شرح كتاب نقد متون السنة للدميني - محمد حسن عبد الغفار

محمد حسن عبد الغفار

تدوين السنة

شرح مقاييس نقد متون السنة - تدوين السنة السنة هي المبينة للقرآن، وفيها أحكام لم تذكر في القرآن، وهي المصدر الثاني للتشريع؛ ولذا اهتم العلماء بتدوينها، فأفنوا أعمارهم في حفظها، وتمييز صحيحها من سقيمها، وبيان أحوال رواتها بما ليس له نظير في تاريخ البشرية جمعاء.

علاقة السنة بالقرآن

علاقة السنة بالقرآن إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: إخوتي الكرام: ما زلنا في شرح كتاب (نقد متون السنة) لشيخنا الفاضل: مسفر بن غرم الله الدميني، وقد تكلمنا عن أهمية السنة، وعلاقة السنة بالقرآن، وكيف أن الله جلا وعلا جند جنوداً لحفظ هذه السنة الغراء، وأن كل الأئمة أنفقوا الغالي والنفيس من أجل حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبينّا أن السنة والقرآن بينهما علاقة وطيدة، فالسنة مفسرة ومبينة لمجملات القرآن. فمثلاً: قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، فكيف نقيم الصلاة؟ وفي أي وقت نقيم الصلاة؟ مع أن القرآن أشار إشارات إلى الوقت التي تقام فيه الصلاة فقال الله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، فدلوك الشمس وغسق الليل تكون فيه صلاة الظهر إلى العشاء، وقرآن الفجر هو صلاة الفجر، لكن التوقيت كله جاء في السنة. وكذلك السنة مقيدة لمطلق القرآن، مثلاً: قال الله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] فبينت السنة محل قطع اليد. وكذلك السنة مخصصة لعموم القرآن، فمثلاً قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275]، فالألف واللام للعموم، فتكون كل البيوع قد أحلها الله وحرم الربا، وجاءت السنة تخصص من هذا العموم بعض البيوع مثل بيوع الغرر، وبيع المرء ما ليس عنده، فهي حرام. وأيضاً: للسنة أحكام مستقلة، مثل تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، وتحريم الحمر الأهلية، ومثل سنن الوضوء كالاستنشاق والمضمضة، وحرمة الجمع بين المرأة وعمتها, وبين المرأة وخالتها.

حكم تدوين السنة

حكم تدوين السنة أختلف العلماء في حكم تدوين السنة هل كانت مباحة وجائزة أم كانت محرمة؟ على قولين: القول الأول: أنها كانت غير جائزة. واستدلوا على ذلك بأدلة منها حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكتبوا عني غير القرآن). وعن أبي هريرة وزيد وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن كتابة السنة؛ خشية أن تختلط بالقرآن). وجاء عن عمر بن الخطاب أنه عندما تردد في كتابة السنة استخار الله كثيراً ثم قال: لم تطمئن نفسي أن تُكتب السنة. القول الثاني وهو قول جمهور أهل العلم: أن كتابة السنة كانت مباحة. واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه قال: (كنت أكتب حديث النبي صلى الله عليه وسلم فلامتني قريش فقالوا لي: تكتب حديث النبي والنبي بشر يغضب كما يغضب البشر، ويعتريه النسيان كما يعتري البشر؟! قال: فذهبت إلى رسول الله فقصصت عليه ما قيل، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب، فوالله ما يخرج منه إلا الحق) يعني: ما يخرج من فم النبي صلى الله عليه وسلم إلا الحق. وهذا مصداق قول الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. وأيضاً في حديث أبي هريرة في الصحيح أنه كان يقول: ليس أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثاً مني غير ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه كان يكتب ولا أكتب. وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتبوا لأبي شاه)، وهذه فيها دلالة على جواز كتابة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. والصحيح الراجح أن مسألة الكتابة كانت أول الأمر ممنوعة خشية أن يختلط القرآن بالسنة، ولما حفظ الناس القرآن وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يمكن أن تختلط السنة بالقرآن أباح لهم الكتابة.

بداية تدوين السنة

بداية تدوين السنة لقد حدث التدوين في القرون الخيرة الثلاثة، لكن كان متأخراً وليس في الزمن الأول، والذي اهتم بجمع السنة هو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه الخليفة الراشد الخامس، فقد خشي على سنة النبي صلى الله عليه وسلم فحث المحدثين على كتابة وتدوين سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أول من كتب أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس، وأسد بن فرات والدارمي وأيوب السختياني والحميدي، فكل هؤلاء كتبوا سنن النبي صلى الله عليه وسلم ودونوها، ومنهم سعيد بن منصور وسننه مطبوعة بعضها، وأيضاً ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق ومعمر، فكل هؤلاء دونوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والسنة الآن بفضل الله موجودة بين أيدينا.

أهمية تدوين سنة النبي صلى الله عليه وسلم

أهمية تدوين سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقد كان مهماً تدوين السنة؛ لأن الدخلاء كانوا كثر، وكانوا يدسون في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منه؛ ليهدموا عقائد المسلمين، وقد ظهروا وقت الفتنة، وما سنحت لهم الفرصة إلا بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

حكم رواية الحديث بالمعنى

حكم رواية الحديث بالمعنى هنا مسألة وهي: هل يجوز رواية الحديث بالمعنى أم لا؟ و A إذا قلنا: إن التدوين كان متأخراً فإن الصدور لا تحفظ الألفاظ وتضبطها كل هذه السنين، فلا بد أن يعتري المحدث بعض الوهم وبعض النسيان، فيتذكر معنى الحديث فيروي معنى الحديث، ورواية الحديث بالمعنى قد اختلف فيها الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فـ ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان أشد الناس في تحريم رواية الحديث بالمعنى، حتى أنه إذا غير بعض الرواة لفظاً واحداً في الحديث قال: هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سليمان بن مهران الأعمش: إن هذا العلم كان عند أقوام لأن يخر أحدهم من السماء خير لهم من أن يجعل واواً بدل الدال أو دالاً بدل الواو، بمعنى: أنهم يحفظون النص فينقلونه كما حفظوه. واستدلوا على ذلك بأدلة منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها)، وهذا تنصيص على أن النضارة إنما تكون لمن يحفظ اللفظ ويؤديه كما حفظه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويستدلون بحديث أوضح من ذلك وهو حديث البراء في دعاء النوم، وهو: (اللهم إني وجهت وجهي إليك، وأسلمت نفسي إليك -وفي آخره- آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت) فلما سمعه البراء بن عازب عرضه على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (آمنت بكتابك الذي أنزلت، ورسولك الذي أرسلت)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، ونبيك الذي أرسلت)، فصحح له ما قاله، مع أن الرسول نبي وزيادة، فهو رواه بالمعنى، ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم رد عليه وقال: (لا، وبنبيك الذي أرسلت)، وهذه دلالة قوية جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم في رفض الرواية بالمعنى، ولا بد أن يأتي باللفظ. وهذا القول يأخذ به الإمام مسلم؛ ولذلك تراه يدقق جداً في الألفاظ في صحيحه. القول الثاني -وهو قول جمهرة أهل العلم من الصحابة والتابعين-: جواز رواية الحديث بالمعنى، وهذا الذي رجحه البخاري وقبله شيخه علي بن المديني. ويحتجون على ذلك بأدلة منها: حديث أبي سعيد قال: كنا نكون العشرة عند رسول الله فنحفظ عنه الحديث، فيروي كل واحد منا الحديث فلا نتفق على لفظه. فهذا صريح جداً، وظاهره أن الصحابة يحفظون الحديث وكل منهم يؤدي الحديث بالمعنى. والراجح الصحيح أن رواية الحديث بالمعنى جائزة، وهذا الذي يظهر عملياً؛ لأن الحديث الواحد إذا تتبعت رواياته في الكتب الستة فقط فستجد أن رواية البخاري وتخالف رواية مسلم وتخالف رواية النسائي وتخالف رواية أبي داود تخالف رواية الترمذي، وهذه دلالة على أن الرواة حفظوا المعنى، ووعى كل واحد منهم المعنى بدقة، وكان عندهم فقه ولهم سليقة، فلا يحيلون المعنى، ولا يغيرون الأحكام، فالصحيح الراجح أن رواية المعنى صحيحة لا سيما الآن في عصرنا، فمن حفظ الحديث بالمعنى وقاله بالمعنى فقد أصاب. والحديث القدسي المعنى فيه من الله واللفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يرويه بالمعنى. وهنا سنبين بوضوح عملية رواية الحديث بالمعنى: فحديث: (دخل أعرابي المسجد فبال في ناحية المسجد، فقام الصحابة فكادوا يقتلونه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه ولا تقطعوا عليه بوله، ثم قال: أهريقوا عليه سجلاً أو ذنوباً من ماء)، فسنتتبع هذه الرواية في الكتب الستة فقط، وننظر في الروايات كيف أداها الذين سمعوا هذا الحديث: فأما صحيح البخاري فالحديث فيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه، ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه). وفي البخاري نفسه عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماء أو سجلاً من ماء). وفي صحيح مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوه ولا تزرموه، قال: فلما فرغ -يعني فرغ من بوله- دعا بدلو من ماء فصبه عليه). وفي مسلم أيضاً عن أنس قال: (فصاح به الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه، فلما فرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب فصب على بوله). وأيضاً عن أنس في رواية أخرى في الصحيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تزرموه دعوه). وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: (فلم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلاً من ماء). وهذه الجملة لم تذكر أصلاً في رواية من روايات الصحيح، وهذا يدل على أن الحديث روي بالمعنى. وفي رواية قال: (صبوا عليه ذنوباً من ماء). وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أهريقوا عليه سجلاً من ماء أو دلواً من ماء). وفي سنن النسائي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوه ولا تزرموه، فلما فرغ دعا بدلوٍ فصبه عليه) وفي النسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (دعوه وأهريقوا على بوله دلواً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين). وفيه أيضاً عن أنس: (اتركوه، فتركوه حتى بال ثم أمر بدلو من ماء). وفي سنن ابن ماجة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه، ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه). وأيضاً في سنن ابن ماجة عن واثلة بن الأسقع -وهو راو ثالث- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوه، ثم دعا بسجل من ماء فصب عليه). فهذه الروايات في الكتب الستة فقط، فلا توجد رواية اتفقت مع رواية أخرى بنفس اللفظ، فالصحابة كل واحد منهم سمع رسول الله وعقل عنه، وكانت اللغة عندهم سليقة، وكانوا فقهاء، وتتوفر فيهم الشروط التي أشترطها العلماء في الرواية بالمعنى وهي: أن يكون عالماً باللغة العربية. وأن يكون فقيهاً؛ حتى لا يغير الأحكام. وأن يستوعب مضمون الحديث كله، ولا يحيل المعنى ولا الحكم. فالصحيح الراجح أن رواية السنة بالمعنى جائزة، وفي هذا تيسير على كل أخ يخطب خطبة أو يتكلم كلمة، فنقول له: إذا رويت حديثاً بالمعنى فقد أصبت، ولا نحجر واسعاً؛ إذ إننا لو قلنا: لا تجوز الرواية إلا باللفظ، فإننا سنحرم على أي مدرس أو أي خطيب أو أوي متكلم يتكلم وينسب القول لرسول الله إلا بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه مشقة، لا سيما ونحن في عصر قل فيه الحفظ والعلم، فنسأل الله جل في علاه أن يجعلنا ممن قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم).

حفظ الله السنة بالمحدثين قديما وحديثا

حفظ الله السنة بالمحدثين قديماً وحديثاً عندما دونت السنة دخل فيها كثير من الأحاديث الضعيفة، فلم تحفظ السنة حفظاً تاماً، بل إن الله جل وعلا قدر كوناً أن تدخل الأحاديث الضعيفة، وأن يدخل الدخلاء على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدت أحاديث ضعيفة موضوعة؛ ليرفع الله أقواماً ويخفض آخرين، وقد تصدى لحفظ السنة الجهابذة الذين باعوا أنفسهم لله جل في علاه، فكل أوقاتهم كانت لله وبالله ومع الله ومع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونذكر من المعاصرين الشيخ الألباني رحمة الله عليه، ولو تعلموا كيف كان يقضي وقته لدهشتم، ولعلمتم أن الله جند جنداً لحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فـ الألباني رحمة الله عليه كان على الأقل يطالع ثمانِ عشرة ساعة؛ حتى يحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم. قال بعض المقربين من الشيخ: كان الشيخ عنده مكتبة في غرفة البيت التي يدخل فيها، ولم يكن لها باب؛ خوفاً على وقته، بحيث إنه إذا دخل لا يتأخر في فتح الباب، ويقول: ستضيع على الأقل خمس ثوان أقرأ فيها ترجمة لـ ابن معين أو لغيره! فانظروا إلى الحرص العجيب على الوقت! فأين نحن من هؤلاء الجبال الذين جندهم الله له؟! فالشيخ الألباني يطالع لمدة ثمانية عشرة ساعة من الأربعة والعشرين ساعة، فمتى يأكل؟ ومتى يكون مع امرأته؟ ومتى يطالع غير الحديث؟ وقد كان فيما نحسب عالماً عاملاً. فهؤلاء جندهم الله وخلقهم لدينه؛ ولذلك نرى هارون الرشيد عندما أمر بقتل أحد الوضاعين الكذابين قال: ماذا ستفعل بألف حديث قد وضعتها في حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! قال له هارون: يعيش لها الجهابذة الذين أفنوا أعمارهم من أجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

متى بدأ الوضع في الحديث

متى بدأ الوضع في الحديث متى ظهر الدخيل؟ ومتى ظهر الوضع في حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهذا له علاقة وطيدة بالكلام على نقد متون السنة، فكيف نعرف أن هذا المتن موضوع أم لا؟ لقد ظهر الوضع في حديث النبي صلى الله عليه وسلم بعد خلافة عمر عندما اشتدت فتنة الخوارج، وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: أيكم يحفظ حديث الفتنة؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ (فتنة الرجل في أهله وماله تكفرها الصلاة والصيام والصدقة، فقال: لست عن هذا أسأل، إنما أسأل عن الفتنة التي تموج كموج البحر، فقال حذيفة: مالك ولها يا أمير المؤمنين؟! إن بينك وبينها باباً مغلقاً، ً فقال له عمر: أيفتح الباب أم يكسر؟ قال: بل يكسر، قال: إذاً لا يغلق أبداً) وكان يقصد بذلك أن عمر سيقتل ثم تتوالى الفتن، وقد توالت الفتن بعده، فـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه خرج عليه الخوارج، وأرادوا أن يخلعوا عنه ثوباً قد ألبسه الله إياه، وهو ثوب الخلافة، فقالوا له: نفسك أو الخلافة، قال: والله لن أخلع ثوباً ألبسنيه الله، وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله مقمصك قميصاً فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه)، فتمسك بالخلافة فقتلوه رضي الله عنه وأرضاه ظلماً وعدواناً وزوراً، ولذلك قال حذيفة: لو كان في قتل عثمان خير لهذه الأمة لحلبوا بعده لبناً، ولو كان في قتل عثمان شر لهذه الأمة لحلبوا بعده دماً عبيطاً، وقد حلبوا بعده دماً عبيطاً، ولم يقف الدم بحال من الأحوال بعد دم عثمان، فبعد ذلك قتل علي وقتل الحسين، وعظمت الفتنة وأطلت برأسها على الأمة الإسلامية، ولما ظهرت الفتنة أصبح كل إنسان يرى الحق مع فلان، فيتحزب له، فإذا تحزب له وضع الحديث من أجله، والحمد لله أننا في هذه العصور لسنا في عصور التدوين؛ لأن الخلافات بين الإخوة كثيرة، والتحزبات كثيرة، فأي واحد سيضع حديثاً سنرده على وجهه، ونقول: أنت حديثك عندنا غير مقبول، لكن ذلك الوقت كان عصر التدوين، فكانوا يضعون أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. فمن أسباب الوضع انتشار الفتنة والخلافات السياسية، وظهر هذا الأمر على أوجه عندما اختلف علي بن أبي طالب مع معاوية رضي الله عنهم أجمعين، وتحزب الشيعة لـ علي بن أبي طالب، وأخذوا يختلقون ويخترعون الأحاديث الموضوعة، قال الشافعي: الرافضة أشهد الناس بالزور، أو قال: ما رأيت أكذب من الرافضة. فالشيعة دينهم الكذب، ودينهم التقية وهي الكذب، فكانوا يكذبون كثيراً على النبي صلى الله عليه وسلم، ليرفعوا من مقام علي وهو لا يحتاج إلى ذلك، فمثلاً أتوا بحديث: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) وهو حديث موضوع. وأيضاً رووا حديثاً موضوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلقت من نور، وخلق علي من نور، وكان معي على يمين العرش). واختلقت الرافضة أحاديث كثيرة جداً على أبي بكر وعمر والخلافة، وأشهر الأحاديث حديث الوصاية، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بخلافة علي بن أبي طالب؛ ولذلك عائشة أنكرت هذا إنكاراً شديداً، بل رووا بأسانيد هالكة متهالكة أن عمر بن الخطاب جلد فاطمة! وقد اختلفت فاطمة مع أبي بكر وكان الحق مع أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، بل إن علي بن أبي طالب تأخر في البيعة لـ أبي بكر الصديق -وهو يقر بخلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه من أجل فاطمة، ولم يتزوج ثانية من أجل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر أنأى من أن يؤذوا فاطمة وهم يعلمون حديث النبي صلى الله عليه وسلم (فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها)، فكيف يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مماته في فاطمة رضي الله عنها وأرضاها؟! فالرافضة عليهم من الله ما يستحقون هم أكذب البشر على الإطلاق، فدينهم الكذب. وأيضاً كذب الخوارج الذين خرجوا على عثمان وخرجوا على علي رضي الله عنه وأرضاه، وإنه لعجب كل العجب أنهم كانوا يكذبون في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، لكن كذبهم أقل بكثير من الشيعة، فالكذب من الخوارج عجيب لأنهم يكفرون من يرتكب الكبيرة، والكذب من أكبر الكبائر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) فهم يدينون لله بأن فاعل الكبيرة كافر، فكيف يكذبون على رسول الله؟! فقد ثبت عن أحدهم عندما تاب قال: أيها الناس! انظروا عمن تأخذون دينكم، إنا كنا إذا هوينا شيئاً صيرناه حديثاً، أي: إذا وجدوا قولاً يوافق عقولهم فإنهم يقولون: حدثنا فلان عن فلان ويركبون له إسناداً عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال ابن سيرين: كنا لا نسأل عن الإسناد حتى ظهرت الفتنة، فقلنا: سموا لنا رجالكم، فمن رأيناه من أهل السنة أخذنا حديثه، ومن رأيناه من أهل البدعة تركنا حديثه. وثبت عن ابن المبارك بسند صحيح أنه كان يقول: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، وقال: لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. والإسناد ميزة هذه الأمة عن كل الأمم، فالنصارى لا تجد لهم إسناداً نقياً واحداً إلى عيسى عليه السلام، وحتى الإنجيل الذي يتعبدون به ليس له إسناد، فأسانيدهم كلها منقطعة لا تصل إلى عيسى عليه السلام، واليهود كذلك. فهذه الأمة ميزها الله وشرفها بالإسناد؛ ولذلك تجد بعض المستشرقين تكلم عن مميزات الأمة الإسلامية وقال: أميز ما يميز هذه الأمة علم أسانيد الرجال، فهم يأخذون الحديث ثقة عن ثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أسباب الوضع في الحديث

أسباب الوضع في الحديث من أسباب الوضع: القصاصون وانتشار القصص والوعظ، وانظروا إلى ما نحن فيه وما كانوا فيه، فقد كان القصاصون في العصور القديمة يلتف حولهم العوام فقط، ولا يلتفت حولهم أهل العلم وطلبة العلم لا يلتفون؛ لأنهم لا يجدون عندهم ما يشفي صدورهم ويروح قلوبهم، وأما العوام الذين لم يستضيئوا بنور العلم، والذين يميلون مع كل ريح، فكانوا يجلسون في مجالس القصاصين، وأما مجالس أهل العلم ومجالس التحديث فكانت تكتظ بطلبة العلم، وما كانوا يعبئون ولا يرون للقصاص مقداراً، فكانت مجالس القصاصين هي مجالس العوام، وهي أرذل المجالس، فالقصاصون كان العوام يلتفون حولهم ويعجبون بهم، وتراهم يصرخون على الكلمات الطيبة، فكان القصاصون يؤثرون على العامة فيغربون في القصص، ويختلقون الأحاديث، ومن ذلك ما اشتهر جداً عن الإمام أحمد والإمام يحيى بن معين عندما جلسا في مجلس قاص يقص ويأتي بالطرائف، فقال: خلق الله ملكاً له مائة رأس، وكل رأس يسبح كذا، وقال: حدثني بذلك أحمد بن حنبل ويحيى بن معين! فينظر أحمد بن حنبل إلى يحيى بن معين وقال له: أحدثته بذلك؟ قال: والله ما حدثته، وأنت هل حدثته؟ قال: والله ما حدثته، فقام أحمد بعد ما انتهى المجلس وذهب إليه وقال: يا هذا! هذا الحديث الذي ذكرته آنفاً من حدثك به؟ قال: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، قال: هل تعرف أحمد بن حنبل ويحيى بن معين؟ قال: ومن في الدنيا لا يعرف أحمد بن حنبل ويحيى بن معين؟! فقال: أنا أحمد بن حنبل، وهذا يحيى بن معين! فتدبر أمره ثم قال: ما رأيت أسفه منكما! ما في الدنيا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إلا أنتما، يوجد ألف رجل اسمه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين!! ومن القصص أن عامر الشعبي -وهو ثقة ثبت من كبار التابعين- كان في مجلس الوعظ والتذكير يصلي، وقام القاص يقول: إن الله خلق صوراً فسينفخ فيه نفخة الصعق، وخلق صوراً آخر ينفخ فيه نفخة القيامة، فسمعه الشعبي وهو يصلي قال: فخففت صلاتي ثم قمت إليه وقلت: يا هذا اتق الله ربك، كيف تحدث أن الله خلق صورين، من الذي حدثك؟ قال: حدثني فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: هذا حديث مختلق عن رسول الله، فخلع القاص نعله وسبه وقال: تعارضني وقد حدثني بالحديث فلان، وضربه بالنعل في رأسه، قال الشعبي: فما دريت إلا وكل المجلس قد خلعوا نعالهم ويضربونني، فما تركوني حتى قلت: إن لله ثلاثين صوراً سينفخ في كل صور نفخة، فتركوني عند ذلك! وأيضاً كان بعض القصاصين يحدث عن رسول الله ويقول: حدثني الأعمش، وقد كان صيت الأعمش مشهوراً فهو أمير المؤمنين في الحديث، قال: حدثني الأعمش وحدثني الأعمش والأحاديث مختلقة، فـ الأعمش نظر إليه يحدث الناس وهم ينسجمون معه، فقام أمامهم فخلع ثيابه وأخذ ينتف شعر إبطه، فقام القاص وقال: مالي أراك سيئ الأدب في مجلس يحدث فيه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وتفعل هذا الذي تفعله؟! قال: اسكت فإني في خير وأنت في شر، أو قال: ما أنا فيه خير مما أنت فيه وتأويل ذلك: أن نتف الإبط من السنة، وما أنت فيه هو كذب على رسول الله. وبعض القصاصين كانوا أصحاب تجارة يريدون المال، فرجل كان حلوانياً، والحلواني بضاعته لا تروج إلا إذا نسب بعض الأقوال إلى رسول الله، وهذه دلالة على أن الناس يسارعون إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكان دائماً ينظر في الناس ومن لم يشتر منه ويقول: حدثنا فلان عن فلان عن فلان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الهريسة تشد الظهر)، فكان كل من يسمعه يشتري منه الهريسة، فكانوا يضعون الأحاديث وينسبونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أجل المال. وهناك أسباب أخرى كأن يغتاظ رجل من رجل آخر فتراه يضع عليه حديث كما فعل هذا الإسكافي، فقد جاءه ابنه ذات مرة يبكي فقال: ما يبكيك؟! قال: ضربني معلمي، قال: والله لأؤدبنه، ثم قال: حدثني فلان عن فلان عن فلان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شراركم معلمو صبيانكم). ومن الأسباب: الخلافات السياسية، والمآرب الشخصية، والتعصب المذهبي، والتعصب للنسب، والتعصب للجهة، فمثلاً كانوا يقولون: العرب أفضل الناس، فإذا دخل العجم في الإسلام فإن العرب يريدون إظهار شرفهم، فيضع بعضهم حديثاً في فضائل العرب، حتى أن بعضهم قال: حدثني فلان عن فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كلام أهل النار البخارية، وأبغض الكلام إلى الله الفارسية، وكلام أهل الجنة العربية). ومنهم من يضع ذلك على التعصب، فيرى رجل أن إمامه يقول: رفع اليدين عند الركوع لم ترد بها سنة، والآخر يقول: وردت بها سنة، فيضع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن ينصر مذهب الأحناف، وفي هذه العصور المتأخرة ظهر مثل هؤلاء، فبعضهم كان يضعف الحديث الصحيح من أجل مذهبه، ويصحح الحديث الضعيف من أجل مذهبه، بل ارتقى فوق ذلك وكان يسب الصحابة من أجل الانتصار لمذهبه، كما فعل الكوثري، والآن بعض الغماريين يفعلون ذلك، فتراهم يتشددون من أجل مذهب الأحناف فيضعفون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل ويردون بعض أحاديث عن أبي هريرة وقالوا: أبو هريرة ليس بفقيه! ومن القصص أنها حصلت مشاحنة بين شافعي وحنفي، فقام الحنفي فقال: حدثني فلان عن فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يخرج في هذه الأمة رجل هو سراج أمتي يكنى بـ أبي حنيفة، ويخرج على هذه الأمة رجل اسمه محمد بن إدريس هو أضر على هذه الأمة من إبليس. وآخر يرى أن رفع اليدين في الركوع ليس بسنة، فقال: حدثني فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رفع يديه في الركوع فلا صلاة له). ومن أسباب الوضع أيضاً عداوة الإسلام وأهله، كما فعل عبد الله بن سبأ وغيره من الذين دخلوا فيه عنوة وجبراً كالمنافقين، فكانوا يتسترون بالنفاق ويحقدون على أهل الإسلام، فأرادوا أن يدمروا عقائد المسلمين بهذه الأحاديث المختلقة الموضوعة، وبعضهم وضع على النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، فلما أرادوا قتله بعد ما علموا أنه وضع الحديث قال: كيف تفعلون بأربعة ألاف حديث قد وضعتها على النبي صلى الله عليه وسلم أحللت بها الحرام وحرمت بها الحلال؟! فقيل له: الجهابذة ينقون هذه الأحاديث، والحمد لله الذي نصب لنا من يحافظ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أسباب الوضع: مجاملة السلاطين، فترى كثيراً من الرواة كانوا يمنعون من الدخول على السلاطين، ولا يقبلون هدايا وعطايا السلاطين؛ لأن السلطان قد تحملك مجاملته أن تقول ما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة إذا كان الغرض في ذلك العطايا والهبات، وقد اشتهر في وقت الخلافة الأموية والخلافة العباسية أن الشعراء يدخلون فيمدحون الوالي، والمدحة لها ثمن كبير، والمحدثون الذين لا دين لهم والذين كان يجعلون الدين قنطرة لأمر الدنيا لا للآخرة، وباعوا دينهم بعرض رخيص وثمن بخس دراهم معدودة من أمر الدنيا؛ كانوا يدخلون على السلاطين فيأخذون المال بعدما يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهر قصة في ذلك قصة غياث بن إبراهيم عندما دخل على المهدي العباسي، فوجده يلعب بالحمام، واللعب بالحمام كان الشافعي يرى أنه يخدش المروءة، ومن خدشت مروءته فلا تقبل شهادته، ولا تؤخذ روايته، ولا يؤخذ عنه والعلم، فدخل عليه غياث بن إبراهيم فوجده يلعب بالحمام، فأراد أن يطيب قلبه فقال: حدثني فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل أو جناح)، ومعنى: (لا سبق) أي: لا عطية ولا مال: (لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر) فزاد (أو جناح) مجاملة لمن يلعب بالحمام، فـ المهدي كتب له بالمكافئة والعطية، فبعدما أخذ العطية وخرج من عنده قال: أشهد الله أن قفاك قفا كذاب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا الحديث، ثم قال: أنا حملته على الكذب على رسول الله، فأمر بالحمام فذبح جميعاً؛ من أجل الحفاظ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه أسباب الوضع في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تصدى لها الجهابذة، فغربلوا الأحاديث وبينوا لنا الصحيح والحسن والضعيف والموضوع. وهنا مسألة وهي: هل للمعاصرين أن يجتهدوا في حديث النبي فيصححوا أو يضعفوا ما لم يتكلم عليه المتقدمون؟ مذهب ابن الصلاح ووافقه كثير من المحدثين أن الاجتهاد قد أغلق بابه في العصر الأول بعد البيهقي والدارقطني ونحوهما، فإذا قال الدارقطني: ضعيف فهو ضعيف، وإذا قال الدارقطني: صحيح فهو صحيح، وليس لك أن تبحث، والواقع يخالف ذلك، فـ ابن حجر والذهبي والنووي والسبكي وابن السبكي وابن عبد الهادي الحنبلي هؤلاء كلهم صححوا وضعفوا الأحاديث، وفي عصر ابن الصلاح نفسه ابن القطان والدمياطي وغيرهما كانوا يصححون ويضعفون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بالآلات وبالشروط التي اشترطها العلماء، فالاجتهاد باق إلى آخر يوم تكون فيه الدنيا، فالاجتهاد باق في هذه الأمة، وهو نبراس هذه الأمة، وهو ميزة من مميزات هذه الأمة، وسنطلع على اجتهاد الأئمة ونعرف كيف نظروا في حديث النبي فقالوا: هذا حديث موضوع، وكيف عرفوا ذلك، وما هي الشروط وما هي الأدوات والآلات التي جعل

