شرح كلمة الإخلاص لابن رجب

عبد الرحمن بن ناصر البراك

شرح رسالة «كلمة الإخلاص» للإمام الحافظ زين الدِّين عبد الرحمن بن أحمدَ بنِ رجبٍ الحنبليّ (736 - 795) رحمه الله تعالى شرح فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر البراك حفظه الله اعتنى به ياسر بن سعد بن بدر العسكر غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ولجميع المسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المعتني

مقدمة المعتني الحمد لله وكفى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله المعبودُ المرتَجَى، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه المصطفى، صلى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آلِه وصحبِه نجوم الهدى، وكلِّ مَن سار على نهجهم واقتفى. أما بعد: فهذا أثرٌ علميٌّ جديدٌ من آثارِ أهلِ السنَّة والجَمَاعَة، يتضوَّع مِسْكاً أَذْفَراً، أضعه بين يديك - أيها القارئ الكريم - جامعاً بين دِفَّتَيه نَفَسَ عالِمَين جليلين: أحدهما: العلاَّمةُ المحقِّقُ الحافظُ صاحبُ التصانيف المفيدة زينُ الدِّين عبدُ الرحمن بنُ أحمدَ بنِ رجبٍ البغداديُّ الحنبليُّ (ت:795 هـ)، في رسالته الموسومة بـ «كلمة الإخلاص وتحقيق معناها». وأما الثاني: فهو شيخنا العلامة عبد الرحمن بن ناصر البراك - حفظه الله ونفع به -، حيث قام بشرحِ هذه الرِّسالة (¬1) شرحاً متوسطاً، يُوضِّحُ مقاصدَها، ويُبَيِّن مسائلَها، ويُنَبِّه على ما وقع في كلماتِ بعض أرباب السلوك والتصوف من أخطاء ومخالفات. وقد اجتهدتُ في إخراجه ونشره رجاء النفع به. عملي في الكتاب: اجتهدتُ في خدمة الشرح والعناية به وبأصله المشروح على النحو التالي: ¬

_ (¬1) وكان ذلك ضمن دروس الدورة العلمية الثامنة التي أقيمت بجامع شيخ الإسلام ابن تيمية بالرياض عام 1422 هـ.

أما الشرح فقد عارضتُه -بعد تفريغه- بأصله المسموع، فصوَّبتُ ما وقع في النسخة المفرَّغة من سَقطٍ أو تصحيفٍ. ثم اجتهدتُ في تهذيبه وتنسيقه وترتيبه بما يتلاءم مع الكتاب المطبوع. ثم بعد ذلك قرأتُه على شيخنا - حفظه الله - كاملاً، قراءةَ ضبطٍ وتصحيحٍ، فكان يصوِّب ويُعدِّل، ويحذفُ ويُضيف، حتى استقام على سوقُه بما ترى. والغاية من هذا كلِّه أن يخرج الشرحُ على أكملِ صورةٍ وأصحِّ وجهٍ، معتمَداً من قِبَلِ شارِحِه، صحيحَ النسبة إليه (¬1). وأما الأصلُ المشروح وهو رسالة «كلمة الإخلاص» لابن رجب رحمه الله فقد عُنيتُ بها عنايةً خاصَّةً، فضبطتُ نصَّها وخرَّجتُ أحاديثَها، وعزوتُ نقولَها. ثم قابلتُ نَصَّها على نسختين خطيتين تامَّتين: أما الأولى: فهي نسخةٌ نفيسةٌ مكتوبةٌ في حياة الحافظ ابن رجب -رحمه الله-، وناسخها أحدُ تلامِذَتِه، وهو: الشيخُ الفقيهُ محمَّدُ بنُ محمَّدِ بنِ محمَّدِ بنِ عبدِ الدائم الباهيُّ الحنبليُّ (ت:802 هـ) (¬2)، وفرغ من نسخها يوم الجمعة سادس جمادى الأولى سنة (787 هـ)، وتقع في (12) ورقة، وهي من مصورات ¬

_ (¬1) وأُنبِّه هنا إلى أنَّه قد طُبِع الشرحُ باعتناء الشيخ صبري سلامة شاهين -وفَّقَه الله- وسَمَّاه «الفريد في شرح كتاب التوحيد»، ونشرته دار القاسم بالرياض عام 1430 هـ، ولكون هذا الشرحَ لم يُقرأ على شيخنا -حفظه الله- ولم يصوَّب من قِبَلِه فقد وقع فيه بعض الأوهام والنقص في مواضع متعدِّدة، لا من حيث الخدمة، ولا من حيث الطباعة، ولذا لم يتم اعتماد الشرح من قِبل شيخنا ولم يَرضَ عنه، وقد أصدر بياناً بذلك ونُشِرَ في موقعه الإلكتروني. (¬2) قال عنه ابن حجر: (اشتغل كثيراً وسمع من شيوخِنا ونحوهِم، وعُنيَ بالتحصيل، ودَرَّس وأفتى، وكان عاقلاً رصيناً كثير التأدب)، وقال ابن حجي: (كان أفضل الحنابلة بالديار المصرية وأحقهم بولاية القضاء)، ووصفه شيخه البُلقينيُّ بـ (الشيخ العالِم المحقِّق مفتي المسلمين جمال المدَرِّسين). تنظر ترجمته في: «إنباء الغُمر» لابن حجر (2/ 182)، و «الضوء اللامع» للسخاوي (9/ 224)، و «السُّحُب الوابِلة» لابن حميد المكي (3/ 1075).

المكتبة المركزية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ضمن مجموع رقم (4761). ولِقِدَمِ هذه النسخة ونفاستِها ومكانةِ ناسخها فقد اتخذتُها أصلاً. وأما الثانية: فهي نسخةٌ جيدةٌ ولكنها متأخِّرةٌ، وناسخها هو: عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن ربيعة الربيعي، وفرغ من نسخها - فيما يبدو - في أوائل شهر رجب سنة (1333 هـ)، وتقع في (19) ورقة، وهي من محفوظات مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، ضمن مجموع رقم (1673). وهذه النسخة رغم تأخرها إلا أنها نسخةٌ جيِّدةٌ، وخطها واضحٌ ومقروءٌ، وهي نسخةٌ مقابلةٌ ومصحَّحةٌ، وفيها زوائد يسيرة في بعض المواضع، وقد رمزت لهذه النسخة بحرف (ب). فاعتمدتُ نسخة ابن عبد الدايم أصلاً وأضفتُ لها ما في نسخة الربيعي من زيادات غير مؤثرة في سياق الكلام واتِّسَاقه، وجعلتها بين معكوفتين []، فإن كان إثبات الزيادة مؤثراً في سياق الكلام أو كان ثَمَّة اختلاف في الألفاظ - وهو قليل - فإني أُثبِتُ ما في الأصل وأُنَبِّه في الحاشية على ما في نسخة (ب). كما عُنيتُ بتخريج أحاديث الرِّسالة تخريجاً مختصراً، مع الحكم عليها صحةً وضعفاً، معتنياً بنقل أحكام أئمة الحديث ونُقَّادِه على تلك الأحاديث إن وُجِدَ. هذا وأسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا الشرح كما نفع بأصله، وأن يجزي شيخنا خير الجزاء على جهوده العلمية، وأن يبارك له في عمره وعلمه وعمله. والحمد لله أولاً وآخراً، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد. كتبه ياسر بن سعد بن بدر العسكر الرياض عصر يوم الأربعاء 14/ 8/1433 هـ Yaser [email protected]

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلِّف (1) • اسمه ونسبه وكنيته: هو الإمامُ الحافظُ العلامةُ زينُ الدِّين عبدُ الرَّحمن بنُ أحمدَ بنِ عبدِ الرَّحمن بنِ الحَسَن بنِ محمَّدٍ السَّلاميُّ البغداديُّ ثم الدِّمشقيُّ الحنبليُّ، أبو الفرج، المعروف بـ «ابنِ رجب»، وهو لقبُ جَدِّه عبد الرحمن، وقد طغت هذه النسبة على اسمه حتى لا يكاد يُعرف إلا بها. • مولده ونشأته: ولد - رحمه الله - ببغداد، سنة (736 هـ). ونشأ في أسرةٍ علميةٍ عريقةٍ في العلم والفضل والصلاح، فأبوه وجَدُّه من العلماء، وكان لأبيه الأثر الأكبر في توجيهه نحو العلم النافع، فكان يصطحبه معه إلى مجالس العلم والتحديث وهو صغير جداً، فحضر مجالس جدِّه غير مرَّة ببغداد وهو في السنة الثالثة والرابعة والخامسة من عمره. واشتغل بسماع الحديث - باعتناء والده - منذ نعومة أظفاره، فسمع من كبار المحدِّثين في دمشق ومصر والحجاز، وأجازه جماعةٌ منهم. ولم يزل رحمه الله سالكاً هذا المهَيع المبارك، فـ (أكثر من المسموع وأكثر ¬

_ (¬1) ينظر في ترجمته: "الرد الوافر" لابن ناصر الدين (ص 176)، و"الدرر الكامنة" لابن حجر (2/ 428)، و"إنباء الغُمر" لابن حجر (1/ 460)، و"المقصد الأرشد" لابن مفلح (2/ 81)، و"المنهج الأحمد" للعليمي (5/ 168)، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص 367)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (6/ 339)، و"البدر الطالع" للشوكاني (1/ 328)، و"ابن رجب الحنبلي وأثره في توضيح عقيدة السلف" للدكتور عبد الله بن سليمان الغفيلي.

أبرز شيوخه

من الاشتغال حتى مَهَرَ) (¬1)، وكان (يرافق الحافظ زين الدِّين العراقي في السماع كثيراً) (¬2). فأتيح له من السماع والمشافهة والتلقي عن الشيوخ - وخصوصاً أهل الحديث - ما لم يُتَح لكثيرٍ من أقرانِه، ووافق ذلك منه ألمعيةً ونبوغاً، الأمر الذي جعل الحافظ ابن حجر يقول عنه: (ومَهَرَ في فنونِ الحديثِ أسماءً ورجالاً وعللاً وطرقاً واطِّلاعاً على معانيه) (¬3). • أبرز شيوخه: 1. والده شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن بن الحسن بن محمد السَّلامي البغدادي (ت 774 هـ). 2. أبو العباس أحمد بن الحسن بن عبد الله، الشهير بـ «ابن قاضي الجبل» (ت 771 هـ)، شيخ الحنابلة في زمانه، وقد خَلَفَه ابنُ رجب في التدريس بحلقة الثلاثاء. 3. نجم الدِّين محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن سالم الدمشقي العبادي، المعروف بـ «ابن الخباز» (ت 756 هـ)، مُسنِد الآفاق في زمانه. 4. شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزَّرَعِي، الشهير بـ «ابنِ قَيِّم الجوزية» (ت 751 هـ) الإمامُ العَلَمُ المعروفُ. 5. أبو سعيد صلاح الدين خليل بن كَيْكَلَدِي بن عبد الله العلائي الشافعي (ت 761 هـ)، الإمام الحافظ، صاحب التصانيف المفيدة. وغيرهم كثير. • أبرز تلاميذه: 1. أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن علي الحموي الحلبي، المعروف بـ «ابن الرسام» (ت 844 هـ). ¬

_ (¬1) «الدرر الكامنة» (2/ 438). (¬2) «إنباء الغُمر» (1/ 460). (¬3) «إنباء الغُمر» (1/ 461).

عقيدته

2. أبو الفضل أحمد بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر البغدادي، المعروف بـ «ابن نصر الله» (ت 844 هـ). 3. علاء الدين علي بن محمد بن عباس البعلي ثم الدمشقي الحنبلي، المعروف بـ «ابن اللحَّام» (ت 803 هـ). 4. سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد بن محمد بن عبد الله الأنصاري، المعروف بـ «ابن الملقِّن» (ت 804 هـ). 5. شمس الدين محمد بن أحمد بن سعيد المقدسي الحنبلي (ت 855 هـ)، قاضي مكة. وغيرهم كثير. • عقيدته: كان رحمه الله سلفيَّ العقيدةِ أَثَرِيَّ المنهجِ، سائراً على طريقة أهل الحديث في ذلك، فقد عصمه الله من الانزلاق في المناهج الكلامية والفلسفية على اختلاف مشاربها، فكان حريصاً كل الحرص على اقتفاء منهج السلف الصالح - من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين - في جميع أبواب الاعتقاد. ونظرة فاحِصَة في مؤلفاته المختلفة تنبئك عن ذلك المنهج السلفي المبارك، فتجده إذا عَرَضَ لمسألةٍ عقديةٍ يقرر فيها منهج السلف الصالح بأوضحِ تقريرٍ وأَبيَنِ عبارةٍ، بعيداً عن زيغ العقائد البدعية، وزيف المناهج الكلامية. إلا أن المنْصِف لا يمكن أن يُنكِر ما يجده في بعض مؤلفاتِه من مَسحَةٍ صوفيةٍ تظهر في نقله لكثيرٍ من أقوال أئمة الصوفية كالجُنَيد، وذي النون المصري، وأبي سليمان الدَّاراني، وأبي يعقوب النَّهرَجُورِي وغيرِهم، لكنه كان يختار من أقوالهم ما كان موافقاً للكتاب والسنة، وربما غَفل في بعض الأحيان أو خفي عليه ما اشتملت عليه بعض أقوالهم من الخطإ والمخالفة. وبالجملة فابنُ رجبٍ سلفيُّ المنهجِ والمعتقد، لكن لعل نشأته في بعض الأربطة والأوقاف التي كان يغشاها الصوفية وتَلْمَذَتَه لبعض الشيوخ المتأثِّرين

مذهبه الفقهي

بالمنهج الصوفي كان لها أثرٌ في اقتباسه لبعض عباراتهم، ونقله عن بعض أئمتهم، وخصوصاً في باب السلوك وتهذيب النفوس، متحاشياً ما انطوت عليه عقائدهم من شطحات وخرافات وانحرافات. • مذهبه الفقهي: ابن رجب -رحمه الله- معدودٌ من كبار علماء الحنابلة في زمانه، بل (هو الذي نشر مذهب الامام أحمد بن حنبل ببيت المقدس ثم بدمشق) (¬1)، ووصفه غير واحد بـ «شيخ الحنابلة» وقال ابن حجي: (تخرَّج به غالب أصحابنا الحنابلة بدمشق). فعنايته رحمه الله بمذهب الإمام أحمد أمرٌ ظاهرٌ، وقد صنَّف في قواعد المذهب كتابه العجيب «تقرير القواعد وتحرير الفوائد»، وهو من أجلِّ مصنفاته الفقهية و (يدل على معرفة تامَّة بالمذهب) كما قال برهان الدِّين ابن مفلح (¬2). وصنَّف في تراجم الحنابلة كتاباً ذيَّل به على «طبقات ابن أبي يعلى»، وجاء فيه بفوائد علمية متنوعة. فحنبليَّةُ ابنُ رجبٍ أشهرُ من أن تُذكَر أو أن يُدلَّل عليها، لكنَّه - مع هذا - لم يكن من المقلِّدة المتعصِّبَة، بل كان يدور في فَلَكِ الدَّليل حيث دَارَ، مرجِّحاً ما دلَّ عليه النصُّ الشرعي ولو خالف المذهب. • منزلته في الوعظ: كان -رحمه الله- إلى جانب رسوخ قدمه في فنون العلم واعظاً بليغاً مؤثِّراً، فكانت مجالس وعظه مشهودة، وكان لوعظه وقعٌ في النفوس وتأثيرٌ في القلوب. وكان يسبك مواعظه في قالب أثريٍّ، فتجده كثير الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية مع ذكر جملةٍ وافرةٍ من أقوال السلف، وقد يورد ¬

_ (¬1) قاله ابن ناصر الدين في «الرد الوافر» (ص 170). (¬2) «المقصد الأرشد» (2/ 82).

ثناء العلماء عليه

بعض الأقوال عن طائفة من أعلام الصوفية المتقدِّمين، ويسبك ذلك كله سبكاً مؤثِّراً مطعَّماً ببعض الأبيات الشعرية والمحسِّنات اللفظية، ومؤلفاته في الوعظ خير شاهد على ذلك. • ثناء العلماء عليه: حظي ابن رجب رحمه الله بثناءٍ عاطرٍ، يدل على مدى توسعه وتبحره وتفننه في العلوم، ويدل أيضاً على ما له من المكانة العالية في قلوب الناس، وإليك شيئاً من أقوالهم فيه: 1. قال تلميذه ابن اللحَّام (ت 803 هـ): (سيدنا وشيخنا الإمام العالم العلامة الأوحد الحافظ، شيخ الإسلام مجلي المشكلات وموضح المبهمات)، وقال أيضاً: (الإمام العالم الحافظ، بقية السلف الكرام، وحيد عصره، وفريد دهره، شيخ الإسلام). 2. وقال شهاب الدين ابن حجي (ت 816 هـ): (أتقن الفن - أي: فن الحديث - وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق، وتخرج به غالب أصحابنا الحنابلة بدمشق). 3. وقال ابن ناصر الدين الدمشقي (ت 842 هـ): (كان أحد الأئمة الحفاظ الكبار والعلماء الزهاد الأخيار)، وقال أيضاً: (الشيخ الامام العلامة الزاهد القدوة البركة الحافظ العمدة الثقة الحجة، واعظ المسلمين، مفيد المحدثين، .... أحد الأئمة الزهاد والعلماء العباد). 4. وقال ابن قاضي شهبة (ت 851 هـ): (الشيخ الإمام العلامة الحافظ الزاهد الورع، شيخ الحنابلة وفاضلهم، أوحد المحدثين). 5. قال السيوطي (ت 911 هـ): (هو الإمام الحافظ المحدِّث الفقيه الواعظ، ... أكثر الاشتغال حتى مَهَر). 6. قال ابن العماد الحنبلي: (الشيخ الإمام العالم العلامة، الزاهد القدوة البركة، الحافظ العمدة الثقة الحجة، .... اجتمعت الفرق عليه، ومالت القلوب بالمحبة إليه).

مؤلفاته

• مؤلفاته: جَمَعَ ابنُ رجب -رحمه الله- نفسَه على التدريسِ والتصنيف فكان نتيجةَ ذلك أنْ أثرى المكتبة الإسلامية بجملةٍ وافرةٍ من المؤلفات السَّديدة والمصنَّفات المفيدة، وهي في ذلك ما بين كتابٍ في عدَّة مجلَّدات أو رسالةٍ في بضع ورقات. فله في التفسير: «تفسير سورة الفاتحة» خ، و «تفسير سورة الإخلاص» ط، و «تفسير سورة النصر» ط. وفي الحديث وعلومه: «فتح الباري في شرح البخاري» ط، وصل فيه إلى كتاب الجنائز، و «شرح جامع الترمذي»، مفقود، وتوجد منه قطعة يسيرة جداً في المكتبة الظاهرية، و «جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكَلِم» ط مراراً، و «شرح علل الترمذي» ط. وفي الفقه وقواعده: «تحرير القواعد وتقرير الفوائد» ط، و «الاستخراج في أحكام الخراج» ط، و «أحكام الخواتيم وما يتعلق بها» ط، و «القول الصواب في تزويج أمهات أولاد الغياب» ط، و «تعليق الطلاق بالولادة» خ. وفي التاريخ: «الذيل على طبقات الحنابلة» ط، و «مختصر سيرة عمر بن عبد العزيز» مطبوع قديماً، و «سيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز» ط. وفي الوعظ والفضائل والرقائق: «لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف» ط، و «التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار» ط، و «أهوال القبور» ط، و «استنشاق نسيم الأنس بنفحات رياض القدس» ط، و «الفرق بين النصيحة والتعيير» ط، و «فضل علم السَّلف على علم الخلف» ط، «وفضائل الشام» ط، و «كلمة الإخلاص وتحقيق معناها» وهي رسالتنا هذه. هذا وقد اعتنى بعض المعاصرين بجمع رسائل ابن رجب في مجموعٍ واحدٍ، طبع منه حتى الآن خمس مجلدات، اشتمل على تسعٍ وثلاثين رسالة، وعُنِيَ بجمعها الشيخ طلعت بن فؤاد الحلواني وفقه الله، وطبعته دار الفاروق الحديثة بالقاهرة.

وفاته

• وفاته: بعد رحلة حافلة بالعطاء العلمي - تأليفاً وتدريساً ووعظاً وتذكيراً وعبادةً - وافاه الأجل بدمشق في شهر رمضان سنة (795 هـ)، ودفن بمقبرة الباب الصغير. ومن عجيب ما وقع له قبل وفاته ما ذكره ابن ناصر الدين الدمشقي بقوله: (حدَّثني من حَفَرَ لحد ابنِ رجب أنَّ الشيخَ زين الدِّين ابنِ رجب جاءَه قبل أن يموت بأيامٍ فقال له: احفِر لي ها هنا لَحْدَاً، وأشار إلى البقعة التي دُفِنَ فيها، قال: فحفرتُ له، فلمَّا فَرَغَ نزل في القبرِ واضطَجَع فيه فأعجبَه، قال: هذا جيِّدٌ، ثم خرج، وقال: فو الله ما شعرتُ بعد أيامٍ إلا وقد أُتِيَ به ميِّتاً محمولاً في نعشِه، فوضعتُه في ذلك اللَّحد). فرحم الله ابن رجب رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات النعيم.

التعريف بالرسالة

التعريف بالرسالة • اسم الرِّسالة: هذه الرسالة لم يسمها ابن رجب كعادته في تسميته لكتبه ورسائله، وهذا بَيِّنٌ ظاهرٌ من نسخ الرسالة الخطية، حيث وُجِدَت غفلاً من أي اسمٍ أو عنوان. لكن وجد في نسخة ابن عبد الدائم الباهي -وهي أقدم نسخة خطية للرسالة- ورقة أُلحِقَت بالمخطوطِ في أوَّله كُتِبَ عليها بخطٍّ مغايرٍ للمخطوطِ ما نَصُّه: (كتاب التوحيد من كلام الشيخ الإمام .... ابن رجب البغدادي الحنبلي تغمده الله بالرحمة والرضوان وأسكنه غرف الجنان) وأشير - بخط مغاير للعنوان - إلى أن هذا (خط ابن السمين الحلبي المشهور رحمه الله سبحانه) وهذا وهمٌ فاحشٌ، لأن ابن السمين الحلبي المفسِّر المشهور توفي سنة (756 هـ)، وابن رجب توفي سنة (795 هـ) فكيف يترحَّم المتقدِّم وفاةً على المتأخِر عنه؟!. فورقة العنوان ليست بخط السمين الحلبي جزماً، ويؤكد هذا أن طبيعة الخط توحي بأنه من خطوط القرن الحادي عشر فما بعده، وليس من خطوط القرن الثامن. فالخلاصة أن هذا العنوان ليس من وضع ابن رجب، ولا من وضعِ تلميذه ابن عبد الدائم - ناسخِ المخطوط -، بل هو اجتهاد من بعضهم ممن وقف على المخطوط، استوحاه من مضمون الرِّسالة. هذا، وقد طبعت الرسالة أولَّ طبعةٍ لها (¬1) باسم: «تحقيق كلمة ¬

_ (¬1) وكان ذلك عام 1950 م، بتعليق الشيخين محمود خليفة وأحمد الشرباصي، وطبع بمطبعة مصر بالقاهرة، في (80) صفحة.

أصل الرسالة

الإخلاص»، ثم أعاد المكتب الإسلامي طباعتها عدة مرات (¬1) باسم: «كلمة الإخلاص وتحقيق معناها»، ثم توالت الطبعات والتحقيقات حاملةً هذا الاسم، سوى الطبعة التي بتحقيق الشيخ صبري سلامة شاهين، فقد عَنْوَنَ لها بـ: «كتاب التوحيد». وفي ظني أن تسمية الرسالة بـ: «كلمة الإخلاص وتحقيق معناها» أقرب لمضمون الرسالة من غيره، وأيضاً هو الاسم الذي طبعت عليه الرسالة واشتهرت به، فلا أرى موجباً لتغييره من غير برهان ساطع. • أصل الرسالة: من الملاحظ أن ابن رجب -رحمه الله- لم يقدِّم بين يدي رسالته بمقدِّمة تبين موضوعها، بل شرع في المقصود دون مقدِّمات، وهذا ما جعل الشارح -حفظه الله- يميل أن هذه الرسالة أصلها دَرسٌ أو مجلسٌ وعظيٌّ، فاستُملِيَ عنه، ولم يكتبه ابنُ رجب على سبيل التأليف والتصنيف. قلت: ولعل مما يؤيد هذا عدم تسمية هذه الرسالة باسمٍ خاصٍّ بها كما هي عادة ابن رجب -رحمه الله- في كثيرٍ من كتبِه ورسائِله التي كتبها على سبيل التصنيف والتأليف. • موضوع الرِّسالة: هذه الرِّسالة المختصرة يدورُ قُطبُ رَحَاهَا حول كلمةٍ عظيمةٍ جليلةٍ شريفةٍ هي كلمة التوحيد: «لا إلهَ إلا الله، محمَّدٌ رسولُ الله». وتنبُع أهميةُ هذه الرِّسالة من أهمية هذه الكلمة العظيمة التي هي رأسُ الإسلامِ ومفتاحُ دارِ السَّلام، وعليها أسست المِلَّة ونُصِبت القِبلة، وعنها يُسألُ الأوَّلونَ والآخِرون، وهي منشأ الخلق والأمر، والثواب والعقاب، وبها انقسم الناس إلى مؤمن وكافر، وبرٍّ وفاجر. وقد افتتح المؤلِّف -رحمه الله- رسالته بذكر جملة من الأحاديث الواردة في ¬

_ (¬1) وكانت الطبعة الأولى لها سنة 1380 هـ.

فضل التوحيد وخَصَّ منها الأحاديث الدالة على أن من شهد شهادة التوحيد فإنه يدخل الجنة أو يحرم على النار. ثم بعد هذا انتقل للكلام على هذه الأحاديث، فقَسَّمَها إلى نوعين: أحدهما: الأحاديث التي فيها أنَّ مَن أتى بالشهادتين دخل الجنة ولم يحجب عنها، ثم ذكر أن هذا النوع من الأحاديث ظاهرٌ لا إشكال فيه؛ لأنه ليس فيها نفي أنَّه يُعذَّب على قدر ذنوبه، إنما فيها الإخبار بدخول الجنة فحسب، والمؤمن الموحِّدُ -وإن عُذِّبَ- فمآله إلى الجنَّة، لأنَّ النَّار لا يُخلَّدُ فيها أحدٌ من أهلِ التوحيدِ الخالِصِ. والثاني: الأحاديث التي فيها أنَّ مَن أتى بالشهادتين فإنه يُحرَّم على النَّار، وهذا النوع من الأحاديث هو موطن الإشكال؛ لأنه قد دلت النصوص الأخرى على دخول بعضِ عُصَاة الموحِّدِين النَّارَ، ثم أفاض -رحمه الله- في ذكر أجوبة أهل العلم على هذا، فذكر منها أربعة، ورجَّح قولَ مَن قال: بأنَّ المرادَ من هذه الأحاديث أنَّ «لا إله إلا الله» سببٌ لدخول الجنَّة والنَّجَاةِ من النَّارِ ومقتضٍ لذلك، ولكن المقتضي لا يعمَل عمَلَه إلا باستجماعِ شروطِه وانتفاءِ موانِعِه، فقد يتخلَّف عنه مقتضَاه لفواتِ شرطٍ من شروطِه أو لوجودِ مانعٍ، ثم قال: (وهذا هو الأظهر). وهناك جوابٌ آخر أورده ابن رجب وظاهر صنيعه أنه يختاره ويرتضيه أيضاً، وهو قول طائفة من أهل العلم أنَّ تلك النصوص المطلقة قد جاءت مقيَّدة في أحاديث أخر، والتي تفيد بأن ذلك الثواب إنما هو لمن يقولها بصدق وإخلاص ومحبة ويقين ونحو ذلك. ثم استطرد -رحمه الله- بكلامٍ طويلٍ نفيسٍ في التدليل والتعليل على صحة هذين الجوابين، وكان مما قال: (وتحقيقُ هذا المعنى وإيضَاحُه أنَّ قولَ العبدِ: «لا إله إلا الله»، يقتضي أن لا إله له غير الله، و «الإله» هو الذي يُطَاعُ فلا يُعصَى؛ هيبةً له وإِجلالاً، ومحبةً، وخوفاً، ورجاءً، وتوكلاً عليه، وسؤالاً منه، ودعاءً له، ولا يَصْلُحُ ذلك كلُّه إلا لله عَزَّ وجَلَّ.

فمن أشرَكَ مخلوقاً في شيءٍ من هذه الأمور التي هي من خَصَائِصِ الإِلَهِيَّة، كَانَ ذَلكَ قَدْحَاً في إِخلاَصِه في قَولِ: لا إله إلا الله، ونَقصَاً في توحِيدِهِ، وكانَ فيه من عُبُودِيَّةِ ذلك المخلُوقِ بحسْبِ ما فِيهِ مِن ذَلكَ، وهذا كُلُّه من فُرُوعِ الشِّرْكِ). ثم تكلم عن محبَّة الله عز وجل، وذكر أنَّ المحبَّة متى تَمَكَّنَت من القَلبِ لم تَنبَعِث الجَوَارِحُ إلاَّ إِلى طَاعَةِ الرَّبِّ عز وجل. ثم تكلَّم عن الصِّدق في قول «لا إله إلا الله»، وذكر أنَّ (مَن دَخَلَ النَّارَ مِن أَهلِ هَذِه الكَلِمَةِ فَلِقِلَّةِ صِدقِهِ فِي قَولِهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ إِذَا صَدَقَت طَهَّرَت القَلبَ مِن كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، وَمَتَى بَقِيَ فِي القَلبِ أَثَرٌ لِسِوَى اللَّهِ فَمِن قِلَّةِ الصِّدقِ فِي قَولِهَا. مَن صَدَقَ فِي قَولِهِ «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» لَم يُحِبَّ سِوَاهُ، لَم يَرْجُ إِلاَّ إِيَّاهُ, لَم يَخْشَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهُ, لَم يَتَوَكَّل إِلاَّ عَلَى اللَّهِ, لَم يُبقِ لَهُ بَقِيَّةً مِن آثَارِ نَفسِهِ وَهَوَاهُ). ثم ختم المؤلِّف رسالته بفصلٍ ذكر فيه جملةً وافرةً من فضائل كلمة التوحيد، ثم ختم هذا الفصل بالحثِّ على تحقيق التوحيد والتمسك بأصل الدين، لأنه - كما يقول - (لا يوصل إلى الله سواه، ولا ينجي من عذاب الله إلا إياه). هذا تفصيلٌ مجمَلٌ لما اشتملت عليه هذه الرِّسالة المباركة من موضوعات. وهذه الرسالة على صغر جحمها وقلة عدد أوراقها إلا أنَّ المؤلِّف حشد فيها من الآيات والأحاديث والأقوال والنقول شيئاً كثيراً. وأكثر فيها من النقل عن أعلام الصوفية المتقدِّمين، أمثال الجنيد وأبي سليمان الداراني وذي النون المصري ويحيى بن معاذ ورُوَيْم وغيرهم، وساق جملة من أقوالهم في المحبة وغيرها.

ترجمة الشارح

ترجمة الشارح • اسمه ونسبه: هو الشيخ العلاَّمة عبدالرحمن بن ناصر بن براك بن إبراهيم البراك، ينحدر نسبه من بطن آل عُرينة، المتفرِّع من قبيلة سُبيع المُضرية العدنانية. • مولده ونشأته: ولد -حفظه الله- في بلدة «البكيرية» من منطقة «القصيم» في شهر ذي القعدة سنة 1352 هـ. وتوفي والده وهو صغيرٌ جداً فلم يدركه، وتولَّت والدته تربيته، فربته خير تربية، وقدَّرَ الله له أن يُصَابَ بمرضٍ تسبَّبَ في ذهابِ بصره، وهو في العاشرة من عمره. • طلبه للعلم ومشايخه: بدأ الشيخ طلب العلم صغيراً، فشرع في حفظ القرآن على عمِّه عبد الله بن منصور البراك، ثم على مقرئ البكيرية الشيخ عبد الرحمن بن سالم الكريديس رحمهما الله، فأكمل الشيخ حفظ القرآن وعمره اثنتا عشرة سنة تقريباً. وفي حدود عام 1364 - 1365 هـ بدأ في حضور الدروس والقراءة على العلماء، فقرأ على الشيخ عبد العزيز بن عبد الله السبيل رحمه الله جملة من كتاب «التوحيد»، و «الآجرومية»، وقرأ على قاضي البكيرية الشيخ محمد بن مقبل المقبل رحمه الله «الأصول الثلاثة». وفي عام 1366 هـ تقريباً قُدِّرَ له السفر إلى مكة، ومكث بها ثلاث سنين،

فقرأ فيها على إمام المسجد الحرام الشيخ عبدالله بن محمد الخليفي رحمه الله في «الآجرومية». وفي مكة التقى بعالمٍ فاضلٍ من كبار تلاميذ العلامة محمد بن إبراهيم هو الشيخ صالح بن حسين العراقي، فجالسه واستفاد منه كثيراً، ولما عُيِّن الشيخ صالح مديراً للمدرسة «العزيزة» في بلدة «الدلم» أحبَّ الشيخ صالح أن يرافقه الشيخ عبدالرحمن حفاوة به، فصحبه لطلب العلم على الشيخ ابن باز حين كان قاضياً في بلدة «الدلم»، فرحل معه في ربيع الأول من عام 1369 هـ، والتحق بالمدرسة «العزيزة» بالصف الرابع، وكان من أهم ما استفاده في تلك السنة الإلمام بقواعد «التجويد» الأساسية. وفي نفس السنة سافر مع جمع من الطلاب مع الشيخ ابن باز إلى الحج، وبعد عودته ترك الدراسة في المدرسة العزيزة، وآثر حفظ المتون مع طلاب الشيخ ابن باز، فحفظ «الأصول الثلاثة»، و «كتاب التوحيد»، و «الآجرومية»، و «قطر الندى»، و «الرحبية»، وقدراً من «ألفية ابن مالك» في النحو، و «ألفية العراقي» في علوم الحديث. ولازم دروس الشيخ ابن باز المتنوعة، وبقي في «الدلم» إلى أواخر عام 1370 هـ، وكانت إقامته هناك لها أثر كبير في حياته العلمية. ولما فتح «المعهد العلمي» في الرياض في محرم 1371 هـ التحق الشيخ به في القسم الثانوي، وكانت مدة الدراسة الثانوية أربع سنوات، فتخرج فيه عام 1374 هـ، ثم التحق بـ «كلية الشريعة» بالرياض، وتخرج فيها سنة 1378 هـ. وكان من أبرز مشايخه في «المعهد» و «الكلية»: 1 - العلامة عبد العزيز ابن باز. 2 - العلامة محمد الأمين الشنقيطي، ودرس عليه في «المعهد العلمي»: «التفسير»، و «أصول الفقه». 3 - العلامة عبدالرزاق عفيفي، ودرس عليه: «التوحيد»، و «النحو»، و «أصول الفقه».

الأعمال التي تولاها

4 - الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة. 5 - الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد. 6 - الشيخ عبد الرحمن الأفريقي. 7 - الشيخ عبد اللطيف سرحان، ودرس عليه في «النحو». وغيرهم، رحمهم الله جميعاً. وكان في تلك المدة يحضر بعض دروس العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ في المسجد. وأكبر مشايخه عنده وأعظمهم أثراً في نفسه: العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله، فقد أفاد منه أكثر من خمسين عاماً بدءاً من عام 1369 هـ إلى وفاته في عام 1420 هـ، ثم يليه الشيخ صالح العراقي الذي استفاد منه حب الدليل، ونبذ التقليد، والتدقيق في علوم «اللغة» من «نحو»، و «صرف»، و «عَروض». • الأعمال التي تولاها: عُيِّن الشيخ مدرساً في «المعهد العلمي» في مدينة الرياض سنة 1379 هـ وبقي فيه ثلاثة أعوام، ثم نُقل إلى «كلية الشريعة» بالرياض، وتولى تدريس العلوم الشرعية، ولما افتتحت «كلية أصول الدين» عام 1396 هـ نقل إليها في قسم «العقيدة والمذاهب المعاصرة»، وبقي فيها إلى أن تقاعد عام 1420 هـ، وأشرف خلالها على العشرات من الرسائل العلمية. وبعد التقاعد رغبت «الكلية» التعاقد معه؛ فعمل مدة ثم ترك. كما طلب منه شيخه ابن باز رحمه الله أن يتولَّى العمل في الإفتاء مراراً؛ فتمنَّع، ورضي منه شيخه أن ينيبه في «رئاسة الإفتاء» في الرياض في فصل الصيفِ حين ينتقل المفتون إلى مدينة «الطائف»، فأجاب الشيخ حياءً؛ إذ تولى العمل مرتين، ثم تركه. وبعد وفاة العلامة ابن باز رحمه الله طلب منه المفتي العام الشيخ عبد العزيز آل الشيخ أن يكون عضو إفتاء، وألح عليه في ذلك؛ فامتنع، وآثر التفرغ للدعوة والتعليم.

جهوده في نشر للعلم

• جهوده في نشر للعلم: جلس الشيخ للتعليم في مسجده الذي يتولى إمامته -مسجد الخليفي بحي الفاروق-، ومعظم دروسه فيه، وكذلك التدريس في بيته مع بعض خاصة طلابه، وله دروس في مساجد أخرى، إضافة إلى مشاركاته الكثيرة في الدورات العلمية المكثفة التي تقام في الصيف، وإلقائه للمحاضرات في مدينة «الرياض»، وغيرها من مناطق المملكة. وله كذلك مشاركات متعددة في الدورات العلمية المكثفة التي تقام في الصيف، كما ألقى عدة دروس عبر الهاتف لطلاب العلم في الخارج، إضافة لإلقائه كثيراً من المحاضرات في موضوعات متنوعة، وكذا الكلمات الدعوية في مختلف المناسبات، كما تعرض على الشيخ بعض الأسئلة من عدد من المواقع الإسلامية في الشبكة العالمية، ويجيب عليها. • جهوده الاحتسابية: للشيخ -حفظه الله- جهود مباركة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإصلاح بين الناس، ومناصحة المسؤلين والكتابة لهم، وتحذير الناس من البدع وسائر الانحرافات والمخالفات، وله في ذلك فتاوى ومقالات كثيرة، وله مشاركة مع بعض المشايخ في عدد من البيانات والنصائح الموجهة للعموم المسلمين. كما أن للشيخ -حفظه الله- اهتماماً بالغاً بأمور المسلمين في جميع أنحاء العالم، فيتابع أخبارهم ويحزن ويتألم لما يحدث لهم من مصائب ونكبات، وفي أوقات الأزمات يبادر بالدعاء لهم، ويبذل النصح والتوجيه لهم، وما يجب على المسلمين نحوهم. • إنتاجه العلمي: انصرف الشيخ عن التأليف مع توفر آلته، وبذل معظم وقته في حلقات العلم، معلِّماً ومحاضِراً ومفتياً، وقد دوِّنت عنه المئات من الفتاوى، وقرئت

عليه العشرات من الكتب في مختلف الفنون، وقد سُجل بعضها وما لم يسجل أكثر، ودروسه قائمة إلى اليوم أمدَّ الله في عمره على الخير والطاعة. وقد قام بعض خواصِّ طلابه بخدمة شروحِه المسجَّلة، وتهيئتها للطباعة والنشر بعد قراءتها على الشيخ وتصويبها، فصدر له: «شرح العقيدة التدمرية»، و «شرح العقيدة الطحاوية»، و «توضيح مقاصد العقيدة الواسطية»، و «إرشاد العباد إلى معاني لمعة الاعتقاد»، و «شرح القواعد الأربع، والأصول الثلاثة، ونواقض الإسلام، وكشف الشبهات»، و «التعليق على القواعد المثلى»، و «توضيح المقصود بنظم ابن أبي داود»، و «شرح القصيدة الدالية». وهناك بعض الشروح والرسائل هي في أصلها إملاءات من الشيخ، منها: «الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية»، و «التعليقات على المخالفات العقدية في فتح الباري» لابن حجر، و «جواب في الإيمان ونواقضه»، و «موقف المسلم من الخلاف». وللشيخ كتب أخرى في طريقها إلى الطبع، يسَّر الله أمرها. وفي حياة الشيخ جوانب كثيرة مشرقة، أسأل الله أن يبارك في عمره، ويمد فيه على طاعته، وينفع بعلمه المسلمين، إنه سميع مجيب.

