شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة

ناصر العقل

[1]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [1] الوسيلة المأمور بها شرعاً هي التقرب إلى الله سبحانه وتعالى على نحو ما شرع، بالدعاء والعبادة واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والتوسل بدعائه في حياته، واتباع سنته بعد مماته، كما أن من التوسل المشروع طلب الدعاء من الرجل الصالح، والكافر لا ينال شفاعة الشافعين؛ لأن الكفر مانع من الشفاعة.

مقدمة جامعة في التوسل

مقدمة جامعة في التوسل بسم الله الرحمن الرحيم قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: [الحمد لله؛ نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه حتى أتاه اليقين من ربه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً]. في هذا الاستفتاح ينبغي التنبيه إلى أن الشيخ في هذا الدرس بدأ بكتاب جديد في ثنايا المجلد الأول من الفتاوى، ولذلك افتتح بخطبة الحاجة، وهو كتاب التوسل والوسيلة، وهذا الكتاب كما يوجد ضمن الفتاوى، فهو يوجد مستقلاً ومطبوعاً في كتاب متداول، فينبغي التنبه إلى أنه في هذه الافتتاحية سيبدأ في كتاب جديد يشمل باقي المجلد الذي بين أيدينا.

ابتغاء الوسيلة إلى الله بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه

ابتغاء الوسيلة إلى الله بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ففرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق أهل الجنة وطريق أهل النار، وبين أوليائه وأعدائه. فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وقد أرسله الله إلى الثقلين الجن والإنس، فعلى كل أحد أن يؤمن به وبما جاء به ويتبعه في باطنه وظاهره، والإيمان به ومتابعته هو سبيل الله وهو دين الله، وهو عبادة الله، وهو طاعة الله، وهو طريق أولياء الله، وهو الوسيلة التي أمر الله بها عباده في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، فابتغاء الوسيلة إلى الله إنما يكون لمن توسل إلى الله بالإيمان بمحمد واتباعه. وهذا التوسل بالإيمان به وطاعته فرض على كل أحد باطناً وظاهراً، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته؛ في مشهده ومغيبه، لا يسقط التوسل بالإيمان به وبطاعته عن أحد من الخلق في حال من الأحوال بعد قيام الحجة عليه، ولا بعذر من الأعذار، ولا طريق إلى كرامة الله ورحمته والنجاة من هوانه وعذابه إلا بالتوسل بالإيمان به وبطاعته. وهو صلى الله عليه وسلم شفيع الخلائق، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فهو أعظم الشفعاء قدراً وأعلاهم جاهاً عند الله. وقد قال تعالى عن موسى: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69]، وقال عن المسيح: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [آل عمران:45]، ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم جاهاً من جميع الأنبياء والمرسلين، لكن شفاعته ودعاءه إنما ينتفع به من شفع له الرسول ودعا له، فمن دعا له الرسول وشفع له توسل إلى الله بشفاعته ودعائه، كما كان أصحابه يتوسلون إلى الله بدعائه وشفاعته، وكما يتوسل الناس يوم القيامة إلى الله تبارك وتعالى بدعائه وشفاعته صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً. ولفظ التوسل في عرف الصحابة كانوا يستعملونه في هذا المعنى]. قبل أن يبدأ الشيخ تفصيله في التوسل أحب أن أشير أنه في هذه المقدمة أشار الشيخ إلى مجمل الموضوع وسيفصل فيما بعد، فأشار إلى حقيقة التوسل التي سيتكلم عنها؛ لأن المخالفين خالفوا في مفهوم التوسل وحقيقته فوقعوا في البدع، وذكر بإيجاز أن حقيقة التوسل هو التقرب إلى الله عز وجل، وأن كل تقرب على نحو مشروع إلى الله بالعبادة والدعاء واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ذلك هو التوسل الحقيقي، وأنه يدخل في التوسل صور أيضاً هي نوع من التقرب، لكن يخفى أمرها على الناس، وقد أشار شيخ الإسلام هنا إلى شيء منها، وهي التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، أي: بطلب الدعاء منه، وهذه سيتكلم عنها الشيخ كثيراً؛ لأن الناس توهموا في مثل هذه الصورة أن التوسل يكون بذات النبي صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، وأن التوسل يكون بدعائهم من دون الله وصرف أنواع العبادة له أو لغيره من الخلق، فأراد أن يستفتح هذا الكتاب بهذه المقدمة التي ضمنها المفهوم الصحيح عن حقيقة التوسل، وأنه يعني التقرب إلى الله بعبادته بما شرع هو سبحانه وشرع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الصور الأخرى التي تخرج عن هذا المعنى ملحقة به وهي صور محدودة، كالتوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وما سيذكره أيضاً فيما بعد من طلب الدعاء من المسلمين أو من الرجل الصالح، وأن هذا ليس فيه توسل بالذوات، إنما فيه طلب لأمر مشروع، وهو أن تطلب من المسلم أن يدعو لك وهو قادر حي مستطيع، وهذا من باب التعاون على البر والتقوى، ومن باب النصيحة لعامة المسلمين وخاصتهم، لا من باب التبرك أو التوسل بالذوات كما يفعل كثير من الجهلة.

التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته مع الإيمان به

التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته مع الإيمان به قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والتوسل بدعائه وشفاعته ينفع مع الإيمان به، وأما بدون الإيمان به فالكفار والمنافقون لا تغني عنهم شفاعة الشافعين في الآخرة. ولهذا نهي عن الاستغفار لعمه وأبيه وغيرهما من الكفار، ونهي عن الاستغفار للمنافقين وقيل له: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون:6]، ولكن الكفار يتفاضلون في الكفر كما يتفاضل أهل الإيمان في الإيمان]. إذاً: لو كانت الوسيلة بيد النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً دون أن تقيد بإذن الله عز وجل وبشروطها لقبل استغفاره لمن لم يأذن الله له، لكن لما شرط قبول الاستغفار بشروطه الشرعية، صار الأمر لا يرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما يرجع إلى إذن الله عز وجل، وإلى ما شرعه الله لرسوله. والرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاه ربه عن أن يستغفر للمشركين، التزم هذا الأمر فلم يستغفر لهم، ولم يأمر به ولم يشرعه، لا كما يفعل كثير من المبتدعة الذين لا يفرقون بين هذا وذاك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن الكفار يتفاضلون في الكفر كما يتفاضل أهل الإيمان في الإيمان، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]، فإذا كان في الكفار من خف كفره بسبب نصرته ومعونته، فإنه تنفعه شفاعته في تخفيف العذاب عنه لا في إسقاط العذاب بالكلية، كما في صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: (قلت: يا رسول الله، فهل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم، هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)، وفي لفظ: (إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل نفعه ذلك؟ قال: نعم، وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح). وفيه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منهما دماغه) وقال: (إن أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه). وكذلك ينفع دعاؤه لهم بألا يعجل عليهم العذاب في الدنيا (كما كان صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، وروي أنه دعا بذلك: (أن اغفر لهم فلا تعجل عليهم العذاب في الدنيا)، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [النحل:61]. وأيضاً فقد يدعو لبعض الكفار بأن يهديه الله أو يرزقه فيهديه أو يرزقه، كما دعا لأم أبي هريرة حتى هداها الله، وكما دعا لدوس فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم) فهداهم الله. وكما روى أبو داود أنه استسقى لبعض المشركين لما طلبوا منه أن يستسقي لهم، فاستسقى لهم، وكان ذلك إحساناً منه إليهم يتألف به قلوبهم، كما كان يتألفهم بغير ذلك]. على أي حال في هذا المقطع لا يزال الشيخ يقدم لما سيفصله، ليبين بعض الصور الجائزة في التوسل والصور الممنوعة، وأن الصور التي ورد استثناؤها من القاعدة كشفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب لا يقاس عليها؛ لأنه لا يجوز القياس في أمور الغيب. ثم إن هذه الشفاعة التي ستحدث لـ أبي طالب لا تكون في مصيره، إنما تكون فيما يتعلق بتخفيف العذاب عنه، ونعلم أن أهل النار تتفاوت درجاتهم فيها. ثم إن هذه الصور التي تخرج عن القاعدة في ظاهرها صور محدودة جاءت عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. أما الصور الأخرى التي ابتدعها أهل الأهواء وتوسعوا في مفهوم الشفاعة فيها، فهي من الباطل الذي يتعارض مع أصول الشرع، لأنها قول على الله بغير علم، والقول على الله من أعظم الذنوب. والله أعلم.

بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاها عند الله تعالى

بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاهاً عند الله تعالى قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاهاً عند الله، لا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته، لكن دعاء الأنبياء وشفاعتهم ليس بمنزلة الإيمان بهم وطاعتهم، فإن الإيمان بهم وطاعتهم توجب سعادة الآخرة والنجاة من العذاب مطلقاً وعاماً، فكل من مات مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مطيعاً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ كان من أهل السعادة قطعاً، ومن مات كافراً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أهل النار قطعاً]. أراد الشيخ بذكر هذه الحقيقة تقرير أمر اتهم أهلُ الأهواء أهل السنة بأنهم ينكرونه أو قدحوا فيهم من هذا الجانب؛ ذلك أن أهل السنة والجماعة لما أنكروا على أهل البدع التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه من دون الله عز وجل في قبره وهو ميت، وأنكروا عليهم أنواعاً من التوسلات البدعية، وما زعموا أن له صلى الله عليه وسلم من الخصائص في الدنيا والآخرة ما لا يجوز إلا لله عز وجل، وحينما زعموا ذلك ظنوا أن من منع هذا فقد انتقص الرسول صلى الله عليه وسلم، فكأن الشيخ أراد أن يبين أن المسلمين اتفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاهاً عند الله، وأن هذا الجاه إنما هو منَّة من الله عز وجل وفضل، وأن هذا الجاه الذي للنبي صلى الله عليه وسلم مشروط بشروطه وبضوابطه التي ذكرها الله عز وجل، وأن شفاعته راجعة إلى إذن الله وإلى انطباق الشروط حتى يأذن الله بها، وأنه لا يعني قولنا بأنه لا يجوز تقديس النبي صلى الله عليه وسلم أو التوسل به انتقاصه أبداً، بل يعني ذلك تكريمه صلى الله عليه وسلم من أن يحدث باسمه أو في دينه ما لا يجوز عند الله عز وجل، فإنما ذلك لحماية جنابه ولحماية حقه صلى الله عليه وسلم، بعكس ما يظن أهل الأهواء. إذاً: اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاهاً عند الله، وأهل السنة هم أول من قرر ذلك، وأنه لا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، والشفاعة العظمى دليل ذلك، بل أدلة ذلك متواترة، فهو أفضل الخلق على الإطلاق صلى الله عليه وسلم؛ أفضلهم ذاتاً، وأفضلهم جاهاً، وأفضلهم اعتباراً، وأفضلهم قدراً ومنزلة، وأقربهم إلى الله عز وجل، لكن لا يعني ذلك أن تكون له خصائص لا تجوز إلا الله، أو أن يتوسل به التوسل البدعي؛ لأن ذلك من انتقاص قدره لا من تعظيمه.