المقياس الأول: عرض السنة على القرآن

شرح مقاييس نقد متون السنة - المقياس الأول: عرض السنة على القرآن لقد كانت للصحابة الكرام مقاييس وضوابط يعرفون بها كون الحديث ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أو غير ثابت، ومن تلك الضوابط عرض الحديث على القرآن، فإن أمكن الجمع بينهما بأي صورة من الصور المقبولة أخذوا بها، وإن كان معارضاً للقرآن من كل وجه فإنهم يردونه.

أسباب وضع الحديث

أسباب وضع الحديث إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: مازلنا في نقد متون السنة، وقد ذكرنا كيف أنفق العلماء كل غالٍ ونفيس من أجل تنقية أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من الدخيل فيها، وكيف باعوا أنفسهم حقاً وصدقاً لله جل في علاه؛ للتفريق بين الحديث الضعيف والصحيح والموضوع، وتكلمنا عن الأسباب التي جعلت العلماء في عصر الصحابة ثم من بعدهم لا يسألون عن الإسناد ثم إنهم شددوا بعد أن ظهرت الفتن. وقد كانت هناك أسباب لوضع الحديث، فما هي أسباب وضع الحديث؟ من أسباب وضع الحديث: ما حدث بين معاوية، وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عنهم وأرضاهم، فقد ظهرت بعدها فتنة وضع الحديث، مثاله: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لـ علي بن أبي طالب بالخلافة، ومثل: (خلقت أنا وعلي من نور). ومن أسباب وضع الحديث التعصب المذهبي. مثاله: (يخرج رجل من أمتي يقال له محمد بن إدريس، وهو أشد على أمتي من إبليس). فقد وضعه الأحناف على الشافعي كما وضعوا في مدح إمام مذهبهم حديث: (أبو حنيفة سراج أمتي) وغيرها من الأحاديث التي وضعت بسبب التعصب المذهبي. وقد كان الشيخ الكوثري يرد الأحاديث التي تخالف مذهبه وإن كانت صحيحة. وروى أحدهم حديثاً قال فيه: (من رفع يديه في ركوعه فقد بطلت صلاته)؛ لأن مذهبه ليس كذلك، كما أن التجار قد وضعوا أحاديث من أجل أن يشتري الناس أشياءهم، منها حديث: (لو علمتم ما في الجرجير لزرعتموه تحت السرير)، وبائع الخضار لعله يحفظ هذا الحديث حقاً. ومنها: (الهريسة تشد الظهر)، والحلواني هو من يحفظ هذا الحديث جيداً. وفي بعض المساجد التي يتمذهب أهلها بالمذهب الحنفي يوجد في كل مكان أكثر من غطاء رأس لأن الأحناف يقولون: إن الصلاة بغير غطاء الرأس باطلة، وعندهم حديث موضوع: (تعمموا؛ فإن الشياطين لا تتعم)، والرواية الأخرى عندهم هي: (صلاة بعمامة خير من سبعين صلاة بغير عمامة)، وفي رواية: (الصلاة بعمامة خير من صلاة الرجل بغير عمامة بسبع وعشرين درجة)، أي: مثل صلاة الجماعة مع صلاة الفرد! وقد روى القصاصون أحاديث أخرى كالرجل الذي تكلم عن النفخ في الصور فقال: هما صوران، فأنكر عليه الشعبي، فضرب من أجل ذلك. والأطرف من ذلك ما روي عن ابن جرير الطبري أنه كان يسمع من القصاصين أنهم يقولون: بأن قول الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، فقالوا المقام المحمود: أن يجلسه بجانبه، أو عن يمينه في العرش حاشا لله، وهذا الحديث موضوع فقال ابن جرير الطبري: هذا حديث موضوع، وكتب على باب بيته: سبحان الذي لا أنيس له، ولا جليس عند عرشه، فأخذوا الحجارة فرجموه حتى قيل: إنهم سدوا البيت بالحجارة، حتى أنه لم يستطع أن يخرج من بيته. وهناك أسباب أخرى كثيرة جداً للوضع ليس هذا محل الكلام عليها. فالعلماء حين نظروا إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم تنقية وتنقيحاً، وجرحاً وتعديلاً نظروا إلى الإسناد ونظروا إلى المتن، ولذلك تجد أن قول العالم: هذا حديث صحيح، لا بد أن يكون قد توفر فيها خمسة شروط، لأن الحديث الصحيح هو: ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة. فهذه الشروط الخمسة تختص بالمتن وبالسند. وانظروا إلى دقة نظر علمائنا في علم الحديث، فقد يقولون: هذا حديث صحيح، وهذا حديث إسناده صحيح، وهذا حديث رجاله ثقات، فما الفرق بين الثلاثة؟ هذه مسألة ليست بالهينة يتبحر فيها من تعلم علم الحديث، لذلك ترى ابن حجر الهيثمي دائماً يقول: وهذا الحديث رجاله ثقات، فإذا قال علماء الحديث: هذا حديث صحيح، أي: أنها توفرت فيه الخمسة الشروط، وهي: اتصال سنده عن العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة. وأما إذا قالوا: هذا حديث إسناده صحيح، فقد تكفلوا بثلاثة شروط: اتصال السند مع نقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه فقط، ولم ينظروا إلى الشذوذ ولا العلة. والإسناد المعنعن يتوقف فيه على تصريح المدلس بالتحديث، فعلماء الحديث كـ شعبة وابن عيينة والثوري يقولون: إن الإسناد المعنعن إسناد متوقف فيه ولا يصح أن نقول: إنه إسناد ضعيف. فالعلماء حين يقولون: هذا حديث صحيح فإنهم قد نظروا في الإسناد وفي المتن. ومعنى قولهم: هذا حديث رجاله ثقات: أن الناقد والناظر في هذا الإسناد قد تكفل بعدالة وضبط الرواة فقط، دون أن ينظر إلى اتصال السند، ودون أن يرى التدليس في الحديث المعنعن، فإذا قال: رجاله ثقات لا يلزم منه أن الحديث صحيح، وإذا قال: إسناده صحيح، لا يلزم أن الحديث صحيح؛ ولذلك ترى كثيراً من المحدثين ممن لم يبحث في الشواهد والمتابعات، ولا في الشذوذ وغيره يتورعون ويقولون: هذا حديث إسناده صحيح، ويمكن لأي طالب علم أتقن المصطلح وتدرج في مسألة التطبيق العملي أن يصل إلى مرتبة تصحيح الإسناد وتضعيفه، وأما مسألة تصحيح الحديث برمته، أو تضعيف الحديث كلياً فهذه لا تكون إلا لمن قطع شوطاً طويلاً في علم الحديث.

مقاييس نقد المتون عند الصحابة فمن بعدهم

مقاييس نقد المتون عند الصحابة فمن بعدهم إن علماؤنا ينظرون إلى المتن فيقولون: هذا من مشكاة النبوة، وهذا ليس من مشكاة النبوة، فما هي الضوابط؟ وما هي الأصول التي ارتكزوا عليها ليعرفوا أن هذا الحديث من مشكاة النبوة أم لا؟ فتجد أحدهم يقول في حديث معين: هذا ليس من حديث فلان، كأن يقول: هذا ليس من حديث أبي صالح فكيف يقول: هذا ليس من حديثه؟ لأنه قد عرف أحاديث أبي صالح، ومكث معه مدة طويلة في الطلب ومجلس التحديث، فعلم كيف يحدث أبو صالح، وما هي السلسلة المنتقاة لـ أبي صالح، وهل إذا حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم يصل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وكذلك فعلماؤنا الذين نظروا في كلام النبوة بعد ما تبحروا في قراءة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، واطلعوا عليها، علموا ما يخرج من فيه صلى الله عليه وسلم، وما لا يخرج من فمه الله صلى الله عليه وسلم، لكن بالضوابط والأصول التي ذكرها العلماء؛ حتى نعلم الفارق بين كلام النبي وبين كلام غيره مما هو أشبه بكلام النبوة كأمثال الحسن البصري، فقد قيل: إن كلامه يشبه كلام النبوة.

عرض الحديث على القرآن

عرض الحديث على القرآن وهو أصل الأصول الذي ارتكز عليه علماؤنا من الصحابة لتنقية أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، هو عرض الحديث على القرآن، والقرآن والحديث هما وحي أوحى الله بهما إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فكيف نقول: إن عرض السنة على القرآن يظهر الحديث الصحيح من الضعيف؟ نقول: إذا أصلنا هذا الأصل بأن القرآن والسنة خرجا من مشكاة واحدة فالذي يخرج من مشكاة واحدة لا يكون فيه اختلاف، ولا تضاد، قال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا وإني قد أوتيت القرآن ومثله معه)، فهم يأخذون حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيعرضونه على القرآن، فإذا راءوا المعارضة من كل وجه فلا يمكن أن نقول: إن هذا الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بكلام هو وحي من الله، لكن اللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون مخالفاً لقول الله من كل وجه؟! فهذا محال.

صور لعرض الصحابة الحديث على القرآن

صور لعرض الصحابة الحديث على القرآن

الصورة الأولى

الصورة الأولى لقد أصل الصحابة هذا الأصل بأمثلة كثيرة منها مثلاً حديث عائشة رضي الله عنه وأرضاها عندما قيل لها بعدما مات عمر والحديث في الصحيح: إن عمر بن الخطاب دخل عليه صهيب بعد ما طعنه أبو لؤلؤة فبكى، فقال عمر: أوتبكي وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)، فلما مات عمر ودفن ذكر ذلك للفقيهة عائشة رضي الله عنه وأرضاها فوهمت عمر رضي الله عنه وأرضاه، وردت عليه الحديث وقالت: يرحم الله عمر! والله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك وقد قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]. فانظر كيف محصت حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن غيره، فقد نظرت في الكلام فوجدت أن الحديث المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ليس للميت ذنب في ذلك، من أجل أن يعذب، وإنما هذا فعله أهل الميت، فالفعل فعل أهل الميت وليس فعله، والله جل وعلا يقول في كتابه: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]. ومعنى الآية: أنه لا يعذب أحد بفعل غيره، ويلزم من كلام عمر أن الميت سيعذب بفعل غيره فـ عائشة رضي الله عنها وأرضاها لم تنظر في الإسناد في عصرها؛ لأن الصحابة كلهم عدول، وقد ذكر الله عدالتهم من فوق سبع سموات، فيبقى النظر إلى المتن، فلما نظرت إلى المتن عرضته على كتاب الله فوجدت المعارضة، فقالت: كيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وقد قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]؟! فالمقصود أن عائشة عرضت هذا الحديث على كتاب الله. فإن خالف الحديث كتاب الله من كل وجه فلا بد أن نقول: إن هذا الحديث لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم جزماً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله جل في علاه.

الصورة الثانية

الصورة الثانية عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: ((ولد الزنا شر الثلاثة))، فسمعت عائشة رضي الله عنها وأرضاها هذا الحديث فاحتجت بنفس الآية {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، المرأة زنت وحملت الجنين، فكيف نقول: إن هذا هو شر الناس؟ لأنه إذا كان كذلك فلا يؤمّنّ القوم، ولا يكون خليفةً، ولا يكون رأساً في الناس، ولا يكون معلماً، وقد وردت الأدلة بأسانيد صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه يمكن أن يكون أماماً، ويمكن أن يكون خليفة؛ لأنه لا ذنب له بما جنت أمه، ولا يمكن أن يؤخذ بجريرة الرجل الذي زنى بأمه، فقد قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]. ولذلك ابن عباس نظر في هذا الحديث أيضاً وأصل لنا نفس الأصل فقال: كيف يقولون هذا؟ لو كان كذلك لقتله النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بطن أمه؛ لأنه لا يستحق الجنة فهو شر الثلاثة، فالأولى له أن يموت وهو في بطن أمه، ويشير ابن عباس بذلك إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة جاءت فقالت: يا رسول الله! إني حبلى من الزنا فطهرني، فقال: ارجعي حتى تضعي، فلما وضعت الجنين جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: قد وضعته فطهرني يا رسول الله! فقال: ارجعي فأرضعيه، فلو كان ليس له مكانة بين الناس لما فعل بها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولقتل المرأة رجماً، وقتل جنينها في بطنها؛ لأنه لا يستحق أن يعيش فهو سيكون في النار لأنه شر الثلاثة. فانظروا إلى ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه فبعد أن أخذ المتن عرضه على الحديث، وهذا هو المقياس الثاني الذي سنتكلم عنه، وعرضه أيضاً على الكتاب، وعلى نفس الآية ((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)) [الأنعام:164]. فهذا أصل أصله الصحابة لمعرفة حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولا عكس، فلا يمكن أن نقول: إن القرآن إذا شهد لمتن من متون الحديث أن ذلك يقويه على الراجح من أقوال أهل العلم، مثل شهادة القرآن لحديث: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)، والآية التي تقويه هي: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة:18]، إلى آخر الآية، ومع ذلك لم يصح لأن العلماء ينظرون بعد العصور المتقدمة إلى المتن والسند، فالحديث لم يصح حتى ولو شهد القرآن. وكذلك إذا عارض الحديث القرآن من كل وجه فإننا نقول: حتماً وجزماً أن الله لم يوح بهذا الحديث للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعلا قال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82].

الصورة الثالثة

الصورة الثالثة السنة مبينة للقرآن فلا تخالف القرآن، فـ ابن عباس اشتد على أبي هريرة في هذا الأمر؛ لأنه عرض الحديث على القرآن. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشؤم في ثلاثة: في المرأة، وفي الدابة، وفي الدار). فهذا الحديث حين سمعته عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهمت الراوي وقالت: هذا ليس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم (كان أهل الجاهلية يقولون: الشؤم في ثلاثة كذا وكذا)، فالمهم أنها لم تعترض على هذا الحديث بالحديث الآخر، وإنما وجهته، فقالت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قد قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، أي: فليس هناك طيرة، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف:131]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا طيرة)، فقد نفى الطيرة أصلاً، فلا يمكن أن هناك تشاؤماً. فعرضت عائشة رضي الله عنها وأرضاها هذا الحديث على قول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، وقالت: وإن كان في كتاب فلا يمكن أن نقول إن هذه المرأة هي التي تسببت في هذه المصيبة، ولا أن هذا الرجل هو الذي تسبب في هذه المصيبة، كما يفعل بعض الجهال الذين إذا خرجوا من بيوتهم فوجدوا امرأة عجوزاً قالوا: هذه عجوز نحس، ارجع حتى لا تنزل بك مصيبة، أو مثل ما يقول بعضهم: من أن المصائب تنزل في يوم الأربعاء، فيجلس في بيته ولا يخرج، فهؤلاء القوم لم يؤمنوا بالله حق الإيمان. والغرض هو أن عائشة قد أصلت لنا أصلاً بيناً واضحاً جلياً في عرض سنة النبي صلى الله عليه وسلم على الكتاب، فإن خالف الحديث القرآن من كل وجه فلا يمكن أن يكون قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الصورة الرابعة

الصورة الرابعة روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عندما نزل من المعراج فقالوا له: رأيت ربك؟ فقال: (نور إني أراه). وهذا تصحيف من الراوي والراجح في الرواية هو (نور أنى أراه) أي: كيف أراه؟ فرووا هذا الحديث عند عائشة فقالت: كما قال مسروق: قلت يا أمتاه هل رأى محمد ربه؟ ثم روى هذا الحديث فقالت: لقد قف شعري مما تقول، من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، فردت الحديث، مع أن هذا رواه ابن عباس وغيره من الصحابة، فكيف ردته؟ لقد عرضته على كتاب الله، فقالت: كيف تقولون: إن محمداً رأى ربه وقد قال الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]. والغرض من هذا أننا إذا أردنا أن نعرف أن الأثر من قول رسول الله أو من قول غيره فإننا نعرضه على القرآن. وكذلك ابن عمر فقد كان يفعل كما فعلت عائشة، فقد كان يقول: إن لحوم السباع حلال، كالأسد، وهو قول للمالكية. فإن قيل: هل الضبع والذئب والثعلب والقرد مما يؤكل أو لا؟ و A لقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي ظفر من الطير. والصحيح أن الثعلب يؤكل، والضبع يؤكل. واختلف العلماء في الذئب والقرد، فالمالكية يقولون: يؤكل، والفيل يؤكل، والصحيح الراجح في ذلك أنه لا يؤكل. والغرض أن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان يعرض الحديث على القرآن ليميز هل هو من كلام رسول الله أم ليس من كلامه؟ وقد أكثرت من الأمثلة حتى يسهل على طالب العلم ضبط القاعدة.

الصورة الخامسة

الصورة الخامسة جاء رجل إلى ابن عمر فقال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم لحوم السباع)، فقال من قال هذا الحديث؟ قال: أبو ثعلبة الخشني، فقال: الأعرابي الذي يبول على ساقيه! وهذه الكلمة معروفة بين العلماء، وعندما يرد طالب علم على طالب علم أو عالم على عالم فلا يؤخذ عليه أنه يرد عليه بشدة؛ لأن هذه المسألة فيها إظهار للحق، حتى أن عائشة كانت إذا سئلت عن مسألة غابت عن الصحابة تقول: على الخبير سقطت، وكان علي بن أبي طالب في مهر المفوضة يقول: لا آخذ بقول أعرابي بوال على عقبيه وأترك كتاب الله جل في علاه. فكان ابن عمر يقول: لا آخذ بقول أعرابي يبول على ساقيه، وأترك كتاب الله، والآية التي جعلته يقول: إن لحوم السباع حلال والتي عرض عليها الحديث هي قول الله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145]، فهذه الأربعة فقط هي التي حرمها الله جل وعلا، والاستثناء الموجود في الآية يحصر المحرم في الأربعة التي ذكرت. فلذلك لما نظر ابن عمر إلى هذه الآية وعرض عليها الحديث قال: لا يمكن أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله أبداً؛ لأن الوحي الأول هو: الأصل الأصيل، والوحي الثاني خرج من نفس المشكاة فلا يمكن أن يتعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم وقول الله جل في علاه.

الصورة السادسة

الصورة السادسة قالت فاطمة بنت قيس: طلقني زوجي فبتّ طلاقي، والمبتوتة هي: المطلقة ثلاثاً، وهي التي بت طلاقها فلا تحل لزوجها إلا بعد أن تتزوج زوجاً غيره ثم يطلقها، وليس معنى ذلك أن يعقد عليها فقط، بل لابد من العقد والدخول. قالت: فلم يجعل لي سكنى ولا نفقه، فأخذ عمر بن الخطاب: قولها وعرضه على كتاب الله فقال: لا نأخذ بكلام امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت ونترك كتاب الله، وفي رواية: سنة رسول الله. وهذه الرواية ليست صحيحة، بل الصحيح أنه قال: لا نترك كتاب ربنا لامرأة وهمت لا ندري أحفظت أم نسيت. والآية التي انتقد عمر بن الخطاب هذه الرواية من خلالها هي قول الله سبحانه وتعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6]، فهذه الآية فيها دليل واضح على السكنى، وهناك آيات أخرى تدل على النفقة، فـ عمر بن الخطاب نظر في الحديث فعرضه على كتاب الله فظهر له أنه لا يمكن أن يكون هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن القرآن والسنة خرجا من مشكاة واحدة فلا يمكن أن يكون بينهما تعارض.

الصورة السابعة

الصورة السابعة عن علي بن أبي طالب قال في مهر المفوضة: لا آخذ بقول بوال على عقبيه -يعني: الأعرابي- وأترك كتاب الله جل وعلا فإن الله قال: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:236]، والذي يجعل لها المهر كاملاً مخالف لظواهر الكتاب، فالحديث مخالف للآية فلا نأخذ به، فهذا التأصيل أصله علماء الصحابة رضي الله عنهم كـ عائشة وعمر بن الخطاب قبلها، وابن عمر، وابن عباس، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم.