مقدمة الشارح

مقدِّمة الشَّارِح بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فإنَّ هذه الرسالة المباركة الموسومة بـ «كلمة الإخلاص وتحقيق معناها»، للإمام العَلَم العلامة: أبي الفرج عبدِ الرَّحمن ابنِ رجبٍ الدِّمشقيِّ الحنبليِّ (ت:795 هـ)، الإمامِ الشهير، من كبار أئمة الحنابلة في زمانه، وله مؤلفات متنوعة في الفقه، والأصول، والحديث، وفي العقيدة، وغيرها. وهذه الرسالة التي بين أيدينا مدارها على موضوعٍ عظيمٍ؛ هو: كلمة التوحيد وما تقتضيه، وما ورد فيها من الأحاديث التي اشتبه معناها على كثير من النَّاس. كما تضمنت أيضاً التنبيه إلى أمر عظيم، وهو خطر مذهب الإرجاء. ومعروفٌ أنَّ الإرجاء مضمونه أنَّ «الإيمان» هو مجرَّد التصديق، أو أنه مجرَّد المعرفة، أو أنه مجرَّد القول باللسان، كما هي أقوالٌ لطوائف المرجئة. ولا شك أنَّ قَصْرَ «الإيمان» على مجرَّد ذلك مخالفٌ لما دلَّت عليه نصوص الكتاب والسنَّة من أنَّ «الإيمان» قولٌ وعملٌ، أو اعتقادٌ وعملٌ؛ اعتقاد بالقلب، وعمل القلب، وإقرار اللسان، وعمل الجوارح. فهذا الدين الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، جاء بشريعةٍ عظيمةٍ، مشتملةٍ على اعتقاداتٍ مفصَّلة، وأعمالٍ قلبِيَّةٍ مفصَّلَة، وأعمالٍ للجوارحِ مفصَّلَة، فهو مشتملٌ على أفعالٍ وتروكٍ، وحلالٍ وحرامٍ، وواجباتٍ وفرائضَ. فليس دين الإسلام أن يقول الإنسان: «لا إله إلا الله» فقط، بل هذه الكلمة العظيمة لها مدلولها العظيم، فكيف يكون مجرد النطق بها كافياً في

جعل الإنسان مسلماً مهما فعل من المنكرات؟، بل من الشرك والكفريات؟! فمذهبُ الإرجاء مذهبٌ فاسدٌ، وقد استشرى في هذه الأمة، وأدَّى إلى ألاَّ يبقى مع كثيرٍ من المسلمين من الإسلام إلا مجرَّد الاسم. فالمشركون الذين يعبدون القبور بأنواع العبادات لا يُنْكَر عليهم ذلك؛ لأنهم يقولون: «لا إله إلا الله»، وهذا -لا شك- من تغرير الشيطان بالإنسان. كذلك كثيرٌ من المسلمين يجترئ على المعاصي، ويُقْدِمُ عليها بجرأةٍ واستخفافٍ، معتذراً بأنَّه يقول: «لا إله إلا الله»، متَّكِلاً في ذلك على أحاديث الوعد، وسيذكر المؤلِّف جملة منها في ثنايا رسالته. فالمقصود أنَّ مذهب المرجئة يؤدي إلى الاستخفاف بشعائر الدين، كما يؤدي إلى الجرأة على المحرمات من كبائر الذنوب، بل إلى ما هو أكبر منها من الشرك بالله، كالطواف بالقبور، والذبح للأموات، ودعائهم والاستغاثة بهم، وكذلك أنواع من الكفر الذي تجري على أَلْسُنِ بعض الناس، فالخطر عظيم. فهذا المذهبُ البدعيُّ جَرَّ إلى هذا الواقع الأليم، ولهذا يذكر أهلُ العلم أن مذهب غلاة المرجئة مبنيٌّ على مقولةٍ باطلةٍ وهي: (لا يضر مع الإيمان -الإيمان الذي هو مجرد التصديق أو مجرد المعرفة كما يقولون- ذنبٌ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة). ولا شك أن من اعتقد ما دلت عليه هذه المقولة الباطلة فهو كافر؛ لأن النصوص الشرعية قد دلت على أن الذنوب تضر بالإيمان وتؤثر فيه، بل ثمة ذنوب توجب الكفر والخلود في النار لمن مات عليها. وعلى النقيض من مذهب المرجئة مذهبُ الذين يُكفِّرُون بالذنوب، فالمرجئةُ وهؤلاء على طَرَفي نقيض، والمذهب الحق هو مذهب أهل السنة والجماعة، فهم على صراط مستقيم بين هؤلاء وهؤلاء. فأهل السنة والجماعة وسطٌ في باب أسماء الدِّين والإيمان والأحكام بين الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة، فالوعيدية من الخوارج والمعتزلة يُقَنِّطُون

أصحابَ الذنوب، والمرجئة يُؤمِّنُونَهم من عذاب الله، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في أهل الكبائر التي هي دون الكفر والشرك ما قاله الله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، وأما الشرك والكفر بأنواعه فهو موجبٌ للخروج من الإسلام، فإن للإسلام نواقض يخرج بها الإنسان عنه وإن كان يقول: «لا إله إلا الله». فـ «لا إله إلا الله» إنما تعصم دم الإنسان وماله في الدنيا إذا لم يأت بما يناقضها، وكذلك تعصمه في الآخرة من الخلود في النار، وتعصمه أيضاً من دخول النار إذا لم يأتِ بما يوجب ذلك. فشهادة أن «لا إله إلا الله» معناها: لا معبود بحق إلا الله، فهذه الشهادة العظيمة لا تقتضي مجرد اعتقاد فحسب، بل تقتضي اعتقاداً وعملاً: - فتقتضي اعتقاد أن الله هو الإله المستحق للعبادة، وأن كل ما سواه لا يستحق العبادة. - وتقتضي عبادةَ الله، وإفرادَه بالعبادة، وتركَ عبادة ما سواه، والكفرَ بما يُعبَد من دونه. فالأول: هو المذكور في قوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} [البقرة:256]. والثاني: هو المذكور في قوله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل:36]. فالذي يقول بلسانه «لا إله إلا الله»، وهو لا يَبْرَأ من المشركين وشركِهم، ولا يعتقد بطلانَ ما هم عليه وضلالَه، فهذا لا حظ له مما تقتضيه هذه الكلمة العظيمة من الاعتقاد، ولا مما تقتضيه من العمل. ومن قال: «لا إله إلا الله» معتقداً أنه لا يستحق العبادة إلا الله، وأن كل ما سواه لا يستحق العبادة، وتبرَّأ من المشركين وشركِهم، لكنه -مع هذا الاعتقاد- اعرض عن عبادة الله، فلم يؤد فريضة، ولم يجتنب كبيرة، فأي

معنى لهذا الاعتقاد حينئذٍ؟ بل إن إعراضه عن عبادة الله يكذِّبُ دَعوَاه، ومن كانت هذه حاله لم يُحَقِّق قولَ: «لا إله إلا الله». فالناس في هذا المقام على تفاوت عظيم، منهم من ينتهي به الإرجاءُ إلى الكفر، ومنهم من ينتهي به إلى الجرأة على المحرمات، وشتان بين من يأتِ المعصية وهو خائفٌ وَجِلٌ، ويَلومُ نفسَه ويعاتِبُها ويُفَكِّر بالتوبة والخَلاص، وبين من يأتِ المعصية بهذه الشبهة -شبهة الإرجاء-. فشبهة الإرجاء هذه تحمل الإنسان على الإقدام على الشهوات المحرَّمة، فيجتمع له الشهوة والشبهة. فالشيطانُ يأتي الإنسانَ قَبلَ فِعْلِ المعصية يُجَرِّؤه عليها؛ بتهوينها في نفسه، وتذكيره بمغفرة الله وسعة رحمته، وبأنه مسلمٌ وأنه يقول: «لا إله إلا الله»، ويُذَكِّرُه بأحاديث الوعد الواردة في هذا المعنى، ثم بعد الإقدام على المعصية يُقَنِّطُه من رحمة الله، حتى ييأس من رحمة الله فلا يَهمُّ ولا يُفكِّر بالتوبة، وهذا من مداخل الشيطان على الإنسان، فالمقامُ عظيمٌ وخطيرٌ. وهذا الانقسام موجودٌ من الصدر الأول وسارٍ في الأُمَّة من وقت ظهور الخوارج وعلى إثْرِهم المرجئة إلى يومنا هذا، والمذهبان موجودان، لكن مذهب الإرجاء الآن له دعاة، وله اتباع كثيرون، ويهونون الذنوب على الناس، فالواجب على المسلمين أن يحذروا من السبيلين: - سبيل أهل التكفير؛ المكفِّرِين بالذنوب. - وسبيل المرجئة، المستخِفِّين بالذنوب، والمهَوِّنين لخطرها. فعلى المسلمين أن يسلكوا الصراط المستقيم بين هذين الفريقين، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ.

قال الشيخ

بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخُ الإمامُ العالِمُ العامِلُ العلاَّمةُ القدوةُ الحافِظُ: زينُ الدِّين عبدُ الرَّحمن بنُ الشيخِ الصالِحِ العلاَّمةِ أحمدَ بنِ رَجَبٍ الحنبليُّ البغداديُّ أدام الله النَّفعَ به، آمين: في «الصَّحِيحَينِ» (¬1) عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم [راكباً] وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحلِ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ» قَالَ: لَبَّيكَ [يا] رَسُولَ اللَّهِ وَسَعدَيكَ، قَالَ: «يَا مُعَاذُ»، قَالَ: لَبَّيكَ [يا] رَسُولَ اللَّهِ وَسَعدَيكَ، قَالَ: «يَا مُعَاذُ»، قَالَ: لَبَّيكَ [يا] رَسُولَ اللَّهِ وَسَعدَيكَ. قَالَ: «مَا مِن عَبدٍ يَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ إِلا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا أُخبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَستَبشِرُوا؟ قَالَ: «لا، إِذاً يَتَّكِلُوا»، فَأَخبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِندَ مَوتِهِ تَأَثُّماً (¬2). وَفي «الصَّحِيحَينِ» عَن عِتبَانَ بنِ مَالِكٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الله قد حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَن قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ، يَبتَغِي بَهَا وَجهَ اللهِ» (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري (رقم 128)، ومسلم (رقم 32). وأخرجه البخاري أيضاً (رقم 5622 و 5912 و 6135)، ومسلم (رقم 30) من رواية أنسٍ عن معاذٍ. (¬2) قوله: «فأخْبَرَ بها معاذٌ عند مَوْته تأثُّماً»: أي تَجَنُّبَاً للإثْم، وإنما خشي معاذٌ من الإثم المرَتَّب على كتمان العلم. ينظر: «النهاية في غريب الأثر» (1/ 34)، و «فتح الباري» (1/ 228). (¬3) البخاري (رقم 415)، ومسلم (33).

وَفي «صَحِيحِ مُسلِمٍ» عَن أَبِي هُرَيرَةَ أَو أَبِي سَعِيدٍ - بِالشَّكِ (¬1) - أَنَّهُم كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في غَزَاةِ تَبُوكَ فَأَصَابَتهُم مَجَاعَةٌ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنِطعٍ (¬2) فَبَسَطَهُ، ثُمَّ دَعَا بِفَضلِ أَزوَادِهِم، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، وَجَعَلَ الآخَرُ [يَجِيءُ] (¬3) بِكَفِّ تَمرٍ، وَجَعَلَ الآخَرُ يَجِيءُ بِكِسرَةٍ، حَتَّى اجتَمَعَ عَلَى النِّطعِ مِن ذَلِكَ شَيءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيهِ بِالبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: «خُذُوا في أَوعِيَتِكُم»، فَأَخَذُوا في أَوعِيَتِهِم حَتَّى مَا تَرَكُوا فِي العَسكَرِ وِعَاءً إِلا مَلَؤوهُ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، وَفَضَلَت فَضلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَشهَدُ (¬4) أَن لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ لا يَلقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبدٌ غَيرَ شَاكٍّ فِيهِمَا فَيُحجَبَ عَن الجَنَّةِ» (¬5). ¬

_ (¬1) الشكُّ من (الأعمش) من رواية أبي معاوية عنه، كما في «صحيح مسلم» وغيرِه، ومن رواية وكيعٍ عنه كما في «شرح السنة» للبغوي (رقم 52) وغيرِه. ورواه «قتادة بن الفضيل» و «سهيل بن أبي صالح» عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة من غير شكٍّ. وروي أيضاً عن أبي صالح - من غير طريق الأعمش - من غير شكٍّ، فرواه «طَلْحَةُ بنُ مُصَرِّفٍ» و «سهيل بن أبي صالح» كلاهما عن أبي صَالحٍ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ من غير شكٍّ. [ينظر: «صحيح مسلم» (رقم 27)، و «مسند أحمد» (رقم 9466)، و «سنن النسائي الكبرى» (رقم 8743 و 8745)]. وعلى هذا فالظاهر أنَّ الحديثَ من مسند أبي هريرة لا من مسند أبي سعيد، والله أعلم. (¬2) النِّطْع: هو بِسَاطٌ من الجِلْدِ، وفيه أربعُ لُغَاتٍ: فتحُ النُّونِ وكسرُها ومع كلِّ وَاحدٍ فَتحُ الطَّاءِ وسُكونُها = (نَطْع، ونَطَع، ونِطْع، ونِطَع). ينظر: «القاموس المحيط» (ص 991)، و «المصباح المنير» (ص 611). (¬3) ما بين المعقوفتين ساقطٌ من الأصل، والسياق يقتضيه. (¬4) في نسخة (ب): «مَن شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إلاَّ الله وَشَهِدَ أنِّي رَسُولُ الله ...». (¬5) أخرجه مسلم (رقم 27).

وَفي «الصَّحِيحَينِ» عَن أَبِي ذَرٍّ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِن عَبدٍ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلا دَخَلَ الجنَّةَ»، قُلتُ: وَإِن زَنَى، وَإِن سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِن زَنَى، وَإِن سَرَقَ»، قَالَهَا ثَلاثاً، ثُمَّ قَالَ في الرَّابِعَةِ: «عَلَى رَغمِ أَنفِ أَبِي ذَرٍّ (¬1)»، فَخَرَجَ أَبُو ذَرِّ، وَهُوَ يَقُولُ: وَإِن رَغِمَ أَنفُ أَبِي ذَرٍّ (¬2). وَفي «صَحِيحِ مُسلِمٍ» عَن عُبَادَةَ [بن الصامت رضي الله عنه] أَنَّهُ قَالَ عِندَ مَوتِهِ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَن شَهِدَ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمداً رَسُولُ اللهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ النَّارَ» (¬3). وفي «الصَّحِيحَينِ» عَن عُبَادَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَن شَهِدَ أَن لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلقَاهَا إِلَى مَريَمَ وَرُوحٌ مِنهُ، وَأنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِن العَمَلِ» (¬4). ¬

_ (¬1) قوله: «وإن رَغِمَ أَنْفُ أبي ذرٍّ» قال في «النهاية»: (أي: وإنْ ذَلَّ، وقيل: وإن كَرِه). والرَّغَامُ -بالفتح-: التُّرَابُ، وقولهم: (رَغِمَ أَنْفُه) أَيْ: لَصِقَ بالتُّرَابِ، وهو كناية عن الذُّلِّ والهَوَانِ، وَهُوَ دُعَاءُ سُوءٍ في ظاهره، لكنه من جنس الأدعية التي تُقَالُ ولا يُرَادُ وقوعها، وإنما تقال على عادة العرب في ذلك، كقولهم: «تَرِبَت يَدَاكَ» و «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ» و «عَقْرَى حَلْقَى» ونحو ذلك من أدعيتهم الجارية على ألسنتهم. ينظر: «النهاية في غريب الأثر» (2/ 587). (¬2) أخرجه البخاري (رقم 5489)، ومسلم (رقم 154). (¬3) أخرجه مسلم (رقم 29). (¬4) أخرجه البخاري (رقم 3252)، ومسلم (رقم 28) وعنده: «وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ»، و «أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ». قال النووي في «شرح مسلم» (1/ 227) مبيناً مكانة هذا الحديث: (هذا حديثٌ عظيمُ الموقِع، وهو أجمعُ أو من أجمعِ الأحاديثِ المشتملةِ على العقائدِ، فإنَّه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يُخرِج عن جميع مِلَلِ الكُفْرِ على اختلافِ عقائدِهم وتباعُدِهم، فاختصر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرفِ على ما يُبَايَنُ به جميعُهم).

الشرح

وَفِي هَذَا المَعنَى أَحَادِيثُ كَثِيرةٌ جِدَّاً يَطُولُ ذِكرُهَا. Qاستهَلَّ المؤلِّف -رحمه الله- رسالتَه هذه بذكر جملة من الأحاديث الواردة في فضل التوحيد، وما يوجبه من دخول الجنة والنجاة من النار. وهذه الأحاديث ظاهرةُ الدِّلالة على فضل التوحيد وعِظَمِ ثوابه، وقد عقد الشيخ المجدِّد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في كتاب «التوحيد» باباً بهذا المعنى، فقال: (باب فضل التوحيد وما يُكَفِّرُ من الذنوب)، وذكر تحته حديث عبادة بن الصامت، وحديث عِتْبَان السابق ذكرهما. وهذه الأحاديث التي أوردها المؤلِّف -رحمه الله- على أنواع: - فمنها ما اقتُصِرَ فيه على ذكر شهادة «أن لا إله إلا الله» فحسب، كما في حديث عِتبان وأبي ذر. - ومنها ما فيه ذكر الشهادتين معاً - شهادة «أن لا إله إلا الله» و «أنَّ محمَّداً رسول الله» - كما في حديث معاذٍ، وحديث عُبَادَة الذي عند مسلم. - ومنها ما ذُكِرَ فيه أكثر من ذلك، كما في حديث عبادة رضي الله عنه الذي في «الصحيحين»: «من شهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه، وأن الجنة حق، وأنَّ النَّار حق .. الحديث». ومن جانبٍ آخر: - منها ما فيه إطلاق القول بالشهادة من غير تقييدٍ، كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: «ما من عبد يشهد: أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار»، وحديث أبي ذر رضي الله عنه: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة»، وحديث عبادة رضي الله عنه: «من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حَرَّمَ الله عليه النَّار»

- ومنها ما فيه ذكر قولها مقَيَّدَاً، كما في حديث عتبان رضي الله عنه: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ على النَّارِ مَن قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله»، وحديث أبي سعيد أو أبي هريرة - رضي الله عنهما - في قصة ما وقع لهم في غزوة تبوك، لما أصابتهم المجاعة وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بجمع ما في أزوادهم، وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غيرَ شَاكٍّ فيُحجَبُ عن الجنَّة». والمتأمِّل في هذه الأحاديث يجد فيها: ذِكر الشَّهادة، وذِكر الإخلاص، وذِكر العلم، وعدم الشَّكِّ، مما يدُلُّ على أنَّه لا يكفي مجرَّد التلفُّظ بها. ومن هنا أخذ العلماء من هذه الأحاديث شروط «لا إله إلا الله»، وهي ثمانية شروط: العلم، واليقين، والانقياد، والصدق، والإخلاص، والمحبة، والقبول، والكفر بما يعبد من دون الله (¬1). فهذه الشروط مستمدة من هذه الأحاديث وغيرها من نصوص الشرع. وأول هذه الأحاديث التي أوردها المؤلِّف -رحمه الله- هو حديث معاذ رضي الله عنه، وفيه أنه كان رديفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على حمار، يعني: راكباً خَلفَه، فقال: «يا معاذ»، فقال: لبيك وسعديك، ويُكَرِّرُ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذا الخطاب وهذا النداء مرات؛ ليستجمع معاذٌ ذهنَه، ولِيَتِمَّ إقبالُه، فالأمرُ عظيمٌ، ثم قال له: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً عبده ورسوله إلا حَرَّمه الله على النار»، وفي اللفظ الآخر المشهور: «حَقُّ الله على العِبَادِ أن يَعبُدوه ولا يُشرِكُوا به شَيئَاً، وحَقُّ العِبَادِ على الله عزَّ وَجَلَّ ألاَّ يُعَذِّبَ مَن لا يُشرِكُ به شَيئَاً». وهذا الحديث -بلفظيه- يوافق حديث عِتبانَ وغيرِه، وبيانُ ذلك أنَّ قولَه في هذه الرواية: «إلا حَرَّمَه الله على النَّارِ»، هو معنى قوله في الرواية ¬

_ (¬1) وهذه الشروط الثمانية جمعها بعضهم في بيتين فقال: عِلْمٌ يَقِينٌ وإِخلاَصٌ وَصِدْقُكَ مَعْ ... مَحَبَّةٍ وَانْقِيَادٍ وَالقَبُولِ لَهَا وَزِيْدَ ثَامِنُهَا الكُفْرَانُ مِنْكَ بِمَا ... سِوَى الإِلَهِ مِنْ الأَشْيَاءِ قَدْ أُلِهَا

الأخرى: «وحق العباد على الله ألاَّ يُعَذِّب من لم يشرك به شيئاً»، فالحديثُ واحِدٌ، والروايتان متفقتان في المعنى، فكأنَّ اختلاف اللفظ راجعٌ إلى الرواية بالمعنى. فشهادة: «أن لا إله إلا الله» هي معنى «حقُّ اللهِ على العِبَادِ أن يَعبُدُوه ولا يُشْرِكُوا به شَيئاً»، وهذا هو مضمون شهادة: «أن لا إله إلا الله». وشهادة «أنَّ محمداً رسول الله» تتضمن الإيمان به وبما جاء به، وأعظم ما جاء به هو «التوحيد». ولفظ «الشهادة» في قوله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِن عَبدٍ يَشهَدُ ...» يقتضي العلم والصدق واليقين، فلابد في الشهادة من العلم؛ لأن الشهادة بلا علمٍ كَذِبٌ، ولابد فيها أيضاً من الصدقِ، ولذا المنافقون لما قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم أكذبهم الله تعالى، كما في قوله جلَّ شأنه: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]. فكل هذه الأحاديث ليس فيها إطلاق الوعد بدخول الجنة أو النجاة من النار على مجرد القول، وإن ورد شيءٌ مضافٌ إلى مطلق القول فإنه مقيَّدٌ بالنصوص المتضمنة لتلك الشروط، من العلم، والإخلاص، والصدق، واليقين المنافي للشك، وغيرها من الشروط. فهذه الأحاديث فهم منها أهل العلم الدلالة على فضل التوحيد، وعظيم ثوابه وأثره، وهؤلاء هم أهل الفهم الصحيح، وسيأتي كلام المؤلِّف على هذه الأحاديث وذكر مذاهب الناس فيها (¬1). أما المرجئة فاتخذوا من هذه الأحاديث شبهة لهم، وفهموا منها أنهم يكفيهم من دين الله عز وجل أن يقولوا: «لا إله إلا الله» بألسنتهم فقط، ولم ينظروا إلى ما قُيِّدَت به من الإخلاص والصدق واليقين والانقياد الذي يقتضيه لفظ الشهادة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرتُ أن أقاتل النَّاسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ¬

_ (¬1) ص ...

وأني رسول الله» (¬1)، وقوله في حديث معاذٍ رضي الله عنه: «ما من عبد يشهد: أن لا إله إلا الله وأن محمَّدَاً عبده ورسوله ...»، وقوله في حديث عُبَادةَ رضي الله عنه: «مَن شَهِدَ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّداً رسول الله ....» فعبَّر في هذه الأحاديث بلفظ «الشهادة». ولذا فالذي يقول بلسانه «لا إله إلا الله» من غير علمٍ بمعناها، ولا يقينٍ بمقتضاها هو في الحقيقة لم يتحقَّق بحقيقة هذه الشهادة، إنما هو يقول هذه الكلمة بلسانه فقط، وليس هذا هو المطلوب من العبد في هذا الأصل العظيم، وليس هذا أيضاً هو الذي رُتِّبَ عليه الوعد من دخول الجنة، والنجاة من النار، فهذا الوعد العظيم ليس مرتباً على مجرد النطق بها مع الإتيان بكلِّ أو ببعضِ ما يَنْقُضُها. والأدلة على بطلان هذا الفهم السيئ كثيرة: - فالصحابة رضي الله عنهم قاتلوا المرتدين أتباع مسيلمة، وهم يقولون: لا إله إلا الله. - وقاتلوا مانعي الزكاة، وهم يقولون: لا إله إلا الله. - وقَتَلَ عليٌّ رضي الله عنه السَّبَئِيَّة الغلاة، وهم يقولون: لا إله إلا الله، وهكذا. وقد أوضح هذا المعنى وجَلاَّه واستشهد له ببعضِ هذه الشواهد وغيرِها الشيخُ المجدِّدُ محمَّدُ بنُ عبد الوهاب -رحمه الله- في آخر رسالته المعروفة بـ «كشف الشبهات»، فقد أبطل هذه الشبهة، شبهة غلاة المرجئة الذين يقولون: إنه يكفي في التحقق من الإسلام وعصمة الدم والمال قول: لا إله إلا الله، وقد أتى الشيخ -رحمه الله- بشواهد وأدلة قيمة مفحمة لأصحاب هذا التوجه الباطل. وسيورد المؤلِّف -رحمه الله- مذاهب أهل السنة في هذه الأحاديث، فإن هذه الأحاديث يمكن أن يَصدُق عليها أنَّها من النصوص المتشابهة، فإنَّ القرآن والحديث فيهما مُحكَمٌ ومتشابِهٌ، فيهما الواضحُ البَيِّنُ، وفيهما المتشابه المشْكِلُ معناه، وهذا كما قال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم ¬

_ (¬1) متفقٌ عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، البخاري (رقم 25)، ومسلم (رقم 22).

الكتاب وآخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران:7]. وهذا مسلك لأهل الزيغ يسلكونه في الآيات المتشابهات، وفي الأحاديث المتشابهات أيضاً، والتي منها نصوص الوعد هذه، بل وكذلك نصوص الوعيد فيها ما هو من المتشابه الذي يُشْكِلُ معناه، ولهذا وقع من الانقسام والافتراق في فهم هذه النصوص ما وقع، فهدى الله أهل السنة والجماعة -المتَّبِعين للسَّلَفِ الصالح بإحسان- إلى الحق والصواب، فرَدُّوا النصوص بعضها إلى بعض، وجمعوا بين نصوص الوعد والوعيد، وفهموا عن الله ورسوله فهماً حسناً. وأما أهل البدع والضلال من الخوارج والمعتزلة والمرجئة وغيرهم فقد ساء فهمهم لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. ولِمَا في هذا الحديث - حديثِ معاذٍ - وأمثالِه من الاشتباه نهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذَاً من أن يُحَدِّثَ به النَّاسَ، لئلا يتكلوا على هذا الوعد ويتركوا العمل؛ اعتِمَاداً عَلَى مَا يَتَبَادَر مِن ظَاهِر الحديث. ولا ريب أن المراد بـ «النَّاسِ» هنا: الناس الذين لا يحسنون فهم هذا الحديث، وفي هذا فضيلة لمعاذٍ رضي الله عنه، وشهادةٌ له بأنَّه ممن يحسن الفهم عن الله ورسوله؛ ولهذا خَصَّه النبي صلى الله عليه وسلم بالتحديث بهذا الأمر، ونهاه عن أن يُحَدِّثَ به عمومَ النَّاسِ، ولا شك أنَّ في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومٌ كثيرٌ ممن هو في منزلة معاذٍ وفوقها. ولهذا أبو هريرة رضي الله عنه لما أَخبَر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى أنكر عليه عمر رضي الله عنه أن يُحَدِّثَ به، واستثبتَ منه الحديثَ، حتى رجع أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي عمر، فذكر له عمرُ أنَّه يخاف على الناس أن يتَّكِلُوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَلِّهِم يَعمَلُون» (¬1). ¬

_ (¬1) والقصة أخرجها الإمام مسلم (رقم 31)، ولفظه: عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا قُعُوداً حَولَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَنَا أَبُو بَكرٍ وَعُمَرُ في نَفَرٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِن بَينِ أَظهُرِنَا فَأَبطَأَ عَلَينَا، وَخَشِينَا أَن يُقتَطَعَ دُونَنَا، وَفَزِعنَا فَقُمنَا، فَكُنتُ أَوَّلَ مَن فَزِعَ، فَخَرَجتُ أَبتَغِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَتَيتُ حَائِطاً لِلأَنصَارِ لِبَنِي النَّجَّارِ، فَدُرتُ بِهِ هَل أَجِدُ لَهُ بَاباً فَلَم أَجِد، فَإِذَا رَبِيعٌ يَدخُلُ في جَوفِ حَائِطٍ مِن بِئرٍ خَارِجَةٍ - وَالرَّبِيعُ الجَدوَلُ - فَاحتَفَزتُ كَمَا يَحتَفِزُ الثَّعلَبُ، فَدَخَلتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَبُو هُرَيرَةَ؟!». فَقُلتُ: نَعَم يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «مَا شَأنُكَ؟». قُلتُ: كُنتَ بَينَ أَظهُرِنَا فَقُمتَ فَأَبطَأتَ عَلَينَا فَخَشِينَا أَن تُقتَطَعَ دُونَنَا فَفَزِعنَا فَكُنتُ أَوَّلَ مَن فَزِعَ فَأَتَيتُ هَذَا الحَائِطَ فَاحتَفَزتُ كَمَا يَحتَفِزُ الثَّعلَبُ وَهَؤُلاَءِ النَّاسُ وَرَائِي فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيرَةَ» -وَأَعطَانِي نَعلَيهِ- قَالَ: «اذهَب بِنَعلَيَّ هَاتَينِ فَمَن لَقِيتَ مِن وَرَاءِ هَذَا الحَائِطِ يَشهَدُ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُستَيقِناً بِهَا قَلبُهُ فَبَشِّرهُ بِالجَنَّةِ» فَكَانَ أَوَّلَ مَن لَقِيتُ عُمَرُ فَقَالَ: مَا هَاتَانِ النَّعلاَنِ يَا أَبَا هُرَيرَةَ؟. فَقُلتُ: هَاتَانِ نَعلاَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنِي بِهِمَا مَن لَقِيتُ يَشهَدُ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُستَيقِناً بِهَا قَلبُهُ بَشَّرتُهُ بِالجَنَّةِ. فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَينَ ثَديَيَّ فَخَرَرتُ لإِستِي، فَقَالَ: ارجِع يَا أَبَا هُرَيرَةَ، فَرَجَعتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجهَشتُ بُكَاءً، وَرَكِبَنِي عُمَرُ فَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِي، فَقَالَ لي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيرَةَ؟». قُلتُ: لَقِيتُ عُمَرَ فَأَخبَرتُهُ بِالَّذِي بَعَثتَنِي بِهِ فَضَرَبَ بَينَ ثَديَيَّ ضَربَةً خَرَرتُ لإستِي، قَالَ: ارجِع، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا عُمَرُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلتَ؟». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنتَ وَأُمِّي أَبَعَثتَ أَبَا هُرَيرَةَ بِنَعلَيكَ مَن لَقِيَ يَشهَدُ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُستَيقِناً بِهَا قَلبُهُ بَشَّرَهُ بِالجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَم». قَالَ: فَلاَ تَفعَل فَإِنِّي أَخشَى أَن يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيهَا فَخَلِّهِم يَعمَلُونَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَخَلِّهِم».

فكثير من الناس إذا سمعوا هذا الوعد حملهم ذلك على التقصير في العمل اعتماداً عليه، بخلاف أهل العلم والإيمان والبصيرة، فإنه لا تحملهم نصوص الوعد والفضل والفضائل إلا على مضاعفة الجهد والاجتهاد في العبادة. فالعشرة المبشرون بالجنة رضي الله عنهم لم تزدهم هذه البشارة إلا جِدَّاً واجتهاداً، وهكذا أمثالهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، لا يأخذون من هذه البشائر ما يحملهم على البطالة والإخلاد إلى الدَّعَة، والتقصيرِ في الواجبات، بل لا يحملهم ذلك على التقصير حتى في الفضائل والنوافل والمستحبات، بل هم يعلمون أن ما بُشِّرُوا به من دخول الجنة إنما كان ذلك بالأعمال التي جعلها الله سبباً لبلوغ هذه المنازل.

قال ابن رجب رحمه الله

Wوَأَحَادِيثُ هَذَا البَابِ نَوعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا فِيهِ أَنَّ مَن أَتَى بِالشَّهَادَتَينِ دَخَلَ الجَنَّةَ، أَو لَم يُحجَب عَنهَا؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ النَّارَ لا يُخَلَّدُ فِيهَا أَحَدٌ مِن أَهلِ التَّوحِيدِ الخَالِصِ، وَقَد يَدخُلُ الجَنَّةَ وَلا يُحجَبُ عَنهَا إِذَا طُهِّرَ مِن ذُنُوبِهِ بِالنَّارِ. وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ مَعنَاهُ: أَنَّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ لا يَمنَعَانِ دُخُولَ الجَنَّةِ مَعَ التَّوحِيدِ، وَهَذَا حَقٌّ لا مِريَةَ فِيهِ، لَيسَ فِيهِ أَنَّهُ لا يُعَذَّبُ يَوماً عَلَيهِمَا مَعَ التَّوحِيدِ. وفِي مُسنَدِ البَزَّارِ عَن أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه مَرفُوعاً: «مَن قَالَ: «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» نَفَعَتهُ يَوماً مِن دَهرِهِ، يُصِيبُهُ قَبلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ» (¬1). وَالثَّانِي: مَا فِيهِ أَنَّهُ يَحرُمُ عَلَى النَّارِ، وَهَذَا قَد حَمَلَهُ بَعضُهُم عَلَى الخُلُودِ فِيهَا، أَو عَلَى نَارٍ يُخَلَّدُ فِيهَا أَهلُهَا، وَهِيَ مَا عَدَا الدَّرْكِ الأَعلَى، فَإِنَّ الدَّرْكَ الأَعلَى يَدخُلُهُ خَلقٌ كَثِيرٌ مِن عُصَاةِ المُوَحِّدِينَ بِذُنُوبِهِم، ثُمَّ يَخرُجُونَ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، وَبِرَحمَةِ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ. وَفي «الصَّحِيحَينِ» أَنَّ اللَّهَ -تَعَالى- يَقُولُ: «وَعِزَّتِي وَجَلالِي لأُخْرِجَنَّ مِن النَّارِ مَن قَالَ: «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ»» (¬2). --- ¬

_ (¬1) أخرجه البزار في «مسنده» (15/ 66 رقم 8292)، وابن حبان في «صحيحه» (7/ 272 رقم 3004)، والطبراني في «الأوسط» (6/ 273 رقم 6396)، وإسناده صحيحٌ. (¬2) متفقٌ عليه من حديث أنسٍ رضي الله عنه؛ البخاري (رقم 7510)، ومسلم (رقم 500)، وهو جزءٌ من حديث الشفاعة الطويل.

الشرح

Q ساق المؤلِّف رحمه الله جملةً من الأحاديث -كما تقدَّم- مما يدل على فضل التوحيد، وجزاء أهله، وذلك بتحريمهم على النار، ودخولهم الجنة، وأنهم لا يُحجَبُون عنها. وقد ذكرتُ سابقاً أنَّ لهذه النصوص نظائرَ كثيرة، وهي -مع نصوص الوعيد- تعتبر من نوع المتشابه الذي يشتبه معناه ويخفى على بعض الناس، ولهذا وقع بسببها ما وقع من الافتراق والانقسام في فهمها على وجهها. فَضَلَّ بهذه الأحاديث أهل الإرجاء، سواء كان هذا الإرجاء مُؤصَّلاً على اعتقاد في مفهوم الإيمان وحقيقته، أو كان من الشُّبَه التي يُلقيها الشيطانُ في نفوسِ بعضِ العصاة، وإن لم يكونوا ممن يعتقد مذهب المرجئة. فكثيرٌ من عصاة أهل السنة -ممن لا يقولون أو يعتقدون أو حتى يعرفون مذهب المرجئة في الإيمان- إذا سمعوا مثل هذه الأحاديث ألقى الشيطان في نفوسهم التهاون بالمعاصي، وفهموا من ذلك أن معاصيهم لا تضرهم، وأن توحيدهم يمنعهم من العذاب، ويوجب لهم دخول الجنة، وهذا ولا شك جهلٌ واغترارٌ؛ جهلٌ بالمراد من هذه النصوص، واغترارٌ برحمة الله ومغفرته. وهذا المعنى أيضاً ينسحب على الأحاديث الأخرى التي فيها أنَّ مَن فَعَلَ كذا دخل الجنة، أو مَن فعل كذا وقاه الله النَّار، من مثل حديث: «مَن صلَّى البَردَينِ دَخَلَ الجَنَّةَ» (¬1)، وحديث: «إن لله تسعةً وتسعينَ اسماً، مائة إلا واحد، من أحصاها دخل الجنة» (¬2)، وحديث: «مَا مِنكُنَّ امرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاَثَةً مِن وَلَدِهَا إِلاَّ كَانَ لَهَا حِجَاباً مِنَ النَّارِ» (¬3)، وحديث: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمرَةٍ» (¬4) ونحوها من الأحاديث. ¬

_ (¬1) متفقٌ عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ البخاري (رقم 574)، ومسلم (رقم 1470). (¬2) متفقٌ عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ البخاري (رقم 2736)، ومسلم (رقم 6986). (¬3) متفقٌ عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ البخاري (رقم 101)، ومسلم (رقم 6868). (¬4) متفقٌ عليه من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه؛ البخاري (رقم 6023)، ومسلم (رقم 2396).

فقد يظن بعضُ النَّاس أنَّه بمجرَّد قيامِه بعملٍ من هذه الأعمال أنه يدخل الجنة، أو تكون له حجاباً من النار، ولو اقترف من الذنوب والمعاصي ما اقترف، ولا شك أن هذا فهمٌ خاطئٌ لهذه النصوص. فنصوص الوعد ضَلَّ بها المرجئة، وضَلَّ بها أيضاً جهلة العصاة من أهل السنَّة، فأخطؤوا في الفهم، ولَبَّس عليهم الشيطان، وزَيَّنَ لهم أن ما يقومون به من أعمال صالحة أنها تَعصِمُهم من الوعيد المرَّتب على معاصيهم. فمن سوء الفهم مثلاً ظَنُّ بعض الناس أنَّه إذا صَلَّى الجمعة، فإنَّ صلاته تكفِّرُ عنه ما بينها وبين الجمعة الأخرى وفَضلِ ثَلاثة أيام، كما جاء في الحديث الصحيح (¬1)، وهذا حقٌّ ولكن ليس كما يظن هذا الجاهل أن صلاته الجمعة تكفيه عن أداء بقية الصلوات، وتوجب له مغفرة ما يقترفه من كبائر الذنوب. فأحاديث الوعد بمغفرة الذنوب المرتَّبِ على الأعمال الصالحة هي محمولةٌ عند أهل العلم على مغفرة الصغائر دون الكبائر، كما جاء النص بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «الصَّلَوَاتُ الخَمسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَينَهُنَّ مَا اجتُنِبَتِ الكَبَائِرُ» (¬2)، وفي الحديث الآخر: «مَا مِنِ امرِئٍ مُسلِمٍ تَحضُرُهُ صَلاَةٌ مَكتُوبَةٌ، فَيُحسِنُ وُضُوءَهَا، وَخُشُوعَهَا، وَرَكُوعَهَا، إِلاَّ كَانَت كَفَّارَةً لِمَا قَبلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ، مَا لَم يُؤت كَبِيرَةً، وَذَلِكَ الدَّهرَ كُلَّهُ» (¬3). فالذي يظن أنَّ محافظتَه على الصلوات، أو إتيانَه بالعمرة يُكَفِّر عنه ما يقترفه من كبائر الذنوب؛ من الزِّنا، وشرب الخمر، وأكل الربا، وعقوق الوالدين، وما أشبه ذلك = لا شك أنَّه مغرورٌ مَخدوعٌ، وهذا من الجهل ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 857) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، ولفظه: «مَن اغتَسَلَ ثُمَّ أتى الجُمُعَةَ فَصَلَّى مَا قُدِّرَ له ثم أَنصَتَ حتَّى يَفْرغَ من خُطْبَتِهِ ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ غُفِرَ لَه مَا بَينَهُ وبَينَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى وَفَضْلِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ». (¬2) أخرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 574) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (¬3) أخرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 565) من حديث عثمان بن عفَّان رضي الله عنه.

والاغترار بمغفرة الله، ومن سوء الفهم لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم بعد هذا انتقل المؤلِّف -رحمه الله- للكلام على هذه الأحاديث، فقَسَّمَها إلى نوعين: النوع الأول: ما فيه الوعد بدخول الجنة، وأنَّ مَن أتى بشهادة التوحيد بصدقٍ وإخلاصٍ ويقينٍ دَخَلَ الجنَّة أو لم يُحجَب عن الجنَّة، وهذا النوع من الأحاديث لا إشكال فيه؛ لأنه ليس فيه نفي أنه يعذب على قدر ذنوبه، أو أنه يُعَذَّبُ ما شاء الله له أن يُعَذَّب ثم يُخرَجُ من النار، إنما فيها الإخبار بدخول الجنة فحسب. والموحِّدُون وإن عُذِّبُوا فمصيرهم ومآلهم ونهايتهم إلى الجنَّة، فهذه الأحاديث لا إشكال فيها، ولا متمسك فيها للمرجئة. لكن الأحاديث التي فيها الإشكال، والشبهة فيها أظهر، هي أحاديث النوع الثاني وهي الأحاديث التي فيها التصريح بنفي العذاب، كحديث: «وَحَقُّ العِبَادِ على اللهِ ألاَّ يُعَذِّبَ مَن لاَ يُشرِكُ بِهِ شَيئاً»، أو فيها ذكر التحريم على النار، كحديث: «إنَّ الله حَرَّمَ على النَّارِ مَن قال: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله». ثم أورد المؤلِّف -رحمه الله- مذاهب أهل السنة -القائلين بأنَّ أهلَ الكبائر مستحقون للوعيد- في الجواب عن هذه الأحاديث، فذكر أنَّ منهم: - مَن حمل هذه الأحاديث المتضمنة لنفي العذاب أو التحريم على النار على أن المراد بذلك نفي الخلود فيها، فقالوا في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله حَرَّمَ على النَّارِ مَن قال: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله» يعني: حَرَّمَ عليه الخلود فيها. - ومنهم مَن قال بأن النار المحرَّم دخولها في هذه الأحاديث هي نار الكافرين لا نار العصاة من الموحِّدِين. فالنَّارُ مراتب ودركات، والنار المعدَّة للكافرين هي نار الخلود، وهي التي حرَّمها الله على أهل التوحيد، وحرَّمهم عليها، وأما النار المعدَّة لعصاة

الموحِّدين فهي للتطهير لا للخلود فيها، قالوا: وهذه النار ليست مرادة في هذه الأحاديث. وهذا الجواب ليس بالبَيِّن؛ لأنَّ اسم النار شاملٌ لكل دركاتها، كيف وفي بعض نصوص الوعيد ذكر الخلود؟ كما في قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} [النساء:93].

قال ابن رجب رحمه الله

Wوقَالَت طَائِفَةٌ من العُلَمَاءِ: المَرَادُ مِن هَذِهِ الأَحَادِيثِ: أَنَّ «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» سَبَبٌ لِدُخُولِ الجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِن النَّارِ وَمُقتَضٍ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ المُقتَضِي لا يَعمَلُ عَمَلَهُ إِلاَّ بِاستِجمَاعِ شُرُوطِهِ وَانتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، فَقَد يَتَخَلَّفُ عَنهُ مُقتَضَاهُ لِفَوَاتِ شَرطٍ مِن شُرُوطِهِ، أَو لِوُجُود مَانِعٍ؛ وَهَذَا قَولُ الحَسَنِ وَوَهبِ بنِ مُنَبِّهٍ, وَهُوَ الأَظهَرُ. وَقَالَ الحَسَنُ لِلفَرَزدَقِ -وَهُوَ يَدفِنُ امرَأَتَهُ-: مَا أَعدَدتَ لِهَذَا اليَومِ؟ قَالَ: شَهَادَةُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُنذُ سَبعِينَ (¬1) سَنَةً. قَالَ الحَسَنُ: نَعَم (¬2)، إِنَّ لِـ «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» شُرُوطاً فَإِيَّاكَ وَقَذفَ المُحصَنَةِ (¬3). [وَرُوِيَ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ لِلفَرَزدَقِ: هَذَا العَمُودُ، فَأَينَ الطُّنُبُ؟ (¬4)] (¬5). وَقِيلَ لِلحَسَنِ: إِنَّ نَاسَاً يَقُولُونَ: مَن قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الجَنَّةَ؟ فَقَالَ: مَن قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَأَدَّى حَقَّهَا وَفَرْضَهَا دَخَلَ الجَنَّةَ (¬6). ¬

_ (¬1) في جميع مصادر القصة: «ثمانين». (¬2) في نسخة (ب): [نِعْمَ العُدَّة، لَكِن إنَّ لـ «لا إله إلا الله» ...]. (¬3) رواها البلاذري في «أنساب الأشراف» (12/ 77)، والشريف المرتضى في «أماليه» (1/ 65). (¬4) «أمالي المرتضى» الموضع السابق. (¬5) ما بين المعقوفتين ساقطٌ في نسخة (ب). (¬6) أخرجه أبو القاسم الأصبهاني في «الحُجَّة في بيان المحجَّة» (2/ 158).

الشرح

وَقَالَ وَهبُ بنُ مُنَبِّهٍ لِمَن سَأَلَهُ: أَلَيسَ «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» مِفتَاحُ الجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِن مَا مِن مِفتَاحٍ إِلاَّ وَلَهُ أَسنَانٌ، فَإِن جِئتَ بِمِفتَاحٍ لَهُ أَسنَانٌ فَتَحَ لَكَ، وَإِلاَّ لَم يَفتَح لَكَ (¬1). وَهَذَا الحَدِيثُ:» إِنَّ مِفتَاحَ الجَنَّةِ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ «خَرَّجَهُ الإِمَامُ أَحمَدُ (¬2) بِإِسنَادٍ مُنقَطِعٍ عن مُعَاذٍ قَالَ: قَالَ لي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:» إِذَا سَأَلَكَ أَهلُ اليَمَنِ عَن مِفتَاحِ الجَنَّةِ؟ فَقُل: شَهَادَةُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ «(¬3). Qفي هذا المقطع ذكر المؤلِّفُ -رحمه الله- القولَ الثاني في الجواب عن أحاديث تحريم من قال: «لا إله إلا الله» على النار، أو تحريم النار عليه، أو نفي العذاب عنه = وهو أنَّ المراد من هذه الأحاديث أنَّ التوحيد سَبَبٌ مقتضٍ لدخول الجنَّة والنَّجاة من النَّار، وكلُّ سببٍ شرعيٍّ أو كونيٍّ فإنَّه يَتَوقَّف تأثيرُه وحصولُ مقتضاه على وجود الشروط وانتفاء الموانع، فمتى فُقِدَ الشَّرطُ أو وُجِدَ المانِعُ لم يعمل السببُ عَمَلَه، ولم يتحقق مقتضاه. ثم ذكر المؤلِّف -رحمه الله- أنَّ هذا القول هو الأظهر، ونَسَبَه للحسن البصري، ووهب بن منبه رحمهما الله، ونِسْبِتُه هذا القولَ إليهما لا لاختصاصهما بهذا المعنى، لكن لوجود تلك الآثار عنهما. فالحسن -رحمه الله- يُبَيِّنُ أنَّه لا يكفي مجرد النطق بـ «لا إله إلا الله»، بل لا بد ¬

_ (¬1) علَّقه البخاري في «صحيحه» [كتاب الجنائز - باب مَن كان آخر كلامه «لا إله إلا الله»]، ووصله إسحاق بن راهويه في «مسنده» -كما في «المطالب العالية» (رقم 2893) -، وإسناده حسنٌ كما قال ابن حجر. (¬2) «المسند» (رقم 22102)، وأخرجه أيضاً البزار في «مسنده» (رقم 2660)، وضَعَّفه ابنُ حجر في "تغليق التعليق" (2/ 454). (¬3) أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (رقم 192) وإسناده ضعيفٌ.