انتفاع العباد بالشفاعة والدعاء له شروط وموانع

انتفاع العباد بالشفاعة والدعاء له شروط وموانع قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الشفاعة والدعاء، فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع، فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار، والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم، ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاهاً، فلا شفيع أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الخليل إبراهيم، وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له كما قال تعالى عنه: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41]]. بعد أن بين أن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس جاهاً، ذكر أن الشفاعة والدعاء لها شروط وموانع، فإن شفاعته لا تنفع الكفار، فأراد أن يمهد بهذا المقام حتى يذكر الأدلة من الكتاب والسنة على أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الشفعاء لا يمكن أن تشمل الكافرين أبداً، وأن الله عز وجل منع ذلك، وأن ذلك لا يعني الاستنقاص من جاه النبي صلى الله عليه وسلم أو جاه إبراهيم أو غيره من الأنبياء، إنما يعني أن الأمر راجع لله وحده، فله الأمر سبحانه لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه.

الأدلة على امتناع الشفاعة للكافرين

الأدلة على امتناع الشفاعة للكافرين قال رحمه الله تعالى: [وقد كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لـ أبي طالب اقتداء بإبراهيم، وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]، ثم ذكر الله عذر إبراهيم فقال: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:114 - 115]. وثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب أنت وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله عز وجل: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: انظر ما تحت رجليك فينظر، فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار)]. الذيخ، هو الذئب، وذكر الضبع، وكله من جنس الذئب. قال رحمه الله تعالى: [فهذا لما مات مشركاً لم ينفعه استغفار إبراهيم مع عظم جاهه وقدره، وقد قال تعالى للمؤمنين: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:4 - 5]، فقد أمر الله تعالى المؤمنين بأن يتأسوا بإبراهيم ومن اتبعه، إلا في قول إبراهيم لأبيه: ((لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)) فإن الله لا يغفر أن يشرك به. وكذلك سيد الشفعاء محمد صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي). وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت). وثبت عن أنس في الصحيح: (أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفى دعاه، فقال: إن أبي وأباك في النار). وثبت أيضاً في الصحيح عن أبي هريرة: (لما أنزلت هذه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً فاجتمعوا فعم وخص، فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها). وفي رواية عنه: (يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت رسول الله، سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً). وعن عائشة: (لما نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً ذات يو

الأسئلة

الأسئلة

معنى قوله في الحديث: (سأبلها ببلالها)

معنى قوله في الحديث: (سأبلها ببلالها) Q ما معنى: (سأبلها ببلالها)؟ A هذه ورد فيها تفسيرات كثيرة، لكن من أوضحها أنه سيبذل ما يستطيع لنفع رحمه في الدنيا، يعني: في الصلة الدنيوية فقط، أما الشفاعة فيما يتعلق بالهداية فلا ينفع رحمه بشيء، والشفاعة في الآخرة فيمن كان منهم كافراً فلا ينفع رحمه بشيء، فقيل: إن معنى (سأبلها ببلالها) هو ما يستطيع أن ينفعهم به في دنياهم، والدعاء لهم بالهداية والصلاح لا أكثر من ذلك.

[2]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [2] الشفاعة للعصاة من الموحدين ثابتة في نصوص الشريعة وإجماع أهل العلم، خلافاً للمبتدعة الذين أنكروها وردوها استدلالاً ببعض العمومات، ومقابل ذلك هناك من أثبت شريكاً ونداً مع الله من الملائكة والأنبياء والصالحين، وعبدوهم من دون الله ادعاءً أنهم شفعاء لهم عند الله. وأهل الحق والسنة التزموا النصوص وفسروها على ما فهمها الصحابة والتابعون وأهل العلم المتبعين لهم.

الشفاعة الجائزة وموقف المبتدعة منها

الشفاعة الجائزة وموقف المبتدعة منها قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وأما شفاعته ودعاؤه للمؤمنين فهي نافعة في الدنيا والدين باتفاق المسلمين، وكذلك شفاعته للمؤمنين يوم القيامة في زيادة الثواب ورفع الدرجات متفق عليها بين المسلمين، وقد قيل: إن بعض أهل البدعة ينكرها. وأما شفاعته لأهل الذنوب من أمته فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم. وأنكرها كثير من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والزيدية، وقال هؤلاء: من يدخل النار لا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها، وعند هؤلاء ما ثم إلا من يدخل الجنة فلا يدخل النار، ومن يدخل النار فلا يدخل الجنة، ولا يجتمع عندهم في الشخص الواحد ثواب وعقاب]. بهذا يبين الشيخ صور الشفاعة الجائزة أو الشفاعة المشروعة، والصورة الأولى هي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته للمؤمنين، فهي نافعة في الدنيا والدين باتفاق المسلمين. وكذلك شفاعته صلى الله عليه وسلم في الآخرة لأهل الكبائر من أمته وغيرها من الشفاعات المثبتة، ثم ذكر الشيخ المعارضين في هذه الشفاعة، وهم المعتزلة والخوارج، وبهذا نفهم بأن هذا سيتكرر في كتاب التوسل والوسيلة الذي نحن فيه، ونفهم أن أهل البدع في موضوع الشفاعة على طرفي نقيض، أي: أن لهم رأيين متقابلين، وهذا كثير عند أهل البدع في كل الأصول التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة، نجد أنهم على طرفي نقيض والحق بينهما، ولذلك يقول كثير من أهل السنة: إن الحق يتوسط في خصومة أهل البدع بعضهم مع بعض، يعني: تجد أدلة المانعين للشفاعة هي أدلة أهل السنة في نفي الشفاعة المنفية، والذين يطلقون الشفاعة أدلتهم هي أدلة أهل السنة في إثبات الشفاعة بشروطها، فتجد هؤلاء في رد بعضهم على بعض يخدمون السنة وهم لا يشعرون، لكن الحق وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فكما أن من أشار إليهم الشيخ قبل أكثر من درس من أهل التصوف وغيرهم يطلقون الشفاعة مطلقاً، حتى أنهم يطلبونها من الأموات الذين ليس لهم قدرة، ويطلبونها من الجمادات ويزعمونها لأوثانهم ومعبوداتهم، ولا يعترفون بشروطها عند الله عز وجل، فإنه يقابلهم آخرون ينكرون حتى الشفاعات المثبتة في الكتاب والسنة، وهم المعتزلة والزيدية والخوارج، فهؤلاء ينفون الشفاعات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها الشفاعة التي تواتر بها الخبر، وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته. إذاً: هؤلاء -أي: الذين نفوا الشفاعة-، أدلتهم حجة على الذين أطلقوها بلا شروط، وأدلة أولئك حجة على النافين أو الذين ينكرون الشفاعة بلا قيد ولا شرط.

الشفاعة في عصاة الموحدين

الشفاعة في عصاة الموحدين قال رحمه الله تعالى: [وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأئمة كالأربعة وغيرهم، فيقرون بما تواترت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله يخرج من النار قوماً بعد أن يعذبهم الله ما شاء أن يعذبهم، يخرجهم بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويخرج آخرين بشفاعة غيره، ويخرج قوماً بلا شفاعة]. هذا كله ورد في حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وغيرهما في الصحيحين، ومفاده: أن الله عز وجل يأذن للنبي صلى الله عليه وسلم بعدة شفاعات: منها شفاعته للخلائق جميعاً بأن يفصل الله بينهم القضاء، ومنها شفاعته صلى الله عليه وسلم لطوائف من أهل الجنة بأن تفتح لهم أبوابها بعد أن توصد أمامهم، ومنها شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، ومنها شفاعة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين والملائكة، ومنها شفاعة القرآن، وشفاعة الصيام كل هذه شفاعات يأذن الله بها ووردت أيضاً في الحديث، ثم بعد ذلك ثبت الخبر أن الله عز وجل حينما تحدث جميع هذه الشفاعات يقول الله عز وجل: شفع الملائكة وشفع النبيون ولم تبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيقبض قبضة بيده من أهل النار، فيخرجهم منها، ومنهم من لم يعمل خيراً قط، والله فعال لما يريد، له في عباده شئون، ويفعل في خلقه ما يشاء، ورحمته وسعت كل شيء، وذلك كله إلى الله عز وجل، وفي ذلك إعلام للعباد بألا يتألوا على الله، وليعلموا أن الأمور بيد الله، وليس للعباد أن يحكموا بأحكام على غيرهم، وليس لهم بأن يحكموا أفعال الله عز وجل بمقاييسهم، فالله فعال لما يريد، لو عذب الخلق جميعاً فله ذلك، ولو رحمهم جميعاً فله ذلك، لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه. إذاً: بعد استنفاذ الشفاعات يحدث هذا الذي يحدث، وهو أن الله عز وجل يخرج أقواماً من النار لم يعملوا خيراً قط. وقوله: (لم يعملوا خيراً قط)، هذه كلمة مجملة، اختلف العلماء في تقريرها، وهل يشمل ذلك من لم يكن عنده إيمان ألبتة؛ لأن هذا ظاهر النصوص؛ لأنه ورد في الحديث نفسه، أنه قال: (أخرجوا من في قلبه مثقال شعيرة مثقال خردلة مثقال ذرة من النار)، والذرة هي الهباء التي لا يكاد يكون لها وزن، ثم بعد ذلك تأتي هذه القصة، فالله أعلم ما تفسير ذلك، وبعضهم فسره بتفسيرات ليس عليها دليل، منهم من قال: أن هؤلاء هم الذين أسلموا في آخر لحظة من حياتهم ولم يتمكنوا من أن يعملوا خيراً قط، لكن هذا يرد بأن الإسلام يجب ما قبله، وأن من أسلم بدل الله سيئاته حسنات، فتأتي كالجبال بإذن الله، لكن ومع ذلك تبقى المسألة محتملة، الله أعلم بمراده.