تثبت الصحابة في رواية الحديث

تثبت الصحابة في رواية الحديث لقد كان الصحابة يتثبتون تثبتاً شديداً في قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويخافون ويرتجفون من قوله صلى الله عليه وسلم (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). ولذلك كان علي بن أبي طالب، يقول: والله ما حدثني أحد حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد أقسم بالله أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير: أبي بكر رضي الله عنه؛ فإنه حدثني وصدقني. فكان التثبت والتشديد في التثبت من قول النبي صلى الله عليه وسلم يجعل كل راوي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بالله أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عمر شديداً في التثبت، فـ أبو موسى الأشعري عندما طرق الباب على عمر بن الخطاب، وكان قد طلبه عمر بن الخطاب فاستأذن مرة فلم يرد عليه، فرجع على عقبيه، فلما استيقظ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه سأل عنه فقالوا: جاءك ثم رحل، فرجع إليه فقال: ما منعك أن تدخل؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الاستئذان ثلاثاً وإلا فارجع) فأخذه عمر من عنقه وجاء إلى مجلس الأنصار مرعوباً مفزوعاً قد خشي على نفسه من عمر رضي الله عنه وأرضاه، فإنه قال له: والله لا أتركك حتى تأتيني بآخر يشهد معك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك. وهذا من شدة التثبت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: والله لا نبعث معك إلا أصغرنا أبا سعيد الخدري فذهب معه وشهد عند عمر رضي الله عنه وأرضاه. وهذا يحيى بن معين وهو يموت قيل له: ما تطلب؟ قال: إسناد عالٍ وبيت خالٍ. فيا أهل الحديث! لقد اشتهرت الإسكندرية بقلة علم الحديث فيها حتى قيل: إن أهلها ليس لهم همة في طلب الحديث، أيها الجمّاع أريدك أن تكون نقاشاً وقماشاً لا أن تكون قماشاً فقط. فإن قيل: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم على أريكته شبعان يأتيه الأمر من أمري فيقول: نعرضه على كتاب الله، فإن وجدناه في كتاب الله أخذنا به، وإن لم نجده في كتاب الله لم نأخذ به، ألا وإني قد أوتيت القرآن ومثله معه)، وقد عرض الصحابة الحديث على القرآن، فهل وقعوا فيما حذر منه النبي أم لا؟ و A أن هذا الحديث عام، فهذا الشبعان كلما جاءه حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عرضه على القرآن، فإن وجده في القرآن أخذه، وإن لم يجده لم يأخذه، وأما الصحابة فلم يفعلوا ذلك في كل الأحاديث، وإنما فعلوه في الأحاديث التي عارضت كلام الله سبحانه وتعالى، وقد علموا أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعارض كلام الله جل في علاه، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم هذا ينطبق على القرآنيين الذين يقولون: لا حاجة إلى السنة. وأما الصحابة فإنهم كانوا يأخذون بالسنة إلا الشيء اليسير الذي عارض القرآن، فيكون فعل الصحابة مخصوص من عموم الحديث، فالنبي قال في الحديث: ((يأتيه الأمر من أمري))، وفي هذا دلالة على كل أمر من أمر النبي فإنه يعرضه على القرآن، وأما الصحابة فقد كانوا يأخذون بجميع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا عارض الحديث القرآن، وأذكر لكم قصة رواها لنا الشيخ أبو إسحاق، فقد ذكر أنه كان يجلس في مسجد في كفر الشيخ وكان واسعاً جداً، وكان يمتلئ من أوله إلى آخره إذا شرح حديثاً أو تكلم في موعظة، فقال مرة: لا بد أن نؤصل المسائل لطلبة العلم، فندِّرس في مصطلح الحديث، فحضر في أول مجلس نصف المسجد، فقال: الحمد لله على النصف ثم الأسبوع الذي بعده حضر الربع، فقال: الحمد لله على الربع ثم بعد ذلك لم يحضر غير ثلاثة في المسجد. وأنا أقول: إن قوام الأمة يكون على أهل العلم، وأما الكثرة الكاثرة فقلما تكون جيده، فقد يكون هناك ضعيف مستضعف يدعو الله جل وعلا فينصر الله به الأمة، لكن هل يمكن أن يكون من قوام الأمة، ومن من الأعمدة التي ترتكز عليها الأمة؟ لا والله، وكذلك إذا نزلت المعضلات وحدثت الملمات على الناس فهل يكون الضعيف هو الذي يتصدى لها؟ لا والله، وهل هو الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله جل وعلا يجعل على رأس كل مائة عام رجل يجدد لهذه الأمة دينها)؟ لا والله، وهل يمكن أن يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، قد يدخل، والمقصود أنهم يفرون من التأصيلات، وهم لن يفقهون تحرير محل النزاع ولا الترجيح إلا بالتأصيلات، لذا فليعلم الإخوة أن التأصيل الصحيح هو الذي سيبني صرح الأمة العالي، وأنا أعرف أن من الطلاب من يتعطش للعلم لكن الطريق ليس مستنيراً أمامهم، وهنا كلمة تكتب بماء الذهب وهي من قول الشيخ محمد إسماعيل حفظه الله فقد كان يقول: بث الجذور في الأرض هو الذي يثمر، فانظروا إلى القياس البديع، فإن الفروع العالية التي نراها إذا هبت الريح القوية كسرتها وانتهت، لكن الجذور في الأرض تبقى ثابتة. والإجابة الثانية: نقول: نحن نوافق على قاعدة أن المتن إذا عارض القرآن فهو ضعيف، وذلك بشرط أن تكون هذه المعارضة معارضة كلية، وأما إذا كانت من وجه دون وجه فلا؛ لأنه يمكن الجمع بينهما، واجتهاد الصحابة في تضعيفها لم يكن صواباً، فإن هذه الأحاديث الصحيحة قد أمكن الجمع بينها وبين القرآن، فالجمع بين قول الله: ((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله)، يكون من وجوه: أولاً: أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا أوصى بذلك، فإنه إذا أوصى كان معذباً بوزره وليس بوزر غيره. ثانياً: أنه يعذب بشق الجيوب، ولطم الخدود، ويرجع هذا إلى الوجه الأول أيضاً، أي: إذا ارتضى بذلك، أما لو شقوا الجيوب، ولطمعوا الخدود وهو لا يعلم فليس عليه شيء. ثالثاً: أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: وهم عمر فإن النبي صلى الله عليه وسلم مرت عليه جنازة يهودية فبكى أهلها عليها فقال: (إن الميت ليعذب من بكاء أهله)، فهي واقعة عين لا يقاس عليها المسلمون، بل هي خاصة بالكفار وإن الألف واللام في (الميت) للعموم لكنه لا يراد بها العموم هنا، بل هو من باب العام الذي يراد به الخاص وهو الكافر، وهذا هو أوجه الوجوه، وأما بقية الأجوبة فليست بشيء. والجمع بين حديث: (الشؤم في ثلاث في المرأة، والدابة، والدار) وقول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ} [الحديد:22]، هو أنه لو كان هناك شؤم فسيكون في ثلاث لكن ليس هناك شؤم؛ لأن الله كتب هذا في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، هذه الإجابة الأولى. الإجابة الثانية: أن هذا القول هو قول أهل الجاهلية وذكره هنا من أجل الإنكار عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا طيرة)، وقال: (الطيرة شرك). والجمع بين حديث: (نهي النبي عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير) وبين قوله سبحانه: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام:145]، أي: أني في وقت ما تلوت عليكم هذه الآية لم أجد فيما أوحي إلي محرماً عليكم إلا هذه الأمور، ولا يمنع ذلك أن تأتي آيات أخرى تزيد عليها أشياء محرمة، فيكون هذا الحكم الذي ورد في الحديث مما أوحاه الله إليه بعد ذلك فلا يوجد تعارض، ولا يكون هذا نسخاً بل هو إضافة، والإضافة لا تعد نسخاً إلا عند الحنفية. والجمع بين حديث ابن عباس ((نور إني أراه) وقول الله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] أي: لا تحيط بالله جل في علاه، أن نفي الإدراك لا يلزم منه نفي الرؤيا؛ لأن إثبات الرؤيا وردت به أحاديث أخرى صحيحة تخصصه من النفي كحديث: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته) فلا تعارض بين الحديث والآية؛ ولذلك فالمعتزلة لما أنكروا الرؤيا استندوا إلى قول عائشة ونحن نقول: إن عائشة أخطأت في الاستدلال، وأصابت في النفي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن تروا ربكم حتى تموتوا)، والخطاب للأمة خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما سئل: هل رأيت ربك؟ قال: (رأيت نوراً)، وهذا نور الحجاب، فلم ير الله جل في علاه، وقال أيضاً: (نور أنى أراه)، أي: كيف أراه؟ وأما تفسير قول الله تعالى في سورة النجم: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)) فقد قالت عائشة: رأى محمد جبريل مرتين، له جناح يسد الأفق. وبهذه الإجابة عن هذه الأحاديث ننتقل إلى أصل آخر أصله الصحابة على نقد متون السنة وهو عرض السنة على السنة، لكن هذا بحر واسع جداً، وهل يصح أن نعرض السنة على السنة حتى نضعف الحديث أم لا؟ فهذا سيدخل فيه الكلام عن الإسناد في مسألة الشذوذ

المقياس الثاني: عرض السنة بعضها على بعض

شرح مقاييس نقد متون السنة - المقياس الثاني: عرض السنة بعضها على بعض لقد قام العلماء بوضع قواعد ومقاييس ومعايير دقيقة لنقد متون السنة؛ حتى لا يأتي من يرد الأحاديث بعقله، فلا بد من عرض متون السنة على الكتاب ثم على السنة، ولا يتم الترجيح بين الأدلة التي ظاهرها التعارض إلا بذلك، والعقل يقوم بعملية الفهم لذلك، وأما أن نقدم العقل على النقل فذلك هدم للنقل والعقل.

حكم تقديم العقل على النقل، وآثار ذلك

حكم تقديم العقل على النقل، وآثار ذلك إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. روى أحمد في مسنده بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعة سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين، وتنطق الرويبضة، قالوا: يا رسول الله! وما الرويبضة؟ قال: الفاسق أو قال: الفويسق يتكلم في أمر العامة)، وفي رواية أخرى في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من علامات الساعة أن ينتشر الجهل ويرفع العلم، وإن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً -وفي رواية: حتى إذا لم يبق عالمٌ- اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسألوهم، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا). وهذه هي الأزمنة التي نعيش فيها الآن، فقد تصدر لدين الله جل وعلا من ليس أهلاً لهذا الدين، ومن ليس أهلاً للنظر في علم الشريعة، فرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم جهاراً دون أدنى حياء؛ لأنه ما عنده هذه الآلة الذي تعلمها الأولون، ولا المقومات التي تجعله ينظر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيمحص النظر فيها تصحيحاً وتضعيفاً، ولذا ترى أن الأهواء تتحكم كثيراً في عصرنا.

ذكر الأسباب المؤدية إلى رد الأحاديث

ذكر الأسباب المؤدية إلى رد الأحاديث هناك أسباب جعلت مثل هؤلاء يردون حديث النبي صلى الله عليه وسلم: السبب الأول: تعظيم العقل دون تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو تقديم العقل على النقل. السبب الثاني: الجهل العميق بقول النبي صلى الله عليه وسلم، والجهل العميق بالآلة التي يعرف بها التصحيح والتضعيف. السبب الثالث: وضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إرضاء لولاة الأمور أو لغيرهم. وهذه الأسباب موجودة في عصورنا.

نماذج من الأحاديث التي ردت ممن يقدمون العقل على النقل

نماذج من الأحاديث التي ردت ممن يقدمون العقل على النقل إن رد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم موجود في كثير من الفضائيات وكثير من المجلات والصحائف، فهؤلاء يتكلمون عن الإسلام المستنير والبعد عن التشدد، ومن هؤلاء الذين زعموا أنهم من أصحاب الإسلام المستنير الشيخ الغزالي رحمه الله، وتلميذه الشيخ القرضاوي حفظه الله، وأماتنا جميعاً على الإسلام، وجعلنا ممن يعمل لدين الله جل في علاه، فالشيخ القرضاوي حفظه الله وردنا وإياه إلى ما يحب ويرضى رد أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس له بضاعة في التصحيح والتضعيف، فقد رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف) فرد هذا الحديث وقال: هذا الحديث ضعيف، وبضاعته مزجاة في علم الحديث، وهو يعول على الشيخ الألباني كثيراً في التصحيح والتضعيف، فلم لا يأخذ بقول الألباني في هذا؟ وأيضًا الشيخ الغزالي فقد رد أحاديث كثيرة، منها: حديث شق الصدر؛ وقال الغزالي في هذا الحديث وغيره: إنها لا توافق العقل، وهذا هو منهج المعتزلة؛ فإن من أصول المعتزلة الخمسة: تقديم العقل على النقل، وأصول المعتزلة خمسة وهي: التوحيد، والعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنزلة بين المنزلتين، والخامس: تقديم العقل على النقل. فـ الغزالي كان متأثراً بفكر المعتزلة، ولذلك رد حديث: شق الصدر، وقال كيف -وكان طفلاً صغيراً- يشق صدره ويخرج قلبه ثم يغسله في طست ثم يرد القلب ثم يأخذ حظ الشيطان من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فرد هذا الحديث. وأيضًا رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين وهو: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) قال: لو رأى البخاري ما تفعله تاتشر لما قال بهذا القول، وكأنه ينسب هذا القول إلى البخاري لا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أننا لو نظرنا بدقة نظر فيما فعلته تاتشر فقد خربت إنجلترا، وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فرده لأنه يرى في الواقع أمامه أن هناك نساء قادرات على العمل والعطاء، والآن ينادون بالمساواة بين الرجل والمرأة ويعاندون ربهم جل في علاه، يقول تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32] فلم هذه المعاندة؟! وأيضًا منهم من رد الحديث جهلاً وهو لا يعرف شيئاً فتجده يقول: حتى لو جاء في البخاري بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهي بنت تسع سنين فلا أصدق ذلك؛ لأن عائشة لا ترضى ذلك ولا تحتمل، ولا بد أن يكون زواجها عند سن ثماني عشرة سنة، يقول: أنا لي عقل أفكر به فكيف أقبل من البخاري هذا الكلام؟! نقول: وهل البخاري أتى بهذا الكلام من كيسه، أو أتى به من عند أمه؟! لم يأت البخاري به إلا بالسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه الظاهرة ظهرت عندنا، وهي حرب على الثوابت والمبادئ والدين بطرق ملتوية، فهم لا يستطيعون أن يعلنوا هدمهم للدين؛ لأن العامة سيثورون عليهم، لكن يقولون: لا، نحن نأخذ بالدين، وفي الحقيقة هم يهدمون الدين ويهدمون السنة، فهم يعظمون العقل ولا يعظمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وغفل هؤلاء أو تغافلوا عن أن الله جل وعلا أغلق كل باب ولن يُقبل أحد حتى يدخل من باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك فلابد أن تسلِّم وتعمل بقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. ونحن الآن ندرس نقد متون السنة، فهل الاجتهاد قد أغلق؟ نقول: الاجتهاد باق إلى يوم الدين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرة لا يضرها من خالفها أو خذلها) وأيضًا قول الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] يعني: إلى أولي العلم، ففيها دلالة على الاجتهاد، فقوم غلوا وقالوا: لا ننظر إلى هذا، فإذا جاء الحديث خذ به، وقوم آخرون قالوا: لا، لا نقبل حتى ننظر هل يقبله العقل أم لا؟ والوسطية هم أهل السنة والجماعة الذين قالوا: ننقد الأحاديث وننظر هل هي من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو ليست من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الانتقاد لا بد أن تكون له آلة ومقومات ومقدمات، فالعالم لا بد أن تكون عنده آلة الاجتهاد؛ ليمحص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويبين الصحيح من الضعيف.

مراحل وآلات نقد متون السنة

مراحل وآلات نقد متون السنة وقد بينا أن العلماء اشتغلوا بالإسناد وبالمتن، وأمر الإسناد فيه صعوبة، وقلنا: إن المرحلة الأولى في نقد السنة: أن نتكلم على المتون، وبينا كيف كان الصحابة ينظرون إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقولوا: هذا صحيح أو هذا ضعيف.

عرض الحديث على كتاب الله

عرض الحديث على كتاب الله الآلة الأولى التي تستخدم في نقد متون السنة: هي العرض على كتاب الله جل في علاه، فما معنى العرض على كتاب الله جل في علاه؟ يعني: أن كل حديث يأتي لا آخذ به حتى أنظر هل في كتاب الله مايشهد له أم لا؟ وذلك مثل الأحاديث التي ظاهرها التعارض مع الكتاب، فإن كان هذا التعارض من كل وجه ردت، وأما إن أمكن الجمع بين قول الله وقول النبي صلى الله عليه وسلم فنقبل؛ لأنها كلها جاءت من مشكاة واحدة.

عرض الحديث على الحديث

عرض الحديث على الحديث المقياس الثاني: عرض السنة على السنة، وذلك بالنظر إلى هذه الأحاديث هل تصح عن الرسول أم لم تصح، فعلماء الحديث قعدوا قواعد كثيرة جداً في الأحاديث التي ظاهرها التعارض، منها: النظر إلى تعدد الروايات التي ظاهرها المخالفة.

مخالفة الثقات لبعضهم مع اتحاد المجلس

مخالفة الثقات لبعضهم مع اتحاد المجلس وأشهر مثال في ذلك: زيادة الثقة مع اتحاد المجلس، فمثلاً: تسعة من الثقات ذكروا الحديث بلفظ وجاء رجل ثقة فزاد عليهم لفظة، كحديث وائل بن حجر فقد خالف زائدة -وهو ثقة- غيره من الثقات، فقد روى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بأصبعه، وأما بقية الرواة فقالوا: يحركها، فهنا المجلس متحد. وأما إذا تعددت المجالس كأن يجلس النبي بعد الفجر ويقول: أحدثكم بحديث فيذكر الحديث، فالصحابة يحملون عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، ثم إن الصحابة الذين جلسوا معه في الفجر وحملوا عنه الحديث ذهبوا إلى أشغالهم، فجاء آخر في العصر فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نفس القضية التي تكلم عنها النبي صلى الله عليه وسلم في الفجر، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعاد نفس الحديث الذي تكلم به في الفجر، ثم جاء بعد العشاء آخرون وقالوا: يا رسول الله عنت لنا مسألة نسألك عنها، فصادف أن تكون هذه المسألة هي التي تكلم عنها في الفجر وتكلم عنها في العصر، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وعقد مجلساً ثالثاً ثم حدثهم بنفس الحديث، فهذا مجلس ثالث لحديث واحد، فالعلماء ينظرون إلى هذه المجالس التي تعددت هل يمكن أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بلفظ واحد في المجالس الثلاثة، أم تختلف الألفاظ بتعدد المجالس؟ وهل نجمع بين هذا الألفاظ أم نقول: إنها شاذة ومخالفة للثقات؟ أقول: عند تعدد القصة فإننا ننظر في الأسانيد والمتون، فإذا اختلفت الروايات وكان الرواة كلهم ثقات، فمخالفة الثقة لمن هو أوثق منه تكون روايته شاذة، وهو قول للشافعي وهو الراجح الصحيح. وأما مخالفة الضعيف للثقة فهو فتكون منكرة، ولا يمكن أن يكون هناك تعارض؛ لأننا سنقدم الثقة على الضعيف، وأما إذا كان كل الرواة ثقات، فننظر إلى من هو أتقن، فإن كان للحديث قصة فصاحب القصة هو أتقن من غيره، ومثال ذلك: حديث ابن عباس وأبي رافع في مسألة نكاح المحرم كما سنبين.

الرجوع إلى المختص المتقن

الرجوع إلى المختص المتقن كذلك لو خالف الفقيهُ المحدثَ في تصحيح حديث أو تضعيفه فإننا نقدم عالم الحديث؛ لأنه المختص، فهذا أول تأصيل أصله العلماء أن المختص بالأمر هو الذي يقدم.

حكم صيام من أصبح جنبا

حكم صيام من أصبح جنباً مثال ذلك: مسائل الحيض والجماع وغير ذلك مما يتعلق بالرجل والمرأة في البيت، فأتقن الناس لهذه المسائل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء حديث عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتعلق بالبيت وجاء آخر عن صحابي واختلفا، فالترجيح هنا سيكون لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف الصحابة في الصائم إذا أصبح جنباً هل يصوم رمضان أو لا يصوم؟ فـ أبو هريرة روى عن الفضل بن عباس: (أن الجنب لا صوم له) فلما سمع التابعي عبد الرحمن بن الحارث من أبي هريرة هذا الحديث تعجب من هذا الحكم، فذهب إلى عائشة وإلى أم سلمة، فسألهما: (هل النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً فيبقى على صومه؟ فقالتا: اللهم نعم، فرجع إلى أبي هريرة فقال: يا أبا هريرة! إن عائشة وأم سلمة قالتا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً فيتم صومه، فقال أبو هريرة: حدثني بذلك الفضل بن عباس)، فإذا قالت أم سلمة وعائشة ذلك فالقول قولهما؛ وذلك لأنهما تختصان بهذا العلم. فهذا هو المثال الأول في أن العلماء جعلوا لنا طريقاً واضحاً جداً في مسألة نقد السنة ألا وهو: الرجوع إلى المختص المتقن في هذا الباب.

حكم الاغتسال من الجماع دون إنزال

حكم الاغتسال من الجماع دون إنزال المثال الثاني: مسألة الاغتسال من الجماع دون إنزال، يعني: رجل جامع امرأته فأكسل ولم ينزل، فهل يغتسل، أو يغسل ذكره ويتوضأ وضوءه للصلاة؟ فهذه المسألة اختلف فيها الصحابة، فهذا زيد بن ثابت جاءه رجل يستفتيه فقال: جامعت امرأتي فلم أنزل؟ قال: ما عليك إلا أن تغسل ذكرك مما أصابك منها وتتوضأ، وروى حديث: (إنما الماء من الماء) فسمع بعض الصحابة هذا الكلام فذهب إلى عمر فقال: إن زيد بن ثابت يفتي بكذا وكذا، فقال عمر: ائتني به، فعقد المجلس وجاء بأهل بدر فقال لهم: أرأيتم ماذا يقول زيد، فاختلف الصحابة البدريون في ذلك، فمنهم من قال قوله، ومنهم من قال: بل عليه الغسل، فقام عمر بن الخطاب وأرسل إلى حفصة، فقالت حفصة: لا علم لي بذلك، فبعث إلى عائشة وبعث إلى غيرها فقالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: على الخبير سقطت، إذا جاوز الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل. وحديث (إنما الماء من الماء) رواه زيد وأبو أيوب الأنصاري وعثمان بن عفان رضي الله عنهم وأرضاهم، فقال عمر: والذي نفسي بيده لو أفتى أحدكم بغير قول عائشة لأنكلن به نكالاً. نقول: فلو نظرنا إلى أسانيد حديث عائشة وحديث زيد فكلها أسانيد كالشمس، فينبغي أن نجمع بينهما إن أمكن الجمع، لكن قال بعضهم: إن حديث: (إنما الماء من الماء) منسوخ، والصحيح الراجح في ذلك أنه ليس بمنسوخ لكنه مقيد؛ لأن قوله: (إنما الماء من الماء) عام؛ لأن الماء هنا معرف بالألف واللام، فالألف واللام هنا الاستغراقية وهي تدل على العموم، فحديث: (إنما الماء من الماء) مقيد بمسألة الاحتلام أو بمسألة التفكير، فلو أن رجلاً نام نوماً طويلاً عميقاً ورأى في نومه أنه يجامع امرأة ولكنه لم ينزل، فهذا لا يجب عليك الغسل؛ لأن الماء من الماء. مثال آخر: لو أن رجلاً كان يتفكر في امرأة ولم ينزل، فهذا أيضاً ليس عليه غسل حتى لو أنزل المذي، وإنما عليه الوضوء. إذاًً: الراجح والصحيح الجمع بينهما، فإذا جاوز الختان الختان فعليه الغسل إن كان في الجماع، ولذلك روى أبو هريرة حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع وجهدها فعليه الغسل) (جهدها) يعني: جاوز الختان الختان. وكذلك عائشة رضي الله عنها بعد أن روت لهم الحديث أتت لهم بدليل عقلي في هذا فقالت: لقد وجب الحد بالختان ألا يجب الغسل؟ يعني: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب حد الزنا، فإذا وجب الحد وجب الغسل.

حكم نقض المرأة شعرها عند الغسل الواجب

حكم نقض المرأة شعرها عند الغسل الواجب المسألة الثالثة: نقض الشعر عند الغسل الواجب، فقد اختلف الصحابة في ذلك، فـ عبد الله بن عمرو بن العاص كان يأمر نساءه أن تنقض المرأة الضفائر عند الغسل الواجب، فقالت عائشة: (لِمَ لم يأمرهن أن يحلقن رءوسهن؟ ثم قالت: كنت أفعل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويكفيني أن أفرغ ثلاث إفراغات على رأسي)

الشواهد والمتابعات

الشواهد والمتابعات

أقسام المتابعة والفرق بينها وبين الشواهد

أقسام المتابعة والفرق بينها وبين الشواهد القاعدة الثانية: إذا اختلفت الروايات فينظرون: إذا تعددت الروايات للراوي وعضدت يحكمون على الراوي الثاني بأنه واهم. الأمر الثاني ينظرون في الشواهد والمتابعات، والمتابعة: هي موافقة الراوي للراوي في نفس الطبقة، لكن هل يشترط الموافقة في المتن؟ هناك خلاف عريض بين المحدثين، والصحيح الراجح أنه يشترط أيضًا الموافقة في المتن، مثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لحوم الحمر الأهلية حرام) فيرويه مثلاً: مالك عن نافع عن ابن عمر، فإذا رواه الليث عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر، فـ الليث هنا تابع مالكاً في ابن عمر، فاتفقا في الشيخ الأعلى، فتسمى: متابعة قاصرة، لكن لو روى مالك عن نافع عن ابن عمر فجاء الليث إلى المدينة فروى عن نافع عن ابن عمر، فهذه تسمى: متابعة تامة؛ لأنه وافقه في الشيخ المباشر. أما موافقة المتن للمتن بدون موافقة للسند، فمثل أن تكون الرواية عن ابن عمر فتأتي رواية موافقة لها عن أبي هريرة، فرواية أبي هريرة شاهدة لرواية ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه. فهنا قعد المحدثون قاعدة مهمة جداً: وهي إذا اختلفت الروايات نظروا في المتابعات والشواهد، ففي عصر الصحابة مثلاً ننظر هل وافق هذا الراوي غيره؟ مثلاً: لو خالف ابن عباس علي بن أبي طالب فهنا ننظر هل وافق علي بن أبي طالب أحد، فإذا وجدنا أن أكثر من رواه قد وافق علياً فنقول: ضبط علي ووهم ابن عباس. وهذا كحديث نكاح المحرم، فقد وهّم سعيد بن المسيب ابن عباس في هذا الحديث؛ لأنه نظر إلى أبي رافع قد اتفق مع ميمونة، واتفق مع يزيد بن الأصم في الروايات، وانفرد ابن عباس برواية أخرى، فاتفاق هؤلاء الثلاثة يبين لنا أن ابن عباس قد وهم في هذا الحديث.