-مع ذلك- من معرفة معناها، والتحقُّق بمقتضاها، ولذا لَمَّا قال للفرزدق: ما أعددتَ لهذا اليوم؟ أجابه الفرزدق بقوله: شهادةَ «أن لا إله إلا الله» منذ سبعين سنة، فقال له الحسن: نَعَم، -وفي بعضِ النُّسَخ: نِعْمَ العُدَّة-، وهذا صحيحٌ، فإن شهادة أن «لا إله إلا الله» هي الأصل، وهي نِعمَ العُدَّة، ولكن لا بد -مع ذلك- من الحذر من معاصي الله، ولذا قال له الحسن محذِّراً: (إياكَ وقَذْفَ المحصَنَة) (¬1)، وذلك ليبَيِّن له أن هذا لا يُسَوِّغُ له الجرأة على المعاصي وانتهاك الحُرُمات. وكذلك قوله -رحمه الله- له: (هذا العمودُ، فأين الطُّنُبُ؟)، وهذا من باب التمثيل، ومثله أيضاً قول وهب بن مُنَبِّه في شأن المفتاح كما سيأتي. فالفسطاطُ أو الخيمةُ لا تقوم إلا بالعمود مع الطُّنُبُ، فإذا سقط العمود لم تُفِد الطُّنُبُ شيئاً, وإن وُجِدَ العمود ولم توجد الطُّنُبُ لم ينفع العمودُ، فالخيمة يتوقف الانتفاع بها على العمودِ وعلى الطُّنُبِ معاً، فباجتماعهما يحصل الانتفاع والاستظلال. وهكذا الأثر الذي نقله المؤلِّف -رحمه الله- عن وهب بن مُنَبِّه، وهو كلامٌ جَيِّد أيضاً، فإنه لما قيل له: أليس «لا إله إلا الله» مفتاح الجنة؟، قال: بلى، ولكن ما من مفتاحٍ إلا وله أسنانٌ، فإن جئتَ بمفتاحٍ له أسنان فُتِحَ لك, وإلا لم يُفتَح لك (¬2). فالشيء الذي هو سَبَبٌ، لا يتحقق مقتضاه إلا بوجود الشروط وانتفاء الموانع، وهذا الجواب من وهب بن مُنَبِّه جوابٌ محكمٌ، ينتفع به الباحث في ¬

_ (¬1) إنما خصَّه بالنهي عن قذف المحصنة لِمَا عَرَفَ عنه من الإقذاع في هجاء خصومه، وربما جَرَّه ذلك إلى الوقيعة في نسائهم، وقذفهنَّ بما ليس فيهنَّ. (¬2) قال الشارح -حفظه الله-: هذا النوع من المفاتيح معروفٌ وقد أدركناه قديماً، فالأبواب الخشبية القديمة يكون لها سَكَر من الخشب يسمَّى مجرى، والمفتاحُ نفسُه عبارةٌ عن خَشَبةٍ فيها أعوادٌ تسمَّى أسنان، إذا فُقِدَ واحدٌ منها لم يَفتَح؛ لأنَّ هذه الأسنانَ ترفَعُ الأعوادَ التي تَمنَع الخشبةَ المعتَرِضَة التي تَحبِسُ البابَ وتمنَعُه من الحركةِ، فترفع أسنانُ المفتاحِ هذه الأعوادَ فتتحرك الخشبة المعترضة فينفتح الباب.

أمورٍ كثيرةٍ، واستقرئ هذا في الأمور الكونية، كما في مسألة مفتاح الباب, واستقرئه أيضاً في الأمور الشرعية، حتى في نصوص الوعيد اعتَبِر هذا، فمثلاً جاء الوعيد في شأن القاتل: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} [النساء:93]، وجاء في شأن الفارِّ من الزحف: {يا أيها الذين آمنوا إذا لاقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} [الأنفال:15] ونظائرُ هذا كثيرةٌ في نصوصِ الوعدِ والوعيدِ. فالأمورُ التي رُتِّبَ عليها الوَعدُ للأعمالِ الصالحةِ أو الوعيدِ على المعاصي كلُّها تقتضي أنَّ هذا الفعلَ سَبَبٌ مقتَضٍ لما رُتِّبَ عليه من ثوابٍ أو ما رُتِّبَ عليه من عقابٍ, والسَّبَبُ لا يتحقَّقُ مقتضَاه إلا بوجود الشُّرَوط وانتفاء الموانع. فهذه قاعدةٌ مهمةٌ نافعةٌ في أمورٍ كثيرةٍ، وترفع كثيراً من الإشكالات، ففي المثال الذي ذكرتُه آنفاً من الوعيد في حقِّ القاتل المتعمِّد، فإنَّ قَتلَ المؤمنِ عَمدَاً سَبَبٌ مقتضٍ لدخول النَّار والخلودِ فيها، ولكن دلت نصوصٌ أخرى على أنَّ هناك ما يمنع من ذلك، فالتوبة مانعٌ من هذا الوعيد باتفاق المسلمين، والتوحيدُ أيضاً مانعٌ من الخلود في النَّار باتفاق أهل السنَّة. فهذا الذنبُ العظيمُ سَبَبٌ مقتضٍ للعذاب، وهو مع ذلك مقيَّدٌ بمشيئة الله، كما قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. فعلمنا حينئذٍ أنَّ هذا الوعيد معلَّقٌ على المشيئة، فجائزٌ أن يغفرَ الله لهذا القاتِلِ بما شاء من الأسباب، ولا يُدخِلَهُ النَّار، فيغفر له ويتجاوز عنه ويُرضِي عنه المقتولَ، وقد يكون لهذا القاتل من الأعمال الصالحة ما يقتضي مغفرةَ الله له ونجاتََه من العذاب. فشهادةُ التوحيدِ -كما قال المؤلِّف- ما هي إلا سَبَبٌ مقتضٍ لدُخولِ

الجنَّةِ والنَّجاةِ من النَّارِ، ولكنَّ المُقتَضِي لا يعمَلُ عَمَلَهُ إلاَّ باستِجمَاعِ شرُوطِهِ وانتِفاءِ موانِعِهِ. فشروط «لا إله إلا الله» التي استنبطها أهل العلم - وهي: العلم، والقبول، والصدق، والإخلاص، والمحبة، والانقياد، واليقين، والكفر بما يعبد من دون الله - هي في الحقيقة تقتضي أنه لا يكفي مجرَّد النطق بها، بل لا يتحقق مقتضى هذه الكلمة العظيمة إلا باستيفاء هذه الشروط كلِّها، وكلُّ واحدٍ من هذه الشروط له ضِدٌّ لا بد من انتفائه. وهذه الشروط إذا تحقَّقت في قلبِ العبدِ على الوجهِ الأكملِ فإنَّها تمنَعُه من الإصرارِ على كبيرةٍ, أو على تَركِ واجبٍ؛ لأنَّ هذه المعاني إذا تحقَّقت في القلبِ على الوجهِ الأكملِ أثمرَت ثمراتها، كما قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا} [الأنفال:2 - 4]. فمن حَصَلَ له العلمُ التامُّ واليقينُ والصدقُ والإخلاصُ لله والمحبةُ لما دَلَّت عليه هذه الكلمةُ العظيمةُ، هل تراه يُصِرُّ على شيءٍ من المعاصي؟! لا شك أنَّ تحقُّق هذه الشروط على الوجهِ الأكملِ يوجبُ الامتناعَ عن الإقدامِ على المعصية، وإن حَصَلت الهفوة فإنها تمنع من الإصرار عليها، لكن قد تضعف هذه المعاني فيحصل النقص والخلل، ويقع التقصير في العمل.

قال ابن رجب رحمه الله

Wوَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا القَولِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَتَّبَ دُخُولَ الجَنَّةِ عَلَى الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ في كَثِيرٍ مِن النُّصُوصِ، كَمَا فِي «الصَّحِيحَينِ» عَن أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخبِرنِي بِعَمَلٍ يُدخِلُنِي الجَنَّةَ. فَقَالَ: «تَعبُدُ اللَّهَ لا تُشرِكُ بِهِ شَيئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ» (¬1). وَفي «صَحِيحِ مُسلِمٍ» عَن أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلى عَمَلٍ إِذَا عَمِلتُهُ دَخَلتُ الجَنَّةَ. قَالَ: «تَعبُدُ اللَّهَ لا تُشرِكُ بِهِ شَيئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ المَكتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ المَفرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ»، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيئاً، وَلا أَنقَصُ مِنهُ. فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَن سَرَّهُ أَن يَنظُرَ إلى رَجُلٍ مِن أَهلِ الجَنَّةِ فَليَنظُر إِلى هَذَا» (¬2). Qهذه الأحاديث موافقة لما في القرآن العظيم، فالله تعالى في آيات كثيرة إنما رَتَّبَ دخولَ الجنَّة على الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:82]، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُم وَحُسنُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (رقم 1332)، ومسلم (رقم 13). (¬2) أخرجه مسلم (رقم 14).

مَآبٍ} [الرعد:29]، وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُم جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقنَا مِن قَبلُ} [البقرة:25]، وقال تعالى: {وَمَن يَأتِهِ مُؤمِنًا قَد عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى (75) جَنَّاتُ عَدنٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى} [طه:75 ـ 76]. والآيات في هذا المعنى كثيرة، فدخولُ الجنَّة مرَتَّبٌ على الإيمان والعمل الصالح. وهذه الأحاديث التي سُئِلَ فيها الرسول صلى الله عليه وسلم عمَّا يُدْخِلُ الجنَّة ويُبَاعِدُ عن النَّار لم يقتصر في الجواب عن ذلك على قوله للسائل مثلاً: «قل: لا إله إلا الله» فقط، بل قال له: «تعبدُ الله ولا تشركُ به شيئاً»، أي: تخلص في العبادة لله، وهذا الجواب هو معنى «لا إله إلا الله»، ثم قال له أيضاً: «وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرَّحِم»، فجمع في جوابه هذا بين التوحيد والعمل الصالح. ومن هذا الجنس أيضاً حديث معاذ المشهور الذي أخرجه الترمذي وغيره، -وهو من أحاديث «الأربعين النووية» -، قال: قلتُ: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: «لقد سَأَلتَ عن عَظِيمٍ، وإنَّهُ لَيَسِيرٌ على مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيهِ، تَعبُدُ الله وَلا تُشْرِكُ بِهِ شَيئاً، وتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيتَ» (¬1)، فذكر له أصول الإسلام ومبانيه العظام، وجعل ذلك هو السبب في دخول الجنة والنجاة من النار، فلم يقصر جوابه على قوله: «تعبد الله ولا تشرك به شيئاً» مع أن قوله: «تعبد الله ولا تشرك به شيئاً» يقتضي العمل، ويقتضي إخلاص العبادة لله وحده. فهذه الأحاديث موافقة لما جاء في القرآن تمام الموافقة. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في «جامعه» (رقم 2616)، وابن ماجه في «سننه» (رقم 3973)، والإمام أحمد في «المسند» (رقم 22016)، وغيرهم. والحديث بمجموع طرقه ثابتٌ محفوظٌ، قال الترمذي: (هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ)، وصحَّحه العلامة ابن القيم في «إعلام الموقعين» (4/ 259) وغيره.

قال ابن رجب رحمه الله

Wوفي «المُسنَدِ» عَن بَشِيرِ بنِ الخَصَاصِيَةِ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لأُبَايِعَهُ فَاشتَرَطَ عَليَّ: شَهَادَةَ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَن أُقِيمَ الصَّلاةَ، وَأَن أُوتِيَ الزَّكَاةَ، وَأَن أَحُجَّ حَجَّةَ الإِسلامِ، وَأَن أَصُومَ رَمَضَانَ، وَأَن أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا اثنَتَينِ فَوَاللَّهِ ما أُطِيقُهُمَا: الجِهَادُ والصَّدَقَةُ (¬1)، فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ ثُمَّ حَرَّكَهَا، وَقَالَ: فلا جِهَادَ وَلا صَدَقَةَ!، فَبِمَ تَدخُلُ الجَنَّةَ إِذاً?!، قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أُبَايِعُكَ، فَبَايَعتُهُ عَلَيهِنَّ كُلِّهِنَّ (¬2). فَفِي هَذَا الحَدِيثِ أَنَّ الجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ شَرطٌ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ مَعَ حُصُولِ التَّوحِيدِ وَالصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالحَجِّ. Qهذا الحديث من جنس ما قبله في اعتبار الأعمال، ولا سيما أركان الإسلام العظام؛ الصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد. ¬

_ (¬1) ورد في مصادر التخريج بيانُ سببِ عدمِ إطاقته رضي الله عنه للجهاد والصدقة فقال رضي الله عنه: «فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ مَنْ وَلَّى الدُّبُرَ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ، فَأَخَافُ إِنْ حَضَرْتُ تِلْكَ جَشِعَتْ نَفْسِي، وَكَرِهَتِ الْمَوْتَ، وَالصَّدَقَةُ - فَوَاللَّهِ - مَا لي إِلاَّ غُنَيْمَةٌ وَعَشْرُ ذَوْدٍ، هُنَّ رَسَلُ أَهْلِي وَحَمُولَتُهُمْ» وهذا لفظ أحمد. (¬2) أخرجه أحمد في «المسند» (رقم 21952)، والمروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (رقم 450)، والطبراني في «الكبير» (2/ 44)، والحاكم في «المستدرك» (2/ 79) وقال: (هذا حديثٌ صحيحُ الإسنادِ ولَم يُخرِّجاهُ).

ففي هذا الحديث جاء بشير بن الخصاصية رضي الله عنه لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم، فاشترط عليه في المبايعةِ الالتزامَ بالشهادتين وسائرَ أركان الإسلام، وأضاف إليها الجهاد، فأبدى رضي الله عنه استعدادَه للمبايعةِ على كلِّ ما ذُكِرَ إلا الجهاد والصدقة -والمراد بها هنا: الزكاة-، فما كان من النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلا أن قَبَضَ يدَه، وامتنعَ من مبايعته، وقال له: «لا جهاد ولا صدقة، فبِمَ تَدخُلُ الجنَّة إذاً؟!». فتبين بهذا أن المقصود من هذه المبايعة أن يلتزم المسلم بهذه الأمور المذكورة، فمن امتنع أن يلتزم بالزكاة أو بالجهاد فمعنى هذا عدم قبوله لهاتين الشعيرتين، والفريضتين العظيمتين، و «الزكاة» وإن كانت فرض عين على من تحقَّقَت فيه الشروط، وكذلك «الجهاد» الأصل فيه أنه فرض كفاية، لكن لابد مع هذا من الالتزام بشرائع الإسلام كلها. ولذا لَمَّا رأى بشيرٌ رضي الله عنه أنه لابد من المبايعة والالتزام بجميع ما ذُكِرَ من الشرائع، وأن «الصدقة» و «الجهاد» من الأهمية في الدِّين بمكان، راجَعَ نفسَه واستجاب لما عَرَضَ عَليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وبايع على الالتزام بكل هذه المذكورات. وعلى هذا فمن دخل في الإسلام وعُرِضَت عليه شرائعه، وقال: أنا لا أقبل من الإسلام إلا كذا وكذا، فإنه لا يكون مسلماً حينئذٍ، بل لا بد أن يلتزم بشرائع الإسلام كلها, وذلك بالإيمان بها، وعَقْدِ العَزْم على القيام بها؛ لأن كثيراً من هذه الشرائع والواجبات لم يتهيأ القيام بها عند المبايعة، فالحج له وقت، والصيام له وقت، والجهاد يتوقف على وجود أسبابه، والصدقة أيضاً تتوقف على وجود المقتضي لها، وهو مِلكُ المال ومِلكُ النِّصَاب، ولكنَّ الأمرَ المتَحَتِّم في هذا المقام هو الالتزام بها، وذلك بالإقرار بوجوبها، وعَقْدِ العزم على القيام بها. فعدم الالتزام ببعض شرائع الإسلام معناه عدم الإقرار بها، وعدم التفكير في عملها، ومثل هذا لا يكون مسلماً، لابد لمن أراد أن يدخل الإسلام أن يشهد الشهادتين ويلتزم ببقية الشرائع.

قال ابن رجب رحمه الله

Wوَنَظِيرُ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشهَدُوا أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ» فَفَهِمَ عُمَرُ وَجَمَاعَةٌ مِن الصَّحَابَةِ أَنَّ مَن أَتَى بِالشَّهَادَتَينِ امتَنَعَ مِن عُقُوبَةِ الدُّنيَا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، فَتَوَقَّفُوا في قِتالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَفَهِمَ الصِّدِّيقُ أَنَّهُ لا يَمتَنِعُ قِتَالُهُ إِلا بِأَدَاءِ حُقُوقِهَا، لِقَولِهِ صلى الله عليه وسلم «فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ مَنَعُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَموَالَهُم إِلا بِحَقِّهَا [وحِسَابُهُم على الله]» وَقَالَ: الزَّكَاةُ حَقُّ المَالِ (¬1). وَهَذَا الَّذِي فَهِمَهُ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه قَد رَوَاهُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم [صريحاً] جَمَاعَةٌ مِن الصَّحَابَةِ، مِنهُم: ابنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ وَغَيرُهُمَا (¬2)، وَأَنَّهُ قَالَ: «أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشهَدُوا أَن لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ». وَقد دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَولُهُ تَعَالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} [التوبة:5]. كَمَا دَلَّ قَولُهُ تَعَالَى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} [التوبة:11] عَلَى أَنَّ الأُخُوَّةَ في الدِّينِ لا تَثبُتُ إِلا بِأَدَاءِ الفَرَائِضِ مَعَ التَّوحِيدِ، فَإِنَّ التَّوبَةَ مِن الشِّركِ لا تَحصُلُ إِلا بِالتَّوحِيدِ. ¬

_ (¬1) متفقٌ عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري (رقم 1335)، ومسلم (رقم 20). (¬2) حديث ابن عمر رضي الله عنه متفقٌ عليه؛ أخرجه البخاري (رقم 25)، ومسلم (رقم 22). وأما حديث أنس رضي الله عنه: فأخرجه البخاري (رقم 385).

الشرح

وَلَمَّا قَرَّرَ أَبُو بَكرٍ رضي الله عنه هَذَا لِلصَّحَابَةِ رَجَعُوا إِلى قَولِهِ، وَرَأَوهُ صَوَاباً. فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ عُقُوبَةَ الدُّنيَا لا تَرتَفِعُ عَمَّن أَدَّى الشَّهَادَتَينِ مُطلَقاً، بَل قَد يُعَاقَبُ بِإِخلالِهِ بِحَقٍّ مِن حُقُوقِ الإِسلامِ، فَكَذَلِكَ عُقُوبَةُ الآخِرَةِ. Qوهذه الأحاديث أيضاً تؤيد ما سبق من اعتبار الأعمال في ثبوت حكم الإسلام، وفي النجاة من العقاب في الدنيا بالقتال أو القتل، وكذلك في النجاة من العذاب في الآخرة. وقد ثبت في «الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ»، فَإِذَا قَالُوا «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَموَالَهُم إِلاَّ بِحَقِّهَا» (¬1)، وفي حديث ابن عمر: «أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشهَدُوا أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَموَالَهُم إِلاَّ بِحَقِّ الإِسلاَمِ وَحِسَابُهُم عَلَى اللهِ» (¬2). ففي هذا الحديث ذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأصولَ الثلاثة؛ وهي: الشهادتان والصلاة والزكاة، وجعل عصمة الدَّم والمال موقوفٌ على تحقيق هذه الأصول الثلاثة. فهذا الحديث وما في معناه مطابقٌ تمام المطابقة للآيتين الكريمتين: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} [التوبة:5]، و {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} [التوبة:11]. ¬

_ (¬1) تقدَّم تخريجه قريباً. (¬2) تقدَّم تخريجه قريباً.

فأفادت الآيات والأحاديث أنه لا يُكَفُّ عن قتال المشركين إلا بالتوبة من الشرك، ولا يكون ذلك إلا بالإتيان بالشهادتين، مع الالتزام بهاتين الشعيرتين العظيمتين (الصلاة والزكاة)، وبَقِيَّةُ الشعائر مثلُهما في وجوب الالتزام، ولكن جرى الاقتصار عليهما في هذه النصوص؛ لأنهما أعظم أركان الإسلام، ومَن التزم بهما فما بعدهما تَابِعٌ لهما. ويُوَضِّحُ هذا المقام: ما جرى لأبي بكر الصديق رضي الله عنه مع عمر رضي الله عنه ومَن وَافَقَه في شأن مانعي الزكاة، حيث عزم أبو بكر على قتالهم واعترض عليه عمر، وقال له: كيف تقاتل مَن قال «لا إله إلا الله»، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» فَإِذَا قَالُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَموَالَهُم إِلاَّ بِحَقِّهَا»؟، فقال له أبو بكر رضي الله عنه قولتَه المشهورة: (وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَن فَرَّقَ بَينَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَو مَنَعُونِي عِقَالاً -أو عَنَاقَاً- كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلتُهُم عَلَى مَنعِهِ)، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: (فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَن رَأَيتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَد شَرَحَ صَدرَ أَبِي بَكرٍ لِلقِتَالِ فَعَرَفتُ أَنَّهُ الحَقُّ)، فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانعي الزكاة. والمؤلِّف -رحمه الله- استنبط من هذا: أن التوحيد وحده لا يعصم من العقوبة في الدنيا، بل يباح معه قِتَالُ وقَتلُ من امتنع عن أداء فريضةٍ من فرائض الإسلام. ومثل ذلك أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلِمٍ يَشهَدُ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفسُ بِالنَّفسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلجَمَاعَةِ» (¬1)، فأحَلَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قَتلَ هؤلاءِ بإقامة ما أوجب الله عليهم من العقوبة، مع أنهم يشهدون شهادة التوحيد (لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله). ¬

_ (¬1) متفقٌ عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ البخاري (رقم 6484)، ومسلم (رقم 1676).

ومثل ذلك أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس ...» إلى قوله: «إلا بحق الإسلام»، وفي اللفظ الآخر: «إلا بحقها»، فقاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة محتَجَّاً بـ (أنَّ الزكاةَ حَقُّ المَالِ)، وكذلك بقية شرائع الإسلام، هي من حقوق شهادة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، كل ذلك من حَقِّها. فعُلِمَ من هذا كُلِّه بطلانُ مذهبِ المرجئة، الذين يقولون: إنَّه لا يضرُّ مع الإيمان ذنبٌ، وأنَّ قول «لا إله إلا الله» يوجب النجاة من النار. فلابد من إعمالِ النُّصوص كلِّها، والذي يأخذ بعض النصوص، ويترك بعضاً، هو متبعٌ لهواه، بل لابد من ردِّ النصوص بعضِها إلى بعض، والجمعِ بينها، وهذا هو المنهج الحق الذي سار عليه أهل السنة، فجمعوا بين نصوص الوعد والوعيد، وفسَّروا بعضَها ببعض، فلم يُكَفِّرُوا بالذنوب كما فعلت الخوارج، ولم يُخرِجُوا من أصل الإيمان كما فعلت المعتزلة، احتجاجاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ..». وفي المقابل لم يفعلوا فعل المرجئة، ويقولوا بقولهم من أنَّ التصديقَ بالقلب، ومعرفةَ الخالق، والنطقَ بكلمة التوحيد، أنه يكفي ويعصم من العذاب. فالتوحيد وحده لا يعصم من العقوبة في الدنيا، فالصحابة رضي الله عنهم قاتلوا مانعي الزكاة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وان محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» ومصداق ذلك قوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} [التوبة:5]، فعُلِمَ أنه لا يُخَلَّى سبيلُهم بمجرد النطق بكلمة التوحيد من غير التزام بالشرائع.

قال ابن رجب رحمه الله

Wوقد ذهبَ طائفةٌ إلى أنَّ هذه الأحاديث المذكورة أوَّلاً وما في مَعنَاها كانت قَبلَ نُزُولِ الفَرَائضِ والحدودِ، منهم: الزُّهريُّ (¬1) والثَّوريُّ (¬2) وغيرُهما (¬3)، وهذا بَعيدٌ جدَّاً؛ فإنَّ كثيراً منها كانَ بالمدِينةِ بَعدَ نُزُولِ الفرائِضِ والحُدودِ، وفي بَعضِها أنَّه كَانَ في غَزوَةِ تَبوكٍ، وهي في آخِرِ حَياةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وهؤلاءِ منهُم مَن يقولُ في هذهِ الأَحادِيثِ: إنَّها مَنسُوخةٌ، ومنهم مَن يقولُ: هي مُحكَمَةٌ، ولكنْ ضُمَّ إِليها شَرَائِطُ، ويَلتَفِتُ هذا إلى أنَّ الزِّيَادةَ على النَّصِّ هل هي نَسخٌ أم لا؟ والخلافُ في ذلك بين الأُصُوليِّين مشهورٌ (¬4). وقد صَرَّح الثوريُّ (¬5) وغيرُه بأنها منسوخةٌ، وأنَّه نَسَخَهَا الفَرَائِضُ والحُدُودُ، وقد يكونُ مرادُهم بـ «النَّسْخِ» البيانَ والإيضاحَ؛ ¬

_ (¬1) ينظر: «جامع الترمذي» (5/ 23 - 24)، و «الإبانة الكبرى» لابن بطة - قسم الإيمان (2/ 896 رقم 1248). (¬2) ينظر: «الترغيب والترهيب» للمنذري (2/ 623 - 624). (¬3) منهم: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، والضحاك بن مزاحم. [ينظر: «الإبانة» لابن بطة - قسم الإيمان (2/ 896 رقم 1249)، و «شرح ابن بطال على البخاري» (1/ 208)، و «إكمال المعلم بفوائد مسلم» (1/ 254)]، وهو اختيار الآجري في «الشريعة» (2/ 554 - 555). (¬4) ينظر: «كشف الأسرار» (3/ 191)، و «روضة الناظر» (1/ 305 - 310)، و «البحر المحيط» للزركشي (4/ 143 - 148)، و «إعلام الموقعين» (2/ 293 وما بعدها). (¬5) تصحَّف في الأصل إلى «النَّوَويّ»، وهو خطأ بيِّنٌ، يأباه السياق.

الشرح

فإنَّ السلَفَ كانوا يُطلِقُون «النَّسْخَ» على مثلِ ذَلِكَ كَثِيراً (¬1)، ويكون مَقُصُودُهم أنَّ آياتِ الفَرَائضِ والحدودِ تَبَيَّنَ بها تَوقُّفُ دخول الجنَّةِ والنَّجَاةِ من النَّار على فعلِ الفرائض، واجتناب المحارم، فصارت تلك النصوصُ منسوخةً، أي مبَيَّنَةً مفَسَّرَةً، ونصوصُ الفرائضِ والحدودِ ناسخةً أي مفَسِّرَةٌ لمعنى تلك، مُوضِّحَة لها. Qذكر المؤلِّف -فيما سبق- جوابين لبعض علماء أهل السنة في هذه النصوص الدالة على أن التوحيد موجب لدخول الجنة، وأن من شهد شهادة التوحيد ومات عليها دخل الجنة، أو أنه لا يعذب، أو أنه محرَّم على النار، أو أن النار محرَّمة عليه. وتقدَّم أيضاً قول المؤلِّف -رحمه الله- بأن الأحاديث التي فيها الوعد بدخول الجنة محتَمِلَة أن يكون هذا الدخول في أول الأمر ابتداءً، أو يكون بعد التطهير، وهذا النوع من الأحاديث لا إشكال فيه، ولكن الذي فيه الإشكال، هي الأحاديث التي فيها نفي العذاب؛ أو فيها ذكر التحريم على النار. والمؤلِّف -رحمه الله- ذكر الجواب الأول وهو قول من يتأوَّل هذا النفي على نفي الخلود في النار، لا نفي العذاب والدخول، وعلى هذا التأويل يكون المراد بهذه الأحاديث هو تحريم الخلود في النار، أو أنَّ النَّارَ المحرَّم دخولُها في هذه الأحاديث هي النار التي يُخَلَّد فيها من دَخَلَها، وهي نار الكافرين لا نار العصاة من الموحِّدين. ثم ذكر الجواب الثاني -وهو أحكم وأرجح- وهو أن المراد من هذه ¬

_ (¬1) ينظر: «مجموع فتاوى ابن تيمية» (13/ 29)، و «الموافقات» للشاطبي (3/ 344 وما بعدها)، و «إعلام الموقعين» (1/ 35).

الأحاديث هو أن التوحيد سببٌ مقتضٍ لدخول الجنة والنجاة من النار، بل هو السبب الأعظم، ولكنَّ أيّ سببٍ يتوقف حصول مُسَبَّبِه على وجود الشروط وانتفاء الموانع. وعلى هذا فالتوحيد لا يتحقق مقتضاه بالنجاة من النار مطلقاً ودخول الجنة من أوَّل وَهْلَة إلا بوجود شروط وانتفاء موانع. وذلك أن هذا مشروط بفعل الفرائض واجتناب المعاصي، جمعاً بين الأدلة؛ لأنَّ نصوص الوعيد مستفيضة في الكتاب والسنة؛ فقد ورد في القرآن الوعيد على كثير من الذنوب؛ كالربا، وقتل المؤمن، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، فكل هذه الذنوب قد ورد الوعيد عليها في القرآن، فلا يجوز إهدار هذه النصوص وإبطال دلالتها تَمَسُّكَاً بهذه الأحاديث المحتَملة المطلقة، فلابد إذاً من رد النصوص بعضها إلى بعض والجمع بينها، إما بحمل المطلق على المقيَّد، أو العامِّ على الخاصِّ، كما هو معروفٌ ومقرَّرٌ في علم الأصول. ثم ذكر المؤلِّف رحمه الله -في هذا المقطع- جواباً ثالثاً عن هذه الأحاديث، وهو قول طائفة من العلماء، وهو أن هذه الأحاديث إنما وردت قبل نزول الفرائض والحدود، ونسبَ المؤلِّفُ هذا القول إلى الزهري، وسفيان الثوري، ونُسِبَ أيضاً إلى سعيد بن المسيب وغيرِه -رحمهم الله-. وهذا الجواب ضعيفٌ لا يصح، بل هو (بعيدٌ جداً) كما قال المؤلِّف؛ لأنَّ هذا القول معناه أن هذه النصوص قالها الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وهذا لا يستقيم أبداً؛ فإن الصحابة الكرام الذين رووا هذه الأحاديث وسمعوها ونقلوها كان ذلك منهم في المدينة، ومنهم من لم يُسْلِم إلا متأخِّرَاً كأبي هريرة رضي الله عنه، وفي بعض ما رواه ما يفيد بأنه قد سمعه مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الأحاديث -كما أشار المؤلِّف- ما وقع في غزوة تبوك، وهي متأخرةٌ، في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا القول إذاً غير مستقيم، ولا يصلح جواباً عن هذه الأحاديث (¬1). ¬

_ (¬1) ينظر في نقد هذا القول: «شرح النووي على مسلم» (1/ 220).

ثم ذكر المؤلِّف -رحمه الله- بأن أصحاب هذا القول منهم من يطلق لفظ «النسخ» ويقول بأن هذه الأحاديث منسوخة، يعني أنه نسختها نصوص الفرائض والحدود، والوعيد على الذنوب. وهذا القول يُرَدُّ عليه بأن هذه الأحاديث أخبار، والأخبار لا يَرِدُ عليها النسخ. ولكن الأئمة المتقدِّمين -كالثوري مثلاً-، وهو ممن روي عنه أنه أطلق القول بالنسخ، وينبغي أن يوجَّه كلامُه إلى ما ذَكَرَه المؤلِّفُ من أنَّ «النَّسْخ» في عُرْفِ كثيرٍ من السلف يطلق ويراد به البيان والإيضاح، فيطلقون «النَّسْخ» على تقييد المطلق وتخصيص العام، فيقولون: هذا ناسخٌ، يعني مخَصِّصٌ، أو هذا ناسخٌ، يعني مُقَيِّدٌ، ويقولون: هذا منسوخٌ، ويريدون به العام المخصوص أو المطلق الذي ورد ما يُقَيِّدُه. فليس مرادُ السَّلَفِ بـ «النَّسخ» إذًا أنه (رفع حكم الدليل المتقدِّم بدليلٍ متأخِّرٍ عنه)، كما هو اصطلاح الأصوليين المتأخِّرين (¬1). وقد يجري هذا على مذهب من يقول من الأصوليين: إن الزيادة على النَّصِّ نَسخٌ، وهذا مذهبٌ معروفٌ ومشهورٌ عن الحنفية (¬2). وحَمْلُ كلام الأئمة من السَّلَف على التوجيه الأول أولى؛ لأن الذين يقولون إن الزيادة على النصِّ نَسْخٌ هم يريدون به حقيقة «النَّسْخِ» المراد عند الأصوليين، من أنَّه (رَفعُ حكمِ الدَّليل المتقدِّم بالدَّليل المتأخِّر). ولهذا قال مَن قال من الفقهاء -وهو كما ذكرتُ مشهورٌ عن الحنفية (¬3) -: إن زيادة حكم «التغريب» على «الجلد» في حدِّ الزاني البِكْر نَسْخٌ؛ لأنَّ حكم «التغريب» الوارد في السنَّة هو حكمٌ زائدٌ على ما ورد في القرآن في قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2]. ¬

_ (¬1) ينظر: «المستصفى» للغزالي (1/ 207)، و «روضة الناظر» لابن قدامة (1/ 283). (¬2) ينظر: «كشف الأسرار» للبزدوي (3/ 191)، و «أصول السرخسي» (2/ 82). (¬3) ينظر: «المبسوط» للسرخسي (9/ 73)، و «بدائع الصنائع» للكاساني (7/ 40).

قالوا: فـ «التغريب» زيادةٌ على النصِّ، والزيادة على النصِّ نَسْخٌ، ونَسْخُ القرآنِ بالسنَّةِ لا يجوز، فلم يأخذوا بحكم «التغريب» من أجل ذلك. والمقصود أن حمل كلام الثوريِّ وغيرِه من أنَّ هذه النصوص منسوخة بالفرائض على أنَّها بَيَّنَتها وفسَّرتْها ووَضَّحَتْها وقَيَّدَتْها = هو اللائق والمناسب، وهو ما رَجَّحَه المؤلِّف رحمه الله. فإذا قيل: إن هذه النصوص ليست على إطلاقها، وإنما هي مبيَّنة بالنصوص الأخرى؛ نصوص الفرائض ونصوص الوعيد على المعاصي، وأنه يجب أن ترد هذه النصوص إلى تلك النصوص = اتضح بذلك الأمر واستقام المذهب، وحصل بهذا رد شبهة المرجئة، وبَطَلَ تعلقهم بهذه الأحاديث الواردة في فضل التوحيد. وهذا الجواب متفقٌ في المآل مع الجواب الثاني، وهو قول من يقول: إن هذه الأحاديث إنما تدل على أنَّ التوحيد سببٌ للنَّجَاة من النَّار، والسَّبَب لابدَّ فيه من وجود الشروط وانتفاء الموانع.

قال ابن رجب رحمه الله

Wوقالت طائفةٌ: تلك النُّصُوصُ المطلَقَةُ قد جاءت مقيَّدَةً في أحاديثَ أُخَر؛ ففي بعضِها: «مَن قَالَ: لا إله إلا الله مُخْلِصَاً» (¬1)، وفي بعضِها: «مُسْتَيْقِنَاً» (¬2)، وفي بعضِها: «يُصَدِّقُ قلبُه لِسَانَه (¬3)» (¬4)، وفي بعضِها: «يَقُولُهَا حَقَّاً من قَلبِهِ» (¬5)، وفي بعضِها: «قَد ذَلَّ بها لِسَانُه واطمَأَنَّ بها قَلبُه» (¬6)، وهذا كُلُّه إشارةٌ إلى عَمَلِ القَلبِ وتَحَقُّقِهِ بمعنى الشَّهَادَتَينِ. فتَحَقُّقُهُ بقولِ (¬7) «لا إله إلا الله»: أن لا يَأْلَه القَلْبُ غيرَ الله؛ حُبَّاً ورجَاءً وخَوفَاً وتَوكُّلاً واستعانةً وخُضُوعاً وإِنَابَةً وطَلَبَاً. وتَحَقُّقُهُ بِأنَّ «محمَّداً رسولُ الله»: أن لا يُعبَدَ الله بغيرِ مَا شَرَعَهُ الله على لِسَانِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في «صحيحه» (رقم 91) من حديث أبي هُريرَةَ رضي الله عنه. (¬2) أخرجه مسلمٌ في «صحيحه» (رقم 156) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد تقدَّم ذكره. (¬3) وقع في نسخة (ب): «مُصَدِّقَاً بِهَا قَلبُه ولِسَانُه»، والظاهر أن واو العطف زائدة؛ فوجودها مخِلٌّ بالمعنى، ويؤيِّد هذا أنَّه قد وَرَدَ في «سنن النسائي الكبرى» (رقم 9772): «مُصَدِّقَاً بِهَا قَلبُه لِسَانَه» بدون واو العطف. (¬4) أخرجه أحمد في «المسند» (رقم 8070 و 10713)، وابن خزيمة في «التوحيد» (رقم 441 و 461)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 69) وصححه. (¬5) أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (رقم 447)، وابن خزيمة في «التوحيد» (رقم 500)، وصحَّحه ابنُ حبان «صحيحه» (رقم 204)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 72 و 351) وصحَّحه، وجوَّد إسناده ابن كثير في «مسند الفاروق» (1/ 327). (¬6) أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 259)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (رقم 9)، وغيرُهما، وإسناده ضعيف جداً. (¬7) في نسخة (ب): [فتَحَقُّقُه بمعنى شَهَادَة أنْ لا إِلَه إِلاَّ الله].

الشرح

وقد جَاءَ هذا المعنى مرفوعاً إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم صريحاً أنَّه قَالَ: «مَن قَالَ: لا إله إلا الله مُخْلِصاً دَخَلَ الجنَّة»، قيل: مَا إِخلاصُها يَا رَسُولَ الله؟، قَالَ: «أن تَحْجِزَكَ عن كُلِّ مَا حَرَّمَ الله عَلَيكَ»، وهذا يُروى من حديثِ أَنَسِ بنِ مَالكٍ (¬1)، وزَيدِ بنِ أَرقَمٍ (¬2)، ولكنَّ إِسنَادَهما لا يَصِحُّ، وجَاءَ أيضاً من مَرَاسِيلِ الحَسَنِ نحوُه (¬3). Qذكر المؤلِّف رحمه الله -في هذا المقطع- جواباً رابعاً عن هذه الأحاديث -وهو قول طائفةٍ من العلماء- أن هذه الأحاديث المطلقة قد ورد ما يُقيِّدُها في أحاديث أخر، وقد أشار المؤلِّف إلى بعضِها. فكلُّ حديثٍ يَرِدُ فيه ذكر الوَعْدِ على مجرَّد قول: «لا إله إلا الله» لابد أن يُقيَّدَ بمثل هذه الأحاديث التي فيها ذكر «اليقين»، أو ذكر «الإخلاص»، أو ذكر «الصدق» ونحوها، مع أنَّنا إذا نظرنا في هذه الأحاديث التي هي محور البحث ومناط الكلام نجد أن هذه القيود موجودة فيها أو في بعضها، كقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله حَرَّم على النَّارِ مَن قال: «لا إله إلا الله» يبتغي بذلك وجه الله». فقوله: «يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله»، هذا هو معنى الإخلاص، فالقيدُ إذاً موجودٌ في نفس السِّياق، وكذلك هذه القيود التي أشار إليها المؤلِّف هي موجودةٌ في هذه الأحاديث، بعضُها صريحٌ، وبعضُها مفهومٌ من السياق. ¬

_ (¬1) أخرجه الخطيب البغدادي في «تاريخه» (12/ 63)، وإسناده واهٍ بمرَّة. (¬2) أخرجه الطبراني في «الكبير» (رقم 5074)، وإسناده واهٍ كسابقه، بل حكم عليه العلاَّمة الألباني في «الضعيفة» (رقم 5148) بأنه حديث موضوع. (¬3) لم أقف عليه.

ففي قوله صلى الله عليه وسلم مثلاً: «مَن شَهِدَ أن لا إله إلا الله ... الحديث» فلفظ «الشهادة» يتضمن: العلم، واليقين، والصدق. فمن قال: «لا إله إلا الله» بلسانه دون قلبه، لم يشهد حقيقةً، ومَن عَلِمَ معناها وقالها بلسانه لكنَّه غيرُ صادقٍ في قوله لها، بل قالها نفاقاً ومداهنةً، لم يكن قوله لها عن قبولٍ وانقيادٍ، ولم يكن أيضاً بهذا مخلصاً، وفي الحديث: «يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله»، فما قالها على هذه الحال إلا وهو موقنٌ غير شاكٍّ، ومَن كان هذا حاله فمن شأنه أن يَذِلَّ بها لسانُه، ويَلهَجَ بها حُبَّاً لها، وطمأنينةً قلبِيَّةً لما دَلَّت عليه هذه الكلمة العظيمة. فمن قالها على هذا الوجه - على وجه العلم واليقين بشروطها التي سبق ذكرها - فإن التوحيد يمنعه من الإصرار على الذنوب، مِنْ ترك واجبٍ، أو فعل محرَّمٍ، فمن قال: «لا إله إلا الله» على وجه اليقين التامِّ والصدق، والإخلاص التام والطمأنينة، لابد أن يؤدِّي الفرائض ويجتنب المحارم، ومتى قَصَّر في شيءٍ من ذلك، فإنما أُتِيَ من نقص عِلْمِهِ، ونقص يقينه، ونقص إخلاصه، ونقص محبَّته؛ فإنَّ هذه المعاني من شُعَبِ الإيمان، وهي تتفاضل بالقوة والضعف. فمن قال: «لا إله إلا الله» صادقاً غير منافق، عالماً غير جاهلٍ، وقامت به هذه الشروط، له حالات: - إما أن تكون هذه المعاني قامت بقلبه على وجه الكمال، فلابد أن يظهر أثر ذلك على الجوارح بفعل الفرائض واجتناب المحرمات. - وإما أن تقوم بقلبه على ضَعْفٍ، فيكون أثر ذلك على جوارحه بحسب ذلك، ومنه يحصل الخلل. واعتَبِر هذا في حديث الشفاعة: «أَخْرِجُوا مِن النَّارِ مَن قالَ: لا إله إلا الله وفي قَلبِهِ مِثقَالُ ذَرَّةٍ - أو بُرَّةٍ أو خَرْدَلَةٍ - من إِيمانٍ» (¬1)، فهذا الذي يَخرج من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في مواضع منها: (رقم 44)، ومسلم (رقم 190) من حديث أنسٍ رضي الله عنه بنحوه.

