافر) أخاكَ أخاكَ فهو أجَلُّ ذُخْرٍ ... إِذا نابَتْكَ نائبةُ الزمانِ وإن رابتْ إساءتُه فَهبْهَا ... لما فيه من الشِّيَمِ الحِسَانِ تُريدُ مهذَّباً لا عَيْبَ فيهِ ... وهل عُودٌ يفوحُ بلا دُخَانِ وقال أيضا وإن لم يكن من الباب (¬7): (من البسيط) غايِظْ صديقَكَ تكشفْ عن ضمائِرِه ... وتَهْتِكِ السِتْرَ عن محجوبِ أسرارِ ¬

(¬1) كتبت: المهمات، وما أثبتناه من الغيث المسجم 1/ 333 (¬2) من هنا تبدأ الصفحة [27 ب] في المخطوطة ب. (¬3) من بيت للنابغة الذبياني، وتمامه: وَلَستَ بِمُستَبقٍ أَخاً لا تَلُمَّهُ ... عَلى شَعَثٍ أَيُّ الرِجالِ المُهَذَّبُ ديوانه , ص 18. (¬4) صدر بيت من الطويل لعلي بن الجهم، وتمامه: وَمَن ذا الَّذي تُرضى سَجاياهُ كُلُّها ... كَفى المَرءَ نُبلاً أَن تُعَدَّ مَعايِبُهْ ديوانه / (م). (¬5) للحريري من مجزوء الكامل، انظر المقامة الشعرية. (¬6) ديوانه، ص 394 (¬7) ديوانه، ص 164

تنام عني وعين النجم ساهرة ... وتستحيل وصبغ الليل لم يحل

فالعودُ يُنْبِيكَ عن مكنونِ باطنهِ ... دُخَانُهُ حين تُلْقِيهِ على النَّارِ وقال الشارح في شرط الصحبة: (من المتقارب) صديقَكَ مهما جَنى غَطِّه ... ولا تُخْفِ شيئاً إذا أحسْنا (¬1) وكن كالظلام معَ النَّار إذ ... يوارِي الدُّخانَ وَيبْدِي السنَّا قال الشارح: وكأني بالطغرائي وقد جرَّ هذا الصاحب فانجزم، وطلب إقباله على النصرة له فانهزم، وسامه الوقوع على المساعدة فتعلّى، ورام النجدة منه فقرأ عبس وتولى. سأل أبو جعفر المنصور بعض الخوارج فقال له: أخبرني أي أصحابي كان أشد إقداماً في مبارزتك، فقال: ما أعرف وجوههم، ولكن أعرف قفاهم، فقل لهم يدبروا اعرّفك، أخذ ابن الرومي هذا المعنى، وزاده وزنا فقال: (من المنسرح) قِرن سليمان قد أضرَّ به ... شوق إلى وجهه سيتلفُه كم يَعِدُ القرن باللقاء وكم ... يكذب في وعده ويخلفه /* (¬2) لا يعرف القِرنُ وجهه ويرى ... قفاه من فرسخ فيعرفه تنامُ عنِّي وعينُ النجمِ ساهرةٌ ... وتستحيلُ وصِبغُ الليلِ لم يَحُلِ اللغة: النوم: معروف، والعين: حاسة الإبصار، والجمع أعين وأعيان وعيون، وتصغيرها عُيينة، النجم: الكوكب، ومتى أُطلق فالمراد به الثريا، ساهرة: السهر ضد النوم، تستحيل: الاستحالة التغيُّر، والصبغ: اللون، تقول: صبغت الثوب أصبغه، والصِبغ بالكسر ما يُصبغ به، فعلى هذا الصحيح في البيت صَبغ بالفتح، الليل: معروف. الإعراب: تنام: فعل مضارع، حذفت منه هنا الهمزة التي للاستفهام؛ لأن أصله أَتنام عنِّي، وحذفها جائز في الضرورة، عنِّي: جار ومجرور، وعين النجم: الواو للابتداء، وعين مرفوع على أنه مبتدأ، والنجم مجرور بالإضافة، والإضافة هنا معنوية، وهي مقدرة باللام، ساهرة: مرفوع على أنه خبر المبتدأ، والأحسن أن تكون ساهرة منصوبة على الحال، والخبر محذوف، كما قُرئ: [وَنَحْنُ عُصْبَةً] (¬3)، معناه ونحن نُرى عصبة، وكذا يقدّر هنا وعين النجم تُرى ساهرة لأجلي، وتستحيل عليّ، وهذا صبغ الليل يُرى غير حائل، وفي تقديره هكذا توبيخ له؛ لكونه من ذوي الحواس، وقد نام عنه، واستحال عليه، وهذان غير حاسّين، ومع ذلك فقد سهرت عين النجم ورُئيت في حالة غير نائمة، ولم يستحل صبغ الليل رحمة ووفاء، وإذا جعلت ساهرة خبرا لعين النجم، وصبغ مبتدأ، ولم يحل الخبر، وكانت الجملة في الموضعين في تقدير الحال، ذهب معنى التقريع والتوبيخ الذي تقرّر، ¬

(¬1) الغيث المسجم 1/ 334 (¬2) * من هنا تبدأ الصفحة [28 أ] من النسخة ب. (¬3) بالنصب رواه النزال بن سبرة عن علي بن أبي طالب، مختصر في شواذ القرآن ص 62. (يوسف 8).

ويعود المعنى أتنام عنِّي والحالة من النجم والليل كذا، وإن شئت قدَّرت عين النجم خبراً، والمبتدأ محذوف تقديره وهذه عين النجم ساهرة، ويكون فيه معنى زائد في التوبيخ؛ لأنك إذا قلت: أيخفى عليك ما أردت، والطفل قد فهمه، ويستحيل: الواو عطفت الجملة الفعلية على مثلها، وهما تستحيل وتنام، وصبغ: الواو للابتداء، وصبغ مرفوع إمَّا أنه مبتدأ أو خبر مبتدأ محذوف، الليل: مجرور بالإضافة /* (¬1) المعنوية، وهي مقدَّرة باللام، لم يحل: فعل مضارع مجزوم بلم، كان أصله يحول، فاجتمع ساكنان، وهما الواو واللام، قال: وفي البيت سؤال، وهو أن يُقال: أين مفعول تستحيل؛ لأن الأصل استحال زيد على عمروٍ، ولأنه استفعال من الإحالة، فالمفعول محذوف، وهو جار ومجرور متعلق بتستحيل، وحسُن حذفه كونه معلوما من سياق الكلام بقوله عنِّي، إذا قال: أتنام عني علم أنه يقول: وتستحيل عليّ، وموضع المحذوف النصب على المفعولية. المعنى: أتنام عنِّي وهذه عين النجم تراها ساهرة لما أقاسيه وأكابده من الفكر، وتستحيل علي وصبغ الليل كما تراه لم يحل، ولم يتغير، وفي هذا إدماج؛ لأنه أدمج في هذه العبارة أنّ الليل طويل عليه، لم ينسلخ من سواده إلى الفجر، وما أحسن قول ابن الساعاتي (¬2): (من الخفيف) نمتم عن سهاد جفني ولا يعلم ما ضرَّ ساهراً مَن ينامُ ما رعيتمْ حق الجوار وإن كا ن بأدنى الجوار يُرعى الزمامُ وقال الآرجاني (¬3): (من الطويل) ولا تُنِكروا حَقَّ المَشوُقِ فإنّما ... لنا وعليكم أنجمُ اللّيلِ تَشْهَد أبِيتُ نَجِيَّ الهَمِّ في كُلِّ ليلةٍ ... كأنّ بها طَرْفِي طِرافٌ مُمَدَّد وقال ابن منقذ: (من الكامل) ولرُبَّ لَيلٍ تاهَ فِيه نجمهُ ... فقَطعتهُ سهَراً فَطالَ وعسَعسا (¬4) وَسألتهُ عَنْ صُبحهِ فأجابني ... لوْ كانَ في قَيدِ الحَياةِ تَنفسَّا وله أيضا: (من الكامل) لما رأيت النجم ساهٍ طرفه ... والقطب قد ألقى عليه سباتا (¬5) وبنات نعشٍ في الحِداد سوافِراُ ... أيقنت أن صباحه قد ماتا وقال الأرجاني (¬6): (من الكامل) ¬

(¬1) * من هنا تبدأ الصفحة [28 ب] في النسخة ب .. (¬2) ديوانه (م) (¬3) ديوانه 2/ 467 (¬4) البيتان في الغيث المسجم 1/ 343، وفي معاهد التنصيص، ص 479 (م). (¬5) البيتان في الغيث المسجم 1/ 343 (¬6) ديوانه (م)

فهل تعين على غي هممت به ... والغي يزجر أحيانا عن الفشل

لا أَدَّعي جَوْرَ الزّمانِ ولا أَرى ... لَيْلي يَزيدُ على اللّيالي طُولا لكنّ مِرآةَ الصّباح تَنفُّسي ... لِلهمِّ أصدأَ وَجْهَها المَصْقولا وأين صاحب الطغرائي من قول أبي الطيب (¬1): (من البسيط) لا أَستَزيدُكَ فيما فيكَ مِن كَرَمٍ ... أَنا الَّذي نامَ إِن نَبَّهتُ يَقظانا وله عذر في نومه واستحالته على الطغرائي؛ لأن هذا الصاحب سائر على مطايا الراحة والأمن، [والطغرائي] (¬2) قد اقتعد في ذروة القلق، والجد والروع /* (¬3) والطلب، وهيهات، بينهما فرق بعيد وبون، قد ضلَّ مَن اعتقد أنّ الصاحب له عون في الشدائد، يا ويل الشجي من الخلي، هان على الأملس ما لاقى الدبر، ومن قول ابن قلاقس (¬4): (من السريع) يغيظُني وهو على رَسْلِهِ ... والمرءُ في غيظِ سواهُ حَليمْ واستعارة العين للنجم في بيت الطغرائي من أحسن ما يكون، قال الأرجاني (¬5): (من الخفيف) ثُمّ خافَتْ لمّا رأتْ أنجمَ الّليـ ... لِ شَبيهاتِ أعيُنِ الرُّقبَاء وهو مأخوذ من قول الأول (¬6): (من الكامل) ما راعَنا تَحتَ الدُجى شَيءٌ سِوى ... شِبهِ النُجومِ بِأَعيُنِ الرُقَباءِ ومن الألغاز في السماء والنجوم: (من المتقارب) وحسناء خرساء لا تنطق يروقك ملبسها الأزرق (¬7) وأحسن من كل مستحسنٍ عيون لها في الدُّجى تبرقُ فهل تُعِيُن على غَيٍّ هممتُ بهِ ... والغيُّ يزجُرُ أحياناً عن الفَشَلِ اللغة: [الإعانة: المساعدة في الخير والشر، الغَي: الضلال، تقول: غَوَى بالفتح يغوى غيَّاً وغواية، فهو غاوٍ وغوٍ، وأغواه غيره، فهو غوي، على فعيل، الزجر: المنع والنهي، يقال: زجره وازدجره فانزجر وازدجر، أحيانا: الحِين الوقت، وجمعه أحيان، الفشل: الجبن، يقال: فشِل بالكسر فشلاً إذا جبن] (¬8) ¬

(¬1) ديوانه 1/ 229. (¬2) زيادة من الغيث المسجم 1/ 344 يقتضيها السياق. (¬3) * من هنا تبدأ الصفحة [29 أ] في النسخة ب , (¬4) ديوانه (م) (¬5) ديوانه 1/ 15 (¬6) لابن المعتز، ديوانه ص 15. (¬7) البيتان في الغيث المسجم 1/ [345 ب] لا عزو. (¬8) ما بين الحاصرتين من الغيث المسجم 1/ 348، لأن المختصر قال اللغة، وترك مكان كلمة واحدة فراغا، ثم أخذ في الإعراب، ولم يعرض للغة البتة.

إني أريد طروق الحي من إضم ... وقد حماه رماة الحي من ثعل

[الإعراب] (¬1) الفاء: [قد تقدم الكلام عليها] (¬2)، هل: حرف استفهام، وهي اخت أم، ولها صدر الكلام، تعين: فعل مضارع من أًعان يُعين إعانة، على غَيّ: جار ومجرور، هممت: فعل وفاعل، به: جار ومجرور، والغي: الواو للابتداء، والغي: مبتدأ، وجملة يزجر من الفعل والفاعل خبر المبتدأ، أحيانا: ظرف زمان، والعامل فيه يزجر، عن الفشل: جار ومجرور، عن للمجاوزة. المعنى: يقول لصاحبه: أتنام عنّي، وتستحيل عليّ، فهل لك أن تعين صاحبك على غيٍّ همَّ به، وسيأتي تفسير هذا الغي ما هو فيما بعد، فإن الغي يمنع الإنسان في بعض الأوقات من الجبن، وإعانة المرء صاحبه في الحق أمر مندوب إليه، قال الله تعالى: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] (¬3)، وهذا من الواجبات، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، هذا في الأمور المباحة، فأمَّا المحذورة فلا، ومَنْ فعل شارك، وصار له كفل منه، وروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: أنصر أخاك ظالما أو مظلوما، فقيل: يا رسول الله أنصره مظلوما، فكيف أنصره ظالما، قال: تحجبه عن الظلم، فذلك نصرك إياه، وأما الجبن فأمر مذموم، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموه فاثبتوا، واعلموا أن الجنة/* (¬4) تحت ظلال السيوف، وفي كتاب أبي بكر إلى خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنهما: احرص على الموت توهب لك الحياة، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: الجرأة والجبن غرائز يضعهما الله حيث يشاء، فالجبان يفرّ عن أهله وولده، والجريء يقاتل عمن لا يؤوب إلى رحله، وقال خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه عند موته: لقد لقيت كذا وكذا زحفا وما في جسدي / (¬5) موضع قيد [37 أ] شبر إلاّ وفيه طعنة أو ضربة أو رمية، ثم ها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، فلا نامت عيون الجبناء، ويدخل في قول الطغرائي إغراء المحبين من يألفونه ويحبونه بالإقدام على الزيارة، وركوب الأخطار، وتهوين الخطب في الوصال، ويتوصلون إلى ذلك بأنواع من سحر الكلام والمغالِط التي يستعملها البلغاء في الإغراء. إني أُريدُ طروقَ الحَيِّ من إضَمٍ ... وقد حَماهُ رُماةٌ الحيِّ من ثُعَلِ ¬

(¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة من الغيث المسجم 1/ 348، حيث ترك مكانها فارغا بمقدار كلمة واحدة، وربما كان مكان الفراغ كلمة: تقدم. (¬3) المائدة 2 (¬4) * من هنا تبدأ الصفحة [29 ب] في النسخة ب. (¬5) من هنا عود إلى النسخة أ ,

اللغة: الطروق: هو المجيء بالليل، والحي: واحد من أحياء العرب، إضم: جبل، قال الشاعر: وشمت برقاً على الجرعاء من إضم (¬1)، حُماة: منَعَة، رماة الحي: جمع رامٍ، وثُعَل: أبو حيّ من طي، وهو ثُعل بن عمرو، أخو نبهان، وهم الذين عناهم امرؤ القيس بقوله (¬2): (من الرمل) رُبَّ رامٍ مِن بَني ثُعَلٍ ... مُخرجٍ كَفَّيهِ في سترِه وبنو ثعل مشهورون بإتقان الرمي، وقد أكثر الشعراء من نسبة ذلك إليهم، قال ابن قلاقس (¬3): (من الوافر) وحيّ من كنانةَ قد رمَوْني ... بما حوتِ الكنانةُ من سِهامِ إذا انتَضلَوا وما ثَعِلٌ أبوهم ... أتوكَ بكلِ راميةٍ ورامِ ومن هذه القبيلة عمرو بن المسبح الثعلي (¬4)، الذي قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن مائة وخمسين سنة، وكان أرمى العرب بالسهام، وإياه عنى امرؤ القيس بقوله: رُبَّ رامٍ مِن بَني ثُعَلٍ ... . قلت: وقد قال فيه أيضا: غادرون عمر أصحاب الفترات، ذكر ذلك ابن عبد البرفي كتاب الاستيعاب، وهذا من جملة ما استشهد به ابن قتيبة في كتابه طبقات الشعراء على قرب زمن امرئ القيس من زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه كان قبله بمقدار أربعين سنة. الإعراب: إنّ: إنّ واسمها، أريد: / فعل مضارع في موضع خبر إنَّ، طروق: [37 ب] منصوب على المفعول لأُريد، والحي: مضاف إليه إضافة معنوية، من إضم: مِن هنا لبيان الجنس، وقد حماه: هذه واو الحال، وقد حرف تقليل، حماه: فعل ماض، والهاء في موضع نصب على المفعولية، من ثعل: من هنا لبيان الجنس أيضا. المعنى: يقول لصاحبه: الغي الذي طلبت إعانتك عليه وهو أني أريد طروق الحي، [أي] النزول على إضم ليلاً، وقد حماه رماة بني ثعل، وهم المقيمون في الحي، فهل لك في الإعانة على السير إليهم، وقد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طروق الرجل أهله ليلا ... [و] في ذلك فوائد، منها: استعداد المرأة لزوجها بإصلاح شأنها، ومنها أنّ في طروقه ليلا ¬

(¬1) الذي جاء في الغيث المسجم 1/ 356، وفي النسختين المخطوطتين: شبت بأعلى عائد من إضم، وقد بحثت كثيرا عن هذا الجزء من البيت فلم أعثر له على أصل، والذي وجدته الذي أثبته من تخميس قصيدة جيمية للعفيف التلمساني، والبيت بتمامه: وشمت برقاً على الجرعاء من إضم ... قلبي عليك وطرفي غير مختلج انظر: أعيان العصر، ص 5842 / (م). (¬2) ديوانه، ص 75.، وفيه: مُتلجٍ. (¬3) ديوانه (م). (¬4) عمرو بن المسبح، ويقال: ابن المسيح بن كعب بن طريف بن عصر الثعلي الطائي، من بني ثعل بن عمرو بن غوث بن طيئ قال الطبري: عاش عمرو بن المسبح مائة وخمسين سنة، ثم أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووفد إليه، وأسلم، قال: وكان أرمى العرب. الاستيعاب 1/ 372/ المكتبة الشاملة.

يحمون بالبيض والسمر اللدان به ... سود الغدائر حمر الحلي والحلل

التشويش على جيرانه بحركته [في] ذلك الوقت، ومنها غير ذلك، وهذه الحالة، أعني كون الرماة يحمون الحي مما لا يهابه العشاق، ولا يصدهم عن زيارة أحبابهم، ولا يمنعهم من الوصول إليهم، [لأنه قيل]: (من البسيط] علامةُ الحبِّ أنْ يُستصغرَ الخطرُ ... وأن يزورَ ونارُ الحرب تستعر (¬1) قال أبو الطيب (¬2): (من الطويل) يَهونُ عَلى مِثلي إِذا رامَ حاجَةً ... وُقوعُ العَوالي دونَها وَالقَواضِبِ وقال ابن الساعاتي: (من الوافر) رعاكِ اللهُ يا سلمى رعاكِ ... وداركِ باللوى ذاتِ الأراكِ (¬3) أخاف سيوف قومك من معدٍّ ... وما كانت بأقتلَ من هواكِ وقال أبو العلاء المعري (¬4): (من الطويل) أسيرُ ولو أنّ الصّباحَ صوارِمٌ ... وأسْرِي ولو أنّ الظّلامَ جَحافل وللسراج الوراق: (من الكامل) أغنتهمُ تلكَ القُدود عن القنا ... ونضَوا عن البيض الصفاح الأَعينا (¬5) وحمَوا طروقَ الحيِّ حتى لم يكن ... مسرى الخيال إليه أمراَ ممكنا يحمونَ بالبِيض والسُّمْرِ اللدانِ به ... سودَ الغدائرِ حُمْرَ الحَلْي والحُلَلِ اللغة: يحمون: يمنعون، البيض: جمع أبيض، وهو السيف، السمر: جمع أسمر، وهو الرمح، اللدان: جمع لدن، وهو اللين، الغدائر: ضفائر الشعر، واحدتها غديرة، الحلي: ما تتحلّى به المرأة، والحلل: جمع حلة، إزار ورداء، ولا يُسمى حلّة حتى يكون ثوبين. الإعراب: يحمون: فعل مضارع من حمى يحمي، الواو: ضمير الفاعلين، والنون: علامة الرفع، بالبيض: الباء فيه للاستعانة، والسمر: الواو هنا عطفت اسما على اسم، والسمر معطوف على المجرور، اللدان: صفة للسمر، والضمير في به يعود إلى الحي، والباء هنا ظرفية بمعنى في، والمعنى يحمون في الحي سود الغدائر، الغدائر: مجرور بالإضافة، وهو منصوب على أنه مفعول به ليحمون، حمر الحلي: صفة لسود، بل صفة ثانية للمحذوف المقدّر، وهو المفعول حقيقة، والحلي: مضاف إليه، وإن شئت جعلته بدل كل من كل، أعني حمر الحلي بدل كل من سود الغدائر، والحلل معطوف على الحلي. ¬

(¬1) البيت في الغيث المسجم 1/ 361 / بلا عزو. (¬2) ديوانه 1/ 267 (¬3) البيتان في الغيث المسجم 1/ 361 (¬4) ديوان سقط الزند، ص 194، وفيه: وأغدو ولو أنّ الصباح. (¬5) البيتان في الغيث المسجم 1/ 363

المعنى: هؤلاء الرماة الذين هم من بني ثعل يحمون بالبيض التي هي السيوف، والسمر اللينة، التي هي الرماح أبكارا سود الضفائر، حمر الحلي والبرود، يعني أنّ حليهن من الذهب الأحمر، ولباسهن من الحرير الأحمر. قال أبو الطيب (¬1): (من البسيط) مَنِ الجَآذِرُ في زِيِّ الأَعاريبِ ... حُمرَ الحُلى وَالمَطايا وَالجَلابيبِ وقال أيضا (¬2): (من الطويل) بِكُلِّ فَلاةٍ تُنكِرُ الإِنسَ أَرضُها ... ظَعائِنُ حُمرُ الحَليِ حُمرُ الأَيانِقِ ومن قول الطغرائي أخذ ابن الساعاتي [قوله]: (من البسيط) من الظباء اللواتي لا ذمامَ لها ... من أين يعرفنَ رَعْيَ العهدِ والذمَمِ (¬3) بيض الترائب سمر اللحظِ يحجبها ... سودُ الذوائب حُمرُ الحلي والنعمِ ولا شكّ أن اللباس الأحمر / يزيد الحسن رونقا، ويفيده روحنة، ويكسبه رونقا آخر [38 ب] قال أبو حجيفة وهب بن عبد الله السوائي: ما رأيت ذا لمّة سوداء في حلة حمراء أحسن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما قول الشاعر (¬4): (من الطويل) هِجَانٌ عليها حُمْرَةٌ في بياضِها ... تَرُوقُ بهِ العينينِ والحُسْنُ أحمَرُ فإنه عنى به الحسن في حمرة اللون مع البياض دون غيره من الألوان، قال الحريري في درة الغواص: أمَّأ قولهم الحسن أحمر (¬5)، فإنّ معناه أنّه [لا يُكتسب] ما فيه الجمال إلاّ بتحمُّل مشقة يحمارُّ منها الوجه، كما قالوا للسنة المجدبة حمراء، وكنّوا عن الأمر المستصعب بالموت الأحمر، انتهى. قال الشارح: ويحتمل أن يكون المراد بقولهم الموت الأحمر أنه القتل الذي فيه سفك الدم، قلت: وهذا في غاية البعد، بل كلامهم أعمّ من ذلك، فقد قالوا: الفقر هو الموت الأحمر، والسبب فيه قوله عليه السلام: كاد الفقر أن يكون كُفرا، ومن قول الطغرائي قول أبي الطيب (¬6): (من الطويل) دِيارُ اللَواتي دارُهُنَّ عَزيزَةٌ ... بِسمر القَنا يُحمينَ لا بِالتَمائِمِ وقول أبي إسحاق الغزي: (من الوافر) وبوركَ في خيامِ قبيلِ سلمى وفي تلكَ المضاربِ والحِجالِ (¬7) ¬

(¬1) ديوانه 2/ 210 (¬2) ديوانه 2/ 148 (¬3) البيتان في الغيث المسجم 1/ 368 (¬4) نسبه الزمخشري في ربيع الأبرار، ص 2444/ (م) لبشار , (¬5) درة الغواص، ص 228 ـ229 (¬6) ديوانه 1/ 254، وفيه: بطول القنا يُحفظن. (¬7) البيتان في الغيث المسجم 1/ 368

فما أوتادُهُنّ سوى المواضي ولا أطنابَهُنّ سوى العوالي وقال الأرجاني (¬1): (من الكامل) وقِفا لصائدةِ الرّجال بدَلّها ... وخفا جِنايةَ عينها الحوراء وتَحدَّثا سِرّاً فحولَ قبابها ... سُمرُ الرّماحِ يَمِلنَ للإصغاء وقال السراج الوراق: (من الطويل) من البيضِ تمشي البيضُ حولَ خِبائِها شبيهةُ نومي ليسَ يأوي إلى جَفنِي (¬2) غزالةُ أُنْسٍ والرِّماحُ كِناسُها ومن حولِهِ قومٌ يُخالون كالجنِّ لهم غيرة قد ساء بالطَّيفِ ظنُّها فضنُّوا عليها بالكرى خِيفَة الظَّنِ ولله درّ المجنون إذ يقول (¬3): (من الطويل) وحقكم لا زرتكم/ في دجنة ... من الليل تخفيني كأني سارق ... [39 أ] ولا زرت إلاّ والسيوف هواتِفٌ ... إليَّ وأطراف الرماح لواحق وبيت الطغرائي فيه من البديع التدبيج، وهو تفعيل من الدَّبج، وهو النقش والتزيين، وأصل الديباج فارسي معرب، والتدبيج في البديع في مدح، أو ذمٍّ، أو وصف، ألفاظ تدل على ألوان مختلفة، كقول ابن حيّوس (¬4): (من الخفيف) إِن تُرِد عِلمَ حالِهِم عَن يَقينٍ ... فَالقَهُمْ يوم نائلٍ أو نِزالِ تَلقَ بيضَ الوجوه سودَ مُثارِ الـ ... نَقعِ خُضرَ الأَكنافِ حُمرَ النِصالِ وأخذه ابن النبيه فقصّر عنه في قوله (¬5): (من السريع) لَهُ بَنانٌ طافِحٌ بِالنَّدَى ... فَهُنَّ إِمَّا دِيَمٌ أَوْ بِحارْ بِيْضُ الأيادِي خُضْرُ رَوْضِ الرِّضى ... حُمرُ المَواضِي فِي العَجاجِ المُثارْ والطغرائي ذكر في بيته البيض والسمر والسود والحمر، وما أحسن قول القائل (¬6): ... (من الكامل) الغصنُ فوقَ الماء تحت شقائقٍ ... مثلُ الأسنة خُضِّبَتْ بدماءِ كالصَّعْدةِ السمراءِ تحتَ الراية الـ ... حمراء فوقَ الَّلأمة الخضراءِ ¬

(¬1) ديوانه 1/ 31، وفيه: فصفا جناية. (¬2) الأبيات في الغيث المسجم 1/ 369 (¬3) نسب البيتان في كل من: الوافي بالوفيات، ص6880/ (م)، وفوات الوفيات 1/ 182،والنجوم الزاهرة، ص 2738 / (م) لإسماعيل بن على المعروف بالعين زربي. (¬4) ديوانه (م) (¬5) ديوانه (م) (¬6) نسب ابن ظافر الأزدي البيتين في كتابه غرائب التنبيهات على عجائب التشبيهات، ص 149 / (م) لابن الزقاق.