أمثلة على المتابعة والشواهد

أمثلة على المتابعة والشواهد هناك أدلة كثيرة لقاعدة المتابعة والشواهد، منها: إتباع الجنازة، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان) فالذين سمعوا الحديث من أبي هريرة جاءوا إلى ابن عمر فقالوا: يا ابن عمر: أما رأيت ما قال أبو هريرة؟ قال: ما قال؟ فأخبروه بما قال، فقال ابن عمر: أكثر علينا أبو هريرة، يعني: كأنه يقول: إن أبا هريرة يوهم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه يعلم أن أبا هريرة من الثقة بمكان، وقد أنزل الله عدالته من فوق سبع سماوات، وهو أروى الناس عن رسول الله، فقال ابن عمر: (اسألوا غيري فسأل عائشة وسأل غيرها: هل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اتبع جنازة حتى تدفن فله قيراطان من الأجر؟ قالت: صدق أبو هريرة فيما قاله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك) فقال ابن عمر لقد فرطنا في قرارات كثيرة. فهذه دلالة على إتقان الصحابي الذي يوافقه آخرون من الصحابة في الرواية، ووهم من لم يوافقه غيره. وكذلك روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اقتنى كلباً فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراط إلا كلب حرث أو ماشية) فـ ابن عمر كان يحفظ الحديث هكذا: (من اقتنى كلباً نقص من أجره قيراط إلا كلب صيد أو ماشية) فـ ابن عمر استغرب من ذكر الحرث من أبي هريرة فقال: إن أبا هريرة صاحب زرع، فهذا ليس توهيماً لـ أبي هريرة وإنما موافقة له، أي: أن أبا هريرة خفظ ذلك؛ لأنه صاحب زرع، فـ ابن عمر لم يشك في أبي هريرة؛ لأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وأبو هريرة لا يمكن أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم. مثال آخر: وهو عدة المتوفى عنها زوجها، فقد اختلف في ذلك ابن عباس وأبو سلمة بن عبد الرحمن فقال ابن عباس: أبعد الأجلين، فقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إن عدتها أن تضع حملها، فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، فأرسلوا إلى أم سلمة فقالت: (إن سبيعة الأسلمية كانت حاملاً وتوفي عنها زوجها، فوضعت بعد موته بفترة قصيرة، فأباح لها النبي صلى الله عليه وسلم الزواج بعد أن وضعت حملها).

تقديم صاحب القصة

تقديم صاحب القصة هناك قاعدة قعدها العلماء في نقد المتون المتعارضة، وهذه القاعدة هي: أن صاحب القصة يقدم على غيره ممن يحكون القصة، فقد جاء عن أبي رافع قال: (كنت السفير بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة، وقد تزوجها حلالاً وبنى بها حلالاً) فكأنه يقول لـ ابن عباس: أنت لم تحضر القصة، بل أنا السفير والوكيل، فأنا أتقن منك وأنت قد وهمت في ذلك؛ لأن ابن عباس قال: (تزوجها وهو محرم). والمثال الثاني: قطع الحمار والمرأة والكلب للصلاة إذا مروا بين يدي المصلي، فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن المرأة والحمار والكلب الأسود إذا مروا أمام المصلي تُقطع بهم الصلاة، فلما سمعت عائشة ذلك قالت: أشبهتمونا بالكلاب والحمير؟ والله لقد كنت معترضة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قبلته وهو يصلي، فإن أراد أن يسجد غمزني في رجلي) فكأنها تقول: أنا صاحبة القصة وأنا التي حدث معها هذا الأمر، فقد كنت أنام معترضة بين النبي وبين القبلة فكيف تقولون: إن المرأة لو مرت تبطل الصلاة؟ لكن هنا لم نرجح قول عائشة مع أنها صاحبة القصة؛ لأن صاحبة القصة جعلت المسألة في غير محل النزاع، فقد استدلت بدلالة هي أخص من هذا الذي نتكلم عنه.

مسألة تعدد المجالس واختلاف الروايات

مسألة تعدد المجالس واختلاف الروايات هذه مسألة أخيرة في عرض السنة على السنة: وهي إذا كانت المجالس قد تعددت واختلفت الروايات فالعلماء قالوا في المجالس المتعددة: إذا أثبتنا أن المجالس متعددة فإننا نجمع بين هذه الروايات التي وردت في المجالس، مثال ذلك في المخالفة أو في تعدد القصة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى ذي الحليفة فصلى وبعد الصلاة أحرم النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بالحج والعمرة). وفي رواية أخرى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استوى على ناقته، فلما استوى على ناقته قال: لبيك اللهم بحج أو بعمرة)، في الرواية الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالحج بعد السلام، والرواية الثانية فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بعدما استوى على ناقته، وهناك رواية ثالثة: (أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعدما علا شرف البيداء) فعندنا ثلاث روايات، فأي هذه الروايات تكون أصح؟ قال بعض العلماء: الرواية الثالثة هي الأيسر والرواية الأولى هي الأصح، فجاء ابن عباس ورسم لنا طريقاً واضحاً فقال: لا مخالفة بين الروايات الثلاث: فالذين رووا القصة الأولى ثقات أثبات فلا نوهمهم، والذين رووا القصة الثانية ثقات أثبات فلا نوهمهم، والذين رووا القصة الثالثة ثقات أثبات فلا نوهمهم، ثم قال ابن عباس: في هذه الحالة نقول: لا نوهم الرواة الثقات ونجمع بينهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا وفعل هذا وفعل هذا، وهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم من أجل التيسير على الناس، إذ إن هذه الشريعة السمحاء ما جاءت إلا بالتيسير على الناس، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أريد أن أييسر عليكم، لكن من أراد الفضل فإن الفضل كل الفضل والكمال كل الكمال أن تحرم بعدما تسلم في المسجد، لكن إن كنت لم تقلم أظافرك ولم تستعمل السواك كما استعمل النبي صلى الله عليه وسلم فلك أن تؤخر الإحرام حتى تستوي على الناقة، وهناك تيسير أكبر أن تحرم وأنت على البيداء، فكان هذا تيسير على الأمة، وكان هذا جمعاً لطيفاً من ابن عباس، وكان تقعيداً وتأصيلاً لكل محدِّث ينظر في متون السنة هل يضعف أو لا يضعف، أو يقبل كل الروايات من الرواة الثقات دون أن يوهمهم؟ والنظر في تعدد القصة من أهم القواعد، فهناك قاعدة عند أهل الحديث وهي: إعمال الأحاديث أولى من إهمال أحدها، فنعمل بكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قدر استطاعتنا، فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم وهي لا يمكن أن يطرح؛ لأن فيه الفائدة.

عرض الحديث على العقل

عرض الحديث على العقل فهذه هي القاعدة الثانية التي قعدها العلماء في النظر إلى متون السنة. القاعدة الثالثة: وهي النظر العقلي: أي: أن يعرض الحديث على العقل، فهل سنوافق المعتزلة في عرضنا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم على العقل حتى نقول: هذا الحديث صحيح، أو هذا الحديث ضعيف؟ وهل العقل له الاستطاعة حتى يحكم أن هذا وحي أو ليس بوحي؟!

المقياس الثالث: النظر العقلي ومقاييس النقد عند الفقهاء

شرح مقاييس نقد متون السنة - المقياس الثالث: النظر العقلي ومقاييس النقد عند الفقهاء لقد اهتم العلماء المتقدمون رحمهم الله تعالى بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعوا لذلك قواعد عظيمة؛ ليميزوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلام غيره، وليميزوا أيضاً الحديث الصحيح من الضعيف، وسواء كان ذلك فيما يتعلق بالمتن أو بالسند، ومن هذه القواعد الجليلة: عرض السنة على القرآن.

قاعدة عرض السنة على الكتاب وأمثلتها

قاعدة عرض السنة على الكتاب وأمثلتها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فما زلنا مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم ونظر الصحابة، في التفتيش العميق لمعرفة صحة هذه الأحاديث أو ضعفها، وقد قلنا مراراً أن للصحابة الكرام قواعد مهمة قعدوها في تنقية أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعلموا هل هذا الحديث قاله رسول الله أم لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن هذه القواعد: قاعدة عرض السنة على الكتاب، ومن أمثلة ذلك:

حديث: (ولد الزنا شر الثلاثة)، وحديث: (لا يدخل الجنة ولد زنا)

حديث: (ولد الزنا شر الثلاثة)، وحديث: (لا يدخل الجنة ولد زنا) حديث: (ولد الزنا شر الثلاثة)، وفي رواية: (لا يدخل الجنة ولد زنا). فهذا الحديث مخالف ومصادم لقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]؛ لذلك رده العلماء ولم يحتجوا به.

حديث المطلقة ثلاثا لها النفقة والسكنى

حديث المطلقة ثلاثاً لها النفقة والسكنى ومثال آخر: في المطلقة ثلاثاً هل لها النفقة والسكنى أم لا، فجاء في صحيح مسلم من حديث فاطمة بنت قيس: (أنه لا نفقة لها ولا سكنى؛ إلا أن تكون حاملاً)، والقرآن أثبت أن لها النفقة والسكنى، ولذلك قال عمر بن الخطاب: لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت؟ فحكم العلماء على هذه الزيادة في مسلم بأنها ضعيفة؛ لأنها شاذة. والقاعدة الثانية: النظر العقلي. ولنا وقفه مع مسألة العقل، إذ العقل لا يكون حاكماً على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالنظر لا يمكن أن يكون حاكماً على الأثر، وإنما الأثر هو الحاكم على النظر، ولذلك ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتاباً مكوناً من أحد عشر مجلداً أسماه: (درء تعارض العقل مع النقل)، فالعقل السليم السديد لا يمكن أن يعارض النص الصريح، والعقل لا بد أن يوافق النص، لكن الصحابة رضوان الله عليهم دائماً إذا استغربوا شيئاً نظروا بدقة نظر إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلم فيعرفون هل هذا من كلامه أو ليس من كلامه؟ وهل هذه الأحكام يمكن أن تكون أحكام النبي أو لا تكون أحكام النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأيضاً استخداموا العقل في محله الصحيح وهو: الإجابة عن بعض الروايات التي يمكن أن تستنكر.

حديث الوضوء مما مسته النار

حديث الوضوء مما مسته النار مثال ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عندما حدث عائشة وابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء مما مسته النار)، فابن عباس رضي الله عنه نظر إلى هذا الحديث نظرة تمحيصية عقلية فقال: انظر ما تقول يا أبا هريرة! فقد نظر بعقله إلى الحديث لكن لم يرده، بل وافق عليه في هذا كما سنبين. فهو بعقله نظر إلى هذا الحديث فقال: نتوضأ مما مست النار لماذا؟! قال: يا أبا هريرة! أنتوضأ من الدهن؟ أنتوضأ من الحميم، يعني: الماء الساخن؟ يعني هل في الماء الساخن نجاسة؟ وهل الدهن فيه نجاسة؟ وما الذي يدعوني إلى أن أتوضأ مما مسته النار؟ ولذلك نجد أن أبا هريرة قد أصل لنا أصلاً ليس بعده أصل، وقعد لنا قاعدة لكل امرئ يحترم ويقدر ويعظم حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرف كيف الطريق إلى صحة الحديث أو ترك الحديث؟ فقال أبو هريرة: يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله فلا تضرب له الأمثال. وانظروا هنا إلى فصل النزاع، وكيف أنه قيّد وحدّ العقل حتى وإن لم تستطع أن تتدبر وتتفهم ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن ابن عباس ضرب لنا مثلاً وهو: أن الأصل في الأحكام التعليل، أي: أن تكون معللة، فما العلة التي من أجلها نتوضأ مما مسته النار؟ ليس هناك علة لا نجاسة ولا انتقاض وضوء ولا شيء آخر، فـ ابن عباس رضي الله عنه كأنه يقول: إن معظم الأحكام معللة ولا علة هنا، فلا يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال هذا الحديث. وأراد أن يوهم أبا هريرة، فقال له أبو هريرة مؤصلاً أصلاً آخر للذين يتعلمون كيف يدارسون حديث النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي! إن حدثتك بحديث عن رسول الله فلا تضرب له الأمثال، وإنما قل: سمعت وأطعت، وهذه قوة من أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، لكن هو شاهد أيضاً إلى أن مدخل العقل أن ينظر إلى هذه المسألة، هل يقبلها العقل أم لا؟ فإن لم يقبلها العقل ولم يستطع أن يتفهمها ويعقلها مع ثبوتها فلا بد أن يقول: سمعت وأطعت.

حديث الغسل من غسل الميت

حديث الغسل من غسل الميت مثال آخر: حديث أبي هريرة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ). ومقصودنا هنا المتون لا الأسانيد، وأما أسانيد هذه الأحاديث فضعيفة. فـ عائشة رضي الله عنها نظرت نظرة متفحصة في متن هذا الحديث فقالت: أنجس أبو هريرة الميت؟! وكذلك ابن عباس رضي الله عنه ما سمع هذا الحديث قال: أمن عيدان أحملها أتوضأ؟ فهنا كان النظر قوياً مع السيدة عائشة وابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن النظر في التعليل يدل على أنه لا حاجة للغسل من تغسيل الميت، ولا لزوم للوضوء من حمله؛ إذ قد بين النبي صلى الله عليه وسلم نواقض الوضوء ولم يذكر منها هذا. فهذه دلالة كبيرة جداً على أن الصحابة كانوا أيضاً يمحصون النظر، لكن بتأدب مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيوهمون الراوي أو يناقشون الراوي في المتن، فإن استطاع أن يجيب لهم عن الإشكالات أخذوا الحديث سمعاً وطاعة، ولم يكن الصحابة عند ظهور هذه الأمور المشكلة يبادرون كما يبادر الجهلاء والمغرضين إلى رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو رد كلام البخاري كما بينا قبل ذلك، فهم لم يكونوا كذلك وإنما أخذوا ينظرون ويقولون: كيف نجيب عن هذه الأدلة؟ لأننا نعلم أن الحديث إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو حق، فلا بد أن نجيب عن هذه الأدلة، فأعملوا النظر في الأدلة، ولما رأوا أن هناك اختلافاً وتعارضاً في الظاهر بين الأدلة قالوا: ننظر نظرة ممحصة، وهنا مجال للعقل الصحيح كي يجيب عن هذه الافتراضات وعن هذه الإشكالات، حتى تصفو لنا أحاديث النبي التي هي من مشكاة واحدة.

أحاديث النهي عن استقبال واستدبار القبلة ببول أو غائط

أحاديث النهي عن استقبال واستدبار القبلة ببول أو غائط مثال آخر: أحاديث النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط، فهي تدع العقل يتحير فيها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ولا تستدبروها). والحديث يحمل على العموم سواء كان ذلك في الصحراء أو في البنيان، ويعضد هذا العموم فهم الراوي وعمله، والقاعدة عند المحدثين: أن الراوي أعلم بما روى، والراوي هنا هو أبو أيوب رضي الله عنه، حيث قال: فذهبنا إلى الشام فوجدنا المراحيض قد بينت مستقبلة بيت المقدس مستدبرة القبلة، فكنا ننحرف ونستغفر الله. ومعنى ذلك: أن أبا أيوب يرى أن ذلك على العموم، سواء في الكنف أو في الصحاري، والحديث يدل على التحريم. فانظروا إلى عقول الصحابة، وكيف يتعاملون مع الأحاديث، فهم لم يردوها بسوء أدب مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك لم تجعلهم العاطفة يصححون حديثاً موضوعاً، فـ ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه (رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل بيت المقدس مستدبر الكعبة). فهذا تصريح من ابن عمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد فعل شيئاً ونهى عنه! فيكون قد عارض فعله قوله. وهنا ننظر في هذا، فإما أن نرد هذا أو نرد هذا، أو نجمع بين الأدلة، ولا مجال للعقل هنا أن يرد الحديث، فننظر كيف أن ابن عمر يتعامل مع هذه الأحاديث، وهو قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه الاستقبال والاستدبار، فقام في الصحراء وأراد أن يقضي حاجته، فأخذ راحلته فجعلها ساتراً له مقابلة للقبلة، ثم قعد يقضي حاجته، فجاء نافع فأنكر عليه فقال: يا ابن عمر! أما علمت أن رسول الله قد نهى عن الاستقبال والاستدبار للقبلة في قضاء الحاجة. فقال ابن عمر: هذا في الصحراء لا في البنيان. وكأن ابن عمر يقول: أنت ما فهمت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله، فالنهي في الحديث إذا لم يكن بينك وبين القبلة ساتر، وأما إذا كان هناك ساتر بينك وبين القبلة فلا يحرم. فانظروا إلى ابن عمر كيف جمع بين الروايتين، فالمرء ربما إذا نظر إلى الروايتين فسيقول: لا بد أن أرد حديثاً من الحديثين، لكن الصحيح والراجح: أن العقل مجاله هنا أن يجيب عن هذه الإشكالات، وأن يزيل الغمة التي تحدث بين الأدلة التي ظاهرها التعارض. وعند ذلك اختلف الفقهاء اختلافاً شديداً في هذه المسألة، والغرض المقصود هنا أن ابن عمر لم يضرب الحديث بالحديث، لكن قال: هذا الحديث له موضع وذاك الحديث له موضع آخر، وكأنه قال: العموم الذي رواه أبو أيوب مخصوص بالبنيان. لذا: فلو أن رجلاً دخل الحمام في بيته، وهذه الحمامات أو المراحيض قد تكون مستقبلة للقبلة أو مستدبرة لها، فيجوز له قضاء الحاجة ولا إثم عليه؛ لأن هناك ما يحجبه عن القبلة وهو: البنيان، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما ارتقى ابن عمر فرآه يقضي حاجته مستقبل بيت المقدس مستدبر الكعبة.

حديث النهي عن الشرب قائما

حديث النهي عن الشرب قائماً مثال آخر: حديث النهي عن الشرب قائماً، وكيف يحل هذا الإشكال؟ حيث ورد من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل وهو يشرب قائماً فقال له: (تريد أن يشرب معك الهر؟ قال: لا، قال: فإنه يشرب معك من هو شر منه، الشيطان). ففي الحديث دلالة على الحرمة وأنه لا يجوز الشرب قائماً، لكن قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه شرب قائماً من شن معلقة). فهنا الصحابة أدخلوا العقل لقبول الأحاديث لا لردها كما يفعل الجهال اليوم، حيث إنهم يردون حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا تعارض -في نظرهم وإلا فليس هناك تعارض- مع عقولهم القاصرة. فجاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أرضاه: أنه توضأ ثم شرب قائماً وقال: لأنكلن بأناس يمنعون الشرب قائماً. فهذا فهم من علي بن أبي طالب ثم قال: (شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائماً)، وقد نهى عن ذلك، إذاً: فأكثر وأشد أحواله أن يكون الشرب قائماً على الكراهة لا على التحريم، والمقصود من هذا كيف يفعل الصحابة في توجيه التعارض وتوجيه الخلاف أو الإشكال الذي يظهر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. مثال آخر: وردت أدلة للنهي عن التبول قائماً، أولاً: من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة بينت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبل قائماً، بل كان يبول قاعداً.

حديث النهي عن البول قائما

حديث النهي عن البول قائماً ثانياً: من قوله، فقد جاء حديث بسند ضعيف من حديث عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبول قائماً. وفي المقابل: ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائماً. فنحتاج الآن إلى التوجيه، فإما أن نرد هذا أو نرد ذاك، والصواب ألا نرد حديثاً، بل نُعْمِل العقل لقبول هذه الأحاديث؛ لأنها خرجت من مشكاة واحد. فالتوجيه هنا: أن حديث عمر ضعيف لا يحتج به، ويبقى لنا فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه بال قاعداً وقائماً، فتعارض الفعلان، فننظر في الهيئة والحالة التي بال عليها النبي صلى الله عليه وسلم قائماً، فنجد أنه بال على سباطة قوم رخوة تمتص الماء، والرشاش لا يعود منها على الثوب، فإن كان كذلك جاز له أن يبول قائماً، وإن كانت الأرض صلبة فالرشاش سيعود على الثوب، فتقع النجاسة على الثوب، ولا يصح للإنسان أن يبول قائماً عند ذلك، فلا يجوز أن يصلي الإنسان في ثوب نجس، لذلك يلزمه أن يجلس حتى يأمن من عودة النجاسة عليه.

حديث الوضوء مما مست النار

حديث الوضوء مما مست النار أما الرد على حديث أبي هريرة السابق: (الوضوء مما مسته النار) فهو منسوخ عند الجمهور، وقالوا: هو منسوخ كلية في لحم الجزور وفي غيره، والصحيح والراجح ما رجحته الحنابلة؛ لأن نسخ دار على كل مسخن إلا لحم الجزور فلحم الجزور يجب على من أكل لحم الجزور أن يتوضأ لماذا؟ لذا ورد في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أحدهم فقال: (أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت -فخيرهم- فقال له: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: توضأ). فخيره في الوضوء من لحم الغنم، والتخيير يدل على الجواز، بينما أمره بالوضوء من لحوم الإبل. وأما حديث (من غسل ميتاً فليغتسل) فهو حديث ضعيف، والصحيح الراجح: أنه لا يفعل شيئاً من ذلك، بل من غسل ميتاً فله أن يصلي ولا يتوضأ، ومن حمل ميتاً أيضاً فلا يلزمه الوضوء، لكن إن فعل ذلك على سبيل الاستحباب فله ذلك لكن لا يلزمه. فنرى هنا كيف أن المحدثين أنفقوا الغالي والرخيص من أجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أجل التفتيش على الحديث الصحيح والحديث الضعيف، ومن أجل الحفاظ على هذه المشكاة، وهذا العلم الغزير من رسول الله؛ لأن الأحكام كلها تتعلق بصحة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فللمحدثين قواعد ينظرون فيها لغربلة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، سواء في المتون أو الأسانيد، فأما الأسانيد فكتب الجرح والتعديل كثيرة جداً في ذلك، وأساليب التضعيف كثيرة جداً، وهذا إن شاء الله لعلنا ندرسه بعدما نتكلم على كيفية نقد المتون.

قاعدة ليس كل حديث صح سنده يصح متنه وأمثلتها

قاعدة ليس كل حديث صح سنده يصح متنه وأمثلتها ننشغل الآن بمسألة نقد المتون، فهم كما قلت: أنفقوا كل ما يملكون من أجل نقد الأسانيد والمتون، ووجد من المحدثين من انشغل بنقد المتون عن نقد الأسانيد، إلا القليل منهم ممن جمع بين نقد المتون والأسانيد، وهذا انطلاقاً من قاعدة قعدها العلماء ألا وهي: ليس كل حديث صح سنده يصح متنه.

حديث زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة وهو حلال

حديث زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة وهو حلال مثال ذلك: حديث أبي رافع رضي الله عنه الله عنه عندما عقد للنبي صلى الله عليه وسلم على ميمونة وهو حلال، فخالف في ذلك ابن عباس رضي الله عنه فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على ميمونة وهو محرم، فـ ابن عباس قد خالف أبا رافع وخالف صاحبة القصة ميمونة رضي الله عنها التي قالت: (ما عقد عليّ النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو حلال)، فحديث ابن عباس سنده صحيح لكن متنه فيه شذوذ؛ لأن ابن عباس خالف في ذلك كما ذكرنا.

حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة

حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة وأظهر مثالين في ذلك: الأول: حديث في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب) ثم بينهم بقوله (هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون). هو فانفرد مسلم برواية (لا يرقون). فهي شاذة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رقى، وجبريل عليه السلام قد رقى، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرقية، فكيف نقول: بأن ذلك قدح في التوكل! فهذه الزيادة شاذة.

حديث افتتاح الصلاة بـ (الحمد لله رب العالمين)

حديث افتتاح الصلاة بـ (الحمد لله رب العالمين) الثاني: حديث البسملة، وهو من حديث أنس قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر وعمر كلهم يفتتح الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، ولا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1]. فدل ذلك على أن هذه الزيادة {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] شاذة وأسانيد التي فيها ذكر البسملة موجودة في مسلم، ولكن المتن شاذ؛ لأنه مخالف الروايات الثقات.