النَّار لاشك أنه لم يقل هذه الكلمة كَذِباً، ولم يقلها غير عالِمٍ بمعناها مطلقاً، ولم يقلها نِفَاقاً، بل كان فيها مخلِصَاً، لكنَّ الذي معه من العلم بمعناها، والإخلاص في قولها، والمحبة لها، لم يبلغ به المرتبة التي بلغها أهلُ الإيمان الكامل الذين نجاهم الله بكمال إيمانهم وتوحيدهم من النار، فلم يتعرضوا للعذاب. فلابد من ملاحظة هذا المعنى، وأنَّ هذه المعاني التي يَعُدُّها العلماءُ شروطاً هي متحقِّقة لكلِّ أهلِ التوحيد الذين ينفعهم توحيدهم في الخروج من النَّارِ، إلا أنهم متفاوتون في تحقيق هذه المعاني، فالكُمَّل منهم يكون توحيدهم مانعاً لهم من دخول النار مطلقاً. إذًا فقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حَرَّمَ على النَّار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله» معناه مَن قالها على الوجه الأكمل، وقد تحققت فيه شروط التوحيد المأخوذة من سائر النصوص، وقد عقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في كتابه «التوحيد» باباً بهذا المعنى فقال: (بابٌ مَن حَقَّقَ التوحيدَ دَخَلَ الجنَّة بغيرِ حِسَابٍ ولا عَذَاب). فمن كَمَلَت له هذه المعاني في قلبه لابد وأن يظهر أثرُها على جوارحه فِعْلاً وأداءً للفرائض واجتناباً للمحرمات، فالتوحيد الكامل يمنع صاحبه من الإصرار على شيء من الذنوب، فالموحِّد قد يقع في الذنب لكونه غير معصوم، لكنه لا يُصِرُّ عليه؛ لأنَّ كمال إيمانه وتوحيده يمنعه من الإصرار عليه؛ لأن في قلبه من خوف الله ورجاء ثوابه ما يوجب له الفزع إليه، والرجوع إليه سبحانه وتعالى. فهذه جملةُ أجوبةِ أهلِ العلم عن هذه الأحاديث، وهي متفقةٌ في المآل، فأهل السنة والجماعة متَّفقون على أن هذه الأحاديث ليست على ظاهرها الذي يدَّعيه ويتعلَّق به المرجئة، أو يفهمه المغرورون من جهلة أهل السنة مثلاً، كما سبقت الإشارة إليه. وهناك جوابٌ خامسٌ، ذَهَبَ إليه الإمامُ البخاريُّ (¬1)، وهو حمل هذه ¬

_ (¬1) قال البخاري في «صحيحه» (5/ 2193) [كتاب اللباس - باب الثياب البيض]، عقب سياقه لحديث أبي ذرٍ رضي الله عنه (رقم 5489): «مَا من عبدٍ قالَ: «لا إله إِلاَّ الله» ثُمَّ مَاتَ على ذلكَ إلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ ... الحديث»: (هذا عندَ الموتِ أو قبلَهُ إذا تَابَ ونَدِمَ وقالَ: «لا إِلَهَ إِلا الله» غُفِرَ لَهُ).

الأحاديث على مَن قال كلمة التوحيد نادِماً تائِباً (¬1). وهذا المعنى قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض المواضع من كتبه (¬2) في توجيه بعض هذه الأحاديث، ومنها حديث صاحب البطاقة؛ بأن المراد مَن قالها على غايةٍ من الصدق والإخلاص على وجه الكمال والتحقيق للتوحيد، ثم لم يرتكب بعد ذلك ذنباًَ. فما جاء عن البخاري فيه تقييد هذا بالتوبة، ومعلومٌ أنَّ مَن قال ذلك تائباً نادماً على ما سَلَفَ من ذنوبه، ثم بقي على هذه الحال حتى مات، فالأمر فيه واضحٌ، هذا محرَّمٌ على النار، والنار محرَّمةٌ عليه. ومضمون ومنحى كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- ونَقَلَه بعضُ شُرَّاح كتاب التوحيد (¬3)، أنَّ المعنى: من قال هذه الكلمة مخلِصَاً كلَّ الإخلاص، وصادِقاً كلَّ الصِّدق، ثم ماتَ على ذلك؛ لأن هذه الحال توجب ألاَّ يُصِرَّ على ذنبٍ من الذنوب، فمن مات على هذه الحال من كمال تحقيق التوحيد، كان هذا التوحيد عاصِماً له من دخول النار، والله أعلم. ¬

_ (¬1) قال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (1/ 527): (ويشهدُ لهذا المعنى حديثُ معاذٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَن كان آخِرَ كلامِهِ لا إله إلا الله، دَخَلَ الجنَّة»، فإنَّ المحتضرَ لا يكادُ يقولُها إلاَّ بإخلاصٍ، وتوبةٍ، وندمٍ على ما مضى، وعَزْمٍ على أن لا يعودَ إلى مثله، ورَجَّحَ هذا القولَ الخطابيُّ في مصنَّفٍ له مفردٍ في التوحيد، وهو حَسَن). (¬2) ينظر: «مجموع الفتاوى» (8/ 270 - 271) و (10/ 734 - 735) و (11/ 660) و (35/ 201 - 203)، و «منهاج السنة» (6/ 135)، و «مختصر الفتاوى المصرية» (ص 251 - 254) و (ص 258 - 262). (¬3) ينظر: «تيسير العزيز الحميد» (ص 66 - 69)، و «فتح المجيد» (1/ 137 - 143).

قال ابن رجب رحمه الله

Wوتحقيقُ هذا المعنى وإيضَاحُه أنَّ قولَ العبدِ: «لا إله إلا الله»، يقتضي أن لا إله له غير الله، و «الإله» هو الذي يُطَاعُ فلا يُعصَى؛ هيبةً له وإِجلالاً، ومحبةً، وخوفاً، ورجاءً، وتوكلاً عليه، وسؤالاً منه، ودعاءً له، ولا يَصْلُحُ ذلك كلُّه إلا لله عَزَّ وجَلَّ. فمن أشرَكَ مخلوقاً في شيءٍ من هذه الأمور التي هي من خَصَائِصِ الإِلَهِيَّة، كَانَ ذَلكَ قَدْحَاً في إِخلاَصِه في قَولِ: لا إله إلا الله، ونَقصَاً في توحِيدِهِ، وكانَ فيه من عُبُودِيَّةِ ذلك المخلُوقِ بحسْبِ ما فِيهِ مِن ذَلكَ، وهذا كُلُّه من فُرُوعِ الشِّرْكِ. ولهذا وَرَدَ إطلاقُ الكفرِ والشِّركِ على كثيرٍ من المعاصي التي مَنشَؤهَا من طَاعةِ غيرِ الله، أو خَوفِهِ أو رَجَائِهِ، أو التوَكُّلِ عليه أو العَمَلِ لأجْلِهِ، كَمَا وَرَدَ إطلاق «الشِّركِ» على الرِّيَاء، وعلى الحَلِفِ بغيرِ الله، وعلى التوَكُّلِ على غيرِ الله والاعتِمَادِ عَلَيهِ، وعلى من سوَّى بين الله وبين المخلُوقِ في المشِيئَةِ، مثل أن يقول: ما شَاءَ الله وشَاءَ فُلانٌ، وكذا قولُه: ما لي إلا الله وأنْتَ. وكذلك ما يَقْدَحُ في التوَكُّلِ، وتَفَرُّدِ الله بالنَّفْعِ والضُّرِّ، كالطِّيَرَة، والرُّقَى المكرُوهَةِ، وإتيانِ الكُهَّانِ وتَصْدِيقِهم بما يَقُولُون. وَكَذَلكَ اتِّبَاعُ هَوَى النَّفْسِ فِيمَا نَهَى الله عَنْهُ قادحٌ في تَمَامِ التَّوحِيدِ وَكَمَالِهِ، ولهذا أطلقَ الشَّرْعُ على كثيرٍ من الذُّنُوبِ التي مَنشَؤهَا مِن اتِّبَاعِ هَوَى النَّفْسِ، أنَّها كُفْرٌ وشِرْكٌ؛ كقِتَالِ المسْلِمِ، ومَن أَتَى حَائِضَاً أو امرَأَةً في دُبُرِهَا، ومَن شَرِبَ الخَمْرَ في المرَّةِ

الرَّابِعَةِ، وإنْ كَانَ ذَلك لا يُخرِجُ عن المِلَّةِ بالكُلِّيَّةِ، ولهذا قَالَ السَّلَفُ: كُفرٌ دُونَ كُفرٍ، وشِركٌ دُونَ شِركٍ. وقد وَرَدَ إطلاقُ «الإِلَه» على الهوَى المُتَّبَع؛ قال تعالى: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه} [الفرقان:43]، قَالَ الحسنُ: هو الَّذِي لا يَهْوَى شيئاً إلا رَكِبَهُ (¬1). وقَالَ قَتَادَةُ: هو الَّّذِي كُلَّمَا هَوَى شَيئاً رَكِبَهُ، وكُلَّمَا اشْتَهَى شَيئاً أَتَاهُ، لا يَحْجِزُهُ عن ذلك وَرَعٌ ولا تَقوَى (¬2). ورُوِيَ من حديثِ أبي أُمَامَةَ مرفوعاً بإسنادٍ ضَعِيفٍ: «مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ إِلَهٌ يُعبَدُ أَعظَمُ عِندَ اللَّهِ مِن هَوًى مُتَّبَع» (¬3). وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «لا تَزَالُ «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» تَدفَعُ عَن أَصحَابِهَا، حَتَّى يُؤثِرُوا دُنيَاهُم علَى دِينِهِم، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رُدَّت عَلَيهِم، وَقِيلَ لهم: كَذَبْتُم» (¬4). ويَشهَدُ لذَلِكَ الحَدِيثُ الصَّحِيحُ عن النبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «تَعِسَ عَبدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبدُ القَطِيفَةِ، تَعِسَ عَبدُ الخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ, وَإِذَا شِيكَ فَلا انتَقَشَ» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (8/ 2700)، والفريابي في «صفة النفاق» (ص 52). (¬2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (21/ 93). (¬3) أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (رقم 3)، وأبو يعلى في «مسنده» -كما في «المطالب العالية» (رقم 2990) -، والطبراني في «الكبير» (رقم 7502)، وإسناده ضعيفٌ جداً، بل حَكَمَ بوضعِه ابنُ الجوزي في «الموضوعات» (3/ 139)، والألبانيُّ في «الضعيفة» (رقم 6538). (¬4) هذا الحديث قد روي مرفوعاً من طُرُقٍ عديدةٍ، عن جماعةٍ من الصحابة، منهم: أنس بن مالك، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وغيرُهم، ولا يصح من هذه الطرق شيء، بل كلُّها شديدةُ الضَّعْف، وضَعْفُها بَيِّنٌ ظاهرٌ. (¬5) أخرجه البخاريُّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (رقم 2730).

الشرح

فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَحَبَّ شَيئاً وَأَطَاعَهُ, وَكَانَ غَايَةَ قَصدِهِ وَمَطلُوبِهِ، وَوَالَى لأَجلِهِ، وَعَادَى لأَجلِهِ، فَهُوَ عَبدُهُ، وَذَلِكَ الشَّيءُ مَعبُودُهُ وَإِلَهُهُ. Qمما يوضح ما تقدَّم من أنَّ مطلق التوحيد، أو مطلق التكَلُّمِ بـ «لا إله إلا الله» لا يكفي في النجاة من النار، وأن قائلي هذه الكلمة العظيمة متفاوتون هو أنَّ هذه الكلمة - «لا إله إلا الله» - مركبةٌ من نفيٍ وإثباتٍ، كما هو معروف، نَفْيُ إلهيَّةِ ما سوى الله، وإثباتُ الإلهيَّةِ له سبحانه، فمضمونها الإيمان بأنَّ الله تعالى هو الإله الحقُّ الذي لا يستحق العبادة سواه. و «الإله» بمعنى المَألُوه، يعني: المعبود، فالله تعالى هو المعبودُ بحقٍّ (¬1)، وهو المستحق للعبادة وحده دون مَن سواه، فمعنى هذه الكلمة - «لا إله إلا الله» - أنَّ قَائِلَها لا يَأْلَهُ إلا الله، يعني لا يَعْبُدُ إلا الله. و «العبادةُ» تتَضَمَّنُ شيئين: المحبة، والذُّل والإجلال، وفي هذا يقول ابن القيم -رحمه الله- في «نونيته» (¬2): وَعِبَادَةُ الرَّحمنِ غَايَةُ حُبِّهِ ... مَع ذُلِّ عَابِدِهِ هُما قُطْبَان وَعَلَيهِمَا فَلَكُ العِبَادَةِ دَائِرٌ ... مَا دَارَ حَتَّى قَامَت القُطْبَان فلابد إذاً من اجتماع الأمرين: المحبَّة والذُّل مع الإجلال. إذًا فحقيقة التوحيد الذي دَلَّت عليه هذه الكلمة العظيمة: أنَّ العبدَ ¬

_ (¬1) قال العلامة المعلمي في كتابه «رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله» (ص 187): (اعلم أنني تتبعتُ عبارات أهل العلم في تفسير لفظ «إله» فوجدتُهم كالمجمِعِين على أنَّ معناه: معبودٌ بحقٍّ، وقال بعضُهم: معبودٌ). وانظر أيضاً: «تيسير العزيز الحميد» (ص 55 - 56). (¬2) (1/ 179 - 180).

لا يَأْلَهُ إلا الله؛ حُبَّاً، وخوفاً، ورَجَاءً، وتَوَكُّلاً، ورَغْبَةً، ورَهْبَةً، فلابد من التحَقُّق بهذه المعاني. وهذه المعاني -كما تَقَدَّم- تُوجِبُ أفعالاً وتُرُوكاً، فتقتضي المبادرة إلى فعل المأمورات، واجتناب المحرمات، ولا يكون الإنسان محَقِّقَاً لهذه الكلمة إلا إذا تحَقَّقَ بهذه المعاني، فحَقَّقَ تَأَلُّهَهُ وعُبُودِيَّتَهُ لله. إذًا هذا التَّأَلُّه والتَّعَبُّدُ ليسَ على مرتبةٍ واحدةٍ، فلابد لتحقيق التوحيد من اجتناب المعاصي، بل لابد من اجتناب الشركِ كُلِّه، الأكبرِ والأصغرِ. أما «الشرك الأكبر» وهو عبادةُ غيرِ الله مع الله، ودعاءِ غيرِه واتخاذِّ النِّدِّ له، فهذا مناقضٌ لأصل التوحيد ولهذه الكلمة العظيمة. وأما ما دونه من أنواع «الشرك الأصغر» فإنه يناقض كمال التوحيد الواجب، كما في الأمثلة التي ذكرها المؤلِّف. فهناك أنواعٌ من الذنوب جاء النصُّ بأنها من «الشرك»؛ كالرياء، والحلف بغير الله، وتسوية المخلوق بالله في المشيئة، كقول القائل: ما شاء الله وما شئتَ، أو: هذا من الله ومنكَ، أو: لولا الله وأنتَ، وكالإفراط في حُبِّ المحبوبات الطبيعية، مثل: المال، والولد، وسائر أعراض الدنيا، فهذه المحبوبات الطبيعية إذا أفرط الإنسان في حبها، فصار يرضى لوجودها ويسخط لعدمها، إذا أُعْطِيَ منها رَضِيَ وإذا لم يُعْطَ منها سَخِطَ = صار قلبُه مُعَبَّدَاً لها. ثم ذكر المؤلِّف -رحمه الله- أنَّه قد دلَّت الأدلَّة على أن كُلَّ الذنوبِ التي مصدرها من اتباع الهوى قد ورد فيها إطلاق اسم «الكفر» واسم «الشرك»، وإن كانت هذه الذنوب لا تُخرِج من الملَّة، ولا تُوجِب الردَّة، لكنها -ولا شك- تدل على نقص التوحيد وضعف الإيمان. فلابد إذاً لتحقيق مقتضى هذه الكلمة «لا إله إلا الله» لتكون عاصمةً من دخول النار وموجبةً لدخول الجنة = من اجتناب كل ما ينافي تحقيق التوحيد، وينافي كماله، من أنواع الشرك والكفر. والمقصود بـ «الشرك» هنا: الشرك الأصغر، أما الشرك الأكبر فإنه مناقضٌ

لأصل التوحيد، ومَن قال هذه الكلمة «لا إله إلا الله» ثم أتى بما يناقضها فهو كافرٌ مُرتَدٌّ خارجٌ عن مِلَّةِ الإسلام، لا ينفعه قوله لها بلسانه؛ لأنه قد انتقض في حقه شرطٌ من الشروط، فإن الشهادتين تقتضيان: تحقيق التوحيد، وتحقيق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ فشهادة أن محمداً رسول الله تقتضي تصديق الرسول بكل ما أخبر به، وطاعته بكل ما أمر به أو نهى عنه، وألا يُعْبَدَ الله إلا بما شَرَعَ. فلا بدَّ لتحقيق هاتين الشهادتين من القيام بما تقتضيه من أداء الفرائض، واجتناب المحرَّمات. إذاً فالذنوب منها ما يناقض أصل التوحيد، ومنها ما يناقض كماله، كما تقدم. ثم ذكر المؤلِّف -رحمه الله- جملةً من الذنوب مما ورد إطلاق اسم «الكفر» عليه؛ كقتال المسلم، أو إتيان الكاهن، أو إتيان المرأة في دبرها، أو إتيان الحائض. ومن هذا الجنس إطلاق اسم «الكفر» على: الطعن في النسب، والنياحة على الميت، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ» (¬1). وكلُّ هذه ذنوبٌ تنافي تحقيق التوحيد والإيمان، وهذه الذنوب منها ما أُطلق عليه اسم «الشرك»، ومنها ما أُطلق عليه اسم «الكفر». فعُلِمَ بهذا أنَّ «لا إله إلا الله» لها مدلولٌ عظيمٌ، وأهلُها في تحقيقه متفاوتون، فأكملُ النَّاسِ توحيداً هم الرُّسُلُ، وأكمَلُهم أولو العَزْمِ، ثم النَّاسُ بعد ذلك على مراتب؛ فمنهم الصدِّيقُون والشهداءُ والصالحون، ومنهم مَن هم دون ذلك، وهم الظالمون لأنفسهم، ومنهم مَنْ يُخرَجُون من النار بشفاعة الشافعين وبرحمة أرحم الراحمين. وهؤلاء كُّلهم يَصدُقُ عليهم أنَّهم موَحِّدُون، وكلُّهم يقولون «لا إله إلا الله»، لكن مع التباين العظيم في العلمِ بمعناها والصدقِ والإخلاصِ في أدائها والعملِ بمقتضاها، وهو تباينٌ وتفاوتٌ لا يعلم مداه إلا الله سبحانه وتعالى. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 67) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

فـ «اتباع الهوى» مصدرٌ لكثيرٍ من الذنوب، حتى الشرك إنما يصدر عن اتباع الهوى، كما قال الله تعالى في المشركين: {أفرأيتم اللات والعزى - ومناة الثالثة الأخرى - ألكم الذكر وله الأنثى - تلك إذًا قسمة ضيزى - إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} [النجم: 19 - 23] فـ «اتباع الهوى» مصدرٌ للذنوب؛ كبيرِها وصغيرِها، ولهذا جاء في القرآن إطلاق اسم «الإله» على الهوى، وأنَّ من الناس مَن اتخذ إِلهه هَوَاهُ، فجَعَلَ معبودَه هو الهوى، فمن بلغ به الأمر إلى أن يستَحِلَّ ما يهواه، ويترك ما لا يهواه بإطلاق، فإنَّه يخرج عن الإسلام بهذا، وأما المخَلِّط من المسلمين فتَجِدُه يَتَّبِع هواه في أشياء ويخالف هواه في أشياء، أما من هو متبع لهواه بإطلاق فهذا معناه أنه لا يُحِلُّ حَلالاً، ولا يُحَرِّمُ حَرَاماً، ولا يؤدِّي فريضة، بل ولا يؤمن بالله، قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله} [الجاثية:23] هذه صفة الكافرين الذين قال الله فيهم: {طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون} [النحل:108]، وقال سبحانه وتعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم} [البقرة:7]. فكيف -مع هذه النصوص المستفيضة- يُقال بأنَّه يكفي العبد في دخول الجنة والنجاة من النار أن يقول «لا إله إلا الله»، ولا يفعل شيئاً من أداءِ واجبٍ أو اجتنابِ محرَّمٍ، ولا يقوم بقلبِه شيءٌ من محبَّة الله عز وجل ومحبَّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا من أبطل الباطل، ومن اتباع الهوى، ومن الجهل العظيم، إذ كيف يؤخذ بظاهر هذه النصوص وتُهْدَر دلالة سائر النصوص؛ نصوص الوعيد، ونصوص النهي عن كثير من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فإنَّ الذنوبَ منها ذنوبٌ قلبِيَّةٌ، وذنوبٌ عَمَلِيَّةٌ، وذنوبٌ قَولِيَّةٌ. فأعمالُ القلوب وأعمالُ الجوارح وأقوالُ اللِّسان كلُّها تجري فيها الأحكام من حلالٍ وحرامٍ.

قال ابن رجب رحمه الله

Wوَيَدُلُّ عَلَيهِ أَيضاً أَنَّ الله تَعَالى سَمَّى طَاعَةَ الشَّيطَانِ في مَعصِيَتهِ عِبَادَةً لِلشَّيْطَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [إنه لكم عدو مبين]} [يس:60]، وَقَالَ حَاكِياً عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيَّاً} [مريم:44]. فَمَنْ لَمْ يُحَقِّقْ عُبُودِيَّةَ الرَّحْمَنِ وَطَاعَتَهُ فَإِنَّهُ يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ بِطَاعَتِهِ [لَهُ]، وَلَمْ يَخْلُصْ مِنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ إِلاَّ مَنْ أَخْلَصَ عُبُودِيَّةَ الرَّحْمَنِ, وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ الله فِيهِم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيهِم سُلْطَانٌ} [الحجر:42]، فَهُمْ الَّذِينَ حَقَّقُوا قَوْلَ «لا إِلَهَ إِلاَّ الله» وَأَخْلَصُوا فِي قَوْلِهَا، وَصَدَّقُوا قَولَهُمْ بِفِعْلِهِم، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى غَيْرِ اللهِ، مَحَبَّةً وَرَجَاءً وَخَشْيَةً وَطَاعَةً وَتَوَكُّلاً، وَهُمْ الَّذِينَ صَدَقُوا في قَوْلِ «لا إِلَهَ إِلاَّ الله»، وَهُمْ عِبَادُ اللَّهِ حَقَّاً. فَأَمَّا مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلاَّ الله بِلِسَانِهِ، ثُمَّ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ وَهَوَاهُ فِي مَعْصِيَةِ الله وَمُخَالَفَتِهِ فَقَدْ كَذَّبَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ، وَنَقَصَ مِنْ كَمَالِ تَوْحِيدِهِ بِقَدْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَالْهَوَى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص:50]، {وَلاَ تَتَّبِع الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله} [ص:26] فَيَا هَذَا كُنْ عَبْدَ اللَّهِ لا عَبْدَ الهَوَى، فَإِنَّ الهَوَى يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي النَّارِ، {ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ} [يوسف:39]، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ.

الشرح

وَالله مَا يَنْجُو غَداً مِنْ عَذَابِ الله إِلاَّ مَنْ حَقَّقَ عُبُودِيَّةَ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ مَعَهُ إِلى شَيْءٍ مِنَ الأَغْيَارِ. مِن عَلِمَ أَنَّ إِلَهَهُ وَمَعبُودَهُ فَردٌ، فَلْيُفرِدهُ بِالعُبُودِيَّةِ، ولا يُشرِك بِعِبَادَةِ ربِّهِ أَحَدَاً. Qتقدم تقرير أن كلمةَ التوحيد «لا إله إلا الله» مدلولها أنَّ الإلهَ الحق هو الله سبحانه وتعالى، وأنَّه وحدَه المستحقُّ للعبادة، فهو سبحانه الذي يستحق أن يُؤلَه -يعني: يُعْبَد- وحده لا شريك له، فيُعْبَدُ خوفاً ورجاءً وتوكُّلاً ورغبةً ورهبةً واستعانَةً، وكلُّ أنواع العبادة الظاهرة والباطنة هو المستحق لها سبحانه دون من سواه. وهذه الأعمال يتفاضل فيها الناس؛ فإنَّ الإيمان يزيد وينقص، فأعمال القلوب وأعمال الجوارح تزيدُ وتنقصُ تَبَعاً لذلك، ولذلك كان الناس أصنافاً؛ فمنهم السابقون بالخيرات، ومنهم المقتصدون، ومنهم الظالمون لأنفسهم، كما قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} [فاطر:32]. إذن فالعِبَادُ متفاضلون في إيمانهم وفي طاعتهم وفي سائر أنواع العبادة تفاضلاً لا يعلم مداه إلا الله الذي يعلم ما في القلوب، ويعلم ما يُسِرُّه العِبَادُ وما يُعلِنُون. وأيضاً فهناك الذنوبُ التي تُنْقِصُ التوحيدَ والإيمانَ، ولهذا جاء في بعض النصوص - كما تقدَّم- تسميةُ بعض الذنوب «كُفْراً»، وفي بعضها «شِرْكاً»، فكما أنَّ شعبَ الإيمانِ إيمانٌ فإنَّ شُعَبَ الكُفْرِ كُفْرٌ، بمعنى أنها من الكفر، كما قال صلى الله عليه وسلم: «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ

عَلَى الْمَيِّتِ» (¬1)، و «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (¬2). ومعنى ذلك أنَّ الذي يَنْقُصُ تحقيقُه لمدلول هذه الكلمة العظيمة «لا إله إلا الله» يكون قد شَابَهُ من الشِّرْكِ بقدر ما معه من المخالفة، ومن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح: «تَعِسَ عبدُ الدينار، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ ...» (¬3)، فإذا أفرط الإنسان في المحبَّة الطبيعية خرج إلى نوع من الشرك. وقد قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ ...} [التوبة:24]، فهذه آية المحبوبات الثمانية، وإيثار هذه المحبوبات قد يصل إلى الكفر، وقد يكون دون ذلك، فكثيرٌ من الكفار تركوا الإيمان بالله ورسوله إيثاراً للوطن والعشيرة والأهل، وموافقةً لهم، ومنهم من يؤثر هذه المحبوبات في المعصية، فيؤثر طاعتهم في معصية الله، ويقدِّم ما أحَبُّوا على ما أوجب الله سبحانه وتعالى، وهكذا. وقد تقدَّم أنَّ اتباع الهوى هو أصل الشرك بنوعيه الأصغر والأكبر، كما قال تعالى عن المشركين: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} [النجم:23]. بعد هذا كله يقول المؤلِّف -رحمه الله-: (وَيَدُلُّ عَلَيهِ أَيضاً أَنَّ اَلله تَعَالى سَمَّى طَاعَةَ اَلشَّيطَانِ في مَعصِيَته عِبَادَةً لِلشَّيْطَانِ)، فسمى الله طاعة الشيطان عبادة، وكل معصية لله هي طاعة للشيطان، ولكن هناك من الخَلْق مَن عَبَدَ الشيطانَ عبادةً صار بها كافراً مشركاً، كعُبَّاد الأوثان، فإنهم -في الحقيقة- عابِدُون للشيطان، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن أصل الشرك كُلِّه من عبادة الملائكة والأنبياء والصالحين والأصنام والأحبار والرُّهبَان وغير ذلك = هو عِبَادةُ الشَّيطَان (¬4)، قال تعالى: {وامتازوا اليوم أيها المجرمون ألم أعهد إليكم ¬

_ (¬1) تقدَّم تخريجه قريباً. (¬2) متفقٌ عليه من حديثِ عبدِ الله بنِ مَسعُودٍ رضي الله عنه، البخاري (رقم 48)، ومسلم (رقم 64). (¬3) تقدَّم تخريجه قريباً. (¬4) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في رسالته «قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة» وهي ضمن «مجموع الفتاوى» (1/ 157): (والمشركون الذين وَصَفَهم الله ورسولُه بـ «الشرك» أصلُهم صنفان: قومُ نوحٍ، وقومُ إبراهيمَ. فقومُ نوحٍ كان أصلُ شركِهِم العكوفُ على قبورِ الصَّالِحِينَ، ثم صَوَّرُوا تماثِيلَهم، ثم عَبَدُوهم. وقومُ إبراهيمَ كان أصلُ شركِهِم عبادةُ الكواكِبِ والشَّمْسِ والقَمَر. وكلٌّ مِن هؤلاء وهؤلاء يعبدونَ الجِنَّ، فإنَّ الشَّيَاطِين قد تُخَاطِبُهُم وتُعِيْنُهم على أشياء، وقد يَعتَقِدُونَ أنَّهم يعبدونَ الملائكةَ وإن كانوا في الحقيقة إنَّما يعبدونَ الجِنَّ؛ فإنَّ الجِنَّ هم الذين يُعِينُونَهم ويَرضَون بِشِرْكِهم. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ - قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41]). وينظر أيضاً: «مجموع الفتاوى» (17/ 460).

يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} [يس: 59, 60]، فهؤلاء المجرمون إنما عبدوا الشيطان بطاعته، فإنَّ أكثرَ الأُمَمِ في الواقع لا تقصد عبادة الشيطان، وإنما عَبَدَت الشيطانَ بطاعته. وقال إبراهيم عليه السلام: {يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا} [مريم: 44]. فعلم بهذا أنَّ طاعةَ الشيطانِ هي نوعُ عبادةٍ له، وهي تختلف كما ذكرتُ. إذاً؛ فالتألُّه لله والتعبُّد له يقتضي طاعتَه ومحبتَه وخوفَه ورجاءَه وإفرادَه بذلك. وعلى هذا فعبدُ الله على الحقيقة هو الذي يُفرِدُ ربَّه بالطاعة، ولا يطيع إلا مَن أمره الله بطاعته من الرُّسُلِ، كما قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء:80]، ويقول نوح عليه السلام لقومه: {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} [نوح:3]، وكلُّ مَن أمر اللهُ بطاعتِه، فطاعتُه هي طاعةٌ لله، في حدودِ ما أمر الله به من طَاعته. فالعبودية تقتضي كمال الطاعة، وكمال الحب والذُّل والإجلال، وما يتبع

ذلك من الخوف والرجاء والتوكل، فيجب إفراد الله سبحانه وتعالى بكل أنواع العبادة الظاهرة والباطنة، ولا يحقق هذا المقام إلا الذين استثناهم الله بقوله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر:42]، وقال سبحانه وتعالى عن إبليس: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين - إلا عبادك منهم المُخْلَصِين} [ص:82 - 83]، وفي قراءةٍ سَبعِيَّةٍ (¬1): {المُخْلِصِين} بكسر اللام، فهم مخلِصون لله في أعمالهم، وهم أيضاً عبادٌ الله المخلَصون، فليس فيهم عبودية لغيره سبحانه، وهذا يَصْدُقُ على الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين، فهم مخلِصُون لله في أعمالهم وأقوالهم الظاهرة، {فاعبد الله مخْلِصَاً له الدِّين} [الزمر:2]، و {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي - فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ} [الزمر:14 - 15]. أما من يتبع هواه فيما يخالف هدى الله فليس بمخْلِصٍ ولا مُخْلَصٍ، ولو كان عنده شيءٌ من أصل العبودية لله. فالعبودية لله المتضمنة لمحبته وتعظيمِه وطاعتِه الناسُ فيها على مراتب، فأكمل الخلق عبودية لله هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مقامٌ شريفٌ شرَّفه الله به، ونوَّه بوصفه بالعبودية في مواضع، فقال تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} [البقرة:23] وقال: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء:1] وقال: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه} [الجن:19]، وقال تعالى عن نوح عليه السلام: {إنه كان عبدًا شكوراً} [الإسراء:3]، وقال: {فكذبوا عبدنا} [القمر:9]. فالعبودية هنا هي عبوديةٌ خاصَّةٌ، فالرُّسُلُ والأنبياءُ والصدِّيقُون على اختلاف مراتِبِهم هم الذين حقَّقُوا العبودية لله، فحَقَّقُوا التوحيد، وأخلصوا الدين لله، فلم تُزَاحم محبةَ الله في قلوبهم محبةُ غيرِه، وسيأتي مزيد كلام في المحبة فيما يأتي. ¬

_ (¬1) وهي قراءة ابن كثير المكي وأبي عمرو البصري وابن عامر الشامي.

قال ابن رجب رحمه الله

Wكَانَ بَعْضُ العَارِفِينَ (¬1) يَتَكَلَّمُ عَلَى أَصْحَابِه، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، فَقَالَ فِي كَلامِهِ: لا يَنَالُ أَحَدٌ مُرَادَهُ حَتَّى يَنْفَرِدَ فَرْداً بِفَرْدٍ، فَانْزَعَجَ وَاضْطَرَبَ, حَتَّى رَأَى أَصْحَابُهُ أَنَّ الصُّخُورَ قَدْ تَدَكْدَكَتْ، وَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ سَاعَاتٍ، فَلَمَّا أَفَاقَ فَكَأَنَّه (¬2) نُشِرَ مِنْ قَبْرٍ (¬3). Qهذا الأثر مما يُنقَل عن بعض الصوفية، فهم الذين يتلَقَّبُون بهذه الألفاظ: «العارف». واسم «العارف» ليس من الأسماء الشرعية التي مِنْ مثل: «المؤمن»، «التقي»، «الصالح»، «الصدِّيق». نعم، المعرفة مطلوبة وهي العلم، والله قد أمر بالعلم والتزَوُّدِ منه فقال آمِرَاً نبيَّه صلى الله عليه وسلم: {وقل رب زدني علماً}، لكنَّ اسمَ «العارف» أصبح مصطلحاً عند الصوفية يَعنُونَ به: المحقِّق لمقامات السَّيرِ إلى الله وجَمْعِ القلبِ إليه (¬4). ¬

_ (¬1) هو: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل المغربي، أحد أعيان الصوفية الزهَّاد، (ت 276 هـ). انظر ترجمته في: «طبقات الصوفية» (ص 194)، و «حلية الأولياء» (10/ 335). (¬2) في نسخة (ب): فكأَنَّمَا. (¬3) أخرج القصة: ابن الجوزي في «القُصَّاص والمذَكِّرين» (ص 282)، وفي تاريخه «المنتَظَم» (6/ 113). (¬4) ينظر: «الرسالة القشيرية» [باب المعرفة بالله] (ص 510 - 516). وعند الصوفية أن المعرفة فوق العلم، ولذا فرَّقوا بين العالِم والعارف، فجعلوا العارف في منزلة فوق العالِم، ومن أقوالهم في ذلك: (العالِم ينظر بنور الله، والعارِف ينظر بالله عز وجل، وقلب العالِم يطمئن بالذكر، ولا يطمئن العارف بسوى الله عز وجل، والعارِف يقول حدَّثني قلبي عن ربي، والعالِم يقول حدَّثني فلانٌ عن فلان)، ومن هذا يظهر لك أن تفريقهم بين المعرفة والعلم مبنيٌّ على أصولٍ فاسدةٍ عندهم.

وللصوفية مصطلحات كثيرة، فتلميذ الشيخ الذي يتلقَّى منه التربية في السلوك والعبادة والأعمال يسمونه «المريد»، ولهم أيضاً مصطلحات بدعية فيما يُشْرَع -بزعمهم- للسَّالِكِ، كمصطلح «الفَنَاء» (¬1)، و «الاصْطِلاَم» (¬2)، و «الجَمْعِيَّة» (¬3) إلى غير ذلك. وهذه القصة التي أوردها المؤلِّف -رحمه الله- في هذا المقام إنما أوردها للاستشهاد بها، ولا بأس من الاستشهاد في بعض الأمور التي يُقصَدُ منها تقريرُ أمرٍ صَحِيحٍ. وقول هذا العارف: (لا ينال أحدٌ مرادَه حتى ينفرد فَرْدَاً بِفَرْدٍ) هذا من عباراتهم، وقد نقل ابن القيم في «مدارج السالكين» عن بعض شيوخ الصوفية - وهو الجُنَيْد رحمه الله - أنه قال في تعريف التوحيد: (هو إِفْرَادُ القَدِيمِ عن المحدَث) (¬4). ¬

_ (¬1) «الفناء» من المقامات العالية عند الصوفية، من بلغها صار -عندهم- من الأولياء المقرَّبين. وقد اختلفت عباراتهم في تعريفه، كل بحسب مسلَكِه ومعتَقَدِه، وقد بَيَّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» في مواضع، منها: (10/ 337 - 343) و (2/ 313 - 314)، وانظر أيضاً "العقيدة التدمرية وشرحها" للشارح -حفظه الله- (ص 590 - 594). (¬2) «الاصطلام» - عندهم -: هو وَلَهٌ يَرِدُ على القلب فيَسكُنُ تحتَ سُلطَانِه. ينظر: «لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام» (ص 185) و «اصطلاحات الصوفية» (ص 55) كلاهما للقاشاني، و «معجم مصطلحات الصوفية» للحفني (ص 17). (¬3) «الجمعية» - عندهم -: هي اجتماع الهَمِّ في التوَجُّه إلى الله تعالى، والاشتغال به عمَّا سِوَاه. ينظر: «اصطلاحات الصوفية» للقاشاني (ص 67) و «معجم مصطلحات الصوفية» للحفني (ص 67). وانظر أيضاً كلاماً للعلامة ابن القيم حول هذا المصطلح في «مدارج السالكين» (1/ 86). (¬4) قال ابن القيم في «مدارج السالكين» (3/ 444 - 446) معلِّقاً على كلمة ابن الجنيد هذه: (أشار الجنيدُ إلى أنَّه لا تصح دعوى التوحيد ولا مقامُه ولا حالُه، ولا يكون العبدُ موحِّدَاً إلا إذا أفرد القديم عن المحدَث، فإنَّ كثيراً ممن ادَّعى التوحيد لم يُفرِدهُ سبحانه من المحدَثَات، .... وهذا الإفراد الذي أشار إليه الجنيد نوعان: أحدهما: إفراد في الاعتقاد والخبر، وذلك نوعان أيضاً: أحدهما: إثباتُ مباينة الرب تعالى للمخلوقات، وعُلوِّه فوق عرشه من فوق سبع سموات. والثاني: إفراده سبحانه بصفات كماله وإثباتها له على وجه التفصيل كما أثبتها لنفسه وأثبتها له رسله منزهة عن التعطيل والتحريف والتمثيل والتكييف والتشبيه، وفي هذا النوع يكون إفراده سبحانه بعموم قضائه وقدره لجميع المخلوقات أعيانها وصفاتها وأفعالها، وأنها كلها واقعة بمشيئته وقدرته وعلمه وحكمته. فيباين صاحب هذا الإفراد سائر فرق أهل الباطل من الاتحادية والحلولية والجهمية الفرعونية الذين يقولون ليس فوق السموات رب يعبد، ولا على العرش إله يصلى له ويسجد، والقدرية الذين يقولون: إن الله لا يَقْدِر على أفعال العباد من الملائكة والإنس والجن، ولا على أفعال سائر الحيوانات، بل يقع في ملكه ما لا يريد، ويريد ما لا يكون. والنوع الثاني من الإفراد: إفراد القديم عن المحدَث بالعبادة من التألُّه والحبِّ والخوف والرَّجاء والتعظيم والإنابة والتوكُلِّ والاستعانة وابتغاء الوسيلة إليه. فهذا الإفراد وذلك الإفراد بهما بُعِثَت الرُّسُلُ، وأُنزِلَت الكتبُ، وشُرِعت الشَّرائع، ولأجل ذلك خلقت السموات والأرض، والجنة والنار، وقام سوق الثواب والعقاب، فتفريد القديم سبحانه عن المحدَث في ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه، وفي إرادتِه وحدَه ومحبتِه وخوفِه ورجائِه، والتوكُّل عليه، والاستعانة والحلف به، والنذر له، والتوبة إليه، والسجود له، والتعظيم والإجلال وتوابع ذلك، ولذلك كانت عبارةُ الجنيد عن التوحيد عبارةً سادَّةً مُسَدَّدةً). وانظر أيضاً «الاستقامة» لابن تيمية (1/ 92 - 93).

فقوله: (لا ينالُ أحدٌ)، يعني لا ينال أحدٌ من العُبَّاد والسالكين والسائرين إلى الله عز وجل (مرادَه) أي: مرادَه من الله تعالى من المحبة والمنزلة عنده. وقوله: (حتى ينفرد فَرْدَاً بِفَرْدٍ) أي: حتى ينفرد العبدُ حال كونه فرداً بعزمه وصدق إرادته (بفردٍ) وهو الله عزَّ وجل. وإطلاق «الفَرْدِ» على الله عزَّ وجَلَّ معناه صحيحٌ، فالله تعالى فَرْدٌ، لكن الذي

ورد في أسمائه «الأحد» و «الواحد»، وأما «الفَرْد» فلا أعرف أنَّه قد ورد في شيءٍ من النُّصوص (¬1)، لكن معناه صحيح، وكثيراً ما يجري على لسان بعض أهل العلم أنه سبحانه وتعالى أَحَدٌ فَرْدٌ صَمَدٌ، يعني أَحَدٌ وَاحِدٌ؛ لأنَّ «الفَرْدَ» بمعنى الواحد. فقوله: (حتى ينفرد فَرْدَاً بِفَرْدٍ): يعني حتى ينفرد العبدُ بالواحدِ الأحدِ بحيث لا يكون له تعلُّقٌ إلا به سبحانه. وفي هذا المعنى يقول ابن القيم -رحمه الله- في «النونية» (¬2): فَلِوَاحِدٍ كُنْ وَاحِدَاً في وَاحِدٍ ... أَعْنِي سَبِيلَ الحَقِّ وَالإِيْمَان فقوله: (فلِوَاحِدٍ كُنْ وَاحِدَاً): يعني كن عبداً للهِ الواحدِ، لا تكن عبداً لغيره. وقوله: (في وَاحِدٍ): يعني في الطريق، فإنَّ طريقَ الحقِّ وَاحِدٌ. وكأنَّ قوله: (حتى ينفرد فرداً بفردٍ) يشير به إلى مقام «الفناء» عند الصوفية، وهو أن يغيب بمشهودِه عن شهودِه، وبمعروفِه عن معرفَتِه، وبمذكورِه عن ذِكرِه، وليس هذا المقام من مقامات الدِّين التي جاء بها الرسولُ صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن أن يكون أعلى مقامات الدين أو يكون من لوازم طريق الله، كما حقَّق ذلك وحرَّره شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (¬3). ثم ذكر المؤلِّف في آخر القصة أنَّ هذا العارف لما قال هذه المقالة غُشِيَ عليه وصُعِقَ، وهذا يحدث لبعض الصوفية. ومسألة «الغَشْي والصَّعْقُ» فيها كلامٌ معروفٌ لشيخ الإسلام ابنِ تيمية ¬

_ (¬1) نعم لم يرد ذكره في نصٍّ صحيحٍ، وقد ورد في حديثٍ ضعيفٍ جداً، أخرجه ابن أبي الدنيا في «الشكر» (رقم 155) - ومن طريقه: البيهقي في «الأسماء والصفات» (رقم 160) -. (¬2) (2/ 750، بيت رقم 3482). (¬3) ينظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 221 - 223)، و «طريق الهجرتين» لتلميذه ابن القيم (ص 261).

وغيرِه (¬1)، وهو أنَّ الغَشْيَ ليس بمشروعٍ، لكن الإنسان إذا غَلَبَه الصَّعْقُ والغَشْي فإنَّه يكونُ حينئذٍ معذوراً، ولم يُعرَف الصَّعْقُ والغَشْي من حال الرُّسل والأنبياء والكُمَّل من عباد الله، إنما عُرِفَ عن بعض العُبَّاد السُّلاَّك. فغاية الأمر أن يكونوا معذورين في ذلك، لا أنَّ الصَّعْقَ والغَشْي أمرٌ ممدوحٌ لذاته؛ بحيث يكون مَن يحصل له ذلك أفضل ممن لا يحصل له، هذا لا يصح. وكأن المؤلِّف -رحمه الله- كان عنده نزعةُ تصَوُّفٍ، ولهذا تراه يستشهد ببعض أقوال الصوفية وأشعارهم، كما سيأتي. ¬

_ (¬1) ينظر: «مجموع الفتاوى» (11/ 7 - 14) و (22/ 522) و (10/ 348 - 353)، «وجامع المسائل» (5/ 233).