فسر بنا في ذمام الليل معتسفا ... فنفحة الطيب تهدينا إلى الحلل

الحديث المدبَّج عند علماء الحديث هو الذي يروي فيه الأقران بعضهم عن بعض، وهو متقاربون في السن والإسناد، وربما اكتفى الحاكم أبو عبد الله فيه بالتقارب في الإسناد إنْ لم يوجد التقارب في السن، وهو مراتب، ذكرها أهل الحديث، فلا نطيل بذكرها. فسِرْ بنا في ذِمامِ الليلِ مُعْتَسِفَاً ... فنفحةُ الطِيب تَهدِينَا إِلى الحِلَلِ اللغة: الذمام: الحرمة، والاعتساف: افتعال من العسف، وهو الأخذ بغير دليل، نفحة الطيب: رائحة نفح الطيب، تهدينا: ترشدنا، الحلل: جمع حلة [وهي بيوت القوم] (¬1). الإعراب: الفاء للتعقيب، أي عقب كلامه بأن قال: فسر، أمره بالسير، معتسفا: اسم فاعل، وهو منصوب على الحال، وصاحبها الضمير / المقدر في سر، وهوأنت، [39 ب] والعامل فيها سر، فإن قيل: لأي شيء لم يقل معتسفين لأنهم جماعة، أو مُعتسفَيْن لأنهما اثنان قد شملهما السير، فالجواب أنه أراد أن يقول لصاحبه: تقدم أنت وسِر بنا إماما، واعتسف الأرض، ودعني مشغولا بما أنا فيه من الفكر، وحديث النفس، ولا تخف؛ فنفحة الطيب التي تتضوع من أهل الحي تهديك وتدلك على الطريق إليهم، فنفحة الطيب: الفاء هنا سببية، ونفحة مرفوع على الابتداء، والطيب مجرور بالإضافة، تهدينا: فعل مضارع من هدى يهدي، فهو ثلاثي مفتوح الأول، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء؛ لأنه معتل، لا يظهر فيه الإعراب، إلى الحلل: محله النصب، لتعلقه بتهدينا. المعنى: فسر بنا في ذمام الليل فإنه يسترنا، واعتسف السير، ولا تركب طريقا، ولا تخش الضلال عن طريق الحي، فإن له نفحة طيب من أهله ترشدك إلى الحلة التي هم بها نزول، وهذا معنى لطيف، وتركيب دقيق، وقد جرت علدة الشعراء [بأن يذكروا] (¬2) أن مواطن الحبيب وأماكنه تتضوع بأنواع الطيب، وتأرج النسمات بنفحاته العطرية، قال محمد بن عبد الله النميري (¬3) في زينب أخت الحجاج بن يوسف الثقفي: (من الطويل) تَضوَّعَ مِسكاً بَطنُ نُعمانَ إِن مَشَت ... بِهِ زينَبٌ في نِسوَةٍ عَطراتِ لَهُ أَرَجٌ مِن مَجمَرِ الهِندِ ساطِعٌ ... تَطلَّعُ رَيَّاهُ مِنَ الكَفراتِ ولمَّا بلغ الحجاج أن النمري تغزل بأخته تهدده، وقال: لولا أن يقول قائل لقطعت لسانه، فهرب إلى اليمن، ثم أنه استجار بعبد الملك بن مروان فأجاره فكتب له الحجاج فأمَّنه (¬4) / ¬

(¬1) زيادة من الغيث المسجم 1/ 373 (¬2) زيادة من الغيث المسجم 1/ 377، وبها يستقيم المعنى (¬3) ديوانه (م). (¬4) كتب في الحاشية: وقال ناسخه عفا الله عنه وقد مررنا بحي من أحياء العرب بالمغرب: وَاهاً لها من خِيامٍ طابَ رَيَّاها ... من طِيبِ حَوراءَ لم يُعْرَفْ مُحَيَّاها مَن لمْ يمر بواديها غداً كَلِفَاً ... فكيف مَنْ مَرَّبالوادي وَحَيَّاها محمد بن أحمد التلمساني لطف الله به.

واستنشده حتى بلغ قوله: وَلَما رَأَت رَكبَ النَميريِّ أَعرَضَت (¬1)، قال له: وما كان [40 أ] ركبك؟ قال: أربعة أحمرة، كنت أجلب عليها القطران، وثلاثة أحمرة لصحبي تحمل البعر، فضحك الحجاج، وخلّى سبيله. قال الشارح: وذكرت بقول الطغرائي قول أبي العلاء المعري (¬2): (من البسيط) المُوقِدُونَ بنجْدٍ نارَ باديَةٍ ... لا يَحضُرونَ وفَقْدُ العِزّ في الحَضَرِ إذا هَمَى القَطْرُ شَبَتْها عَبيدُهمُ ... تحتَ الغَمائم للسّارين بالقُطُرِ القطر هنا: العود، ومعناه أنّ هؤلاء الممدوحين يوقدون النار في الليل ليهتدي الضيف بها إليهم، فإذا كان الغمام، ونزل القطر، وأطفأ النار، أمروا عبيدهم أن يوقدوها بالطيب؛ ليشم الساري الرائحة؛ ليهتدي إليهم، وهذا معنىً غريب، وقول الطغرائي قول التهامي (¬3): (من الكامل) يَترُكنَ حَيثُ حَلَلن وَهي لَطيمَة ... مِمّا نَثرنَ بِهِ العَبيرَ فَطاحا يَهدي ثَراهُ إِلى البِلادِ وَرُبَّما ... حَيَّت بِرَيّاهُ الرِياح رِياحا وقال الأرجاني (¬4): (من الخفيف) بَلِّغاني منازلَ الحَيِّ أسألْ ... ها متى فارقَتْ دُماها الغِيدا واستَدِلاّ على الحمى نَشْرَ مِسكٍ ... من مَجَرِّ الحسانِ فيه البرودا والأصل في هذا كله قول أبي الطيب (¬5): (من الطويل) ولو أنّ ركْباً يمّموكَ لقادَهم ... نسيمُك حتى يستدِلّ به الرّكْبُ وقال الآخر: (من السريع) إن جاء من يبغي لهم منزلاً ... فقل له يمشي ويستنشق (¬6) وقال مسلم بن الوليد (¬7): (من الطويل) أَرادوا لِيُخفوا قَبرَهُ عَن عَدُوِّهِ ... فَطيبُ تُرابِ القَبرِ دَلَّ عَلى القَبرِ ¬

(¬1) تمامه: وَكُنَّ مِن أَن يَلقينَهُ حَذِراتِ، ديوانه (م). (¬2) ديوان سقط الزند، ص 59 (¬3) ديوانه (م) (¬4) ديوانه 2/ 499. (¬5) هذا البيت ليس لأبي الطيب، وقد اختلف فيه على النحو التالي: نسب في الحماسة المغربية، ص 547/ (م) للعباس بن الأحنف، وفي الوافي بالوفيات، ص 14189/ (م) لعبد الله بن محمد المعروف بابن البواب، وفي الوساطة بين المتنبي وخصومه، ص 514 / (م) لأبي العتاهية، وفي الغيث المسجم 1/ [379 ب] لا عزو. وليس هذا هو البيت المقصود فالذي في الغيث المسجم 1/ 379 وهو للمتنبي من الكامل: وَتَفوحُ مِن طيبِ الثَناءِ رَوائِحٌ ... لَهُمُ بِكُلِّ مَكانَةٍ تُستَنشَقُ وبدلا من أن يذكر المختصر هذا البيت قفز عنه إلى البيت الذي يليه. (¬6) لابن النبيه، ولم أجده في المطبوع من ديوانه، وهو في الغيث المسجم 1/ 379 (¬7) ديوانه (م)

فالحب حيث العدى والأسد رابضة ... حول الكناس لها غاب من الأسل

فالحِبُّ حيثُ العِدَى والأُسدُ رابضَةٌ ... حَولَ الكِناسِ لها غابٌ مِنَ الأَسَلِ (¬1) اللغة: الحِب بالكسر: الحبيب، يقال للمذكر والمؤنث بلفظ واحد، وبالضم / المحبة [40 ب] العِدى بكسر العين: الأعداء، وهو جمع لا نظير له، قال ابن السكّيت: لم يأت فعل من النعوت إلاّ حرف واحد، يقال: هؤلاء قوم عِدىً، وأنشد: (من الطويل) إذا كنت في قوم عدي لست منهم ... فكل ما عُلِفتَ من خبيث وطيّبِ (¬2) ويقال: قوم عِدى وعُدى بالضم والكسر، مثل سِوى وسُوى، الأُسد: جمع أسد، ويجمع على أُسْدٍ وأُسود، وأُسْد وآساد، رابضة: باركة، كما تبرك الإبل، حول: يقال: قعد حوله وحواليه، الكناس: موضع الظبي، الغاب: مكان الأسد، الأسل: هنا الرماح. الإعراب: فالحب: مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره مستقر، حيث: ظرف مكان مبني على الضم، وهو في موضع النصب، والعامل فيه مستقر، وقد سدّ مسد الخبر، العدى: مبتدأ، والأسد معطوف عليه، من عطف النسق، رابضة: خبر عن المبتدأ المعطوف، حول: منصوب على الظرفية، لها: جار ومجرور، وهو خبر مقدم، لأن المبتدأ نكرة، وهوغاب، وقوله: لها غاب من الأسل في موضع رفع صفة للأسد. المعنى: حبيبي مكانه حيث الأعادي، والأسود رابضة حول كناسه، وللأسود غاب من الرماح. قال الشارح: ولو كان لي في البيت حكم لقلت: فالحب حيث العِدى كالأسد رابضة؛ لأنه ينتهي إلى أن يقول: حول الكناس لها غاب من الأسل، والأسل هي الرماح (¬3) التي أراها في البيت، والرماح مما يختص بالأناسي، لا بالأسود، وأيضا الأسود فما من شأنها الإلف بالناس؛ لتكون حولهم، قال: فإن قلت أراد بالأسود العِدى؛ وذلك لأنهم في الناس كالأسد، فأطلق ذلك عليهم مجازا، فالجواب لايتأتى له ذلك، وهو قد عطف الأسد على العِدى، والعطف يدل على المغايرة، ووصف / المحبوب بأن الأعادي محيطون به، وحولهم [41 أ] الأسل أبلغ في المنع والتحصن من الأسد، لأن الإنسان أبلغ في الحرص والاحتراز من الأسد لأنه ذو عقل وتفكر، وإنما الأسد بطشه شديد، وعلى الجملة فإن الطغرائي وصف محبوبه بأته مصون محجب، لا سبيل إلى الوصول إليه والحالة هذه، كما قال [ابن] الخياط الدمشقي (¬4): (من الطويل) ¬

(¬1) عجز هذا البيت في الديوان، ص 304 هو: نِصالُها بمياه الغَنْجِ والكَحَلِ (¬2) للكميت بن زيد الأسدي، ديوانه / (م). (¬3) قلب المختصر الكلام، فقد قال: والرماح هي الأسل، انظر الغيث المسجم 1/ 348 (¬4) ديوانه (م). ابن الخياط 450 - 517 هـ / 1058 - 1123 م أحمد بن محمد بن علي بن يحيى التغلبي أبو عبد الله. شاعر، من الكتاب، من أهل دمشق مولده ووفاته فيها. طاف البلاد يمدح الناس، ودخل بلاد العجم وأقام في حلب مدة له (ديوان شعر - ط) اشتهر في عصره حتى قال ابن خلكان في ترجمته: "ولا حاجة إلى ذكر شيء من شعره لشهرة ديوانه".

وَمُحْتَجِبٍ بَيْنَ الأَسِنَّةِ مُعْرِضٍ ... وَفِي الْقَلْبِ مِنْ إِعْراضِهِ مِثْلُ حُجْبِهِ وقال ابن القيسرلني (¬1): (من الطويل) وفوق مُرادي من مراد عقائلٍ ... تبيت المذاكي القب سجف قبابها وما أحسن قول ابن خفاجة: (من الطويل) لَقَد جُبتُ دونَ الحَيِّ كُلَّ تَنوفَةٍ ... يَحومُ بِها نَسرُ السَماءِ عَلى (¬2) وَكرِ وَخُضتُ ظَلامَ اللَيلِ يَسوَدُّ فَحمُهُ ... وَدُستُ عَرينَ اللَيثِ يَنظُرُ عَن جَمرِ وَجِئتُ دِيارَ الحَيِّ وَاللَيلُ مُطرَفٌ ... مُنَمنَمُ ثَوبِ الأُفقِ بِالأَنجُمِ الزُهرِ أَشيمُ بِها بَرقَ الحَديدِ وَرُبَّما ... عَثَرتُ بِأَطرافِ الثقَّفَةِ ِ السُمرِ فَلَم أَلقَ إِلّا صَعدَةً فَوقَ لامَةٍ ... فَقُلتُ قَضيبٌ قَد أَطَلَّ عَلى نَهرِ وَلا شِمتُ إِلّا غُرَّةً فَوقَ أَشُقر ... فَقُلتُ حَبابٌ يَستَديرُ عَلى خَمرِ فَسِرتُ وَقَلبُ البَرقِ يَخفُقُ غَيرَةً ... هُناكَ وَعَينُ النَجمِ تَنظُرُ عَن شَزرِ وقال (¬3): (من الطويل) وَلَيلٍ طَرَقتُ المالِكِيَّةَ تَحتَهُ ... أَجَدَّ عَلى حُكمِ الشَبابِ مَزارا فَخالَطتُ أَطرافَ الأَسِنَّةِ أَنجُماً ... وَدُستُ لِهالاتِ البُدورِ دِيارا واعلم أنّ بيت الطغرائي ذكر فيه أنّ الرقيب ملازم لمحبوبه، ولا شك أنّ ملازمته الرقيب أمر يضني، ومرض يفري الحشا ويفني، والمحبون ابتلوا به قديما، ورعوا به روض المحبة هشيما، وأرى أن الرقيب هو المبتلى، وصاحب السهر والتعب، على أنه ما عشق ولا سلا، وذلك لأن العاشق يجد في الغرام لذة عليه عائدة، والرقيب / ضاع زمانه [41 ب] وذاب فؤاده بلا فائدة، ولهذا قال ابن رشيق: (من الطويل) تأَذَّى بِلَحْظي مَنْ أُحِبُّ وَقالَ لي ... أَخافُ منَ الْجُلاَّسِ أَنْ يَفْطِنوا بِنا وَقالَ إِذا كَرَّرْتَ لَحْظَكَ دُونَهُمْ ... إِليَّ فَما يَخْفى دَليلُ مُريبِنا فَقُلْتُ بُلِينا بالرَّقيبِ فَقال ما ... بُلِينا وَلكِنَّ الرَّقيبَ بُلي بِنا وما ألطف قول ابن المعتز (¬4): (من الخفيف) وا بَلائي مِن مَحضَري وَمَغيبي ... من َحَبيبٍ مِنّي بَعيدٌ قَريبُ لَم تَرِد ماءَ وَجهِهِ العَينُ إِلّا ... شَرِقَت قَبلَ رَيَّها بِرَقيبِ ¬

(¬1) البيت في الغيث المسجم 1/ 385 (¬2) ديوانه (م) (¬3) ابن خفاجة أيضا. ديوانه (م) (¬4) ديوانه، ص 52

نؤم ناشئة بالجزع قد سقيت ... نصالها بمياه الغنج والكحل

وبالغ القائل في ملازمة الرقيب (¬1): (من الخفيف) أنا والحب ما خلونا ولا طرفةُ ... عينٍ إلا علينا رقيبُ ما اجتمعنا بحيثُ إنْ لم يكن لدهـ ... رِ بأني اقول انتَ الحبيب بل خلونا بقدر ما قلت أنت الح فوافى فقلت كيم الطبيب قال الشارح: وما ترك هذا الشاعر غاية لمن بعده في الظرف، وتذكرت من هذه المادة ما ذكره الحريري في درة الغواص قال: حكى لي أبو الفتح عبدوس بن محمد الهمداني حين قدم البصرة حاجا في سنة أربع وستين وأربعمائة أن الصاحب أبا القاسم بن عباد رأى أحد ندمائه متغير السحنة، فقال: ما الذي بك؟ قال له الصاحب قه، فقال له النديم وه، فاستحسن الصاحب ذلك، وخلع عليه. قيل إنّ بعض الظرفاء سمع امرأة حسناء وقد أتت إلى جانب نهر تقول: يا جارية أين أضع رجلي، فقال: على كتفي، فقالت له، بخفي، فقال لها: رقبة زوجك، فقالت له: [من أين] خرجت: فقال لها: من بيتك، فقالت له: مصفوع، فقال لها: على تهمة بك، فقالت له: وأنت بريء، فانقطع. قال الطغرائي رحمه الله: نَؤمُّ ناشِئةً بالجزع قد سُقيَتْ ... نِصالُها بمياه الغَنْجِ والكَحَلِ اللغة: نؤم: أي نقصد، ناشئة: مؤنثة ناشئ، الجزع: منعطف الوادي / النِّصال: [42 ب] نصل، وهو نصل السيف والسهم، ويجمع على نصول، مياه: جمع ماء، والغنج: معروف، والكحل: سواد يعلو جفن العين. الإعراب: نؤُمُّ: فعل مضارع مرفوع، وفاعله مستتر، أي نحن، ناشئة: مفعول به، وهو صفة لموصوف محذوف تقديره نؤم فتاة ناشئة، وهذا جائز، نطق القرآن به كثيرا، كقوله تعالى: [ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا] (¬2) أي شخصا، بالجزع: موضعه نصب بما في ناشئة من معنى الفعل، والباء هنا ظرفية، قد: حرف توقع، سقيت: فعل مُغيَّر لما لم يسم فاعله، نصالها: مفعوله (¬3)،والضمير في موضع جر بالإضافة، بمياه الغنج: متعلق بسقيت، والباء هنا زائدة، كما في قوله تعالى: [وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ] (¬4) والكحل: معطوف على الغنج، والجملة في قوله قد سقيت إلى آخره في محل نصب على الصفة لناشئة. ¬

(¬1) الأبيات في الغيث المسجم 1/ [394 ب] لا عزو (¬2) النساء 112 (¬3) أي مفعول ما لم يسم فاعله كما في الغيث المسجم، ص 1/ 397 (¬4) البقرة 195

قد زاد طيب أحاديث الكرام بها ... ما بالكرائم من جبن ومن بخل

المعنى: نقصد فتاة أو فتيات بمنعطف الوادي، ونصالها التي تُحمى بها قد سقيت بمياه الغنج والكحل، وهذا معنى قد أولع الشعراء به، وأكثروا منه، قال أبو الشيص (¬1): (من الكامل) يَرمينَ أَلباب الرِجالَ بأَسهُم ... قَد راشَهُنَّ الكُحلُ والتَهديبُ وقال ابن سناء الملك (¬2) من أبيات: (من الطويل) لها ناظرٌ يا حيرةَ الظبي إِذْ رنا ... به كَحَلٌ ناداه يا خَجلة الكُحل وأَثقلَها الحسنُ الَّذي قد تكاثرَتْ ... ملاحتُه حتَّى تَثَنَّت مِنَ الثِّقل وقال بشار بن برد (¬3): (من الوافر) إِذا قامَت لِحاجتٍها تَثَنَّت ... كَأَنَّ عِظامَها مِن خَيزُرانِ والخفة أمر يُطلب في كل شيء يستحسن، أنشد الشيخ علاء الدين الباجي رحمه الله لنفسه: (من الوافر) رثى لي عُذَّلي إذ عاينُوني ... وسُحْبُ مَدامعي مثلُ العيونِ (¬4) ورامُوا كُحلَ عيني، قلتُ: كفُّوا ... فأصلُ بليَّتي كُحلُ العيون وفي بيت الطغرائي من أنواع البلاغة الكناية، ولا شكّ أنها أبلغ من التصريح، وأوقع في النفوس، ألا ترى أن قولك: بعيدة مهوى القرط أبلغ من قولك طويلة العنق، وامرؤ القيس أبرع الناس في الكناية، كان الناس يقولون أسيلة الخد، حتى جاء فقال أسيلة مجرى الدمع إلى غير ذلك مما اخترعه، وما أحسن قول معين الدين بن لؤلؤ: (من الكامل) لم أنسه إذ قال أين تحلني ... حذراً علي من الخيال الطارق (¬5) فأجبته قلبي فقال تعجباً ... أرأيت عمرك ساكناً في خافق وقال آخر (¬6): (من مجزوء الكامل) وحللتَ قلباً خافقاً ... يا ساكناً في غير ساكن قد زادَ طيبَ أحاديثِ الكرامِ بها ... ما بالكرائمِ من جُبنٍ ومن بُخُلِ اللغة: أحاديث: جمع حديث على غير قياس، الكرام: جمع كريم، والكرائم: جمع كريمة، الجبن: ضد الشجاعة. وما أحسن قول ابن النقيب: (من الطويل) أَقول وقد شَنّوا إلى الحربِ غارَةً ... دعوني فإني آكل الخبزَ بالجُبنِ (¬7) ¬

(¬1) ديوانه (م) (¬2) ديوانه (م) (¬3) ديوانه (م) (¬4) البيتان في الغيث المسجم 1/ 404. (¬5) البيتان في الغيث المسجم 1/ 407 (¬6) لابن القيسراني، ديوانه / (م). (¬7) البيت في الغيث المسجم 1/ 408

تبيت نار الهوى منهن في كبد ... حرى ونار القرى منهم على القلل

والبخل: ضد الكرم. الإعراب: طيبَ: مفعول به، أحاديث: مضاف إلى المضاف الثاني، بها: بمعنى عن، وما هنا اسم ناقص بمعنى الذي، وبالكرائم: جار ومجرور، والباء هنا للإلصاق، وهذا الجمع لا يقع على هذه الصيغة إلاّ للمؤنث، وشذّ منه ثلاثة جموع، وهي: فوارس، وهوالك، ونواكس، من جبن: من لبيان الجنس، ومن بخل: معطوف عليه. المعنى: قد زاد طيب الأحاديث من الكرام إذا ما تسامروا، وما يوجد من النساء الكرائم من الجبن والبخل، وهاتان الصفتان محمودتان في النساء، مذمومتان في الرجال؛ لأن المرأة إذا كانت فيها شجاعة ربما كرهت بعلها فأوقعت به فعلاً أدّى إلى /هلاكه، وتمكنت من [43 أ] الخروج من مكانها على ما تراه؛ لأنها لا عقل لها يمنعها مما تحاوله، وإنما يصدها عما يقتضيه عقلها الجبن الذي عندها، والخوف، فإذا لم يكن لها مانع من الجبن، أقدمت على كل قبيح، وتعاطت ما تختاره إقداما منها على ما يأمرها به الشيطان، وقصة شرحبيل بن الخريت مع زوجته مية بنت عمرو بن مسعود مشهورة، ملخصها أنها كانت نائمة إلى جنبه في الفراش، فأقبل أسود سالخ (¬1) فاتح فاه لينهشه، والسراج يزهر (¬2)، فأخذت بحلقه وخنقته إلى أن مات، وتركته تحت الفراش ميتاً، فلما أصبح أبوه وأمه أتيا إليه ليوقظانه، وكانا يفعلان ذلك تعظيما له فأخرجت السالخ إليهما ميتا، فقالا: مَن قتل هذا، فقالت: أنا قتلته، ولو كان أشد من هذا قتلته، فقال أبوه: يا شرحبيل خَلِّ عنها، فهي وأبوها للرجل أقتل، فطلقها مكرها. وإذا كانت المرأة سمحة جادت بما في يدها، فأضر ذلك بحال زوجها، ومتى عُلم منها الجود بما يطلب منها ربما حصل الطمع فيها بأمر آخر وراء ذلك، ولهذا جاء في القرآن العظيم: [لَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ] (¬3)، ولأن المرأة ربما جادت بالشيء في غير محله، قال الله تعالى: [وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ] (¬4) قيل: النساء والصبيان، وبالجملة فما أحد من العقلاء حمد كرم المرأة، ولا شجاعتها، وما أحسن قول الغزي: (من البسيط) غريرة تخطف الأبصارَ شاخصةً ... من حولها ببروق البيض والأسلِ (¬5) تنمى إلى القوم جادوا وهي باخلة والجود في الخود مثل الشّح في الرجلِ تبيتُ نارُ الهَوى منهنَّ في كَبِدٍ ... حرَّى ونار القِرى منهم على القُلَلِ ¬

(¬1) السالخ: الأسود من الحيَّات. (¬2) يزهر: يتلألأ (¬3) الأحزاب 32 (¬4) النساء 5 (¬5) البيتان في الغيث المسجم 1/ 413

يقتلن أنضاء حب لا حراك بها ... وينحرون كرام الخيل والإبل

/ اللغة: تبيت: تمسي، النار: معروفة، الهوى، مقصور: ميل النفس، الكبد: [43 ب] معروفة، حرّى: مؤنث حار، القرى: الضيافة، القلل: جمع قلة، وهي أعلى الجبل. الإعراب: تبيت: فعل مضارع، نار الهوى: اسم بات، ومضاف إليه، والجار والمجرور في كبد سدّ مسدّ الخبر الذي لبات، لأنها من أخوات كان، حرّى: مجرور على الصفة لكبد، ونار القرى، عاطف ومعطوف، ومضاف، على القلل: على هنا للاستعلاء، والجار والمجرور متعلق بمحذوف، وقال في النار الثانية منهم؛ لأن الضمير يعود إلى رجال الحي الذين جعلهم عِدىً كالأسد. المعنى: إنّ هذا الحي الذي أريد طروقه له ناران: نار نسائه التي تبيت في كبدى حرى، ونار رجاله تبيت في القِرى مضرمة على القلل، وهذا في غاية المدح لهذا الحي لأن نساءه حِسان، ورجاله كِرام، وقوله: في كبد حرّى منكراً نكتة، كأنه قال: نار نسائه في كبد واحدة، وهي كبدي؛ لأنهن غير مبتذلات لمن يراهن، فما يشاركني في محبتهن أحد، ونار قراهم على القلل تبدو لكل ناظر، وقد جمع بين وصف الرجال ووصف النساء في بيت واحد، وهو من البلاغة، ومن هذا قول ابن الساعاتي: (من الكامل) يا ممية الحي الحِسان جفانُهُ ... للهِ ما صنعتْ بنا جفناكِ (¬1) أغنَتْ لِحاظُكِ عن ظباتِ سيوفِهِم ... فيها بلغت من القلوبِ مُناكِ يقتُلنَ أنضاءَ حبٍّ لا حَراكَ بها ... وينحرونَ كرامَ الخيلِ والإِبِلِ اللغة: أنضاء: جمع نضو، وأراد به جماعة العشاق الذين أسقمهم الهوى / [44 أ] ... وأنحلهم، ولهذا أضافهم إلى الحب، والحب: معروف، فإذا أفرط في الحب انتقل من المحبة إلى العشق، فالعشق محبة مفرطة، وليس بإفراط المحبة كما قال بعضهم، فيكون أخص من المحبة، لأن كل عشق محبة، من غير عكس، قال صاحب الريحان والربعان: الحب أوله الهوى، ثم العلاقة، ثم الكلف، ثم الوجد، ثم العشق، وهو مقرون بالشهوة، والحب والمقة من الله، والعشق عند الأطباء من جملة أنواع الماليخوليا، تغير الظنون والفكر من المجرى الطبيعي إلى الفساد، ورسموا العشق بأنه مرض وسواسي يجلبه المرء إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور، والشمائل، وقال أرسطو: العشق عبارة عن عمى العاشق عن عيوب المعشوق. قلت: ويؤيد ذلك من السنة قوله عليه السلام: حبك الشي يعمي ويصم، وقول الشاعر (¬2): (من الطويل) ¬

(¬1) البيتان في الغيث المسجم 1/ 417 (¬2) للإمام الشافعي، ديوانه / (م).

وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ ... وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا ثم اعلم أنّ قول أرسطو المذكور هو خاصة من خواص العشق، والتحقيق أنّ العشق أعم من ذلك، لأن الرئيس أبا علي بن سينا في رسالته في العشق [ذكر] أنه سارٍ في جميع الموجودات المجردات، والفلكيات، والعنصريات، والمعدنيات، والنباتات، والحيوانات، حتى أنّ أرباب الرياضة قالوا: الأعداد المتحابة، واستدركوا ذلك على إقليدس، فقالوا: فاته ذكر ذلك، ولم يذكره، وهي المائتات، والعشرون، عدد زائد أجزاؤه أكثر منه، وإذا جُمِعَت كانت مائتين وأربعة وثمانين، بغير زيادة ولا نقصان، والمائتان والأربعة والثمانون عدد ناقص، أجزاؤه أقل منه، وإذا جمعت كانت جملتها مائتين وعشرين/ فكلٌّ [من] [44 ب] العددين المتحابين أجزاؤه ثل الآخر، بيان ذلك أنّ العدد التام هو الذي إذا اجتمعت أجزاؤه البسيطة الصحيحة كانت مثله وهو ستة؛ فإنّ أجزاءها البسيطة الصحيحة إنما هي النصف وهو ثلاثة، والثلث وهو اثنان، والسدس وهو واحد، ومجموع ذلك ستة، والعدد الناقص ما إذا اجتمعت أجزاؤه البسيطة الصحيحة كانت جملتها أقل منها، وهو ثمانية، فإنما أجزاؤها إنما هي النصف، وهو أربعة، والربع وهو اثنان، والثمن وهو واحد، ومجموع ذلك سبعة، وهي أقلّ من العدد المذكور، والعدد الزائد ما إذا اجتمعت أجزاؤه زادت عليه وهو اثنا عشر، فإن له النصف ' وهو ستة، والثلث وهو أربعة، والربع وهو ثلاثة، والسدس وهو اثنان، ونصفه (¬1) وهو واحد، ومجموع ذلك ستة عشر، وهو يزيد على الأصل، فالمائتان والعشرون لها نصف، وربع، وخمس، وعُشر، ونصف عُشر، وجزء من أحد عشر، وجزء من اثنين وعشرين، وجزء من أربعة وأربعين، وجزء من خمسة وخمسين، وجزء من مائة وعشرة، وجزء من مائتين وعشرين، وجملة ذلك من الأجزاء البسيطة مائتان وأربعة وثمانون [وهي] ليس لها إلاّ نصف، وربع، وجزء من أحد وسبعين، وجزء من مائة واثنين وأربعين، وجزء من مائتين وأربعة وثمانين، فقد ظهر بهذا المثال تحاب العددين، وأصحاب الخواص يزعمون أنّ لذلك خاصيّة عجيبة في المحبة إذا جعل هذا العدد الأقل، والعدد الأكثر في شيء من المأكول، وأكلَ المحب الأكثر، وأطعم الأقل لمن يريد محبته (¬2)، ويجمع هذين العددين قولك: فرد كر. قال الشارح: وكنت قد بخلت بهذه الفائدة أن أودعها هذا الكتاب، ثم رأيت إثباتها فيه، قال: وقد وصف الله تعالى نفسه بالمحبة / فقال [يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ] (¬3)، وأمَّا العشق فلم يرد [45 أ] ¬

(¬1) يعني نصف السدس .. (¬2) تمام الكلام: فإن المحبوب يحبه أكثر مما كان ذاك يحبه. الغيث المسجم 1/ 428 (¬3) المائدة 54

في لسان الشرع، قال الفضيل بن عياض: لو رزقني الله دعوة مجابة لدعوت الله بها أن يغفر للعشاق، فإن حركتهم اضطرارية لا اختيارية، وما أحسن قول القائل (¬1): (من الوافر) وَكَم في الناسِ مِن حسنٍ وَلَكن ... عَليكَ لِشقوتي وقَعَ اِختياري يقال: إن بعض العرب قال لرجل من بني عذرة ما لأحدكم يموت عشقا في هوى امرأة ألفها، إنما ذلك ضعف نفس، ورقة وخور تجدونه فيكم يا بني عذرة، فقال: أما والله لو رأيتم الحواجب الزّج، فوق النواظر الدعج، تحتها المباسم الفلج؛ لاتخذتموها اللات والعزى. رجعنا إلى كلام الطغرائي، لا حراك بهم: الحركة ضد السكون، وينحرون: يذبحون، كرام الخيل والإبل: هي الأصائل. الإعراب: يقتلن: فعل مضارع، والنون نون الإناث، ومن شأن الفعل المضارع إذا اتصلت به [هذه] النون [أنْ] يبنى على السكون، أو نون التوكيد بني على الفتح، أنضاء: مفعول يقتلن، والفاعل فيه ضمير مستتر يرجع إلى نساء الحي، وحب: مضاف إليه، لا حراك: لا هذه لا التي لنفي الجنس، وحراك اسمها، وينحرون: الواو عاطفة جملة فعلية على مثلها، كرام: مفعول ينحرون، والخيل والإبل: مضافان إضافة معنوية، والواو في والإبل عطفت الاسم على الاسم، وكأنه قال: ينحرون كرام الخيل، وكرام الإبل، وأنّث الضمير في يقتلن، وذكّره في ينحرون؛ لأنه في الأول ضمير نساء، وفي الثاني ضمير الرجال، كما قال في منهن ومنهم في البيت الأول. المعنى: إنّ هذا الحي / نساؤه يقتلن العشاق الذين أسقمهم الهوى، وأنحلهم، فما لهم [45 ب] حركة البتة، ورجاله ينحرون للأضياف كرام الخيل، وكرام الإبل، فمعناه معنى البيت الذي تقدم، وهو بليغ لأنه جمع في البيت الواحد بين مدح الرجال ومدح النساء على ما تقدم أولا، وقدم الخيل لأنها أشرف من الإبل، وقد وصف أهل هذا الحي بما هو أعلى صفات المدح؛ لأن الحسن كلما كان بارعا كلما زاد المحب هلاكا، والكرم غايته أن ينحر للضيف الخيل والإبل، بخلاف ما ينحر فيه دون ذلك من الضأن والمعز، وأمَّا الضيف فقد أوجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقّه، فقال: ليلة الضيف حق واجب (¬2)، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. والضيافة ثلاثة أيام، فما زاد فهو صدقة، ولا يحق له أن يثوي عنده حتى يخرجه، وفي رواية حتى يؤثمه، قالوا يارسول الله كيف يؤثمه، قال: يقيم عنده ولا شيء عنه يقريه، وقد أجمع المسلمون على تأكيد الضيافة ¬

(¬1) جاء في الغيث المسجم 1/ [430 أ] نه لأبي فراس، ولم أجده في المطبوع من ديوانه. (¬2) كنز العمال 9/ 253/ المكتبة الشاملة، وفيه: ليلة الضيف حق واجب وإن يصبح محروما بفنائه وجبت نصرته على المسلمين حتى يأخذوا له بحقه من زرعه وضرعه لما حرمه من حق الضيافة.

يشفى لديغ العوالي في بيوتهم ... بنهلة من غدير الخمر والعسل

وأنها من متأكدات الإسلام، قال الشافعي، ومالك، وأبو حنيفة، والجمهور، رضي الله عنهم: هي سُنَّة ليست بواجبة، وقال الليث، وأحمد رضي الله عنهما: هي واجبة يوما وليلة على أهل البادية، والقرى دون أهل المدن، وتأول الجمهور هذه الأحاديث على الاستحباب كحديث غسل الجمعة واجب على كل محتلم، أي متأكد الوجوب، حكي عن الأبرش الكلبي أنه كان عنده ضيف، فقام الضيف يصلح المصباح، فقال له: مه ليس من المروءة أن / يُستخدَم الضيف، وكذلك اتّقق لعمر بن عبد العزيز مع رجاء بن حيوة. ... [46 أ] يُشفَى لديغُ العوالِي في بُيوتهِمُ ... بنهلةٍ من غَدِيْرِ الخَمْرِ والعَسَلِ اللغة: لدغته العقرب تلدغه لدغاً فهو ملدوغ ولديغ، العوالي: الرماح، النهلة: الشربة الواحدة، والمنهل: المورد، والغدير: القطعة من الماء، الخمر: معروف، والعسل: يذكّر ويؤنّث، وهو مجاج النحل. الإعراب: يُشفى: فعل مضارع مبني لما لم يسم فاعله، لديغ: فاعله، العوالي: جمع عالية، وموضعها جر بالإضافة، والضمير في بيوتهم يعود على رجال الحي، والجار والمجرور في موضع جر بالإضافة، بنهلة: الباء هنا للاستعانة، والجار والمجرور يتعلق بيُشفى، ويصلح أن يكون حالا، من غدير: من هنا لبيان الجنس، وتكون للتبعيض، وغدير هنا مفعول؛ لأنه يُغادَرُ من السيل في الأودية. المعنى: إن هؤلاء القوم من وصفهم أنّ لديغ العوالي الذي طُعن يشفى بشربة واحدة من غدير الخمر والعسل، وقوله: لديغ العوالي الملدوغ، حقيقة في العقرب، مجازا في غيره، وقوله: بشربة من غدير الخمر والعسل هو كناية عن رضاب الفتيات اللاتي تقدم ذكرهن، شبه ريقهن بالخمر والعسل، وإلاّ لو حمل على حقيقته كذّبه الحس؛ لأن الذي يُطعن بالرمح لا يشفى بشرب العسل والخمر، ولهذا عكس قول القائل (¬1): (من الكامل) سُكْرانِ سُكْرُ هوى وسكرُ مُدامَةٍ ... فمتى إفاقةُ مَنْ بهِ سُكرانِ أي لا إفاقة له، ولا إقالة من عثرته ما دام متصفا بهذا الوصف، واعلم أنّ للشعراء ألفاظا صارت بينهم حقائق عرفية، وإن كانت في الأصل مجازا؛ لكثرة دورانها في كلامهم، وتعاطيهم استعمالها؛ لأنهم ألفوا ذلك من تداولها وتكرارها على ألسنتهم، ومسامعهم، فمن / ذلك الغصن إذا أطلقوه فهموا منه القوام، والكثيب إذا أطلقوه فهموا منه الردف [46 ب] والورد إذا أطلقوه فهموا منه الوجنة، والأقاح إذا أطلقوه فهموا منه الثغر، والراح إذا أطلقوه فهموا منه الريق، والنرجس إذا أطلقوه فهموا منه العيون، وكذا السيوف والسهم والسحر، فإذا أطلقوا الآس أو البنفسج أو الريحان فهمو منه العِذار، كل هذه الأشياء انتقلت من ¬

(¬1) لديك الجن الحمصي، ديوانه / (م).

وضعها الأصلي، وصارت حقايق عرفية، نقلها الاصطلاح إلى هذه الأشياء، قال ابن المعتز (¬1): (من الكامل) ومهفهفٍ ألحاظُهُ وعِذارُهُ ... يتعاضدان على قتال الناس سفك الدماء بصارمٍ من نرجسٍ ... كانت حمائل غمده من آس وقال آخر (¬2): (من الوافر) وليلة بتها من ثغر حبي ... ومن كأسي إلى فلق الصباح أقبل أقحواناً في شقيق ... وأشربها شقيقًافي أقاحي وهو من قول المطوعي (¬3): (من الوافر) ومعسولِ الشمائل قامَ يسعى ... وفي يده رحيقٌ كالحريق فأسقاني عقيقاً حَشْوَ درّ ... ونقّلني بدُرٍّ في عقيق وقال ابن النبيه (¬4): (من الطويل) رُضابُكَ راحي آسُ صُدْغَكَ رَيْحانِي ... شَقيقي جَنَى خَدَّيْكَ جِيدُكَ سُوسانِي وَبَيْنَ النَّقا وَالْبَدْرِ تَهْتَزُّ بانَةٌ ... لَها ثَمَرٌ مِنْ جُلَّنارِ وَرُمَّان وذكر الطغرائي الشفاء بالعسل والخمر لوجهين، الأول لما جاء في قوله تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ] (¬5) الآية، قال أصحاب التفسير: إنّ العرب كانت إذا غلَبت في الميسر مهما خرج لأحدهم تصدق به على الفقراء والمحاويج، ويعيبون على مَنْ لا يفعل ذلك، ويسمونه البرم، ومذهب الشافعي رضي الله عنه لا يجوز التداوي بالخمر، ولا يجوز أن يستعمل إلاّ لإساغة اللقمة للمغصوص خاصة / ومذاهب لبعلماء في النبيذ، والقليل من [47 أ] الخمر معروفة، فلا نطيل بذكرها، الوجه الثاني لما جاء في قوله تعالى: [يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ] (¬6) قال مجاهد: المراد أنّ القرآن فيه شفاء للناس، والصحيح أن المراد بها العسل، لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وهو الشراب، وعن ابنمسعود رضي الله عنه أن العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ رجلا جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إنّ أخي يشكو بطنه، فقال: اذهب واسقه عسلا، فقال: قد سقيته فلم يغن عنه، فقال عليه السلام: اذهب واسقه عسلا، قال: قد سقيته فلم يغن عنه شيئا، فقال: صدق الله، وكذب ¬

(¬1) البيتان في الغيث المسجم 1/ 443، ولم أجدهما في المطبوع من ديوانه. (¬2) لمجير الدين بن تميم كما في الوافي بالوفيات، ص 3768 / (م). (¬3) جاء في المخطوطة: وهو من قول الطغرائي، وهو خطأ، وما أثبتناه أنه لأبي حفص عمر المطوعي من معاهد التنصيص، ص 882 ـ 883 / (م)، ومن الغيث المسجم 1/ 443 (¬4) ديوانه (م) (¬5) البقرة 219 (¬6) النحل 69

بطن أخيك، فسقاه فبرئ كأنما ذل من عقال، وحملوا قوله عليه السلام: صدق الله، على قوله تعالى [فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ]، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وكذب بطن أخيك، أنه علم بنور الوحي أن ذلك العسل سيظهر نفعه، فلمَّا لم يظهر نفعه في الحال كان على بيّنة من شفائه، فقال: كذب بطن أخيك. فإن قيل: كيف يكون العسل شفاء للناس، وهو مُضرّ بالصفراء، مهيّج للمرارة؟ فالجواب أنه تعالى لم يقل شفاء لكل الناس، ويكفي منه أنّ كلّ معجون مركّب لم يكن تمامه إلاّ بالعسل، والأشربة المتخذة منه للأمراض البلغمية عظيمة النفع، فقد حصل فيه شفاء للناس، وذهب قوم من أهل الجهالة أنّ المراد بهذه الآية أهل البيت. وهذا المعنى الذي في بيت الطغرائي حسن، كأنه يقول إنّ الذي يُطعن بالرماح متى ارتشف شربة واحدة من ريق هذه الفتيات اللاتي في الحي شفي، وذهب عنه الألم، إمَّا لآنه يذهل عن الألم / بلذة يجدها في رشف ريقهن، وإمَّا بالخاصية التي في العسل، والأول [47 ب] أشعر وأغزل، وقد اشتهر تشبيه الريق عند الشعراء بالراح والعسل، قال عرقلة (¬1): (من الخفيف) بابِلِيُّ اللِحاظِ في كُلِّ عُضوٍ ... لي مِن قَوسِ حاجِبَيهِ سِهامُ حَرَّموا ريقَهُ عَلَيَّ وَلَكِن ... صَدَقَ الشَرعُ ما تَحِلُّ المُدامُ وقال أبو إسحاق الصابئ: (من الرمل) بأبي مبسمٌ إذا لاحَ أهدي بُرُداً ينفع الجوانح بردا (¬2) شهد اللثم صادقاً وهو عدل ... أنّ في ثغرها رحيقا وشهدا وقال بشار بن برد (¬3): (من البسيط) يا أَطيبَ الناسِ ريقاً غَيرَ مُختَبَرٍ ... إِلّا شَهادَةَ أَطرافِ المَساويكِ قَد زُرتِنا مَرَّةً في الدَهرِ وَاحِدَةً ... عودي وَلا تَجعَليها بَيضَةَ الديكِ وقال البهاء زهير (¬4): (من الطويل) فُتِنتُ بِهِ حُلواً مَليحاً فَحَدِّثوا ... بِأَعجَبِ شَيءٍ كَيفَ يَحلو وَيَملَحُ وَقَد شَهِدَ المِسواكُ عِندي بِطيبِهِ ... وَلَم أَرَ عَدلاً وَهوَ سَكرانُ يَطفَحُ وقال ابن الساعاتي (¬5): (من الكامل) ¬

(¬1) عَرقَلَةِ الكَلبِيّ 486 - 567 هـ / 1093 - 1171 م حسان بن نمير بن عجل الكلبي أبو الندى. شاعر من الندماء، كان من سكان دمشق واتصل بالسلطان صلاح الدين الأيوبي فمدحه ونادمه ووعده السلطان بأن يعطيه ألف دينار إذا استولى على الديار المصرية، فلما احتلها أعطاه ألفين فمات فجأة قبل أن ينتفع بفجأة الغنى. ديوانه (م). (¬2) البيتان في الغيث المسجم 1/ 447 (¬3) ديوانه (م). (¬4) ديوانه (م). (¬5) ديوانه (م).

لعل إلمامة بالجزع ثانية ... يدب منها نسيم البرء في عللي

قبلتها ورشفت خمرة ريقها ... فوجدت نار صبابة في كوثر ودخلت جنة وجهها فأباحني ... رضوانها المرجو شرب المسكر وقال التهامي (¬1): (من الوافر) وَأقسمُ ما مُشعشعةٌ شَمولٌ ... ثَوَت في الدَن عاماً بَعدَ عامِ إِذا ما شاربُ القوم اِحتَساها ... أَحَسَّ لَها دَبيباً في العِظامِ بِأَطَيبِ من مُجاجتهنَّ طَعماً ... إِذا استيقظنَ من سِنَةِ المَنامِ وَلَم أَشهدْ لَهُنَّ جَنىً وَلكن ... شَهدنَ بِذاك أَعواد البشامِ وقال الشارح (¬2): (من الخفيف) وغزالٍ غزا فؤادي بسهمٍ ... وسنانٍ من طرفهِ الوسنانِ كم سقاني من ثغرهِ كأس خمرٍ ... فرشفتُ السُّلافَ من أُقحوانِ قال الطغرائي: لعلَّ إِلمامةً بالجِزعِ ثانيةً ... يدِبُّ منها نسيمُ البُرْءِ في عللي اللغة: لعل: كلمة ترج، وفيها عشر لغات، الإلمام: النزول، وقد ألمّ به / أي نزل [48 أ] به وفي الحديث: إنّ مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا، أو ينم، أي يقرب من ذلك، الجزع: منعطف الوادي، دبّ على الأرض يدبّ دبيبا، وكل ماشٍ دابة، قال الشيخ جمال الدين بن نباتة: (الكامل) وبمهجتي رشأٌ يميس قوامه ... فكأنّه نشوانُ من شفتيه شغف العذار بخدّه ورآه قد ... نعست لواحظه فدبّ عليه (¬3) وقال الشارح (¬4): (من المتقارب) عذارُك والطرفُ يا قاتلي ... يحاكيهما الآسُ والنَّرجِسُ وقد صارَ بينهما نسبةُ ... فهذا يدبُّ وذا ينعسُ والنسيم: الريح الطيبة، وفي الحديث: بعثت في نسم الساعة (¬5)، أي حين ابتدأت وأقبلت، برئت من المرض برأً، والعلل: جمع علة، وهي المرض. الإعراب: لعل: من أخوات إنّ، وهي تنصب الاسم وترفع الخبر، إلمامة: اسمها، وثانية: صفة لها، ويدب: في موضع رفع على الخبر، منها: جار ومجرور، ومِن هنا ¬

(¬1) ديوانه (م). (¬2) الغيث المسجم 1/ 452 (¬3) انظر: ثمرات الأوراق، ص 926 / (م). (¬4) الغيث المسجم 2/ 9 (¬5) انظر: مجمع الزوائد 10/ 312/ المكتبة الشاملة.

لابتداء الغاية، وهي في موضع النصب على أنه مفعول لآجله، كما في قوله تعالى: [أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ] (¬1) نسيم: فاعل يدبّ، والبرء: مضاف إليه، في عللي: جار ومجرور، وفي ظرفية. المعنى: أترجّى إلمامة مكان الحي من الجزع، يحصل لي بسببها دبيب نسيم البرء في عللي التي أكابدها من الأشواق، وليس الترجي مما يُنجِّي، لكنه من طباع النفوس، ولله در القائل (¬2): (من الطويل) لعلّ وما تُغني لعلّ وإنها ... علالةُ صبٍّ واستراحةُ هائم (¬3) ِ وقال الآخر (¬4): (من الخفيف) أتمنى تلك الليالي المنيرا ... تِ وجهدُ المحبِّ أن يتمنَّى وقال جمال الدين أبو الدر ياقوت: (السريع) لله أيام تقضت بكم ... ما كان أحلاها وأهناها (¬5) مرت فلم يبق لنا بعدها ... شيء سوى أن نتمناها ومثله قول الآخر: (من الطويل) أحبّتَنا لم يبقَ من طيبِ وصلِكم على البعدِ إلاّ أننا نتمناه (¬6) وقول الطغرائي في غاية الحسن، وهو مأخوذ من قول أبي نواس (¬7): (من المديد) / فَتَمَشَّت في مَفاصِلِهِم ... كَتَمَشّي البُرءِ في السَقَمِ ... [48 ب] وأخذه أبو نواس برمته من بعض الهذليين يصف قانصا يختل صيدا بسرعة مشي حيث يقول (¬8): (من المديد) فَتمشّى لاَ يُحسُّ بِه ... كَتمشِّي النّارِ في الفحمِ فإنّ بعض الروايات عن أبي نواس على هذا النص، وهو أصحّ عنه لأنها آخر ما استقرّ عليه الحال، وقول الطغرائي يشبه قول أبي الطيب (¬9): (من الخفيف) وَرَبيعاً يُضاحِكُ الغَيثُ فيهِ ... زَهَرَ الشُكرِ مِن رِياضِ المَعالي نَفَحَتنا مِنهُ الصَبا بِنَسيمٍ ... رَدَّ روحاً في مَيِّتِ الآمالِ ¬

(¬1) قريش: 4 (¬2) لابن سناء الملك، ديوان الصبابة، ص 441 / (م). (¬3) البيت في الغيث المسجم 2/ [11 ب] لا عزو. (¬4) ابن الساعاتي، ديوانه / (م). (¬5) انظر: ديوان الصبابة، ص 431/ (م). (¬6) البيت في الغيث المسجم 2/ 11 دون عزو. (¬7) ديوانه ـ ص 457 (¬8) البيت في الغيث المسجم 2/ 13 (¬9) ديوانه 1/ 167.

لا أكره الطعنة النجلاء قد شفعت ... برشقة من نبال الأعين النجل

وأمَّا الاسترواح بأنفاس الديار، وتلقي النسمات من أرض الحبيب فقد أكثرالشعراء في ذلك، وطلبوا الحياة والشفاء بالقرب من أماكن المعشوق، قال ابن الفارض (¬1): (من الكامل) يا ساكِني البَطحاءِ هَل مِن عَودَةٍ ... أَحيا بِها يا ساكِني البَطحَاءِ وَإِذا أَذى ألَمٍ ألَمَّ بمُهجَتِي ... فَشَذى أُعَيشَابِ الحِجازِ دَوائي لا أكرهُ الطعنةَ النجلاءَ قد شُفِعَتْ ... برشقةٍ من نِبالِ الأعيُنِ النُّجُلِ اللغة: كرهت الشيء أكرهه كراهةً، الطعنة: طعنة الرمح، النجلاء: الطعنة الواسعة، ومنه العيون النجل، والشفع: ضد الوتر، برشقة: الرشقة الرمي، وما أحسن قول محيى الدين بن قرناص (¬2): (من مجزوء الرجز) أتى الحبيب مائسا والردف قد أثقله يرشق ثم ينثني ... لله ما أرشقه نبال: جمع نبل، وهي السهام العربية، وهي مؤنثة، اسم جمع لا واحد له من لفظه، والنجل بالتحريك: سعة العين. الإعراب: لا: حرف نفي، أكره: فعل مضارع من كره يكره، الطعنة: مفعول به، النجلاء: صفة للطعنة، شفعت: فعل مبني لما لم يسم فاعله، برشقة: الباء حرف جر، ويجوز أن تكون للمصاحبة، وأن تكون للاستعانة، من نبال: من هنا لبيان الجنس، الأعين: مضاف / إليه، النجل: صفة للأعيُن. ... [49 أ] المعنى: لا اكره الطعنة العظيمة الواسعة التي تنالني، وقد ثُنيت برشقة من سهام العيون المتسعة؛ لأن الألم إذ جاء في أثناء اللذة لا اعتبار به، كأنه يهون على صاحبه ما توهمه من بأس رجال الحي، لمَّا أخذ يصفهم بالشجاعة والغيرة، فهو يقول: أنا لا أكره مع ظفري بهذه الفتيات الحسان وقوع الطعنات؛ لأن ذلك رخيص إذا تهيأ لي، ومن هذا قولهم: مّن عرف ما يطلب، هان عليه ما يبذل، وقول القائل (¬3): (من الوافر) يغوص البحر مَنْ طلب اللآلي ومَن رام العلى سهر الليالي وقول أبي الطيب (¬4): (من الطويل) تُريدينَ لُقيانَ المَعالي رَخيصَةً ... وَلا بُدَّ دونَ الشَهدِ مِن إِبَرِ النَحلِ وقول أبي فراس (¬5): (من الطويل) ¬

(¬1) ديوانه (م) (¬2) البيتان في الغيث المسجم 2/ 15 (¬3) نسب في مرآة الجنان، ص 992 / (م) للشافعي، وفي الغيث المسجم 2/ [16 ب] لا عزو. (¬4) ديوانه 2/ 282 (¬5) ديوانه، ص 161

ولا أهاب الصفاح البيض تسعدني ... باللمح من خلل الأستار والكلل

تَهونُ عَلَينا في المَعالي نُفوسُنا ... وَمَن طَلَبَ الحَسناءَ لَم يُغلِها المَهرُ وما زال المحبون يقتحمون الأخطار، ويركبون الأهوال حتى ينال أحدهم لمحة، أو إشارة سلام، ويبذلون الجليل من نفوسهم في بلوغ القليل من المحبوب، قال تعالى: [فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن] إلى آخر الآية، انظر إلى ما اتّفق للنسوة لمَّا رأين يوسف، ولم، وام يتقدّم لهن قبل ذلك شغل قلب به، ولا فكرة، ولا وسواس، بل رأينه بغتة، قطّن أيديهن، فكيف مَنْ هو مستعد لرؤية محبوبه، وقد أعمل المطي إليه، وقطع القفار ليلا ونهارا، كما قال الشاعر (¬1): (من البسيط) وَما صَبابَةُ مُشتاقٍ عَلى أَمَلٍ ... مِنَ اللِقاءِ كَمُشتاقٍ بِلا أَمَل [وقال الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الملك العزازي] (¬2): (من البسيط) فالجرح منهنّ لذاتٌ بلا ألمٍ ... والطعن عند مُحبيهنّ كالقبل ولله در القائل (¬3): (من البسيط) إنْ لم أَمُتْ في هَوَى الأَجفان والمُقَلِ ... فَواحَيائي من العُشّاقِ واخَجلي ما أَطيبَ المَوْتَ في عِشْق المِلاحِ كذا ... لاسِيَّما بِسيوفِ الأَعْيُنِ النُّجُلِ يَا صاحِبيَّ إذا ما/ مُتُّ بَينَكُما ... دُون الشَّهِيينِ وَرْدِ الخَدِّ والقُبَلِ [49 ب] رَاشَ الفتورُ لَهُ سَهْماً فَأَخطأَهُ ... حتَّى أُتِيحَ لهُ سَهْمٌ من الكُحُلِ فاستَغفِرا لي وَقولا عاشِقٌ غَزِلٌ ... قَضَى صَرِيعَ القُدُودِ الهِيفِ والمُقَلِ رَاشَ الفتورُ لَهُ سَهْماً فَأَخطأَهُ ... حتَّى أُتِيحَ لهُ سَهْمٌ من الكُحُلِ ولِلعُيونِ اللَّواتي هُنَّ من أَسَدٍ ... إلى القُلوبِ سِهامٌ هُنَّ من ثُعَلِ ولا أهابُ الصِّفاح البِيض تُسعِدُني ... باللمحِ من خلل الأستار والكِلَلِ ¬

(¬1) للمتنبي، ديوانه 2/ 87 (¬2) ما بين الحاصرتين زيادة من الغيث المسجم 2/ 18، وقد خلط المختصر فأتبع هذا البيت مع بيت المتنبي السابق، وجاءت كتابة هذا البيت على النحو التالي: هيهات ألم الجراح هنا ملاذ ... والطعن عند محبهم كالقبل وأظن ظنا مسامتا لليقين أنّ هذا من عمل الناسخ. وهذا البيت هو سابع سبعة أبيات ذكرها الصفدي في الغيث المسجم 2/ 17 ـ 18 وقبله الأبيات الستة المذكورة بعد هذا البيت. (¬3) للشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الملك العزازي، وفي الغيث المسجم 2/ 17 ـ 18 الفزاري، وما أثبتناه من ديوانه في (م). شهاب الدين العزازي: 627 - 710 هـ / 1230 - 1310 م أحمد بن عبد الملك بن عبد المنعم بن عبد العزيز شهاب الدين العزازي. شاعر مصري، كان بزازاً في القاهرة بقيسارية جركس. له موشحات وألغاز و (ديوان شعر-خ) غير كامل، في دار الكتب ([479 أ] دب) جمع منه الصلاح الصفدي (منتخبات -خ) في 76 ورقة وفي جامعة الرياض (165) مختارات لعلها هي.