بيان العلماء الذين اشتغلوا بنقد المتن والسند معا

بيان العلماء الذين اشتغلوا بنقد المتن والسند معاً وهنا Q من الذي انشغل بنقد المتن مع نقد السند؟ و A اشتغل بذلك ابن الجوزي وابن القيم عليهما رحمة الله تعالى، فقد انشغلا جداً بمسألة المتون، وأيضاً بالأسانيد، وكذلك الإمام الشوكاني. فهؤلاء نظروا إلى المتون ومحصوا النظر فيها، هل تصح عن النبي أو لا تصح، وهذه القواعد التي أخذوها عن السلف لم يحيدوا عنها قيد شعرة، فهي قواعد وضعها علماء الإسلام من عهد الصحابة ومن بعدهم، فصاروا على نهجهم.

قاعدة عرض السنة على الكتاب وضوابطها وأمثلتها

قاعدة عرض السنة على الكتاب وضوابطها وأمثلتها فالقاعدة الأولى عند الصحابة للتمحيص والنظر في نقد المتون هي: عرض السنة على الكتاب، لكن لهذا العرض على الكتاب ضوابط، حتى لا ندخل في مذهب القرآنيين. ومن هذه الضوابط: أن يكون الحديث قد خالف الكتاب من كل وجه. ونذكر أمثلة على ذلك:

المثال الأول: حديث: (ولد الزنا شر الثلاثة)

المثال الأول: حديث: (ولد الزنا شر الثلاثة) المثال الأول: حديث: (ولد الزنا شر الثلاثة)، أي: الزاني والزانية وولد الزنا، وحديث: (لا يدخل الجنة ولد زنا). فهذا الحديث مخالف للكتاب من كل وجه فلذلك رُدَّ.

المثال الثاني: حديث: (استأذنت ربي أن أذهب إلى قبر أمي فأحياها الله)

المثال الثاني: حديث: (استأذنت ربي أن أذهب إلى قبر أمي فأحياها الله) حديث عائشة في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استأذنت ربي أن أذهب إلى قبر أمي فأذن لي، فأحياها الله فدعوتها إلى الإسلام فأسلمت، ثم ردها). وهذا الحديث يردده السفهاء والمبتدعة، وقد صححه الإمام السيوطي عليه رحمة الله تعالى. فـ ابن الجوزي نظر في هذا الحديث وقال: هذا الحديث لا يصحح إلا من رجل عديم العلم قليل الفهم. وهذا كلام جيد جداً لمن يتصدى لهذا الحديث ويصححه؛ لأن ذلك يصادم مصادمة صريحة لكتاب الله جل في علاه، وذلك أن الله جل في علاه كتب على نفسه أن من مات لا يرجع إلى هذه الدنيا، فقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]. وهناك حديث عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى بسند صحيح: (أنه لا أحد إذا مات ورأى الجنة يتمنى أن يرجع إلى هذه الدنيا إلا الشهيد، فيتمنى أن يرجع ليقتل مرة ثانية في سبيل الله سبحانه جل في علاه). إذاً: فهذا تصريح بأن الله جل وعلا كتب على نفسه أن من أماته فلا يرده مرة ثانية، فهذا أولاً. والأمر الثاني: أن من مات فقد عاين الغيب وأصبح الغيب بالنسبة له شهادة، فلا يحتاج إلى تمحيص نظر في تصديقه؛ لأنه قد عاين الغيب. وأيضاً ناهيك على التصريح بقول الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة:217]، وهي قد ماتت كافرة، ومن مات وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم، ولا يمكن أن ترد. وأما الإمام الشوكاني فقد نظر في المتن -ناهيك عن أن إسناده مهلهل- فوجده يصادم الكتاب من كل وجه، فقال: لا يمكن أن يصح هذا الحديث، فهو كلام باطل؛ لأنه مصادم لكتاب الله جل في علاه من كل وجه. فانظروا كيف أن المحدثين ينظرون إلى حديث النبي فمحصون النظر فيه تضعيفاً وتصحيحاً، فإن خالف الكتاب من كل وجه أصبح هذا الحديث لا قيمة له، ويكونون مردوداً؛ لأن الكتاب نقل إلينا بالتواتر فأصبح كالجبل الأشم الشامخ، فلا أحد يستطيع أن يتكلم فيه، فإن خولف من كل وجه فلا يمكن أن يكون هذا قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السنة من الله كما أن الكتاب من الله، والله جل وعلا يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، ولذلك فإن السنة لا يمكن أن تصادم القرآن، ولذا قال الشوكاني: هذا الحديث موضوع. وهذه المسألة صعبة جداً، وهي على أهل البدع أصعب ما تكون؛ لأنهم كما قلت يتبنون أن أم النبي وأن أبا النبي في الجنة وليسا في النار، وأن الله قد أحياهما للنبي فأسلما على يديه محتجين بهذا الحديث الباطل. وأقول: إن حكم أم النبي وحكم أبي النبي صلى الله عليه وسلم -وإن استغرب المستغربون- أنهما في النار خالدين مخلدين فيها نعوذ بالله من ذلك، فحكمة الله اقتضت ذلك، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أبي وأباك في النار) صريح جداً في هذه المسألة. وهنا يأتي إشكال من أهل البدع والضلالة في هذا الباب، فإنهم يقولون لنا: ماذا تقولون في أهل الفترة؟ وهل والد النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة؟ فنقول: أهل السنة والجماعة يرون أن أهل الفترة ممتحنون يوم القيامة، فمن أطاع ربه منهم دخل الجنة، ومن عصى ربه منهم دخل النار. وقبل الجواب عن هذا الإشكال نقول: أهل الفترة هم الذين م يبعث إليهم رسول، فإذا قلنا: لم يبعث لهم رسول فأبوا النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة، وهنا Q هل أهل الفترة مطالبون بديانة معينة كدين عيسى أو دين موسى أو دين إبراهيم، فإذا كان لهم ديانة فليسو من أهل الفترة، وهنا عندنا دليلان متعارضان: الأول: أنهم من أهل الفترة؛ لأنهم لم يبعث لهم رسول، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. والثاني: ليسوا من أهل الفترة؛ لأنهم على دين إبراهيم عليه السلام كما سنبين، إذاً فكيف حل هذا الإشكال؟ و A أولاً: أن قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] ليس المقصود به الرسول بذاته، وإلا فإن الأمريكان الآن والروس الكفار مثلاً: سيكونون من أهل الفترة؛ لأنهم ما جاءهم رسول!! ولو قلنا: بأن ذات الرسول هي المقصودة في الآية فمعنى ذلك: أنه لا يمكن أن تقام الحجة إلا بالرسول، لكان المقصود بالآية هو: بلاغ الحجة، أي: أن تبلغ الحجة والرسالة، سواء كانت من الرسول، أو من وكيل الرسول، أو من العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) وقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18]. فالعلماء هم الذين يقومون مقام الرسل في تبليغ الرسالة، فتنقطع الحجة بذلك. وهنا نقول: إن والدي النبي صلى الله عليه وسلم ما جاءهما رسول، فإن جاءتهما الحجة فهما ليسا من أهل الفترة، وإن لم تأت إليهما الحجة فهما من أهل الفترة، وهذا الذي أشكل على ابن كثير، ولذلك كان يقول: عصر ما قبل النبوة في مكة اخلتط فيه الأمران فكان فيهم من أهل الفترة حقاً؛ لأنه لم يأتهم الدين الصحيح، وفيهم من أتاه الدين الصحيح. فوالدا النبي صلى الله عليه وسلم جزماً قد أتاهما الدين الصحيح والحجة الصحيحة، وهي: التوحيد، ولاسيما وأن كل إنسان كان له أن يتعبد بشريعة نبي من الأنبياء، لكن لا بد أن يكون على أصل الدين، وهو: التوحيد، ولذلك كان ورقة بن نوفل يهودياً، ثم تنصر وأخذ بشريعة النصرانية، لكنه كان على دين التوحيد. وأهل مكة بلغهم دين إبراهيم عليه السلام، لكنهم لوَّثوا دين إبراهيم، فأدخلوا على التوحيد الشرك. ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لما وجد التصاوير التي صورت في الكعبة كصورة إبراهيم وهو يستقسم بالأزلام والعياذ بالله فقال: (كذبوا والله، قد علموا أنه لم يستقسم بالأزلام قط)، إذاً فهذه فيه دلالة من النبي على أن أهل مكة قد وصلهم دين إبراهيم النقي ولم يأخذوا به، والدليل الذي يؤكد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جزم بأن أباه في النار فقال: (إن أبي وأباك في النار). ففيه دلالة على أنهم قد بلغتهم الحجة؛ لأننا نقول: بأن الله لا يعذب أحداً لم تبلغه الحجة، بدليل قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، ولقول الله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى} [الملك:8 - 9]. فلو احتجوا وقالوا: لم يأتنا نبي لكان لهم الحجة على الله، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أهل الفترة: (ثلاثة أو أربعة لهم الحجة على الله ومنهم رجل لم يأته النذير، فيقول: لم يأتني رسولك، فتكون له الحجة على الله يوم القيامة، فيختبره الله فيقول له: أدخل النار، فإن دخلها كانت برداً وسلاماً عليه، ثم بعد ذلك يدخل الجنة). فهنا نرى أن السبب بين في أن دين إبراهيم قد وصلهم، وقد جزم بأن أباه في النار، وجزم أيضاً بأن أمه في النار عندما قال: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، ثم استأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي). وهذا الحديث يعضد القول بأن دين إبراهيم قد بلغ أم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ مَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113]. والشاهد هنا: ((لِلْمُشْرِكِينَ))، فقد منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لها؛ لأنها كانت مشركة، ولا توسم بأنها مشركة إلا إذا أتاها التوحيد فأشركت، فاستحقت النار، فهذه دلالة واضحة على أن أم النبي صلى الله عليه وسلم في النار، وهذه حكمة الله البالغة، ونحمد الله على نعمة الإسلام ليل نهار، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، فعم النبي في النار، وأم النبي في النار، وأبو النبي في النار، وجد النبي في النار، ولن يشفع النسب في ذلك؛ لأنه ليس بين الله وبين عباده نسب.

المثال الثالث: حديث أن الخضر لا زال حيا

المثال الثالث: حديث أن الخضر لا زال حياً المثل الثالث: الذي محصه المحدثون فعرضوه على الكتاب، فوجدوه قد خالف الكتاب من كل وجه فردوه وقالوا: هذا موضوع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأن الخضر يلقى إلياس كل يوم أو كل عام)، ففي الحديث دلالة على حياة الخضر، وقد تمسك بهذا الصوفية، وأن الخضر ما زال إلى الآن حياً، وقال به بعض أهل السنة والجماعة. فهل فعلاً أن الخضر لا زال حياً أم لا؟ وهل قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، فيها دلالة على أن الخضر قد مات؟ ليس في الآية دلالة على أن الخضر قد مات، لأنه قد يموت بعد ذلك: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] وعلى هذا فلا نرد هذا الحديث بل نقبله. ومثلها قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] والدليل على أن الخضر قد مات قوله تعالى مخاطباً نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34] الآية، فالخضر داخل تحت هذه الآية؛ لأنه قبل النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لا بد أن يموت. ومن أظهر الأدلة على أن الخضر قد مات قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران:81]، فيجب على الخضر إن كان حياً أن يبايع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يناصره، ولكن لم يحدث ذلك، فدل ذلك على موت الخضر. إذاً: فهذا الحديث من كل وجه يخالف القرآن، فلا بد أن نرده ونقول: إن لم يكن موضوعاً فهو ضعيف لا يؤخذ به؛ لأنه خالف صريح الكتاب.

المثال الرابع: حديث: (من أكل مع مغفور)

المثال الرابع: حديث: (من أكل مع مغفور) المثل الرابع: حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل مع مغفور له فقد غفر له). فلو أن رجلاً نظر إلى رجل صالح ولي من أولياء الله قد ظهرت كرامته، وقلنا: قد غفر له، أو إذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم للرجل بأنه مغفور له، فهل الأكل معه يجرك لأن تأخذ حكمه، فتكون مغفوراً لك؟ وإذا نظرنا إلى التقعيد العلمي الذي قعده لنا المحدثون فإننا نجد أن هذا الحديث قد خالف القرآن من كل وجه، وذلك أن الله تعالى يقول: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] فالمغفور له هذا بما كسب، وأما الثاني فكيف يكون مغفوراً له وهو لم يعمل، ولم يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؟ وأيضاً هذا الحديث مصادم لقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46]، وقوله تعالى: {وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54]، وقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]. وهناك آية صريحة تثبت أن أهل الفساد لن ينفعهم أهل الصلاح، وهي قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10]. فالمرأة تأكل معه، وتشرب معه، وتنام معه، ومع ذلك هي في النار، فهذا صريح من الله جل في علاه يبين أن كل نفس تؤخذ بما كسبت.

المثال الخامس: حديث: (سب أصحابي ذنب لا يغتفر)

المثال الخامس: حديث: (سب أصحابي ذنب لا يغتفر) المثل الخامس: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (سب أصحابي ذنب لا يغتفر) قال ابن تيمية: الوضع يلوح عليه. فهو مصادم لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، ويمكن الجمع بين الدليلين، فنقول: من سب الصحابة لدينهم وأعمالهم فهو كافر، لكن لو سب الصحابة للمشاحنات التي وقعت بينهم فهذا فسق، كأن يسب مثلاً: أتباع معاوية وأتباع علي رضي الله عنهم أجمعين، فهذا فسق كما ذكرنا، وصاحبه على خطر عظيم، لكن لا يكفر.

المثال السادس: حديث: (الإيمان كالجبال الرواسي لا يزول ولا ينقص)

المثال السادس: حديث: (الإيمان كالجبال الرواسي لا يزول ولا ينقص) المثال السادس: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإيمان في القلب كالجبال الرواسي لا يزيد ولا ينقص). فهذا يلوح عليه علامات الضعف، وهو مصادم لقوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} [الفتح:4]. وهذه الآية صريحة جداً في أن الإيمان يزداد. وقوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]. ولا يمكن الجمع بينه وبين الآيات؛ لأن فيه مخالفة لصريح الكتاب وصريح السنة، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124] ففي هذه الآية دلالة صريحة كما كذرنا على أن الإيمان يزداد. وكذلك الإيمان ينقص، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:125] وبذلك أصبح هذا الحديث مخالف للكتاب من كل وجه، فيضعف بذلك ويرد ولا يؤخذ به، لأنه لا يمكن أن تخالف السنة الكتاب، فالسنة قد خرجت من نفس المشكاة التي خرج منها الكتاب؛ فالكتاب والسنة صنوان لا يمكن أن يختلفا، وما كان ظاهره المخالفة فإنه يحل بالتقييد والتخصيص والإطلاق وغير ذلك من علاقة السنة بالكتاب.

المقياس الرابع: عرض روايات الحديث الواحد بعضها على بعض

شرح مقاييس نقد متون السنة - المقياس الرابع: عرض روايات الحديث الواحد بعضها على بعض من أهم العلوم التي يجب الاهتمام بها نقد متون السنة، وذلك بعرض روايات الحديث الواحد بعضها على بعض؛ ليتبين كلام النبي صلى الله عليه وسلم من غيره، وليعرف الإدراج والتصحيف والاضطراب والقلب في المتون؛ لتكون السنة نقية خالية مما يشوبها ويكدر صفوها.

ظهور البدع وسبب ذلك

ظهور البدع وسبب ذلك إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن البدعة قد أطلت برأسها على هذه الأمة، ولا أرى أحداً يدافع عن السنة، وهذا بسبب ضعف طلاب العلم، فقد أتتنا ورقة من رجل يدافع عن بدعته، وقد تقدم أن بينا أن البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية، وذلك لأن صاحبها ينافح ويدافع عنها، بل ويقاتل عليها، فأصحاب البدع ليسوا بأغرار وليسوا بجهال، فقد أوتوا فهوماً، فتراهم يوظفون الأدلة حتى ينتصروا لبدعتهم، ومع ذلك فأهل السنة والجماعة الذين سيرهم الله على الدرب الصحيح، وعلى الطريق المستقيم والمنهج القويم لا يستطيعون الذب عن سنتهم، ولا الذب عن طريقتهم التي هي طريقة السلف، فيا حسرة على الإخوة الذين ضعفت هممهم، والذين تركوا الطلب، أو ما طلبوا العلم طلباً صحيحاً حتى يدافعوا عن هذا الدين! إن هذا زمن قد عز فيه طلبة العلم وصاروا ندرة، وهناك غربة ثالثة، وهي أن الإخوة الذين يزعمون أنهم يطلبون العلم يطلبونه طلباً ليس صحيحاً، ولا يتقنونه ولا يصبرون على طلبه، وقد بينت كثيراً بأن العلم لن يأتيك وأنت على السرير أبداً، بل البد أن تصبر على الطرق ولا بد أن تلج، فمع الصبر النصر، ومع الصبر الظفر فطلبة العلم كلما سمعوا قواعد أصولية أو قواعد حديثية قالوا: نحن لا نفهم هذا الكلام ولا نريده؛ لأنهم أدمنوا على الجلوس في مجالس الوعظ والتذكير دون مجالس العلم والطلب والمنهجية، مع أن مجالس الطلب والمنهجية هي التي تثمر، بخلاف الذي يجلس يبكي أو يتباكى من كلمات رقراقة يسمعها، فيخرج بعد ذلك فإذا صادف غير ذلك فيمكن أن يطيش به؛ لأنهم سائرون مع كل ريح فلا يستطيعون أن يثبتوا أمام أي شيء، وهذا هو الذي يحدث الآن، فطلبة العقيدة الذين يزعمون أنهم من السلفية بمكان يرون أهل البدعة ينتشرون ويدافعون عن بدعتهم، ولا يستطيع أحد الرد عليهم، فإذا كان صاحب الحق ضعيفاً لا يستطيع أن يرد بقوة أو بعلم فسيضيع الحق، ويضيع أهله. فأنا أريد من الإخوة أن تصبروا على الطلب حتى يستوي طلبة العلم على سوقهم، فيستطيعون الذب عن دين الله جل في علاه، ويكونون شموساً في سماء الإسلام تشرق على المؤمنين، فيستنيروا ويستضيئوا بهم. وقد بين الشافعي أهم مميزات الطالب، أو ما يصل به الطالب إلى الارتقاء في الطلب، فالأمر الأول: أنه لا بد من الذكاء، وهذا الذكاء له مواطن، فالذكاء في اختيار الأستاذ، والذكاء في اختيار المادة، والذكاء في اختيار الطريق، ثم الذكاء لما يأتيك من النصوص. والأمر الثاني: طول الملازمة والصبر، فلا بد من الصبر على الطلب فـ الشافعي أخذته أمه من فلسطين، ودخلت به مكة ليأخذ العلم من شيخه الزنجي، فحفظ القرآن وعمره سبع سنين، ثم ذهب يطلب الحديث عند مالك ومالك نفسه قال له: إنه سيكون لك شأن، ولم يبح له الفتوى، ثم بعدما أخذ من مالك قال: أستأذنك في الخروج إلى العراق، وهو يريد أن يذهب إلى الكوفة لينظر في مدرسة الرأي، فـ مالك قسم ماله شطرين: الشطر له ولأولاده والشطر الثاني للشافعي، وذهب الشافعي فدرس في مدرسة الرأي ورجع وقد جمع بين الحديث والرأي. فلا بد من القوة في طالب العلم، وإن وجدته قوياً في المصطلح قوياً في الأصول، فاعلم أنه طالب علم وبالإمكان أن يكون من علماء الأمة، وأما غير ذلك فاغسل يدك منه، واعلم أنه سيكون ضعيفاً ولو في جانب من الجوانب، والأصل أنه لا بد من إتقان العقيدة. إذن فلا بد من الإتقان، ولا بد من الصبر، ولا بد للسلفية أن ترجع كما كانت أولاً، فقد كانت المنهج الوحيد الذي يعلم الإنسان ألا يحك رأسه إلا بدليل، فهذا أحمد بن حنبل يقول: لا تأخذوا عني ولا عن سفيان ولا عن الشافعي وخذوا من حيث أخذوا، هذا هو العلم. فطالب العلم هو الذي يعرف كيف يميز، أما الذي لا يميز فما زال موجوداً في منطقة الوسط لم يتحرك يميناً ولا يساراً؛ لأنه لا يعرف التمييز، فتراه لا يعرف كيف يطلب العلم، فعليه أن يقف على الخط الصحيح حتى يصل إلى منزلة طالب العلم المحترم الذي يميز بين الأدلة، ويستطاع أن يعتمد عليه، ويرجع إليه في المسائل المعضلات، وقد رأينا في مرحلة من المراحل انعدام الشيوخ؛ بسبب موتهم، فأين الذين يخرجون العلماء بعد موت هؤلاء، فالسعودية -مثلاً- لما كان ابن باز موجوداً فيها وابن عثيمين فيها علم، فلما غابت شموس العلماء أصبح كل متنطع يتكلم في الدين وكل طالب علم غير متقن يتكلم في الدين، بل حتى العوام، ومما هالني أنني تكلمت مع أحد الإخوة في مسألة البيوع وهي: أن بيع التقسيط في الذهب حرام، وهو لا يعرف أن شراء الذهب بالتقسيط ربا، ومع ذلك فهو ملتح وجالس في الأسواق يبيع ويشتري في الربا ويقع في الحرام! ولم يكلف نفسه فيجلس للتعلم، فأنت يا طالب العلم قد اصطفاك الله ولم يجعلك من الرعاع، فقد جاء عن علي رضي الله عنه الله أنه قال: الناس ثلاثة أصناف: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق. فإذا كنت لا هذا ولا ذاك، فلماذا لا تكلف نفسك فتذهب لتستفتي من يفتيك بفتوى ترضي الله ورسوله، فاستفت الذي لا يتكلم إلا بقال الله وقال الرسول. فالجهل قد تعمق فينا وكاد يودي بالأمة، والله الذي لا إله إلا هو إن الأمة لا تموت إلا بنكاية الجهل، ولذلك ترى الدنيا تؤذن بالخراب عند ارتفاع العلم وظهور الجهل، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى يرفع العلم وينتشر الجهل، وإن الله جل وعلا لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً -وفي رواية أخرى قال: لم يبق عالم- اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسألوهم فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا). فالشاهد من هذا أن: الأمة بل الدنيا بأسرها تؤذن بالخراب عند رفع العلم، فياحسرة على العلم، فقد أصبح الناس لا يقدرون العلم، ولا يقدرون أهل العلم، وقد اختلط الحابل بالنابل، فلا يميز طالب العلم من الداعية والواعظ، وقد ذكرت لكم أن مصطفى الرافعي كان رجلاً أديباً وليس له علاقة بالعلم، ولكنه كان من الذين يميزون بين الوعاظ وبين أهل العلم، وكان في كتابه تاريخ العرب يتكلم بدقة في التفريق بين القصاصين وبين أهل العلم، وكان يبين أن المجلس كان يكتظ بطلبة العلم عند أهل العلم. فالقاص هو الذي يأتي بالأحاديث الموضوعة ويختلف الروايات حتى يؤثر في العامة، وهذا القاص لا يرجع إليه في العلم، ولذلك ترى أن الصحابة والتابعين ما كانوا يلتفون إلا حول أهل العلم. فلنرجع إلى ذلك حتى تشرق شمس العزة مرة ثانية على هذه الأمة، وقد تكلمنا قبل عن كيفية أن المحدثين أنفقوا كل غالٍ ونفيس في طلب العلم، وأنهم كانوا يغربلون الروايات لتميز الحديث الصحيح من الحديث الضعيف، ولمعرفة ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم وما لم يتكلم به؛ حفظاً وحراسة لعرين السنة، وحفظاً لكلام النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه المسألة ليست بالهينة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).