أدلة المنكرين للشفاعة

أدلة المنكرين للشفاعة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واحتج هؤلاء المنكرون للشفاعة بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:48]، وبقوله: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:123]، وبقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254]، وبقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18]، وبقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]].

سبب خطأ المبتدعة في رد الشفاعة

سبب خطأ المبتدعة في رد الشفاعة هذه النصوص لو أخذت بمفردها دون إرجاعها إلى النصوص الأخرى، لكان ظاهرها يؤيد هؤلاء المعارضين الذين أنكروا الشفاعة. وبعبارة أخرى: لو أخذت هذه النصوص مجردة عن القواعد السليمة لتفسير النصوص؛ وهي: تفسير القرآن بالقرآن، تفسير القرآن بالسنة، تفسير القرآن بفهوم الصحابة العرب الأقحاح الذين نزل عليهم القرآن، لكان ظاهرها يدل على قولهم بإنكار الشفاعة، لكن الصحيح والذي عليه أهل الحق، أن هذه النصوص لابد أن تفسر بالنصوص الأخرى؛ التي تذكر شروط الشفاعة والتي تستثني، ثم إن هذه النصوص مفسرة بفهم النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره لها، ومفسرة بأقواله التي أثبتت الشفاعة على نحو آخر بشروط وضوابط، وهذا هو منهج السلف؛ أنهم لا يعرضون نصوص الوعد دون نصوص الوعيد، ولا يعرضون النصوص دون تحكيم القواعد الموضحة لها والمبينة والمفسرة، بل لا يضربون آيات الله بعضها ببعض، فإذا جاء نص ظاهره مثل هذا النص الذي يمنع الشفاعة مطلقاً، فلا يمكن تفسيره بمعزل عن النص الآخر الذي يثبت الشفاعة بشروطها. وهذا المنهج هو الميزان الذي سلم به أهل السنة والجماعة في جميع نصوص الشرع، في الشفاعة وفي غيرها؛ وهو أنهم يأخذون بجميع النصوص، وهذا منهج اختل عند كثير من الناس في العصر الحاضر مع الأسف، لما قل علمهم وقل فقههم واعتمدوا على آرائهم وعقولهم، فصاروا يخبطون في فهمهم لنصوص الشرع وفي تفسيرهم لها، فيقعون فيما وقعت فيه الفرق أهل الأهواء والبدع.

جواب أهل السنة على أدلة المنكرين للشفاعة

جواب أهل السنة على أدلة المنكرين للشفاعة قال رحمه الله تعالى: [وجواب أهل السنة أن هذا يراد به شيئان: أحدهما: أنها لا تنفع المشركين، كما قال تعالى في نعتهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:42 - 48] فهؤلاء نفى عنهم نفع شفاعة الشافعين لأنهم كانوا كفاراً. والثاني: أنه يراد بذلك نفي الشفاعة التي يثبتها أهل الشرك، ومن شابههم من أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، الذين يظنون أن للخلق عند الله من القدر أن يشفعوا عنده بغير إذنه، كما يشفع الناس بعضهم عند بعض فيقبل المشفوع إليه شفاعة الشافع لحاجته إليه رغبة ورهبة، وكما يعامل المخلوق المخلوق بالمعاوضة. فالمشركون كانوا يتخذون من دون الله شفعاء من الملائكة والأنبياء والصالحين، ويصورون تماثيلهم فيستشفعون بها ويقولون: هؤلاء خواص الله، فنحن نتوسل إلى الله بدعائهم وعبادتهم ليشفعوا لنا، كما يتوسل إلى الملوك بخواصهم لكونهم أقرب إلى الملوك من غيرهم، فيشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك، وقد يشفع أحدهم عند الملك فيما لا يختاره فيحتاج إلى إجابة شفاعته رغبة ورهبة، فأنكر الله هذه الشفاعة فقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]. وقال عن الملائكة: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:26 - 28]. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]. وقال تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51]. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:4]. وقال تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94]، وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:43 - 45]. وقال تعالى: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:108 - 109]. وقال صاحب يس: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُو

الأسئلة

الأسئلة

خلود أهل النار وعدم خروجهم منها

خلود أهل النار وعدم خروجهم منها Q هل أهل النار يخلدون فيها؟ A هذا هو ما ثبت في النصوص الشرعية، أن أهل النار الكفار مخلدون فيها.

بطلان القول بفناء الجنة والنار

بطلان القول بفناء الجنة والنار Q هل النار تفنى وكذلك الجنة؟ A هذا فرع عما سبق، فإذا قلنا: بأن أهل النار الخلص خالدون فيها، فكذلك من الضروري ألا تفنى النار، وكذلك بالضرورة الجنة، فنحن نعلم أن أهل الجنة مخلدون فيها، فمن الضروري أيضاً ألا تفنى الجنة، فهما رأيان متلازمان، أو قولان متلازمان، وهذا قول أهل السنة والجماعة. والله أعلم.

[3]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [3] شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة متنوعة ومتعددة، وهي خاصة بالموحدين من هذه الأمة، أما المشرك ولو كان محباً ومعظماً للنبي صلى الله عليه وسلم فهو محروم وممنوع من الشفاعة، ومهما توسل بالأنبياء أو الملائكة أو الصالحين واستشفع بهم فلا ينفعه شيء من ذلك.

أقسام التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

أقسام التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: [فصل: ولفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور: يراد به أمران متفق عليهما بين المسلمين]. الظاهر أنه يقصد التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن حديثه فيما بعد يتعلق أكثره بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك استطرد إلى التوسل بالأنبياء والملائكة، لكن في هذا التقسيم الذي بين أيدينا، وهو أن لفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور يعني به التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وغيره يقاس عليه، إلا أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم له بعض الخصوصيات، لكن من حيث التنظير العام ما بعده يقاس عليه.

التوسل بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ودعائه وشفاعته

التوسل بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ودعائه وشفاعته قال رحمه الله تعالى: [أحدهما: هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته. والثاني: دعاؤه وشفاعته، وهذا أيضاً نافع يتوسل به من دعا له وشفع فيه باتفاق المسلمين، ومن أنكر التوسل به بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتداً. ولكن التوسل بالإيمان به وبطاعته هو أصل الدين، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام للخاصة والعامة، فمن أنكر هذا المعنى فكفره ظاهر للخاصة والعامة. وأما دعاؤه وشفاعته وانتفاع المسلمين بذلك فمن أنكره فهو أيضاً كافر، لكن هذا أخفى من الأول، فمن أنكره عن جهل عرف ذلك، فإن أصر على إنكاره فهو مرتد، أما دعاؤه وشفاعته في الدنيا فلم ينكره أحد من أهل القبلة]. هذا الكلام كله يتعلق بالأمرين الأولين من التوسل به صلى الله عليه وسلم، وهما من التوسل المشروع، وكله متعلق بالتوسل به صلى الله عليه وسلم في حياته، فالشيخ لم يفصح عن النوع الثالث، لكنه ذكره ضمناً في الحديث عن الشفاعة يوم القيامة، أي: ذكر جزءاً من النوع الثالث.

التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته

التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته والنوع الثالث فيه ممنوع وفيه مشروع، وهو التوسل به صلى الله عليه وسلم وهو ميت، فالتوسل به في الدنيا وهو ميت ممنوع قطعاً، فإنه صلى الله عليه وسلم بعدما مات انقطع التوسل به، ولا يجوز دعاؤه، ولا يجوز نداؤه، فمن الشرك صرف أي نوع من أنواع العبادة له ودعاؤه ونحو ذلك، فهذا في الدنيا. أما التوسل به وهو ميت -يعني: يوم القيامة- ففيه تفصيل: إن قصد به الشفاعة العظمى أو الشفاعة لأهل الكبائر فهذا يقر له بشروطه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع الشفاعة التي وعده الله بها بشروطها. إذاً: فالنوع الثالث: هو الاستشفاع به صلى الله عليه وسلم وهو ميت، فأغلب صوره شركية وبدعية، وكلها فيما يتعلق بالاستشفاع به في الدنيا وهو ميت، فلم يعد الاستشفاع به جائزاً إطلاقاً، فهو إما بدعة مغلظة وإما شرك، وهو الغالب.

عقيدة أهل السنة في إثبات الشفاعة في الآخرة

عقيدة أهل السنة في إثبات الشفاعة في الآخرة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الشفاعة يوم القيامة فمذهب أهل السنة والجماعة وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم: أن له شفاعات يوم القيامة خاصة وعامة، وأنه يشفع فيمن يأذن الله له أن يشفع فيه من أمته من أهل الكبائر، ولا ينتفع بشفاعته إلا أهل التوحيد المؤمنون دون أهل الشرك، ولو كان المشرك محباً له معظماًَ له لم تنقذه شفاعته من النار، وإنما ينجيه من النار التوحيد والإيمان به، ولهذا لما كان أبو طالب وغيره يحبونه ولم يقروا بالتوحيد الذي جاء به لم يمكن أن يخرجوا من النار بشفاعته ولا بغيرها. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه). وعنه في صحيح مسلم أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً). وفي السنن عن عوف بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً) وفي لفظ قال: (ومن لقي الله لا يشرك به شيئاً فهو في شفاعتي). وهذا الأصل -وهو التوحيد- هو أصل الدين الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين ديناً غيره، وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، كما قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36]. وقد ذكر الله عز وجل عن كل من المرسلين أنه افتتح دعوته بأن قال لقومه: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)). وفي المسند عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم). والمشركون من قريش وغيرهم الذين أخبر القرآن بشركهم واستحل النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم وسبى حريمهم وأوجب لهم النار، كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السماوات والأرض كما قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [لقمان:25]، وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61]، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:84 - 91]. وكان المشركون الذين جعلوا معه آلهة أخرى مقرين بأن آلهتهم مخلوقة، ولكنهم كانوا يتخذونهم شفعاء ويتقربون بعبادتهم إليه، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]، وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّه

أقسام الموصوفين بالشرك

أقسام الموصوفين بالشرك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بين سبحانه بالمثل الذي ضربه لهم: أنه لا ينبغي أن يجعل مملوكه شريكه فقال: هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم، فأنتم فيه سواء يخاف أحدكم مملوكه كما يخاف بعضكم بعضاً، فإذا كان أحدكم لا يرضى أن يكون مملوكه شريكه فكيف ترضونه لأنفسكم؟ وهذا كما كانوا يقولون: له بنات، فقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} [النحل:62]، وقد قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل:58 - 60]. والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم صنفان: قوم نوح وقوم إبراهيم، فقوم نوح عليه السلام كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين، ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم، وقوم إبراهيم عليه السلام كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر، وكل من هؤلاء يعبدون الجن، فإن الشياطين قد تخاطبهم وتعينهم على أشياء وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة وإن كانوا في الحقيقة إنما يعبدون الجن؛ فإن الجن هم الذين يعينونهم ويرضون بشركهم، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41]. والملائكة لا تعينهم على الشرك لا في المحيا ولا في الممات ولا يرضون بذلك، ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم في صور الآدميين، فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم: أنا إبراهيم، أنا المسيح، أنا محمد، أنا الخضر، أنا أبو بكر، أنا عمر، أنا عثمان، أنا علي، أنا الشيخ فلان وقد يقول بعضهم عن بعض: هذا هو النبي فلان، أو هذا هو الخضر، ويكون أولئك كلهم جناً يشهد بعضهم لبعض، والجن كالإنس، فمنهم الكافر ومنهم الفاسق ومنهم العاصي وفيهم العابد الجاهل، فمنهم من يحب شيخاً فيتزيا في صورته ويقول: أنا فلان، ويكون ذلك في برية ومكان قفر، فيطعم ذلك الشخص طعاماً ويسقيه شراباً أو يدله على الطريق، أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة، فيظن ذلك الرجل أن نفس الشيخ الميت أو الحي فعل ذلك، وقد يقول: هذا سر الشيخ وهذه رقيقته وهذه حقيقته، أو هذا ملك جاء على صورته، وإنما يكون ذلك جنياً، فإن الملائكة لا تعين على الشرك والإفك والإثم والعدوان، وقد قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57]. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالعزير والمسيح، فبين الله تعالى أن الملائكة والأنبياء عباد الله، كما أن الذين يعبدونهم عباد الله، وبين أنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه كما يفعل سائر عباده الصالحين].

أنواع الاستشفاع بالملائكة والنبيين

أنواع الاستشفاع بالملائكة والنبيين قال رحمه الله تعالى: [والمشركون من هؤلاء قد يقولون: إنا نستشفع بهم أي نطلب من الملائكة والأنبياء أن يشفعوا، فإذا أتينا قبر أحدهم طلبنا منه أن يشفع لنا، فإذا صورنا تمثاله -والتماثيل إما مجسدة وإما تماثيل مصورة كما يصورها النصارى في كنائسهم- قالوا: فمقصودنا بهذه التماثيل تذكر أصحابها وسيرهم، ونحن نخاطب هذه التماثيل ومقصودنا خطاب أصحابها ليشفعوا لنا إلى الله، فيقول أحدهم: يا سيدي فلان، أو يا سيدي جرجس أو بطرس أو يا ستي الحنونة مريم، أو يا سيدي الخليل أو موسى بن عمران أو غير ذلك، اشفع لي إلى ربك، وقد يخاطبون الميت عند قبره: سل لي ربك، أو يخاطبون الحي وهو غائب كما يخاطبونه لو كان حاضراً حياً، وينشدون قصائد، يقول أحدهم فيها: يا سيدي فلان! أنا في حسبك أنا في جوارك، اشفع لي إلى الله، سل الله لنا أن ينصرنا على عدونا، سل الله أن يكشف عنا هذه الشدة، أشكو إليك كذا وكذا، فسل الله أن يكشف هذه الكربة. أو يقول أحدهم: سل الله أن يغفر لي، ومنهم من يتأول قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64]، ويقولون: إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة، ويخالفون بذلك إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر المسلمين، فإن أحداً منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئاً، ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم، وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء، وحكوا حكاية مكذوبة على مالك رضي الله عنه سيأتي ذكرها وبسط الكلام عليها إن شاء الله تعالى]. يقصد بذلك أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابعيهم وأئمة السلف في القرون الثلاثة الفاضلة، لم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله شيئاً ولا يطلب منه شيئاً لا لجلب نفع ولا لدفع ضر، هذا بإجماع أهل التحقيق من المسلمين، مع أن الصحابة تحدث لهم من الكروب والكوارث والمصائب الخاصة والعامة ما يستدعي أن يطلبوا لو كان ذلك مشروعاً من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله، والمعنى أن الصحابة لم يكونوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم، فهذه قاعدة عظيمة يجب استصحابها، وهي رد قاطع بين على جميع أهل الأهواء والبدع الذين يمارسون هذه الشركيات عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يرد ولم ينقل عن أحد من الأئمة المعتبرين أنه كان يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجيز الوقوف لدعائه أو يطلب منه شيئاً لا من أمر الدين ولا من أمر الدنيا، ولا يطلب منه أن يدعو الله له. بعضهم يقول: نعم، أنا لا أطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ لكن أطلب منه أن يدعو الله أن يفرج عن المسلمين مثلاً. فنقول: هذا لم يحدث من الأئمة السابقين، بل كانوا إذا حدث أمر يتوجهون إلى القبلة ويدعون الله عز وجل جماعة وأفراداً مع قربهم من القبر. إذاً: هذا إجماع على أن السلف لم يكن عندهم شيء من هذه البدع بإطلاق، فضلاً عن أن يقروها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وفي مغيبهم، وخطاب تماثيلهم، هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين من غير أهل الكتاب، وفي مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به الله تعالى، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فإن دعاء الملائكة والأنبياء بعد موتهم وفي مغيبهم وسؤالهم والاستغاثة بهم والاستشفاع بهم في هذه الحال، ونصب تماثيلهم بمعنى طلب الشفاعة منهم هو من الدين الذي لم يشرعه الله ولا ابتعث به رسولاً ولا أنزل به كتاباً، وليس هو واجباً ولا مستحباً باتفاق المسلمين، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين، وإن كان ذلك مما يفعله كثير من الناس ممن له عبادة وزهد، ويذكرون فيه حكايات ومنامات، فهذا كله من الشيطان، وفيهم من ينظم القصائد في دعاء الميت والاستشفاع به والاستغاثة، أو يذكر ذلك في ضمن مديح الأنبياء والصالحين، فهذا كله ليس بمشروع ولا واجب ولا مستحب باتفاق أئمة المسلمين، ومن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع بدعة سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين، فإن الله لا يعبد إلا بما هو واجب أو مستحب. وكثير من الناس يذكرون في هذه الأنواع من الشرك منافع ومصالح، ويحتجون عليها بحجج من جهة الرأي أو الذوق، أو من جهة التقليد والمنامات ونحو ذلك. وجواب هؤلاء من طريقين: أحدهما: الاحتجاج بالنص والإجماع. والثاني: القياس والذوق والاعتبار ببيان ما في ذلك من الفساد، فإن فساد ذلك راجح على

الأسئلة

الأسئلة

الحكم على الجماعات والأحزاب

الحكم على الجماعات والأحزاب Q هذا سؤال يتكرر عن بعض الجماعات، وأحياناً يكون عن جماعات بأسمائها؟ A قد لا يكون لمثل هذا السؤال موجب لمثل هذا الدرس، لكن أحب أن أجيب بجواب مجمل يشمل جميع الجماعات القائمة في الساحة: أولاً: نحن نعلم أن السنة والجماعة ليست شعاراً ولا حزباً ولا مناهج ولا تنسب إلى أشخاص ولا تنسب إلى فئات، السنة والجماعة وصف لكل من كان على الحق واقتدى بأئمة الدين الأحياء والأموات، وليس للسنة والجماعة شعار ولا وصف إلا الأوصاف الشرعية؛ فمن رفع شعاراً غير السنة والجماعة وشعار الإسلام العام زعماً أنه هو شعار السنة والجماعة فليس معه دليل. ويتفرع عن هذا القاعدة الأخرى، وهي أن أي انتماء لأي اسم أو وصف غير الإسلام في عمومه أو غير السلف والسنة على وجه الخصوص فإنما هو بدعة، أي: أن الانتماء لهذه الأوصاف والأسماء والأشكال والجماعات والرايات والأحزاب والشعارات فهو بدعة بحد ذاته، حتى وإن كان على الحق، لأن مجرد الانتساب لغير الإسلام والسنة والجماعة والسلف بدعة؛ لأنها أسماء شرعية وردت فيها النصوص والآثار وأجمع عليها سلف الأمة. يرد إشكال وهو ما يعمله كثير من المسلمين الآن من مقتضى أحوال العصر ووسائله ومن الأعمال المؤسسية، كأن يعمل الإنسان في مؤسسة حكومية أو مؤسسة خيرية أو مؤسسة خاصة؛ فهذه مسألة لا تدخل في الشعارات إلا إذا تعصب لها وعادى ووالى، واعتبر مناهجها مناهج متميزة عن بقية السنة والجماعة، فإذا وجد التميز وجد الابتداع، وكذلك إذا وجد الولاء والبراء حتى وإن كان لمؤسسة تجارية، أما مجرد العمل المؤسسي فليس بدعة، كأن يعمل مثلاً في مؤسسة الحرمين أو في الرابطة أو في الندوة أو في إحدى المؤسسات التطوعية الخالصة أو الرسمية، أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو متعاون مع هيئة بطرق مشروعة أو نحو ذلك، فهذا مادام في حدود أعمال الخير المباحة المشروعة فليس من الانتماءات المبتدعة، لكن إذا كان الانتماء لجماعة أو حزب أو منهج أو شعار، أو اتجاه أو نحو ذلك، فالأصل فيه الابتداع، فإن وافق الحق فيكون أقرب إلى السنة، وإلا فيزداد ابتداعاً مع ابتداع. أرجو أن تكون القاعدة واضحة، بصرف النظر عما سأل عنه السائل من تشخيص بعض الجماعات.

معنى قوله: (يوم لا ظل إلا ظله)

معنى قوله: (يوم لا ظل إلا ظله) Q ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (يوم لا ظل إلا ظله)؟ A يسأل عن الظل، هذه من الأخبار عن الله عز وجل، والأخبار يجب الإيمان بها كما جاءت، وأن الظل يثبت لله عز وجل حقيقة على ما يليق بجلال الله، لكن هل يكون صفة أو لا يكون، هذه مسألة لا يلزم أن تكون صفة إنما هي خبر عن الله سبحانه.