قال ابن رجب رحمه الله

Wقَولُهُ: «لا إِلَهَ إِلاَّ الله» تَقتَضِي أَلاَّ يُحِبَّ سِوَاهُ، فَإِنَّ الإِلَهَ هُوَ الَّذِي يُطَاعُ، مَحَبَّةً وَخَوفاً وَرَجَاءً. وَمِن تَمَامِ مَحَبَّتِهِ مَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ، وَكَرَاهَةُ مَا يَكرَهُهُ، فَمَن أَحَبَّ شَيئاً مِمَّا يَكرَهُ اللَّهُ، أَو كَرِهَ شَيئاً مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ لَم يَكمُل تَوحِيدُهُ وَلا صِدْقُهُ في قَولِ: «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ»، وَكَانَ فِيهِ مِن الشِّركِ الخَفِيِّ بِحَسبِ مَا كَرِهَهُ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَمَا أَحَبَّهُ مِمَّا يَكرَهُهُ، قَالَ تَعَالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [مُحَمَّد:28]. قَالَ اللَّيثُ عَن مُجَاهِدٍ في قَولِهِ تَعَالى: {لاَ يُشْرِكُونَ بِيْ شَيْئَاً} [النور:55]، قَالَ: لا يُحِبُّونَ (¬1) غَيرِي (¬2). وفي «صَحِيحِ الحَاكِمِ» عن عائِشةَ - رضي الله عنها - عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال: «الشِّركُ (¬3) أَخفَى مِن دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيلَةِ الظَّلمَاءِ، ¬

_ (¬1) وقع في نسخة الأصل: «لا يُحِبُّوا» بحذف النون على الجزم، والمثبت من نسخة (ب) وبقية مصادر التخريج، وهو الصواب لغة، فإن «لا» نافية وليست ناهية. (¬2) قول مجاهدٍ هذا لم أقف عليه في شيءٍ من كتب التفاسير المسنَدَة، ووجدتُه عند أبي نعيم في «حلية الأولياء» (3/ 296)، بينما أخرج ابنُ جريرٍ (19/ 210) وغيرُه من طريق الليث عن مجاهدٍ أنَّه قال في تفسيرها: (لا يخافون غيري)، فإن كان هذا الاختلافُ عن مجاهدٍ محفوظاً فيكون له في تفسير الآية قولان، وتفسيرها بنفي الخوف قد ورد عن ابنِ عبَّاس أيضاً، وانظر - في توجيه تفسيرها بذلك - «روحَ المعاني» لأبي الثناء الألوسي (9/ 394). (¬3) وقع في نسخة (ب) هنا زيادة: [في هَذِهِ الأُمَّة]، ولم أجد هذه الزيادة في المطبوع من «مستدرك الحاكم».

وأَدنَاهُ أَن تُحِبَّ عَلَى شَيءٍ مِنَ الجَورِ، أَو تُبغِضَ عَلَى شَيءٍ مِن العَدلِ، وَهَل الدِّينُ إِلا الحُبُّ وَالبُغضُ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران:31]» (¬1). وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ مَحَبَّةَ مَا يَكرَهُهُ اللَّهُ وَبُغضَ مَا يُحِبُّهُ مُتَابَعَةً لِلهَوَى، وَالمُوَلاةَ عَلَى ذَلِكَ وَالمُعَادَاةَ عَلَيهِ مِن الشِّركِ الخَفِيِّ. وقَالَ الحَسَنُ: اعلَم أَنَّكَ لَن تُحِبَّ اللَّهَ حَتَّى تُحِبَّ طَاعَتَهُ (¬2). وَسُئِلَ ذُو النُّونِ [المِصْرِيُّ]: مَتَى أُحِبُّ رَبِّي؟ قَالَ: إِذَا كَانَ مَا يُبغِضُهُ عِندَكَ أَمَرَّ مِن الصَّبِر (¬3). وَقَالَ بِشرُ بنُ السَّرِيِّ: لَيسَ مِن أَعلامِ الحُبِّ أَن تُحِبَّ مَا يُبغِضُهُ حَبِيبُكَ (¬4). وَقَالَ أَبُو يَعقُوبَ النَّهرَجُورِي: كُلُّ مَن ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ وَلَم يُوَافِق اللَّهَ في أَمرِهِ فَدَعوَاهُ بَاطِلٌ (¬5). وَقَالَ يَحيَى بنُ مُعَاذٍ: لَيسَ بِصَادِقٍ مَن ادَّعَى مَحَبَّةَ اللهِ, وَلَم يَحفَظ حُدُودَهُ (¬6). وَقَالَ رُوَيمٌ: المَحَبَّةُ المُوَافَقَةُ في جَمِيعِ الأَحوَالِ، وَأَنشَدَ: ¬

_ (¬1) أخرجه البزار في «مسنده» - كما في «كشف الأستار» (رقم 3566) -، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 632)، والعقيلي في «الضعفاء» (رقم 3538)، والحاكم في «المستدرك» (2/ 291) وغيرُهم، وهو (حديثٌ منكرٌ) كما قاله أبو زرعة والعُقَيلي، وقال الدارقطني: (ليس بثابت). (¬2) لم أجده، وقد ذكره المولِّف في كتابه الآخر «جامع العلوم والحِكَم» (1/ 212). (¬3) أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (9/ 363 و 392). و «الصَّبِرُ» - كـ «كَتِف» -: عُصَارَةُ شَجَرٍ مُرٍّ. [«القاموس المحيط» (مادة: صَبَرَ)]. (¬4) أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 300)، وأخرجه أيضاً في (8/ 24) من قول إبراهيمَ بنِ أدهم - رحمه الله -. (¬5) لم أجده، وقد ذكره المولِّف في «جامع العلوم والحِكَم» (1/ 213) و (2/ 397). (¬6) ذكره القُشَيري في «الرسالة القُشَيرِيَّة» (ص 523).

الشرح

ولو قلتَ لي: مُتْ، مُتُّ سمعاً وَطَاعَةً ... وقُلتُ لداعي الموتِ: أهلاً ومَرْحَباً (¬1) وَيَشهَدُ لِهَذَا المَعنَى أَيضاً قَولُهُ تَعَالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آلُ عِمرَانَ:31]، قَالَ الحَسَنُ: قَالَ أَصحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُحِبُّ رَبَّنَا حُبَّاً شَدِيداً؛ فَأَحَبَّ اللَّهُ أَن يَجعَلَ لِحُبِّهِ عَلَمَاً، فَأَنزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ (¬2). وَمِن هُنَا يُعلَمُ أَنَّهُ لا تَتِمُّ شَهَادَةُ «ألاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» إِلاَّ بِشَهَادَةِ «أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله»، فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لا تَتِمُّ مَحَبَّةُ اللَّهِ إِلاَّ بِمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ وَكَرَاهَةِ مَا يَكرَهُهُ، فَلا طَرِيقَ إِلَى مَعرِفَةِ مَا يُحِبُّهُ وَمَا يَكرَهُهُ إِلاَّ مِن جِهَةِ مُحَمَّدٍ المُبَلِّغِ عَن اللَّهِ مَا يُحِبُّهُ وَمَا يَكرَهُهُ (¬3)، فَصَارَت مَحَبَّةُ اللَّهِ مُسْتَلْزِمَةً لِمَحَبَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَصدِيقِهِ وَمُتَابَعَتِهِ. وَلِهَذَا قَرَنَ اللَّهُ بَيْنَ مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ فِي قَوْلِهِ: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم} إلى قوله: {أحب إليكم من الله ورسوله} [التوبة: 24]، كَمَا قَرَنَ بَينَ طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. Qذكر المؤلِّف -رحمه الله- في هذه الجملة أنَّ قول «لا إله إلا الله» يتضمن محبة الله، وهذا حقٌّ؛ فإنَّ معنى «لا إله إلا الله» أي لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، فهو وحده سبحانه المستحقُّ للعبادة، وحقيقة «العبادة» كمالُ الحبِّ مع كمالِ الذُّل. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبدالرحمن السُّلَمي في «طبقات الصوفية» (ص 150)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (10/ 301). (¬2) أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (6/ 322)، وابن المنذر في «تفسيره» (1/ 169). (¬3) قوله: [إلاَّ مِن جِهَةِ مُحَمَّدٍ المُبَلِّغِ عَن الله مَا يُحِبُّهُ وَمَا يَكرَهُهُ] لم ترد في نسخة (ب)، وورد مكانها: [إلاَّ بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَاجتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ].

إذًا فقول «لا إله إلا الله» يقتضي أن يكون قائلُها محِبَّاً لله، ومحِبَّاً لما يُحِبُّه الله، وهذا أمرٌ بَدَهِيٌّ، وهو مما فَطَرَ الله عليه عِبَادَهُ، فإنَّ محبَّةَ الحَبِيبِ تقتضي محبَّةَ ما يُحِبُّه، بل وبُغْضَ ما يُبغِضُهُ. بل إنَّ قولَ «لا إله إلا الله» كما أنَّه يقتضي محبَّة الله فإنَّه يقتضي أيضاً خوفَه ورجاءَه، فلابد إذاً من تصديق هذه الكلمة، وتصديقُها إنما هو بمحبة ما يُحِبُّه الله وبُغْضِ ما يُبغِضُه، فبحسب ما يكون بالقلب من محبَّة الله وصِدْقِ العبودية له تكون حال الإنسان في تعامله مع الأشياء، فيُحِبُّ ما يُحِبُّه الله ويُبغِضُ ما يُبْغِضُهُ الله. وأما من عَكَسَ؛ فَأَحَبَّ ما يُبغِضُه الله، أو أَبغَضَ ما يُحِبُّه الله، كان ذلك مكذِّباً لدَعْوَاهُ المحبَّة، أو دَالاً على نقصٍ فيما يدَّعِيه من المحبَّة. ومعنى هذا أنَّ كمال التوحيد يقتضي محبَّة ما يحبُّه الله، وبُغْضَ ما يُبغِضُه الله؛ من الأعمال والأقوال والأشخاص. فيقتضي محبة ما أمر الله به ورسوله، وبغض ما نهى الله عنه ورسوله، ويقتضي أيضاً محبة أولياء الله، وبغض أعدائه. إذًا؛ فمن لم يتحقق بهذا فلابد وأن يكون عنده نوعٌ من الشرك في المحبة، فمن أحبَّ شيئاً مما يبغضُه الله أو كَرِهَ شيئاً مما يحبُّه لم يكن محقِّقاً لمحبَّة الله؛ فإنَّ محبَّة الله المطلقة التامَّة تقتضي محبَّة كل ما يحبه الله وكل من يحبه الله، وبغض كل ما يبغضه الله وكل من يبغضه الله. ومن ذلك محبةُ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ محبةَ الرسول صلى الله عليه وسلم هي من محبةِ الله، ومحبةُ المؤمنين هي من محبةِ الله، فهي فرعٌ وتَبَعٌ. وقد قَرَنَ الله محبةَ الرَّسول صلى الله عليه وسلم بمحبتِه في كتابِه الكريم فقال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم} إلى قوله: {أحب إليكم من الله ورسوله}، وفي الحديث أيضاً: ... «ثلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمان: أن يَكُونَ الله ورَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِمَّا سِوَاهُمَا» (¬1). ¬

_ (¬1) تقدَّم تخريجه.

وكما قَرَنَ الله بينَه وبينَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم في المحبَّة قَرَنَ بينَه وبينَه في الطاعة أيضاً؛ فإن محبَّة الرسول صلى الله عليه وسلم تقتضي طاعته طاعةً مطلقةً كطاعة الله؛ لأن طاعة الرسول هي طاعةٌ لله؛ فإن الرسول لا يأمر إلا بطاعة الله ولا ينهى إلا عن معصيته، أما غيره من الخلق فإنه قد يأمر بمعصية الله، فلهذا قُيِّدَت طاعةُ المخلوقِ - غير الرسولِ صلى الله عليه وسلم - بـ «المعروف» أو «بغير المعصية» كما في الحديث: «لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف» (¬1). وتحقيق محبة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هي بمتابعته، بل وتحقيق محبة الله إنما هي بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون}، فاتِّبَاع الرَّسُول صلى الله عليه وسلم هو البرهان، وقد جاء في تفسير هذه الآية -كما ذكر المؤلِّف- أن قوماً ادَّعَوا محبَّة الله فامتحنهم بهذه الآية، ولذا سُمِّيَت هذه الآية بـ «آية المِحْنَة». ثم أورد المؤلِّف جملةً من أقوال بعض شيوخ الصوفية، كأبي يعقوب النَّهْرَجُورِي، وذي النُّون المِصْرِي، ورُوَيْم وغيرِهم، وهؤلاء من أعلام الصوفية، ولهم أقوالٌ جَيِّدَةٌ حَسَنَةٌ، وكثيراً ما يستشهد بها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. وشيوخ الصوفية المتقدِّمون الغالب عليهم الخير، وإن كان لهم أخطاء كغيرهم من الناس، فكل طائفة من أهل الدين من أرباب السلوك أو أرباب الفقه وغيرهم، كل من هؤلاء فيهم المعتدل والمستقيم، وفيهم من يكون عنده بعض الأخطاء في قوله أو في فعله، والواجب العدل في الحكم على الطوائف والجماعات وعلى الأفراد. والمقصود أنَّ المؤلِّف -رحمه الله- يستشهد في هذه الرسالة وفي غيرها بأقوال أولئك الصوفية؛ لأنَّ عباراتهم الواردة في هذا صحيحةٌ، وأنَّ العنوانَ على صدقِ المحبة هو الطاعةُ والوقوفُ عند الحدود، ومحبةُ ما يُحِبُّه الله، إلا أنَّ الأمر لا يقف عند حد المحبة، فالعبودية تتضمن المحبة والخوف والرجاء معاً {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ¬

_ (¬1) متفقٌ عليه من حديث عليٍّ رضي الله عنه؛ البخاري (رقم 6830)، ومسلم (رقم 1840).

ويخافون عذابه} [الإسراء: 57]، فلابد أن تقوم العبادة على هذه الأصول. والصوفية -بعضُهم أو كثيرٌ منهم- يبالغون في تعظيم مقام المحبة، ولا يعظِّمون مقام الرَّجاء والخوف، بل ربما استنقصوا مقام الرَّجاء والخوف، وهذا من أغلاطهم، كما يروى عن بعضهم قوله: (أنا لا أعبد الله حُبَّاً ورَغبَةً في جنَّتِه ولا خَوفَاً من نَارِه)، بمعنى أنَّه لا يعبده إلا بدافع الحبِّ فقط، وهذا غلطٌ (¬1)؛ فالله تعالى أمر بخوفه ورجائه وأثنى على أوليائه بالخوف والرجاء فقال تعالى: {إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ في الخَيرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبَاً وَرَهَبَاً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]. ولعل هذه المقدمة تنفع في ملاحظة ما سيأتي من استشهادات المؤلِّف -رحمه الله- بعبارات بعض أعلام الصوفية، كما ذكره هنا، لكن جملةُ ما ذَكَرَه هنا أنَّ محبةَ الله الصادقة تقتضي محبَّة ما يُحِبه وبُغضَ ما يُبغِضه، وأنَّ خلاف ذلك قادحٌ في المحبَّة بقدرِ ما يقع من تلك المخالفة، وهذا كلامٌ صحيحٌ، وحقٌ لا نزاع فيه. ¬

_ (¬1) قال الشيخ سفر الحوالي - شفاه الله - في «ظاهرة الإرجاء» (ص 378): (وضَلُّوا -يعني الصوفية- في الرَّجاء والمحبَّة، حيث افتعلوا بينهما تناقضاً، فاحتقروا الرجاء واعتبروه «أضعف مقامات المريدين»، وغلوا في المحبة حتى أسقطوا ما يقابلها من الخوف، وجعلوا هَمَّهم -بزعمهم- عبادة الله لذاته، لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، وجعلوا ذروة المحبة الفناء في المحبوب، ولهذا قال فيهم السلف: «من عَبَدَ الله بالحب وحده فهو زنديق»، وأفضى بهم هذا إلى احتقار الجنة والنار، واحتقار مقام الأنبياء، بل اعتقاد الحلول والوحدة! عياذاً بالله. ومن الناحية العلمية وضعوا قاعدة: «المحبة نارٌ في القلب تُحرِقُ ما سوى المحبوب»، واتخذوها ذريعة للتَّنَصُّلِ من التعبُّدَات التي تشغلهم عن المحبوب - بزعمهم - كالاشتغال بجهاد أعدائه وتعلم دينه وتعليمه ونشر دعوته بين العالمين). وقال أيضاً (ص 98 حاشية رقم 1): (وحصيلة دعوى عبادته سبحانه لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره أنها إنكار للافتقار الذاتي إلى الله، وكفى بذلك بدعةً وضلالاً، ولهذا قال من قال من السلف: (من عَبَدَ الله بالحبِّ وَحْدَه فهو زنديق). وسيأتي قريباً في كلام الشارح مزيدُ بسطٍ في نقد هذا المسلَك.

قال ابن رجب رحمه الله

Wوَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَن يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَن يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَن يَكرَهَ أَن يَرجِعَ إلى الكُفرِ بَعدَ إِذ أَنقَذَهُ اللَّهُ مِنهُ، كَمَا يَكرَهُ أَن يُلقَى في النَّارِ» (¬1). هَذِهِ حَالُ السَّحَرَةِ لَمَّا سَكَنَت المَحَبَّةُ قُلُوبَهُم، سَمَحُوا بِبَذلِ نُفُوسِهِم، [فـ] قَالُوا لِفِرعَونَ: اقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ. وَمَتَى تَمَكَّنَت المَحَبَّةُ فِي (¬2) القَلبِ لَم تَنبَعِث الجَوَارِحُ إِلاَّ إِلى طَاعَةِ الرَّبِّ، وهَذَا هو مَعنَى الحدِيثِ الإِلَهِيِّ الَّذِي خَرَّجَهُ البُخَارِيُّ في «صَحِيحِه»، وَفِيهِ: «وَلا يَزَالُ عَبدِي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحبَبْتُهُ كُنتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا» (¬3)، وَفِي بَعضِ الرِّوَايَات: «فَبِي يَسْمَعُ، وبِي يُبْصِرُ، وبِي يَبْطِشُ، وبِي يَمْشِي» (¬4)، ¬

_ (¬1) متفقٌ عليه من حديث أنسٍ رضي الله عنه؛ البخاري (رقم 16)، ومسلم (رقم 43). (¬2) في نسخة (ب): من. (¬3) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة (رقم 6137). (¬4) لم أقف على هذه الرواية مسندةً رغم البحث، وقد ذكرها -من غير عزوٍ- شيخُ الإسلام ابن تيمية في مواضعَ كثيرةٍ من كتبِه، وكذلك تلميذُه ابنُ القيِّم، ولما خَرَّج العلامةُ الألبانيُّ أصلَ الحديث في «الصحيحة» (4/ 191) قال عن هذه الزيادة: (ولم أَرَ هذه الزيادة عند البخاري ولا عند غيره ممن ذكرنا من المخرِّجين)، وقد سبقه إلى هذا الحافظ الذهبي في «تاريخ الإسلام» (51/ 363) فإنه لما أورد كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية وفيه ذِكْرُ هذه الرواية، عقَّبَ عليها بقوله: (قلت: لم أجد هذه اللفظة «فبي يسمع وبي يبصر» إلخ). ثم وجدتُ الحكيمَ الترمذيَّ قد ذَكَرَ هذه الرِّوَاية في «نوادر الأصول» (1/ 265 و 4/ 35)، وفي «الأمثال» (ص 133) ولكنه لم يَسُق إسنادَها أيضاً، والله أعلم.

وَالمعنَى أنَّ مَحَبَّةَ الله إِذَا استَغْرَقَ بِها القَلْبُ واسْتَولَت عَلَيهِ، لَمْ تَنْبَعِث الجَوَارِحُ إِلاَّ إِلى مَرَاضِي الرَّبِّ، وَصَارَت النَّفْسُ حِينَئِذٍ مُطْمَئِنَّةً، فَفَنِيَتْ بِإِرَادَةِ مَولاَهَا عَن مُرَادِهَا وَهَوَاهَا. يا هَذَا اعْبُد اللَّهَ لِمُرَادِهِ مِنكَ لا لِمُرَادِكَ مِنهُ, فَمَن عَبَدَهُ لِمُرَادِهِ مِنهُ فَهو مِمَّن يَعبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، إِن أَصَابَهُ خَيرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وإِن أَصَابَتهُ فتنةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجهِهِ خَسِرَ الدُّنيَا والآخِرَةَ. وَمَتَى قَوِيتِ المعرِفَةُ والمحَبَّةُ لَمْ يُرِد صَاحِبُهَا إلاَّ مَا يُرِيدُهُ مَولاهُ، وَفي بَعضِ الكُتُبِ السَّالِفَةِ: (مَن أَحَبَّ الله لَمْ يَكُن شَيءٌ عِندَهُ آثَرُ مِن رِضَاهُ، وَمَن أَحَبَّ الَّدُنيَا لَمْ يَكُن شَيءٌ عِندَهُ آثَرُ مِن هَوَى نَفْسِهِ) (¬1). وَرَوَى ابنُ أبي الدُّنيَا بِإِسنَادِهِ عن الحَسَنِ، قَالَ: مَا نَظَرْتُ بِبَصَرِي، وَلاَ نَطَقْتُ بِلِسَانِي، وَلاَ بَطَشْتُ بِيَدِي، وَلاَ نَهَظْتُ عَلَى قَدَمِي، حَتَّى أَنْظُرَ عَلَى طَاعَةٍ أو مَعصِيَةٍ، فَإِن كَانَت طَاعَةً تَقَدَّمْتُ، وَإِنْ كَانَت مَعْصِيَةً تَأَخَّرْتُ (¬2). هَذَا حَالُ خَوَاصِّ المحِبِّينَ [الصَّادِقِينَ]، فَافْهَمُوا رَحِمَكُمُ الله هَذَا؛ فَإنَّه مِن دَقَائِقِ أَسْرَارِ التَّوحِيدِ الغَامِضَة. وَإِلى هَذَا المقَامِ أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في خُطْبَتِهِ لَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ، حَيثُ قَالَ: «أَحِبُّوا الله مِن كُلِّ قُلُوبِكُم» وَقَد ذَكَرَهَا ابنُ إِسحَاقَ وغَيرُه (¬3). ¬

_ (¬1) لم أجده، وقد ذكره المولِّف في كتابه «جامع العلوم والحِكَم» (1/ 213) و (2/ 397). (¬2) أخرجه ابن أبي الدنيا في «الورع» (رقم 195). (¬3) أخرجها هنَّادٌ في «الزهد» (رقم 492)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 525 - 526) كلاهما من طريق محمد بن إسحاق بإسناده مرسلاً.

فَإِنَّ مَن امْتَلأَ قَلبُه مِن مَحَبَّةِ الله لَمْ يَكُن فِيهِ فَرَاغٌ لِشَيءٍ من إِرَادَاتِ النَّفْسِ وَالهَوَى، وَإِلى ذَلِكَ أَشَارَ القَائِلُ بِقَولِهِ (¬1): أَرُوحُ وَقَد خَتَمتَ عَلَى فُؤادِي ... بِحُبِّكَ أن يَحُلَّ بِهِ سِوَاكَ فَلَو أَني استَطَعتُ غَضَضْتُ طَرْفِي ... فَلَم أَنْظُرْ بِهِ حَتَّى أَرَاكَا أُحِبُّكَ لا بِبَعْضِي بَلْ بِكُلِّي ... وَإِنْ لَمْ يُبْقِ حُبُّكَ لي حِرَاكَا وَفي الأَحْبَابِ مَخْصُوصٌ بِوَجْدٍ ... وَآخَر يَدَّعِي مَعَهُ اشْتِرَاكَا إِذَا اشْتَبَكَتْ (¬2) دُمُوعٌ في خُدُودٍ ... تَبَيَّنَ مَن بَكَا مِمَّنْ تَبَاكَى فَأَمَّا مَن بَكَى فَيَذُوبُ وَجْدَاً ... وَيَنْطِقُ بِالهَوَى مَن قَد تَشَاكَا مَتَى بَقِيَ لِلمُحِبِّ مِن نَفْسِهِ حَظٌّ فَمَا بِيَدِهِ من المَحَبَّةِ إِلاَّ الدَّعْوَى، إِنَّمَا المُحِبُّ مَن يَفْنَى عَن [هوى] نَفْسِهِ كُلِّهِ، وَيَبْقَى بِحَبِيبِهِ، فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ. القَلبُ بَيتُ الرَّبِّ، وفي الإِسرَائِيلِيَّات يَقُولُ الله: (مَا وَسِعَنِي سَمَائِي وَلا أَرْضِي، وَلَكِن وَسِعَنِي قَلْبُ عَبدِي المُؤمِن) (¬3). ¬

_ (¬1) هذه الأبيات من قصيدة للمتنبي يمدح بها أبا شجاعِ عَضُد الدَّولة، مطلعها: فِدًى لكَ مَن يُقَصِّرُ عَن مَدَاكَا ... فَلاَ مَلِكٌ إِذَنْ إِلاَّ فِدَاكَا ولم أر البيتين -الثالث والسادس- من ضمن أبيات القصيدة، فلعلهما في رواية أخرى لها. ينظر: «ديوان المتنبي بشرح أبي البقاء» (2/ 385 وما بعدها)، و «شرح ديوان المتنبي» للبرقوقي (3/ 123 وما بعدها). (¬2) وقع في نسخة (ب): اسْتَكَبَت. (¬3) سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا الأثر - كما في «مجموع الفتاوى» (18/ 370) - فقال: (هذا ما ذَكَرُوهُ في الإسرائيليات ليسَ لَهُ إسنَادٌ مَعرُوفٌ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعنَاهُ: وَسِعَ قَلبُهُ مَحَبَّتِي ومَعرِفَتِي، وما يُروَى: «القَلبُ بَيتُ الرَّبِّ» هذا مِن جِنسِ الأَوَّلِ، فإِنَّ القَلبَ بَيتُ الإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى ومَعرِفَتِهِ ومَحَبَّتِهِ ....). وقال عنه العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (3/ 15): (لم أَرَ لَهُ أصلاً).

الشرح

فَمَتَى كَانَ القَلبُ فِيهِ غَير الله، فَالله أَغنَى الأَغْنِيَاءِ عَن الشِّرْكِ، وَهو لاَ يَرْضَى بِمُزَاحَمَةِ أَصْنَامِ الهَوَى، الحقُّ تَعَالَى غَيُورٌ، يَغَارُ عَلَى عَبدِهِ المُؤمِن أَن يَسْكُنَ في قَلْبِهِ سِوَاهُ، وأَن يَكُونَ فِيهِ شَيءٌ لا يَرْضَاهُ. أَرَدْنَاكُمُ صِرْفَاً فَلَمَّا مَزَجْتُمُ ... بَعُدْتُمْ بِمِقْدَارِ التِفَاتِكُمْ عَنَّا وَقُلْنَا لَكُمْ لا تُسْكِنُوا القَلبَ غَيرَنَا ... فَأَسْكَنْتُمُ الأَغْيَارَ مَا أَنْتمُ مِنَّا (¬1) ـQاستشهد المؤلِّف -رحمه الله- في هذا المقام بأنَّ كمالَ المحبَّة يقتضي كمال الطاعة، وقد استشهد على ذلك بالحديث القدسي الذي أخرجه البخاري في «صحيحه» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصَرَه الذي يُبصِرُ به، ويَدَه التي يَبطِشُ بها، ورِجْلَه التي يمشي بها». وفي روايةٍ في غير «الصحيح»: «فبي يَسْمَعُ، وبي يُبْصِرُ، وبي يَبْطِشُ، وبي يَمْشِي»، وهذا اللفظ يُفِيدُه اللفظ الأول: «كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها». فالمؤمنُ المُحِبُّ الصَّادِقُ تكون جميع تصرُّفاتِه لله وفي الله، كما في الحديث: «مَن أحبَّ لله وأبغضَ لله وأعطى لله ومَنَعَ لله فقد استكمَلَ الإيمان» (¬2). ¬

_ (¬1) هذان البيتان ذكرهما ابن الجوزي في «المدهش» (ص 326)، ولم ينسبهما لأحد. وقد ذكر بهاء الدين العاملي في «الكشكول» (1/ 123) أن أبا بكر الشِّبْلِي -أحدُ أعيانِ الصوفية- سمع رجلاً ينشد: أَرَدْنَاكُمُ صِرْفَاً فَإِذْ قَدْ مَزَجْتُمُ ... فَبُعْدَاً وَسُحْقَاً لا نُقِيْمُ لَكُمْ وَزْناً ولم يذكر سوى هذا البيت، وهو مطابقٌ في معناه لما أورده ابنُ رجب. (¬2) أخرجه أبو داود في «سننه» (رقم 4681)، والطبراني في «الكبير» (رقم 7613 و 7737 و 7738)، وابن بطة في «الإبانة» (رقم 846)، جميعهم من طريق يحيى بن يحيى الذِّماري، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة مرفوعاً. قال الذهبي في «معجم الشيوخ» (2/ 347): (هذا حديثٌ صحيحٌ).

والمعنى: أنه لا يُحِبُّ أحداً إلا لله، ولا يُبغضه إلا لله، وإن أعطى أعطى لله، وكل بَذْلٍ لا يبذله إلا لله، حتى ما يُنفِقُه على زوجتِه، كما في حديث سعدٍ رضي الله عنه: «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ في فِي امْرَأَتِكَ» (¬1). فأهلُ الإيمانِ الكامِلِ كلُّ تصرفاتهم -حتى الأمور الطبيعية العادية- تكون لله عز وجل، فإذا أنفق الواحدُ منهم على أولادِه فإنَّه يُنفِقُ عليهم محتَسِباً، يراعي ما أوجبَ الله عليه من الإحسان إليهم، وما يترتب على إنفاقه عليهم من إغنائهم كفايتهم، وإعانتهم على ما ينفعهم، وهكذا تكون أعماله كلها لله. وقول الله عز وجل -في الحديث-: «ولا يزال عبدي يتقرب إلَيَّ بالنوافل حتى أُحِبَّهُ، فإذا أحببتُه» يعني المحبةَ الكاملة، وإلا فإنَّ الله يُحِبُّ كلَّ مؤمن، لكن محبته لأوليائه والصالحين من عباده ليست على مرتبةٍ واحدةٍ أو على حدٍّ سواء؛ بل فيها تفاوت وتفاضل كما قال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة:253] وقال: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} [الإسراء:55]، فالأنبياء والصالحون والمؤمنون متفاضلون فيما بينهم في المرتبة والمحبة. ثم قال تعالى: «فإذا أحبَبْتُه كنتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها» فأفكارُه تكون أيضاً دائرة على الحق، فإذا كانت هذه حال الجوارح، فحركة الجوارح تابعة لما في القلب، وإنما تكون الجوارح متَقَيِّدَة بهذه الحال بكمال عبودية القلب لله، حباً وخوفاً ورجاءً، وهذا يعني أن المحقِّق لهذه العبودية والمحبة والإيمان لا يريد إلا ما يريده الله، وهذه هي الإرادة الشرعية. وقول المؤلِّف: (وصارت النَّفْسُ حينئذٍ مطمَئِنَّةً، فَفَنِيَت بِإِرَادَةِ مَولاَهَا عَن ¬

_ (¬1) متفقٌ عليه، أخرجه البخاري في مواضع من «صحيحه» منها: (رقم 56)، ومسلم (رقم 1628).

مُرَادِهَا وَهَوَاهَا) بحيث إنه لا تكون لها إرادة إلا ما يكون بتحقيق مراد الله منها، فالمحب الصادق هو الذي يعبد الله -كما قال المؤلِّف- على مراد الله منه، لا على مراده هو من الله. وهذه العبارة فيها ما فيها؛ لأنَّ العبدَ -كما ذكرتُ- يعبدُ ربَّه على وِفْقِ ما أراد الله منه، وهذا لا يمنع من أن يكون العبدُ يريد من ربِّه أموراً كثيرة؛ من مغفرة الذنوب، ودخول الجنة، والنجاة من النار، إلى غير ذلك. والله تعالى قد أثنى على أنبيائه ورسله مع أنهم يريدون منه الرحمة، ويريدون منه الجنة والنجاة من النار كما قال تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا} [السجدة: 16]، وقال: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} [الأنبياء: 90]. ولكن المذموم أن يعبد العبدُ ربَّه لما يريده منه من أمر الدنيا، وهذا هو الذي يسقط عليه ما استشهد به المؤلِّف من قوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة} [الحج:11]، فهو يعبد الله على طَرَفٍ من الدِّين، غير متمَكِّنٍ منه، فهو يعبد الله ما استقامت دنياه، فإن أصابتهُ فتنةٌ أو مصيبةٌ أو فقرٌ أو حاجةٌ انقلب على وجهه. فمن يعبد الله ليعطيه سعادة الدنيا ولا يريد الآخرة، فهذا هو الذي ذَمَّه الله بقوله: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا} فهو يريد المال والولد والجاه والشرف وأنواع المتاع، {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ - وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:200 - 201]، وقال تعالى: {من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة} [النساء:134]. فلم يَذُمَّ الله الذين يريدون الآخرة إنما ذَمَّ الَّذِين يريدون الدنيا {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} [الأنفال:67].

وقال سبحانه وتعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} [الإسراء:19]، فإرادة ثواب الآخرة وإرادة الجنة هذه لا إثم فيها، ولا نقص فيها، ولا عيب على من يعبد الله محبةً له وخوفاً منه ورجاءً في ثوابه هذا، وإلا فلماذا ذكر الله تعالى لعباده الجنة والنار، وسائر أمر الآخرة؟ ما ذكر ذلك سبحانه إلا ترغيباً وترهيباً كما قال تعالى: {ذلك يخوف الله به عباده يا عبادي فاتقون والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى} [الزمر:16 - 17].

قال ابن رجب رحمه الله

Wلا يَنجُو غَداً إِلاَّ مَن أَتَى الله بِقَلبٍ سَلِيمٍ، لَيسَ فِيهِ سِوَاهُ، قَالَ اللهُ تَعَالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون - إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشُّعَرَاء: 88 - 89]. القَلبُ السَّلِيمُ: هُو الطَّاهِرُ مِن أَدنَاسِ المُخَالفَات, فَأَمَّا المُتَلَطِّخُ بِشَيءٍ مِنَ المَكرُوهَاتِ فَلا يَصلُحُ لِمُجَاوَرَةِ حَضرَةِ القُدُسِ (¬1) إِلاَّ بَعدَ أَن يُطَهَّرَ في كِيرِ العَذَابِ، فَإِذَا زَالَ مِنهُ (¬2) الخَبَثُ صَلَحَ حِينَئِذٍ لِلمُجَاوَرَةِ «إِنَّ الله طِيبٌ لا يَقبَلُ إِلاَّ طَيِّباً» (¬3). فَأَمَّا القُلُوبُ الطَّيِّبَةُ فَتَصلُحُ لِلمُجَاوَرَةِ مِن أَوَّلِ الأَمرِ: [{سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد:24]]، {سلامٌ عليكم طبتم فادخلوها خالدين} [الزمر:73]، {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلامٌ عليكم ادخلوا الجنة [بما كنتم تعملونٍ]} [النحل:32]. مَن لَم يُحرِق اليَومَ قَلبَهُ بِنَارِ الأَسَفِ عَلَى مَا سَلَفَ، أَو بِنَارِ الشَّوقِ إِلَى لِقَاءِ الحَبِيبِ, فَنَارُ جَهَنَّمَ لَهُ أَشَدُّ حَرًّا. مَا يَحتَاجُ إِلى التَّطهِيرِ بِنَارِ جَهَنَّمَ إِلاَّ مَن لَم يُكمِل تَحقِيق التَّوحِيدِ وَالقِيَام بِحُقُوقِهِ. ¬

_ (¬1) كذا في النسختين، ووقع في هامش نسخة (ب): (لعله: القدوس)، والصواب ما في «النسختين»، وهو ما صوَّبه الشارح حفظه الله، فقال: هذه العبارة «حَضْرَة القُدُس» من العبارات الدارجة على لسان مَن يتكلَّم بهذا الكلام. (¬2) في نسخة (ب): عنه. (¬3) أخرجه مسلمٌ (رقم 1015) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الشرح

Q ذكر المؤلف -رحمه الله- هنا أنه لا ينجو من عذاب الله يوم القيامة إلا صاحب القلب السليم، واستدل بقول الله تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون - إلا من أتى الله بقلب سليم} وهذا جاء في ثنايا قصةِ إبراهيمَ عليه السلام، ودعائِه: {واجعلني من ورثة جنة النعيم - واغفر لأبي إنه كان من الضالين - ولا تخزني يوم يبعثون - يوم لا ينفع مال ولا بنون - إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء:85 - 89]. ومن بديع المناسبات هنا أنَّ الله وصف إبراهيم عليه السلام بـ «سلامة القلب» فقال: {وإن من شيعته لإبراهيم - إذ جاء ربه بقلب سليم} [الصافات:83 - 84]. فـ «القلب السليم» جاء في القرآن في هذين الموضعين: الأول: في كلام إبراهيم عليه السلام. والثاني: في وصف الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام. و «السليم» صيغة تدل على السلامة، فهو ضد العليل والمريض. وعلى هذا فـ «القلب السليم» هو: القلبُ السالم من المخالفات؛ مخالفات الأوامر والنواهي، وذلك بترك المأمور أو فعل المحظور. فلا ينجو من عذاب الله نجاةً مطلقةً، بحيث لا يناله عذاب، إلا صاحب القلب السليم، وهذا هو الذي ينجو ولا يتعرض لشيءٍ من العذاب؛ لسلامة قلبه، ومَن هذا حاله فإنه يدخل الجنة من أوَّل وَهْلَة. فأشار المؤلِّف إلى نوعٍ من سلامة القلب، وهو السلامة من فتن الشهوات وفتن الشبهات، وقد يقال: إنَّ كلامَه شاملٌ، لكن لعل مما يوضح المقام ما ذكره العلامة ابن القيم -رحمه الله- في مواضع من كتبه، ولاسيما في كتابه «إغاثة اللهفان»، فإنه عُنِيَ بالكلام على أقسام القلوب، فينبغي أن يراجع وتراجع تلك الأبواب. ومما جاء في كلام المؤلف -رحمه الله-: أنَّ القلب السليم هو السالم من فتن

الشهوات وفتن الشبهات؛ فتن الشهوات التي تعارض أمر الله ونهيه، وفتن الشبهات التي تعارض خبر الله. ففتن الشهوات تحمل على المعصية والمخالفة؛ بترك المأمور وفعل المحظور. وفتن الشبهات تُضْعِفُ اليقين، أو تورث الشك فيما أخبر الله به ورسوله. فـ «القلب السليم» لابد أن يسلم اعتقاده من عوارض الشبهات، وتسلم إرادته من عوارض الشهوات. فالقلوب أقسام، فمنها: - القلب السليم، وهو قلب المؤمن كامل الإيمان. - والقلب الميِّت الذي لا حِسَّ فيه ولا إرادة، وهو قلب الكافر. - والقلب المريض، وهو قلب المُخَلِّط الذي فيه مادَّتَان؛ مادَّةُ حياةٍ ومادَّة موتٍ، وهو لما غلب عليه منهما. وفي الحديث الصحيح: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُوداً عُوداً، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السموات وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسوَدُ مُرْبَادَّاً، كَالْكُوزِ مُجَخِّياً، لا يَعْرِفُ مَعْرُوفاً، وَلا يُنْكِرُ مُنْكَراً، إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» (¬1). ومن أمراض القلوب التي تبعث عليها الشهوات -وهي كثيرة-: الرياء، وهو أن يعمل الإنسان العمل مما يحبه الله ليراه الناس، وليقولوا فيه كذا وكذا، يعني أنه يَعمَلُ العَمَلَ للمَحْمَدَة، نعوذ بالله من ذلك، وهذا مرضٌ خطيرٌ، نسأل الله أن يقينا منه، ولهذا جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «أخوف ما أخاف عليكم الشركُ الأصغرُ» فسُئل عنه؟، فقال: «الرِّيَاء» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (رقم 144) من حديث حذيفة رضي الله عنه. (¬2) أخرجه أحمد في «المسند» (رقم 23630 و 23631 و 23636)، وإسناده حسن، كما قال الحافظ ابن حجر في «بلوغ المرام» (رقم 1498)، وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 34): (إسناده جيِّد).

وفي المسائل التي ذكرها الشيخ محمَّدُ بنُ عبدِ الوهاب -رحمه الله- في كتاب «التوحيد»، استنباطاً من نصوص (باب الخوف من الشرك): أنَّ الرِّياءَ أخوفُ ما يُخَاف منه على الصالحين (¬1). فعلى الإنسان أن يجتنب الرياء وأن يأخذ بالأسباب الواقية منه، وأن يسأل ربه أن يعصِمَه من الشركِ كُلِّهِ، صغيرِه وكبيرِه، ظاهرِه وخَفِيِّه، فالرياءُ هو شركٌ أصغرٌ وخفيٌّ. فـ «القلب السليم» هو الذي سَلِمَ من هذه الآفات؛ من الرِّياءِ وغيرِه من أمراض القلوب؛ كالكِبْر، والحَسَدِ، وسوءِ الظنِّ بالله، والظنونِ الكاذبةِ، والغِشِّ وغيرِها، وهذه أمراضٌ قلبيَّةٌ معنويَّةٌ، وكلُّها تنافي سلامة القلب، لكن قد تصل إلى أن يموت بها القلبُ فيصيرُ ميِّتَاً، وقد يصيرُ مريضاً ثم يَصِحُّ، وقد يبقى على مرضه. فأحوال القلوب تشبه أحوال الأبدان؛ فكما أنَّ الأبدانَ منها الميِّتُ، ومنها الصحيحُ، ومنها المريضُ، فكذلك القلوب، وأيضاً فإنَّ أمراض الأبدان تختلف، فمنها مرضٌ معضِلٌ ربما يفضي بصاحبه إلى الموت، وكذلك أمراض القلوب، نسأل الله السلامة والعافية. ¬

_ (¬1) المسألة الرابعة من مسائل الباب المذكور.

قال ابن رجب رحمه الله

Wأَوَّلُ مَا (¬1) تُسَعَّرُ بِهِ النَّارُ مِنَ المُوَحِّدِينَ العُبَّادُ المُرَاؤونَ بِأَعمَالِهِم؛ وَأَوَّلُهُم العَالِمُ, وَالمُجَاهِدُ, وَالمُتَصَدِّقُ لِلرِّيَاءِ؛ لأَنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِركٌ. مَا نَظَرَ المُرَائِي إِلَى الخَلقِ فِي عَمَلِهِ إِلاَّ لِجَهلِهِ بِعَظَمَةِ الخَالِقِ. المُرَائِي يُزَوِّرُ التَّوَاقِيعَ عَلَى اسمِ المَلِكِ; لِيَأخُذَ البَرَاطِيلَ (¬2) لِنَفسِهِ, وَيُوهِمَ أَنَّهُ مِن خَاصَّةِ المَلِكِ، وَهُوَ مَا يَعرِفُ المَلِكَ بِالكُلِّيَّةِ. نَقَشَ المُرَائِي عَلَى الدِّرهَمِ الزَّائِفِ اِسمَ المَلِكِ لِيَرُوجَ (¬3)، وَالبَهرَجُ (¬4) مَا يَجُوزُ (¬5) إِلاَّ عَلَى غَيرِ النَّاقِدِ. Qتكلَّم المؤلِّفُ -رحمه الله- في هذه الجملة عن «المرائي» وذكر عنه: ¬

_ (¬1) كذا في النسختين، وله وجه، ووقع في هامش نسخة (ب): مَن، وهو أولى. (¬2) البراطيل: جمع بِرْطِيل -بكسر الباء الموحَّدة- وهو الرِّشْوَة، وفي المثل: «البَرَاطِيل تَنْصُرُ الأَبَاطِيل». ينظر: «أساس البلاغة» (مادة: ب ر ط ل)، و «المصباح المنير» (مادة: ب ر ط ل)، و «تاج العروس» (28/ 75). (¬3) رَاجَ الشَّيْءُ يَرُوجُ رَوَاجاً: إذا نَفَقَ، ورَاجَت الدَّرَاهمُ: تَعَامَلَ النَّاسُ بها. ينظر: «تاج العروس» (5/ 600). (¬4) «البَهْرَجُ» -بالفَتْح-: الباطِلُ، والرَّدِئُ مِن كلِّ شيْءٍ، قال ابن الأَعرابيّ: الدِّرْهَمُ البَهْرَجُ: هو الذي لا يُباع به. ينظر: «تاج العروس» (5/ 432). (¬5) وفي بعض النسخ المطبوعة: لا يروج.