اللغة: أهاب: أخاف، الصفاح: جمع صفيحة، وهي السيوف العِراض، والإسعاد: الإعانة، اللمح: النظر الخفيف، والخلل: الفرجة بين الشيئين، والأستار: جمع ستر، الكلل: جمع كلة، وهي الستر الرقيق. الإعراب: الواو: عاطفة، ولا: نا فية، وأهاب: فعل مضارع، والصفاح: مفعول به، والبيض: منصوب على الصفة للصفاح، تسعدني: فعل مضارع من أسعد، وهو مرفوع، باللمح: الباء هنا للاستعانة، من: هنا لابتداء الغاية، والكلل: الواو: عاطفة، وموضع يسعد في هذه الجملة وما بعدها في موضع الحال؛ لأنه قال: ولا أهاب الصفاح البيض في حالة إسعادها إياي باللمح. المعنى: هذا كالبيت الذي تقدم، ومعناه إني لا أخاف السيوف البيض إذا كانت تساعدني بالتماحها من خلل الأستار، قال الأرجاني (¬1): (من المتقارب) وفي الحيِّ كُلُّ كليلِ اللِّحاظِ ... يُطالِعُنا من خَصاصِ الكِلَل يُذيبُ الفؤادَ بتَعْذيبهِ ... وأيْسَرُ أمْرِ الهَوى ما قَتل هذا قول أبي الطيب: أحلا وَأَيسَرُ ما لاقيتُ ما قَتَلا (¬2) .......... وفي بيت الطغرائي من البديع الاستخدام، وهو أن يكون للكلمة معنيان، فيؤتى بعدها بكلمتين، أو يكتنفانها، فيستخدم في كل واحدة منهما معنى مد ذينك المعنيين، ومثَّل /أرباب [50 أ] البديع في هذا بقول أبي الطيب (¬3): (من الطويل) بِرَغمِ شَبيبٍ فارَقَ السَيفُ كَفَّهُ ... وَكانا عَلى العِلّاتِ يَصطَحِبانِ كَأَنَّ رِقابَ الناسِ قالَت لِسَيفِهِ ... عدوُّكَ قَيسِيٌّ وَأَنتَ يَمانِ فيماني له معنيان، أحدهما السيف، والآخر ضد قيس، ولم تزل العداوة بين قيس وأهل اليمن، وهكذا قول الطغرائي؛ لأنه ذكر الصفاح، وهي هنا مشتركة بين السيوف، وبين العيون مجازا، وقد غلب العرف عليها بين الشعراء، فصار حقيقة عرفية، فأمكن اعتبار الاشتراك، فقال: لا أهاب الصفاح البيض، فهو إلى هنا الحقيقة اللغوية، والسامع يظنه في ذكرها، ثم ترك ذاك المفهوم الأول، وأخذ في المفهوم الثاني فقال تسعدني باللمح من خلال الأستار والكلل، فاستعمل الصفاح في العيون، وهي الحقيقة العرفية، وهذا في غاية الغزل؛ لأنه يقول: أنا لا أهاب السيوف ووقوعها إذا كانت تسعدني على جراحي باللمح من فروج الأستار، أي ما السيوف غيرها. وما أحسن قول ابن التعاويذي (¬4): (من البسيط) ¬

(¬1) ديوانه (م) (¬2) صدر بيت من البسيط، وعجزه: وَالبَينُ جارَ عَلى ضَعفي وَما عَدَلا، ديوانه 1/ 59، وفي الديوان: أحيا وأيسر، وليس أحلا (¬3) ديوانه 2/ 238. (¬4) ديوانه، ص 413، وفيه: مشاركة، وليس مشاكلة.

ولا أخل بغزلان أغازلها ... ولو دهتني أسود الغيل بالغيل

بَينَ السُيوفِ وَعَينَيهِ مُشاكَلَةٌ ... مِن أَجلِها قيلَ لِلأَغمادِ أَجفانُ وإن كان أخذه من قول أبي الطيب (¬1): (من الكامل) وَلِذا اِسمُ أَغطِيَةِ العُيونِ جُفونُها ... مِن أَنَّها عَمَلَ السُيوفِ عَوامِلُ ولا أخِلُّ بغِزلان أغازِلُها ... ولو دهتني أسودُ الغِيل بالغيَلِ اللغة: أخلّ بكذا: تركه، والغزلان: جمع غزال، أغازلها: أحادثها، دهتني: أصابته الداهية، والغيل: موضع الأسد، وفلان قليل الغائلة أي الشر. الإعراب: أغازلها: فعل مضارع، وموضعه نصب / للمفعولية، والجملة في [50 ب] موضع جر صفة لغزلان، دهتني: فعل ماض، والتاء علامة التأنيث للفاعل، والنون للوقاية، والياء ضمير المفعول، وهو االمتكلم، أسود: جمع أسد، وهو مرفوع على أنه فاعل دهت. المعنى: الكلام في هذا البيت كالكلام في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم العبد صهيب، وقد تكلم عليه القرافي (¬2) وغيره، فلا نطيل بذكره، ومعناه: لو دهتني أسود الغيل بالغيل ما أخللت بغزلان أغازلها، فكيف وما دهتني، فعدم إخلالي بطريق أولى، فالإخلال مرتبط بدهاء الأسود، وتخريجه على ما قال القرافي أنّ الغالب على الأوهام أنّ الإنسان يخل بمحادثة مَنْ يحادثه إذا دهته الأسود باغتيالها، فقطع الشاعر هذا الربط، وقال: ما أخل بمحادثة هذه الغزلان مع وجود دهاء الأسود، واغتيالها إياي، وهذه مبالغة كبيرة عظيمة في الشغل بالمحبوب والأنس به عن كل ما يذهل النفوس، ويشغل القلوب التي ترتاع وتنفر من حصوله، ولقد بالغ أبو الحسن علي بن رشيق في قوله (¬3): (مجزوء الرجز) وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ في السَّفينَةِ والرَّدى ... مُتَوَقَّعٌ بِتَلاطُمِ الأَمْواجِ وَالْجَوُّ يَهْطِلُ والرِّياحُ عَواصفٌ ... وَاللَّيْلُ مُسْوَدُّ الذَّوائِبِ داجِ وَعَلى السَّوَاحِلِ لِلأَعادي غارَةٌ ... يُتَوَقّعُونَ لِغارَةٍ وَهِياجِ وَعَلَت لأَصْحابِ السَّفينَةِ ضَجَّةٌ ... وَأَنا وَذِكْرُكِ في أَلَذِّ تَناجي والأصل في هذا المعنى قول عنترة (¬4): (من الكامل) ولقَدْ ذكرتُكِ والرِّماحُ نواهلٌ ... منِي وبيضُ الهندِ تقطرُ مِن دمي. ¬

(¬1) ديوانه 1/ 223 (¬2) شهاب الدين القرافي المالكي الأصولي: أحمد بن إدريس المشهور بالقرافي الشيخ الإمام العالم الفقيه الأصولي شهاب الدين الصنهاجي الأصل من قرية من كورة بوش من صعيد مصر الأسفل تعرف ببهفشيم ونسب إلى القرافة ولم يسكنها وإنما سئل عنه عند تفرقة الجامكية بمدرسة الصاحب ابن شكر فقيل هو بالقرافة فقال بعضهم: اكتبوه القرافي، فلزمه ذلك. وكان مالكياً إماماً في أصول الفقه وأصول الدين عالماً بالتفسير وبعلوم أخر. درس بالمدرسة الصالحية. الوافي بالوفيات، ص 4481/ الموسوعة الشعرية. (¬3) ديوانه (م) (¬4) ديوانه، ص 150

حب السلامة يثني هم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل

وقال الأرجاني (¬1): (من الطويل) وإنّي لأرعاكُمْ على القُرْبِ والنَّوى ... وأذْكُرُكمْ بينَ القَنا والقنابل وقال ابن مطروح (¬2): (من الكامل) ولقد ذكرتك والرماح لوامع ... من حولنا والسمهرية شرع وعلى مكافحة العدو ففي الحشا ... شوق إليك / تضيق عنه الأضلع [51 أ] ومن الصبا وهلم جرا شيمتي ... حفظ الوداد وكيف عنه أرجع وقال الشريف البياضي (¬3): (من الكامل) ولقد ذكرتك والطبيب معبس ... والجرح منغمس به المسبارُ وأديم وجهي قد فراه حديده ... ويمينه حذراً عليَّ يسارُ فشغلتني عما لقيتُ وإنه ... لتضيق منه برحبها الأقطارُ وقال صفي الدين الحلي (¬4): (من الكامل) وَلَقَد ذَكَرتُكِ وَالسُيوفُ مُواطِرٌ ... كَالسُحبِ مِن وَبلِ النَجيعِ وَطَلِّهِ فَوَجَدتُ أُنساً عِندَ ذِكرِكِ كامِلاً ... في مَوقِفٍ يَخشى الفَتى مِن ظِلِّهِ حبُّ السلامةِ يَثْني همَّ صاحِبه ... عن المعالي ويُغرِي المرءَ بالكَسلِ اللغة: الحب قد تقدّم، السلامة: الرفاهية، يثني: يعطف ويكف، والهم: العزم، والإغراء: الولوع بالشيء، والمرء: الرجل، والكسل: التثاقل عن الشيء لأمر. الإعراب: حب السلامة: مبتدأ، ومضاف، وخبره يثني، همّ: مفعول به، وصاحبه: مضاف إليه، عن المعالي: معناه التجاوز، ويغري: الواو عطف الفعل على الفعل، المرء: مفعول، بالكسل: الباء فيه للتعدية. المعنى: يقول لصاحبه: حبّ السلامة يعطف عزم صاحبه عن اكتساب المعالي، ويُغري الإنسان بالكسل، كأنه لمَّا عرض على صاحبه المرافقة إلى الحيّ الذي وصفه، وجده ¬

(¬1) ديوانه (م). (¬2) الأبيات في ديوان الصبابة، ص 477 (م)، وفي زهر الأكم في الأمثال والحكم، ص 1076 ـ 1077 (م)، وفي نفحة الريحانة ص 3178 (م). (¬3) الأبيات في الغيث المسجم 2/ 40 ـ 41، وفي ديوان الصبابة، ص 477ـ 478 (م). (¬4) المكتوب في المخطوطة: وقال الشهاب محمود، ويبدو أن المختصر قد انصرف نظره إلى أبيات صفي الدين الحلي، وهي تأتي بعد أبيات الشهاب محمود في الغيث المسجم فظنها للشهاب محمود، الغيث المسجم 2/ 41، أمَّا أبيات الشهاب محمود فهي: ولقد ذكرتك والسيوف لوامع ... والموت يرقب تحت حصن المرقب والحصن في شفق الدروع تخاله ... حسناء ترفل في رداء مذهب سامي السماء فمن تطاول نحوه ... للسمع مسترقاً رماه بكوكب والموت يلمع بالنفوس خاطري ... يلهو بطيب ذكرك المستعذب وانظر ديوان صفي الدين الحلي، ص 407.

متثاقلا عن مرافقته، غير قابل على التوجه معه إلى الحيّ، والمشاركة له في المشاق والأخطار، فأخذ يعظه بمثل هذا الكلام، إنْ قلت: إنّ الكلام لصاحبه، وإنْ قلت: أنه قطع الكلام عنه، وأخذ يخاطب نفسه، كأن الإنسان يجرد من نفسه مخاطَبا إقامة للمواجهة بالقول، وأحسن ما جاء فيه قول الصمة بن عبد الله القشيري من الحماسة (¬1): (من الطويل) حنَنْتَ إلى رَيّا وَنَفسُكَ باعَدَت ... مَزارَكَ مِن رَيّا وَشَعباكَما/ مَعا ... [51 ب] الأبيات، ولعمري إنّ السلامة في الخمول خير من العطب في المعالي، فما يفي الوصل بالصدود، وقال الشاعر (¬2): (من الخفيف) إنْ مدحتُ الخمولَ نبَّهتُ قوما غفْلا عنه سابقوني إليه هو قد دلّني على لذة العيش فما لي أدلُّ غيري عليه وقال أبو العلاء المعري (¬3): (من الوافر) ولو جرت النباهة في طريق ال ... خمول إليَ لاخترت الخمولا وقد رضي بالخمول جماعة من الرؤساء الأكابر المتقدمين في العلم والمنصب، منهم: أبو السعادات بن الأثير، صاحب جامع الأصول، والنهاية في غريب الحديث، قال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لمعاوية لمعاوية رضي الله عنه إنّ عليَّ ديناً فأوفوه وأنتم في جلٍّ من الخلافة، فأوفوا دينه، وترك لهم الخلافة، وقد فعل ذلك جماعة من الأعيان، قال بعض العارفين: أول ما نزع الله من قلوب العارفين حب الرياسة، قال إبراهيم الغزي (¬4): (من مجزوء الكامل) المجد سهل والطريـ ... ق إليه بالإجماع وعرُ وقال ابن وكيع (¬5): (من المتقارب) لقد رضيت همتي بالخمول ... ولم ترض بالرتب العالية وكن في مكان إذا ما وقعتَ تقومُ ورجلكَ في عافية وهذا يشبه قول ابن رشيق (¬6): (من المتقارب) ¬

(¬1) ديوان الحماسة 2/ 60 (¬2) الأبيات في الغيث المسجم 2/ [46 ب] لا عزو. (¬3) ديوان سقط الزند، ص 159. (¬4) البيت في الغيث المسجم 2/ 47 (¬5) الأبيات في الغيث المسجم 2/ 47 ـ 48 ابن وكيع التنيسي: الحسن بن علي بن أحمد بن محمد بن خلف أبو محمد الضبي التنيسي المعروف بابن وكيع الشاعر، أصله من بغداد ومولده بتنيس. له كتاب المنصف، بين فيه سرقات المتنبي. قال ابن رشيق في كتاب أبكار الأفكار: وهو أجور من سدوم. قلت: لأنه تحامل فيه على أبي الطيب كثيراً وهو خلاف التسمية، إلا أنه دل على أنه كان له اطلاع عظيم إلى الغاية، ولم يرض له بالسرقة من شاعر واحد، حتى يعد الجملة من الشعراء ذلك المعنى المسروق. وكان في لسانه عجمة، ويقال له العاطس، وتوفي بعلة الفالج سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة. الوافي بالوفيات، ص 9437 ـ 9438 (م). (¬6) ديوانه (م).

تُنازِعُني النَّفْسُ أَعْلى الأمورِ ... وَلَيْسَ مِنَ العَجْزِ لا أَنْشَطُ وَلَكِنْ بِمِقْدارِ قُرْبِ المكانِ ... تَكونُ سلامَةُ مَنْ يَسْقُطُ وعلى الجملة فالزهد أمر تمسك العقلاء بعروته الوثقى، ولهذا أفتى الفقهاء بأنه لو أوصى لأعقل الناس صرف إلى الزهاد، وكل ما تراه عينك رهن الزوال، ومقدمات نتيجتها العدم، ولله در ابن الشبل البغدادي (¬1) إذ يقول: (من الخفيف) صحة المرء للسّقام طريقٌ ... وطريق الفناء هذا البقاء بالذي نغتذي نموت ونحيا ... أقتل الدّاء للنفوس الدواء ما لقينا من غدر دنيا فلا كا ... نت ولا كان أخذها والعطاء صلفٌ / تحت راعد وسراب ... كرعت منه مومسٌ خرقاء [52 أ] راجعٌ جودها عليها فمهما ... يهب الصبح يستردّ المساء ليت شعري حلما تمر به الأيا ... م أم ليس تعقل الأشياء من فسادٍ يكون في عالم الكو ... ن فما للنفوس منه اتّقاء وقليلا ما تصحب المهجة الجسـ ... م ففيم الشقاء وفيم العناء قبَّح الله لذةً لشقانا ... نالها الأمهات والآباء نحن لولا الوجود لم نألم الفقـ ... ر فإيجادنا علينا بلاء وهي طويلة، وقال آخر (¬2): (من الرمل) هذه الدنيا وهذا شأنها أتعب الناس بها أعوانها وذوو الأحلام قالوا إنها ... حلُمُ يقضي بها يقظانها يقال إنُ بعض الخلفاء أرسل إلى الخليل بن أحمد رسوله، فوجده يبل كسرة في ماء، ويأكل منها، فقال: أجب أمير المؤمنين، فقال: ما لي إليه حاجة، فقال: إنه يغنيك، فقال: ما دمت أجد هذين فإني لا أحتاج إليه، وقال تلميذه النضر بن شميل: أقام الخليل في خُصٍّ من أخصاص البصرة، لا يقدر على فلس، وأصحابه يكسبون الأموال بعلمه، وأخبار الزهاد في إعراضهم كثيرة، وهذا الذي تقدم ذكره كله مخالف مراد الطغرائي في البيت، فإنّ رأيه السعي والجد والكد والكدح والانتصاب لتلقي لتلقي الأهوال في تحصيل المعالي، والترقي إلى ¬

(¬1) الحسين بن عبد اله بن يوسف بن أحمد بن شبلٍ أبو عليٍ البغدادي. ولد في بغداد وبها نشأ، وبها توفي سنة أربعٍ وسبعين وأربعمائةٍ. كان متميزاً بالحكمة والفلسفة، خبيراً بصناعة الطب، أديباً فاضلاً وشاعراً مجيداً، أخذ عن أبي نصرٍ يحيى بن جريرٍ التكريتي وغيره. وهو صاحب القصيدة الرائية التي نسبت للشيخ الرئيس ابن سينا وليست له، وقد دلت هذه القصيدة على علو كعبه في الحكمة والاطلاع على مكنوناتها، وقد سارت بها الركبان وتداولها الرواة، وهي: بربك أيها الفلك المدار ... أقص ذا المسير أم اضطرار؟؟ معجم الأدباء 10/ 23 ـ 24 (¬2) البيتان في الغيث المسجم 2/ [49 ب] لا عزو.

فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا ... في الأرض أو سلما في الجو فاعتزل

منازل العز، وكسب المجد بالحركة والإقدام على ركوب الأخطار؛ لنيل الأماني، وبلوغ الأوطار، ولله درّ القائل (¬1): (من السريع) فَما قَضى حاجَتَهُ طالِبٌ ... فُؤادُهُ يَخفِقُ مِن رُعبِهِ وَغايَةُ المُفرِطِ في سِلمِهِ ... كَغايَةِ المُفرِطِ في حَربِهِ ومن الكلم النوابغ: صعود الآكام، وهبوط الغيطان، خير من القعود بين الحيطان، قال ابن نباتة السعدي (¬2): (من الوافر) ومن طلَبَ النجومَ أطالَ صبراً ... على بعد / المسافةِ والمنالِ ... [52 ب] وتثمِرُ حاجةُ المحتاجِ نجْحاً ... إذا ما كانَ فيه ذا احتِيالِ ومما يُنسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه (¬3): (مجزوء الرمل) كِدَّ كَدَّ العبد إن آ ... ثرت أن تُصبح حرّا لا تقل ذا مكسب يز ... ري سؤال الناس أزرى وللسراج الوراق (¬4): (من السريع) دع الهوينا وانتصب واكتسب واكدح فنفس المرء كدّاحة وكن عن الراحة في معزل فالصفح موجود مع الراحة فإن جنحتَ إليه فاتَّخِذْ نَفَقاً ... في الأرضِ أو سلَّماً في الجوِّ فاعتزلِ اللغة: جنح: إذا مال، والنفق: سرب في الأرض، والسّلّم: معروف، والجمع سلالم، اعتزل: اطلب العزلة، والمعتزلة لا نطيل بذكرهم، وذكر مسائلهم التي خالفوا فيها، ولماذا سموا معتزلة، فذلك كله معروف، قال الشافعي رضي الله عنه في مسألة أن العبد هل له مشيئة أم لا: (من المتقارب) وما شئت كان وإن لم أشا ... وما شئت أن لم تشا لم يكن (¬5) خلقت العباد على ما علمتَ ... ففي العلم يجري الفتى والمُسِن فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن على ذا مننت وهذا خذلتَ ... وهذا أعنتَ وذا لم تعن قال الشارح: وبلغني أن الإمام فخر الدين شرح هذه الأبيات في مجلّدة، ولم أرَها، وهذه المسألة من أعظم مسائلهم، ثم ذكر الشارح بعد ذلك ما اتّفق للأئمة مع المعتزلة، وذكر المعتزلة بفرقهم ومسائلهم. ¬

(¬1) للمتنبي، ديوانه 2/ 325 (¬2) ديوانه (م). (¬3) البيتان في الغيث المسجم 2/ 50 (¬4) ديوانه (م) (¬5) الأبيات في الغيث المسجم 2/ 53، وفي الوافي بالوفيات، ص 1175 (م).

ودع غمار العلى للمقديمن على ... ركوبها واقتنع منهن بالبلل

الإعراب: إنْ: حرف شرط، وجنحت: فعل ماضٍ، ومعناه الاستقبال، وهو في موضع جزم بالشرط، والتاء: ضمير الفاعل، وهو المخاطب، إلى: جار ومجرور، فاتّخذ: الفاء جواب الشرط، اتّخذ فعل أمر، والفاعل مستتر وجوبا، نفقا: مفعوا به، أو حرف عطف، وسلما: منصوب على أنه مفعول / اتخذ، في الجو: في هنا للظرف، [53 أ] فاعتزل: الفاء: للعطف، واعتزل: فعل أمر، والأمر مبني على السكون، وإنما حرّكه للضرورة في القافية. المعنى: فإن ملت إلى حب السلامة فادخل في نفق الأرض، أو اصعد في سلم في الجو ... [لأن السلامة] (¬1) متعذرة عليك ما دمت بين الناس، ولا سبيل إلى النزول في النفق، ولا إلى الصعود في سلم [في] (¬2) الجو، إذ لا بد لك من الناس، والسلامة بينهم عزيزة، وفي هذا تحريض على الحركة، والسعي والاجتهاد في إحراز المعالي؛ لأن السلامة ممتنعة، فالأولى بالإنسان الحركة، والطلب، وقد قال أبو العلاء المعري في وصف النوع الإنساني بالأذى، وأنه لا يسلم من أذاه حيوان: (السريع) أتعبتم السابح في لجةٍ ... ورعتم في الجو ذات الجناح (¬3) هذا وأنتم غرضٌ للردى ... فكيف لو خلِّدتم يا قباحِ؟ وبيت الطغرائي يسميه أرباب البديع التلميح، وبعضهم يسميه الاقتباس، وهو نوع من التضمين، ولكن التضمين هو أن يأتي [لفظ] الآية أو الحديث، أو البيت كاملا، وإن لم يأت كاملا فهو اقتباس، والطغرائي اقتبس كلامه هنا من قوله تعالى: [وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ] (¬4) الآية، قال ابن سناء الملك (¬5): (من الطويل) وكَمْ قلعةٍ فوقَ السماءِ أَساسُها ... وعامِرُها من أَسلافِ عاد وجُرْهُم رقى سلَّماً للعِزِّ أَوصَلهُ لها ... فقد نالَ أَسبابَ السماءِ بِسُلَّمِ ودَعْ غمارَ العُلى للمقديمن على ... ركوبِها واقتنِعْ منهن بالبَلَلِ اللغة: دع: معناه اترك، والغمرة: الشدة، والزحمة في الماء والناس، والجمع غمار، ودخلت في غمار الناس، المقدمين: اسم فاعل من أقدم يقدم فهو / مقدم، اقتنع: [53 ب] افتعل من الأمر بالقناعة، البلل: النداوة، وما أحسن قول أبي الطيب (¬6): (من البسيط) ¬

(¬1) زيادة من الغيث المسجم 2/ 59 (¬2) زيادة من الغيث المسجم 2/ 59 (¬3) البيتان في الغيث المسجم 2/ 60 (¬4) الأنعام 35 (¬5) ديوانه (م) (¬6) ديوانه 2/ 87

رضى الذليل بخفض العيش مسكنة ... والعز عند رسيم الأينق الذلل

وَالهَجرُ أَقتَلُ لي مِمّا أُراقِبُهُ ... أَنا الغَريقُ فَما خَوفي مِنَ البَلَلِ الإعراب: الواو: عطفت هذا الأمر على قوله فاعتزل، غمار: مفعول به، والعلى: مجرور بالإضافة، للمقدمين: جار ومجرور، وعلامة الجر الياء والنون لأنه جمع مذكر سالم صفة لعاقلين، ركوب: مجرور بعلى، والهاء والألف في موضع جر بالإضافة، واقتنع: الواو عطفت فعل الأمر على مثله وهو دع، فيهن: جار ومجرور، ولم يظهر الجر لأن الضمائر مبنية، بالبلل: الباء هنا للاستعانة، أو للتعدية. المعنى: واترك لجج المعالي للذين أقدموا على ركوبها، وصبروا على أهوالها، وكابدوا شدائدها، واقتنع من اللجج بالبلل، وكنّى بالبل عن الشيء النزر من العيش، كأنه قال: ارضَ من اللجة بالبلالة إذا لم تكن تقدم على الأهوال، فإذاً لا تزال في ظمأ لأنك ما ركبت اللجة، والأمر كما ذكره الطغرائي، فإنه لم يحظ بالدر مَنْ لم يغص عليه، ولم يطعم الشهد مَن لم يصبر على أُبره، ولم يظفر بالسلب مَن لم يهوِّن ألم الجراح، ولم يتمتع بالحسناء مَنْ لم يجد بالمهر الغالي، فمن لم يغص قنع بالصدف، ومن لم يصبر على السم لم يذق الحلاوة، ومن لم يهوّن الجراحة سُلِب ما عليه، ومن لم يسمح بالمال في المهر عاد بالخيبة، فاقتحمْ الطلب والدأب، واصبر على مضض السهر والفكر لتُعدّ من أعيان العلماء، وتتكلم على رؤوس الأشهاد، وترقى ذرى المنابر، وتتصدّر في المجالس، ويُشار إليك بالأنامل، وتعقد عليك الخناصر. رضَى الذليلِ بخفضِ العيشِ مَسْكَنَةٌ ... والعِزُّ عندَ رسيمِ الأينُقِ الذُلُلِ / اللغة: الرضا: ضد السخط، والذليل: ضد العزيز، الخفض: الدعة، العيش: [54 أ] الحياة، و [المسكنة] (¬1): الفقر، والعز: ضد الذل، والرسيم: ضرب من سير الإبل، الأينق: جمع ناقة، الذلل: دابة ذلول، بيّنة الذل. الإعراب: رضا مبتدأ، الذليل مضاف إليه، بخفض: الباء للتعدية، أو الاستعانة، والعيش مضاف [إليه]، مسكنة: خبر مبتدأ، وعند: ظرف مكان، وفيها لغات: كسر العين وفتحها، وفتح النون مع فتح العين، تقول عَنَد، قال الشاعر (¬2): (من الرجز) وكل شيءٍ قد يحب ولدَه ... حتى الحباري وتطير عَنَدَهُ قال الحريري في درة الغواص: ويقولون ذهبت إلى عنده فيخطئون؛ لأن (عنداً) لا يدخل عليه من أدوات الجر إلاّ مِن وحدها، ولا يقع في تصاريف الكلام مجرورا إلاّ بها، قال ¬

(¬1) غير موجودة في أ، وهي من ب. (¬2) البيت في الغيث المسجم 2/ [72 ب] لا عزو.