مصادر العلم غير الصحيحة

مصادر العلم غير الصحيحة Q ذكرت مصادر العلم غير الصحيحة، فما هي مصادر العلم غير الصحيحة؟ A كأن السائل يشير إلى قولي بأن بعض طلاب العلم يأخذ العلم عن طريق القراءة الشخصية وعن الشريط، أقول: الاكتفاء بذلك خطر، أما أن تكون هذه من وسائل تحصيل العلم فنعم، فهي من الوسائل التي هيأها الله للأمة، وهي وسائل مباحة، لكن يجب أن يكون أصل طلب العلم على شيخ أو على طالب علم متمكن هذا هو الأصل، بمعنى: لا يستغني عن أن يتلقى العلم عن أهله، ومع ذلك إذا توفرت له مصادر أخرى رافدة تقوي علمه وتنشطه فهذا لا حرج فيه، فالسلف كانوا يأخذون عن العلماء ويقرءون الكتب، ولم يكن في ذلك حرج، لكن الاقتصار على الوسائل دون أخذ العلم عن مصادره الصحيحة أو مصدره الأصلي وهم العلماء، هذا في الغالب أنه يوجد في شخصية طالب العلم اضطراب وخلل.

[4]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [4] من المعلوم ضرورة من دين الإسلام وعليه إجماع المسلمين أن الأنبياء والرسل لم يدعوا أقوامهم وأممهم إلى دعاء الملائكة والأنبياء والصالحين، وإنما أمروهم بتحقيق العبودية لله وحده لا شريك له، فلا يدعى إلا الله، ولا يرجى إلا هو، ولا يستغاث إلا به جل وعلا، وقد جاءت النصوص ببيان هذا الأمر، وسدت جميع الذرائع والوسائل التي قد تفضي إلى أي نوع من أنواع الشرك.

استدلال المجيزين للتوسل الشركي بالرأي والذوق والرد عليهم

استدلال المجيزين للتوسل الشركي بالرأي والذوق والرد عليهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكثير من الناس يذكرون في هذه الأنواع من الشرك منافع ومصالح، ويحتجون عليها بحجج من جهة الرأي أو الذوق، أو من جهة التقليد والمنامات ونحو ذلك]. يقصد ما يفعله المبتدعة والذين يقعون في البدع والشركيات من الاستعانة بغير الله عز وجل والاستغاثة والاستشفاع بالأحياء وبالأموات وبالأشجار والأحجار والمشاهد والآثار، والذين يعولون في هذه الأمور على المنامات والأحلام، ويرون أن من مظاهر الزهد والورع والعبادة التعلق بالأولياء والصالحين، وبعضهم يعبد الملائكة إلى آخره، هذه الأنواع وهذه الشفاعات هي التي يتكلم فيها الشيخ، ويقول: أن بعض الناس يذكرون فيها منافع ومصالح تحدث لبعضهم، وهذا من الابتلاء والفتنة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وجواب هؤلاء من طريقين: أحدهما: الاحتجاج بالنص والإجماع، والثاني: القياس والذوق والاعتبار ببيان ما في ذلك من الفساد، فإن فساد ذلك راجح على ما يظن فيه من المصلحة. أما الأول: فيقال: قد علم بالاضطرار والتواتر من دين الإسلام وبإجماع سلف الأمة وأئمتها أن ذلك ليس بواجب ولا مستحب، وعلم أنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين]. ستلاحظون أن الشيخ من أجل إحكام الاستدلال، سيذكر الاستدلال على باطلهم من وجهين، وهذا في الحقيقة يعتبر من أقوى وجوه الاستدلال، حيث يضيق على الخصم ويحكم الأمر حتى لا يستطيع أن يفر. فالوجه الأول: أن كل عبادة من عباداتهم لا دليل عليها من الكتاب والسنة ولا من آثار السلف. وسيرجع عليهم مرة ثانية ويقول: قد قام الدليل على ضد ما تقولون، فهو بعد أن فرغهم من الاستدلال، رجع عليهم مرة أخرى، فذكر أن الأدلة متواترة ومتضافرة على تبديع أعمالكم والقول بشركية ما كان منها شركاً. هذه طريقة محكمة، لأنه كان كثير من الناس يبدأ بالاستدلال على منعها، ثم يذكر أنه ليس عندهم دليل، لكن الشيخ عكس من أجل أن يهيئ أذهانهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعلم أنه لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ولا يستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم ولا في مغيبهم، فلا يقول أحد: يا ملائكة الله اشفعوا لي عند الله، سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا. وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين: يا نبي الله، يا رسول الله! ادع الله لي، سل الله لي، استغفر الله لي، سل الله لي أن يغفر لي أو يهديني أو ينصرني أو يعافيني. ولا يقول: أشكو إليك ذنوبي، أو نقص رزقي، أو تسلط العدو علي، أو أشكو إليك فلاناً الذي ظلمني. ولا يقول: أنا نزيلك، أنا ضيفك، أنا جارك، أو أنت تجير من يستجير، أو أنت خير معاذ يستعاذ به. ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور، ولا يكتب أحد محضراً أنه استجار بفلان ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر، ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى في كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين أو في مغيبهم. فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه، وآله وسلم لم يشرع هذا لأمته. وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئاً من ذلك، بل أهل الكتاب ليس عندهم عن الأنبياء نقل بذلك، كما أن المسلمين ليس عندهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم نقل بذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحاب نبيهم والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها: أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند قبره أن يشفع له، أو يدعو لأمته، أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين. وكان أصحابه يبتلون بأنواع من البلاء بعد موته، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولا قبر الخليل، ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول: نشكو إليك جدب الزمان، أو قوة العدو، أو كثرة الذنوب، ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم. بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين]. أصل هذا كله أن العبادة توقيفية، فما لم يرد به نص في أمور العبادة لا يجوز العمل به؛ لأنه لا يُعبد الله إلا بما شرع، ولذلك وصف الله عز وجل المبتدعة والمشركين بأنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، فلا يجوز أن يُعبد الله إلا بما أذن الله به مما شرعه وشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم.

ضابط البدعة

ضابط البدعة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهي بدعة سيئة، وهي ضلالة باتفاق المسلمين. ومن قال في بعض البدع: إنها بدعة حسنة، فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي أنها مستحبة، فأما ما ليس بمستحب ولا واجب فلا يقول أحد من المسلمين: إنها من الحسنات التي يتقرب بها إلى الله].

مسالك أهل البدع في تقرير البدع

مسالك أهل البدع في تقرير البدع أهل البدع قد يتمسكون أحياناً بالقشة، كالقول بأن هناك بدعة حسنة وبدعة سيئة، مع أنه لم يرد فيها تفصيل عند السلف إلا في مثال واحد وهو: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما استأنف صلاة التراويح، أي أمر بها ولم تكن تُفعل بعد أن توقف عنها النبي صلى الله عليه وسلم، حينما استأنفها وعمل بها قال له أحد الصحابة أو أحد الناس: إن هذه بدعة، فقال عمر: نعمت البدعة هذه، وسبب ذلك ما أشار إليه الشيخ أنها ليست بدعة بإطلاق، بل هذا من باب التجوّز في إطلاق البدعة، لأنه هنا قام دليل شرعي على أنها مستحبة، فإذاً لها أصل ولها دليل فلا يقاس عليها غيرها، فهي أولاً مما عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم وتوقف عنها، وعلل توقفه بخوف أن تجب على الناس، فكأن هذا فيه إشارة إلى أنه حينما ينقطع الوحي بعد وفاته لا مانع من الرجوع إليها، هذا يُفهم من فحوى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم. الأمر الثاني: أن الذي شرعها من الخلفاء الراشدين بناء على أن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بأصلها، فكانت من سنة الخلفاء الراشدين، فهنا سماها عمر بدعة حسنة من باب التجوز والمشاكلة والرد على اللفظ بالمثل، وهذا كثير في لغة العرب، ولم يقصد عمر أنها بدعة على المعنى الشرعي والاعتباري. فعلى هذا هي مسألة فردية لها تفسيرات ولها ضوابط ولها أصول شرعية لا يقاس عليها غيرها إطلاقاً، حتى وإن فرضنا أنا سميناها بدعة حسنة، مع أن عمر ما قال: بدعة حسنة، وإنما قال: نعمت البدعة؛ فلو فرضنا أنا بقينا على هذا اللفظ فإن هذا لا يتجاوز هذه القضية -وهي صلاة التراويح- لأسباب شرعية معلومة، وهي كون النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ثم توقف عنها لتعليل انتهى بعد وفاته، وهو خشية أن تُفرض.