أولاً: أنَّه إنما أُتي من جهله بربه، فإنَّ من عَرفَ ربَّه وأنَّه المستحقُ لأنْ يُؤلَه ويُعبَد ويُتَقَرَّب إليه بأنواعِ القُرُبَات فإنَّه لا يُبالي بالخلق ولا يعبأ بهم، فعَمَلُه في الغيب والشهادة واحدٌ، لا يبالي بالنَّاس، إنما يعمل لربِّه ويتقرَّبُ إليه، فالمرائي إنِّما أُتي من جهلِه بعظمةِ الخالِق. وثانياً: أنَّه يُظهِرُ الصلاحَ وهو بخلاف ذلك، وهذا هو الذي ضَرَبَ له المؤلِّف مَثَلَيْنِ: الأول: أنَّه يُزَوِّرُ التواقيعَ، ويُظْهِرُ أنَّه من خَوَاصِّ المَلِك، ليأخذ البراطيلَ لنفسِه. والثاني: أنَّه يَنقشُ اسمَ المَلِك على الدِّرهَمِ الزَّائِفِ ليَرُوجَ. وهذين المثَلَين ضربهما المؤلِّفُ لبيان حال المرائي، وذلك من جهة أنَّه يُظهِرُ الصلاحَ والقُرْبَ من الله وهو بخلاف ذلك، فعمل المرائي في حقيقته تزويرٌ، إذ ليس باطنه كظاهره.

قال ابن رجب رحمه الله

Wوَبَعدَ أَهلِ الرِّيَاءِ يَدخُلُ النَّارَ أَصحَابُ الشَّهَوَاتِ، وَعَبِيدُ الهَوَى، الَّذِينَ أَطَاعُوا هَوَاهُم، وَعَصَوا مَولاهُم، فَأَمَّا عَبِيدُ اللهِ حَقّاً فَيُقَالُ لَهُم: {يا أيتها النفس المطمئنة - ارجعي إلى ربك راضية مرضية - فادخلي [في] عبادي - وادخلي جنتي} [الفجر:27 - 30] نَارُ جَهَنَّمَ تَنطَفِئُ بِنُورِ إِيمَانِ المُوَحِّدِينَ، في الحَدِيثِ: «تَقُولُ النَّارُ لِلمُؤمِنِ: جُزْ، فَقَد أَطفَأَ نُورُكَ لَهَبِي» (¬1). وَفِي «المُسنَدِ» عَن جَابِرٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا يَبقَى مُؤمِنٌ وَلا فَاجِرٌ إِلاَّ دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى المُؤمِنِينَ بَردَاً وَسَلاماً، كَمَا كَانَت عَلَى إِبرَاهِيمَ، حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجاً مِن بَردِهِم» (¬2). ¬

_ (¬1) هذا الحديث من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، وهو ضعيفٌ جداً، فقد أخرجه الطبراني في «الكبير» (22/ 258 - 259)، وابن عدي في «الكامل» (6/ 394)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (رقم 369). قال فيه ابنُ رجب في «التخويف من النار» (ص 202): (هذا حديثٌ غريبٌ، وفيه نكارة)، وقال ابنُ كثير في «النهاية» (2/ 93): (هذا حديثٌ غريبٌ جدَّاً). (¬2) جزءٌ من حديث الورود، أخرجه أحمد في «المسند» (رقم 14520)، وعبد بن حميد كما في «المنتخب من مسنده» (رقم 1106)، والحارث بن أسامة في «مسنده» (رقم 1127 بغية الباحث)، والحاكم في «المستدرك» (4/ 587)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (رقم 364)، وهو حديثٌ ضعيفٌ لا يصح مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج مسلم في «صحيحه» (رقم 191) عن جابرٍ موقوفاً عليه أنه سئل عن «الورود» فأجاب بكلامٍ طويلٍ، فيه ذكر الرؤية والشفاعة، وفيه: (قال: فينْطَلِقُ بهِم [يعني: الربُّ سبحانَه وتعالى] ويَتَّبعونَهُ ويُعطَى كُلُّ إنسَانٍ منهُم - منافقٍ أو مؤمنٍ - نُوراً، ثُمَّ يَتَّبعونهُ وعَلَى جِسرِ جَهَنَّمَ كَلالِيبُ وَحَسَكٌ تأخُذُ من شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَطْفَأُ نورُ المنافقينَ ثُمَّ ينجُو المؤمنُونَ ....)، قلتُ: فلو كان عند جابرٍ رضي الله عنه شيءٌ محفوظٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن «الورود»، لذكره في جوابه، ولم يعدِل عنه إلى قولِ نفسِه، إضافة إلى ما بين السياقين -المرفوع والموقوف- من الفرق الظاهر في المعنى، فتأمَّل.

الشرح

هَذَا مِيرَاثٌ وَرِثَهُ المُحِبُّونَ مِن حَالِ الخَلِيلِ عليه السلام. Qفي هذه الجملة تنبيهٌ إلى أنَّ أصحابَ القلوب السليمة -وهم عبادُ الله المخلَصون- يصيرون إلى الجنَّة من أول وَهْلَة، ولا ينالهم شيءٌ من العذاب، ولا تمسهم النَّارُ بحرِّها وإن ورَدُوها، والله تعالى يقول: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا - ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} [مريم:71 - 72]. وهذا «الورود» قد اختلف العلماء في معناه: فقيل: إنه العبور على الصراط، فهو -على هذا القول- ورودٌ فقط من غير دخول. وقال بعض المفسِّرين -ويشهد له حديث جابر الذي ذكره المؤلِّف-: إنه ما من مؤمنٍ ولا فاجرٍ إلا دخل النَّار، لكن المؤمنون لا ينالهم حرُّها، ولا يضرهم عذابُها، بل تكون عليهم برداً وسلاماً، فيجوزون، كما في الحديث: «تَقُولُ اَلنَّارُ لِلمُؤمِنِ: جُز، فَقَد أَطفَأَ نُورُكَ لَهَبِي». فالمقصود أنَّ «الورودَ» قيل: إنَّه دخول النار {وإن منكم إلا واردها}، وقد رجَّح هذا المعنى شيخُنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في «أضواء البيان» (¬1)، واستشهد له بأن «الورود» في سائر مواضعه يراد به: الدخول، كما في قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} [الأنبياء:98] يعني: داخلون، فسمَّى الدخولَ وُرُوداً، وقوله تعالى: {فأوردهم -يعني أدخلهم- النار وبئس الورد المورود} [هود:98]. ¬

_ (¬1) (4/ 435 وما بعدها).

وعلى أي حال فأهل التوحيد الخالص وعبادُ الله المخلَصون لا يعذَّبون، ولا يمسهم شيء من العذاب، بل هم يَنجُون كما قال تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} [مريم:72]. ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- قوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية} وكأن سياق كلامه يقتضي أنَّ هذا يقال يوم القيامة، ولا مانع أن يقال للنفس عند الاحتضار: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية}؛ فهي ترجع إلى ربها بالموت، وترجع إلى ربها كذلك يوم القيامة (¬1)، وتدخل في عباد الله وفي كرامة الله، {فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}، {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون}. فالنفس المطمئنة ونفوس عباد الله الطيبين تؤول إلى الجنة وتدخلها بعد الموت، ولكن الدخول المستقِرّ على وجه التمام والكمال إنما يكون يوم القيامة، عندما تُرَدُّ الأرواحُ إلى الأبدان، ويُبعَثُ النَّاسُ من قبورهم، فهنالك يصير كلٌّ إلى ما يناسبه من الجزاء، {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون - وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي العَذَابِ مُحضَرُونَ} [الروم:15 - 16]، {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا} [الزمر:71]، {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا} [الزمر:73]. ¬

_ (¬1) وبالقولين قال أهل التفسير، ينظر: «تفسير الطبري» (24/ 390 وما بعدها)، و «تفسير ابن كثير» (8/ 400).

قال ابن رجب رحمه الله

Wنَارُ المَحَبَّةِ فِي قُلُوبِ المُحِبِّينَ تَخَافُ مِنهَا نَارُ جَهَنَّمَ. قَالَ الجُنَيدُ [رضي الله عنه]: قَالَت النَّارُ: يَا رَبِّ لَو لَم أُطِعكَ هَل كُنتَ تُعَذِّبنِي بِشَيءٍ؟، قَالَ: نَعَم كُنتُ أُسَلِّطُ عَلَيكَ نَارِي الكُبرَى، قَالَت: وَهَل نَارٌ أَعظَمُ مِنِّي وَأَشَدُّ؟ قَالَ: [نعم]، نَارُ مَحَبَّتِي أَسكَنتُهَا قُلُوبَ أَولِيَائِي المُؤمِنِينَ (¬1). قِفَا قَلِيلاً بِهَا عَلَيَّ فَلا ... أَقَلَّ مِن نَظرَةٍ أُزَوَّدُهَا (¬2) فَفِي فُؤَادِ المُحِبِّ نَارُ هَوَى (¬3) ... أَحَرُّ نَارِ الجَحِيمِ أَبرَدُهَا (¬4) [فـ] لَولا دُمُوعُ المُحِبِّينَ تُطفِيءُ بَعضَ حَرَارَةِ الوَجدِ لاحتَرَقُوا كَمَدَاً. دَعُوهُ يُطفِي بِالدُّمُوعِ حَرَارَةً ... عَلَى كَبِدٍ حَرَّى دَعُوهُ دَعُوهُ! سَلُوا عَاذِلِيهِ يَعذُرُوهُ هُنَيهَةً ... فَبِالعَذَلِ دُونَ الشَّوقِ قَد قَتَلُوهُ (¬5) كَانَ بَعضُ العَارِفِينَ (¬6) يَقُولُ: أَلَيسَ عَجَباً أَن أَكُونَ حَيَّاً بَينَ ¬

_ (¬1) قال الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- في تعليقه على «جامع الرسائل والمسائل النجدية» (4/ 866): (إنْ صَحَّ هذا عن الجُنَيد فمراده منه أنَّ نارَ الحُبِّ أشدُّ حَرَّاً من جهنم بطريقة التمثيل لا الرِّواية، وهو أشبَهُ بكلامِ جَهَلَةِ الصوفِيَّة منه بكلام الإمام الجُنَيد). (¬2) في نسخة (ب): أُرَدِّدُهَا. (¬3) في نسخة (ب): نَارُ جَوَى. قال في «القاموس»: (الْجَوَى: هَوَى بَاطِنٌ). (¬4) البيتان من قصيدةٍ للمتنبِّي يمدح بها محمَّد بنَ عبيدِ الله العلوي، مطلعها: أَهلاً بِدَارٍ سَبَاكَ أَغْيَدُهَا ... أَبْعَدَ مَا بَانَ عَنْكَ خُرَّدُهَا ينظر: «ديوان المتنبي بشرح أبي البقاء العكبري» (1/ 296). (¬5) هذان البيتان نسبهما ابن الجوزي في «المدهش» (ص 407) لابن المعتز، ولم أقف عليهما في المطبوع من ديوانه. (¬6) ذكره ابن الجوزي في «صفة الصفوة» (2/ 281 - 282) ونسبه إلى إحدى عابدات مكة ولم يُسَمِّها.

الشرح

أَظهُرِكُمٍ، وَفي قَلبِي مِن الاشتِيَاقِ إِلَى رَبِّي مِثلَ شُعَلِ النَّارِ الَّتِي لا تَنطَفِئُ؟!. ‍ وَلَم أَرَ مِثلَ نَارِ الحُبِّ نَاراً ... تَزِيدُ بِبُعدِ مُوقِدِهَا اِتِّقَادَاً (¬1) Qهذه الأقوال أقوالٌ منكرةٌ، واستشهاد المؤلف بها غير لائقٍ، وقد ذكرتُ سابقاً أنَّ بعضَ أهل العلم يكون عنده نزعة تَصَوُّفٍ فيتساهل بالاستشهاد بأقوال بعض شيوخ الصوفية. وقوله -رحمه الله-: (نَارُ المحَبَّةِ ...) التعبير عن قوة المحبة وصدقها بـ «النَّار» هذا مما لا يليق في محبة الله ولا يصلح أبداً، وإنما يكون هذا في محبة العُشَّاق الذين يُعَانُون من عشقِهم، ومحبتُهم تلك هي -في الحقيقة- عذابٌ لهم يعذبون بها {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} [التوبة:55]. فالمفْتُونُ بأمرٍ من المحبوبات حين لا يناله يبقى معذَّبَاً به بسبب تَوَقَانِه وتَعَلُّقِ قلبِه به، أما محبَّة الله فحاشا وكَلاَّ أن تكون ناراً أو عَذَاباً؛ فأنبياء الله ورُسُلِه وأتباعهم من المؤمنين في قلوبهم من محبة الله ما ليس في قلوب هؤلاء الصوفية، وهذه المحبة هي حلاوةٌ يجدونها في قلوبهم، فليست ناراً أو عذاباً، «ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإيمان: أن يكون الله ورسولُه أَحَبَّ إليه مما سِوَاهُمَا ... الحديث» (¬2). فمحبةُ الله ليست ناراً، بل هي حلاوةٌ ونعيمٌ لقلوب المؤمنين، فالمؤمنون ¬

_ (¬1) لم أقف على قائله. (¬2) متفقٌ عليه من حديث أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، أخرجه البخاري (رقم 16)، ومسلم (رقم 174).

يُحبُّون ربهم ويخافونه ويرجونه، فهم يَنعَمُون بمحبَّته، ويَنعَمون بخوفِه ورجائِه؛ لأنهم يخافون منه ويَفِرُّون إليه، وفي الحديث: «لا مَلجَأ ولا مَنجَى منك إلا إليك» (¬1). ثم ذكر المؤلِّف -رحمه الله- أنَّ محبة الله نارٌ تخافها نار جهنم، ثم أردف هذا القول المنْكَر بهذا الحوار المفتَرَى، وهو أنَّ نارَ جهنَّم تقول لربها عَزَّ وَجَلَّ: لو لم أُطِعكَ فبِأيِّ شيءٍ تعذِّبُني؟ قال: أُعَذِّبُكِ بنارِي الكُبرَى؛ نارِ مَحَبَّتِي. وهذا كلامٌ منكرٌ، لا أظنُّه يَصِحُّ عن الجُنَيدِ -رحمه الله-، فالجنيد قد أثنى عليه شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2)، وابن القيم (¬3)؛ فمستبعدٌ أن يَثْبُتَ عنه ذلك. فنار الله الكبرى هي التي يعذِّب بها الكفار، كما قال تعالى: {سيتذكر من يخشى - ويتجنبها الأشقى - الذي يصلى النار الكبرى - ثم لا يموت فيها ولا يحيى} [الأعلى:10 - 13]. فهذه الألفاظ إنما يطلقها العُشَّاق، فإنَّ الواحد منهم يتكلَّم فيقول: في قلبي نارٌ من حُبِّ فلانٍ أو فلانةٍ، نعم يجدون ناراً ويجدون أَلَمَاً ويتعذَّبُون ويشقون شقاءً، أما أهل الإيمان وأهل العلم بالله والحب لله فليسوا كذلك، بل هم في نعيمٌ من تلكم المحبة كما دلت عليها النصوص. ¬

_ (¬1) جزءٌ من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه المتفق عليه في ما يقال عند النوم وأَخْذِ المضجع، أخرجه البخاري (رقم 247)، ومسلم (رقم 7057). (¬2) قال في كتابه «الاستغاثة» (ص 652): (وكان الجنيدُ -رحمه الله- أفقهَ القومِ -يعني المتَصوِّفَة الأُلَى- وأعلمَهم بالدِّين)، وقال في «مجموع الفتاوى» (11/ 393): (.... بخلافِ الجُنيد فإنَّ الاستقامةَ والمتابعةَ غالبةٌ عليهِ)، وذكره في (2/ 474) من جملة (مشايخِ الإسلامِ وأئمَّةِ الهُدى الَّذين جعل الله تعالى لهم لسانَ صِدقٍ في الأُمَّةِ)، ووَصَفَه في (5/ 126) بأنَّه (من شيوخِ أهلِ المعرِفَةِ المتَّبعينَ للكتَابِ والسُّنَّةِ). (¬3) قال في كتابه «مدارج السالكين» (3/ 122): (رحمة الله على أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه ما أتبعه لسنة الرسول وما أقفاه لطريقة أصحابه).

قال ابن رجب رحمه الله

Wمَا لِلعَارِفِينَ شُغلٌ بِغَيرِ مَولاهُم، وَلا هَمٌّ في غَيرِهِ. في الحَدِيثِ: «مَن أَصبَحَ وَهَمُّهُ غَيرُ اللهِ فَلَيسَ مِن اللهِ» (¬1). قَالَ بَعضُهُم: مَن أَخبَرَكَ أَنَّ وَلِيَّهُ لَهُ هَمٌّ في غَيرِهِ فَلا تُصَدِّقهُ. وَكَانَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ يَقُولُ في اللَّيلِ: هَمُّكَ عَطَّلَ عَلِيَّ الهُمُومَ، وَحَالَ بَينِي وَبَينَ السُّهَادِ، وَشَوقِي إِلَى النَّظَرِ إِلَيكَ أَوبَقَ مِنِّي اللَّذَّاتِ، وَحَالَ بَينِي وَبَينَ الشَّهَوَاتِ، فَأَنَا في سِجنِكَ أَيُّهَا الكَرِيمُ مَطلُوبٌ (¬2). مَا لِي شُغلٌ سِوَاهُ مَا لي شُغلُ ... مَا يَصرِفُ عَن هَوَاهُ قَلبِي عَذَلُ مَا أَصنَعُ إِن جَفَا وَخَابَ الأَمَلُ ... مِنِّي بَدَلٌ وَمِنهُ مَا لي بَدَلُ Qوكذلك هذا الكلام - إن صحَّ - فهو كلام أحدُ الصوفية الجهَّال، الذين عندهم محبةٌ وشوقٌ، ولكن على غير علمٍ وبصيرةٍ. فحبُّ الأنبياء والمرسلين لربهم عزَّ وجَلَّ لم يُعَطِّل عليهم كلَّ شيءٍ، أليسوا ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/ 320) وسكت عنه، وابن بشران في «الأمالي» (رقم 1034)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً، وإسناده واهٍ. وللحديث شواهد من حديث أنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان، وأبي ذر رضي الله عنها، وكلُّها ضعيفة لا تصح. فالمقصود أن الحديث لا يثبت مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم من وجهٍ صحيحٍ، وقد رواه الإمام أحمد في «الزهد» (رقم 176) بإسنادٍ جيِّدٍ عن أبي بن كعب موقوفاً عليه، والله أعلم. (¬2) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (7/ 356 - 357).

يتزوَّجون، ولهم ذرية وأموال؟ {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} [الرعد:38]، أليسوا يأكلون ويشربون، ويمشون في الأسواق، ويقضون حوائجهم؟ {وَمَا أَرسَلنَا قَبلَكَ مِنَ المُرسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُم لَيَأكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمشُونَ فِي الأَسوَاقِ} [الفرقان:20]. ومع هذا فحبُّهم لله وإقبالُهم عليه لم يُعطِّل عليهم لذَّاتهم الطبيعية، حتى يتركَ الواحدُ منهم أهلَه وولَدَه ولَذَّاتِه، وهي أمورٌ بشريِّةٌ طبيعيَّةٌ. فهو سبحانه شرع للإنسان أن يأكل ويشرب، و «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الحَلوَى وَالعَسَلَ» (¬1)، وقال صلى الله عليه وسلم: «حُبِّبَ إِليَّ مِن دُنيَاكُمُ النِّسَاءُ والطِّيبُ، وجُعِلَت قُرَّةُ عَينِي في الصَّلاَةِ» (¬2). ولا شك أن هذه الأقوال التي ساقها المؤلِّف هي في الحقيقة من اجتهاد العُبَّاد الذي تجاوزوا فيه الحدود، وهو من جهلهم، فيُرجَى أن يغفر الله خطأهم ما دام أنَّه صدر منهم عن حسنِ نِيَّةٍ واجتهادٍ، لكن ما خالف الشرع من هذه الأقوال يجبُ رَدُّه على قائِلِه كائناً مَن كان. فمثل هذه الأقوال يجب ألاَّ تُذكَر وألاَّ يُستَشهَد بها؛ لأنها مخالفةٌ لما جاءت به النصوصُ الشرعيَّة. ¬

_ (¬1) متفقٌ عليه من حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري (رقم 5115)، ومسلم (رقم 1474). (¬2) أخرجه النسائي في «المجتبى» (رقم 3939)، وأحمد في «المسند» (رقم 12293)، وأبو يعلى في «مسنده» (رقم 3482)، والبزَّار في «مسنده» (رقم 6879)، وغيرهم من طريق سلام أبي المنذر القارئ ثنا ثابت البناني عن أنسٍ به مرفوعاً. قال ابن حجر في «الفتح» (11/ 345): (أخرجه النسائي وغيره بسندٍ صحيحٍ)، وصحَّحه أيضاً ابن الملقن في «البدر المنير» (1/ 501)، وقال العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء»: (إسناده جيِّد)، وقال الذهبي في «الميزان» (2/ 177): (إسناده قويٌّ). لكن يُعَكِّر على أحكام هؤلاء الحفَّاظ أن الإمامَ الدارقطني قد أعلَّ هذه الرواية المسندة، وذكر أن بعض الثقات من أصحاب ثابت -ومنهم حماد بن زيد- رووه عن ثابتٍ مرسلاً، ثم قال: (والمرسل أشبه بالصواب). [ينظر: «علل الدارقطني» (رقم 2385)].

قال ابن رجب رحمه الله

Wإِخوَانِي: إِذَا فَهِمتُم هَذَا المَعنَى فَهِمتُم مَعنَى قَولِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَن شَهِدَ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ صِدقاً مِن قَلبِهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ». فَأَمَّا مَن دَخَلَ النَّارَ مِن أَهلِ [هذه] الكَلِمَةِ فَلِقِلَّةِ صِدقِهِ فِي قَولِهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ إِذَا صَدَقَت طَهَّرَت القَلبَ مِن كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، وَمَتَى بَقِيَ فِي القَلبِ أَثَرٌ لِسِوَى اللَّهِ فَمِن قِلَّةِ الصِّدقِ فِي قَولِهَا. مَن صَدَقَ فِي قَولِهِ «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» لَم يُحِبَّ سِوَاهُ، لَم يَرْجُ إِلاَّ إِيَّاهُ, لَم يَخْشَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهُ, لَم يَتَوَكَّل إِلاَّ عَلَى اللَّهِ, لَم يُبقِ لَهُ بَقِيَّةً مِن آثَارِ نَفسِهِ وَهَوَاهُ. Qهذا كلامٌ فيه حقٌّ؛ وهو أنَّ مَن صَدَقَ في توحيدِه خَلا قلبُه من العبودِيَّة لغير الله، لكن لا نقول: إنَّه يخلو قلبُه من غير الله مطلقاً، فالقلبُ فيه تَعَلُّقَاتٌ طبيعِيَّةٌ، ومحبةٌ طبيعِيَّةٌ، وخوفٌ طبيعيٌّ، وهكذا، فالإنسان لا يخرج من طبيعته الإنسانية، لكن من شهد أن «لا إله إلا الله» صِدْقَاً من قلبه، أو مُستَيقِنَاً بها، فإنَّ قلبَه حينئذٍ يخلو من العبودية لغير الله. فليس صحيحاً أنَّ القلبَ يخلو من غير الله مطلقاً، بمعنى أنَّه لا يكون فيه تَعَلُّقٌ أو التِفَاتَةٌ أو محَبَّةٌ أو خوفٌ، فهذا أمرٌ لا يمكن أن يَتَجَرَّدَ منه الإنسانُ؛ فالرُّسُلُ وأتباعُهم كانت تَعرِض لهم العوارضُ الطبيعيَّةُ، وهم أكملُ الخلقِ حُبَّاً لله، وتعظيماً لله، وعبوديةً لله.

فهذا إبراهيمُ عليه السلام لما دَخَلَ عليه ضَيفُه خَافَ منهم، فقال: {إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر:52]، {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28]. وهذا موسى عليه السلام لما ألقى السَّحَرَةُ عِصِيَّهم وحِبَالَهُم وخُيِّلَ إليه -من سِحْرِهم- أنَّها تسعى خَاف، كما قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى} [طه:67 - 68]، وشواهد هذا كثيرة. وهكذا المحبةُ للأشياءِ الطبيعية، فكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم «يُحِبُّ الحَلْوَى وَالعَسَلَ» (¬1)، وكان «يُحِبُّ الدُّبَّاء» -كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه (¬2) -، وكان يقول: «حُبِّبَ إِليَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ والطِّيْبُ» (¬3). فكلُّ هذا لا ينافي محبَّة الله، وإنما الذي ينافي محبَّة الله هي المحبَّة التي فيها عبوديةٌ، بحيث إنَّه يُؤثِر هذه المحبوبات على أمرِ الله، وعلى شرعِ الله، وعلى ما يُحِبُّه الله، فيُقَدِّم هَوَاهُ وما يُحِبُّه من هذه المحبوبات على ما يُحِبُّه الله {قُل إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ} الآية [التوبة:24]، وفي الحديث: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ» (¬4). فلا بد أن يُلاحَظ هذا المعنى، وأن لا يُغتَرّ بهذه الأقاويل المجمَلة، ثم إنَّ هذه الأقوالَ كلَّها فيها دَندَنَةٌ على ذكر «المحبَّة»، وفيها إهمالٌ لجانب «الخوف» و «الرَّجاء»، وقد تقدَّم أنَّ العبادةَ قائمةٌ على هذه الأركان الثلاثة: المحبَّةُ والخَوفُ والرَّجَاءُ، ولهذا قال بعضُ أهلِ العِلمِ مَقُولَةً مَشهُورَةً، وهي: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريباً. (¬2) أخرجه بهذا اللفظ: أحمد في «المسند» (رقم 12811)، والنسائي في «الكبرى» (رقم 6630) وغيرهما. والحديث في «الصحيحين» بلفظ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الصَّحْفَةِ»، قَالَ أنسٌ: فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مُنْذُ يَوْمَئِذٍ. أخرجه البخاري (رقم 1986)، ومسلم (رقم 2041). و «الدُّبَّاء»: هو القَرَع. (¬3) تقدم تخريجه قريباً. (¬4) تقدَّم تخريجه.

(مَن عَبَدَ الله بِالحُبِّ وَحدَه فَهو زِندِيقٌ، ومَن عَبَدَه بالرَّجَاء وَحدَه فهو مُرجِئٌ، ومَن عَبَدَه بِالخَوفِ وَحدَه فَهو حَرُورِيٌّ، ومَن عَبَدَه بِالحُبِّ وَالخَوفِ والرَّجَاءِ فهو مُؤمِنٌ مُوَحِّدٌ) (¬1). فقوله: (من عَبَدَ الله بِالحُبِّ وَحدَه فَهو زِندِيقٌ) وهذا كحال بعض الصوفية، الذين يقولون: نحن لا نعبد الله خوفاً من عذابه ولا طمعاً في ثوابه (¬2)، وهذا كلامٌ منكرٌ (¬3)، (ومَن عَبَدَه بِالخَوفِ وَحْدَه فَهو حَرُورِيٌّ) ¬

_ (¬1) نَسَبَه أبو طالب المكي في «قوت القلوب» (ص 402 - 403)، والغزالي في «إحياء علوم الدين» (4/ 257) إلى التابعي الجليل مكحول الشامي -رحمه الله-. وهذا القول مشهورٌ ومستفيضٌ نَقْلُه بين الأئمة، فقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (10/ 81 و 207) و (11/ 390) و (15/ 21)، وذكره أيضاً ابن القيم في «بدائع الفوائد» (3/ 851 ط: المجمع)، وابن رجب في «التخويف من النار» (ص 29) وغيرهم. (¬2) أُثِرَ هذا القولُ عن جماعةٍ من أعلام الصوفية المتقدِّمين؛ كأبي سليمان الدَّارَاني، ومعروف الكَرْخي، وذي النُّون المصري، وأبي عبد الله السَّاجِي، ورابعة العَدَوِيَّة، وأبي الحسن علي بن موَّفق وغيرِهم. (¬3) للشارح - حفظه الله - جوابٌ مفصَّلٌ في بيان نكارة هذا القول، وما يتضمنه من محاذير، فقد سئل - حفظه الله - السؤال التالي: السؤال: قالت رَابِعَةُ العَدَوِيَّةُ فيما معناه: (يا ربِّ إذا كنتُ أسلمتُ طَمَعَاً في جَنَّتِكَ فَاحْرِمني منها، وإذا كنتُ أسلمتُ خوفاً من نارك فأدخلني فيها، وإذا أسلمتُ طَمَعَاً في رؤية وجهك الكريم فلا تحرمني منه)، أريد دليلاً من الكتاب على صحة قولها هذا. الجواب: الحمد لله، رَابِعَةُ العَدَوِيَّة عَابِدَةٌ مَشهُورةٌ، وهي من أعلام الصوفية المتقَدِّمين الذين لديهم اجتهادٌ في العبادة، مع جهلٍ بحقيقة ما تُوجِبه الشريعة في باب السلوكِ والسَّيْرِ إلى الله من أحوال القلوب وأعمال الجوارح، وقد أفضى بهم الجهلُ إلى الغلو والتَّنَطُّع في العبادة مما انحرفوا به عن الصراط المستقيم. ومن ذلك غُلُوُّهم في «المحبَّة»، حتى زعموا أنهم لا يعبدون الله خوفاً ولا رجاءً، وإنما يعبدونه بالمحبَّة، وهذا مخالفٌ لطريق الأنبياء والرُّسل -عليهم الصلاة والسلام- الذين يَدْعُونَ ربهم رَغَبَاً ورَهَبَاً مع حُبِّهم له سبحانه، وابتِغَائِهِم إليه الوَسِيلَة، وتَقَرُّبهم إليه بِمَحَابِّه ومسارعتِهم في ذلك، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57]. وهذه المقولةُ المنسوبةُ لرَابِعَة مقالةٌ منكَرَةٌ تتضمن الزُّهدَ في الجنَّة والاستخفافَ بعذابِ النَّار، وأمَّا رؤيةُ الله فإنَّها أعلى نعيم الجنَّة، فمن دَخَلَ الجنَّة فَازَ بالنَّظَر إلى وجه الله الكريم، وسَمَاعِ كَلاَمِهِ، قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فـ «الحسنى»: الجنَّة، و «الزيادة»: النَّظَر إلى وجه الله. ويروى معنى هذه المقولة عن رابعة أو غيرِها بلفظ: (إنِّي لا أعبده خوفاً من نَارِه، ولا طَمَعَاً في جنَّتِه، بل أعبده حُبَّاً له). ولهذا قال بعض أهل العلم: (من عبدَ الله بالخوفِ وحدَه فهو حَرُورِيٌّ، -أي: من الخوارج-، ومَن عَبَدَه بالرَّجَاء فهو مُرجِئٌ، ومن عَبَدَه بالحُبِّ فهو زنديقٌ، ومن عَبَدَه بالحُبِّ والخوفِ والرَّجاءِ فهو مؤمنٌ موَحِّدٌ). وأسماءُ الله وصفاتُه تقتضي محبَّتَه وخوفَه ورجاءَه، فالله -تعالى- ذو الجمال والجلال والإكرام، وغافرُ الذَّنبِ، وقابلُ التَّوبِ، شديدُ العِقَاب، وكلُّ اسمٍ من أسمائِه الحسنى، وصفةٍ من صفاتِه، تقتضي عبوديةً خاصةً، فمَن كان بأسمائِه وصفاته أعلم كان له أعبد، وعلى صراطه أقوم، والله أعلم. تتميم: ذكر شيخ الإسلام في كتاب «النبوات» (1/ 343 - 344) (أنَّ الواحدَ من هؤلاء لو جاع في الدنيا أياماً، أو أُلقي في بعض عذابها، طارَ عقْلُه، وخرج من قلبِه كلُّ محبَّةٍ). ثم ذكر -رحمه الله- نماذج من هذا، فذكر عن سمنون القائل: (وليس لي في سواك حظٌّ ... فكيفما شئتَ فامْتحِنِّي)، أنه لما ابتُلِيَ بعسر البول صار يطوف على المكاتب ويقول: ادعوا لعمِّكم الكذَّاب. وذكر عن أبي سليمان الدَّارَاني أنه كان يقول: (قد أُعطيتُ من الرِّضا نصيباً لو ألقاني في النّار لكنتُ راضياً)، وأنه ذُكِرَ عنه أنّه لما ابتُليَ بمرضٍ قال: إن لم يُعافني وإلا كفرتُ، أو نحو هذا. وذكر عن الفضيل بن عياض أنه لما ابتُلي بعُسْر البول، قال: بحبّي لك إلا فرّجتَ عنّي. قال شيخ الإسلام معلِّقاً: (فَبَذَلَ حُبَّه في عسر البول) ثم قال: (فلا طاقة لمخلوق بعذاب الله، ولا غنى به عن رحمته) انتهى. وينظر أيضاً في الرد على الصوفية في هذا: «الاستقامة» (2/ 104 - 120)، و «مدارج السالكين» (2/ 80 - 81).

يعني صار من جنس الخوارج، (ومَن عَبَدَه بالرَّجَاء وَحدَه فهو مُرْجِئٌ)، (ومَن عَبَدَه بِالحُبِّ وَالخَوفِ والرَّجَاءِ فهو مُؤمِنٌ مُوَحِّدٌ) وهو الذي على الصراط المستقيم.

قال ابن رجب رحمه الله

Wوَمَعَ هَذَا فَلا تَظُنُّوا أَنَّ المَرَادَ أَنَّ المُحِبَّ مُطَالَبٌ بِالعِصمَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُطَالَبٌ كُلَّمَا زَلَّ أَن يَتَلافَى تِلكَ الوَصمَةَ (¬1). قَالَ زَيدُ بنُ أَسلَمَ: إِنَّ اللَّهَ لَيُحِبُّ العَبدَ حَتَّى يَبلُغَ مِن حُبِّهِ لَهُ أَن يَقُولَ: اذهَب فَاعمَل مَا شِئتَ فَقَد غَفَرتُ لَكَ (¬2). وَقَالَ الشَّعبِيُّ: إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبداً لَم يَضُرَّهُ ذَنبُهُ (¬3). وَتَفسِيرُ هَذَا الكَلامِ أَنَّ اللَّهَ عز وجل لَهُ عِنَايَةٌ بِمَن يُحِبُّهُ مِن عِبَادِهِ، فَكُلَّمَا زَلَقَ ذَلِكَ العَبدُ فِي هُوَّةِ الهَوَى أَخَذَ بِيَدِهِ إلى نَجوَةِ النَّجَاةِ، يُيَسِّرُ له أَسبَابَ التَّوبَةِ، يُنَبِّهُهُ عَلَى قُبحِ الزَّلَّةِ، فَيَفزَعُ إِلَى الاعتِذَارِ، وَيَبتَلِيهُ بِمَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ لِمَا جَنَى (¬4). في بَعضِ الآثَارِ: يَقُولُ اللَّهُ تعالى: «أَهلُ ذِكرِي أَهلُ مُجَالَسَتِي، وَأَهلُ طَاعَتِي أَهلُ كَرَامَتِي, وَأَهلُ مَعصِيَتِي لا أُيَئِّسُهُم مِن رَحمَتِي، إِن تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُم، وَإِن لَم يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُم، أَبتَلِيهِم بِالمَصَائِبِ ¬

_ (¬1) في نسخة (ب): الزلَّة. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) أخرجه موقوفاً على الشعبيِّ: الحكيمُ الترمذيُّ في «نوادر الأصول» (2/ 350)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 318). وروي مرفوعاً من وجهٍ ضعيفٍ جداً، أخرجه القشيري في «الرسالة القشيرية» (ص 178)، وابن النجار في «ذيل تاريخ بغداد» (18/ 78). (¬4) قال ابن رجب في «شرح حديث لبيك اللهم لبيك» (ص 113 - 114): (قال بعضُهم: إذا أحبَّ الله عبداً لم يضره ذنبه، ومراده أنه يمحوه عنه، وربما يجعل الذنب في حَقِّه سَبَباً لشدة خوفِه من ربه وذُلِّهِ وانكِسَارِه له، فيكون سبباً لرفع درجة ذلك العبد عنده، وإذا خَذَلَ عبداً وقضى عليه بذنب لم يُوَفِّقْهُ لشيءٍ من ذلك فَلَقِيَ الله بذنبِه من غيرِ سَبَبٍ يمحوه عنه في الدنيا ثم يؤاخذه به في الآخرة فلا يغفر له).

لأُطَهِّرَهُم مِنَ المَعَائِبِ» (¬1). في «صَحِيحِ مُسلِمٍ» عَن جَابِرٍ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الحُمَّى تُذهِبُ الخَطَايَا كَمَا يُذهِبُ الكِيرُ الخَبَثَ» (¬2). وَفي «المُسنَدِ» وَ «صَحِيحِ اِبنِ حِبَّانَ» عَن عَبدِ اللَّهِ بنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً لَقِيَ امرَأَةً كَانَت بَغِيَّاً في الجَاهِلِيَّةِ، فَجَعَلَ يُلاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيهَا، فَقَالَت: مَه فَإِنَّ اللَّهَ قد أَذْهَبَ بالشِّركِ (¬3) وَجَاءَ بِالإِسلامِ، فَتَرَكَهَا وَوَلَّى، فَجَعَلَ يَلتَفِتُ خَلفَهُ وَيَنظُرُ إِلَيهَا، حَتَّى أَصَابَ وَجهُهُ حَائِطاً، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجهِهِ، فَأَخبَرَهُ بِالأَمرِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَنتَ عَبدٌ أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيراً»، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبدٍ خَيراً عَجَّلَ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبدٍ شَرَّاً أَمسَكَ ذَنبَهُ (¬4) حَتَّى يُوَافِيَ يَومَ القِيَامَةِ» (¬5). ــــــــــــ ¬

_ (¬1) لم أقف على هذا الأثر مسنداً، والظاهر أنه من الأخبار الإسرائيلية، فقد نقل ابن عبدالهادي في «العقود الدرية» عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله: (يقول الله تعالى في بعض الكتب ....) فذكره، فكأنه يريد كتب أهل الكتاب، والله أعلم. وانظر غير مأمور: كلام العلامة الألباني في «السلسلة الضعيفة» (رقم 4392). (¬2) أخرجه مسلمٌ (رقم 2575)، وفي أوله قصة، وهي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ -أو: أُمِّ الْمُسَيَّبِ-، فَقَالَ: «مَالَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ -أو: يا أُمَّ الْمُسَيَّبِ- تُزَفْزِفِينَ؟ [يعني: تَرْتَعِدِين]» قَالَت: الْحُمَّى لا بَارَكَ الله فيها، فقال: «لا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا ...». (¬3) في نسخة (ب) بدون الباء: أذْهَبَ الشِّرْكَ، ومثلها ما سيأتي قريباً. (¬4) كذا في نسخة الأصل: «أمسكَ ذَنْبَه»، ووقع في نسخة (ب): «أمسَكَ عَنه بِذنْبِهِ»، وفي «صحيح ابن حبان»: «أمسَكَ عَلَيهِ ذَنبَه»، وفي «المسند»: «أمسكَ عَلَيهِ بِذنبِه». (¬5) أخرجه أحمد في «المسند» (رقم 16806)، وابن حبان في «صحيحه» (رقم 2911)، والحاكم في «المستدرك» (رقم 1291 و 8133) وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلم ولم يخرِّجَاه. وصحَّحه أيضاً العراقيُّ في «المغني عن حمل الأسفار» (رقم 3773)، وابنُ حجر في «الفتح» (8/ 124).

الشرح

Qهذا الكلام فيه أنه ليس المراد من الكلام في تحقيق التوحيد أو صدق المحبة أن يكون الإنسان معصوماً لا يقترف ذنباً، بل المقصود ألاَّ يُصِرَّ على الذنب، وإلا فليس أحدٌ من أولياء الله -بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- معصوماً، فتجوز على الكُمَّل من أولياء الله الذنوب، لكنَّ أهلَ الإيمان الصادق لا يُصِرُّون على الذنوب، بل كما قال سبحانه وتعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} [الأعراف:201]. فهم يذنبون فيتوبون، والتوبة بابٌ واسعٌ مفتوحٌ للعباد، فكل من أذنب ذنباً فإنَّه لا يضيق به هذا الباب، فله أن يتوب إلى الله ويبادر {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم} [التحريم:8]، وقال سبحانه: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور:31]. والتوبة من أعلى مقامات الدين، وقد أثنى الله بها على الرُّسل فقال سبحانه: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم} [التوبة:117]. فالمقصود أن على العبدِ أن يتوَجَّه إلى ربِّه ويصدق في مراقبته، فإذا عصاه بادر إلى التوبة، وأن يستحضر أنَّ الله مطلعٌ عليه، وأنَّه على كلِّ شيءٍ شهيدٌ، فعليه أن يحذر أن يراه حيث نهاه وأن يفقده حيث أمره. وأعلى مقامات الدِّين «الإحسان»، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فالمقصود أنَّ هذا الكلام الذي نَبَّه عليه المؤلف كلامٌ طَيِّبٌ؛ فليس من شرط الولاية العصمة، فأولياء الله تَعْرِضُ لهم الذنوب، لكن يتوبون ويُنيبون ويُبادرون بالتوبة إلى الله، خوفاً من الله ومحبة له ورجاء لثوابه. وأما قول زيد بن أسلم: (إنَّ الله ليُحِبُّ العبدَ حتى يبلُغَ من حُبِّه له أن يقول: اذهبْ فاعمَلْ مَا شئتَ فقد غَفَرتُ لكَ) - إن صحَّ عنه - فمعناه أن

حكمة الله تعالى تقتضي أن يقول لِوَلِيِّه: (اعمل ما شئتَ فقد غفرتُ لكَ)، وهذا نظير ما قاله سبحانه وتعالى لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم) (¬1)، لكن لا يُجزم بنسبة هذا القول إلى الله تعالى في أحدٍ إلا بنقلٍ صحيحٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لكنَّه ممكِنٌ. ولهذا نجزم أنَّ الله تعالى قال لأهل بدرٍ: (اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم) لثبوت خبره صلى الله عليه وسلم بذلك. ومعلوم أن هذا ليس إذناً باقتراف الذنوب، ولكنه وعدٌ بالمغفرة إن بُلِيَ العبدُ بشيءٍ من الذنوب. وهكذا قول الشعبي: (إِذا أحبَّ الله عبداً لم يَضُرَّه ذنبُه) يجب حمله على أنه لا بد أن يوفق للتوبة أو غيرها من أسباب المغفرة كما بَيَّن ذلك ابنُ رجبٍ في سياق كلامه التالي. هذا وللمغفرة أسبابٌ (¬2)، أعظمها التوبةُ والاستغفارُ والأعمالُ الصالحة والمصائبُ، فمن كان من أولياء الله وابتلي بشيءٍ من الذنوب فلا بُدَّ أن يُعَرِّضَه الله لهذه المكفرات. ومن شواهد التكفير بالمصائب قولُه صلى الله عليه وسلم: «الحمَّى تُذهِبُ الخطايا كما يُذهِبُ الكِيرُ الخبَثَ»، ومن شواهدها أيضاً قصةُ ذلك الرَّجل الذي راودَ المرأةَ وجَرَى عليه بسببِ ذلك أن أُصِيبَ بِشَجَّةٍ في وجهِه فكان في ذلك إيقاظٌ له حتى يرجعَ إلى ربِّه وينيبَ ويُقلِعَ عن ذنبِه. ¬

_ (¬1) متفقٌ عليه، أخرجه البخاري في مواضع، منها: (رقم 2845)، ومسلمٌ (رقم 2494). (¬2) ينظر: «مجموع فتاوى ابن تيمية» (7/ 487)، و «جامع العلوم والحكم» (حديث رقم 42).