فادرأ بها في نحور البيد جافلة ... معارضات مثانى اللجم بالجدل

تعالى: [قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] (¬1) وإنما خصت مِن بذلك لأنها أم الباب، ولكل أمّ باب اختصاص تمتاز به (¬2). ورسيم والأينق: كل منهما مجرور بالإضافة، والذلل: مجرور على أنه صفة للأينق، وأمَّا الخبر الذي يطلبه المبتدأ وهو العز فإنه محذوف، وهو ما تعلق به الظرف الذي سدّ مسدّه، وتقديره والعز مستقر، أو مطلوب، أو كائن عند رسيم الأينق. المعنى: يقول: رضا الذليل بلين العيش ودعته مع وجود الذل مسطكنة عند النفس الأبية، وإنما العز موجود عند سير النوق المذللة في الأسفار، وهذا حثّ على الحركة، والتنقل من مواطن الذل، قال عليه السلام: لا يحلّ لمؤمن أن يذلّ نفسه، قالوا: يا رسول الله، وكيف يذل نفسه، قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق. فادرأْ بها في نحورِ البِيد جافلةً ... معارضاتٍ مثانى اللُّجمِ بالجُدَلِ / اللغة: فادرأ: فعل أمر من الدرء، وهو الدفع، نحور: جمع نحر، وهو موضع [54 ب] القلادة في الحلق، وهو هنا مجاز، استعار النحور للبيد، والبيد: جمع بيداء وهي المفازة، وأبادهم الله أي أهلكهم، وجفل: إذا أسرع، معارضات: تقول عارضته في السير إذا سرت حياله، وعارضته بمثل ما صنع، مثاني: جمع مثنى من قولك جاء القوم مثنى مثنى، أي اثنين، واللجم: جمع لجام، وهو فارسي معرّب، الجدل: زمام الناقة. الإعراب: ادرأ: فعل أمرٍ من درأت، والضمير في بها يرجع إلى الأينق في البيت الذي قبله، في نحور: جار ومجرور، وفي ظرفية، والبيداء: مجرور، جافلة: منصوب على الحال، مُعارضات: [منصوب على أنه حال ثانية، مثاني منصوب بمعارضات] (¬3) لأنه اسم فاعل، واسم الفاعل [يعمل عمل الفعل] (¬4) إذا كان غير مضاف، بالجدل: الجار والمجرور في موضع النصب على أنه مفعول ثان لمعارضات. المعنى: فادفع بالأينق الذلل في نحور المفاوز والقفار مسرعة غير ملتفتة وبجياد الخيل فعارض لجم تلك بأزمّة هذه، وهذا حثّ منه على أعمال الركاب، وأنْ يرمى بها في نحور البيد مسرعة، تباري بأزمّتها لجم الخيل في سيرها، وهذا البيت مأخوذ من قول أبي الطيب (¬5): (من البسيط) لا أُبغِضُ العيسَ لَكِنّي وَقَيتُ بِها ... قَلبي مِنَ الحُزنِ أَو جِسمي مِنَ السَقَمِ ¬

(¬1) النساء 78 (¬2) درة الغواص في أوهام الخواص، ص 32 (¬3) زيادة من الغيث المسجم 2/ 83 (¬4) زيادة من الغيث المسجم 2/ 83 (¬5) ديوانه 2/ 259

إن العلى حدثتني وهي صادقة ... في ما تحدث أن العز في النقل

طَرَدتُ مِن مِصرَ أَيديها بِأَرجُلِها ... حَتّى مَرَقنَ بِنا مِن جَوشَ وَالعَلَمِ تَبري لَهُنَّ نَعامُ الدَوِّ مُسرَجَةً ... تُعارِضُ الجُدُلَ المُرخاةَ بِاللُجُمِ وما أحسن قول أبي الطيب (¬1): (من الطويل) وَجُرداً مَدَدنا بَينَ آذانِها القَنا ... فَبِتنَ خِفافاً يَتَّبِعنَ العَوالِيا تُجاذِبُ فُرسانَ الصَباحِ أَعِنَّةً ... كَأَنَّ عَلى الأَعناقِ مِنها أَفاعِيا وقد أخذ عبد الصمد بن بابك قول أبي الطيب في تشبيه العنان بالأفاعي، وزاد عليه زيادة حسنة / فقال في زمام الناقة: (من الكامل) ... [55 أ] ولَقدْ أتَيتُ إِليكَ تحملُ بزَّتي ... حَرفٌ يُسكَّنُ طَيشهَا الدّأَلانُ (¬2) يَنفِي الزَّفيرُ خُطامهَا فكأنما ... غَارٌ يُحاول نَقبه ثُعبانُ وقال آخر (¬3): (من الطويل) رَجيعَةِ أَسفارٍ كَأَنَّ زِمامَها ... شُجاعٌ لَدى يُسرى الذِراعَينِ مُطرِقُ إنَّ العُلَى حدَّثتِني وهي صادقةٌ ... في ما تُحدِّثُ أنَّ العزَّ في النُقَلِ اللغة: النقل: جمع نقلة. الإعراب: إنَّ العلى: إنّ واسمها، حدثتني: في موضع رفع خبر إنّ، وهي: الواو واو الابتداء، صادقة: خبره، وما: اسم ناقص لا يتم إلاّ بصلة وعائد، تحدث: فعل مضارع، وهو صلة ما التي تقدّمت، والعائد محذوف لأنه فضلة، تقديره فيما تحدثه، إنّ العزَّ: إنّ واسمها، وهي مكسورة؛ لأنها محكية بالقول، والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو خبر إنّ، تقديره إنّ العزّ يستقرّ في النقل، وقوله: إنّ العزّ وما بعده في موضع نصب على أنه على أنه مفعول ثان، وقوله: وهي صادقة جملة اعتراضية لا محلّ لها من الإعراب. المعنى: إنّ العلى حدثتني فيما حدثت من الأخبار إتّ العز موجود في النقل من مكان إلى مكان، والاغتراب من مكان مبا بساكنه إلى مكان يلائمه ويوافقه، وينال فيه المعالي، وقد أكثر الشعراء من الحث على الانتقال والحركة، قال أبو تمام (¬4): (من الطويل) وَطولُ مُقامِ المَرءِ في الحَيِّ مُخلِقٌ ... لِديباجَتَيهِ فَاِغتَرِب تَتَجَدَّدِ فَإِنّي رَأَيتُ الشَمسَ زيدَت مَحَبَّةً ... إِلى الناسِ أَن لَيسَت عَلَيهِم بِسَرمَدِ ومن كلام الحكماء: إنّ الله لم يجمع منافع الدنيا في مكان من الأرض، بل فرّقها، وأحوج بعضها إلى بعض، وقيل: إنّ المسافر يجمع العجائب، ويجلب المكاسب، وقيل: الأسفار مما ¬

(¬1) ديوانه 2/ 203ـ 204. (¬2) البيتان في الغيث المسجم 2/ 84، الدألان: الخادع (¬3) لذي الرمة، ديوانه (م). (¬4) ديوانه، ص 98

لو أن في شرف المأوى بلوغ منى ... لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل

تزيد / علما بقدرة الله تعالى وحكمته، وتدعو إلى شكر نعمته، وقيل: ليس بينك وبين [55 ب] بلد نسب، فخير البلاد ما حملك، وقال ابن قلاقس (¬1): (من مجزوء الكامل) سافِرْ إذا حاولتَ قَدْرا ... سارَ الهلالُ فصارَ بَدرا وقال أيضا (¬2): ليس ارتحالُكَ تَرْتَادُ الغِنَى سفراً ... بَلِ المُقَامُ على خَسْفٍ هو السفرُ وقد استعار الطغرائي الحديث للعلى؛ لأن العلى أمور معنوية لا تتصف بالكلام، ولكنه لمّا جرّب وجود العز بالنقلة والحركة، صارت التجربة عنده علما استفاده، فكأنه حدثته العلى بذلك، فأسند ذلك إلى العُلى تعظيما للرواية في إسنادها إلى العُلى ليتلقّاها السمع بالقبول، قوله وهي صادقة جملة اعترض بها، وقد زادت الكلام حسنا لتأكيد الصدق عند المخاطب، كما تقول: حدّثني فلان، وهو صادق، فيما يرويه، طلبا للتأكيد في قبول ما يأتي به من الرواية عمّن يروي الحديث عنه، وهذا أبلغ من قوله: إنّ العلى حدثتني فيما تحدث إن العز في النقل، ومن الجمل الاعتراضية قوله تعالى: [فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ] (¬3) فاعترض اعتراضين: أحدهما أصل، والثاني فرع، الأول اعتراضه بقوله: وإنه لقسم، بين قوله بمواقع، وبين قوله: إنه لقرآن كريم، الثاني أنه اعتراض بقوله لو تعلمون بين قوله وإنه لقسم، وبين قوله عظيم، وقد رأيت ما أفادت هاتان الجملتان في الاعتراض من الجزالة والبلاغة. لو أنَّ في شرفِ المأوى بلوغَ مُنَىً ... لم تبرحِ الشمسُ يوماً دارةَ الحَمَلِ اللغة: الشرف: العلو والمكان العالي، والمأوى: كل مكان يأوي إليه / الشيء ليلاً أو [56 أ] نهارا، وبلغت المكان: إن وصلت إليه، ومنى: جمع مُنية، وهي ما يتمناه الإنسان، تبرح: لا أبرح، أي لا أزال، دارة الحمل: قال الشارح: لا أعرف الدارة إلاّ للقمر، اللهم إلاّ أن تكون الدارة ما يدور حول الشيء، والحمل: أول برج الكواكب. الإعراب: في شرف، في هنا ظرفية، وتتعلق بمحذوف هو خبر إنَّ تقديره مستقر، فالجار والمجرور هنا سدّ مسدّ الخبر، والمأوى: مجرور بالإضافة، بلوغ: منصوب على أنه اسم إنّ، ومنى في موضع جر بالإضافة المعنوية، لم تبرح: جازم ومجزوم، وبرح من أخوات كان، ترفع الاسم وتنصب الخبر، وهذه الجملة جواب الشرط الذي في لو، الشمس: اسم تبرح، والألف واللام لتعريف الحقيقة أو للعهد الجنسي أو الذهني، يوما: مفعول فيه، ¬

(¬1) ديوانه (م). (¬2) يفهم من قوله: وقال أيضا أن القائل ابن قلاقس، وليس كذلك، فالقائل هنا مجهول، والبيت في الغيث المسجم 2/ [88 ب] لا عزو. (¬3) الواقعة 75 ـ 77

دارة: مفعول به، ولا يكون هنا خبرا، لأنها تامة، اكتفت باسمها، كقوله تعالى: [فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ] (¬1) إذ لو جعلناها ناقصة لفسد المعنى في البيت، والحمل: مجرور بالإضافة، واللام هنا للمح الصفة. المعنى: لو أنّ المقام في المكان الشريف يبلغ المنى ما برحت الشمس مقيمة في دارة الحمل؛ لأنها في هذا البرج في غاية الشرف، وهذا تمثيل بديع، وفيه حث على الحركة، قال عليه السلام: سافروا تصحوا، واغزوا تستغنوا، وفي حديث آخر، سافروا تصحوا وتغنموا، وفي التوراة: يا ابن آدم أحدث سفرا أُحدث لك رزقا، وقال العرب: الحركات بركات، وما أحكم قول أبي الطيب (¬2): (الطويل) وَكُلُّ اِمرِئٍ يولي الجَميلَ مُحَبَّبٌ ... وَكُلُّ مَكانٍ يُنبِتُ العِزَّ طَيِّبُ وقال البحتري (¬3): (من الكامل) وَإِذا الزَمانُ كَساكَ حُلَّةَ / مُعدِمٍ ... فَاِلبَس لَهُ حُلَلَ النَوى وَتَغَرَّبِ ... [56 ب] وقال ابن صرد (¬4): (مجزوء الكامل) نقل ركابك للعلا ... ودع الغواني في القصور لولا التغرب ما ارتقى ... درر البحور إلى النحور وقال الآخر (¬5): (من البسيط) وَالتِبرُ كَالتُربِ مُلقىً في أَماكِنِهِ ... وَالعودُ في أَرضِهِ نَوعٌ مِنَ الحَطَبِ وهو مأخوذ من قول الآخر (¬6): (من البسيط) قالوا نراك كثير السير مجتهداً ... في الأرض تنزلها طوراً وترتحل فقلت لو لم يكن في السير فائدة ... ما كانت السبع في الأبراج تنتقل وقال الشارح (¬7): (من البسيط) ¬

(¬1) يوسف 80 (¬2) ديوانه 2/ 232 (¬3) ديوانه 2/ 191 (¬4) البيتان في الكشكول، ص 1046/ (م)، بلا عزو. ابن صرد الكاتب: بكر بن صرد، مولى بني أمية؛ كان يكتب لجعفر بن يحيى البرمكي، وهو الذي قال للرشيد يحضه على البيعة لابنه القاسم المؤتمن بعد أخويه الأمين والمأمون ورويت لغيره: يا أيها الملك الذي ... لو كان نجماً كان سعدا الوافي بالوفيات، ص 7821 (م) (¬5) للإمام الشافعي، ديوانه (م). (¬6) نسب البيتان في زهر الأكم في الأمثال والحكم، ص 859 (م) لابن السكن، وليس البيت السابق مأخوذ من أبيات ابن السكن، ولكنه مأخوذ من بيت البحتري من المنسرح: ... أَضيعُ في مَعشَرٍ وَكَم بَلَدٍ ... يُعَدُّ عودُ الكِباءِ مِن حَطَبِه وهكذا هو الحال في الغيث المسجم 2/ 118، ولكن الشارح ـ كعادته ـ قال: وهو مأخوذ من بيت الآخر، ونزلت عينه على الأبيات التي بعد البيت المقصود.، وهذا يدل أنه كان مجرد ناقل يختار ويشتار دون إعمال فكر أو تدبر. (¬7) الغيث المسجم 2/ 119

أهبت بالحظ لو ناديت مستمعا ... والحظ عني بالجهال في شغل

سافر تنل رتب المفاخر والعُلى كالدرِّ سار فصار في التيجانِ وكذا هلالُ الأفقِ لو ترك السُّرى ما فارقته معرَّة النقصان وفي قول الطغرائي في هذا البيت من البديع الإيضاح، وإرسال المثل، أمَّا إرسال المثل فإنه واضح؛ لأن كل مَنْ سمعه وحفظه تمثّل به فيما يليق من المواقع، وأمَّا الإيضاح فإنه أزال به اللبس من خفاء الحكم الذي ادّعاه في البيت الذي تقدّمه، وهو أنّ العزّ في النقل، هذا حكم خافٍ عند المخاطب حتى يوضّحه بقوله: لو أنّ في شرف المأوى ... البيت، فيزول اللبس، ويتضح الحكم. قال رحمه الله تعالى: أهبتُ بالحظِ لو ناديتُ مستمِعاً ... والحظُّ عنِّيَ بالجُهَّالِ في شُغُلِ اللغة: أهاب الراعي بغنمه: صاح بها لتقف ولترجع، والحظ: النصيب، والنداء: معروف، مستمعا: اسم فاعل من استمع، والجهل: خلاف العِلم، شغل: فيه أربع لغات: شُغْل، وشُغُل، وشَغْل، وشَغَل. الإعراب: أهبت: فعل وفاعل، بالحظ: الباء للتعدية، والألف واللام للعهد الذهني، والجار والمجرور في موضع النصب، ومستمعا: مفعول به، والحظ: مبتدأ / في [57 أ] شغل: في موضع رفع، خبر للمبتدأ تقديره والحظ مستقر في شغل بالجهال عنّي. أنشد ابن الوردي رحمه الله (¬1): (مجزوء الرجز) وأغيدٍ يسألني ... ما المبتدا والخبرُ مثلْهما لي مسرعاً ... فقلتُ أنتَ القمرُ المعنى: صحت بالحظ، وطلبت إقباله لو أني ناديت من يسمعني؛ لأن الحظ اشتغل عني بالجهال، وهذا ينظر إلى قول عبد الرحمن بن الحكم (¬2): (من الوافر) لقد أسمعتَ لو ناديتَ حَيّاً ... ولكنْ لا حياةَ لِمَنْ تُنادي والصحيح أن الحظوظ لاتعلل، فما وجودها وعدمها باستحقاق من الطرفين، بل الله يرزق من يشاء بغير حساب، قال الله تعالى: [وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ] (¬3) وقال تعالى: [نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] (¬4)، وقال عليه السلام: (لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد). ¬

(¬1) ديوانه (م) (¬2) لقد نسب هذا البيت لكل من: بشار بن برد، دريد بن الصمة، عمرو بن معدي كرب الزبيدي، كثير عزة، مهيار الديلمي، عبد الرحمن بن الحكم وغيرهم وهو في دواوينهم (م)، (¬3) النحل 71 (¬4) الزخرف 32

عِلْمي بسابقةِ المقْدورٍ ألْزمني ... صبري وصمتي (¬1) فلم أحرص ولم أسل (¬2) لو نيل بالحظ مطلوبٌ لما حُرِم الـ ... رؤيا الكليم وكان الحظُّ للجبل وحِكْمَةُ العقل اِن عزَّن واِن شرفت ... جهالة عند حكم الرزق والأجَلِ وقال بعضهم: (من المجتث) كم من غَبّيٍ غَنيٌ ... وكم من فَقيهٍ فَقيرٌ (¬3) وقال آخر: (من الكامل) وإذا استقام الدهر يوما للفتى أغنت سعادته عن التنجيم (¬4) وقال ابن قلاقس (¬5): (من الطويل) ولستَ تَرى في مَحْكَمِ الذكرِ سورةً ... تقومُ مقامَ الحمْدِ والكلُّ قُرآنُ وقال مهيار الديلمي (¬6): (من البسيط) لا تحسَبِ الهمّةَ العَلياءَ مُوجِبةً ... رزقاً على قِسمة الأقدارِ لم يجبِ لو كان أفضلُ مَنْ في الناس أسْعَدَهم ... ما أنحطّتِ الشمسُ عن عالٍ من الشُّهُبِ أو كان أسْيَرُ ما في الأُفْق أسْلَمَه ... دام الهلالُ فلم يُمْحَقْ ولم يَغبِ وقال الطغرائي (¬7): (من الطويل) وأعظمُ ما بِي أنّني / بفضائلي ... حُرِمْتُ وما لي غيرَهُنَّ ذَرائِعُ ... [57 أ] إِذا لم يَزِدني موردي غيرَ غُلَّةٍ ... فلا صدرتْ بالواردينَ مشارِعُ وقال [القاضي] الفاضل (¬8): (مجزوء الكامل) ما ضَرَّ جَهلُ الجاهِليـ ... نَ وَلا اِنتَفَعتُ أَنا بِحِذقي وَزِيادَتي في الحَذقِ فَهـ ... يَ زِيادَةٌ في نَقصِ رِزقي وقال آخر (¬9): (من الطويل) إِذا جَمَعتْ بين امرأيْنِ صِناعَةٌ ... فأحببتَ أن تدري الذي هو أحْذَقُ فلا تَتَفقَّدْ منهما غيرَ ما جَرَتْ ... به لهُما الأرزاق حين تُفَرَّقُ فحيثُ يكون الجَهلُ فالرزق واسِعٌ ... وحيثُ يكونُ العلم فالرزق ضيِّقُ ¬

(¬1) الذي ورد في المخطوط: صمتي وصبري، وقد لاحظنا مثل هذا الأمر كثيرا، ولكنه إن كان مقبولا في الكلام المنثور، فإنه لا يجوز في المنظوم، والقلب ليس من الاختصار إنما هو انحراف عن مفهوم الاختصار (¬2) هذه الأبيات من البسيط، وهي للحيص بيص (أبو الفوارس سعد بن محمد بن الصيفي) ديوانه 2/ 342 (¬3) البيت في الغيث المسجم 2/ 123 (¬4) البيت في الغيث المسجم 2/ 123 (¬5) ديوانه (م). (¬6) ديوانه (م). (¬7) ديوانه، ص 228 (¬8) ديوانه (م). (¬9) لأبي إسحاق الصابئ، ديوانه (م).

وقال أبو العلاء (¬1): (من الكامل) لا بُدّ للحَسناءِ من ذامٍ ولا ... ذامٌ لنَفسِي غَيرَ سَيّئِ بَخْتِها وقال ابن سناء الملك (¬2): (من السريع) ما تمَّ إِلا الحظُّ فارقُب له ... ولا تَقُل عقْلِي ولا حَزْمِي كم نقمةٍ في طيِّها نعمةٌ ... ويوجَدُ التِّرياقُ في السُّمِّ وقال الشافعي رضي الله عنه من أبيات (¬3): (من الكامل) لو أنَّ بالحيلِ الغني لوجدتنيِ ... بنجومِ أفلاكِ السماء تعلُّقي لكنَّ من رُزِق الحجا حُرِمَ الغنى ... ضدّان مفترقان أي تفرُّق فإذا سمعتَ بأنَّ محروماً أتى ... ماءً ليشربه فغاضَ فصدِّق أو أنّ محظوظاً غدا في كفه ... عُودٌ فأورَقَ في يديه فحقِّقِ وقال الإمام فخر الدين الرازي: (من البسيط) كم عاقل عاقل أعْيتْ مذاهبهُ ... وجاهل جاهل تلقاهُ مَرْزوقا (¬4) هذا الذي تركَ الأوهامَ حائرةً ... وصَّبر العالم النِّحريرَ زِنديقاً وقال أبو إسحاق الغزي: (من البسيط) كم عالِمٍ لم يًلِجْ بالقرعِ بابَ منىً وجاهلٍ قبلَ قرعِ البابِ قد ولجا (¬5) وقال ابن الخياط الأندلسي (¬6): (من الكامل) لم يخل من نوب الزمان أديب ... كلاّ فشأن النائبات تنوب وإذا انتهيتَ إلى العلومِ وجدتَها ... شيئاً يعدّ بها عليك ذنوب وغضارة الأيّام تأبى أن يرى ... فيها لأبناء الذكاء نصيب وكذاك من صحب الليالي طالباً ... جدّاً وفهماً فاته المطلوب / وهذا قول أبي الطيب (¬7): (من الطويل) ... [58 أ] وَما الجَمعُ بَينَ الماءِ وَالنارِ في يَدٍ ... بِأَصعَبَ مِن أَن أَجمَعَ الجَدَّ وَالفَهما وقال ابن الخياط الدمشقي (¬8): (من الطويل) وَمَا زَالَ شُؤْمُ الْجَظِّ مِنْ كُلِّ طَالِبٍ ... كَفِيلاً بِبُعْدِ الْمَطلَبِ الْمُتَدَانِي ¬

(¬1) ديوان سقط الزند، ص 29 (¬2) ديوانه (م). (¬3) ديوانه (م). (¬4) جاء في معاهد التنصيص، ص [278 أ] ن البيتين لابن الراوندي، وقبلهما: سُبحان مَنْ وضع الأشياء مَوضِعَها ... وفَرقَ العزَّ والإذْلال تفريقا (¬5) البيت في الغيث المسجم 2/ 128 (¬6) ديوانه (م). (¬7) ديوانه 1/ 221 (¬8) ديوانه (م).