طرق حراسة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم

طرق حراسة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهناك طرق لحراسة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الطرق: جمع الطرق، كما قال ابن المديني: لا تعرف علل الحديث إلا بجمع الطرق. يعني: أنك تجمع كل طرق الحديث ثم تنظر فيها حتى يتبين لك الصحيح من السقيم. فبجمع الطرق تجني فوائد جمة، منها: معرفة المدرج من غيره، ومعرفة المضطرب من غيره، ومعرفة المقلوب من غيره، ومعرفة المصحف، ومعرفة الشذوذ وزيادة الثقة، ومعرفة التدليس والتصريح بالسماع، ومعرفة الإرسال سواء الإرسال الخفي أو الإرسال الجلي، فمعرفة أنواع الضعف في الحديث لا يستطيعها إلا من جمع شتات الطرق ونظر في كل طريق، فعلم المزيد في متصل الأسانيد، وعلم الزيادات، وعلم الإدراج، وهذا يعرفه المحدثون بطول السفر والرحلة، فقد أنفقوا أموالهم في سبيل علم الحديث، فهذا يحيى بن معين أنفق ألف ألف درهم -أي: مليون درهم- على حديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل ليس على الحديث فقط، بل وعلى رجال السند؛ حتى يميز بين المتقن الضابط الثقة، وبين الصدوق الذي يهم، وبين الضعيف المجروح، وبين الكذاب الوضاع، فأنفق كل هذه الأموال من أجل أن يعلم أن هذا الراوي متقن أو ليس بمتقن. والبخاري أنفق ألف ألف دينار أو ألف ألف درهم لمعرفة حديث النبي ولمعرفة الرجال، وكتاب التاريخ الكبير شاهد على ذلك. وهناك قصة لطيفة كانت بين إسحاق بن راهويه وبين أحمد، لنعلم كيف يرجع العلماء إذا وقعوا في الخطأ إلى الحق، فـ إسحاق بن راهويه كان مع أحمد بن حنبل في مكة فذهبا لسماع الحديث من ابن عيينة شيخ الشافعي، فقال أحمد لـ إسحاق: تعال سأريك رجلاً لم تر عينك مثله، قال: من؟ قال: هذا، فنظر إلى الشافعي فوجدوه صغير السن، فقال إسحاق: أأترك ابن عيينة وأذهب إلى هذا الحدث الشاب الصغير؟ فقال أحمد -لأن الله أعطاه تركيزاً في العلم وأعطاه تقى وأعطاه علماً، فإن فاتك الحديث من ابن عيينة بعلو خذه من غيره بنزول، وإن فاتك العلم من هذا الشاب لن تجده عند غيره. فانظروا إلى دقة النظر، وهذا هو الذي أقره إسحاق بعدما قابل الشافعي. إذا فاتك الحديث بعلو السند فستجده بسند نازل فتنزل بطبقة عن المحدث، فإذا كان بين سفيان بن عيينة وبين النبي ثلاثة فسيكون بين تلميذ ابن عيينة وبين النبي أربعة. والعلو ممدوح عند المحدثين، ودليل ذلك قول أحد المحدثين عند موته لما سئل: ما تشتهي؟ قال: بيت خالٍ وإسناد عالٍ، فهو يتمنى أن يعلو السند بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم. فـ أحمد بين لـ إسحاق أن فقه المتن مهم جداً، فإذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفهم متنه، وفهم المتن مهم جداً، وهنا فهم المتن محله العام والخاص، والناسخ والمنسوخ، وهذا كان عند الشافعي، فذهب إسحاق فجلس كما قال له أحمد، فحدثت مناظرة بين الشافعي وإسحاق؛ لأن الشافعي يقول: إن مساكن مكة ممكن أن تباع وتشترى، وكان إسحاق بن راهويه فقيهاً ويرى أنها لا تباع ولا تشترى، فتكلم عن الشافعي بكلام لا يليق، فـ الشافعي كان فطناً ففهم أنه يرطن رطن أهل فارس على الشافعي، فقال الشافعي: تناظر؟ قال: أناظر، فقال: قد حدثني ابن عيينة عن فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما ترك لنا عقيل من رباع) يعني: من بيوت، فقال: هذا الحديث هو دليلي، فنظر إسحاق بن راهويه نظرة إلى الشافعي وكأنه يقلل من شأنه، لأن ابن راهويه ما فقه الحديث وما فهمه، فقال: يا هذا! حدثني فلان عن فلان عن فلان عن عائشة أنها كانت لا ترى بيع بيوت مكة. وحدثني فلان عن فلان عن الزبير بن العوام أنه ما كان يرى ذلك، وحدثني فلان وعدد خمسة من الصحابة أنهم كانوا لا يرون ذلك. فضحك الشافعي فقال: من هذا؟ قالوا: هذا إسحاق بن راهويه. قال: أنت فقيه خراسان؟ قال: يزعمون ذلك، فقال: ليتني بك طفلاً صغيراً أعرك أذنك، وهذه تربية قوية من الشافعي لـ إسحاق، ولذلك إسحاق لما خرج قال: ليتني لازمت هذا الرجل، فقال: ليتني بك طفلاً صغيراً أعرك أذنك، أقول لك: قال رسول الله وتقول لي: قالت: عائشة، وتقول لي قال الزبير؟! فهذه دفاع عن السنة، فلما ولى إسحاق وجلس مع أحمد قال: والله! ما فهمت هذا الحديث إلا الآن، ليتني لا زمت هذا الرجل. وقيل: إن إسحاق أخذ كتب الشافعي فأكب عليها حتى يتعلم الفقه على يد الشافعي. فالمقصود: أن هؤلاء العلماء كانوا يفعلون ذلك ويعرفون مقدار أهل العلم ويجلسون أمامهم ويتعلمون منهم العلم. وأما تفسير الحديث: فالنبي صلى الله عليه وسلم قيل له إذا نزلت مكة فأين المكان الذي تنزل فيه؟ فقال: (ما ترك لنا عقيل من رباع) لأن عقيلاً كان على الكفر آنذاك، ومات أبو طالب وترك البيوت التي كانوا يملكونها في مكة، فورثها عقيل، فباعها عقيل فأقر النبي صلى الله عليه وسلم الورث، وأقر أيضاً البيع، فلما فقه إسحاق ذلك انكب على كتب الشافعي. فالمقصود أن هؤلاء كانوا يعرفون مقدار العلماء فيجلسون معهم، ويعرفون كيف يمحصون النظر في أهل العلم الذين يأخذون منهم العلم. وإسحاق -هو شيخ البخاري - نظر في التاريخ الكبير للبخاري فدخل به على أمير في خراسان فقال له: سأريك سحراً أرأيت هذا؟ فـ البخاري أنفق ماله للمتن ولعلم الرجال، والتاريخ الكبير شاهد على ذلك، وكذلك يحيى بن معين. فكانوا ينفقون أموالهم من أجل معرفة الرجال، ومن أجل المتون.

تعريف المدرج

تعريف المدرج ومبحثنا في المتون في معرفة المدرج من الطرق، ومعرفة المضطرب والمقلوب، فنقول: أولاً: معرفة المدرج، الإدراج لغة: إدخال الشيء في الشيء. وأما اصطلاحاً: فإن الإدراج أو المدرج هو: دخول ما ليس من كلام النبي في كلام النبي دون فاصل أو دون تبيين، يعني: دخول كلام في المتن ليس منه دون فاصل أو دون تبيين بأن هذا الكلام ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

أسباب الإدراج

أسباب الإدراج إن أسباب الإدراج كثيرة منها: تطوع الراوي بتفسير لغة الحديث، بأن تأتي كلمات من النبي صلى الله عليه وسلم لا تفهم، فلدخول العجمة في الناس يريد الراوي أن يبين للناس معنى هذه الكلمة، فيفسر الكلمة في الحديث ولا يفصل بينها وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهما: ذهول الراوي، فينظر الشيخ في شيء -مثلاً- يعجبه فيتكلم به، فالسامع يظن أن هذا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: أن يتبين الراوي حكماً معيناً فيتكلم بهذا الحكم وهو يروي الحديث دون أن يفصل بين كلامه وبين كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يستوجب الضعف؛ لأنه نسب للنبي كلاماً ليس من كلامه. فإن قيل: هل يحكم على كل الحديث بالضعف؟ ف A إنما يحكم بالضعف على جزئية الإدراج، لا سيما أنه قد جاءت روايات أخرى تبين صحة الحديث دون هذه اللفظة. مثال ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها في بدء الوحي قالت: (وكان النبي يتحنث الليالي في غار حراء، قالت: ويتحنث يتعبد)، هذه الرواية جاءت من طريق الزهري بهذا النص، ثم في الروايات الأخريات التي جمعها العلماء وجدوا أن الرواية من غير طريق الزهري فيها قول عائشة وكان يتحنث دون أن تقول: والتحنث هو التعبد، فعلمنا أن هذه الزيادة من الزهري زادها تفسيراً لمن يسمع منه الحديث، فإنهم قالوا له: ما التحنث؟ فقال: والتحنث التعبد، فالسامع كتب الحديث عن الزهري على أن كل هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فالعلماء لما جمعوا الطرق وجدوا أن الثقات الأثبات رووا هذا الحديث من غير كلمة التحنث، فعلموا أن تفسير التحنث هذا مدرج من كلام الزهري. وحديث عائشة هذا الذي تتحدث فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم هو مرفوع حكماً، وليس مرفوعاً تصريحاً؛ لأن التصريح فيما إذا قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الحكمي فمثل أن تذكر كلاماً ليس محلاً للاجتهاد، ولا يمكن أن يقال إلا عن طريق الوحي، كقول ابن مسعود: (ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة خمسمائة عام، وهذا الكلام من ابن مسعود له حكم المرفوع. وحديث عائشة وإن كان مرسلاً لكن القاعدة عند العلماء: أن مرسل الصحابي صحيح؛ لأن الله أنزل عدالتهم من فوق سبع سماوات، وإن كان بعض المحدثين قد خالف في ذلك وقال: مرسل الصحابي كغيره، ونقول له: لا؛ لأن الأصل أن الصحابي إذا أخذ فإنه يأخذ من صحابي ولا يأخذ من تابعي، فالأصل أنه يأخذ بعلو ولا يأخذ بنزول، وإذا قلت لنا بأن ابن عباس أو غير ابن عباس قد أخذ بنزول، فنقول: إن هذا نادر، والنادر لا حكم له، فالصحيح أن مرسل الصحابي صحيح. وعلى هذا فحديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها وإن كان مرسلاً فهو صحيح.

أمثلة على المدرج

أمثلة على المدرج وبجمع الروايات يتبين لنا الإدراج، فمثلاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه الذي رواه شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه الله عنه قال: (أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار) فهذا الكلام كله كأنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن العالم النحرير الذي اجتهد وجمع الطرق ومحص النظر وجد في الرواية التي رواها آدم عن شعبة قال: فقال محمد بن زياد: فقال أبو هريرة: أسبغوا الوضوء؛ فإني سمعت أبا القاسم يقول: (ويل للأعقاب من النار)، فالمدرج في الحديث قوله: (أسبغوا) وهذا من قول أبي هريرة. فإذا روى الراوي وجاءك المحدث أو الخطيب فقال: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار) فقل له: لا بد أن تفصل كلام أبي هريرة عن كلام النبي صلى الله عليه وسلم. فلا تنسب قول أبي هريرة إلى النبي؛ حتى لا تكون ممن ينطبق عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وإن كان مخطئاً لكنه لا يؤاخذ بإذن الله على ذلك، لكن لا بد أن يحرر المقام. وأيضاً من الأمثلة التي تبين لنا كيف كان العلماء يعرفون الإدراج من خلال جمع الطرق، حديث ابن مسعود في التشهد، فـ ابن مسعود هو أروى الناس في باب التشهد، فقد روى ابن مسعود هذا الحديث وقال بعدما روى الحديث ونسبه إلى رسول الله: (فإذا فرغت فقد قضيت صلاتك، فإن شئت فقم وإن شئت فامكث). أي: كن على ما أنت عليه، فإن شئت فقم، وإن شئت لم تقم. فتعلق الأحناف بهذا الحديث؛ لأنهم قالوا: لو أخرج الريح بعد أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فصلاته صحيحة؛ لأنه قد انتهى من صلاته بنص الرواية، فإنه قال: فقد فرغت من صلاتك أو فقد قضيت صلاتك. فهذا الحديث فتش عنه العلماء الجهابذة حتى يفصلوا بين قول النبي وقول غير النبي صلى الله عليه وسلم، وأتوا بالأسانيد عن علقمة، وهو من أجل أصحاب ابن مسعود؛ فإنه بعدما روى حديث النبي صلى الله عليه وسلم (التحيات لله) فقال ابن مسعود: فإذا فرغت فقد قضيت صلاتك، فإن شئت قم وإن شئت لم تقم. ولذلك أجمع الحفاظ على أن هذه الزيادة مدرجة من قول ابن مسعود، ولا تدخل في الحكم ولا تنتهي الصلاة إلا بالتسليم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم). وأيضاً من الأمثلة التي تثبت لنا الإدراج حديث فضالة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء لله جل في علاه) فقال: والزعيم الحميل، وهذا الحديث أيضاً بجمع العلماء لطرقه وجدوا أن قول: الزعيم الحميل ليس من قول النبي، بل هو من قول الراوي الذي أدرج في قوله النبي غير قوله. وهنا بعض الأمور التي اتخذها العلماء ليعرفوا الإدراج، منها: استحالة قول النبي هذا القول، فمثلاً: في حديث أبي هريرة أنه تكلم بكلام وتمنى أمنية لا يمكن أن يتمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا يستحيل أن ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم، ونص حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (للملوك أجران) ثم قال: (ولولا الجهاد في سبيل الله وبر أمي لتمنيت أن أموت وأنا مملوك). فالإدراج من قوله: (ولولا الجهاد) إذ كيف يتمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون مملوكاً وهو أكرم الخلق على الله وهو سيد الأولين والآخرين، فيستحيل أن تكون هذه أمنية النبي صلى الله عليه وسلم. والأمر الثاني: أنه لما بعث وأوحي إليه كانت أمه قد ماتت، بل لما استأذن الله جل في علاه أن يستغفر لها لم يأذن الله له أن يستغفر لأمه. وأيضاً جاء في حديث آخر عن ابن مسعود في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل)، ونبدأ بذكر معنى الحديث فنقول: الطيرة التي هي التشاؤم، وهي سوء ظن بالله جل في علاه، وسوء الظن بالله معصية، وهي شرك أصغر، وقد كان بعضهم يتشاءم من الطير، فإذا ذهب الطير يميناً تيمن وقال: هذه بركة فيسافر، وإذا ذهب يساراً تشاءهم وقال: لا تكون البركة في الشمال، فلا يخرج، فهذا شرك أصغر؛ لكونه اتخذ سبباً لم يشرعه الله جل في علاه، والذين يعتقدون أن النفع والضر بيد الله لا يفعلون ذلك، فمن اعتقد بأن النفع والضر بيد الله ثم اتخذ سبباً لم يشرعه الله فقد أشرك شركاً أصغر مثل أن يقول: يوم الأربعاء يوم نحس تنزل فيه البلايا، أو ينظر إلى امرأة عجوز فيقول: أنا لن أذهب إلى العمل اليوم؛ لأن هذه المرأة شؤم علي ستأتيني بالفقر، كما يقولون. فنقول له: من الذي بيده الفقر هل هي المرأة؟ فيقول: لا، بل ذلك بيد الله جل في علاه، لكن المرأة هذه سبب، فإن اعتقد أن المرأة سبب والاعتقاد عنده أن النفع والضر بيد الله فهذا شرك أصغر. وأما إذا كان الاعتقاد في الطير نفسها أو في المرأة نفسها أو في المتشاءم به بأنه هو الذي ينفع ويضر فهذا اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، فيصبح بذلك كافراً كفراً أكبر، وتصير الطيرة هنا شركاً أكبر. فقوله في هذا الحديث: (الطيرة شرك وما منا) أي: وما منا إلا ويقع في التشاؤم، وهذا هو الذي يثبت لك أنها ليست بشرك أكبر. وقوله: (ولكن يذهبه التوكل) هذا فيه خلاف عريض بين المحدثين فيمن قاله، والصحيح الراجح أن هذا من قول ابن مسعود، فقوله: (الطيرة شرك) من قول النبي، لكن قوله: (وما منا إلا) من قول ابن مسعود يعني: أنه يقع في قلبه التشاؤم، وهذا سوء ظن بالله، وهذا قادح في التوكل، وهذا لا يمكن أن يكون عند كامل التوحيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هذا من عند الصحابة، لكنهم يدفعونه بالتوكل، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من وقع في قلبه شيء من الطيرة فليقل: (اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يأتي بالخير غيرك، ولا إله غيرك) فهذا توحيد خالص. فأنت يا ربنا الذي تتحكم في الكون يميناً ويساراً، وأنت الذي تنفع وأنت الذي تضر، وهذه الكلمات كلها تبين أن عليك أن تعتقد وتسير ولا يمنعك التطير، فإن منعك فقد وقعت في الطيرة؛ لأن الطيرة هي التي تحرك صاحبها إقبالاً أو إدباراً، لكن لو وقع في قلبه شيء ولم تؤثر عليه إقبالاً ولا إدباراً فليس هذا من التشاؤم، ولا يقع تحت طائلة الحديث. والمقصود: أن العلماء نظروا في هذا الحديث فقالوا: يستحيل أن يقع هذا في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون هذا الكلام جزماً من كلام ابن مسعود وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

معرفة الحديث المضطرب

معرفة الحديث المضطرب لكي يكون الحديث مضطرباً لا بد من شروط ثلاثة: الشرط الأول: أن تكون رواياته ظاهرها التعارض. الشرط الثاني: التساوي في القوة، بمعنى أن هذه الرواية في الصحيح وهذه في الصحيح، وهذا الراوي ثقة ثبت، والآخر ثقة ثبت، فلا تأتي بصدوق يهم وتعارض به الثقة الثبت. الشرط الثالث: عدم إمكان الجمع. والاضطراب أيضاً يضعف به الحديث، ويجعلنا نتوقف فيه، والاضطراب محل تفصيله في المصطلح لكن بعض العلماء لم يجد مثلاً على الاضطراب، وذلك لأن كثيراً من العلماء -ومنهم الشافعي، وهو أولهم وسيدهم- كان يقول: ائتوني بأي أدلة ظاهرها التعارض أجمع لكم بينها. وهناك كتاب مشهور جداً في الجمع بين الأدلة المختلفة، وهو كتاب (تأويل مختلف الأحاديث) لـ ابن قتيبة وكتابه هذا من أمتع الكتب في ذلك، ومقصوده الجمع بين الروايات. وهناك حديث يمكن أن نجعله مثلاً على المضطرب وهو حديث فاطمة بنت قيس عند الترمذي وابن ماجة وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: هل في المال حق سوى الزكاة؟) فجاءت رواية عن فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في المال لحقاً سوى الزكاة) فأثبتت هذه الرواية أن في المال حقاً سوى الزكاة، قال: (إن في المال لحقاً سوى الزكاة، وقرأ قول الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177]) إلى آخر الآيات. والرواية الثانية جاءت أيضاً عند ابن ماجة عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس في المال حق سوى الزكاة)، ففي الرواية الأولى إثبات حق آخر غير الزكاة، وفي الرواية الثانية نفي أي حق سوى الزكاة. وهذا يعد من الاضطراب، ولذلك ضعف العلماء هذا الحديث؛ لأن الروايتين في القوة سواء، ولم يستطع أحد الجمع بينهما إلا بتعسر.

أهمية معرفة التصحيف

أهمية معرفة التصحيف المسألة الثالثة: الكلام عن التصحيف، والتصحيف هو الخطأ في الصحيفة، فترى الراوي يسمع من الشيخ الكلمة فيصحفها ولا يستطيع أنه يقرأها قراءة صحيحة، ولذلك أمثلة كثيرة منها: وهم الراوي في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان فأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر) فجاء الراوي فقال: (من صام رمضان فأتبعه شيئاً من شوال فكأنما صام الدهر)، فصحف (ستاً) إلى (شيئاً). وقد كان كثير من القصاصين يصحفون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر أمثلة ذلك: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم المسجد فعليكم بالسكينة والوقار) فبعض المصحفين قرأها: (بالسكينة والفأر). وبعض المعاصرين قرأ قول الله تعالى: {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود:48] فقال: اهبط بِسُلَّم. والتصحيف أكثر من ذلك، لكن المراد هنا تصحيف المحدثين، وقد اعتنى به المحدثون، وليس المحدثون فقط، بل اعتنى به أيضاً أهل اللغة، وهم أقوى الناس على ضبط هذه المسائل. وهناك أيضاً حديث صحفه عبد الله ابن لهيعة، وهذا الرواي كان يتلقن، أي: أنه بعدما يأتي بالترجمة الصحيحة إذا لقنته غيره فإنه يتلقن، وكان مصرياً وكان الشيخ أحمد شاكر يصحح حديثه، لكن العلماء يضعفون حديث ابن لهيعة، وكان مدلساً، وكان أيضاً ضعيف الحفظ، فـ ابن لهيعة صحف حديث زيد بن ثابت فقال: (احتجم النبي في المسجد) فشرع الحجامة بهذا الحديث في المسجد، وقد يسيل الدم في المسجد فيتسخ بذلك، فهو شرع ذلك بهذا التصحيف، والصحيح في الرواية: (احتجر) فصحف احتجر إلى احتجم التي هي بالميم، والصحيح (احتجر) يعني: اتخذ حجرة من حصير في الاعتكاف، فكأنه احتجر حجرة، والله أعلم. فهذا التصحيف أيضاً من الضعف بمكان، وأهل العلم من أهل اللغة هم الذين تتبعوا هذا وخدموا السنة، فجزاهم الله عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم خيراً ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلام الذي انبرى لذلك وأتى بغريب الحديث، وبين التصحيف من غيره، والخطابي من المحدثين أيضاً انبرى لهذا الأمر، فالتصحيف يعرف بجمع الطرق وبجمع الروايات. والخطأ في الصحيفة معناه: أن يصحف إما في حرف، أو في نقطة، أو في الكلمة كلها، فيصحفها بأن يغيرها، أو يغير من شكلها، أو يغير من حروفها، أو يغير من النقط التي فيها والتي تبين الكلمة من غيرها.

أهمية معرفة القلب

أهمية معرفة القلب ومما ينبغي معرفته أيضاً: المقلوب، والقلب لغة هو تحويل الشيء عن وجهه، فتجعل الأيمن أيسر. وأما القلب اصطلاحاً: فهو التقديم والتأخير في السند أو المتن. والذي يهمنا هو القلب في المتن، والقلب هذا يعرف بجمع الطرق.

أمثلة على الحديث المقلوب

أمثلة على الحديث المقلوب ومن أمثلة المقلوب: الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: (ورجل أنفق نفقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله) فالقلب هنا في قوله: (حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شمال) وقد عرفنا ذلك بجمعنا طرق الحديث، فعند الجمع وجدنا رواية أخرى متفق عليها في البخاري ومسلم: (حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه). فهذه رواية تدل على أن الحديث قد انقلب على الراوي فقال ((حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله). وأيضاً من الأمثلة على القلب حديث أبي هريرة لما فسر قول الله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] فقال: (أما النار فيخلق الله لها خلقاً وأما الجنة فما ربك بظلام للعبيد) فهذا فيه قلب، فالله لا يخلق خلقاً ليعذبهم؛ فإن الله قال عن نفسه: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10]. فانظر ماذا يترتب على القلب في الحديث، فهو وإن لم يكن كذباً على رسول الله لكنه يؤدي بالمرء أن يعتقد اعتقاداً فاسداً، فهنا يعتقد أن الله يخلق الخلق ليلقيهم في النار، وهذا تعذيب لهم بغير ذنب، فهذا ظلم والله منزه عنه، وإنما الله يخلق خلقاً ليمتعهم، وهذا من فضل رحمته وكرمه؛ فإن الجنة يبقى فيها متسع فيخلق الله خلقاً للجنة يتمتعون فيها، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، لكن لا يخلق خلقاً يعذبهم بالنار، فهذا قلب، ولذلك لما جمع المحدثون الروايات قالوا: هذا الحديث انقلب على الرواة، والصحيح في تفسير قول الله تعالى: ((هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)) أنه قال: (فأما الجنة فيخلق الله لها خلقاً يمتعهم برحمته، وأما النار فما ربك بظلام للعبيد) أي: لا يخلق لها خلقاً يعذبهم بها، بل يضع قدمه المقدسة في النار فتقول: قط قط، أي: حسبي.

المقياس الخامس: عرض متن الحديث على الوقائع والمعلومات التاريخية

شرح مقاييس نقد متون السنة - المقياس الخامس: عرض متن الحديث على الوقائع والمعلومات التاريخية لقد حفظ الله السنة النبوية بأن سخر لها رجالاً ينقونها مما شابها، وذلك عن طريق عرضها على الوقائع والمعلومات والتاريخ، فيعرفون صحة الحديث من ضعفه.

تنقية الأحاديث النبوية عن طريق عرضها على الوقائع والمعلومات والتاريخ

تنقية الأحاديث النبوية عن طريق عرضها على الوقائع والمعلومات والتاريخ إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: لقد دأب علماء الحديث على عرض متون الأحاديث على الوقائع التاريخية، كما قال حماد بن زيد: كنا نعرف الكذابين بالتاريخ، يعني: أن التاريخ كان يبين لنا الكذاب من غيره. وكان الخطيب البغدادي يقول: تكَشَّف الرواة بالتواريخ, ولذلك ترى كثيراً من الرواة يهتمون جدا بتاريخ وفاة الراوي حتى يعلم هل هو أخذ عن الشيخ الفلاني أم لم يأخذ؟ وتاريخ الرواة نستفيد منه أموراً كثيرة؛ لأن حال الراوي الذي يروي عن شيخه له أربعة أحوال: أولها: السماع، وهو أن يحدث عن شيخه كما حدث الشافعي عن ابن عيينة، وكما حدث مالك عن الزهري بالسماع. ثانيها: التدليس: وهو أن يروي عن شيخه ما لم يسمع منه. ثالثها: الإرسال الخفي، والفرق بين الإرسال الخفي والتدليس: أن الإرسال الخفي: أن يروي الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه. رابعها: الانقطاع: وهو أن يروي الراوي عن راو آخر وبينهما طبقات من المشايخ.