التقرب إلى الله بالبدع اتباع للشيطان

التقرب إلى الله بالبدع اتباع للشيطان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن تقرب إلى الله بما ليس من الحسنات المأمور بها أمر إيجاب ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان، وسبيله من سبيل الشيطان. كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطاً وخط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال: هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]). فهذا أصل جامع يجب على كل من آمن بالله ورسوله أن يتبعه، ولا يخالف السنة المعلومة، وسبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، باتباع من خالف السنة والإجماع القديم، لا سيما وليس معه في بدعته إمام من المسلمين، ولا مجتهد يُعتمد على قوله في الدين، ولا من يُعتبر قوله في مسائل الإجماع والنزاع، فلا ينخرم الإجماع بمخالفته، ولا يتوقف الإجماع على موافقته. ولو قدر أنه نازع في ذلك عالم مجتهد لكان مخصوماً بما عليه السنة المتواترة وباتفاق الأئمة قبله، فكيف إذا كان المنازع ممن ليس من المجتهدين ولا معه دليل شرعي، وإنما اتبع من تكلم في الدين بلا علم، ويجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير؟ يقصد الشيخ بهذا أشياء مفيدة جداً أشار إليها بإيجاز، وهي أولاً: أن قوله: (ولو قدر أنه نازع في ذلك عالم) هنا يشير إلى زلّة العالم، وقال: (لو قُدّر)، أي أنه افتراض فلو قُدر أن عالماً من العلماء نازع أو خالف عموم أهل السنة في قضية من القضايا، فلا يكون هذا العالم حجة، لماذا؟ لأنه: أولاً: ليس بمعصوم. ثانياً: تُحمل المخالفة على أنها زلة من العالم، والزلة من العالم لا تلغي اعتباره وعلمه وقدره، لكنه لا يُتبع على زلته، فهو مخصوم بالسنة المتواترة وبما عليه إجماع السلف. ثالثاً: أنه لا يُعرف أن أحداً من أهل العلم المعتبرين صار على غير نهج السلف وخفي أمره على الأمة، لا بد أن يتميّز الحق عن الباطل بعموم العلماء، قد يزل منهم الواحد والاثنان لكن يتبين المنهج بالآخرين، هذا أمر. رابعاً: إن من العلماء من وقع في زلات مفردة وليست مناهج، فقد يقول عالم من العلماء بقول من أقوال المرجئة؛ لكن لا يقول بجميع أقوال المرجئة، قد يقول عالم من العلماء بقول من أقوال الخوارج؛ لكن لا يقول بجميع أقوال الخوارج، قد يقول عالم من العلماء بقول من أقوال القدرية؛ لكن لا يقول بجميع أقوال القدرية وهكذا إذاً: معنى كلام الشيخ: فكيف إذا كان المنازع ممن ليس من المجتهدين! أي: كل من نازع السلف نزاعاً يتعلق بتأسيس ضلالة أو بأن يكون صاحب منهج من مناهج الفرق الكبرى التي ضلت عن السنة فليس من أهل العلم المعتبرين وليس من المجتهدين، ولا معه دليل حتى وإن أُعجب به أصحابه، ولنأخذ مثلاً رءوس الخوارج فليسوا مجتهدين، ورءوس الشيعة ليسوا من المجتهدين، نعم قد ينتحلون بعض الأئمة، فالشيعة مثلاً تنتحل الحسن والحسين وأئمة آل البيت، لكنه انتحال كاذب، وعلى حسب استقرائي المحدود وما ذكره أهل العلم المعتبرين أن أكثر ما يتبرأ آل البيت من الشيعة، وأكثر ما يتعوذون من الشيعة، وأكثر ما يتأذون من الشيعة إذاً فليسوا قدوة لهم، بل هم يكذبون، وهكذا تأتي بعدهم القدرية، مثلاً أنشأ القدرية معبد الجهني ذكر أن عنده شيئاً من العلم لكنه طويلب علم، توثب قبل أن ينضج فصار يماري ويجادل فاغتر، فصار من أئمة الضلالة نسأل الله العافية؛ لكن ليس بعالم. وغيلان الدمشقي متحذلق وليس بعالم، ثم جاء بعده الجعد والجهم وواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وليسوا علماء، غاية ما يقال: إن بعضهم تميّز بالزهد فقط، ثم هكذا دواليك، وما من فرقة انتسبت إلى عالم إلا وتكذب عليه أو تزيد عليه، فالمرجئة انتسبت إلى أبي حنيفة لكن قالت بأكثر مما قال به، والأشاعرة انتسبت إلى الأشعري لكنها قالت بأكثر مما قال به، بل تعوّذت وتبرأت من عقيدة الأشعري الحقيقية، وهكذا بقية الفرق. إذاً نخلص إلى أن قول الشيخ: (فكيف إذا كان المنازع ليس من المجتهدين)، بأن رءوس البدع ليس منهم قدوة في الدين، وما حدث من زلّات العلماء فهي أمور محدودة، وإذا تميّز الحق فلا يحسب زلّة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع كونه لم يشرع هذا فليس هو واجباً ولا مستحباً]. بدأ الشيخ بما نبهتكم عليه، انتهى من القول بأنه ليس عندهم دليل أهل البدع، فبدأ يرجع عليهم الآن ويهاجمهم بسلاح وهو يقول: الدليل على عكس ما تقولون، فهنا بدأ يستدل على أن بدعهم على الباطل جملة وتفصيلاً.

تحريم الشرع لوسائل الشرك

تحريم الشرع لوسائل الشرك قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [بل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع كونه لم يشرع هذا فليس هو واجباً ولا مستحباً، فإنه قد حرم ذلك وحرم ما يفضي إليه، كما حرم اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد]. تقدم شرح هذه الفقرة، وأن الشيخ يرد فيها على أصحاب التوسل البدعي، والذين زعموا أن بدعهم مشروعة فنسف مقولتهم من وجهين كما ذكرت لكم من قبل، الوجه الأول: التأكيد على أن أعمالهم هذه ليس عليها دليل إطلاقاً، وهي عبادة، والعبادة توقيفية لا تجوز إلا بدليل، ثم استدل عليهم من ناحية أخرى وقال: مع أنه لم يرد دليل ببدعكم هذه فإنه قد وردت الأدلة بالنهي عنها نهياً صريحاً، فهو الآن يقرر الجانب الثاني، وهو أن الله قد حرّم هذه البدع والوسائل إلى الشرك، ومنها التوسل البدعي الذي تعلق به هؤلاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك). وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما فعلوا، قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً). واتخاذ المكان مسجداً هو أن يُتخذ للصلوات الخمس وغيرها كما تبنى المساجد لذلك، والمكان المتخذ مسجداً إنما يقصد فيه عبادة الله ودعاؤه لا دعاء المخلوقين. فحرّم صلى الله عليه وسلم أن تتخذ قبورهم مساجد بقصد الصلوات فيها كما تقصد المساجد، وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده؛ لأن ذلك ذريعة إلى أن يقصدوا المسجد لأجل صاحب القبر ودعائه، والدعاء به، والدعاء عنده. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده؛ لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى الشرك بالله].

النهي عن التنفل في أوقات الكراهة

النهي عن التنفل في أوقات الكراهة قال رحمه الله تعالى: [والفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة يُنهى عنه، كما نُهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة لما في ذلك من المفسدة الراجحة، وهو التشبه بالمشركين الذي يفضي إلى الشرك، وليس في قصد الصلاة في تلك الأوقات مصلحة راجحة؛ لإمكان التطوع في غير ذلك من الأوقات. ولهذا تنازع العلماء في ذوات الأسباب فسوغها كثير منهم في هذه الأوقات، وهو أظهر قولي العلماء؛ لأن النهي إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه في هذه الأوقات ويفوت إذا لم يُفعل فيها فتفوت مصلحتها، فأبيحت لما فيها من المصلحة الراجحة، بخلاف ما لا سبب له فإنه يمكن فعله في غير هذا الوقت فلا تفوت بالنهي عنه مصلحة راجحة، وفيه مفسدة توجب النهي عنه]. هذه المسألة فصّلها شيخ الإسلام أكثر من مرة في كتبه، وهي مسألة أوقات النهي، والذي يحضرني أنه قسّمها في بعض المواضع إلى قسمين: فنحن نعرف أن أول أوقات النهي يبدأ من صلاة الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس قيد رمح على الراجح، فـ شيخ الإسلام قال: إن هناك وقت تحريم قاطع ووقت نهي، وقت التحريم القاطع هو أثناء طلوع الشمس يعني مثلاً عشر دقائق التي تطلع فيه الشمس فهذه يرى أنها محرمة قطعاً حتى مع ذوات الأسباب؛ لأن الدقائق المعدودة التي يمكن التأني فيها، فمثلاً إنسان دخل المسجد وعرف أنه بقي على طلوع الشمس عشر دقائق فلينتظر قليلاً؛ لأن وقت الطلوع فيه نهي شديد، لأن النهي ورد على حالتين: أثناء الطلوع والنهي المطلق ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، أما وقت الزوال فكله وقت نهي، وهو قصير جداً ليس بطويل، فيبدو لي أن شيخ الإسلام يجعل الصلاة فيه محرمة حتى ذوات الأسباب، ومن صلاة العصر إلى غروب الشمس، لكن النهي عنها أثناء الغروب شديد وتعتبر الصلاة فيه محرمة؛ لأنه هو الوقت الذي تعلّق في نفوس المشركين وعباداتهم. فإذاً النهي على نوعين: وقت النهي فيه مطلق، وفيه نهي شديد محرم، وهو أثناء الطلوع وأثناء الغروب وأثناء الزوال أما ما سوى ذلك من الأوقات التي هي أوقات نهي فالأمر فيها كما قال: يجوز فعل ذوات الأسباب، وإن كانت المسألة خلافية. وبعض المشايخ يقولون: إن وقت الزوال عشر دقائق، وبعضهم يقول: ربع ساعة. وقرص الشمس لا يستمر في الزوال ثلاث دقائق، كما أنه عندما يطلع جميع القرص لا يستغرق ثلاث دقائق ولكن أقل، وكذلك ما بين بداية ارتكاز قرص الشمس على المغيب إلى أن يغيب جميع القرص أقل من ثلاث دقائق، لكن ما قبل ذلك بدقائق وما بعده بدقائق محسوب؛ لأن المسألة نسبية، فقد سمعت من بعض مشايخنا أنه قال: إن وقت النهي الشديد ربع ساعة أو عشر دقائق، والأرجح أنه في حدود العشر، والمسألة نسبية. وإذا أراد أن يتنفل الإنسان يوم الجمعة في أثناء الزوال فالأولى أن ينتظر دقائق حتى وإن كان في المسجد، ولكن لا يجلس بل ينتظر دقائق، هذا هو الأولى وإلا الصلاة أثناء الزوال فيها نهي شديد.

زيارة القبور للاعتبار لا للتوسل والتبرك

زيارة القبور للاعتبار لا للتوسل والتبرك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما ثبت في صحيح مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أنه قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فاستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة) فهذه الزيارة التي تنفع في تذكير الموت تُشرع ولو كان المقبور كافراً، بخلاف الزيارة التي يُقصد بها الدعاء للميت فتلك لا تُشرع إلا في حق المؤمنين. وأما الزيارة البدعية؛ فهي التي يُقصد بها أن يطلب من الميت الحوائج، أو يُطلب منه الدعاء والشفاعة، أو يُقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أن ذلك أجوب للدعاء]. هنا ذكر الشيخ ثلاث صور من الزيارة البدعية، هذه الصور في الغالب أنها تدخل فيها كثيراً من صور الزيارات البدعية، سواء كانت شركية أو بدعية أو نحوه. الصورة الأولى من الزيارة البدعية: أن يقصد الزائر طلب الحوائج من الأموات، وهذه منها ما هو شركي وهو الغالب، ومنها ما هو بدعي. الصورة الثانية من الزيارة البدعية: طلب الدعاء والشفاعة كأن يطلب من الميت أن يدعو له، أو يطلب من الميت أن يشفع له، هذه صور أخرى أيضاً، وهي كثيرة عند أهل البدع اليوم، يطلبون من الأموات أن يدعوا لهم ويشفعوا لهم، وهذا أغلبه بدعي، وقد يكون منه صور شركية. الصورة الثالثة: أن يقصد التبرك بالدعاء عند القبر، وهذا ينتظم أغلب صور الزيارات عند أهل البدع اليوم فقد لا يدعو الميت، وإنما يدعو الله عند القبر زعماً منه أن هذا المكان مبارك، أو أن ذات الشخص المذكور مباركة، أو أنه في هذا المكان تحل البركات، أو أن هذا من مواطن الإجابة أو غير ذلك من التوهمات والتلبيسات التي لبس الشيطان بها على هؤلاء، نسأل الله العافية.