لعله إن بدا فضلي ونقصهم ... لعينه نام عنهم أو تنبه لي

وَقَدْ يُحْرَمُ الْجَلْدُ الْحَرِيصُ مَرَامَهُ ... وَيُعْطِى مُنَاهُ الْعَاجِزُ الْمُتَوَانِي ومنه قول الآخر (¬1): (من البسيط) وَقد يُحرَمُ الجَلْدُ الحَريصُ مَرامهُ ... وَيُعطَى مُناهُ العاجِزُ المْتَوانِي وقول الآخر (¬2): (من البسيط) قَد يُرزقُ المْرءُ لا مِنْ حُسنِ حِيلتهِ ... وَيُصرَف المال عَنْ ذِي الحيلةِ الدَّاهِي واعلم ـ رحمك الله ـ أنّ الزمان مولع بخمول الأدباء، وخمود نار الأذكياء، كما أخنى على الفضلاء، وجَهِل قدر العلماء، ولو أردنا أن نذكر مَنْ اتّفق له ذلك لعجزنا عن ذكر ما هنالك فلنقتصر على ما ذكرنا من قول الشعراء. لعلَّهُ إنْ بَدا فضلي ونقصُهُمُ ... لعينهِ نامَ عنهمْ أو تنبَّهَ لي اللغة: بدا: ظهر، والفضل والنقص ضدان، وتنبه: أصله من الانتباه، الذي هو اليقظة. الإعراب: لعل: حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر، إنْ: حرف شرط، وبدا: فعل ماضٍ، وهو من ذوات الواو، وهو شرط، وفضلي: فاعل بدا، ونقصهم، الواو عطفت الاسم المرفوع على الاسم، لعينه، اللام هنا للتعدية، نام: جواب الشرط، لي: جار ومجرور، وخبر لعل الجملة من الشرط والجزاء، والتقدير لعل الحظ منصفي. المعنى: أتمنى الحظ عساه إذا رأى فضلي، وعَلِم نقصهم أن ينام؛ فيسلبهم ما هم فيه، أو يتنبه لي، فيوفيني ما أستحقه، هيهات ضاع عمره، وفني زمانه، وانتهت مدته، وما نام عنهم، ولا تنبه له، نعم كان قد نام عنهم، ثم انتبه له؛ فأورده على ظمأ به جدول الحسام، وأعانت على قتله فضائله الجسام، ولكن الأمل / خُلق جبلت النفوس على إلفه، [58 ب] يزداد بنقص الإنسان، ويقوى بضعفه، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يشيب المرء وتشبّ معه خصلتان، الحرص وطول الأمل، وفي معنى قول الناظم: (من المتقارب) عَمِرْتُ أَرُوضُ خُطُوبَ الزَّما ... نِ لَوْ أَنَّ جامِحَها يَسْتَقِيدُ (¬3) وَما كانَ أَجْدَرَنِي بِالْعَلا ... ءِ لَوْ قَدْ تَنَبَّهَ حَظٌّ رَقُودُ ولا بدّ للزمان من انتباهة للفضلاء بعد رقاده عنهم، قال الناظم (¬4): (من البسيط) لا تيأسَنَّ إِذا ما كنتَ ذا أَدبٍ ... على خمولِكَ أنْ ترقَى إِلى الفَلَكِ بينَا تَرى الذهبَ الإبرِيْزَ مُطَّرَحاً ... في معدن إذ غدا تاجا على المَلِكِ أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها ... ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ ¬

(¬1) لابن الخياط الدمشقي أيضا، وهو في ديوانه (م). (¬2) البيت بلا عزو في الغيث المسجم 2/ 129 (¬3) البيتان لابن الخياط، ديوانه / (م). (¬4) الغيث المسجم 2/ 141

اللغة: علله بالشيء لهاه به، كما يُعلل الصبي بشيء من الطعام، والنفس: الروح، والنفس الدم لغة، يقال: سالت نفسه، أي دمه، وله نفس سائلة، أي دم، والآمال: جمع أمل، أرقبها: أرصدها، فسحة الأمل: سعته. الإعراب: أعلل النفس: فعل ومفعول، بالآمال: الباء فيه للتعدية، وهي متعلقة بأعلل، أرقبها: فعل مضارع مرفوع، ما أضيق الدهر: ما هذه للتعجب، وهي هنا على مذهب سيبويه نكرة غير موصوفة فهي في موضع رفع بالابتداء، وساغ الابتداء بها لأنها في تقدير التخصيص، والمعنى شيء عظيم، مثل: شرٌّ أهرَّ ذا ناب، والدهر: منصوب على التعجب، وهو فاعل في المعنى، لولا: حرف يمتنع به الشيء لامتناع غيره، وهي هنا امتناعية، وقد تكون تحضيضية، كقوله تعالى: [لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ /قَرِيبٍ] (¬1) [59 أ] وفسحة: مبتدأ ومضاف إليه (¬2). المعنى: أمني النفس، وأعللها برقبة الآمال، وانتظار بلوغها، وإدراكها؛ فيتّسع لها ما ضاق عليها من الدهر والعيش، ثم قال: ما أضيق الدهر لولا أنّ فسحة الأمل توسعه، وفي الآمال راحة للنفوس، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأمل راحة لأمتي، لولا الأمل ما أرضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجرة، ومن هنا قال الحسن: لو عقل الناس وصوّروا الموت بصورته خربت الدنيا، وقال بعضهم: نعم الرفيق الأمل، وإن لم يبلغك فقد آنسك، واستمنعت به، قال أبو دلف (¬3): (من الخفيف) أطيب الطيبات قتل الأعادي ... واختيالي على متون الجياد ورسول يأتي بوعد حبيب ... وحبيب يأتي بلا ميعاد وقد أخذ قول الطغرائي العماد الكاتب (¬4)، وقال: (من الطويل) وما هذه الأَيامُ إلاَّ صحائف ... يؤرَّخ فيها ثمَّ يُمحى ويُمحقُ ولم أَرَشيئا مثل دائرةِ المنى ... تُوسِّعُها الآمالُ والعمرُ ضيقُ وقال غيره (¬5): (من البسيط) لولا مواعيدُ آمالٍ أعيشُ بها ... لُمتُّ يا أهلَ هذا الحيِّ من زَمنِ وإنما طِرْفُ آمالي به مرحٌ ... يَجْرِي بِوَعد الأماني مطلقَ الرسنِ وقال آخر (¬6): (من الطويل) ¬

(¬1) المنافقون 10 (¬2) يعني فسحة مبتدأ وهي مضاف، والأمل مضاف إليه. (¬3) البيتان في الغيث المسجم 2/ 156 (¬4) ديوانه (م) (¬5) نسب في الغيث المسجم 2/ 163 للعفيف إسحاق بن خليل كاتب الإنشاء للناصر داود. (¬6) نسبها الخالديان في الأشباه والنظائر، ص /724/ (م) لعلي بن محمد بن أحمد القليوبي، وهي في الغيث المسجم 2/ [163 ب] لا عزو.

لم أرتض العيش والأيام مقبلة ... فكيف أرضى وقد ولت على عجل

فبتُّ أُراعي النَّجمَ حتَّى كأنَّما ... بناصِيتي حبلٌ إلى النَّجمِ موثَقُ وما طالَ ليلِي غيرَ أنِّي بوعدها ... أُعلِّلُ نفسي بالأماني فتعلقُ وقال آخر (¬1): (من الخفيف) في المُنَى راحةٌ وإنْ علّلْتَنا ... من هواها ببعض ما لا يكونُ وقال أبو الحسين الجزار (¬2): (من الكامل) حَسْبُ الفتى حسن الأماني إنه ... لا يعتريه مدى الزمان زوال لم أرتضِ العيشَ والأيامُ مقبلةٌ ... فكيف أرضَى وقد ولَّتْ على عَجَلِ اللغة: الإقبال: ضد الإدبار، والعجل: السرعة، والعجل: الطين / قال تعالى: [59 ب] [خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ] (¬3). الإعراب: لم: حرف يجزم الفعل المضارع، أرتض: مجزوم به، العيش: مفعول به، والأيام مقبلة: مبتدأ وخبر، وكيف: اسم مبني على الفتح، أرضى: فعل مضارع مرفوع، وقد: الواو واو الحال، وقد: للتحقيق، والتاء في ولّت علامة التأنيث، على عجل: على هذه يُحتمل أن تكون بمعنى في، ولكنها في المعنى للاستعلاء، والجار والمجرور في موضع نصب على الحال، أي ولّت مستعجلة، والجملة في قوله: وقد ... إلى آخر البيت في موضع النصب على الحال، تقديره: فكيف أرضى العيش والحالة هذه. المعنى: ما رضيت بالعيش في صباي إذ كانت الأيام مقبلة، فكيف أرضى بالعيش وقد كبرت، والأيام قد ولّت عنّي، والأمر كذلك؛ لأن العيش في زمن الشبيبة أيامه في إقبال، فهو غضٌّ نَضِر يانع، غصنه رطب، ووصله حبيب، وسهمه مصيب، وله في كل لذة قسم، وفي كل نعيم نصيب، وقال ما أحسن قول المعري (¬4): (من البسيط) وقد تَعَوّضْتُ من كُلٍّ بمُشْبِهِهِ ... فما وَجَدْتُ لأيّامِ الصِّبا عِوَضَا والعيش في أيام الشيخوخة أيامه في إدبار، وتوالٍ وزوال، فهو جاف ذاوٍ ذابل، ثوبه خلق، وجوّه غسق، ويومه حرق، ونزمه أرق، وغصنه عارٍ من النضارة والثمر والورق، كما قال القائل (¬5): (من البسيط) ما كنتُ أُوفِي شبابِي كُنْه قِيمَتِه ... حتى انقضى فإذا الدُّنْيا له تَبَعُ ¬

(¬1) نسبه الخالديان في الأشباه والنظائر، ص 724/ (م) لمسلم؟ حيث قال: ومن أجود ما قيل في المنى قول مسلم، وفي الغيث المسجم 2/ [163 ب] لا عزو. (¬2) البيت في الغيث المسجم 2/ 167 (¬3) الأنبياء 37 (¬4) ديوان سقط الزند، ص 208 (¬5) لمنصور النمري كما في الغيث المسجم 2/ 173

غالى بنفسي عرفاني بقيمتها ... فصنتها عن رخيص القدر مبتذل

وبيت الطغرائي مأخوذ من قول أبي العلاء المعري: (من البسيط) وما ازْدُهِيتُ وأثوابُ الصِّبا جُدُدٌ ... فكيفَ أُزهَى بثوْبٍ من ضنىً خَلَقِ ومن قوله أيضا في رسالة له يخاطب الدنيا: أسأتني غانية، فكيف بك عجوزا فانية، أي ما انتفعت بك وأنا شاب، فكيف أنتفع / وأنا هرم، والدنيا قد يقال لها شابّة وعجوز بمعنى [60 أ] يتعلق بذاتها، وبمعنى يتعلق بغيرها، فمن أول زمن آدم إلى زمن إبراهيم تسمى شابة، وإلى زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسمى كهلة، وبعد ذلك إلى يوم القيامة تسمى عجوزا، والمعنى الثاني وهو مجاز أنها بالنسبة إلى أوان كل شخص، وعلى هذا يحمل قول المعري في مخاطبته الدنيا، وإلاّ فالمعري لم يعمر من أول وجود الدنيا، وكذلك في قول أبي الطيب (¬1): (من البسيط) أَتى الزَمانَ بَنوهُ في شَبيبَتِهِ ... فَسَرَّهُم وَأَتَيناهُ عَلى الهَرَمِ وقال آخر في معنى قول الشاعر (¬2): (من الطويل) إذا المرء أعيته السيادة ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه شديد وقول الآخر (¬3): (الكامل) وإذا الفتى من دهره كملت له ... خمسون وهو إلى التُّقى لا يَجنَحُ طلعت عليه المخزيات وقلن قد ... أرضيتنا فكذاك كن لا تبرحِ وإذا رأى إبليس صورته بدتْ ... حيَّ (¬4) وقالَ فديت من لم يفلحِ غالى بنفسيَ عِرفاني بقيمتِها ... فصُنْتُها عن رخيصِ القَدْرِ مبتَذَلِ اللغة: غلا السعر إذا ازداد، والعرفان: المعرفة، والقيمة: العوض، والرخص: ضد الغلاء، القدْر: مبلغ الشيء، مبتذل: ممتهن. الإعراب: غالى: فاعل من المغالاة، فهو فعل ماض، والمفاعلة لا تكون إلاّ بين اثنين، عرفان: فاعل غالى، بقيمتها: الباء للتعدية، فصنتها: الفاء للتعقيب، وصنتُ: فعل وفاعل، عن رخيص: عن للمجاوزة [ورخيص مجرور بها، والقدر: مجرور بالإضافة إليه، مبتذل: مجرور على أنه] (¬5) صفة لرخيص. المعنى: إنّ عرفاني بنفسي يغالي الزمان أوالورى بقيمتها، فهو يسوم العوض عنها، وما يجد لها كفؤاً في القيمة من الناس، فلهذا أصونها ولا أبذلها لرخيص القدر مبتذل، ومن كانت / ¬

(¬1) ديوانه 2/ 262 (¬2) البيت في الغيث المسجم 2/ [175 ب] لا عزو، وهو من أبيات الحماسة. (¬3) نسبه السيوطي في الأزهار فيما عقده الشعراء من الأحاديث والآثار، ص 40/ (م) لابن الوراق النحوي، وبلا عزو في الغيث المسجم 2/ 175 (¬4) اسم فعل أمر بمعنى أقبل. (¬5) ما بين الحاصرتين زيادة من الغيث المسجم 2/ 179

وعادة النصل أن يزهى بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل

نفسه مهذبة بالمعارف، مكملة بالفضائل، متسمة بالأخلاق الحميدة، متصفة [60 ب] بالسجايا الكريمة، والطباع الخيرة، فحقيق على أنْ لا تكون قيمة، وما سواها فهو مهين مبتذل، والعمري إنّ النفوس الزكية الخيرة الأبية الكاملة لو كانت تشترى بعوض لأتت على ما في أيدي الناس من الجواهر والذهب، ولكنها فيض ممن هو دائم الجود، رفيع الدرجات، ذو العرش يلقي الروح من أمره على مَنْ يشاء من عباده، أما أبو الطيب ـ رحمه الله ـ فإنه قال (¬1): (من البسيط) مَن كانَ فَوقَ مَحَلِّ الشَمسِ مَوضِعَهُ ... فَلَيسَ يَرفَعُهُ شَيءٌ وَلا يَضَعُ (¬2) وقال أيضا (¬3): (من الكامل) مَن خَصَّ بِالذَمِّ الفِراقَ فَإِنَّني ... مَن لا يَرى في الدَهرِ شَيئاً يُحمَدُ وقال [القاضي] الفاضل (¬4): (من الطويل) وَهَب أَنَّ هَذا البابَ لِلرِزقِ قِبلَةٌ ... فَها أَنا قَد وَلَّيتُهُ دونَكُم ظَهري وَهَب أَنَّهُ البَحرُ الَّذي يُخرِجُ الغِنى ... فَكُلُّ خَرا في الشَطِّ في لَحيَةِ البَحري حُكي أنّ الشافعي قال: لو أنّ العوام غلمان ما ارتضيت بهم. وعادةُ النصلِ أن يُزْهَى بجوهرِه ... وليس يعملُ إلاَّ في يدَيْ بَطَلِ اللغة: العادة: معروفة، والجمع عاد وعادات، النصل: السيف، يزهى: فهو مزهو، وجوهر السيف: ما يرى فيه من الطرق المختلفة فيه، يعمل: أي يقطع البطل الشجاع. الإعراب: وعادة: الواو واو الابتداء، عادة: مبتدأ، أنْ: حرف ينصب الفعل المضارع، ويزهى: منصوب به، بجوهره: الباء للمصاحبة، وليس: الواو عاطفة، وليس: من أخوات كان / ويعمل: في موضع خبر ليس، إلاّ: حرف استثناء، وفي ظرفية. ... [61 أ] المعنى: إنّ السيف عادته أن يكون زهوه بجوهره، ولكن ما المراد منه إلاّ القطع، والمضاء في الضريبة، ولا يكون ذلك منه إلاّ إذا كان في يدي بطل، يضرب به، ويصيب الكلى والمفاصل، يعني أنني في ذاتي كالسيف المجوهر، لما حويته من العلم، وملكته من ممارسة الأمور، وسياستها، ولكن لا نفع فيها لأنها كامنة، فلو باشرت أمرا، وتولّيت ولاية، ظهرت محاسني إلى الخارج، وبرز في الظاهر نفع ما عندي، وهذا تشبيه حسن، وتمثيل جيّد. ¬

(¬1) كتبت هذه الجملة هكذا: أما قول أبي الطيب رحمه الله، وما أثبتناه من الغيث المسجم 2/ 180 (¬2) ديوانه 2/ 65 (¬3) ديوانه 2/ 246 (¬4) ديوانه (م).

ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأوغاد والسفل

ومن كلام البديع الهمداني في رسالة: وقد حكمت علماء الأمة، واتّفق قول الأئمة على أنّ سيوف الحق أربعة، وسائرها للناس: سيف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المشركين، وسيف أبي بكر في المرتدين، وسيف عليّ في الباغين، وسيف القصاص بين المسلمين. قال الشارح: وقولهم في ضد ذلك: سيف الفرزدق يضربون به المثل للسيف الكليل في يد الجبان. قال الناظم في أبيات له (¬1): (من الطويل) وأبيضَ طاغي الحدِّ يُرعِدُ متنُه ... مخافةَ عزمٍ منك أمضَى من النصلِ عليمٌ بأسرارِ المَنونِ كأنَّما ... على مضربيه أُنزلتْ آيةُ القَتْلِ تفيضُ نفوسُ الصِيدِ دونَ غِرارهِ ... وتطفَحُ عن متنيهِ في مَدْرجِ النملِ وما أحسن قول القائل: ما كنتُ أُوثِرُ أنْ يمتدَّ بي زمني ... حتى أرى دولةَ الأوغادِ والسّفَلِ اللغة: آثرت فلانا على نفسي: اخترته، سأل بعض السوَّال شخصا، وألحّ، فقال السائل لمَّا لم تعط، أين الذين كانوا يؤثرون على أنفسهم، فقال له المسئول: ذهبوا مع الذين لا يسألون الناس إلحافا، يمتد: يتصل، الزمان: اسم لقليل / الوقت وكثيره، والوغد: [61 ب] الدنيء، والسفلة: سقط الناس. الإعراب: ما: حرف نفي، كنت: كان واسمها، أوثر: في موضع النصب على أنه خبرها، أن يمتد: [أن حرف نصب ينصب الفعل المضارع، ويمتد فعل مضارع منصوب بأن، وأنْ هنا مصدرية فهي وما دخلت عليه في تأويل مصدر، وتقديره ما كنت أوثر امتداد زمني] (¬2)، وحتى ها هنا لانتهاء الغاية، ومعنى الكلام إلى أن، أرى: فعل مضارع منصوب على إضمار أنْ، دولة الأوغاد: منصوب على أنه مفعول به، والسّفل: مجرور بالعطف. المعنى: ما كنت أظن الزمان يمتد بي في عمري حتى تنقضي دولة الكرام، وأرى فيما بعد دولة الأوغاد والسّفل، وهو يشبه قول أبي الطيب (¬3): (البسيط) ما كُنتُ أَحسَبُني أَحيا إِلى زَمَنٍ ... يُسيءُ بي فيهِ كَلبٌ وَهوَ مَحمودُ هذا قوله في بعض أهاجي كافور، ومن غرر مدائحه فيه قوله بعد ذكر الخيل (¬4): (من الطويل) ¬

(¬1) الغيث المسجم 2/ 197 (¬2) كتب بدل الذي بين الحاصرتين (أن واسمها) وهو خطأ، وما أثبتناه، وهو الصحيح من الغيث المسجم 2/ 202 (¬3) ديوانه 2/ 272 (¬4) ديوانه 2/ 204

قَواصِدَ كافورٍ تَوارِكَ غَيرِهِ ... وَمَن قَصَدَ البَحرَ اِستَقَلُّ السَواقِيا فَجاءَت بِنا إِنسانَ عَينِ زَمانِهِ ... وَخَلَّت بَياضاً خَلفَها وَمَآقِيا وما مدح أسود بأبلغ من هذا، ولا أحسن، ومما يدخل في بيت الطغرائي قول [أبي إسحاق إبراهيم الغزي] (¬1): (من البسيط) لئن حلبْنا صُروفَ الدَّهرِ أشطرَها ... فكلُّنا بصروفِ الدَّهرِ جُهَّالُ فلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنيا بمن رَفَعَتْ ... فلا حَقِيْقَةَ فيما يرفعُ الآلُ الحمدُ للهِ أفْضيْنا إلى دُوَلٍ ... تعلو وليسَ لنا فيهنَّ آمال وقال آخر (¬2): (من المديد) قَدْ دُفعْنا إلى زمانٍ لئيمٍ ... لمْ نَنَلْ منهُ غيرَ غلِّ الصدورِ وقال آخر (¬3): (من مجزوء الكامل) قالوا فلانٌ قَد وَزِرْ ... فقلتُ كلاّ لا وَزَرْ الدهر كالدولاب لـ ... يس يدور إلاّ بالبقرْ وقال آخر (¬4): (من البسيط) لو أنّ أشياخَنا كانتْ لهم هِمَمٌ تبغي رِياسَتَنا لمْ تَرْأَسِ البقرُ لكنَّهم وقَضاءُ اللهِ محتَمَلٌ ليسوا من النَّاسِ إلاّ أنَّهم بشرُ وقال آخر (¬5): (من الكامل) هَوَّنْ عليكَ فقد مضى مَنْ يَعْقِلُ وَالْبِسْ مِنَ الأَخْلاقِ ما هو أَفْضَلُ فلقلَّما تأتي إليكَ مَسَرَّةٌ إلاَّ تَتابَعَ بعدَها ما يُثْكِلُ وَإذا خَبِرْت َ النَّاسَ لمْ تَلْقَ امرأً ... ذا حالَةٍ تُرْضِيْكَ لا تَتَحَوَّلُ لكنَّهم نُكِبَتْ بهم أحوالُهمْ ... كلٌّ يَعِيْبُ / ولا يَرى ما يفْعَلُ ... [62 أ] فمُساتِرٌ ضَعُفَتْ قُوَى آرائه ... ومُجاهِرٌ يَرْمِي ولا يتأمَّل وَمُقَلِّدٌ مُتَعَقِّلٌ مُتَأَدِّبٌ ... فإذا اخْتَبَرْتَ فَباقِل هو أَعْقَلُ وما أحلى قول شرف الدين المناوي (¬6): (من الطويل) ولا خيرَ في عَيْشِ الفتَى بيْنَ مَعْشَرٍ تَعالَوْا على إخوانِهِمْ فتَسَافَلُوا ¬

(¬1) كتب بدل الذي بين الحاصرتين (المعري) وهو خطأ، وما أثبتناه، وهو الصحيح من الغيث المسجم 2/ 204، وفيه وردت الأبيات الثلاث. (¬2) البيت في الغيث المسجم 2/ [204 ب] لا عزو. (¬3) البيت في الغيث المسجم 2/ [205 ب] لا عزو. (¬4) البيتان في الغيث المسجم 2/ [205 ب] لا عزو. (¬5) الأبيات في الغيث المسجم 2/ [205 ب] لا عزو. (¬6) البيت في الغيث المسجم 2/ 206، وقد نسب إلى شرف الدين المنادي، وليس صحيحا، انظر: الدرر الكامنة، ص 20/ (م)، النجوم الزاهرة، ص 4131/ (م)، نظم العقيان، ص 43 / (م)، نفحة الريحانة، ص 3739/ (م).

تقدمتني أناس كان شوطهم ... وراء خطوي إذ أمشي على مهل

وقول محيى الدين بن عبد الظاهر (¬1): (من الكامل) مَرِضَ الزمانَ وقد تمسَّكَ طَبْعُهُ مِنْ شَرَّ قُولَنْجٍ بهِ يَتَمَغَّسُ حَقَنَتْهُ آراءُ المُلوكِ فجَاءهُ أهلُ المَنَاصِبِ كلُّ شَخْصٍ مَجْلِسُ تقدَّمتني أناسٌ كان شَوطُهُمُ ... وراءَ خطويَ إذ أمشي على مَهَلِ اللغة: تقدّمتني: صار أمامي، أُناس: هو الأصل في الناس فخفف، وعن بعضهم أنه كان يقول: مسكين الإنسان ما ذكره الله في القرآن إلاّ في مكان ذمٍّ أو شرٍّ، مثل قوله: [قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ] (¬2)، [وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا] (¬3) و [يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ] (¬4)، وهذا معنى حسن نظمه الشارح، فقال (¬5): (من مجزوء الكامل) يا أيُّها الإنسانُ لا تفجُرْ بغيرِ تُقىً وعلمِ وانْظُرْ فأكثرُ ما أتى الـ ... قرآنُ باسمكَ عند ذَمِّ والشوط: الطَلَق، وخطو: جمع خطوة، والمهل: التؤدة والتأني. الإعراب: تقدمتني أناس: فعل وفاعل، وشوطهم: اسم كان، وراء: ظرف، وهو خبر كان، وبعضهم روى هذا البيت: وراء خطوي إذ أمشي على مهل (¬6)، وفي هذه الرواية فائدة ليست في الأولى؛ لأن إذ ظرف لما مضى من الزمان، ففيه دليل على أنه كان قد تقدم له قبل ذلك سؤدد وعلو، وأولئك كانوا متأخرين، وعلى رواية (لو) لا تفيد ذلك. المعنى: صار أمامي، وعلاني وتقدمني قوم كان جريهم خلف خطوي إذا مشيت متمهلا، وهذه مبالغة في سوء الحال، وإخناء الزمان عليه بأن تعوقه الليالي والأيام عن السعي؛ حتى يتقدمه الذين كانت نهايات أشواطهم إذا بلغوها / وراء خطوه المتمهل، نعم: [62 ب] (من السريع) إنَّ المقاديرَ إذا ما مضتْ ... ألحقتِ العاجزَ بالحازمِ (¬7) ولكن مَنْ رُمِي بهذا السهم الصائب، ومُنِي من الزمن الخائب بهذه النوائب، حقيق بأن يُظلم ويتشكّى ويتألم ويتكلف بأن يقول له حيث لم يتكلم (¬8): (من الطويل) ¬

(¬1) البيتان في الغيث المسجم 2/ 207 (¬2) عبس 17 (¬3) الاسراء 11 (¬4) الانفطار 6 (¬5) البيتان في الغيث المسجم 2/ 208 (¬6) عجيب أمر المختصر، فقد أثبت رواية (إذ) في البيت، وهنا يقول: وبعضهم روى هذا البيت (وراء خطوي إذ أمشي على مهل) وسبب ذلك أن البيت ورد في الغيث المسجم 2/ 209 (لو أمشي) فنسي المختصر أنه أثبت رواية إذ، وأخذ يتحدث وكأنه أثبت رواية (لو)، والسبب أنه ينقل حرفيا عن الغيث المسجم دون تبصر. (¬7) البيت لابن الوردي، ديوانه / (م)، وفيه: إذا ساعدت. (¬8) لأبي العلاء المعري، ديوان سقط الزند، ص 16

هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل

إذا لم يَكُنْ للفَضْلِ ثَمّ مَزِيّةٌ ... على النّقص فالوَيلُ الطويلُ من الغَبنِ وقوله: كان شوطهم وراء خطوي ... البيت يشبه قول هشام الرقاشي (¬1): (من البسيط) تقدَّمَتْنِي أُناسٌ ما يكونُ لهم ... في الحقِّ أنْ يلجُوا الأَبْوابَ مِنْ دونِي هذا جَزاءُ امرئٍ أقرانُه درَجُوا ... من قَبْلهِ فتمنَّى فُسحةَ الأجلِ اللغة: الجزاء: معروف، والقرين: الصاحب، [الأجل] مدة الأجل، وغاية العمر. الإعراب: هذا: اسم إشارة في موضع رفع بالابتداء، والإشارة إلى ما قدّنه من تقدِّم غيره عليه، أقرانه درجوا: مبتدأ وخبر، من قبله: يحتمل من هذه أن تكون زائدة، وأن تكون ظرفية، فتمنى: الفاء للتعقيب، فسحة: مفعول به، والأجل: مضاف إليه. المعنى: هذا الذي أنا فيه من الغربة، والفقر، والعطلة، والانفراد، وتقدّم الأراذل جزاء رجل درجت أقرانه قبله، وإخوانه، وتمنى الحياة بعدهم: (من الكامل) ذَهَبَ الَّذينَ يُعاشُ في أَكنافِهِم ... وَبَقيتُ في خَلْفٍ كَجِلدِ الأَجرَبِ (¬2) حُكيَ أنَّ بعض الأرقَّاء كان عند سيد يأكل الخاص، ويطعمه الخشكار، فطلب البيع [فباعه] لرجل يأكل الخشكار، ويطعمه النخالة، [فطلب البيع] فباعه واشتراه من يأكل النخالة، ولا يطعمه شيئا، فطلب البيع، فباعه واشتراه مَن لا يأكل شيئا، وحلق رأسه، وكان في الليل يجلسه، ويضع السراج على رأسه بدلا من المنارة، فأقام عنده، ولم يطلب البيع، فقال له النخَّاس: لأي شيء رضيت بهذه الحالة عند المالِك، فقال: [أخاف] أن يشتريني في هذه / المرة مَنْ يضع الفتيلة في عيني عوضا عن السراج، ولله درُّ القائل (¬3): (من السريع) [63 أ] كنا إِذا جئنا لمنْ قبلكم ... أنصفَ في الترحيبِ بعدَ القيامْ والآنَ صِرْنا حينَ نأتيكمُ ... نقنعُ منكم بلطيفِ الكلامْ لا غيَّرَ اللهُ بكمْ خشيةً ... من أن يجي من لا يرُدّ السلامْ وإنْ عَلانِيَ مَنْ دُونِي فلا عَجَبٌ ... لي أُسوةٌ بانحطاطِ الشمس عن زُحَلِ اللغة: علا: ارتفع، دوني: أي أنقص منه رتبة، والعجب: استغراب النفس الشيء، والأسوة: ما يتأسّى به الحزين، انحطاط: النقص، والشمس: معروفة، وزحل: كذلك. ¬

(¬1) البيت في الغيث المسجم 2/ 210 (¬2) للبيد، ديوانه، ص 26. (¬3) لبدر الدين يوسف مهمندار العرب، كذا في الغيث المسجم 2/ 222 ـ 223، ولكنه قال مهندار، وهو خطأ، والتصويب من معاهد التنصيص، ص 1925/ (م)، أعيان العصر، ص 6334/ (م)، فوات الوفيات، 4/ 349، الدرر الكامنة، ص 3532/ (م) النجوم الزاهرة، ص 7730 (م) مهمندار العرب: يوسف بن سيف الدولة بن زماخ بالزاي والميم المشددة والخاء المعجمة بعد الألف الحمداني المهمندار؛ شيخ متجند، توفي بعد الثمانين والستمائة.