قال ابن رجب رحمه الله

Wيَا قَومُ قُلُوبُكُم عَلَى أَصلِ الطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا أَصَابَهَا رَشَاشٌ مِن نَجَاسَةِ الذُّنُوبِ، فَرُشُّوا عَلَيهَا قَلِيلاً مِن دَمعِ العُيُونِ وَقَد طَهُرَت. اِعزِمُوا عَلَى فِطَامِ النُّفُوسِ عَن رَضَاعِ الهَوَى، فَـ «الحِميَةُ رَأسُ الدَّوَاءِ» (¬1). مَتَى طَالَبَتكُم بِمَألُوفَاتِهَا، فَقُولُوا لَهَا كَمَا قَالَت تِلكَ المَرأَةُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي دَمِيَ وَجهُهُ: قَد أَذهَبُ اللَّهُ بِالشِّركِ وَجَاءَ بِالإِسلامِ (¬2). وَالإِسلامُ يَقتَضِي الاستِسلامَ وَالانقِيَادَ لِلطَّاعَةِ. ذَكِّرُوهَا مِدْحَة {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} [سورة فصلت:30] لَعَلَّهَا تَحِنُّ إِلى الاستِقَامَةِ، عَرِّفُوهَا اطِّلاعَ مَن هُوَ أَقرَبُ مِن حَبلِ الوَرِيدِ لَعَلَّهَا تَستَحِي مِن قُربِهِ وَنَظَرِهِ، {ألم يعلم بأن الله يرى} [القلم:14] {إن ربك لبالمرصاد} [الفجر:14]. رَاوَدَ رَجُلٌ اِمرَأَةً فِي فَلاةٍ لَيلاً فَأَبَت، فَقَالَ لَهَا: مَا يَرَانَا إِلاَّ الكَوَاكِبُ، قَالَت: فَأَينَ مُكَوكِبُهَا؟ (¬3). أَكرَهَ رَجُلٌ امرَأَةً عَلَى نَفسِهَا، وَأَمَرَهَا بِغَلقِ الأَبوَابِ، فَفَعَلَت، ¬

_ (¬1) هذه الجملة يرويها بعضُهم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصل لها من كلامِه عليه الصلاة والسلام، قال ابن القيم في «زاد المعاد» (4/ 94): (وأما الحديثُ الدائرُ على ألسنةِ كثيرٍ من الناس: «الحِميةُ رأسُ الدواءِ، والمَعِدَةُ بيتُ الداءِ، وعوِّدُوا كلَّ جِسْمٍ مَا اعتَادَ» فهذا الحديث إنما هو من كلامِ الحارثِ ابنِ كَلَدَةَ؛ طبيبِ العَرَب، ولا يصحُّ رفعُه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قاله غيرُ واحد من أئمة الحديث). (¬2) تَقَدَّم تخريجُه قريباً. (¬3) أوردها الخرائطي في «اعتلال القلوب» (رقم 83)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (رقم 852).

الشرح

فَقَالَ لَهَا هَل بَقِيَ بَابٌ لَم تُغلِقِيهِ? قَالَت: نَعَم، البَابُ الَّذِي بَينَنَا وَبَينَ اللَّهِ, [فتركها] ولَم يَتَعَرَّض لَهَا. رَأَى بَعضُ العَارِفِينَ (¬1) رَجُلاً يُكَلِّمُ امرَأَةً، فَقَالَ: إِنَّ الله يَرَاكُمَا، سَتَرنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمَا!. Qهذه العبارات والقَصص التي ذكره المؤلِّف هنا كلُّها تؤكِّدُ ما سبق من أنَّ العبدَ معرَّضٌ للذنوبِ وإن كان عبداً صالحاً، فهو معرَّضٌ للغفلة، ومعرَّضٌ للوقوع في الزلَّة والهفوة، لكن عليه أن يراقب ربَّه وأن يستحضر اطلاع الله عليه، فيتذكر أنَّ الله يسمَعُه ويراه ويعلم سِرَّه وعلانيَتَه. ولهذا كثيراً ما يُذَكِّرُ الله عباده بهذه الأسماء الثلاثة: «السميع»، و «البصير»، و «العليم»، حتى يستحضر العباد ما تقتضيه هذه الأسماء من المعاني العظيمة، فإنَّ الإيمانَ بها شيءٌ والتأثُّر بها شيءٌ آخَر، فتجد بعض الناس يؤمن باسمه سبحانه «السميع» وأن الله يسمع جميع الأصوات ومع ذلك تجده يطلق لسانَه في اللَّغْو وفي الإثم وفي الحرام وفي قول الزور ولا يتورَّع عن ذلك، وقل مثل ذلك في اسمه «البصير» واسمه «العليم». فاسمه «السميع» يقتضي أنه سامع لجميع الأصوات، سامع لأقوالنا وكلماتنا، السر منها والعلانية. واسمه «البصير» يقتضي أنَّه يرانا ويرى أفعالنا {فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} [التوبة:105]، فالله يرى أعمال العباد كما قال تعالى: {وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين} [الشعراء:217 - 219]، ¬

_ (¬1) هو: محمَّدُ بنُ المنْكَدِر -رحمه الله-، أسنده عنه ابن أبي الدنيا في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (رقم 43).

{واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} [الطور:46]، {تجري بأعيننا} [القمر:14] وقد قيل في معنى هذا: يعني على مرأى منَّا، فهو سبحانه يسمع ويرى {إنني معكما أسمع وأرى} [طه:46] وكذلك اسمه «العليم»، فهو سبحانه يعلم كل شيء، وعلمه شامل لكل شيء، فيعلم السر وأخفى، ويعلم ما في الصدور كما قال تعالى: {إن الله عليمٌ بذات الصدور} [آل عمران:119]، وقال: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} [غافر:19]. ففي هذه القصص التي ذكرها المؤلِّف مُعتَبَر، فالإنسان قد يغفل كما جاء في قصة ذلك الرَّجل الذي خلا مع تلك المرأة وأمرها أن تغلق الأبواب وقال لها: هل بقي باب؟ قالت: نعم، بقي الباب الذي بيننا وبين الله، فتأثَّر بذلك وخاف من ربِّه فقام وتركها. وهكذا يكون الإيمانُ الصادقُ، فإنَّ الإيمانَ يبعث على مراقبة الله ولو كان المرءُ غائباً عن الناس، فتجده لا يراه أحدٌ من الناس ومع ذلك يَكُفُّ عن الحرام وعن الكَسْبِ الحرام، فقد يظفر بمالٍ يقدر على أن يختلسه من غير أن يَطَّلِع عليه أحدٌ، ويأمن -مع ذلك- على نفسه، ولكن يمنعه من اختلاسه خوفه من الله تعالى. ومن ذلك ما جاء في حديث السَّبعة الَّذين يُظِلُّهم الله في ظِلِّه يومَ القيامة، ومنهم: «رجلٌ دَعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ منْصِبٍ وجمالٍ، فقال: إني أخاف الله» (¬1). وأعظم مَثَلٍ لهذا نبيُّ الله يوسف عليه السلام، فقد اجتمعت عليه كل أسباب الوقوع في الفاحشة، فهو مملوكٌ رقيقٌ غريبٌ شابٌّ عَزَبٌ، وسيدته هي التي تدعوه لمطلوبها، ومع ذلك يَفِرُّ منها، {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} [يوسف:24]، فلم تكن له حيلةٌ إلا أن يَفِرَّ إلى الباب ليَخرُج ليَسْلَم من الوقوع ¬

_ (¬1) متفقٌ عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ البخاري (رقم 629)، ومسلم (رقم 1031).

في الفاحشة وسوءِ العاقبة، كما قال تعالى: {واستبقا الباب} يعني: أيهما أسبق، فهو يريد الباب ليهرب ويخرج، وهي تريد الباب لتغلقه ولِتَحُولَ بينه وبين الخروج. فالشاهد من هذا أن مقام المراقبة ومقام الخوف من الله يبعث على الكَفِّ عن المحارم، وعلى التوبة من الجرائم.

قال ابن رجب رحمه الله

Wسُئِلَ الجُنَيدُ رحمه الله: بِمَا يُستَعَانُ عَلَى غَضِّ البَصَرِ؟، قَالَ: بِعِلمِكَ أَنَّ نَظَرَ اللَّهِ إِلَيكَ أَسبَقُ مِن نَظَرِكَ إِلَى مَا تَنظُرُه. وَقَالَ المُحَاسَبِيُّ: المُرَاقَبَةُ عِلمُ القَلبِ بِقُربِ الرَّبِّ (¬1). كُلَّمَا قَوِيت المَعرِفَةُ بِاللَّهِ قَوِيَ الحَيَاءُ [مِن قُربِهِ وَنَظَرِهِ]. وَصَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً أَن يَستَحِي مِن اللَّهِ كَمَا يَستَحِي مِن رَجُلٍ من صَالِحِ عَشِيرَتِهِ لا يُفَارِقُهُ (¬2) (¬3). قَالَ بَعضُهُم (¬4): اِستَحِ مِن اللَّهِ عَلَى قَدرِ قُربِهِ مِنكَ، وَخَفِ اللَّهَ عَلَى قَدرِ قُدرَتِهِ عَلَيكَ. كَانَ بَعضُهُم (¬5) يَقُولُ: مُنذُ أَربَعِينَ سَنَةً مَا خَطَوتُ خُطوَةً لِغَيرِ اللَّهِ، وَلا نَظَرتُ إِلَى شَيءٍ أَستَحسِنُهُ حَيَاءً مِن اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. كَأَنَّ رَقِيباً مِنكَ يَرعَى خَوَاطِرِي ... وَآخَرُ يَرعَى نَاظِرِي وَلِسَانِي فَمَا أَبصَرَت عَينَايَ بَعدَكَ مَنظَرًا ... لِغَيرِكَ إِلاَّ قُلتُ قَد رَمَقَانِي ¬

_ (¬1) «القصد والرجوع إلى الله» (ص 313). (¬2) في نسخة (ب): [كَمَا يَستَحِي من رَجُلَين صَالِحَين من عَشِيرَتِهِ لا يُفَارِقَانِه]. (¬3) أخرجه الطبراني في «الكبير» (رقم 5539) وإسناده جيِّدٌ. (¬4) هو: وُهَيبُ بنُ الوَرْد -رحمه الله-، أسنده عنه محمد بن نصر المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (رقم 841 و 842)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 140)، وصَرَّحَ المصنِّفُ باسمه في «جامع العلوم والحكم» (1/ 408). (¬5) هو: محمد بن الفضل البَلْخي -رحمه الله-، عزاه إليه ابن الجوزي في «صفة الصفوة» (4/ 165)، وزاد في آخره: (ومَا أَمْلَيتُ على مَلَكَيَّ ثلاثين سنة شيئاً، ولو فعلتُ ذلك لاستَحْيَيتُ منهما)، وصَرَّح المصنِّفُ باسمه في كتابه الآخر «جامع العلوم والحكم» (1/ 214) وقال معلِّقاً: (هؤلاء القوم لما صَلحَت قلوبُهم فَلَم يَبْقَ فيها إرادةٌ لغير الله -عز وجل- صَلحَت جوارحُهم فلم تتحرَّك إلا لله -عز وجل- وبما فيه رضاه).

الشرح

وَلا بَدَرَت مِن فِيّ بَعدَكَ لَفظَةٌ ... لِغَيرِكَ إِلاَّ قُلتُ قَد سَمِعَانِي وَلا خَطَرَت مِن ذِكرِ غَيرِكَ خَطرَةٌ ... عَلَى القَلبِ إِلاَّ عَرَّجَا بِعَنَاني (¬1) Qهذه الجمل المتقدِّمة فيها تأكيدٌ لما سبق؛ من أنَّ مما يُعِينُ على الكفِّ عن الحُرُمات؛ ويُعِينُ على غضِّ البصر، وحفظِ الفرج، وحفظِ الجوارح عن معاصي الله = هو استحضار اطلاع الله على عبده وسماعه وبصره وعلمه، فاستحضار العبد لمعاني هذه الأسماء هو أعظم سببٍ يَكُفُّه عن المحرَّمات، ويجعله يحجم ويمتنع، ويتذكر أن الله يراه، وأنه يسمعه، وأنه يعلم سره وعلانيته، فيستحيي من ربه. فبقدر عِلْمِ العبدِ بذلك ويقينِه وشعورِه تكون حاله مع أوامر الله ونواهيه، من الوقوف عند حدوده والقيام بطاعته سبحانه وتعالى. وقد ذكر المصنِّفُ -رحمه الله- جملة من الشواهد على هذا المعنى من أقوال بعض العُبَّاد، وبعض المأثورات. وبعض هذه الأحاديث التي استشهد بها المؤلِّف وإن كانت ضعيفةً إلا أنَّ أهل العلم لا يرون مانعاً من الاستشهاد بالأحاديث وإن كانت ضعيفة في تقرير وتأكيد الأمر الثابت، مثل ما يكون في أحاديث الترغيب والترهيب مثلاً. وأما الأحكام والعقائد فلا تُثبَت إلا بالأدلة الصحيحة، لكن هناك من الأدلة ما يُذكَر للاعتضاد والاستشهاد لا للاعتماد، فالقضية العَقَدِيَّة - عِلْمِيَّة ¬

_ (¬1) عزاه المصنِّف في آخر رسالته «كشف الكربة في وصف أهل الغربة» إلى البُحْتُري، فقال: (ولأبي عُبَادة البُحْتُري في هذا المعنى أبياتٌ حسنةٌ أساء بقولها في مخلوقٍ، وقد أصلحتُ منها أبياتاً حتى استقامت على الطريقة)، ثم ذكر الأبيات المذكورة هنا وزاد عليها. وقد أسندها عن البحتريِّ: القاضي التنوخيُّ في «نشوار المحاضرة» (6/ 145).

كانت أو عَمَلِيَّة - الثابتة بالدليل الصحيح من كتابٍ وسُنَّة = لا بأس أن تُساقَ الشواهد والروايات والآثار والأخبار التي تؤيِّدُها وتؤكِّدُها وتعمِّقُها في النَّفْس؛ لأنَّ معناها حقٌّ، فلا مانع من ذكر ما يؤيِّد أمراً معلوماً وثابتاً بالدليل، وعلى هذا دَرَجَ كثيرٌ من أهل العلم من الأوَّلين والآخِرين، فلا يُتَّخذ من ذكرِهم لبعضِ الروايات أو الأحاديث والآثار التي يمكن أن يقال إنها ضعيفة مطعناً عليهم، وإذا عُرِف مقصودهم اندَفَعَ طَعنُ الطَّاعِنين من الجاهِلين أو المغرِضين.

قال ابن رجب رحمه الله

Wفَصلٌ وَكَلِمَةُ التَّوحِيدِ لَهَا فَضَائِلُ عَظِيمَةٌ لاَ يُمْكِنُ هَهُنَا استِقصَاؤهَا (¬1)، فَلنَذْكُر بَعضَ مَا وَرَدَ فِيهَا: - فَهِي كَلِمَةُ التَّقْوَى، كَمَا قَالَهُ عُمَرُ وَغَيرُه من الصَّحَابَةِ (¬2). - وَهِي كَلِمَةُ الإِخلاصِ، وَشَهَادَةُ الحَقِّ، وَدَعوَةُ الحَقِّ (¬3)، وَبَرَاءَةٌ من الشِّرْكِ (¬4)، وَنَجَاةُ هَذَا الأَمْرِ. ¬

_ (¬1) قال ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» (2/ 256): (فضائلُ هذهِ الكلمةِ وحقائِقُهَا وموقِعُها من الدِّينِ فوقَ مَا يصفُهُ الواصِفُونَ ويعرِفُهُ العارفُونَ؛ وهِيَ حَقِيقَةُ الأَمرِ كُلِّهِ؛ كما قالَ تعالى: {وَمَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رَسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعبُدُونِ} [الأنبياء:25]). (¬2) قول عمر: أخرجه أحمد في «المسند» (رقم 447) وإسناده قوي. وجاء تفسيرها عن غيره من الصحابة، منهم: علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر. ينظر: «تفسير ابن جرير الطبري» (21/ 310 - 313)، و «الدر المنثور» (13/ 507 - 510) عند قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقوَى} [الفتح:26] (¬3) تُنظر أقوال السلف في تفسير قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد:14] في: «تفسير الطبري» (13/ 485 - 486)، و «الدر المنثور» (8/ 412 - 413). (¬4) جاء في بعض الأحاديث أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَاعِيَ غَنَمٍ يُؤذِّنُ للصلاة، فلمَّا قال: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، قال صلى الله عليه وسلم: «كَلِمَةُ الإِخْلاصِ»، وفي رواية: «شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ»، وفي رواية: «بَرِئَ هَذَا مِنَ الشِّرْكِ»، وفي رواية: «خَرَجَ مِنَ النَّارِ»، [ينظر مثلاً: «صحيح مسلم» (رقم 873)، و «الدعاء» للطبراني [باب ثواب مَن قال كما يقول المؤذِّن] (ص 160 - 164)، و «معرفة الصحابة» لأبي نعيم (رقم 6054 - ترجمة مسلم بن رِيَاح)].

الشرح

Qبهذا الموضوع ختم المؤلف -رحمه الله- رسالته هذه، فذكر جملة من فضائل هذه الكلمة العظيمة «لا إله إلا الله»، أو إن شئت قل: فضائل التوحيد، والمعنى واحد؛ فإنَّ التوحيدَ هو معنى «لا إله إلا الله»، و «لا إله إلا الله» معناها التوحيد، ولهذا في رواية الأحاديث تارة يُعَبَّر عن هذه الكلمة بـ «التوحيد»، وتارة تُذكر بلفظها «لا إله إلا الله». ولا ريب أنَّ كلمةَ التوحيدِ هذه كلمةٌ عظيمةٌ؛ لأنَّها مشتملةٌ على أمرٍ عظيمٍ؛ فهي الشهادةُ التي شهد الله بها لنفسِه، وشَهِدَت له بها ملائكتُه وأولو العلم، كما قال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} [آل عمران:18]. وهي الكلمة التي قال الله فيها: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم} فـ «الكلمة» هنا هي: كلمة التوحيد، وقد بيَّنَها الله بعد ذلك بقوله: {ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله} [آل عمران:64]، وكذلك في قول إبراهيم عليه السلام لقومه: {إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمةً باقيةً في عَقِبِهِ} [الزخرف:26 - 28]، وهي كلمة التوحيد. وكلمة التوحيد هذه «لا إله إلا الله» قد جاءت في القرآن بعدة أساليب تعبِّر عنها: - فتارة تُذكَرُ بلفظها، كما في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، و {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19]، و {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ...} [البقرة:255]، و {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:22 - 23]، و {وَذَا النُّونِ إِذ

ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، و {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال لموسى عليه السلام: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، ففي هذه الآيات الكريمات وردت كلمة التوحيد تارة بالاسم الظاهر، وتارة بالضمير؛ وتَنَوَّع ذكر الضمير أيضاً، فوردت تارة بضميرِ المتكلِّم «لا إله إلا أنا»، وتارة أخرى بضمير المخاطَب «لا إله إلا أنت»، وثالثة بضمير الغائب «لا إله إلا هو». - وتارة تذكر بمعناها، فنجد معناها مبثوثاً في آيات القرآن مما لا يحصى؛ ففي قول الأنبياء: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} وهذا هو معنى «لا إله إلا الله»، وكذا قوله: {ولقد بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. فـ «لا إله إلا الله» جاءت في القرآن بعدة أساليب تعبِّر عنها، فجاءت بهذا التركيب - تركيب النفي والاستثناء -، وهو أسلوبُ حَصْرٍ. وجاءت أيضاً بأساليب أخرى من أساليب الحصر، كتقديم المعمول على العامل كما في قوله تعالى: {إياك نعبد}، فقوله: {إياك نعبد} معناه لا نعبد غيرك، ولا نعبد إلا إِيَّاك، فهو بمعنى «لا إله إلا الله»، فـ {إياك نعبد} تساوي «لا إله إلا أنت». ولهذه الكلمة العظيمة أسماء عديدة: 1. فهي: كلمةُ التوحيد. 2. وهي أيضاً: كلمةُ التقوى؛ التي جاء ذكرها في سورة الفتح في قوله تعالى: {وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها} [الفتح:26] فـ «كلمة التقوى» - كما ذكر المؤلِّف ونَقَلَ في تفسيرها عن عمَرَ رضي الله عنه وغيره - هي لا إله إلا الله؛ لأنَّ مَن قالها صِدْقاً من قلبِه أوجبَ له ذلك تقوى الله؛ لأنها تتضمن الإيمان بالله والكفر بالطاغوت، والإيمان به ربَّاً وإلهاً، فمن آمن بهذه

الكلمة إيماناً صادقاً فإنها توجب له تقوى الله عزَّ وَجَلَّ، توجب له أن يعبد ربَّه، أن يطيع رْبه، وأن يمتثل أوامره. 3. وهي أيضاً: كلمة الإخلاص؛ لأنَّ من أقرَّ بها ظاهراً وباطناً أخْلَصَ لله عمَلَه، فهي تُثْمِرُ الإخلاصَ؛ إخلاص الدِّين لله، وإخلاص العبادة لله. 4. وهي أيضاً: شهادة الحق؛ لأنها الشهادة التي شَهِدَ الله بها لنفسه وشهدت بها ملائكته وأولو العلم، كما قال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} [آل عمران:18]. 5. وهي أيضاً: دعوة الحق، كما في قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد:14]، وسُمِّيت «دعوة الحق» لأنها الكلمة التي دَعَت إليها الرُّسلُ أُمَمَهُم كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. والدعوة إلى ما تضمنته هذه الكلمة من التوحيد لله تعالى هي في الأصل دعوةٌ إلى الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص:87]. 6. وهي أيضاً: العروة الوثقى، فـ «لا إله إلا الله» معناها: الإيمان بالله والكفر بالطاغوت، وذلك هو العروة الوثقى، كما قال سبحانه وتعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} [البقرة:256]. وسميت كلمة التوحيد بـ «العُروَة الوُثْقَى» لأنَّ من تمسَّك بها نَجَا من الهَلَكَة في الدُّنيا والآخِرَة، وَوَصَفَها الله تعالى بأنَّها وُثقَى لأنَّها مَتِينَة، فهي أوثقُ من كلِّ مَا سِوَاهَا مِمَّا يُتَمَسَّكُ به طَلَباً للنَّجَاة، وفَسَّرَ سبحانه وتعالى ذلك بقوله: {لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

7. وهي أيضاً: براءةٌ من الشرك، وبيان ذلك أنها تضمنت في ركنها الأول - (لا إله) - نفي ألوهية كل من سوى الله، فمن أقرَّ بها ظاهراً وباطناً بَرِئَ من الشِّركِ كلِّه، وهذه البراءَةُ هي الكفرُ بالطَّاغُوت كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة:256]. وهي أيضاً: نجاةٌ هذا الأمر، وقد جاء في عند الإمام أحمد في «المسند» (¬1) أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ ما نجاةُ هذا الأمرِ؟ فقال: «مَن قَبِلَ مِنِّي الكلمةَ التي عَرَضتُ على عَمِّي فردَّها عليَّ فهي له نَجَاةٌ»، والمعنى أنَّ كلمةَ التوحيد «لا إله إلا الله» هي التي بها أصل النجاة في الدنيا والآخرة. والمراد بـ «هذا الأَمر» الدِّينُ الذي بَعَثَ الله به رَسُولَه صلى الله عليه وسلم، كقوله عليه الصلاة والسلام: «مَن أَحدَثَ في أَمرِنَا هذا فهو رَدٌّ»، فَدِينُ الإسلامِ الذي أصلُه «لا إله إلا الله» هو الأمرُ العظيمُ الذي بَعَثَ الله به رُسُلَه، وأعظمُ ذلك ما جاء به خاتَمُهم وسيِّدُهم محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) (رقم 20) من حديثِ أبي بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه.

قال ابن رجب رحمه الله

W- وَلأَجْلِهَا خُلِقَ الخَلْقُ، كَمَا قَالَ تَعَالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذَّارِيَات:56]. - وَلأَجْلِهَا أُرْسِلَت الرُّسُلُ وأُنْزِلَت الكُتُبُ، قَالَ تَعَالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء:25]، وَقَالَ تَعَالى: {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} [النَّحْل:2]، وَهَذِه الآيَةُ أَوَّلُ مَا عَدَّدَ [الله] عَلَى عِبَادِهِ من النِّعَمِ في سُورَةِ النِّعَمِ الَّتِي تُسَمَّى «سُورَةُ النَّحْلِ»، وَلِهَذَا قَالَ ابنُ عُيَينَةَ: (مَا أَنْعَمَ الله عَلَى العِبَادِ نِعْمَةً أَعظَم مِنْ أَنْ عَرَّفَهَم لا إِلَهَ إِلاَّ الله، وَإنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله لأَهْلِ الجَنَّةِ كَالمَاءِ البَارِدِ لأَهلِ الدُّنْيَا) (¬1). - وَلأَجْلِهَا أُعِدَّت دَارُ الثَّوَابِ وَدَارُ العِقَابِ في الآخِرَةِ، فَمَن قَبِلَهَا وَمَاتَ عَلَيهَا كَانَ مِن أَهلِ دَارِ الثَّوَابِ، ومَن رَدَّهَا كَانَ مِن أَهلِ دَارِ العِقَابِ. - وَمِن أَجلِهَا أُمِرَت الرُّسُلُ بِالجِهَادِ؛ فَمَن قَالَهَا عُصِمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَمَن أَبَاهَا فَمَالُهُ وَدَمُهُ هَدَرٌ. Qمن فضائل كلمة التوحيد: 1. أنها الموجبة لدخول الجنة والنجاة من النار، أو النجاة من الخلود في النار؛ كما تقدم بيانه. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في «الشكر» (رقم 96).

2. ومن فضائلها أيضاً أن الله خَلَقَ الخَلْقَ كلَّهم من أجلِها: - فخلق الثَّقَلَين -الجنَّ والأنسَ- من أجلها، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56]. - ومن أجلها أيضاً خَلَق الله السموات والأرض، وخلق الدنيا والآخرة، وخلق الموت والحياة، كما قال سبحانه وتعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} [الملك:2]. فالله عزَّ وجلَّ خلق العبادَ ليبتليهم، وخلق السموات والأرض لابتلاء العباد، كما قال تعالى: {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} [هود:7]، وقال: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً} [الكهف:7]، وابتلاؤهم إنما هو بأمرهم ونهيهم؛ أَمْرُهم بعبادة الله، ونَهْيُهم عن عبادة ما سواه، أَمْرُهم بطاعته وطاعة رسله - عليهم السلام -. - ومن أجلها أيضاً خَلَقَ الله الجنَّةَ والنَّار، فخلق الجنَّة للموحِّدين، وخلق النَّار للكافرين المشركين. وهذا معنى أنَّ الله خَلَقَ الخَلْقَ لهذه الكلمة، فمن أجلها خلق الله الخلق، وخلق السموات والأرض، وخلق الجنة والنار. 3. ومن أجلها أيضاً أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، كما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}، وقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء:25]، وكل نبيٍّ يقول لقومه: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}. 4. ومن أَجْلِهَا أيضاً أُمِرَت الرُّسُلُ بالجِهادِ، ويدل لذلك ما جاء في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ»، فَإِذَا قَالُوا «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ»

عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَموَالَهُم إِلاَّ بِحَقِّهَا» (¬1). فعُلِمَ بذلك أنَّ الدخول في الإسلام عاصمٌ للدَّمِ والمالِ، وكذلك أداءُ الجِزية يَعصِمُ الدمَ والمالَ، كما قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. فقول المصنِّف -رحمه الله-: (ومَن أَبَاهَا فَمَالُهُ وَدَمُهُ هَدَرٌ) ليس على إطلاقه؛ للآية الكريمة. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

قال ابن رجب رحمه الله

W- وَهَي مِفتَاحُ دَعوَةِ الرُّسُلِ. - وَبِهَا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى كِفَاحاً. وَفي «مُسنَدِ البَزَّارِ» وَغَيرِهِ عَن عِيَاضٍ الأَنصَارِيِّ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةُ حَقٍّ عَلَى اللَّهِ كَرِيمَةٌ، وَلَهَا مِن اللَّهِ مَكَانٌ، وَهِيَ كَلِمَةٌ جُمِعَت وَشُرِكَت، فَمَن قَالَهَا صَادِقاً أَدخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ، وَمَن قَالَهَا كَاذِباً أَحرَزَت مَالَهُ، وَحَقَنَت دَمَهُ، وَلَقِيَ اللَّهَ فَحَاسَبَهُ» (¬1). Qقوله: (وَهَي مِفتَاحُ دَعوةِ الرُّسُلِ) هذا ظاهرٌ بَيِّنٌ مما ذكره الله تعالى في قصص الأنبياء، عن نوحٍ وهودٍ وصالحٍ وشعيبٍ -عليهم السَّلام-، فكان كل واحدٍ منهم يفتتح دعوته لقومه بقوله: {اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيرُهُ}، فالتوحيد هو أصل دين الرسل كلهم، واسمه «الإسلام»، {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران:19]، ولما بعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له: «إِنَّكَ تَقْدَمُ على قومٍ من أَهلِ الكِتَابِ فَليَكُن أَوَّلَ مَا تَدعُوهُم إلى أن يُوَحِّدُوا اللهَ تعالى» (¬2). وقوله: (وَبِهَا كَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى كِفَاحاً)، إن أراد بقوله: «كِفَاحاً» أي: بلا واسطة منه إليه، ولكن من وراء حجاب، فهذا حقٌّ، وهذه خصوصية ¬

_ (¬1) أخرجه البزار في «مسنده» -كما في «كشف الأستار» (رقم 4) -، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (رقم 5442) وفي إسناده مَن لم أعرفه. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري (رقم 1389)، ومسلم (رقم 19).

لموسى عليه السلام أنَّ الله كلَّمَه بلا واسطة، ولكن لفظة «كفاح» تشعر بالرؤية، وهذا المعنى من قَصَدَه فهو غَالِطٌ ومخطيءٌ، والمؤلِّف -قَطعَاً- لا يريد ذلك، فإنه لا يمكن أن يريد بقوله: «كفاحاً» أنَّ الله كَلَّم موسى من غير حجاب، بل كَلَّمَه مَن وراء حجاب. وقد جاء في شأن عبد الله بن حرام رضي الله عنه -والد جابر رضي الله عنه- الذي استُشهِدَ في وقعة أحد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنه جابر: «أَفَلاَ أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِي اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟»، فقال: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَداً قَطُّ إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحاً» (¬1)، فقوله هنا: «كَلَّمَه كِفَاحَاً» يعني أنَّه كَلَّمَه من غَيرِ حِجَابٍ، وهذا في عالم الآخرة، وليس في عالم الدنيا. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في «جامعه» (رقم 3010)، وابن ماجه في «سننه» (رقم 190 و 2800)، وأحمد في «المسند» (رقم 14881)، وابن خزيمة في «التوحيد» (رقم 599) وغيرهم، وهو حَسَنٌ بمجموع طرقه، وقد صحَّحه ابن حبان والحاكم.

قال ابن رجب رحمه الله

Wوَهِيَ مِفتَاحُ الجَنَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ (¬1). وَهِيَ ثَمَنُ الجَنَّةِ، قَالَهُ الحَسَنُ (¬2)، وَجَاءَ مَرفُوعاً مِن وُجُوهٍ ضَعِيفَةً (¬3). ومَنْ كَانَتْ آخِرَ كَلامِهِ دَخَلَ اَلْجَنَّةَ. Qقوله: (وهِيَ ثَمَنُ الجنَّة) وذلك لأَنَّ «لا إله إلا الله» سببٌ لدخولِ الجنَّة، كما أنَّ ثَمَنَ السِّلعة سببٌ لتحصيلها، وفي هذا نوعٌ من التشبيه، وإلا فشهادةُ أن «لا إله إلا الله» وسائرُ الأعمالِ الصَّالِحةِ لا تكون عِوَضَاً عن الجنَّة كما يكون الثمنُ عِوَضَاً عن السِّلعَة. ولهذا جاءَ في الحديثِ الصَّحِيحِ: «لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» (¬4)، ومعناه أنَّ عَمَلَ العبدِ لا يكون عِوَضَاً عن الجنَّة، بل ما هو إلا سَبَبٌ، وبهذا جُمِعَ بين هذا الحديث وقولِه سبحانه: {وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا ¬

_ (¬1) ص. (¬2) أخرجه موقوفاً على الحسن: ابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (رقم 36461)، وإسحاقُ بن راهويه في «مسنده» -كما في «المطالب العالية» (رقم 2892) -، قال ابن حجر في «المطالب»: (هذا مَوقُوفٌ صَحِيحٌ). (¬3) ينظر: «الكامل» لابن عدي (6/ 348)، و «صفة الجنة» لأبي نعيم (رقم 48)، و «المغني عن حمل الأسفار» للعراقي (عند تخريجه للحديث رقم 944)، و «سلسلة الأحاديث الضعيفة» للألباني (رقم 3457). (¬4) متفقٌ عليه من حديث عائشة رضي الله عنها؛ البخاري (رقم 6099)، ومسلم (رقم 2818).

كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]، فقيل: الباءُ في الحديث باءُ العِوَض، وفي الآية باءُ السَّبَب (¬1). وأمَّا قوله: (ومَن كانت آخِرَ كَلامِهِ دخلَ الجنَّةَ) فيشير إلى حديث: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬2). ¬

_ (¬1) ينظر: «حادي الأرواح» لابن القيم (ص 176 - 178)، و «فتح الباري» لابن حجر (11/ 295 - 297)، و «المحجَّة في سير الدُّلْجَة» لابن رجب. (¬2) أخرجه مسلمٌ (رقم 138) من حديث أبي ذَرٍّ رضي الله عنه، بنحوه. فائدة: وقع لأبي زرعة الرازي عند موته قصةٌ مع هذا الحديث، انظر خَبَرَه -غير مأمور- عند الحاكم في «معرفة علوم الحديث» (ص 76)، والخليلي في «الإرشاد» (2/ 677 - 678).

قال ابن رجب رحمه الله

Wوَهِيَ نَجَاةٌ مِن النَّارِ، وَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُؤَذِّناً يَقُولُ: أَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَقَالَ: «خَرَجَ مِن النَّارِ» خَرَّجَهُ مُسلِمٌ (¬1). وَهِيَ تُوجِبُ المَغفِرَةَ، وفي «المُسنَدِ» عَن شَدَّادِ بنِ أَوسٍ وَعُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَصحَابِهِ يَوماً: «اِرفَعُوا أَيدِيَكُم, وَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ»، فَرَفَعنَا أَيدِيَنَا سَاعَةً، ثُمَّ َوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ, ثُمَّ قَالَ: «الحَمدُ لِلَّهِ، اللَّهُمَّ بَعَثتَنِي بِهَذِهِ الكَلِمَةِ، وَأَمَرتَنِي بِهَا، وَوَعَدتَنِي الجَنَّةَ عَلَيهَا، وَإِنَّكَ لا تُخلِفُ المِيعَادَ، ثُمَّ قَالَ: أَبشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَد غَفَرَ لَكُم» (¬2). وَهِيَ أَحسَنُ الحَسَنَاتِ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمنِي عَمَلاً يُقَرِّبُنِي مِنَ الجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِن النَّارِ، قَالَ: «إِذَا عَمِلتَ سَيِّئَةً فَاعمَل حَسَنَةً، فَإِنَّهَا عَشرُ أَمثَالِهَا»، قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مِنَ الحَسَنَاتِ؟ قَالَ: «هِيَ أَحسَنُ الحَسَنَاتِ» (¬3). وَهِيَ تَمحُو الذُّنُوبَ وَالخَطَايَا (¬4)، وَفي «سُنَنِ ¬

_ (¬1) (رقم 382). (¬2) أخرجه أحمد في «المسند» (رقم 17121)، والبزار في «مسنده» (2717 و 3483)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 501)، وإسناده جَيِّدٌ. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (رقم 21487)، وابن أبي شيبة في «مسنده» -كما في «إتحاف الخيرة» (رقم 6107) -، وغيرهما، وإسناده ضعيفٌ؛ لجهالةِ بعض رواته. (¬4) قال المؤلِّف في «جامع العلوم والحكم» (1/ 417): (مَن تحقَّق بكلمة التوحيد قَلبُه، أَخْرَجَتْ منه كلَّ ما سوى الله محبةً وتعظيماً وإجلالاً ومهابةً وخشيةً ورجاءً وتوكُّلاً، وحينئذ تُحْرَقُ ذنوبُه وخطاياه كلُّها، ولو كانت مِثلَ زَبَدِ البَحر، وربَّمَا قَلَبَتْهَا حسناتٍ، كما سبق ذكره في تبديل السيئات حسنات، فإنَّ هذا التوحيدَ هو الإكسيرُ الأعظمُ، فلو وضع ذرَّة منه على جبالِ الذنوب والخطايا لقلبها حسناتٍ، كما في «المسند» وغيره عن أم هانئ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ لا تَتْرُكُ ذَنْباً، وَلا يَسْبِقُهَا عَمَلٌ»).

الشرح

ابنِ مَاجَه» (¬1) عَن أَم هَانِئ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ لا تَترُكُ ذَنباً، وَلا يَسبِقُهَا عَمَلٌ». رُئِيَ بَعضُ السَّلَفِ بَعدَ مَوتِهِ فِي المَنَامِ، فَسُئِلَ عَن حَالِهِ، فَقَالَ: مَا أَبقَت لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ شَيئاً. وَهِيَ تُجَدِّدُ مَا دَرَسَ مِنَ الإِيمَانِ فِي القَلبِ، وَفي «المُسنَدِ» أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَصحَابِهِ: «جَدِّدُوا إِيمَانَكُم»، قَالُوا: كَيفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟، قَالَ: «قُولُوا: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» (¬2). Qقوله: (وَهِيَ نَجَاةٌ مِن النَّارِ) وهذا حقٌّ، فإنَّ كلمة التوحيد هي التي بها النَّجاة من النار، وشواهد هذا في السنة كثيرة، ومنها ما استدل به المؤلِّف من الحديث الذي أخرجه مسلمٌ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ مُؤذِّناً يقولُ: أشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله، فقال: «خَرَجَ من النَّارِ»، ومنها أيضاً أحاديث الشفاعة، وفيها: «أَخرِجُوا مِن النَّارِ مَن قالَ: لا إله إلا الله وفي قَلبِهِ مِثقَالُ ذَرَّةٍ - أو بُرَّةٍ أو خَردَلَةٍ - من إِيمانٍ» (¬3)، فهذا بيِّنٌ في أنَّ كلمة التوحيد «لا إله إلا الله» بها أصل النَّجاة من النَّار. ¬

_ (¬1) (رقم 3797)، وضعَّفه البوصيريُّ في «مصباح الزجاجة»، وهو كما قال. (¬2) أخرجه أحمد في «المسند» (رقم 8710)، والبزار في «مسنده» (رقم 9569)، وصحَّحه الحاكم في «المستدرك» (4/ 256)، وتعقَّبه الذهبيُّ في «تلخليص المستدرك» فضعَّفَه. (¬3) تقدَّم تخريجه.

وقوله: (وَهِي تُوجِبُ المَغفِرَةَ) استدلَّ عليه بحديث شداد بن أوس وعبادة الصامت -رضي الله عنهما-، ولا ريب أنَّ التوحيدَ الذي هو مضمون «لا إله إلا الله» سببٌ لمغفرةِ الشِّرك، فإنَّ مَن قال هذه الكلمة العظيمة بصدقٍ وإخلاصٍ فقد تاب من الشرك، فإنَّ التوبةَ سببٌ لمغفرة جميع الذنوب كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، وهذه الآية في التائبين، كما أن مغفرة الذنوب التي دون الشرك قد تغفر للموحِّد من غير توبة بمشيئة الله، والسبب الأول لذلك هو التوحيد لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء:48 و 116]. وقوله: (وَهِي أَحسَنُ الحَسَنَات) استدل له بحديث أبي ذرٍ المذكور، ويدل عليه أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه في شعب الإيمان: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» (¬1)، ويؤيِّد هذا أيضاً ما تقدَّم من أسماء هذه الكلمة العظيمة وفضائلها مما ذكره المؤلِّف -رحمه الله-. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «وَأَفْضَلُ مَا قُلتُ أنَا والنَّبِيُّونَ مِن قَبْلِي «لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ» (¬2). وقوله: (وَهِي تمحو الذنوب والخطايا) فالمحو هو الإزالة، ولا شك أنَّ التوحيدَ الخالص يزيل أثر الذنوب، وهذا المعنى داخلٌ في قولِه المتقدِّم: (وهي توجب المغفرة)، لكنَّ المغفرةَ تتضَمَّن - مع المحو - السَّتْرَ. وقوله: (وَهِي تُجَدِّدُ مَا دَرَسَ من الإِيمان) لا ريب أن قول العبد: «لا إله إلا الله» مستحضراً لمعناها موقناً به فيه تجديدٌ لما دَرَسَ - أي قَدُمَ وضَعُفَ - من الإيمان. وهذا يرجع إلى أن الإيمان يزيد بالطاعة، ومن أفضل الطاعات ذكر الله بقول: «لا إله إلا الله» وأخواتها «سبحان الله والحمد لله والله أكبر»، وسماع القرآن لقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} [الأنفال:2]. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (رقم 35). (¬2) سيأتي تخريجه قريباً.

قال ابن رجب رحمه الله

Wوَهِيَ الَّتِي لا يَعدِلُهَا شَيءٌ في الوَزنِ، فَلَو وُزِنَت بالسموات وَالأَرضِ [لـ] رَجَحَت بِهِنَّ، كَمَا في «المُسنَدِ» عَن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرٍو عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ نُوحاً عليه السلام قَالَ لابنِهِ عِندَ مَوتِهِ: آمُرُكَ بِـ «لا إِلَهِ إِلاَّ الله»، فَإِنَّ السموات السَّبعَ وَالأَرَضِينَ السَّبعَ [لَو وُضِعْنَ في كِفَّةٍ وَوُضِعَت «لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله» في كِفَّةٍ لَرَجَحَت بِهِنَّ، وَلَو أنَّ السموات السَّبعَ وَالأَرَضِينَ السَّبعَ] (¬1) كُنَّ حَلقَةً مُبهَمَةً فَصَمَتهُنَّ (¬2) «لا إِلَهَ إِلاَّ الله»» (¬3). وَفِيهِ أَيضاً عَن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرٍو (¬4) عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين ساقط من نسخة الأصل، واستدركته من نسخة (ب)، ومن مصدر الحديث، والظاهر أن سقوطه من نسخة الأصل بسبب انتقال النظر من موضعٍ إلى موضعٍ. (¬2) كذا في النسختين: «فَصَمَتْهُنَّ» بالفاء، والذي في «المسند»: «قَصَمَتْهُنَّ» بالقاف، وهو أوجه وأبلغ في المعنى، فإنَّ «الفَصْم» هو كَسْرُ الشيء من غير بينونة، وأما «القَصْمُ» فهو كسره ببينونة. [ينظر: «لسان العرب» (مادة: فصم، وقصم)]. (¬3) جزءٌ من حديثٍ طويلٍ أخرجه أحمد في «المسند» (رقم 6583 و 7101)، والبخاري في «الأدب المفرد» (رقم 548)، وصحَّحه الحاكم في (1/ 48 - 49)، ووافقه الذهبيُّ في «تلخيص المستدرك»، وصححَّه أيضاً ابنُ كثير في «البداية والنهاية» (1/ 119). قلت: الحديث في إسناده اختلاف، فروي موصولاً ومرسلاً، ومن أرسله أوثق ممن ووصله، ولذا رجَّح أبو حاتم في «العلل» (رقم 2183) إرساله. (¬4) هذا وهَمٌ من المؤلِّف رحمه الله، فلا الحديث من رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، ولا هو في «مسند الإمام أحمد»، بل الحديث في جميع مصادره من رواية أبي سعيد الخدري، كما سيأتي في تخريجه، ولم أقف على قصة موسى هذه من رواية عبد الله بن عمرٍو في شيءٍ من الكتب. وهذا الوهم قد تكرَّر من المؤلِّف في كتابه الآخر «جامع العلوم والحكم» (2/ 20)، فليتنبه له.