الأمثلة على ما قام به العلماء من عرض السنة على الوقائع التاريخية

الأمثلة على ما قام به العلماء من عرض السنة على الوقائع التاريخية لقد اهتم العلماء جداً بمسألة تواريخ الرواة؛ لمعرفة التدليس والإرسال والانقطاع، فكل ذلك لا يعرف إلا بالتاريخ، فقد روى صهيب الواسطي عن عائشة , فقالوا له: أين التقيت بـ عائشة؟ قال: التقيت بها بواسط, فهو صهيب الواسطي , فكان يقول: حدثتني عائشة بواسط, فلولا التاريخ لأخذنا هذا الحديث على محمله، لكن ظهر كذب هذا الراوي صهيب بالتاريخ؛ لأن واسط أسسها الحجاج بن يوسف الثقفي , والحجاج لم يعاصر عائشة، بل توفيت قبله بكثير، فكيف يقول: حدثتني عائشة؟! فظهر كذب الرجل بأن الحجاج هو الذي أسس واسط. وأيضا نفس الراوي كان يقول: حدثني إبراهيم النخعي فقالوا: صف لنا إبراهيم النخعي، فقال: كان كبير الجسد, أو كبير العينين فظهر كذبه في هذا الوصف؛ لأن إبراهيم النخعي كان أعور ولم يكن له غير عين واحدة, فلما قال: كبير العينين, قال له الناس: أنت كذاب, فعلماء الجرح والتعديل كانوا يفتشون عن التواريخ حتى يبينوا الكذاب من غير الكذاب. وأيضاً من طرق علم الجرح والتعديل السؤال عن حاله, وكشف أمره, وتلقينه, والمذاكرة, وأيضا تاريخ الرواة, وأيضاً التلقين كان باباً من أبواب كشف الرواة. وهناك أحاديث في البخاري وفي مسلم عليها علامات الضعف الشديد والوهم ولا أستطيع أن أقول: الوضع، وإن قال ابن حزم هذا الكلام؛ بسبب الوقائع التاريخية. ومن هذا الباب: حديث ابن عباس أنه قال: (كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله! ثلاثاً ثم ذكر أن عنده أحسن وأجمل نساء العرب أم حبيبة فقال: أزوجك إياها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم)، فالتاريخ يبين ضعف هذه الرواية؛ حيث إن إسلام أبي سفيان كان متأخرًا, والنبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة لما هاجرت إلى الحبشة, والنجاشي هو الذي أمهرها حتى تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعدما هاجرت إلى الحبشة، فالتاريخ يبين بالتأكيد أن هذه الرواية وهم شديد من الراوي؛ لأن أبا سفيان لم يسلم إلا متأخراً؛ ولذلك فـ ابن الجوزي وابن القيم وغيرهما يبينون أن علامات الوهم الشديد تظهر على هذه الرواية؛ لأن التاريخ يكذب هذه القصة, ولا نقول: إن هذا الحديث موضوع، وإنما نبين وهم الراوي, وأنه اختلط عليه الأمر؛ لأن أبا سفيان أسلم متأخراً. وأيضاً من الأمثلة التي تبين لنا قوة مقياس المحدثين لنقد المتون وغربلة هذه المتون عن طريق النظر في التاريخ، أن في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية ادعى حدث هذا الأمر كما سنبين، أن اليهود أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع عنهم الجزية، فقالوا: فأنتم أخذتم منا الجزية فلا بد أن تدفعوا لنا كل الذي أخذتموه؛ لأنكم تتبعون رسول الله, ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد رفع عنا الجزية وأتوا بصحيفة، وهذه الصحيفة أمضى عليها معاوية بن أبي سفيان وأمضى عليها كثير من الصحابة. ونحن لا نستطيع أن نبين عور هذه الصحيفة إلا بالتاريخ, وهذا مقياس قوي عند المحدثين الذين يضعفون الأحاديث ومتون السنة بسبب التاريخ. ومثال ذلك أيضا ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله من صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال جابر: (فصلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر في مكة)، يعني: ذهب فطاف طواف الزيارة وطواف الإفاضة، والفرق بين طواف الإفاضة وطواف القدوم: أن الإنسان إذا دخل مكة في وقت الحج طاف طواف القدوم, وأما طواف الإفاضة فيكون عند الانتهاء من مناسك الحج، وطواف الوداع سنة عند الجماهير وواجب عند بعضهم, وطواف الإفاضة ركن من أركان الحج, ولو لم يطف خمس سنوات فإن حجه يكون معلقاً حتى يطوف طواف الزيارة. يقول جابر: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم طواف الإفاضة وصلى الظهر في مكة). وجاء نص الحديث عن ابن عمر كما في صحيح مسلم قال: (وصلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بمنى) , فهذه المسألة تحتاج إلى نظر شديد, فـ جابر يقول: صلى بمكة, وأما ابن عمر فقال: صلى بمنى، فرواية ابن عمر ليس فيها ضعف ورواية جابر أتقن؛ لأنه هو أروى الناس في صفة الحج عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح: أننا نستطيع أن نجمع بينهما: فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى الظهر بمكة, ثم رجع إلى منى وصلى الظهر بأصحابه بمنى, يعلمهم هذا الأمر، وإن كان الجمع فيه شيء من التكلف، لكنه أولى من أن نطرح حديثاً قد صح, ولاسيما إن كان في صحيح مسلم. والمثل الآخر في عرض متون السنة على التاريخ: ما انتقد على البخاري ومسلم في حديث في الإسراء ومتنه الغريب، (ليلة أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر من الملائكة قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد, فأخذوا النبي صلى الله عليه وسلم) ثم قص القصة. فالتاريخ يبين لنا أن الإسراء بالإجماع كان بعد ما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فهذه دلالة قوية جداً على الحاجة إلى النظر في التاريخ, فلما عرضنا هذه الرواية على التاريخ وجدنا أن هناك وهماً شديداً قد وقع، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُسرَ به إلا بعد أن أوحي إليه، بل إن الإسراء جاء بعد شدة الكرب الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة، فقد ضيقوا عليه الخناق جداً, فذهب إلى الطائف إلى الطائف يعرض نفسه على عبد ياليل، والحديث في البخاري: (أن عائشة قالت: ما هي أشد الأيام التي مرت بك يا رسول الله؟! فذكر لها أن أشد الأيام عندما عرض نفسه على عبد ياليل في الطائف, فرفضوا النبي صلى الله عليه وسلم وردوه, حتى إن الأطفال رجموه بالحجارة صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي-، وبعث الله إليه ملك الجبال يستأذنه أن يطبق الجبلين على هؤلاء, فرفض النبي صلى الله عليه وسلم -وهو الذي وصفه الله بأنه بالأمة رءوف رحيم صلى الله عليه وسلم-، فلما رجع أراد الله أن يفرج همه فأسري به، فجاء البراق وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس, فأم الأنبياء أجمعين، ثم عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم) , فمن قال: إنه قبل أن يوحى إليه، فهذا وهم شديد. وأيضاً من الروايات التي يتحكم في نقدها التاريخ ويبين أن هذه الرواية ليست صحيحة, ما رواه الترمذي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعبد الله بن رواحة بين يديه ينشد: خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله إلى آخر الأبيات التي قالها عبد الله بن رواحة، وهذا الحديث أيضا فيه ضعف, والتاريخ هو الذي يحكم بضعف هذه الرواية؛ لأن عبد الله بن رواحة مات في مؤتة، وغزوة مؤتة كانت قبل فتح مكة بقدر أربعة أشهر, وليس من الممكن أن يقال: أحيا الله عبد الله بن رواحة فأنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم مات، لكن قد تكون معجزة من المعجزات، كما أحيا الله ذلك الرجل صاحب البقرة، فمن الممكن أن تقول: راوي الحديث ليس بواهم، فهو ثقة ثبت, فلم لا نقول: إن الله جل وعلا أحيا عبد الله بن رواحة فأنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشعر. وينفي هذا الإحياء قول الله سبحانه وتعالى: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]. والصحيح الراجح: أنه يمكن أن نؤول هذا فنقول: إن هذه الأبيات هي لـ ابن رواحة فأنشد بهذه الأبيات أمام النبي صلى الله عليه وسلم, فنسبت لـ ابن رواحة تجوزاً، فيكون الصحيح: أن الأبيات يمكن أن تقال بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، لكن من أحد غير ابن رواحة , ونسبت إلى ابن رواحة لأنه هو الذي قالها. ومن هذه الأمثلة أيضا: ما جاء في حادثة الإفك تلك الحادثة المروعة التي اشتد الهم والغم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببها، وقد تولى عبد الله بن أبي بن سلول كبر هذه المسألة, فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً في الناس فقال: (من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهلي، فقال سعد بن معاذ: أنا أعذرك منه يا رسول الله صلى الله عليه وسلم). فهذه الرواية بعض العلماء تكلم فيها، كـ ابن القيم وابن الجوزي، وقالوا: هذه الرواية لا تصح؛ لأن حادثة الإفك كانت في عزوة بني المصطلق، وسعد بن معاذ مات في غزوة بني قريظة، أي: بعدما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات). وعند الجمهور أن غزوة بني قريظة كانت سنة خمس، وبالاتفاق كانت غزوة بني المصطلق سنة ست, فغزوة بني المصطلق كانت بعد موت معاذ، وهذه الدلالة واضحة جداً على هذا الوهم الشديد الذي وقع فيه الراوي، فـ سعد بن معاذ مات قبل حادثة الإفك فكيف يقول أنا أعذرك منه يا رسول الله، والصحيح الراجح: أن الذي قام وقال هذا الكلام هو أسيد بن حضير. وفي كتاب رفع الجزية: أن اليهود أخرجوا كتابا نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رسول الله أسقط عنه

المقياس السادس: ركاكة لفظ الحديث

شرح مقاييس نقد متون السنة - المقياس السادس: ركاكة لفظ الحديث من المقاييس والمعايير التي وضعها العلماء لمعرفة عدم ثبوت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ركاكة اللفظ، فوجود الركاكة في لفظ الحديث تجعلنا نحكم على الحديث بالضعف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أفصح من نطق بالضاد، وقد أوتي جوامع الكلم.

ركاكة اللفظ مقياس لنقد متون السنة

ركاكة اللفظ مقياس لنقد متون السنة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: مازلنا في طرق نقد متون السنة، وكيف أن هؤلاء الجهابذة باعوا أنفسهم رخيصة حتى ينقحوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويغربلوها فيخرجوا لنا الصحيح منها من السقيم، ويبينوا للناس هل ينسب هذا الكلام لرسول الله أو لا ينسب؟ من القواعد التي قعدها المحدثون لتنقية أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى المتون لا بالنظر إلى الأسانيد: ركاكة اللفظ. فمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، وهو أفصح من نطق بالضاد، والله تعالى آتاه أجزل الكلام وأوجز الكلام وأحسن الكلام صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي, فكلمة واحدة وجيزة تجمع فوائد جمة، وهذا الشافعي رضي الله عنه وأرضاه ورحمه الله كان يتدبر في حديث واحد من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ألا وهو: (يا أبا عمير ما فعل النغير) فاستخرج منه أكثر من مائة مسألة. فالذين نهلوا من بحر علم النبي صلى الله عليه وسلم وتدربوا على أحاديثه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يفوتهم شيء من كلامه، مما جعلهم يفرقون بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وبين قول غيره، وكان عند المحدثين القوة التي حباها الله إياهم ليفرقوا بين قول النبي وقول غير النبي؛ حفاظاً على حديث النبي, وأيضاً عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، وأيضاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من روى عني حديثاً يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين).

نقد الأحاديث الداعية إلى النظر إلى الوجه الحسن

نقد الأحاديث الداعية إلى النظر إلى الوجه الحسن من هذه الأحاديث التي فيها ركاكة في اللفظ وسماجة في القول, والتي يبعد كثيراً عن أن تكون من قول النبي صلى الله عليه وسلم ما اختلقه أصحاب الشياطين ونسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهتاناً وزوراً: (عليكم بالوجوه الملاح؛ فإن الله يستحيي أن يعذب وجهاً مليحاً بالنار). فهذا الكلام تلوح عليه ركاكة اللفظ، مما تجعلك تقول: هذا لا يمكن أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهل رسول صلى الله عليه وسلم الذي بين أن كل البشر لآدم وآدم من تراب، ولا فرق بين أعجمي على عربي إلا بالتقوى، هل النبي صلى الله عليه وسلم يرى بأن الله جل في علاه يربط الثواب والعقاب والجنة والنار بحسن الوجه؟! ومن الذي خلق هذا الوجه؟ إنه الله جل في علاه, هذا سيفتح مجالاً كبيراً للجبرية، فعندهم أن مسألة الثواب والعقاب ليس بأيديهم ولا بعملهم, فلما تقول: إن الله جل وعلا يدخل الجنة من كان حسن الوجه، ويدخل النار من كان ذميم الوجه، ويدور الثواب والعقاب على مثل هذا الكلام السامج الذي لا يمكن أن ينسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن هذا يفتح الباب لمذهب الجبر، والذي يجعلنا نرده هو أن هذه الألفاظ لا يمكن أن تخرج عن رسول الله, ولا يمكن أن تكون تحت مسمى هذه الشريعة الغراء. وأيضاً: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (النظر إلى الوجه الجميل عبادة) وعلى هذا يصير الفساق والفجار هم أعبد الناس في الأرض لو صححنا هذا الحديث، فالفساق والفجار بموجب هذا الحديث لا يتركون صورة لامرأة عارية إلا ويحدقون فيها البصر, ولا ينامون إلا وصور العاريات السفيهات على الحائط ينظرون إليها صباح مساء، فهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح هذا المجال لهذا الفاسق الفاجر أن ينظر في وجوه اللاتي يفعلن الفاحشة أو الساقطات ويقول: (النظر إلى الوجه الجميل عبادة؟ فهذا لا يمكن أن يكون من قول النبي صلى الله عليه وسلم). وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة تزيد في البصر: النظر إلى الخضرة، والماء الجاري، والوجه الحسن) , فهذه الأحاديث لا يمكن أن تصحح ولا يمكن أن تنسب للنبي صلى الله عليه وسلم، لاسيما وهو قد أوتي جوامع الكلم، ومثل هذه الألفاظ تفتح الباب على مصراعيه والعياذ بالله للفجار والفساق، ولا يمكن أن يتصور بأن حكمة الله تربط الثواب والعقاب بحسن الوجه أو ذمامة الوجه نعوذ بالله من ذلك, يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).

نقد حديث: (أربع لا تشبع من أربع)

نقد حديث: (أربع لا تشبع من أربع) أيضاً: ترى بعض أصحاب المهن كالخضري والحلواني وغير هؤلاء كل منهم ينشر أحاديثه حتى يروج لبضاعته، فهذا رجل مزارع يقول: (أربع لا تشبع من أربع: أنثى من ذكر، وأرض من مطر، وعين من نظر، وأذن من خبر). يعني المشاءون بين الناس بالنميمة على هذا هم أفضل الناس على ذلك؛ لأنه قال: (وأذن من خبر)، وهذا يشبه كلام مسيلمة الكذاب، وهذا الكلام لا يمكن أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما هو من وحي الشياطين. وأيضاً قال أحد المزارعين: (لو كان الأرز رجلاً لكان حليماً، ما أكله جائع إلا شبع)! يعني: الشبع لا يكون إلا في الأرز فقط!

نقد حديث: (لا تسبوا الديك)

نقد حديث: (لا تسبوا الديك) هذا مثالاً آخر لهؤلاء التجار ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تسبوا الديك؛ فإنه صديقي، ولو يعلم بنو آدم ما في صوته لاشتروا ريشه ولحمه بالذهب). يعني: أن الديك أفضل من البشر؛ لأن الريش واللحم يشترى بالذهب، فهل هذا الكلام يكون من النبي صلى الله عليه وسلم؟! وهل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الديك صديقي! نعوذ بالله ونبرأ إلى الله من أن ينسب هذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فهذا كلام سخيف يترفع الإنسان العاقل عن أن ينطق به، حاشا لله وحاشا لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بمثل هذا الكلام، لاسيما وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله جل في علاه, قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].

نقد حديث الهريسة

نقد حديث الهريسة أيضاً: نأتي إلى المجال الآخر: مجال السكر والحلوانية, فيقول حلواني حتى يروج لسلعته، وينسب الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (أتاني جبريل بهريسة من الجنة فأكلتها، فأعطيت قوة أربعين رجلاً في الجماع). ومثل هذا الكلام السامج يجعل السفهاء البله حين يسمعون به يأتون بالهريسة في كل يوم في وقت الصبوح والغداء والعشاء؛ من أجل أن يقوى أحدهم في مسألة النكاح، ويقول: أعطيت قوة أربعين رجلاً. وهناك رواية أخرى لمثل هذا الحلواني يقول: (الهريسة تشد الظهر)، فهو يروج لبضاعته، فهذا جبريل ينزل من سبع سماوات من أجل الهريسة! أيها الغبي السفيه! فهل مثل هذا الكلام ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فهذا سفه والعياذ بالله!

نقد حديث: (الباذنجان لما أكل له)

نقد حديث: (الباذنجان لما أكل له) أيضاً: أصحاب الخضروات يقولون: (الباذنجان لما أكل له) فهل يعقل أن يكون هذا الكلام قاله النبي صلى الله عليه وسلم, والشيء الوحيد الذي جاء فيه البركة بحق هو ماء زمزم، فهذا الرجل صاحب الباذنجان نظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) فقال: (الباذنجان لما أكل له)، وبعضهم كان يقول: (الباذنجان يأتي بالسم) فيحرم الباذنجان، فقال صاحب الباذنجان: (الباذنجان شفاء من كل داء) يعني: أن أي مريض لو أكل من الباذنجان فإنه يشفى، نعم نقول: إذا أتى الشرع بذلك على الرحب والسعة, لكن لا يمكن أن يقال هذا الكلام من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قلت، لاسيما وهو أفصح من نطق بالضاد.

نقد حديث (عليكم بالعدس)

نقد حديث (عليكم بالعدس) أيضاً: يقول البقال: (عليكم بالعدس؛ فإنه مبارك، يرقق القلب، ويكثر الدمع، وقد قدس على لسان سبعين نبياً)، بالنظر إلى لفظ هذا الحديث نجد عليه عدة مآخذ: المأخذ الأول: أنه لا توجد أدنى بلاغة في متن هذا الحديث المكذوب. المأخذ الثاني: أن العدس أدنى لا أعلى، بدليل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] إذاً: العدس أدنى في كتاب الله, فكيف تأتي أنت أيها الغافل المتغافل وتجعل العدس أعلى ومباركاً وقدسه أكثر من سبعين نبي؟! المأخذ الثالث: أن ركاكة اللفظ تلوح عليه، وتبين بأن هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. المأخذ الرابع: أنه لا يمكن أن نقول بأن العدس تدمع منه العين، إلا أن تدمع العين من رائحة البصل، لكن ليس من رقة القلب.

نقد حديث: (السواك يزيد في فصاحة الرجل)

نقد حديث: (السواك يزيد في فصاحة الرجل) أيضاً: أن الواضع لهذا الحديث لم يتعلم الفصاحة؛ لأن الله عز وجل يربط المقدمات والنتائج والأسباب بالمسببات, وهذا الرجل الذي فيه عجمة وأراد الفصاحة يقول لنا في هذا الحديث: (السواك يزيد في فصاحة الرجل) إذاً: لن تجد رجلاً عيياً بحال من الأحوال, وهذا كلام لا يمكن أن ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم.

نقد حديث: (أكل السمك يذهب الحسد، ويقوي الجسد)

نقد حديث: (أكل السمك يذهب الحسد، ويقوي الجسد) أيضاً: من هذه الأحاديث السمجة التي لا يمكن أن تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قول أصحاب السمك فيما ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكل السمك يذهب الحسد، ويقوي الجسد) يعني: أكل السمك فيه نوع من القوة ويذهب العين, مع أن العين لا تذهب إلا بالرقية الشرعية، وهذا ممكن أن ندخله في قاعدة: عرض الحديث على القرآن. فإذا عرضنا هذا الحديث على القرآن وجدنا أن الله جل وعلا جعل الدواء النافع للحسد في المعوذتين، ولو عرضنا ذلك على السنة -وكان صحيحاً- لأكل النبي صلى الله عليه وسلم السمك وأكثر منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سحر, ولما سحر جاءه جبريل يرقيه، فهل رقاه بزيت السمك أم أن جبريل رقاه بالرقية الشرعية؟ لقد رقاه بالرقية الشرعية، فهذا الحديث مخالف للقرآن والحديث مع ركاكة اللفظ.

نقد حديث: (اللهم أنت حي لا تموت)

نقد حديث: (اللهم أنت حي لا تموت) معروف أن هناك أسماء لله يستجيب الدعاء إذا دعي بها كالاسم الأعظم، فهذا الرجل كان يحلو له أن يبين أسماء لله غير التي نعرفها, فيقول: (اللهم أنت حي لا تموت، وندي لا تنفذ، وقريب لا تبعد، ووفي لا تخلف، ومعروف لا تنكر، ووتر لا تستأمر، ومحتجب لا ترى، ودائم لا تفنى، وباقٍ لا تبلى، وواحد لا شبه لك، ومقتدر لا تنازع، قال: من دعا بها عند منامه بعث الله له بكل حرف منها سبعمائة ألف ملك من الروحانيين، وجوههم أحسن من الشمس والقمر) فهذا الحديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه عدة مآخذ: الأول: ركاكة اللفظ، فهذه ليست من أسماء الله جل في علاه. الثاني: القاعدة في أسماء الله وصفاته أنها توقيفية. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

المقياس السابع: مخالفة الحديث للأصول الشرعية

شرح مقاييس نقد متون السنة-المقياس السابع: مخالفة الحديث للأصول الشرعية من المقاييس والمعايير التي وضعها العلماء لمعرفة عدم ثبوت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخالفة الحديث للأصول الشرعية والقواعد الكلية؛ فإن للدين قواعد عامة وأصول شرعية، أيما حديث صادمها لابد أن ننظر كيف نجمع بينه وبينها؛ فإن لم نستطع أن نجمع بينه وبينها فلا يمكن أن نقبل هذا الحديث.

مخالفة الحديث للأصول الشرعية مقياس لنقد متون السنة

مخالفة الحديث للأصول الشرعية مقياس لنقد متون السنة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: المقياس السابع من مقاييس نقد متون السنة: أن الدين له قواعد عامة وأصول شرعية، فأيما حديث صادم هذه القواعد العامة أو هذا الأصل الشرعي -حتى ولو صح سنده- فلابد أن ننظر كيف نجمع بينه وبين الأصول الشرعية، فإن لم نستطع أن نجمع بينه وبين الأصول الشرعية فلا يمكن أن نقبل هذا الحديث, لاسيما وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع قواعد عامة كلية. من أصول الشرع ومقاصد الشرع الكلية: قول الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].

نقد حديث (من صلى الضحى يوم الجمعة أربع ركعات)

نقد حديث (من صلى الضحى يوم الجمعة أربع ركعات) من الأحاديث التي تصادم الأصول الشرعية: (من صلى الضحى يوم الجمعة أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة بالحمد عشر مرات، وقل أعوذ برب الفلق عشر مرات, فمن صلى هذه الصلاة دفع الله عنه شر الليل والنهار, والذي بعثني بالحق إن له من الثواب كثواب إبراهيم وموسى ويحيى وعيسى، ولا يقطع له طريق، ولا يسرق له متاع). فهذا الحديث لا يمكن أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الكلام يصادم أصل كلي وقاعدة كلية من تشريع النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي تقول: بأن الفاتحة ركن من أركان الصلاة, قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يقرأ بأم الكتاب فلا صلاة له) , ولم يشرع في حال من الأحوال تكرار الفاتحة أكثر من مرة. وهناك مآخذ على هذا الحديث: المأخذ الأول: أن القواعد الكلية لا تفرق بين المتماثلين ولا تسوي بين المختلفين؛ لأن قدر النبي يختلف عن قدر غيره من البشر، ففي هذا الحديث الباطل التسوية بين الأنبياء وآحاد الناس، وهذا باطل؛ لأن الله جل في علاه بين في أكثر من موضع من كتابه أنه لا يسوي بين المفترقين, قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، وقال عز وجل: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، وقال تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، فالله لا يسوي بين هذا وبين ذاك, والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً, والله اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس، فهذا الاصطفاء يدل على الفرق, وهذا الفرق يبين لنا القاعدة الكلية: أن الله لا يسوي بين المفترقين في القدر, ولا يفرق بين المتماثلين. المأخذ الثاني: أن من الأصول العامة: أن لكل مجتهد نصيباً، ومن طلب العلى سهر الليالي, ومن جد وجد، وقال الشاعر: لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا أي: لابد أن تقمع شهوتك وتصبر على أذى وشدة ولأواء الطلب حتى تصل. فنقول: هذه القاعدة الكلية منبثقة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: لـ عائشة: (أجرك على قدر نصبك ونفقتك) فجعل النصب -يعني: التعب- كلما ازداد ازدادت حصيلة الحسنات وازداد الأجر, ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم شكراً لله حتى تتورم قدماه, ولما قال لـ علي بن أبي طالب: (انظر إلى هذين -إلى أبي بكر وعمر - قال: هما سيدا كهول أهل الجنة، فقال: أفلا أبشرهما؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حتى لا تتفطر القدم من العبادة) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن صح هذا الحديث. والغرض المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن يبشر علي أبا بكر وعمر حتى لا يجتهدا اجتهاداً شديداً في العبادة. فالله جل وعلا ربط الأجر الوفير بشدة الكلفة والنصب: (أجرك على قدر نفقتك ونصبك) فهنا أربع ركعات من آحاد الناس تجعله يساوي فيها إبراهيم ويحيى وزكريا وموسى، هذا كلام لا يمكن أن يقوله النبي صلى الله عليه وسلم بحال من الأحوال.