الإعراب: إنْ: حرف شرط، علاني: هو الشرط، مَنْ: اسم ناقص يحتاج إلى صلة وعائد، دوني: اسم مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو هو دوني، وفي فلا الفاء: جواب الشرط، ولا النافية للجنس، عجب: اسم لا، أسوة: مبتدأ، وإنما تأخّر لأنه نكرة. المعنى: أخذ يسلِّي نفسه، ويتأسى بما ضربه من المثل في انحطاط الشمس عن زحل، فقال: وإن علاني هؤلاء الذين ذممت دولتهم، وأيامهم، وهم دوني في كل شيء، لي أسوة بكون الشمس منحطة عن زحل، وهو مَثَل حسن، وهذا فيه من البديع إرسال المثل، والإيضاح، وقد تقدّم الكلام في ذلك، وهذا البيت قد أخذ بمجامع الحسن، ودار به على قطب الفصاحة فلكه الدائر، وسار في الأقطار مثله السائر، وأضاءت به الشموس في أيام الطروس، وأسفرت به البدور في ليالي السطور، وأمَّا تمثيله بالشمس وزحل، فهو تمثيل مطابق لمن يكون بحالته التي ذكرها، وشرحها من ارتفاع السفل، وانحطاط الكرام، لأن الشمس في الفلك الرابع، وزحل في السابع، وإنما حكموا بأن زحل في السابع، والشمس في الرابع؛ لأن ذلك أمر يشاهده / الحسّ، ويحكم به العقل، وهو أنهم وجدوا زحل يدور [63 ب] في فلكه في كلّ ثلاثين سنة دورة، والشمس يدور فلكها في كل سنة مرة، والزهرة مثل الشمس، ولكن تارة تُسرع؛ فتكون أمامها، وتارة تكون الشمس أمامها، وفلك البروج محيط بفلك زحل، والفلك الأطلس محيط بفلك البروج، والأطلس يدور بما فيه في اليوم والليلة من المشرق إلى المغرب مرة واحدة دورة كاملة، فتبارك الله أحسن الخالقين. قال الأرجاني مشيرا إلى قول الطغرائي (¬1): (من الكامل) ودَعِ التّناهيَ في طلابك للعُلا ... واقنعْ فلم أرَ مثْلَ عِزِّ القانع فبسابعِ الأَفْلاكِ لم يَحْلُلْ سِوى ... زُحَلٍ ومجرى الشمسِ وسطَ الرابعِ وهذا المعنى أخذه الأرجاني من الطغرائي؛ لأن الأرجاني [توفي] في سنة أربع وأربعين وخمسمائة، والطغرائي في سنة خمسمائة وخمس عشرة، ولكن بيت الطغرائي أبدع وأطرب، وأهزّ للأعطاف، قال ابن الساعاتي (¬2): (من الكامل) أتظُنُّ يا خيرَ الأَنامِ نقيصَةً والنقصُ للأطرافِ لا الأشرافِ أَوَما ترى أنَّ الكواكبَ سبعةٌ والشمسُ رابعةٌ بغير خلافِ ¬

(¬1) ديوانه (م) (¬2) البيتان في الغيث المسجم 2/ 251

والشمس هي الكوكب النَّيِّر الذي يمد سائر الكواكب بالنور على بعض الآراء، وإلى ذلك أشار التهامي (¬1) في قوله يمدح الشريف الزيدي لمَّا حُبس بالقاهرة في خزانة البنود، فقال: (من الكامل) بَثَّ الفَضائِل خلفه وَأَمامه ... فَفَناء مُهجَتِهِ كَمِثلِ خُلودِها كالشَمسِ تُوَدِع في الكَواكِب نورها ... فَتَنوب للسارين عَن مَفقودِها وأجمع أهل الهيئة على أنّ القمر يستمد النور من الشمس، وزيادة النور فيه ونقصانه بحسب البعد منها والقرب؛ لأن جُرم القمر (¬2) كثيف حديدي مستخصف، قابل لانطباع النور فيه كالمرآة، واعلم أن بيت الطغرائي هذا يصدع / الفؤاد، ويرضّ الأكباد؛ لأن الدهر [64 أ] مولع بخفض الكامل، ورفع الناقص، وسعد الجاهل، وشقاء الفاضل، وبؤس الكريم، ونعيم اللئيم: (من الخفيف) شِيَمٌ مرّت الليالي عليها ... والليالي قليلةُ الإنْصافِ (¬3) ومن الكلم النوابغ: ولا غرو أنْ يرتفع الجاهل، وينحط العالم، فقد يتدلّى سهيل، وتستعلى النعائم، والطغرائي قد اختلس بيته هذا من أبي الطيب (¬4): (من الوافر) وَلَو لَم يَعلُ إِلّا ذو مَحَلٍّ ... تَعالى الجَيشُ وَاِنحَطَّ القَتامُ بل أخذه صريحا من أبي الفتح البستي (¬5)، حيث قال: (من البسيط) لا تَعْجَبَنَّ لدَهرٍ ظَلَّ في صَبَبٍ ... أشرافُهُ وعَلا في أوجِهِ السَّفِلُ وانقَدْ لأحكامِه أنَّى يُقادُ بِها ... فالمُشتري السَّعْدُ يعلو فوقَهُ زُحَلُ وقال ابن نفادة (¬6): (من البسيط) الدهرُ يرفعُ مخفوضا ويخفض مر فوعاً من الناس عمداً فهو لحَّانُ فالفضلُ ينحطُّ والنّقصان مرتفعٌ كأنما صرفهُ في الحكمِ ميزانُ قال ابن الرومي (¬7): (من البسيط) قالتْ علا الناسُ إلاّ أنتَ قلتُ لها كذاكَ يسفلُ في الميزانِ مّنْ رَجَحا وقال آخر (¬8): (من الكامل) الدهرُ كالميزانِ يرفعُ ناقصاً ... أبداً ويخفضُ زائدَ المقدار ¬

(¬1) ديوانه (م) (¬2) كتب: الشمس، وما أثبتناه من الغيث المسجم 2/ 251 (¬3) نسبه الصفدي في الوافي بالوفيات، ص 11646 / (م) لسالم بن علي بن سلمان بن علي العودي. (¬4) ديوانه 1/ 145 (¬5) ديوانه (م) (¬6) البيتان في الغيث المسجم 2/ 285 (¬7) ديوانه (م) (¬8) نسبه الصغدي في الوافي بالوفيات، ص 15023 / (م) لابن الإخوة: عبد الرحيم بن أحمد بن محمد.

فاصبر لها غير محتال ولا ضجر ... في حادث الدهر ما يغني عن الحيل

وإذا انتحى الإنصافُ ساوى كونُهلإ ... في الوزنِ بينَ حديدةِ ونُضارِ فاصبرْ لها غيرَ محتالٍ ولا ضَجِرٍ ... في حادثِ الدهرِ ما يُغني عن الحِيَلِ اللغة: [محتال]: اسم فاعل، مَنْ تعمَّد الحِيَل، والضجر: القلق، والحيل: جمع حيلة. الإعراب: اصبر: فعل أمر، لها: اللام هنا للتعدية، والضجر: يرجع إلى معهود في النفس لم يُذكر، وهو المقادير، أو الأيام، غير محتال: غير منصوب على الحال، أي مسلِّما أمورك إلى الله تعالى، ولا ضجر: الواو عاطفة، عطفت النفي على النفي، في حادث الدهر: في هنا ظرفية، وحادث: / مجرور بالإضافة، ما يغني: ما هذه نكرة [64 ب] موصوفة بما بعدها، ومعنى البيت فاصبر للحوادث مسلَِّما أمورك إلى الله، ففي حادث الدهر ما يغنيك عن الحِيَل. المعنى: اصبر للنوائب صبر مَنْ لا يقلق، ولا يحتال، فإنّ في حوادث الدهر ووقائعه ما يغنيك عن الحيل، ويأتيك بما لا تقدر عليه، قال عليه الصلاة والسلام: انتظار الفرج بالصبر عبادة، وروى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله، وقالت عائشة رضي الله عنها: لو كان الصبر رجلا لكان كريما، وقيل لعليّ كرم الله وجهه: أي شيء أقرب إلى الكفر، قال ذو فاقة لا صبر له، وقال المحاسبي رضي الله عنه: لكل شيء جوهر، وجوهر الإنسان عقله، وجوهر العقل الصبر، ومن كلامهم: الصبر مُرٌّ لا يتجرعه إلاّ حرٌّ، وقال (¬1): (من الخفيف) صَبِّرِ النَفسَ عِندَ كُلِّ مُلِمٍّ ... إِنَّ في الصَبرِ حيلَةَ المُحتالِ لا تَضيقَنَّ في الأُمورِ فَقَد يُكـ ... شَفُ عنها الردى بِغَيرِ اِحتِيالِ رُبَّما تَجزَعُ النُفوسُ مِنَ الأَمـ ... رِ لَهُ فُرجَةٌ كَحَلِّ العِقالِ ولهذه الأبيات حكاية، وهي أنّ الحجاج كان أنكر على مَنْ يقرأ [إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ] (¬2) وقال له: إن لم تأتني بدليل، وإلاّ ضربت عنقك، وأجّله على ذلك أجلا، فأخذ يطوف في أحياء العرب، فبينما هو في بعض الأسحار وإذا هو براكب ينشد هذه الأبيات، قال: قلت ما ذاك، قال: مات الحجاج، قال: فوالله ما أدري بإيهما أُسرُّ فرحا، بقوله مات الحجاج، أو بقوله: فُرجة، انتهى. قال ابن حجاج: (من البسيط) دعها سماوية تجري على قدرٍ ... لا تُفْسِدَ نْها برأيٍ منكَ أرضيّ (¬3) ¬

(¬1) لعبيد بن الأبرص، ديوانه / (م). (¬2) البقرة 249 (¬3) البيت في الغيث المسجم 2/ 293

أعدى عدوك أدنى من وثقت به ... فحاذر الناس واصحبهم على دخل

/ وقال آخر (¬1): (من الكامل) ... [65 أ] الدهر لا ينفك عن حدثانه ... والمرء منقاد لحكم زمانه فدع الزمان فانه لم يعتمد ... لجلالة أحداً ولا لهوانه! كالمزن لم يخصص بنافع صوبه ... أفقا ولم يخش أذى طوفانه لكن لباريه بواطن حكمةٍ ... في ظاهر الأضداد من أكوانه وقال [أبو] الخوارزمي (¬2): (من الرجز) ما أثقل الدهر على من ركبه ... حدثني عنه لسان التجربهْ! لا تحمدن الدهر لشيء سببه ... فانه لم يتعمّد بالهِبهْ وإنّما أخطأ فيك مذهبه ... كالسيل إذ يَسقي مكاناً أخربه! وقال إبراهيم بن العباس الصولي (¬3): (من الكامل) وَلَرُبَّ نازِلَةٍ يَضيقُ بها الفَتى ... ذَرعاً وَعِندَ اللَهِ مِنها المَخرَجُ كَمُلَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها ... فُرِجَت وَكُان أيظُنُّها لا تُفرَجُ وقال القاضي شمس الدين بن خلكان: يقال: ما رددها من نزلت به نازلة إلاّ فرّج الله عنه، وقال آخر (¬4): (من مجزوء الكامل) كن عن همومك معرضاً ... وكِلِ الأمورَ إلى القضا وابشِرْ بخيرٍ عاجلٍ ... تنسى به ما قد مضى فلرُبَّ أمرٍ مُسْخِطٍ ... لك في عواقِبه رضا الله يفعل ما يشاء ... فلا تكن متعرضا أعدى عدوِّكَ أدنى من وَثِقْتَ به ... فحاذرِ الناسَ واصحبهمْ على دَخَلِ [اللغة] (¬5) العدو: معروف، أدنى: أقرب، وثقت: ائتمنت، والمحاذرة: التحرُّز، والدخل: المكر والخديعة، قال تعالى: [وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ] (¬6). الإعراب: أعدى: في موضع رفع بالابتداء، عدوك: مجرور بالإضافة، أدنى: أفعل تفضيل من الدنو، وهو خبر المبتدأ، مَنْ: موضعها خبر لإضافتها إلى أدنى، وهو نكرة موصوفة، والجار والمجرور / على دخل في موضع الحال، أي اصحبهم مخادعاً. [65 ب] ¬

(¬1) الأبيات في الغيث المسجم 2/ [293 ب] لا عزو. (¬2) الأبيات في الغيث المسجم 2/ [294 ب] لا عزو. (¬3) نسبت هذه الأبيات للإمام الشافعي، وهي في ديوانه / (م). (¬4) الأبيات في الغيث المسجم 2/ [296 ب] لا عزو (¬5) زيادة يقتضيها المنهج الذي اتّبعه المختصِر. (¬6) النحل 94

المعنى: أشد عداوة لك رجل وثقت به، فخذ حذرك من الناس، واصحبهم بالخديعة، والمكر، ولا تركن إلى أحد ممن وثقت، أو ظننت أنه صديقك، إنه أشد عداوة لك من كل عدو، وروى الشارح بسنده عن المزي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشْرَهُ ولا خُلُقَه. وعن ربيعة بن ماجد: قيل لمعاوية بن أبي سفيان: ما بلغ من عقلك؟ قال: ما وَثِقْتُ بأحدٍ قطّ. ولله در القائل (¬1): (من السريع) من أحسن الظن بأعدائه ... تجرع الهم بلا كاس وكان ينبغي لهذا الناظم أن يقول بأحبابه بدل بأعدائه، يقال: كان رجل في عهد كسرى يقول: مَنْ يشتري ثلاث كلمات بألف دينار، فكل من سمعه سخر به إلى أنْ اتّصل بكسرى، فقال: ما هنّ، فقال: ليس في الناس كلهم خير، قال: صدقت، قال: ثم ماذا، قال: ولا بدّ منهم، قال: صدقت، ثم ماذا، قال: فألبسهم على قدر ذلك، قال كسرى: قد استوجبت المال فخذه. قال أبو العلاء المعري (¬2): (من البسيط) جَرّبْتُ دَهْري وأهلِيه فما تَرَكتْ ... ليَ التّجارِبُ في وُدّ امرِئٍ غَرَضا وقال أيضا (¬3): (من الوافر) فظُنّ بسائِرِ الإخْوانِ شَرّاً ... ولا تأمَنْ على سِرٍّ فُؤادا فلو خَبَرَتْهُمُ الجَوزاءُ خُبْري ... لَما طَلَعَتْ مَخافَةَ أن تُكادا فأيّ النّاسِ أجْعَلُهُ صَديقا ... وأيّ الأرضِ أسْلُكُهُ ارْتِيادا وقال ابن الرومي (¬4): (من الوافر) عدوُّكَ من صديقك مستفادٌ ... فلا تستكثرنَّ من الصِّحابَ فإن الداءَ أكثرَ ما تراهُ ... يكونُ من الطعام أو الشرابِ / وقال مجير الدين محمد بن تميم (¬5): (من الكامل) ... [66 أ] من كان يرغبُ في حياةِ فؤادِهَ ... وصفائِه فلينأَ عن هذا الوَرى فالماء يصفو إن نأى فإذا دنا ... منهم تغيَّر لونُهُ وتَكَدَّرا وقال أبو الطيب (¬6): (من البسيط) ¬

(¬1) البيت في الغيث المسجم 2/ [314 ب] لا عزو (¬2) ديوان سقط الزند، ص 208 (¬3) كتب: وقال غيره، وهو خطأ. ديوان سقط الزند، ص 197 ـ 198 (¬4) ديوانه (م) (¬5) البيتان في المحاضرات في الأدب واللغة، ص 410 ـ 411 (م) (¬6) ديوانه 1/ 275

وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعول في الدنيا على رجل

كَلامُ أَكثَرِ مَن تَلقى وَمَنظَرُهُ ... مِمّا يَشُقُّ عَلى الآذانِ وَالحَدَقِ وقال أيضا (¬1): (من الطويل) وَمِن نَكَدِ الدُنيا عَلى الحُرِّ أَن يَرى ... عَدُوّاً لَهُ ما مِن صَداقَتِهِ بُدُّ وقيل: إنّ المتنبي لمَّا ادّعى النبوة قيل له: ما معجزتك؟ قال: قولي: ومن نكد الدنيا .... البيت، وأمَّا المعري فإنه سلّى نفسه بالعمى بقوله (¬2): (مجزوء البسيط) قالوا العَمى مَنظَرٌ قَبيحٌ ... قُلت بِفَقدانكم يَهونُ واللَهِ ما في الوجودِِ حُرٌّ ... تَأَسى عَلى فَقدِهِ العُيونُ وإنّما رجلُ الدُّنيا وواحِدُها ... من لا يعوِّلُ في الدُّنيا على رَجُلِ اللغة: الرجل: معروف، والدنيا: كذلك، والواحد: هنا الفرد الذي لا ثاني له، عولت عليه: إذا أدللت عليه. الإعراب: إنما: كلمة حصر، رجل الدنيا: مبتدأ، ومضاف إليه، وواحدها: عاطف ومعطوف، مَنْ: اسم ناقص، لا بدّ له من صلة وعائد، وموضعه الرفع على أنه خبر المبتدأ، على رجل: على للاستعلاء، ورجل: مجرور به، وموضعهما النصب؛ لأنه مفعول به. المعنى: ما أرى رجل الدنيا وواحدها، الذي تفرد فيها بالحزم، ولم يكن له فيها ثان إلاّ رجل ساء ظنه بالناس وبحبهم، فلم يعوِّل في دنياه على رجل، يريد أنّ الرجولية لا تنحصر إلاّ فيمن اتّصف بهذه الصفة، وأضاف الرجل إلى الدنيا بمعنى أنّه إنْ لم يكن كذلك لم يكن للدنيا رجل، وإن كان كذلك، ام يكن لها رجل غيره، ومن كلام / ابن سناء [66 ب] الملك: إياك أنْ تغترَّ بخلب لسان، أو تثق بقلب إنسان، أو تركن إلى صداقة صديق، أو تأمن من شقاق شقيق، أو يروقك ملقى ملق (¬3)، وعليك بالاحتراس من أبناء جنسك، والاحتراز حتى من نفسك، فما الناس بالناس الذين عهدتهم، ولا الدهر بالدهر الذي كنت تعرف، وقال بعضهم (¬4): (من الوافر) تَحَفَّظْ مِنْ ثِيَابِكَ ثُمَّ صُنْهَا ... وَإلاَّ سَوْفَ تَلْبُسُهَا حِدَادَا وَمَيِّزْ عَنْ زَمانِكَ كُلَّ حِيْنٍ ... وَنَافِر أَهْلَهُ تَسُدِ العِبَادَا وَظُنَّ بِسَائِرِ الأجْنَاسِ خَيْراً ... وَأَمَّا جِنْسُ آدَمَ فَالبِعَادَا أَرَادُُونِي بِجَمْعِهُمُ فَرُدُّوا ... عَلَى الأعْقَابِ قَدْ نَكَصُوا فُرَادَى ¬

(¬1) ديوانه 1/ 242 (¬2) هذان البيتان في ديوان بشار بن برد / (م)، مع تغيير طفيف. (¬3) لعله ملاقة ملِق، أو ملَق ملِق، والملَق والمملاق المتودد المتحبب بالمخادعة واللين والدهاء. الهامش. (¬4) للسميسر الألبيري، كما في الغيث المسجم 2/ 333.

وحسن ظنك بالأيام معجزة ... فظن شرا وكن منها على وجل

وَعَادوا بَعْدَ ذَا إخْوَانَ صِدْقٍ ... كَبَعْضِ عَقَارِبٍ عَادَتْ جَرَادَا وحُسْنُ ظَنِّكَ بالأيام مَعْجَزَةٌ ... فظُنَّ شَرّاً وكنْ منها على وَجَلِ اللغة: الظن: عدم الجزم بالأمر، وقد يأتي بمعنى العِلم، قال أبو البركات ابن بنت العصار يرثي المعظم عيسى (¬1): (من السريع) أظنُّ قدْ ماتَ النَّدَى بعدَه والظنُّ قد يأتي بمعنى اليقين معجزةٌ: مثل مبخلة، ومجبنة، ومحمدة، والوجل: الخوف، قوله [تعالى] [وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ] (¬2) أي خائفة. الإعراب: وحسن: مبتدأ، وظنك: مضاف، والأيام: مفعول أول لظن، والثاني محذوف، دلّ عليه حُسن، كأنه قال: ظنك بالأيام خير، معجزة: خبر المبتدأ، وشراً: مفعول ثانٍ لظن، والأول محذوف، تقديره ظنّ بالأيام شراً، وقد منع النحاة من مثل هذا إلاّ أن يدل على الحذف دليل، وقد يقال إنه دلّ هنا على الحذف دليل، فجاز حذفه؛ لأنه مفهوم من سياق الكلام، وكن: الواو عطفت الأمر على الأمر / واسمها مستتر فيها، منها: [67 أ] لبيان الجنس، والضمير يرجع إلى الأيام، على وجل: على للاستعلاء، ووجل: مجرور به (¬3). المعنى: حسن ظنك أن في الأيام خيرا معجزة منك، لأنك لم (¬4) تخبر الأيام، ولا أهلها، ولا جربتهما لتعلم ما هما عليه، وهذا عجز ظاهر، وهو أن يصحب الإنسان غيره مدة العمر، وهو به جاهل، والحزم أن تظن الشر بالأيام، وتكزن منها على وجل، فلا تأمن إليها، وقال الرشيد أو المأمون: لو وصفت الدنيا نفسها ما زادت على قول أبي نواس (¬5): (من الطويل) إِذا امتَحَنَ الدُنيا لَبيبٌ تَكَشَّفَت ... لَهُ عَن عَدوٍّ في ثِيابِ صَديقِ وقال الغزي (¬6): (من البسيط) كالشمع يبكي ولا يدري أعبرته ... من صحبة النار أو من فرقة العسل غاضَ الوفاءُ وفاضَ الغدرُ وانفرجتْ ... مسافةُ الخُلْفِ بين القولِ والعَمَلِ اللغة: غاض الماء: قلّ، والوفاء ضد الغدر، وفاض: أي شاع، والمراد بالانفراج هنا التباعد فيما بين الطرفين، والمسافة: البعد، الخلف: اسم من اسم من الأخلاف، وهو في المستقبل كالكذب في الماضي. ¬

(¬1) البيت في الغيث المسجم 2/ 334. (¬2) المؤمنون: 60. (¬3) كتبت: ووجل مضاف إليه، وهو خطأ. (¬4) كتبت لا، وما أثبتناه من الغيث المسجم 2/ 336. (¬5) ديوانه، ص 394. (¬6) البيت في الغيث المسجم 2/ 343.