[5]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [5] لقد تباينت تفسيرات وتأويلات الفرق والمذاهب للشفاعة والوسيلة، فالفلاسفة سوغوا الشرك بتأويلات وإشارات بل ووقائع تحصل عند القبور والمزارات باسم الشفاعة، وكل هذه التفسيرات من مسوغات الشرك وأدلته الكاشفة وهذا الفعل منهم تقريراً على الأتباع وتدليساً على الجهال.

تفسيرات الفلاسفة للشفاعة والوحي

تفسيرات الفلاسفة للشفاعة والوحي قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وقد أحدث قوم من ملاحدة الفلاسفة الدهرية للشرك شيئاً آخر ذكروه في زيارة القبور كما ذكر ذلك ابن سينا، ومن أخذ عنه كصاحب الكتب المضنون بها وغيره، ذكروا معنى الشفاعة على أصلهم، فإنهم لا يقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ولا أنه يعلم الجزئيات ويسمع أصوات عباده ويجيب دعاءهم]. كما أشرت في الدرس السابق يقصد الشيخ بصاحب الكتب المضنون بها الغزالي، فـ الغزالي في طوره الأول حينما كان على مذهب الفلاسفة كان يرى هذا الرأي، وكذلك عموم الفلاسفة الذين يسمون بالإسلاميين والإسلام منهم براء كـ ابن سينا والفارابي والسهروردي المقتول وابن سبعين وابن الفارض وابن عربي والقونوي ومن سلك سبيلهم هذه العصابة التالفة كلهم رأيهم في هذه الأمور على هذا النهج، فهم يستسيغون الشرك ويرون أنه من الصلة العقلية والروحية بقوى أخرى غيبية، ويستسيغون القول عن الله عز وجل بقول الفلاسفة بأنه الوجود المطلق، وما يترتب على ذلك من إنكار أن يكون الله عز وجل فعّالاً لما يريد، وأن يكون سبحانه عالماً بكل شيء، فهم يثبتون لله مجملات الصفات ومجملات الأسماء ومجملات الأحوال، فكل تصورهم عن الله عز وجل يدور حول أنه تصور ذهني أو أنه الوجود المطلق أو نحو ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فشفاعة الأنبياء والصالحين على أصلهم ليست كما يعرفه أهل الإيمان من أنها دعاء يدعو به الرجل الصالح فيستجيب الله دعاءه. كما أن ما يكون من إنزال المطر باستسقائهم ليس سببه عندهم إجابة دعائهم، بل هم يزعمون أن المؤثر في حوادث العالم هو قوى النفس أو الحركات الفلكية أو القوى الطبيعية. فيقولون: إن الإنسان إذا أحب رجلاً صالحاً قد مات لا سيما إن زار قبره فإنه يحصل لروحه اتصال بروح ذلك الميت فيما يفيض على تلك الروح المفارقة من العقل الفعال عندهم أو النفس الفلكية، يفيض على هذه الروح الزائرة المستشفعة من غير أن يعلم الله بشيء من ذلك، بل وقد لا تعلم الروح المستشفع بها بذلك، ومثلوا ذلك بالشمس إذا قابلها مرآة فإنه يفيض على المرآة من شعاع الشمس، ثم إذا قابل المرآة مرآة أخرى فاض عليها من تلك المرآة، وإن قابل تلك المرآة حائط أو ماء فاض عليه من شعاع تلك المرآة، فهكذا الشفاعة عندهم، وعلى هذا الوجه ينتفع الزائر عندهم. وفي هذا القول من أنواع الكفر ما لا يخفى على من تدبره]. هذه نزعة الاعتقاد عندهم، وهي أن كل ما جاء عن الله عز وجل وما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هو تأثير من قوى غيبية، وهذه نزعة فلسفية توجد عند كثير من أصحاب المذاهب والاتجاهات، بل أرى أنها سادت الآن عند كثير من مثقفي المسلمين ومفكريهم في العصر الحاضر، ويتمثل هذا بعدة صور: أولاً: نجد أن كثيراً ممن قلد الغربيين في الدراسات الإنسانية يفسّرون كثيراً من المعاني الشرعية المؤثرة في الناس، سواء بالتأثير النفسي أو التأثير العقلي أو في أفعال الناس؛ يرون أنها مجرد عوامل نفسية أو وهمية، أو تأثيرات من قوى غيبية، فتجد مثلاً بعض علماء النفس يفسّر تأثير القرآن أنه مجرد شعور نفسي بين القارئ والمقروء عليه، ونجد هذه التفسيرات حتى عند بعض أطباء الأمراض النفسية من المسلمين. وبدأت تشيع هذه القضية بين بعض مثقفينا، وهذا امتداد لمذاهب الفلاسفة وأوهامهم يعتقدون أن تأثير القرآن في شفاء الأمراض إنما هو مجرد شعور نفسي، ويفسّرونه بأن الإنسان إذا قرئ عليه القرآن وهو يعتقد أن للقرآن تأثيراً، وإذا قويت قاومت الأمراض، فوجد شيئاً من النشاط والاستعداد لمقاومة الأمراض، وهذا تفسير مادي وهو تفسير الفلاسفة للوحي ولما جاء به الأنبياء، بل بعضهم ربما ينزع إلى المؤثرات الشرعية على قلوب الناس، التي هي تؤدي إلى الهداية واليقين والتوكل على الله عز وجل، كثيراً من الناس يفسرها بأنها أوهام، وبعضهم يفسرها بأنها تأثير قوى غيبية أقول: إن هذه الأقوال التي قال بها الفلاسفة ناتجة على أنهم ليس عندهم منهج في تقرير قضايا الدين، إنما يقررون قضايا الدين بعقولهم، والعقول في قضايا الدين ليس عندها إلا التوهمات، ولذلك حكّموا عقولهم فغاصوا في الأوهام، فلما وجدوا تأثير الوحي في ضبط سلوك الناس بشرائع الله عز وجل ودينه، ذهبوا يفكّرون عن أسباب هذا التأثير، ونظراً لأنهم لا يؤمنون حق الإيمان بكلام الله عز وجل وبحقيقة النبوة والرسالة، ذهبوا يبحثون عن أسباب هذه المؤثرات بأوهامهم، فمن هنا فسّروا ما جاء به الأنبياء من الوحي والشرائع إنما هي امتداد أو انعكاس لمؤثرات خارجية توهموها هم، فبعضهم قال: قوى غيبية، وبعضهم قال: أرواح غيبية، وبعضهم قال: عقول غيبية، وبعضهم قال: أوهام، فصارت تفسيراتهم شتى، وكلها إنما هي أوهام وتخرصات بعيدة عن الحق كل البعد، وهذا أمر بيّن، لكن الخطير أن تفسير القضايا الشر

اغترار المبتدعين بتخييلات الشياطين

اغترار المبتدعين بتخييلات الشياطين قال رحمه الله تعالى: [ولا ريب أن الأوثان يحصل عندها من الشياطين وخطابهم وتصرفهم ما هو من أسباب ضلال بني آدم، وجعل القبور أوثاناً هو أول الشرك. ولهذا يحصل عند القبور لبعض الناس من خطاب يسمعه وشخص يراه وتصرف عجيب ما يظن أنه من الميت، وقد يكون من الجن والشياطين، مثل أن يرى القبر قد انشق وخرج منه الميت وكلمه وعانقه، وهذا يُرى عند قبور الأنبياء وغيرهم، وإنما هو شيطان؛ فإن الشيطان يتصور بصور الإنس ويدّعي أحدهم أنه النبي فلان أو الشيخ فلان ويكون كاذباً في ذلك].

ما يحصل من تصور الجن بصور الأنبياء والصالحين

ما يحصل من تصور الجن بصور الأنبياء والصالحين هذه أيضاً قضية جديدة بدأها الشيخ، وهي من أخطر القضايا التي ينبغي التنبه لها في هذا العصر، وهي أيضاً من المسائل التي لا تزال قائمة عند المقابريين وعند أصحاب بدع المشاهد والآثار، والذين يرتادون المزارات ويتعلقون بالأشخاص أحياءً كانوا أو أمواتاً، وكذلك الذين يعوّلون على الخوارق ويسمونها الكرامات، ينظمهم هذا الكلام الذي يذكره الشيخ، وهو كلام جيد مؤصّل يوضح أن أغلب ما يعوّل عليه أهل الأهواء والبدع من دعاواهم أنهم يكلّمون الموتى ويكلمونهم، وأنهم يرون الخضر وغيره من الأنبياء، وأنهم يحدث لهم أن يخرج لهم أصحاب القبور، أو يحضر لهم البعيدون من ذويهم أو ممن يحبونهم من الأولياء، أو أنهم يرون ويشاهدون من الأمور الغيبية ما يدعونه كل هذه من فعل الشياطين. ومن هنا نجد أن هذه المسألة تختلط فيها الكرامة بالمخرقة، وبهذا نفسّر اغترار كثير من الناس بأحوال أهل البدع من المعاصرين؛ لأنهم يقولون: نرى منهم كرامات، وفلان حدث على يده أن جاء الولي فلان وأسدى له الخدمة، وفلان كلّم فلاناً في قبره، وفلان حدث له أن جاءه قريبه أو والده فأنقذه من ذلك الموقف الحرج، وفلان نزلت له مثلاً مسألة فرجّت عنه كربة إلى آخره! كل هذه قضايا ينظمها أمر واحد وهي: أن أغلبها من باب الفتن وعبث الشياطين، حتى وإن حدثت على يد رجل صالح؛ لأن الشياطين يتشبهون بالصالحين ويتصورون بالصالحين. فعلى أي حال كما قال الشيخ: لا ريب أن هذه المشاهد والأوثان والقبور والمزارات يتصور عندها من الشياطين ما يكون في جميع صور أفعال البشر، بما في ذلك تصور الشياطين بصور الأنبياء، أو تصور الشياطين بصور الصالحين، بل يحدث أن شياطين يتصورون لبعض أوليائهم على أنهم ربهم، كما حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ابن صياد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا ترى؟ قال: أرى عرشاً على الماء) يتوهم أنه ربه أو يزعم أنه ربه، تبدى له الشيطان على عرش فوق الماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك عرش الشيطان). فإذاً: هذه القضية تنسحب على كل أصحاب البدع، حتى وإن كان ظاهرهم الصلاح، بل بعض الصالحين الأولياء المتقين قد يحدث لهم ابتلاء بأن يعرض لهم الشيطان في مثل هذه الأحوال ابتلاء وفتنة، بل تعرّض الشيطان للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الله أمكنه منه، وتعرّض الشيطان للنبي صلى الله عليه وسلم فقبض عليه كما سيأتي، وتعرّض الشيطان للنبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال، وأتاه بالشهب ليحرقه فاستعاذ منه وأتاه جبريل فعلمه كيف يستعيذ بالله منهم فاستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم. فالنبي صلى الله عليه وسلم حدث له مثل ذلك؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم عصمه الله من أن تضره الشياطين، ولا يمكن أيضاً أن يحدث للنبي صلى الله عليه وسلم أن يوهموه أنهم أهل حق، لكن أقول بناء على ذلك، فإن هذه الأحوال قد تحدث حتى للصالحين من باب الابتلاء والفتنة، وسيأتي ذكر المقاييس التي تعرف بها المخارق الباطلة وتميّز عن كرامات الأولياء أو الكرامات الصالحة بمقاييس دقيقة سيأتي الكلام عنها فيما بعد إن شاء الله.