نقد حديث دعاء السوق

نقد حديث دعاء السوق كذلك بهذا النظر نضعف حديث دعاء السوق وهو (من قال عند دخوله السوق: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير, تكتب له ألف ألف حسنة وتمحى عنه ألف ألف سيئة) فهذا الحديث يخالف القواعد الأصلية والمقاصد الكلية والقواعد الكلية للشريعة، فنحن لا نصحح هذا الحديث، وننتقد المتن بهذه القاعدة، ونقول كما قال ابن حجر: أما ذكر الله فمطلوب في الأسواق -يعني: ذكر الله إن صح هذا اللفظ-؛ لأن هذه الأسواق هي أبغض الأماكن إلى الله جل في علاه، ويحدث فيها السب والشتم والغش والخداع والكذب والبهتان والزور، وهذه المواطن يحسن فيها ذكر الله جل في علاه.

نقد حديث (من قال لا إله إلا الله خلق الله من تلك الكلمة طائرا)

نقد حديث (من قال لا إله إلا الله خلق الله من تلك الكلمة طائراً) أيضاً من هذه الأحاديث حديث: (من قال: لا إله إلا الله، خلق الله من تلك الكلمة طائراً له سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة، يستغفرون الله لقائل هذا الكلمة)، فهذا الحديث موضوع على رسول الله؛ لأنه يصادم قاعدة كلية من قواعد الشريعة، يقول ابن القيم عن واضع هذا الحديث: أما هذا الذي وضع هذا الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم فهو واحد من اثنين: إما أن يكون في غاية الجهل والحمق, وإما أن يكون زنديقاً قصد أن ينتقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث. فهذا الحديث يخالف القواعد الكلية التي منها: (أجرك على قدر نصبك ونفقتك) , وهذا عندما يقول: لا إله إلا الله يخلف منها طائراً، وهذا الطائر له سبعون ألف لسان، وكل لسان تستغفر له بسبعين ألف لغة, ولم يأت من الخلق من يستغفر له إلا طالب العلم، فهو الذي تستغفر له المخلوقات.

نقد حديث (الصلاة في العمامة تعدل بعشرة ألف حسنة)

نقد حديث (الصلاة في العمامة تعدل بعشرة ألف حسنة) أيضاً حديث: (الصلاة بعمامة تعدل عشرة آلاف حسنة) وهناك رواية أخرى هي: (الصلاة بعمامة تفضل صلاة المرء بغير عمامة بسبع وعشرين درجة, وفي رواية: بخمس وعشرين درجة). فهذا الحديث موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حديث: (تعمموا فإن الشياطين لا تعمم) , وهذا كلام سامج جداً لا يصح أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يخالف كل القواعد الكلية التي تبين أن الإنسان يفوز بالاجتهادات بالطاعات، وإلا ففيم التفاوت بين العباد؟ ولم الدرجات العلى والفردوس الأعلى؟ فهل هذا الرجل الذي يصلي بعمامة ويحرص على العمامة في كل صلاة سيفوق الرجل الذي يصوم النهار، ويقوم الليل، ويتصدق في سبيل الله بالعمل وبالعلم وبالنفقة؟! فهذا لا يمكن أن يكون؛ لأنه ليس من عدل الله جل في علاه أن يساوي بين المختلفين، فإن الله يساوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين.

نقد حديث (من طول شاربه في دار الدنيا)

نقد حديث (من طول شاربه في دار الدنيا) أيضاً من هذه الأحاديث حديث قال فيه واضعه: (من طوّل شاربه في دار الدنيا طول الله عليه ندامته يوم القيامة، وسلط عليه بكل شعرة على شاربه سبعين شيطاناً، فإن مات على ذلك الحال فلا تستجاب له دعوة، ولا تنزل عليه رحمة). وهنا قاعدة عكس القاعدة الأولى وهي: هل يمكن بذنب قليل دقيق أن يعاقب المرء هذا العقاب الشديد؟ فهذا لا يمكن ولا يعقل في عدل الله جل في علاه. وكذلك قوله: (لا تستجاب له دعوة) أهذا من أجل أنه أطال شاربه؟! فهذا أيضاً يصادم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ربط رد الدعاء بالمأكل الحرام والشرب الحرام واللبس الحرام.

المقياس الثامن: اشتمال الحديث على أمر منكر أو مستحيل

شرح مقاييس نقد متون السنة - المقياس الثامن: اشتمال الحديث على أمر منكر أو مستحيل هناك أحاديث نسبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً، ويعرف بطلانها من خلال اشتمالها على أمر منكر أو مستحيل، وهذا من ضمن المقاييس التي وضعها العلماء في نقد متون السنة، فالناظر إلى مثل هذه الأحاديث يمكنه أن يحكم عليها بالوضع بمجرد النظر إلى متونها دون النظر إلى إسنادها، وعلم نقد متون السنة من الأهمية بمكان، فينبغي الرجوع إليه في تصحيح الأحاديث وتضعيفها.

ضرورة الاهتمام بنقد متون السنة

ضرورة الاهتمام بنقد متون السنة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إن علم الحديث والنظر في متون الحديث من أجلّ العلوم، وقد بينت قبل ذلك أن كثيراً من المحدثين كان جل اهتمامهم مسألة تصحيح الحديث وتضعيفه، فهم ينظرون في رجال السند هل صح الإسناد عن طريق هؤلاء أم لا، ويغربلون السند من أوله إلى آخره؛ حتى يصلوا إلى تنقية أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقلة قليلة من أهل العلم هم الذين انشغلوا بالمتن نفسه حتى ينتقدوا هذا الحديث، وهؤلاء قعدوا قواعد كثيرة تيسِّر على المحدث أو طالب علم الحديث معرفة وتنقية الأحاديث الصحيحة من الضعيفة. وقد انتهينا من ست قواعد لهؤلاء العلماء الأجلاء الذين محصوا النظر جداً في لفظ متون السنة تصحيحاً وتضعيفاً. أقول: الاهتمام بنقد متون السنة، أو الاهتمام بالمتن من أهم وأجلّ العلوم، لاسيما وأن المستشرقين عندما أرادوا الطعن في علماء الحديث طعنوا فيهم بأن جلّ اهتمامهم كان على الأسانيد وليس على المتون، فأنت إذا قرأت في كتب العلل ترى أن الاهتمام الشديد في كتب العلل هو بالرجال، مثل العلل للترمذي الذي شرحه ابن رجب، والعلل للدارقطني العلل لـ علي بن المديني، حتى في الجرح والتعديل لـ ابن أبي حاتم، فجلّ اهتمام هؤلاء المحدثين الذي نظروا في العلل ينظرون في مسائل الأسانيد لا مسائل المتون. فنحن بفضل الله علينا بينا بعض القواعد التي قعدها المحدثين في نقد متون السنة لا الأسانيد، دون النظر إلى الأسانيد يعني: نضعف هذا الحديث أو نصححه نظراً لمسألة المتن. سنتلكم عن آخر القواعد التي قعدها علماء الحديث في نقد متون الحديث.

ذكر بعض القواعد المتعلقة بنقد متون السنة مع أمثلة لكل قاعدة

ذكر بعض القواعد المتعلقة بنقد متون السنة مع أمثلة لكل قاعدة ذكر القواعد جملة: القاعدة الأولى: عرض السنة على القرآن: وذلك بأن نأتي إلى المتن فإذا وجدناه قد عارض الكتاب من وجه فنجمع ونؤلف بينهما، ولا ننتقد هذا المتن، لكن إن كانت المخالفة من كل وجه ولا يمكن الجمع بينهما فنقول: تقدم الآية على الحديث. ومثال ذلك: أن عائشة رضي الله عنها وهمت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عندما روى حديث: (يعذب المرء ببكاء أهله عليه)، فـ عائشة رضي الله عنها أوّلته على اليهودي أو على الكافر، والذي جعل عائشة رضي الله عنها وأرضاها تنتقد هذا المتن قول الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، فقالت: كيف يعذب هذا ببكاء أهله عليه وهذا ليس من سعيه، وقد بينا الجمع بينهما. القاعدة الثانية: عرض السنة على السنة: مثال ذلك: حديث: (يدخل الجنة سبعون ألفاً من غير حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)، وفي رواية لـ مسلم قال: (ولا يرقون)، فلما عرضنا السنة على السنة وجدنا أن قوله: (ولا يرقون) لفظة شاذة، كما قال شيخ الإسلام. القاعدة الأخيرة التي أخذناها في الدرس الماضي في نقد المتون: ركاكة اللفظ، وبينا أن هذه الألفاظ لا يمكن أن يقولها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك: (لو علمتم ما في الجرجير لزرعتموه تحت السرير). وأيضاً قوله: (الهريسة تشد الظهر). وأيضاً قوله: (العدس قُدِّس على لسان سبعين نبياً). وقوله: (والباذنجان لما أكل له). وهناك أحاديث كثيرة من هذا النوع. ومن هذه الأنواع أيضاً ما يختص بالرب جل في علاه، فإذا سمعته قلت: لا يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا عن ربه جل في علاه.

ذم التقليد الأعمى

ذم التقليد الأعمى هناك أحاديث فيها ما يدل على أن الناس لا بد أن تكون كالنعاج، وهذا تأباه المقاصد الكلية وليس اللفظ فقط؛ لأن الشرع يهتم بكيان وكينونة الإنسان، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، ولذلك كان ابن مسعود يقول: لا يكن أحدكم إمعة؛ إذا أحسن الناس أحسن، وإذا أساء الناس أساء. ولكن وطن نفسك على الحق، إن أحسن الناس فأحسن، وإن أساء الناس فأحسن. يقول ابن الجوزي: والناقد البصير في كل زمن وعصر في ندرة. يقول هذا مع أن عصره كان حافلاً بالعلماء، ويقول: أعز ما نبحث عنه في هذه الأزمنة الناقد البصير كان الشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليه يقول: رأيت الآن أن من يقرأ للمعاصرين أنه يضيع وقته، نقول: هذا الكلام ليس على إطلاقه، ولا يقصد الشيخ ذلك، ويقول: ما رأيت أحداً إلا هو ظل لرأي. يعني: ما هو إلا ناقل وتابع ويقول: قال فلان، ويضع قلمه، فكثير من الناس في هذه الآونات هم على هذه الوتيرة، والناقد البصير منتقد، فتراهم يجهلونه ويقولون: أتى بدين جديد، فهذه دلالة على أن الجهلة كثر، وأجهل من هؤلاء الذين يحسبون أنفسهم على الطلب وهم من التقليد بمكان.

حث الأمة على الأخذ بمعالي الأمور

حث الأمة على الأخذ بمعالي الأمور روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كن ذنباً في الحق ولا تكن رأساً في الباطل) فهل النبي صلى الله عليه وسلم الذي يبين للأمة ما ترتقي به، ويرسم لها طريق النجاح والنجاة، وطريق الارتقاء وعلو الهمة يمكن أن يقول لها هذا الكلام؟ أقول: هذا الحديث ممكن أن ينتقد متنه من جميع القواعد؛ لأنه يعارض أصل القرآن، يقول: الله تعالى حاكياً عن إبراهيم صاحب الهمة العالية، ونحن أمرنا بالاقتداء بالأنبياء بل وأمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وقال سبحانه: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران:95]، وقال: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، فقال: ((إماماإ)) ولم يقل: كن ذنباً. وأيضاً قول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، ومن التكريم أن يتقدم الإنسان ولا يتأخر، وأن يقود ولا ينقاد، فهذا من باب التكريم. ويعارض أيضاً السنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها) أي: يكره أسافل الأمور، ففيه دلالة على أن الدين يحث الإنسان أنه يكون رأساً ولا يكون منقاداً، كما قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] ولذلك لا تستطيع أن تقول: علقها في رقبة عالم وأصبح سالماً؛ لأنك ستكون في ذيله في الدرك الأسفل إن ذهب، والعياذ بالله، والإنسان المستفتي، والمقلد قد رضي أن يكون في مؤخرة القوم، وهذا لن يفوز عند ربه جل في علاه. ويأباه أيضاً العقل، فمعلوم أن مقاصد الشريعة كلها تحث الأمة على أن تكون أمة سيادة وريادة، ولذلك فالله جل في علاه مكن لهذه الأمة في مدة وجيزة من عمر الزمن، فهذا فيه دلالة عالية جداً على أن الدين يحث هذه الأمة على أن تكون من الرأس بمكان، ولا تكون من المؤخرة. وكذلك لو عرضنا هذا الحديث على المختص فإنه لا يقبله، فإن عمر رضي الله عنه لما سأل أحد عماله: من وليت على مكة؟ قال ابن أبزى، فقال من العرب أم من الموالي؟ قال من الموالي، فتضايق عمر لذلك، فقال: يا أمير المؤمنين! إنه أعلمهم بكتاب الله، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين)، إذاً فقد ذهب أهل العلم بشرف الدنيا والآخرة. وهذا عطاء بن أبي رباح من الموالي وكان عالماً، فأرسل إليه أمير المؤمنين: أن ائتنا، فقال: لا نأت أحداً، إن أردتنا فأت أنت مجلسنا. فهذا عبد أسود يقول ذلك لأمير المؤمنين!

نقد حديث: (دعوني من السودان)

نقد حديث: (دعوني من السودان) أيضاً حديث: (دعوني من السودان؛ إنما الأسود لبطنه وفرجه)، فهل الدين والخير والصلاح منوط باللون؟! كلا. فقوله: (فإن الأسود لبطنه وفرجه). هذا فيه كناية عن كل الحبشة، فهناك أحاديث كثيرة جاءت بذم الحبشة. فنقول: هذا الحديث لا يمكن أن يقال به، ولو عرضناه على كل القواعد لما صح. قوله: (دعوني من السودان؛ إنما الأسود لبطنه وفرجه) يعني: أن الأسود يعيش سبهللاً، فليس عنده إلا شهوة البطن وشهوة الفرج، فهذا الكلام لا يقبل، ويرد عليه من وجهين: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، وهو أفصح من نطق بالضاد لا يمكن أن يتكلم بهذا الكلام. الثاني: إذا عرضناه على القواعد التي قعدها أهل العلم، فلا يمكن أن يقبل، فلو عرضناه على القرآن فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فأناط الإكرام بالتقوى. إذاً: فالبشرة لا يمكن أن تقدم أو تؤخر في صاحبها شيئاً، وكذلك لو عرضناه على السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا فضل لعربي على عجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى). وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينظر إلى قلوبكم). وهذا بلال كان أسود من الليل المظلم، ومع ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بلال ماذا تفعل؟ إني أسمع خشخشة نعليك في الجنة)، فـ بلال تقدم كثيراً على الناس.

نقد حديث: (إن الجن والإنس والشياطين والملائكة لو كانوا صفا واحدا)

نقد حديث: (إن الجن والإنس والشياطين والملائكة لو كانوا صفاً واحداً) من هذه الأحاديث أيضاً حديث: (إن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى يوم القيامة لو كانوا صفاً واحداً ما أحاطوا بالله عز وجل). فهذا منكر؛ لأنه ليس هناك شيء يحيط بالله جل في علاه، قال تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ} [طه:110] وليس هناك شيء يدرك الله جل في علاه، قال سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، فهذا هو محل النكارة، فلا يمكن أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على ربه، وهو أعلم الخلق بربه. ولكل جنس شياطين، وهذا الذي جعل الشيخ ابن عثيمين يؤول حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة والكلب والحمار تقطع الصلاة، فسأله أبو موسى: ما بال الأسود من الأصفر والأحمر؟! فقال: الكلب الأسود شيطان)، فالشيخ لم يقبل أن يكون الكلب الأسود شيطاناً على حقيقته، وإنما قال: هو شيطان الكلاب؛ لأن كل جنس له شيطان، والشيطان مأخوذ من الشطن، والشطن: هو البعد، عن رحمة الله جل في علاه.

نقد حديث:) إن الله ينزل ليلة الجمعة إلى دار الدنيا بستمائة ألف ملك)

نقد حديث:) إن الله ينزل ليلة الجمعة إلى دار الدنيا بستمائة ألف ملك) أيضاً حديث: (إن الله تعالى ينزل ليلة الجمعة إلى دار الدنيا بستمائة ألف ملك، فيجلس على كرسي من نور وبين يديه لوح من ياقوتة حمراء فيه أسماء من يثبت الرؤيا والكيفية والصورة من أمة محمد، فيباهي بهم الملائكة). فهذا الحديث فيه إثبات الرؤية والكيفية والصورة لله تعالى، وقد عقب ابن الجوزي على هذا الحديث وقال: لعن الله واضعه، ولا رحم صانعه؛ فإنه كان من أخس المشبهة وأسوأهم اعتقاداً، وما أظنه كان يظهر مثل هذا إلا للطغاة من المشبهة الذين لم يجالسوا عالماً. أقول: وأنا أشهد الله أني أثبت لصفات الله الكيفية، وأشهد الله أني أثبت الرؤيا، وأشهد الله أني أثبت صفة الصورة لله جل في علاه؛ لأن أهل السنة والجماعة يثبتون الرؤيا لله، يوم القيامة، لكن ابن الجوزي كان عنده اعتزال في العقيدة، ولذلك تنطع بعضهم وقال: لا يؤخذ منه شيء، لكن نحن نأخذ خيره، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر. إذاً: فنحن نثبت أننا نرى الله في الآخرة، ونثبت لله الصورة، وإثبات الصورة فيه خلاف بين أهل السنة والجماعة، كحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته)، وهذا الحديث مشكل؛ فقد اختلفوا في الهاء هنا هل تعود إلى آدم أو تعود إلى الله؟ وجاء حديث في سنن النسائي وابن خزيمة يضعفه: (خلق الله آدم على صورة الرحمن)، وأحمد وغيره صححوا هذا الحديث. فعند من صحح هذا الحديث يزول الإشكال الموجود في الحديث الأول: (خلق آدم على صورته) وذلك لأن الصورة هنا قد أضيفت لله. وهذه المسألة على قولين بين أهل السنة والجماعة: القول الأول: قول من ضعف هذا الحديث، فقال: (إن الله خلق آدم على صورته) يعني: على صورة آدم التي قص النبي صلى الله عليه وسلم لكم منها، وبين أن آدم خلق وكان طوله ستين ذراعاً. القول الثاني: وهذا القول أنا أتبناه، وقد تبناه كثير من أهل العلم، وهو: أن الصورة صفة ثابتة لله جل في علاه؛ لأن الله جل وعلا قال: (خلق آدم على صورة الرحمن)، أي: له عين، وله وجه، وله يد، وله رجل، وصفات الله هذه تليق بجلاله وكماله وبهائه وعظمته وقدرته، وأما يد آدم فتليق بعجزه ونقصه، فلا مشابهة ولا مماثلة. إذاً: فهذه المسألة فيها اختلاف بين أهل السنة والجماعة، ولذلك إذا قلنا بأن حديث (إن الله ينزل ليلة الجمعة إلى دار الدنيا بستمائة ألف ملك) موضوع أو فيه ركاكة في اللفظ لا لكونه فيه إثبات الرؤيا والكيفية والصورة، لا، ولكن الذي جعلنا ننتقد هذا الحديث هو الجزء الأول منه: (أنه ينزل بستمائة ألف ملك إلى دار الدنيا)، وذلك فيه معارضة صريحة لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك قوله: (فيجلس على كرسي من نور) فالجلوس ليس صفة من صفات الله جل في علاه، بل الذي ثبت أنه صفة من صفات الله هو الاستواء، وهناك فرق كبير بين الجلوس وبين الاستواء؛ لأن الذي يجلس يحتاج إلى ما يجلس عليه، والله جل في علاه كل الكون يحتاج إليه، فهو استوى على العرش، والعرش أحوج ما يكون لربه جل في علاه.

نقد حديث: (أن النبي رأى ربه في المنام في أحسن صورة شابا موقورا)

نقد حديث: (أن النبي رأى ربه في المنام في أحسن صورة شاباً موقوراً) أيضاً من هذه الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم ظلماً وعدواناً وزوراً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في المنام في أحسن صورة شاباً موقوراً، رجلاه في خضر، عليه نعلان من ذهب، في وجهه فراش من ذهب). وهذا الحديث روي من وجه آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني ربي في صورة شاب أمرد)، وهذا الحديث قيل بأن شيخ الإسلام ابن تيمية صححه، لكن لو راجعت لشيخ الإسلام ابن تيمية في بعض الأقاويل فقد يتوهم الإنسان بأنه صحح هذا الحديث، لكن الصحيح الراجح أن هذا الحديث باطل لا أصل له، وهو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكفى في ركاكة لفظه أنه شبه الخالق بالمخلوق، ونقول: إن الله جل وعلا يأتي على صورة، وذلك لحديث الآخرة: (فيأتيهم على غير الصورة التي يعرفونها فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك لست بربنا، فيقول: بينكم وبينه علامة؟ فيقولون: نعم، فيأتيهم الله على الصورة التي يعرفونها). فأولاً جاءهم على الصورة التي لا يعرفونها، ثم جاءهم في المرة الثانية على الصورة التي يعرفونها، فهذه دلالة على بطلان حديث: (أتاني ربي في صورة شاب أمرد).

نقد حديث: (لو حسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به)

نقد حديث: (لو حسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به) أيضاً حديث: (لو حسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به). وكثير من هذه الأحاديث احتج بها أهل البدع والضلالة، وهذا الحديث لا يمكن أن يقوله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يفتح الباب على مصراعيه للمشركين الذين يعتقدون في الأصنام، ويعتقدون في الأحجار والأشجار، ويتبركون بالأحجار والأشجار، فهذا الحديث يفتح باب الشرك على مصراعيه، فهو باطل موضوع على الله جل في علاه.

قاعدة: اشتمال الحديث على أمور منكرة ومستحيلة، وأمثلة ذلك

قاعدة: اشتمال الحديث على أمور منكرة ومستحيلة، وأمثلة ذلك المقياس الثامن هو: اشتمال الحديث على أمور منكرة وأمور مستحيلة، وهذا يجعل الإنسان يقول: لا يمكن أن يكون هذا الحديث من الإسلام. ومن هذه الأحاديث تدخل تحت مقياس الأمور المستحيلة التي لا يمكن أن تصدق بأن النبي صلى الله عليه وسلم قالها حديث: (قيل: يا رسول الله! مم ربنا؟ قال: لا من الأرض ولا من السماء، خلق خيلاً فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق). فمن وضع هذا الحديث عليه من الله ما يستحق، وبتر الله لسانه ويده، وعذبه في نار جهنم بما تجرأ به على الله. والمستحيل في هذا الحديث المفترى هو: كيف يكون الإله خالقاً ومخلوقاً؟! وكيف يكون خالقاً فيخلق بعد ذلك نفسه؟! وهل الله خالق نفسه؟! ولذلك انتقد بعض الأصوليين عندما قالوا: إننا يمكن أن نخصص العموم بالعقل، مثل قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، فقالوا: بالعقل يمكن أن نخصص هذا العموم؛ لأن الله لم يخلق نفسه، قلنا: هذا الكلام فيه سوء أدب مع الله، كيف يكون خالقاً ويخلق نفسه؟! هذا مستحيل، ولا يمكن أن يقبله عقل. والحديث الثاني: (رأيت ربي عز وجل على جمل أحمر عليه إزار، وهو يقول: قد غفرت قد غفرت) والأمر المستحيل في الحديث أنه يركب على الجمل، وكذلك أنه يلبس إزاراً كما يلبس الإنسان، وهذا تشبيه محض لله جل في علاه، فلا يمكن أن أنظر في سند هذا الحديث، بل لو أتاني شخص بهذا الحديث لصفعته على وجهه، وقلت له: جر أذيال الخيبة أمامك؛ لأن هذا لا يمكن أن يقال في حق الله جل في علاه. والحديث الثالث: (كانت خطيئة داود عليه السلام النظر). وهذا أيضاً منتقى من اليهود، قالوا: الخطيئة التي وقع فيها داود هي النظر لزوجة رجل وجندي عنده، فقد أعجب بهذه المرأة، فأراد قتل هذا الرجل فأدخله في الصفوف الأولية في القتال؛ حتى يقاتل، فيقتل فيظفر هو بالمرأة!! فبالله عليكم هل هذا خلق ومروءة رجل صالح من آحاد الناس؟! فكيف يكون خلقاً لنبي من أنبياء الله؟! فلذلك نقول: بأن هذه الأحاديث لا نحتاج فيها إلى النظر في أسانيدها؛ لأنها تنادي على نفسها بالوضع وبالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلى هنا ونكون قد انتهينا من القواعد المهمة في نقد متون السنة، وأرجو من الإخوة أن يراجعوا الأحاديث التي تكلمنا عنها، ويطبقوا القواعد عملياً، وكل حديث منها ينظرون في الآيات هل هي معارضة له من كل الوجوه أم لا؟ وينظرون في الحديث هل يمكن الجمع بينه وبين الحديث أم أن هناك معارضة كلية؟ وينظرون في مسألة العقل الذي ضابطه الأثر هل يصح أن يكون هذا الحديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وأيضاً إلى القواعد الأخيرة التي أخذناها ويطبق الواحد عليها هذا القانون؛ حتى يؤتيه الله الملكة في النظر من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيعرف أن هذا الحديث صحيح، وأن هذا حديث ضعيف.

§1/1