الإعراب: بين: ظرف مكان مفعول فيه، وهي لا تدخل إلاّ على مثنى أو مجموع؛ لاقتضائها الاشتراك، والقول مخصوص بالإضافة إلى الظرف المكاني، والعمل: معطوف عليه. المعنى: إنّ الوفاء نقص، أو غاب، أو ذهب من بين الناس، والغدر اشتهر وشاع وذاع، واتّسعت مسافته بين القول والفعل في الوعود، أخذ يوضح الدلالة على عدم حسن الظن بالأيام، ويحقق ما ادَّعاه من الحزم في ذلك، وأنّ الإنسان لا يعول على أحد؛ لأن الوفاء / ذهب، والغدر ظهر، والخلف في الوعد زاد / وهذه موجبات تقتضي التأدّب [67 ب] ... بما وعظ، والأخذ بما أمر، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لكل غادر لواء يوم القيامة، وفي رواية لواء عند رأسه يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان، قال النووي رحمه الله: في هذا تغليظ الغدر، لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق، كذا بخط المصنف، ولعله خلق الله (¬1). يقال: إنّ أعرق الناس بالغدر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس، غدرَ عبد الرحمن بالحجاج بن يوسف الثقفي، وغدر محمد بن الأشعث بأهل طبرستان، وغدر الأشعث ببني الحارث، وخلائق كثير، وأخذ ابن قلاقس قول الطغرائي، فقال (¬2): (من مجزوء الكامل) غاضَ الوفاءُ وفاضَ ما ... ءُ الغَدْرِِ أنهاراً وغُدرا وتطابقَ الأقوامُ في ... أقوالهم سرّاً وجَهْرا فانظر بعينكَ هل ترى ... عُرْفاً وليس تراهُ نُكْرا وقال أيضا (¬3): (من الكامل) وبنو الزمان وإن صَفوا لكَ ظاهراً ... يوماً طووا لكَ باطناً ممذُوقا دوحٌ تمرُّ لك الجنى أثمارَهُ ... ولقد تمرُّ به الرياحُ وريقا وقال آخر (¬4): (من الوافر) ومنْ يكُ أصلهُ ماء وطيناً ... بعيدٌ من جِبلَّتهِ الصفاءُ وقال السراج الوراق (¬5): (من الوافر) وكانَ الناسُ إنْ مُدِحوا أَثابوا ... ولِلكرماءِ بالمدحِ افتخارُ وكانَ العُذْرُ في وقتٍ ووقتٍ ... فصرنا لا عطاَْ ولا اعتذارُ ¬

(¬1) في الغيث المسجم 2/ 345: خلق كثير. (¬2) ديوانه (م) (¬3) ديوانه (م) (¬4) البيت في الغيث المسجم 2/ [350 ب] لا عزو. (¬5) ديوانه (م)

وشان صدقك عند الناس كذبهم ... وهل يطابق معوج بمعتدل؟

وشانَ صدقَك عند الناس كِذبُهمُ ... وهل يُطابَقُ معوَجٌّ بمعتَدِلِ؟ اللغة: الشين: ضد الزين، والكذب: خلاف الصدق، والمطابقة: الموافقة، والاعوجاج غير الاعتدال. الإعراب: الواو: عطفت شان على ما قبله، صدقك: مفعول، عند: ظرف، وكذبهم: فاعل، وهل: الواو للابتداء، وهل / للاستفهام، وبقية البيت ظاهر. ... [68 أ] المعنى: وشان كذب الناس صدقك عندهم؛ لأنك تلبست بما لم يتلبسوا به، وخالفتهم في أخلاقهم، وأنت وهم في طرفي نقيض، ثم أخذ يستفهمه، ثم قال: هل يطابق المعوج بالمستقيم، فالمعوج الناس، والمعتدل أنت، وهذا عند أهل البديع يسمى حسن التعليل، لأنه علل شيئين صدقه، وكذب الناس، ثم قال: وهل يطابق المعوج، وهو الكذب، بالمعتدل، وهو الصدق. واعلم أنّ الناظم ما وقعت له كمال المطابقة؛ لأن المعوج إنما يُطابق بالمستقيم، وقد اتفق له ما اتفق لأبي الطيب في قوله (¬1): (من الوافر) رَأَيتُكَ في الَّذينَ أَرى مُلوكاً ... كَأَنَّكَ مُستَقيمٌ في مُحالِ فَإِن تَفُقِ الأَنامَ وَأَنتَ مِنهُم ... فَإِنَّ المِسكَ بَعضُ دَمِ الغَزالِ حكي أنه قيل لأبي الطيب هذا الإيراد وهو في المجلس من أنّ المحال لا يطابق الاستقامة، ولكن لو خرج: كأنك مستقيم في اعوجاج، ما كنت تصنع في البيت الثاني، فقال: كنت أقول: فإن البيض بعض دم الدجاج، فاستحسن منه سرعة الجواب. إن كان ينجعُ شيءٌ في ثباتِهم ... على العُهودِ فسبَقُ السيفِ للعَذَلِ اللغة: ينجع: أي أفاد، العذْل بالسكون: الملام، وبالتحريك الاسم. الإعراب: ينجع: في موضع نصب خبر كان، وتقدم على الاسم، تقديره: إنْ كان شيءٌ ناجحا، والأصل تأخّر الخبر، لكن هنا يجوز تقديمه، وشيء: اسمها، على العهود: متعلق بثبات، والألف واللام فيه للجنس، وعلى العهود: في موضع نصب، فسبق: الفاء جواب الشرط، للعذل: اللام للتعدية، وهي / متعلقة بالخبر المحذوف، وتقديره فسبقُ [68 ب] السيف العذل. المعنى: إنْ كان شيء من الأشياء نافعا في ثبات الناس على العهود، ذلك الشيء مثل اللوم والعذل، أو التعنيف على ما ارتكبوه من [نقض] الوفاء، وإظهار العذر، فإنْ السيف يسبق مَنْ يعذل، ويفوت الفوت في كفه بعدما يمضي، وخلاصة ذلك أنَّ الوفاء بعهد منهم قد أيس ¬

(¬1) ديوانه 2/ 16

يا واردا سؤر عيش كله كدر ... أنفقت عمرك في أيامك الأول

منه، كما أيس من حياة المقتول؛ لأن اللوم ربما يكون سبب الإغراء، قال القائل (¬1): (من الكامل) فدعي الملامةَ في التَصابي واعلمي ... أنّ الملامةَ ربّما تُغريني أمَّا هذا المثل، أعني سبق السيف العذل فقد استعمله الشعراء كثيرا، وأحسن ما فيه قول السراج الوراق (¬2): (مجزوء الرمل) قلتُ إذ جرَّد لحظاً ... حدُّه يُدني الأجَلْ يا عذولي كُفَّ عني ... سَبَقَ السيفُ العَذَلْ وقال أبو الطيب (¬3): (من البسيط) تُرابُهُ في كِلابٍ كُحلُ أَعيُنِها ... وَسَيفُهُ في جَنابٍ يَسبِقُ العَذَلا يا وارداً سؤْرَ عيشٍ كلُّه كَدَرٌ ... أنفقتَ عُمرَكَ في أيامِكَ الأُوَلِ اللغة: الوارد: الذي يرد الماء، والسؤر: البقية، كلّه: أي جميعه، والكدر: ضد الصفاء، والأول: جمع أولى، مثل كُبرى [وكُبَر]. الإعراب: يا: حرف نداء، واردا: نكرة منادى، سؤر: مفعول به، عيش: مضاف إليه، كله كدر: مبتدأ وخبر. المعنى: يا مَنْ ورد بقية عيش كله كدر، لأي شيء ترد هذا الكدر، والصفو قد أنفقته وأفنيته في أيامك السالفة، وهذا الذي يسميه أهل البلاغة التجريد، وقد تقدم، وهذا المعنى يرجع إلى الصفو في أيام الشباب، قال الله تعالى: [وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ] (¬4) وقال الشاعر (¬5): (من البسيط) /من عاشَ أخلقتِ الأيّامُ جدّتهُ ... وخانَهُ الثقتانِ السمعُ والبصرُ [69 أ] وقال آخر (¬6): (من السريع) ومن يُعمر يلقَ في نفسهِ ... ما يَتمناهُ لأعدائهِ وقال آخر (¬7): (من البسيط) وَمَن يَطُل عُمرُهُ يَفقِد أَحِبَّتَهُ ... حَتّى الجَوارِحَ وَالصَبرَ الَّذي عيلا فيمَ اقتحامكَ لُجَّ البحرِ تركَبُهُ ... وأنتَ تكفيك منه مصّةُ الوَشَلِ ¬

(¬1) لابن قلاقس، ديوانه / (م)، وكذا في الغيث المسجم 2/ 370 (¬2) البيتان في الغيث المسجم 2/ 374 (¬3) ديوانه 1/ 60 (¬4) النحل 70، الحج 5 (¬5) لأحمد بن أبي فنن / ديوانه / (م). (¬6) لمحمد بن وهيب الحميري، ديوانه (م). (¬7) لابن شرف القيرواني، ديوانه / (م)، وكذا في الغيث المسجم 2/ 382

ملك القناعة لا يخشى عليه ولا ... يحتاج فيه إلى الأنصار والخول

اللغة: اقتحم الشيء: رمى بنفسه فيه من غير رؤية، اللج: معظم الماء، تركبه: تعلوه، والمصّ: معروف، والوشل: الماء القليل. الإعراب: اقتحامك: مبتدأ، والخبر تقدّم في الجار والمجرور؛ لأنه تضمن الاستفهام، ولج: مفعول به، والهاء في تركبه في موضع نصب لتركب، والفاعل ضمير يرجع إلى المخاطب، وأنت: مبتدأ، وجملة يكفيك الخبر، منه هنا للتبعيض، وهي متعلقة بيكفي، ومصّة: فاعل يكفي، والوشل: مضاف، وقوله: وأنت يكفيك إلى آخر البيت جملة حالية. المعنى: لآي شيء تقتحم البحر، وتركب لجته، وتصبر على الأهوال، والغرض يحصل في الشاطئ، لأن المقصود شربة تمصها من أي بحر كان، يعني بذلك أنه ليس المراد من الدنيا إلاّ قيام الصورة، لا غير، وهو ما يقوم بهذا الجسد من المأكل والمشرب والملبس، وهو يحصل بأدنى تحيّل، ولا يضطر مع هذا إلى ركوب الأخطار، ومكابدة الأهوال، ومقاساة المشاق، ومعاناة المتاعب: (من الخفيف) ومراد النفوس أحقر من أنْ ... يتعادى له وأن يتعانى (¬1) وقد أخذ الطغرائي يريّض نفسه ـ ويسكّن سورة غضبها بعد أن كان قد ثار واحتدم، وهذا صحيح، لأن الأمر أقل من هذا العناء كله، وهذا حقيق أن ينشد فيه: (من الكامل) ما الجِزْعُ /أهْلٌ أنْ تُرَدّدَ نَظْرَةٌ ... فيه وتُعْطَفَ نحوَهُ الأعْناق (¬2) ... [69 ب] وقال الشريف أبو الحسن العقيلي (¬3): (من السريع) وَقائِلٍ ما المُلكُ قُلتُ الغِنى ... فَقالَ لا بَل راحَةُ القَلبِ وَصَونِ ماءِ الوَجهِ عَن ذِلَّةٍ ... في نَيلِ ما يَنفَدُ عَن قُربِ قلت: وكان الشارح يستغني عن مثل هذا الشعر في الاستشهاد به بقول الصادق المصدوق: مَنْ أصبح آمنا في سربه معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما ملك الدنيا بحذافيرها، أو فكأنما حيزت له الدنيا، والناظم قد أشار في هذا البيت الآتي وهو: مُلْكُ القناعةِ لا يُخْشَى عليه ولا ... يُحتاجُ فيه إِلى الأنصار والخَوَلِ اللغة: القناعة: الرضا بالمقسوم، يُخشى: يُخاف، يُحتاج: يضطر، الأنصار: الذين ينصرون ويساعدون، الخول: خول الرجل حشمه، والواحد خائل، وهم اسم يقع على الأَمَة والعبد. الإعراب: ملك: مبتدأ، ولا يُخشى عليه الخبر، وبقية البيت ظاهر. ¬

(¬1) البيت في الغيث المسجم 2/ [391 ب] لا عزو. (¬2) لآبي العلاء المعري، ديوانه، ص 211. (¬3) ديوانه (م).

ترجو البقاء بدار لا ثبات لها ... فهل سمعت بظل غير منتقل

المعنى: إنَّ القناعة صاحبها ملك؛ لأنه في غنىً عن الناس؛ لأنه لا يحتاج إلى خول، ولا أنصار، ولا عساكر، ولا يُخشى عليها من زوال؛ لأن ملوك الدنيا يحتاجون إلى الخول والأعوان والأنصار لأجل خوف زوال الملك منهم، ويدلك على ذلك الحديث المتقدم، وقال عليه الصلاة والسلام: ارضَ بما قسم لك تكن أغنى الناس، واجتنب ما حرّم الله عليك تكن أورع الناس، قال ابن عنين (¬1): (من البسيط) الرِزقُ يَأتي وَإِن لَم يَسعَ صاحِبُهُ ... حَتماً وَلكِن شَقاءُ المَرءِ مَكتوبُ وَفي القَناعَةِ كَنزٌ لا نَفادَ لَهُ ... وَكُلُّ ما يَملِكُ الإِنسانُ مَسلوبُ وقال آخر (¬2): (من المجتث) خذ من العيش ما كفى ... فهو إنْ زادَ أَتْلَفا كسراج منور ... إن طفا دهنته انطفا وقال الطغرائي (¬3): (من السريع) لا تلتمسُ فضلَ الغِنَى إنهُ ... مَتْلَفةٌ يشقَى بها الحُرُّ /أَما تَرى المرءَ له عِبرةٌ ... في صدفٍ أهلكه الدُّرُّ [70 أ] ترجو البَقاءَ بدارِ لا ثَباتَ لها ... فهل سَمِعْتَ بظلٍّ غيرِ منتقلِ اللغة: الرجاء: الأمل، والبقاء: ضد الفناء، وبقية البيت مفهوم. الإعراب: ترجو: فعل مضارع، وأصله أترجو، فحذفت منه همزة الاستفهام، وهو جائز، كقول الشاعر (¬4): (من الطويل) فوالله ما أدري وإن كنت دارياً ... بسبع رمين الجمر أم بثمان والفاعل لترجو ضمير مستتر فيه تقديره أترجو أنت، البقاء: مفعول به، فهل: الفاء للتعقيب، هل: حرف استفهام، وغير: صفة لظل، منتقل: مجرور بالإضافة إلى غير. المعنى: أترجو الخلود والبقاء بدار هي في نفسها لا بقاء لها، وهي أشبه شيء بالظل، كما قال القائل (¬5): (من الكامل) أَحلامُ نَومٍ أَو كَظِلٍّ زائِلٍ ... إِنَّ اللَبيبَ بِمثلِها لا يُخدَعُ وأخذ يضرب له مثلا في الخارج، فقال له مستفهما: هل سمعت بظل غير منتقل؟ وهذا إلزام له؛ لأنه يضطر إلى أن يقول: ما رأيت، لأن الظل مستفاد من حركة الشمس، ¬

(¬1) ديوانه، ص 243 (¬2) البيتان في الغيث المسجم 2/ [399 ب] لا عزو. (¬3) ديوانه، ص 161 (¬4) لعمر بن أبي ربيعة، ص 145، وفيه: فوالله ما أدري وإني لحاسب ... (¬5) نسب هذا البيت لكل من: ابن أبي حصينة، ديوانه / (م). وعمران السدوسي، ديوانه / (م).

ويا خبيرا على الأسرار مطلعا ... اصمت ففي الصمت منجاة من الزلل

وحركة الشمس لا وقفة لها، فالظل في انتساخٍ أبداً لا يستقر، قال تعالى: [ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظل ولو شاء لجعله ساكنا] (¬1) والآيات الواردة في القرآن في تبدل الدنيا، وتغيُّرها كثير، فلا نطيل بذكرها، وكذلك أقوال الشعراء فيها كثيرة أيضا، ومُحبها ذليل حقير. (من الطويل) وحُبُّ الفتى طولَ الحياةِ يُذِلّه ... وإنْ كان فيه نَخْوَةٌ وعُرامُ (¬2) وكُلٌّ يُريدُ العَيْشَ والعيشُ حَتفُه ... ويَسْتَعْذِبُ اللذّاتِ وَهْيَ سِهامُ وقال بعض الأعراب (¬3): (من الوافر) وكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أخوهُ ... لَعَمرُ أَبيكَ إِلّا الفَرقَدانِ قال بعض الناس: إلاّ هنا بمعنى حتى، قال أبو حيان: وهذا لم أقف عليه من كلام العرب، / وأمَّا قول الطغرائي: فهل سمعت بظل غير منتقل، هو كقول القائل (¬4): (من الطويل) [70 ب] رأيتُ خيالَ الظِّلِ أعجب منظراً لمن هو في عِلمِ الحقيقةِ راقي شُخوصٌ وأشكالٌ يزهرةُ بعضها ... لبعضٍ بأصواتٍ هناكَ دِقاقِ تمرُّ وتمضي بَابَة بعد بابةٍ (¬5) وتفنى جميعا والمحرك باقي ويا خبيراً على الأسرار مُطّلِعاً ... اصْمُتْ ففي الصَّمْتِ مَنْجاةٌ من الزَّلَلِ اللغة: السر: الذي يُكتم، والجمع أسرار، اصمت: اسكت، منجاة: سبب النجاة، والزلل: الخطأ. الإعراب: الواو: عاطفة على المنادى في قوله يا وارداً، وعلى الأسرار: متعلق بمطلع، مطلعا: صفة لخبير، ففي: هاهنا جواب الأمر، وفي حرف [جر] منجاة: اسم مصدر، مثل مرضاة، وهو مرفوع على لأنه مبتدأ، والخبر تقدم في الجار والمجرور، من الزلل: [من] لبيان الجنس، وهو متعلق بمنجاة، الزلل: مجرور بمن. المعنى: ويا مَن خبِر الأمور، واطّلع على الأسرار، اصمت ولا تُبدِ شيئامما خبرته، واطّلعت عليه، فإنّ صمتك منجاة لك من الزلل، يترتب على إفشاء السر مفاسد كثيرة، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أسرَّ إلى أخيه سراً لم يحلّ له أنْ يفشيَه، وقال عمر رضي الله عنه: مَنْ كتم سرَّه (¬6) كان الخيار بيده، ومّنْ عرّض نفسه للتهمة فلا يلومن مَنْ أساء به الظن، ¬

(¬1) الفرقان: 45. (¬2) لأبي العلاء المعري، ديوانه / (م)، وكذا في الغيث المسجم 2/ 418 (¬3) لعمرو بن معدي كرب الزبيدي، ديوانه / (م). (¬4) لابن الجوزي، النجوم الزاهرة / (م). (¬5) البَابَة: الغاية والنهاية (¬6) كتبت: سر أخيه، وهو خطأ.

وقال عمرو [بن العاص] (¬1) رضي الله عنه: ما استودعت رجلا سراً فأفشاه فلمته؛ لأني كنت به أضيق صدراً حيث استودعته إياه، أخذه الشاعر فقال (¬2): (من الطويل) إِذا ضاقَ صَدرُ المَرءِ عَن سِرِّ نَفسِهِ ... فَصَدرُ الَّذي يُستَودَعُ السِرَّ أَضيَقُ وقال آخر (¬3): (من الوافر) إذا ما ضاق صدرُك عن حديثٍ ... فأفشتهُ الرجالُ فمنْ تلومُ إذا عاتبتُ من / أفشى حديثي ... وسري عنده فأنا الظلومُ ... [71 أ] قال ابن المحجلي العنتري (¬4): (من السريع) من لزم الصمت اكتسى هيبةً ... تخفي عن الناس مساويه لسان من يعقل في قلبه ... وقلب من يجهل في فيه ومن الكلم النوابغ: ربّ كلام أوردك مورد القتال أو ردّك عن مورد القذال (¬5)، ومنها يا بني قِ فاك ما يقرع قفاك، [ومنها] ملاك حسن السمت (¬6) إيثار الصمت، قال أبو العلاء المعري (¬7): (من الوافر) فظُنّ بسائِرِ الإخْوانِ شَرّاً ... ولا تأمَنْ على سِرٍّ فُؤادا وقال آخر (¬8): (من الكامل) ابخلْ بسرك لا تَبُح يوما به ... فصغيره يأتي بكل عظيم أوما ترى سرَّ الزِّناد إذا فشا ... يأتي وشيكاً سقطه بجحيم وقال الطغرائي (¬9): (من الوافر) ولا تستودِعَنَّ السِرَّ إلّا ... فؤادَك فهو موضِعُه الأمينُ إِذا حُفَّاظُ سِرِّك زيدَ فيهم ... فذاك السرُّ أضيعُ ما يكونُ ¬

(¬1) الذي كتب: وقال عمر رضي الله عنه، وما أثبتناه من الغيث المسجم 2/ 426 (¬2) للشافعي رضي الله عنه، ديوانه / (م). (¬3) لرجل من بني سعد، كما في الحيوان، ص 2363/ 0 م)، وعيون الأخبار 1/ 39. (¬4) الوافي بالوفيات، ص 3266 ـ 3269 ابن المجلي: العنتري الطبيب محمد بن المجلي بن الصائغ أبو المؤيد الجزري الطبيب المعروف بالعنتري لأنه كان في أول الأمر يكتب سيرة عنتر. كان طبيباً مشهوراً عالماً مذكوراً حسن المعالجة فيلسوفاً متميزاً في الأدب. له شعر حسن، له كتاب الجمانة في الطبيعي والإلهي والأقراباذين وهو كبير مفيد ورسالة الشعرى اليمانية إلى الشعرى الشمالية كتبها إلى عرفة النحوي بدمشق ورسالة الفرق ما بين الدهر والزمان والكفر والإيمان رسالة العشق الإلهي والطبيعي والنور المجتنى في المحاضرة. توفي سنة ستين وخمس مائة تقريباً. البيتان في الوافي بالوفيات، ص 3269 (¬5) القذال: القفا، الحاشية. (¬6) السمت: الطريق، المقصد، المذهب، اللسان (سمت) (¬7) ديوان سقط الزند، ص 197 (¬8) البيتان في الغيث المسجم 2/ 428/ بلا عزو. (¬9) ديوانه، ص 404

قد رشحوك لأمر إن فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

وأمَّا الجاحظ فلم يرَ هذا، وعنده أنّ النطق خير من الصمت، وكيف يكون هذا ونفع الصمت لا يكاد يجاوز صاحبه، ونفع الكلام يخص ويعم، وبالكلام أرسل الرسل. واعلم أنّ الصمت تارة يكون أحسن من الكلام، والكلام تارة أحسن من الصمت، قال عليه السلام: دع ما يريبك [إلى ما لا يريبك] (¬1) قد رشَّحوك لأمرٍ إنْ فطِنتَ لهُ ... فاربأْ بنفسكَ أن ترعى مع الهَمَلِ اللغة: رشحوك: أي ربوك وأهّلوك، والفطنة: الفهم، والهمل بالتحريك: الإبل بلا راعٍ. الإعراب: قد: حرف يصحب الأفعال، ويقرب الماضي إلى الحال، ورشحوك: [فعل] وفاعل، ومفعول، إن: شرط، فطنت: فعل ماض، والتاء: ضمير الفاعل، وهو المخاطب، فاربأ: الفاء جواب الشرط، واربأ: فعل أمر مبني على السكون، أنْ: حرف ينصب الفعل المضارع، ترعى: منصوب بأنْ، مع الهمل: / قال الجوهري (¬2) في [71 ب] صحاحه: مع كلمة تدل على المصاحبة. المعنى: قد ربَّوْك وأهلوك لأمر، إنْ كنت تعلم باطن الأمر في مرادهم منك فاهرب منهم، ولا تطاوعهم على ما يرومونه منك، إنْ أردت ألاّ ترعى هاملاً، صار يحذر نفسه من أعاديه الذين يسعون في قهره، وحساده الذين يؤثرون هلاكه، ويتمنون وقوع الأذى به، ويتربصون به الدوائر، قال الأرجاني (¬3): (من البسيط) عَرفْتُ دهري وأهليه ببادرتي ... من قَبلِ أن نَجّذَتْني فِيهمُ الحُنَك ولا أُغَرُّ ببِشرٍ في وجُوهِهمُ ... وربّما غَرّ َ حَبٍّ تحته شَبَك قال أبو الطيب (¬4): (من الطويل) أُخالِطُ نَفسَ المَرءِ مِن قَبلِ جِسمِهِ ... وَأَعرِفُها من فِعلِهِ وَالتَكَلُّمِ وقال آخر (¬5): (من الخفيف) وَإِذا خامَرَ الهَوى قَلبَ صَبٍّ ... فَعَلَيهِ لِكُلِّ عَينٍ دَليلُ وقال أبو الطيب (¬6): (من المنسرح) وَيَعرِفُ الأَمرَ قَبلَ مَوقِعِهِ ... فَما لَهُ بَعدَ نُكره نَدَمُ ¬

(¬1) ما بين الخاصرتين زيادة من الغيث المسجم 2/ 430، ومكانها في الأصل المخطوط بياض، وكتب في الهامش هنا بياض وجد بخط المصنف، سبقه أسطر. (¬2) الصحاح (معع) (¬3) ديوانه (م). (¬4) ديوانه 2/ 222، وفيه: أصادق نفس .... (¬5) للمتنبي، ديوانه 2/ 188 (¬6) ديوانه 1/ 138، وفيه: فما له بعد فعله ....

[الخاتمة]

[الخاتمة] قال المُلخص: هذا الكتاب للشيخ الإمام العلامة كمال الدين محمد بن موسى الدميري رحمه الله، هذا آخر ما أردنا تلخيصه من كتاب غيث الأدب الذي انسجم في شرح لامية العجم للشيخ الإمام أديب زمانه الشيخ صلاح الدين الصفدي سقى الله ثراه وجعل الجنة مثواه، وكانت مدة تلخيصه أربعة أيام من شهر ربيع الأول، سنة تسع وسبعين وستمائة، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، ورضي الله عن ساداتنا أصحاب رسول الله أجمعين.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع ابن الرومي، خليل مردم بك، دار صادر ـ بيروت، م.1988 الإمتاع والمؤانسة، أبو حيان التوحيدي، تح , أحمد أمين، وأحمد الزين، دارمكتبة الحياة ... ـ بيروت، لا , ت. أوضح المسالك على ألفية ابن مالك، ابن هشام الأنصاري، تح. محمد محيى الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى ـ القاهرة، 1967م. البرصان والعرجان والعميان والحولان، عمرو بن بحر الجاحظ، تح. عبد السلام محمد هارون، دار الرشيد ـ بغداد، 1982م. تاج العروس من جواهر القاموس، محمد مرتضى الزبيدي، تح. عبد الستار أحمد فراج وآخرون، طبعة الكويت، 1965 فما بعدها. التبيان في شرح الديوان، المنسوب لأبي البقاء العكبري، دار المعرفة ـ بيروت، 1978م. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر بن عمر البغدادي، تح. عبد السلام محمد هارون، الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة، 1979 م. درة الغواص في أوهام الخواص، القاسم بن علي الحريري، تح. محمد أبو الفضل إبراهيم، دار نهضة مصر ـ القاهرة، 1975م. ديوان ابن عنيسن، محمد بن نصر، تح. خليل مردم بك، دار صادر ـ بيروت، الطبعة الثانية. ديوان ابن المعتز، تقديم كرم البستاني، دار صادر ـ بيروت، لا. ت. ديوان أبي تمام، شرح شاهين عطية، دار الكتب العلمية ـ بيروت، 1987م. ديوان أبي العتاهية، دار صادر ـ بيروت، 1980 م. ديوان أبي نواس، شرح علي فاعور، دار الكتب العلمية ـ بيروت، 1987م. ديوان الأرجاني، ناصح الدين أبو بكر أحمد بن محمد بن الحسين، تح. محمد قاسم مصطفى، وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد، 1979م. ديوان امرئ القيس، تصحيح مصطفى عبد الشافي، دار الكتب العلمية ـ بيروت، 1983م. وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد، 1974م. ديوان البحتري، دار الكتب العلمية ـ بيروت، 1987م.

ديوان جرير، شرح مهدي محمد ناصر الدين، دار الكتب العلمية ـ بيروت، 1986م. ديوان الحماسة، اختيار أبي تمام حبيب بن أوس الطائي، شرح التبريزي، دار القلم ـ بيروت، الطبعة الأولى. ديوان حيص بيص، شهاب الدين أبو الفوارس سعد بن محمد الصيفي، تح. مكي السيد جاسم، ديوان الراعي النميري، تح , راينهرت فايبرت، المعهد الألماني للأبحاث الشرقية ـ بيروت، 1980 م. ديوان سبط ابن التعاويذي، أبو الفتح محمد بن عبيد الله بن عبد الله، تح. د. س. مرجليوث، مصورة عن طبعة المقتطف، 1988 م. ديوان سقط الزند، أبو العلاء المعرّي، دار صادر ـ بيروت، 1988 م. ديوان صفي الدين الحلي، دار صادر ـ بيروت، لا. ت. ديوان الطغرائي، تح. علي جواد الطاهر، ويحيى الجبوري، وزارة الإعلام ـ بغداد، 1976م. ديوان عمر بن أبي ربيعة، تح. علي مكي، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، لا. ت. ديوان عنترة، تح. عبد المنعم عبد الرؤوف شلبي، المكتبة التجارية الكبرى ـ القاهرة، لا. ت. ديوان الفرزدق، شرح علي فاعور، دار الكتب العلمية ـ بيروت، 1987م. ديوان لبيد بن ربيعة، شرح ابراهيم جريني، دار القاموس الحديث ـ بيروت، لا. ت. ديوان المتنبي، شرح مصطفى سبيتي، دار الكتب العلمية ـ بيروت، 1986 م. ديوان النابغة الذبياني، تح. كرم البستاني، دار صادر ـ بيروت، لا. ت. شذرلت الذهب في أخبار مَن ذهب، عبد الحي بن العماد الحنبلي، دار الفكر ـ بيروت، 1988م. شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، تح. محمد محيى الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى ـ القاهرة، 1964م. شعر النمر بن تولب، صنعة نوري حمودي القيسي، مطبعة المعارف ـ بغداد، لا. ت. الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية)، إسماعيل بن حماد الجوهري، تح. أحمد عبد الغفور عطّار، دار العلم للملايين ـ بيروت، 1979م. عيون الأخبار، عبد الله بن مسلم بن قتيبة، دار الكتاب العربي ـ بيروت، مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية لسنة 1925م.

الغيث المسجم في شرح لامية العجم، صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، دار الكتب العلمية ـ بيروت، 1975م. فوات الوفيات والذيل عليها، محمد بن شاكر الكتبي، تح. إحسان عباس، دار صادر ـ بيروت، 1974م. الكامل، محمد بن يزيد المبرد، تح. محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي ـ القاهرة، لا. ت. لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور، دار صادر ـ بيروت، لا. ت. مقامات الحريري، دار صادر ـ بيروت، لا. ت. معجم الأدباء، ياقوت الحموي، تح. د. س. مرجليوث، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، لا. ت. المكتبة الشاملة، الإصدار الثاني. الموسوعة الشعرية، الإصدار الثالث. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أحمد بن محمد بن خلكام، تح. إحسان عباس، دار صادر ـ بيروت، 1978م. يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي، تح. محمد محيى الدين عبد الحميد، دار الفكر ـ بيروت، 1973م.

§1/1