مُوسَى عليه السلام قَالَ: يَا رَبِّ عَلِّمنِي شَيئاً أَذكُرُكَ بِهِ وَأَدعُوكَ بِهِ، قَالَ: يَا مُوسَى، قُل: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، قَالَ [موسى]: يَا رَبِّ، كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا. قَالَ: قُل: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ، إِنَّمَا أُرِيدُ شَيئاً تَخُصُّنِي بِهِ. قَالَ: يَا مُوسَى، لَو أَنَّ السموات السَّبعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيرِي وَالأَرَضِينَ السَّبعَ في كِفَّةٍ، وَلا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فِي كِفَّةٍ، مَالَت بِهِنَّ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» (¬1). وَلِذَلِكَ تَرجحُ بِصَحَائِفِ الذُّنُوبِ، كَمَا فِي حَدِيثِ السِّجِلاَّتِ والبِطَاقَةِ (¬2)، وَقَد خَرَّجَهُ أَحمَدُ وَالنِّسَائِيُّ (¬3) والتِّرمِذِيُّ أَيضاً مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (¬4). وَهِيَ الَّتِي تَخرِقُ الحُجُبَ كُلَّهَا حَتَّى تَصِلَ إِلى اللهِ عز وجل، وَفي ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في «الكبرى - عمل اليوم والليلة» (رقم 10602 و 10913)، وأبو يعلى في «مسنده» (رقم 1393)، وصحَّحه ابن حبان (رقم 6218)، والحاكم (1/ 528)، وصحَّحه أيضاً الحافظ ابن حجر في «الفتح» (11/ 208). (¬2) ولفظه: «إنَّ الله سَيُخَلِّصُ رجُلاً من أُمَّتِي على رؤوس الخلائقِ يومَ القيامةِ، فيَنشُرُ عليه تسعةً وتسعِينَ سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلٍّ مثلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يقول: أَتُنكِرُ من هذا شيئاً؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحافِظُونَ؟، فيقول: لا يا رَبِّ، فيقول: أَفَلَكَ عُذرٌ؟، فيقول: لا يا رَبِّ، فيقول: بَلَى إنَّ لك عندَنَا حَسَنَةً، فإنَّه لا ظُلْمَ عَلَيكَ اليومَ، فَتُخْرَجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا «أَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إلا الله، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ»، فيقول: أَحْضِرْ وَزنَكَ، فيقول: يا رَبِّ ما هذه البِطَاقَةُ مع هذه السِّجِلاَّتِ؟ فيقال: إِنَّكَ لا تُظلَمُ، قال: فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ في كِفَّة، والبِطَاقَةُ في كِفَّة، فَطَاشَتْ السِّجِلاَّتُ وَثَقُلَت البِطَاقَةُ، فلا يَثقُلُ مع اسْمِ الله شَيءٌ». (¬3) لم أر هذا الحديث في «سنن النسائي»؛ لا الصغرى ولا الكبرى، ولما أورد المزي هذا الحديث في كتابه «تحفة الأشراف» (رقم 8855) لم يَعْزُه للنسائي، وإنما عزاه للترمذي وابن ماجه فحسب، والله أعلم. (¬4) أخرجه الترمذي في «جامعه» (رقم 2639)، وابن ماجه في «سننه» (رقم 4300)، والإمام أحمد في «المسند» (رقم 6994)، وصححه ابن حبان (رقم 225)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 6 و 529).

«التِّرمِذِيِّ» عَن عَبدِاللَّهِ بنِ عَمرٍو عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ لَيسَ لَهَا دُونَ اللَّهِ حِجَابٌ، حَتَّى تَصِلَ إِلَيهِ» (¬1). وَفِيهِ أَيضاً عَن أَبِي هُرَيرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَا قَالَ عَبدٌ: «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» مُخلِصاً إِلاَّ فُتِحَت لَهُ أَبوَابُ السموات حَتَّى تُفضِيَ إِلى العَرشِ مَا اجتُنِبَت الكَبَائِرُ» (¬2). وقَد رُوِيَ عَن اِبنِ عَبَّاسٍ مَرفُوعاً: «مَا مِن شَيءٍ إِلاَّ وبَينَهُ وَبَينَ اللَّهِ حِجَابٌ، إِلاَّ قَولَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، كَمَا أَنَّ شَفَتَيكَ لا تَحجُبُهَا كَذَلِكَ لا يَحجُبهَا شَيءٌ حَتَّى تَنتَهِيَ إِلَى اللَّهِ عز وجل» (¬3). وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ رضي الله عنه: (مَا مِن عَبدٍ يُهَلِّلُ تَهلِيلَةً فَيُنَهنِهُهَا شَيءٌ دُونَ العَرشِ) (¬4). وَهِيَ الَّتِي يَنظُرُ اللَّهُ إِلَى قَائِلِهَا، وَيُجِيبُ دُعَاءَهُ، خَرَّجَ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ «عمل اليَومَ وَاللَّيلَةِ» مِن حَدِيثِ رَجُلَينِ مِن الصَّحَابَةِ عَن ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في «جامعه» (رقم 3518) وقال: (هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجهِ، وليسَ إسنادُهُ بالقويِّ). (¬2) أخرجه الترمذي في «جامعه» (رقم 3590)، والنسائي في «الكبرى - عمل اليوم والليلة» (رقم 10601). قال الترمذي: (هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه). (¬3) أخرجه أبو القاسم الْخُتَّلِي في «الديباج» (رقم 133)، وزاد في آخره: «فيقولُ الله تعالى: اسْكُنِي، فتقولُ: يا رَبِّ، كَيفَ أَسْكُنُ ولَم تَغفِرْ لِقَائِلِي؟، قال: يقولُ الله تعالى: وعِزَّتِي وجَلالِي، ما أَجْرَيْتُكِ على لسَانِ عَبْدِي وأنَا أُرِيدُ أن أُعَذِّبَهُ». والحديث إسناده ضعيفٌ جداً؛ مسلسلٌ بالضعفاء والمجاهيل. (¬4) أورده الذهبيُّ في «العلو» (رقم 138)، وساق طرفاً من إسناده، وفيه: عبد الله بن بُسر السَّكسكي الحمصي، وهو متفقٌ على ضعفه. وقوله: «فيُنَهْنِهُهَا» يعني يمنعها عن الوصول إليه. ينظر: «لسان العرب» (13/ 550 مادة: نَهْنَهَ).

الشرح

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَن قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، مُخلِصَاً بِهَا رُوحُهَ، مُصَدِّقاً بِهَا قَلبُهَ لِسَانَهُ، إِلاَّ فَتَقَ اللَّهُ لَهُ السَّمَاءَ، حَتَّى يَنظُرَ إِلَى قَائِلِهَا مِن أَهلِ الأَرضِ، وَحُقَّ لِعَبدٍ نَظَرَ اللَّهُ إِلَيهِ أَن يُعطِيَهُ سُؤلَهُ» (¬1). وَهِيَ الكَلِمَةُ الَّتِي يُصَدِّقُ اللَّهُ قَائِلَهَا، كَمَا خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرمِذِيُّ وَابنُ حِبَّانَ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا قَالَ العَبدُ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ, وَاللَّهُ أَكبَرُ صَدَّقَهُ رَبُّهُ، وَقَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا, وَأَنَا أَكبَرُ, وَإِذَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحدَهُ يَقُولُ اللَّهُ: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا وَحدِي، وَإِذَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا وَحدِي لا شَرِيكَ لِي، وَإِذَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ، قَالَ اللَّهُ: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا، لِي المُلكُ وَلِي الحَمدُ، وَإِذَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ, وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، قَالَ اللَّهُ: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا، وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِي»، وَكَانَ يَقُولُ: «مَن قَالَهَا فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ لَم تَطعَمهُ النَّارُ» (¬2). Qقوله: (وَهِي التي لا يَعْدِلُها شيءٌ في الوَزْنِ) يريد أنها أثقلُ الحَسَنات في الميزان، فتَرجُح بكلِّ السيِّئات كما في حديثِ صَاحِبِ البِطَاقة التي كان مكتوباً ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في «الكبرى - عمل اليوم والليلة» (رقم 9772)، وابن خزيمة في «التوحيد» (رقم 618)، وإسناده ضعيفٌ. (¬2) أخرجه الترمذي في «جامعه» (رقم 3430)، والنسائي في «الكبرى - عمل اليوم والليلة» (رقم 9774)، وابن ماجه في «سننه» (رقم 3794)، وصحَّحه ابن حبان (رقم 851)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 5).

فيها «لا إله إلا الله» فَرَجَحَت بتسعةٍ وتسعينَ سِجِلاً، ومعلومٌ أنَّه ليس المراد مجرَّدُ التلَفُّظ بها، بل إنَّما يكون لها هذا الثِّقَل بحَسَب ما في قَلبِ قَائِلِها من كمالِ الصِّدقِ والإِخلاص. وقد استشهد المؤلِّف لفضلها بثقلها في الميزان بحديثَي عبد الله بن عمرو رضي الله عنه في خبر نوحٍ عليه السلام مع ابنِه، وفي خبرِ موسى عليه السلام مع ربِّه، أما الأول فمختلَفٌ في تصحيحِه ولا ذِكْرَ للوزن فيه، وأما الثاني فالمعروف أنه من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ولا يُعرَفُ من رواية عبد الله بن عمرو فليُنَتَبَّه لذلك، وحديث أبي سعيد في خبر موسى عليه السلام أورده الشيخُ محمَّدُ بنُ عبد الوهاب في «كتابه التوحيد» (باب فضل التوحيد وما يكفره من الذنوب). وأما حديث عبد الله بن عمرو في قصة صاحب البطاقة فهو أنسَبُها للاستشهاد به في فضل «لا إله إلا الله» وأنَّه لا يعدلها شيءٌ في الوَزن. ومعلومٌ أنَّ هذا الفضل ليس لمجرَّدِ التلَفُّظ بها، بل إنَّما يكون لها هذا الثِّقَل بحَسَب ما في قَلبِ قَائِلِها من كمالِ الصِّدقِ والإِخلاص. فالكلام في هذا من جهتين: الأولى: من جهة معناها ومدلولها، فإن هذا الكلمة «لا إله إلا الله» تدل على أعظم المعاني وأجَلِّها، فهي تدلُّ على أنَّ الله العظيم الموصوف بكل كمال، المنَزَّه عن كل نقص، أنَّه هو الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه، وأنه سبحانه ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه، فهو العظيمُ الذي لا أعظمَ منه، وهو الكبيرُ المتَعَالِ، وهو الموصوفُ بكلِّ كمالٍ، فبهذا الاعتبار وهذا المعنى ترجُح هذه الكلمة العظيمة «لا إله إلا الله» بكلِّ شيءٍ، فهذا المعنى العظيم الذي تدل عليه هذه الكلمة يرجُح بالسموات والأرض، فإنَّ السموات والأرض ومَن فيهِنَّ ليست بشيءٍ في جنبِ هذا المعنى العظيم الذي تدل عليه هذه الكلمة. والثانية: من حيث إنها عملٌ وقولٌ يقولُه العباد، فإنَّ وَزْنَهَا بهذا الاعتبار يَختَلِف، فيقولُها المنافقُ ولا يكون لها وزنٌ، ويقولها سائرُ الموحِّدين الصادقين فيكون لها وزنٌ، لكن مع التفاوت العظيم في ذلك؛ فهي من الأنبياء والمرسلين والكُمَّل من المؤمنين غير وزنها وثِقَلِها ممن دونهم.

وبالجملة فإن هذه الكلمة العظيمة -كلمة التوحيد- من حيث إنها عملٌ من أعمال العباد وأقوالهم تتفاوت تفاوتاً عظيماً في الثقل والوزن، فالذين يدخلون النار ممن يقولها لا ريب أن وزنها لم يرجح بسيئاتهم، ولو كان وزنها رجح بسيئاتهم ما دخلوها، لكن صاحب البطاقة له حالٌ آخر، فصاحب البطاقة الذي يُنشَرُ له تسعةٌ وتسعون سجلاً من السيئات، فيقال له: ألك عذرٌ أو حسنة؟ فيُبْهَتُ، فيقول: لا يا رب، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنةٌ واحدةٌ؛ فإنك لا تظلم، فتُخرَج له بطاقة فيها «لا إله إلا الله»، فيقول: يارب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فتوضع البطاقة في كِفَّة، والسجلات في كِفَّة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، هذه لها حال أخرى ولها ثقل يختلف عن حال الآخرين، فلابد من ملاحظة هذا المعنى. وهذا المعنى يستفاد من النظر إلى مجموع النصوص، فلا يقف المرء عند دليلٍ واحدٍ وينسى باقي النصوص والأدلة، فإنه حتماً سيكون فهمه لها فهماً قاصراً، بل الواجب النظر في جميع الأدلة مضموماً بعضها إلى بعض حتى يخرج بالنتيجة الصحيحة حينئذٍ. وقوله: (وَهِيَ الَّتِي تَخرِقُ الحُجُبَ كُلَّهَا حَتَّى تَصِلَ إِلَى اللَّهِ عز وجل) وذلك أنَّ كلمة التوحيد هي من جملة الكَلِم الطيِّب، بل هي من أطيب الطَّيِّب، لكن يختلف أيضاً حكمها بحسب قائلها، وما صدرت عنه من أحوال القلوب، {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر:10]. إذاً هذه الكلمة العظيمة تصعد إلى الله عزَّ وجَلَّ، وهل صعودها خاصٌّ بها؟ لا، بل كُلُّ الكَلِم الطيب يصعد إلى الله عزَّ وجلَّ، من التسبيح والتهليل والتكبير وتلاوة القرآن وغير ذلك، فكلُّ كلامٍ يقولُه الإنسانُ مما يُحِبُّه الله ويَأمُرُ به، فإنَّه داخلٌ في عموم قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}، ومتى صعد إليه فإنه لا يُحجَب، بل يقبله الله سبحانه من عبده المؤمن المخلص الذي ذكر الله صادقاً من قلبه معظِّمَاً لربه مُثْنِياً عليه.

قال ابن رجب رحمه الله

Wوَهِيَ أَفضَلُ مَا قَالَهُ النَّبِيُّونَ، كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي دُعَاءِ يَومِ عَرَفَةَ (¬1). وَهِيَ أَفضَلُ الذِّكرِ، كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ المَرفُوعِ: «أَفضَلُ الذِّكرِ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» (¬2)، وَعَن ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (أَحَبُّ كَلِمَةٍ إِلَى اللَّهِ [لا إله إلا الله]، لا يُقبَلُ عَمَلٌ (¬3) إِلا بِهَا) (¬4). ¬

_ (¬1) ولفظه: «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ» أخرجه مالك في «الموطأ» (رقم 500 و 945) عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عيَّاش بن أبي ربيعة، عن طلحة بن عُبَيدِ الله بنِ كَرِيْزٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، مرسلاً. قال ابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 39): (لا خلاف عن مالكٍ في إرسال هذا الحديث، كما رأيتَ، ولا أحفظُه بهذا الإسناد مسندَاً من وجهٍ يُحتَجُّ بمثلِه). وقال البيهقي في «فضائل الأوقات» (رقم 191): (هذا مرسلٌ حَسَنٌ، وقد رُوِيَ من حديثِ مالكٍ موصولاً بإسنادٍ آخر، ووَصْلُهُ ضَعيفٌ). قلت: وقد روي الحديث مسنَدَاً من طريق جماعةٍ من الصحابة، ولكنها لا تخلو من مقال، ولذا قال ابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 41): (ومرسل مالكٍ أثبتُ من تلك المسانيد). (¬2) أخرجه الترمذي في «جامعه» (رقم 3383)، والنسائي في «الكبرى - عمل اليوم والليلة» (رقم 10599)، وابن ماجه في «سننه» (رقم 3800)، وصححه ابن حبان (رقم 846)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 498 و 503). وقال الترمذي: (هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ)، وحسَّنه أيضاً الحافظ ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 58). (¬3) في نسخة (ب): لا يَقبَلُ اللَّهُ عَمَلاً. (¬4) كلام ابن عباس هذا هو عبارة عن جوابٍ لمسألةٍ من جملةِ مسائل كَتَبَ بها قيصرُ إلى معاويةَ رضي الله عنه يسأله عنها، فأرسل بها معاويةُ إلى ابنِ عبَّاس فأجابه عنها. تُنظر المسائل وجواب ابن عباس عنها عند: يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (1/ 530)، وابن قتيبة في «عيون الأخبار» (1/ 199)، والدينوري في «المجالسة وجواهر العلم» (3/ 194 - 195).

وَهي أَفضَلُ الأَعمَالِ، وأَكَثَرُهَا تَضعِيفَاً، وَتَعدِلُ عِتقَ الرِّقَابِ، وَتَكُونُ حِرزَاً مِن الشَّيطَانِ، كَمَا فِي «الصَّحِيحَينِ» عَن أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَن قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، [فِي يَومٍ] (¬1) مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَت لَهُ عَدلُ عَشرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَ عَنهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَت لَهُ حِرزاً مِن الشَّيطَانِ يَومَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمسِيَ، وَلَم يَأتِ أحدٌ بِأَفضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلا أَحَدٌ عَمِلَ أَكثَرَ مِن ذَلِكَ» (¬2). وَفِيهِمَا أَيضاً عَن أَبِي أَيُّوبَ [الأنصاري رضي الله عنه] عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَن قَالَهَا عَشرَ مَرَّاتٍ كَانَ كَمَن أَعتَقَ أَربَعَةَ أَنفُسٍ مِن وَلَدِ إِسمَاعِيلَ» (¬3). وَفِي «التِّرمِذِيِّ» عَن ابنِ عُمَرَ (¬4) مَرفُوعاً: «مَن قَالَهَا إِذَا دَخَلَ السُّوقَ، وَزَادَ فِيهَا: (يُحيَي وَيُمِيتُ [وَهو حَيٌّ لاَ يَمُوتُ بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهو عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدَيرٌ] (¬5)) كُتِبَت لَهُ أَلفُ أَلفِ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَ عَنهُ أَلفُ أَلفِ سَيِّئَةٍ، وَرُفِعَ لَهُ أَلفُ أَلفِ دَرَجَةٍ»، وَفي رِوَايَةٍ: «وَبُنِيَ لَهُ بَيتٌ فِي الجَنَّةِ» (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين ساقط من نسخة الأصل، واستدركته من نسخة (ب)، ومن مصدر الحديث. (¬2) متفقٌ عليه؛ البخاري (رقم 3119)، ومسلم (رقم 2691). (¬3) متفقٌ عليه؛ البخاري (رقم 6041)، ومسلم (رقم 2693). (¬4) هذا وهمٌ من الحافظ ابن رجب، بل الذي في الترمذي وغيره: أنه عن ابن عمر عن أبيه عمر مرفوعاً، فالحديث من مسند «عمر» لا من مسند «ابنه عبد الله». (¬5) ما بين المعقوفتين ساقطٌ من نسخة الأصل، واستدركتُه من نسخة (ب)، ومن مصدر الحديث. (¬6) أخرجه الترمذي في «جامعه» (رقم 3428 و 3429)، وابن ماجه في «سننه» (رقم 2235)، وأحمد في «المسند» (رقم 327). قال علي بن المديني: (كان أصحابنا يُنكرون هذا الحديث أشد الإنكار لجودة إسناده) [نقله ابن كثير في «مسند الفاروق» (2/ 642 - 643)]، وقال أبو حاتم في «العلل» (رقم 2006): (حديثٌ منكرٌ جِدَّاً)، وقال أبو داود كما في «سؤالات الآجري» (رقم 1082 و 1083): (هذا الحديث ليس بشيء).

الشرح

Qورد في فضل كلمة التوحيد وفضل اللَّهَجِ بها من الأحاديث الصحيحة الشيءُ الكثيرُ، فهي إحدى الكلمات الأربع التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: «لأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» (¬1)، ولا ريب أنَّ «لا إله إلا الله» هي أفضل هذه الكلمات الأربع. وورد استحباب ذكر الله بها في مواضع، كالذكر بعد الصلاة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» (¬2)، زاد مسلم: «لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إيَّاه، له النعمةُ وله الفضلُ وله الثناءُ الحَسَنُ، لا إله إلا الله مخلصين له الدِّينَ ولو كَرِهَ الكافرون» (¬3). وبالجملة فذكر الله بها مطلقاً ومقيَّدَاً كثيرٌ، ومن ذلك ما ورد أنَّ: «مَنْ قَالَ: لاََ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ» (¬4). وقد تقدَّم أنَّ «لا إله إلا الله» هي كلمة التقوى، بل لا تقوم التقوى إلا عليها، فبها يُتَّقَى الشرك بالله، وتُتَّقَى جميع المعاصي، فَمَن قالها وتحقَّق بها فقد حَقَّقَ التقوى التي هي امتثال الأوامر واجتناب المناهي. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (رقم 2695) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) متفقٌ عليه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه؛ أخرجه البخاري في مواضع، منها: (رقم 808)، ومسلم (رقم 593). (¬3) أخرجه مسلم (رقم 594) من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه. (¬4) تقدَّم تخريجه قريباً.

قال ابن رجب رحمه الله

Wوَمِن فَضَائِلِهَا: أَنَّهَا أَمَانٌ مِن وَحشَةِ القَبرِ وَهَولِ الحَشرِ، كَمَا في «المُسنَدِ» (¬1) وَغَيرِهِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيسَ عَلَى أَهلِ «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» وَحشَةٌ فِي قُبُورِهِم وَلا نَشُورِهِم، وَكَأَنِّي بِأَهلِ «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» قَد قَامُوا يَنفُضُونَ التُّرَابَ عَن رؤوسهم، وَيَقُولُونَ: الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذهَبُ عَنَّا الحَزَنَ» (¬2). وَفِي حَدِيثٍ مُرسَلٍ: «مَن قَالَ: «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ المُبِينُ» كُلَّ يَومٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَت لَهُ أَمَاناً مِنَ الفَقرِ، وَأُنْسَاً مِن وَحشَةً القَبرِ، وَاستَجْلَبَ بِهِ الغِنَى، وَاستَقْرَعَ بِهِ بَابَ الجَنَّةِ» (¬3). وَهِيَ شِعَارُ المُؤمِنِينَ إِذَا قَامُوا مِنَ القُبُورِ، وقَالَ النَّضرُ بنُ ¬

_ (¬1) هذا وهمٌ من الحافظ ابن رجب، فليس الحديث في «مسند أحمد»، ولم يذكره ابن حجر في «أطراف المسند» ولا في «إتحاف المهرة بأطراف العشرة»، وذكره البوصيري في «إتحاف الخِيَرَة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» (رقم 6118) ولم يعزه لـ «مسند أحمد»، وهذا مما يؤكد عدم وجوده فيه. (¬2) أخرجه أبو يعلى في «مسنده» -كما في «المطالب العالية» (رقم 2865) -، وابن أبي الدنيا في «الأهوال» (رقم 214)، وفي «القبور» (رقم 69)، والطبراني في «الأوسط» (رقم 9478)، وإسناده ضعيفٌ جداً. (¬3) أخرجه ابن المقرئ في «غرائب مالك» -كما في «منتخبه» (رقم 17) -، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 280)، وغيرهم من طريق مالكٍ، عن جعفر بن محمد [هو: المعروف بـ «الصادق»]، عن أبيه [هو: محمَّد بنُ علي]، عن جدِّه [هو: علي بن الحسين]، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً. قلت: وقد رُوي عن مالكٍ من وجهٍ آخر موصولٍ، ولا يصح، قال ابن حجر في «رفع الإصر» (ص 305): (قد رُوِيَ عن مالكٍ من وجوهٍ عِدَّة لا يثبت شيءٌ منها)، وقال الدارقطني في «غرائب مالك»: (هذا الحديث لا يصح، وكلُّ مَن رواه عن مالكٍ ضعيفٌ)، وقال ابن عبد البر: (هذا حديثٌ غريبٌ من حديث مالكٍ لا يصح عنه، ... ، ولا يرويه عن مالكٍ مَن يوثق به، ولا هو معروفٌ من حديثه).

عَرَبِيٍّ: (بَلَغَنِي أَنَّ النَّاسَ إِذَا قَامُوا مِن قُبُورِهِم فَإِنَّ شِعَارَهُم: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) (¬1). وَقَد خَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ حَدِيثاً مَرفُوعاً: «إِنَّ شِعَارَ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى الصِّرَاطِ: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ» (¬2). وَمِن فَضَائِلِهَا: أَنَّهَا تَفتَحُ لِقَائِلِهَا أَبوَابَ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ يَدخُلُ مِن أَيِّهَا شَاءَ، كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه (¬3) عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَن أَتَى بِالشَّهَادَتَينِ بَعدَ الوُضُوءِ، خَرَّجَهُ مُسلِمٌ (¬4). وَفِي «الصَّحِيحَينِ» عَن عُبَادَةَ [بن الصامت رضي الله عنه] عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَن قَالَ: أَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبدُ اللَّهِ [ورسوله] وَكَلِمَتُهُ أَلقَاهَا إِلَى مَريَمَ وَرُوحٌ مِنهُ، وَأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبعَثُ مَن فِي القُبُورِ فُتِحَت لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبوَابٍ مِنَ الجَنَّةِ يَدخُلُ مِن أَيِّهَا شَاءَ» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه موقوفاً عليه: ابن أبي الدنيا في «القبور» (رقم 71)، وفي «الأهوال» (رقم 103). (¬2) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (رقم 160)، وفي «الدعاء» (رقم 1487)، وإسناده واهٍ. (¬3) في نسخة (ب): ابن عمر، وهو خطأ. (¬4) برقم (234)، ولفظه: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ - أَوْ فَيُسْبِغُ - الْوُضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ». (¬5) متفقٌ عليه، أخرجه البخاري (رقم 3252)، ومسلم (رقم 28). تنبيهان: أولهما: قوله: «وأنَّ اللَّهَ يَبعَثُ مَن فِي القُبُورِ» ليست في «الصحيحين»، ومثلها أيضاً ما وقع في نسخة (ب) من قوله قبلها: «وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيبَ فِيهَا»، بل لم أر هاتين الجملتين من رواية عُبَادة رضي الله عنه في شيءٍ من مصادر الحديث، فالله أعلم. ثانيهما: قوله: «فُتِحَت لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبوَابٍ مِنَ الجَنَّةِ يَدخُلُ مِن أَيِّهَا شَاءَ»، هذا قريبٌ من لفظ مسلمٍ: «أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِن أَيِّ أَبوَابِ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ»، وأما لفظ البخاري فهو: «أَدخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ».

وَفِي حَدِيثِ عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ سَمُرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَّةِ مَنَامِهِ الطَّوِيلِ، وَفِيهِ قَالَ: «وَرَأَيتُ رَجُلاً مِن أُمَّتِي اِنتَهَى إِلَى أَبوَابِ الجَنَّةِ، فَأُغلِقَت الأَبوَابُ دُونَهُ، فَجَاءَتهُ شَهَادَةُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَفَتَحَت لَهُ الأَبوَابَ، وَأَدخَلَتهُ الجَنَّةَ» (¬1). وَمِن فَضَائِلِهَا: أَنَّ أَهلَهَا وَإِن دَخَلُوا النَّارَ بِتَقصِيرِهِم فِي حُقُوقِهَا فَإِنَّهُم لا بُدَّ أَن يَخرُجُوا مِنهَا، وَفي «الصَّحِيحَينِ» عَن أَنَسٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عز وجل: وَعِزَّتِي وَجَلالِي وَكِبرِيَائِي وَعَظَمَتِي، لأُخرِجَنَّ مِنهَا مَن قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» (¬2). وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ عَن أَنَسٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أُنَاساً مِن أَهلِ لا إِلَهٌ إِلا اللَّهُ يَدخُلُونَ النَّارَ بِذُنُوبِهِم، فَيَقُولُ لَهُم أَهلُ اللاتِ وَالعُزَّى: مَا أَغنَى عَنكُم قَولُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَيَغضَبُ اللَّهُ لَهُم فَيُخرِجُهُم مِن النَّارِ, فَيَدخُلُونَ الجَنَّةَ» (¬3). وَمَن كَانَ فِي سُخطِهِ مُحسِناً ... فَكَيفَ يَكُونُ إِذَا مَا رَضِيَ؟ لا يُسَوِّي بَين مَن وَحَّدَهُ - وَإِن قَصَّرَ فِي حُقُوقِ تَوحِيدِهِ - وَبَينَ مَن أَشرَكَ بِهِ. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في «الكبير» -كما في «جامع المسانيد» (8/ 331 - 333) - وفي «الدعاء» (رقم 385)، وابن شاهين في «الترغيب في فضائل الأعمال» (رقم 526)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 697) وغيرهم. قال ابن الجوزي: (هذا حديثٌ لا يصح)، قلت: وهو كما قال، فإنَّ عامَّة أسانيده ضعيفة لا تثبت، ولا يخلو إسناد منها من مجهول أو ضعيف. (¬2) متفقٌ عليه، أخرجه البخاري (رقم 7072)، ومسلم (رقم 193)، وهو جزءٌ من حديث الشفاعة الطويل. (¬3) أخرجه أبو بكر بن أبي داود في «البعث والنشور» (رقم 51)، والطبراني في «الأوسط» (رقم 7293)، وإسناده ضعيفٌ جداً، وفيه من لا يُعرَف.

قَالَ بَعضُ السَّلَفِ: كَانَ إِبرَاهِيمُ عليه السلام يَقُولُ: اللَّهُمَّ لا تُشرِكُ مَن كَانَ يُشرِكُ بِكَ بِمَن كَانَ لا يُشرِكُ بِكَ. كَانَ بَعضُ السَّلَفِ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلتَ عَن أَهلِ النَّارِ إِنَّهُم أَقسَمُوا بِاللَّهِ جَهدَ أَيمَانِهِم لا يَبعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ (¬1)، وَنَحنُ نُقسِمُ بِاللَّهِ جَهدَ أَيمَانِنَا: لَيَبعَثَنَّ اللَّهُ مَن يَمُوتُ، اللَّهُمَّ لا تَجمَع بَينَ أَهلِ القَسَمَينِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ. كَانَ أَبُو سُلَيمَانَ يَقُولُ: إِن طَالَبَنِي بِبُخلِي طَالَبتُهُ بِجُودِهِ، وَإِن طَالَبَنِي بِذُنُوبِي طَالَبتُهُ بِعَفوِهِ، وَإِن أَدخَلَنِي النَّارَ أَخبَرتُ أَهلَ النَّارِ أَنِّي كُنتُ أُحِبُّهُ. مَا أَطيَبَ وَصلَهُ وَمَا أَعذَبَهُ ... وَمَا أَثقَلَ هَجْرَهُ وَمَا أَصعَبَهُ في السُّخطِ وَفي الرِّضَى ما أَهيَبَهُ (¬2) ... القَلبُ يُحِبُّهِ وَإِن عَذَّبَهُ! وَكَانَ بَعضُ العَارِفِينَ (¬3) يَبكِي طُولَ لَيلِهِ، وَيَقُولُ: إِن تُعَذِّبنِي فَإِنِّي لَكَ مُحِبٌّ، وَإِن تَرحَمنِي فَإِنِّي لَكَ مُحِبٌّ. العَارِفُونَ يَخَافُونَ مِنَ الحِجَابِ أَكثَرَ مِمَّا يَخَافُونَ مِنَ العَذَابِ (¬4)، قَالَ ذُو النُّونِ: خَوفُ النَّارِ عِندَ خَوفِ الفِرَاقِ كَقَطرَةٍ فِي بَحرٍ لُجِّيٍّ (¬5). ¬

_ (¬1) يشير إلى قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقَّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل:38]. (¬2) في نسخة (ب): في السُّخْطِ والرِّضَى فَمَا أَهْيَبَهُ. (¬3) هو: عتبة بن أبان الغلام، أسنده عنه: أبو نعيم في «الحلية» (6/ 226). (¬4) قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (1/ 27): (عذابُ الحِجَابِ أعظمُ أنواعِ العذابِ، ولَذَّةُ النَّظَرِ إلى وجهِهِ أعلَى اللَّذَّاتِ). (¬5) عزاه إليه أبو طالب المكي في «قوت القلوب» (1/ 377)، والغزالي في «إحياء علوم الدين» (4/ 168).

كَانَ بَعضُهُم يَقُولُ: إِلَهِي وَسَيِّدِي وَمَولاي، لَو عَذَّبتَنِي بِعَذَابِكَ كُلِّهِ, كَانَ مَا فَاتَنِي مِن قُربِكَ أَعظَمَ عِندِي مِنَ العَذَابِ. قِيلَ لِبَعضِهِم: لَو طَرَدَكَ مَا كُنتَ تَفعَلُ؟، فَقَالَ: أَنَا إِن لَم أَجِد مِن الحُبِّ وَصلاً ... رُمتُ فِي النَّارِ مَنزِلاً وَمَقِيلا ثُمَّ أَزعَجتُ أَهلَهَا بِنِدَائِي ... بُكرَةً فِي عَرَصَاتِهَا (¬1) وَأَصِيلا مَعشَرَ المُشرِكِينَ نُوحُوَا عَلَى مَن ... يَدِّعِي أَنَّهُ يُحِبُّ الجَلِيلاَ لَم يَكُن فِي الَّذِي اِدَّعَاهُ مُحِقَّاً ... فَجَزَاهُ بِهِ العَذَابَ الطَّوِيلا! إِخوَاني اِجتَهَدُوا اليَومَ فِي تَحقِيقِ التَّوحِيدِ, فَإِنَّهُ لا يُوصِلُ إِلَى اللَّهِ سِوَاهُ، وَاحرِصُوا عَلَى القِيَامِ بِحُقُوقِهِ، فَإِنَّهُ لا يُنْجِي مِن عَذَابِ اللَّهِ إِلا إِيَّاهُ. مَا نَطَقَ النَّاطِقُونَ إِذ نَطَقُوا ... أَحسَنَ مِن لا إِلَهَ إِلاَّ هو تَبَارَكَ الله ذُو الجَلاَلِ وَمَن ... أَشهَدُ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو مَن لِذُنُوبِي وَمَن يُمَحِّصُهُا ... غيرك يا من لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو جِنَانُ خُلدٍ (¬2) لِمَن يُوَحِّدُهُ ... أَشهَدُ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو نِيرَانُهُ لاَ تُحرِقُ مَن ... حَقَّقَ (¬3) أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو أَقُولُهَا مُخلِصَاً بِلاَ بُخلٍ ... أَشهَدُ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو آخِرُهُ وَالحَمدُ لله وَحدَهُ وصلى الله على سيدنا محمد وآله [وصحبه] وسلم تسليما كثيراً ¬

_ (¬1) في نسخة (ب): عِرَاصِهَا. قال في «القاموس»: (العَرْصَةُ: كلُّ بُقْعَةٍ بينَ الدُّورِ واسِعَةٍ ليس فيها بِناءٌ، جمعها: عِراصٌ وعَرَصاتٌ وأعْراصٌ). (¬2) في نسخة (ب): جِنَانُ خُلْدِهِ. (¬3) في نسخة (ب): يَشْهَدُ، مكان: حَقَّق.

الشرح

Qمما ورد هنا أنَّ «لا إله إلا الله» أمانٌ لقائلها من وحشة القبر ويوم البعث، وهذا حقٌّ، ويمكن أن نستدل لهذا بقوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام:82]، وقد أورد الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في (باب فضل التوحيد) هذه الآية مستدلاً بها على فضل التوحيد. وهذا حقٌّ؛ فإنَّ التوحيد هو سبب الأمن والهدى، ومن ثبت له أصل التوحيد فإنه يأمن من الخلود في النار، ولا بد له من دخول الجنة، فمن حقَّقَ التوحيدَ وقال هذه الكلمة العظيمة «لا إله إلا الله» محقِّقَاً لمعناها، عاملاً بمقتضاها = فاز بالأمن التام والهدى التام. فجزاء الله للعباد قائمٌ على العدل، فلا يُسوِّي بين المشركين وبين الموحِّدين، ولا بين العصاة المسرفين على أنفسهم وبين المتقين، تعالى الله عن ذلك، قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]. فالله عز وجل يَتَعَالى ويتقدَّس أن يُسوِّي بين أوليائه وأعدائه، أو بين القائمين بحقه والمفرِّطين فيه، ولهذا بحكمته وعدله سبحانه جعل الجنة درجات، حتى إن من أهل الجنة من يَتَرَاءَون الغُرَف كما يَتَرَاءَى الناسُ الكوكَبَ الغَارِبَ في الأُفُق (¬1) -يعني: في علوٍّ بعيدٍ-، فالجنة منازلُ ودرجاتٌ متفاضلةٌ، و «الوسيلةُ» هي أعلى درجةٍ في الجنَّة، وهي لنبينا صلى الله عليه وسلم (¬2). فدرجات أهل الجنة ونعيمهم يتفاضل، كما في حديث عبادة رضي الله عنه: ¬

_ (¬1) متفقٌ عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، البخاري (رقم 6188)، ومسلم (رقم 2830). (¬2) أخرجه مسلم (رقم 384)، والترمذي (رقم 3612).

«أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» (¬1)، قد قيل في معناه: يعني من حيث الدرجات، فيُسكِنُه الله الدَّرجةَ التي يستحِقُّها بعمَلِه. فمن فضل التوحيد أنَّه يحصل به الأمان، فمَن قال كلمة التوحيد وكان محقِّقَاً لها فله الأمنُ من عذاب القبر ووحشته، ومن الفزع يوم الفزع الأكبر كما قال تعالى: {من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون} [النمل:89]، فـ «الحسنة» هنا هي: لا إله إلا الله (¬2). لكن ليس المقصود هو مجرَّد التلفُّظ بها، فالعصاة المسرفون على أنفسهم يحصل لهم من الفزع والخوف يوم القيامة بحسب حالهم وذنوبهم، وينالهم من العذاب ما شاء الله بحسب ذلك، لكن الذي يفوز بالأمن {وهم من فزع يومئذ آمنون} هو من جاء بالتوحيد وجاء بالإيمان ولم يَخْلِطْه بظلمٍ {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}، وقد فَصَّل شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامه على هذه الآية ما يُفهم به المراد (¬3). فإنَّ الظلمَ أنواع: النوع الأول: الظلم في حق الله، ولا يقال: ظلم الله، فإنَّ العباد لا يظلمون الله {وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [البقرة:57، الأعراف:160]، لكن الظلم يكون في حق الله، ويكون ذلك بالشرك الأكبر، وهذا النوع من الظلم ينافي الأمن والهدى مطلقاً، فلا أمن ولا هدى لمن لَبَسَ إيمانَه بالشرك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم لما نزلت هذه الآية وشق ذلك عليهم وقالوا: أيما لم يظلم نفسه؟، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إنَّ الشرك لظلم عظيم} [لقمان:13]» (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) ينظر: «تفسير الطبري» (18/ 139 - 142)، و «الدر المنثور» (11/ 416 - 419). (¬3) ينظر: «تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء» (1/ 335 وما بعدها). (¬4) متفقٌ عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، البخاري في مواضع منها: (رقم 3181)، ومسلم (رقم 124).

والنوع الثاني: ظلمُ الإنسانِ نفسَه بالمعاصي، وهذا يفوتُ به من الأمن والهدى بحسب ما اقتَرَفَه العبدُ من معاصي. والنوع الثالث: ظلمُ العبادِ في دمائِهم وفي أنفسِهم وأموالِهم وأعراضِهم، وهذا أيضاً يفوت به من الأمن والهدى بحسب ما اقتَرَفَ من ذلك. فالنوعان الثاني والثالث لا يمنعان -مع التوحيد- من الأمن والهدى مطلقاً، وإنما الذي ينافي الأمن والهدى مطلقاً هو الشرك والكفر بأنواعه. فلا بد من معرفة هذه الحقيقة؛ لأننا علمنا من النصوص أن الذي يقترف الذنوب على اختلاف أنواعها هو معرَّضٌ للعذاب، فليس من أهل الأمن التام، فلا يَرِدُ القيامةَ آمِنَاً كما قال تعالى: {أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة} [فصلت:40]، فالذي يأتي آمِنَاً يوم القيامة هو المؤمنُ الموحِّدُ الصَّادِقُ الذي قَدِمَ على ربِّهِ غير مُصِرٍّ على شيءٍ من الذنوب، ومن كان هذا حاله كان جزاؤه الأمن في ذلك اليوم {من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون} [النمل:89] آمِنٌ من الفزع، آمِنٌ من العذاب، آمِنٌ من النَّار. وهذا المعنى ذكره الله تعالى في مواضع، ومن ذلك قوله في حقِّ أوليائه: {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (¬1)، فهم يخافون في الدنيا لكن يوم القيامة يزول عنهم الخوف، وإن حصل في بعض المواقف خوفٌ عامٌّ، كما في حديث الشفاعة، وأنَّ الرُّسُلَ في ذلك اليوم يَتَرَادُّون الشفاعة ويمتنعون ويعتذرون، كلُّ واحدٍ منهم يقول: «إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي نفسي» (¬2)، هذا خوفٌ عامٌّ يحدث لسائر الخلق، حتى الأنبياء والرسل، لكن لهم الأمن الذي تزول معه تلك المخاوف. ¬

_ (¬1) كما في سورة البقرة (38 و 69)، والأنعام (48)، والأعراف (35)، والأحقاف (13)، وغيرها من الآيات. (¬2) جزءٌ من حديث الشفاعة الطويل، أخرجه البخاري (رقم 3162)، ومسلم (رقم 194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

فهذا تعليقٌ موجزٌ على هذه الجملة التي ساقها المؤلف -رحمه الله- في التنويه بفضل «لا إله إلا الله»، وخَتَمَها ببعض المقولات والآثار عن مسألة محبة الله، وأن عذاب الحجاب أعظم من عذاب النار، وعذاب الحجاب هو مما يتضمنه عذاب النار، نعوذ بالله من النار ونعوذ بالله من الحجاب، قال تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون - ثم إنهم لصالوا الجحيم - ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون} [المطففين:15 - 17]. فكما أنَّ أعلى نعيم أهل الجنة وأفضلَه هو النظر إلى وجه الله تعالى، ونعيم النظر داخلٌ في نعيم الجنة، خلافاً للصوفية الذين يفصلون بينهما، فيجعلون الجنة اسماً خاصَّاً بما فيها من المآكل والمشارب والمطاعم والمناكح، والله تعالى إذا وعد عبادَه بالجنة فمن نعيمها نَظَرُ أوليائه إليه في جنات النعيم وسماعُهم لكلامه. نسأله سبحانه وتعالى أن يَمُنَّ علينا بأسبابِ النَّجَاة، وأن يجعلنا جميعاً من الفائزين برضاه وعفوه وكرامته، وأن يجعلنا ممن يَنْعَمُ بالنَّظَر إلى وجهِه الكريم. اللهم إنَّا نستغفرُك ونتوبُ إليكَ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمَّد.

§1/1