كيفية تمييز أن المتصور بصورة نبي أو ولي شيطان

كيفية تمييز أن المتصور بصورة نبي أو ولي شيطان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي هذا الباب من الوقائع ما يضيق هذا الموضع عن ذكره، وهي كثيرة جداً، والجاهل يظن أن ذلك الذي رآه قد خرج من القبر وعانقه أو كلمه هو المقبور أو النبي أو الصالح وغيرهما، والمؤمن العظيم يعلم أنه شيطان ويتبين ذلك بأمور: أحدها: أن يقرأ آية الكرسي بصدق، فإذا قرأها تغيب ذلك الشخص أو ساخ في الأرض أو احتجب، ولو كان رجلاً صالحاً أو ملكاً أو جنياً مؤمناً لم تضره آية الكرسي، وإنما تضر الشياطين، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما قال له الجني: (اقرأ آية الكرسي إذا أويت إلى فراشك فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب). ومنها: أن يستعيذ بالله من الشياطين. ومنها: أن يستعيذ بالمعوذة الشرعية، فإن الشياطين كانت تعرض للأنبياء في حياتهم وتريد أن تؤذيهم وتفسد عبادتهم. كما جاءت الجن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشعلة من النار تريد أن تحرقه، فأتاه جبريل بالمعوذة المعروفة التي تضمنها الحديث المروي عن أبي التياح أنه قال: (سأل رجل عبد الرحمن بن حبيش وكان شيخاً كبيراً قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كادته الشياطين؟ قال: تحدرت عليه من الشعاب والأودية، وفيهم شيطان معه شعلة من نار يريد أن يحرق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فرُعب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! قل، قال: ما أقول؟ قال: قل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما يخرج من الأرض ومن شر ما ينزل فيها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق يطرق إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن، قال: فطفئت نارهم وهزمهم الله عز وجل). وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عفريتاً من الجن جاء يفتك بي البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله عز وجل منه فذَعَتُّه أردت أن آخذه فأربطه إلى سارية من المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه، ثم ذكرت قول سليمان عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] فرده الله تعالى خاسئاً)]. الحديث هنا وردت فيه عبارة قوله: (فذعته) وقد فسّر أهل العلم الكلمة بمعنى قبضته أو خنقته، أو قبضته وخنقته. وذكر النووي أنها وردت بالدال المهملة فدعته بمعنى: دفعته بقوة، والمعنى واحد. ونسأل الله للجميع التوفيق والسداد والرشاد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

[6]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [6] التساهل والتفريط في قضايا العقيدة وأمور الدين مدخل للشياطين على الإنسان، فيتلاعبون به على قدر موالاته وتقربه لهم، فالكفار والمشركون يكونون أكثر ولاءً للشياطين بسبب الكفر والشرك، وما يقع من المبتدعة من التوسلات البدعية يكون مدخلاً كذلك للشياطين أن يلبسوا على الإنسان ويستحوذوا عليه، والمخرج من هذا كله هو لزوم الهدى والصراط والسنة، والمحافظة على الأذكار والتعوذات الشرعية التي تحمي الإنسان من شياطين الإنس والجن.

محاولة الشياطين إيذاء رسول الله وعصمة الله له منهم

محاولة الشياطين إيذاء رسول الله وعصمة الله له منهم موضوع ما سيذكره الشيخ هنا هو ما يتعلق باستحواذ الشياطين على أهل البدع والأهواء، وببذل الأسباب الشرعية التي تعين المسلم على الاستعانة بالله عز وجل والتوكل عليه، وتبعد عنه الشياطين وآثار الشياطين. وكذلك سيذكر الشيخ في هذا المقطع وما بعده مدى تلاعب شياطين الجن والإنس ببني آدم بسبب تفريطهم في أمور الدين والعقيدة، وهذا التلاعب أول ما يكون على الكفار والمشركين، ثم على أهل البدع الذين وقعوا في التوسلات البدعية. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فأتاه الشيطان فأخذه صلى الله عليه وسلم فصرعه فخنقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى وجدت برد لسانه على يدي، ولولا دعوة سليمان لأصبح ذلك موثقاً حتى يراه الناس). أخرجه النسائي وإسناده على شرط البخاري كما ذكر ذلك أبو عبد الله المقدسي في مختاره الذي هو خير من صحيح الحاكم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة الصبح وهو خلفه، فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال: لو رأيتموني وإبليس، فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين -الإبهام والتي تليها- ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل) رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه. وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك، ثم قال: ألعنك بلعنة الله ثلاثاً وبسط يده كأنه يتناول شيئاً، فلما فرغ من صلاته قلنا: يا رسول الله! سمعناك تقول شيئاً في الصلاة لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك. قال: إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة فاستأخر، ثم أردت أن آخذه، ولولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان المدينة). فإذا كانت الشياطين تأتي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لتؤذيهم وتفسد عبادتهم، فيدفعهم الله تعالى بما يؤيد به الأنبياء من الدعاء والذكر والعبادة ومن الجهاد باليد، فكيف من هو دون الأنبياء؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم قمع شياطين الإنس والجن بما أيده الله تعالى من أنواع العلوم والأعمال، ومن أعظمها الصلاة والجهاد، وأكثر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والجهاد. فمن كان متبعاً للأنبياء نصره الله سبحانه بما نصر به الأنبياء، وأما من ابتدع ديناً لم يشرعوه، فترك ما أمروا به من عبادة الله وحده لا شريك له واتباع نبيه فيما شرعه لأمته، وابتدع الغلو في الأنبياء والصالحين والشرك بهم فإن هذا تتلعب به الشياطين، قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100]، وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42]].

الأسباب الإيمانية التي تبعد الشياطين عن العبد

الأسباب الإيمانية التي تبعد الشياطين عن العبد قال رحمه الله تعالى: [ومنها]. أي: من الأسباب الإيمانية التي يتبين بها عبث الشيطان؛ لأنه حينما تكلم عما يحصل عند القبور من عبث الشياطين بكثير من الإنس، وأن ذلك يختلط أحياناً بالكرامات ويختلط بالأمور المحمودة، قال: (ويتبين هذا من ذاك)، أي: يتبين عبث الشياطين بالمقصرين من الإنس من غيره بأمور: وذكر منها أولاً أن يقرأ آية الكرسي بصدق، فالمسلم إذا قرأ آية الكرسي بصدق فإن الله يحميه من الشيطان. وإن الشيطان ينكص. وذكر منها أيضاً في صفحة (169): أن يستعيذ بالله من الشياطين، فالمسلم إذا أكثر من الاستعاذة بالله من الشياطين، فإن الشياطين لا تغويه ولا تضره ولا تستحوذ عليه، ولا تلبّس عليه كما تلبّس على الغافلين وعلى أهل البدع الذين اختلت عقائدهم. ثم ذكر ثالثاً في نفس الصفحة: أن يستعيذ بالتعوذات الشرعية الأوراد والأذكار والأمور التي جعلها الله سبباً في طرد الشياطين وفي جلب الخير والملائكة للإنسان. ثم ذكر بعد ذلك صفحة (171) رابعاً: أن يدعو الرائي ربه تبارك وتعالى ليبين له الحال هل هو من الكرامات أو من عبث الشياطين؟ هل هو من الأمور المحمودة أو المذمومة شرعاً؟ هل هو من الأمور الحسنة أو السيئة؟ ثم ذكر بعد ذلك أمراً خامساً: وهو أن يقول لذلك الشخص: أأنت فلان؟ يعني أنه إذا اشتبه عليه صورة شخص يعرفه بعينه، أو يذكر أنه فلان، أو يدّعي أنه الميت أو الغائب، أو العالم فلان أو الرجل الصالح، ويكون الرائي ممن لا يعرف هذا الشخص، فمن هنا يسأله عن هذه الأمور التي يتميز بها هذا من ذاك، كما قال: [ومنها: أن يدعو الرائي بذلك ربه تبارك وتعالى ليبين له الحال. ومنها: أن يقول لذلك الشخص: أأنت فلان؟ ويقسم عليه بالأقسام المعظّمة، ويقرأ عليه قوارع القرآن إلى غير ذلك من الأسباب التي تضر الشياطين. وهذا كما كان كثير من العُبَّاد يرى الكعبة تطوف به، ويرى عرشاً عظيماً وعليه صورة عظيمة، ويرى أشخاصاً تصعد وتنزل فيظنها الملائكة، ويظن أن تلك الصورة هي الله تعالى وتقدس، ويكون ذلك شيطاناً]. وكما حصل أيضاً لـ ابن صياد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وابن صياد كان عنده شيء من المخرقة والدجل، وخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتن به الصحابة، فأراد أن يبين لهم أنه ممخرق كاذب دجال، فأتاه وكان مما جرى بينه وبين ابن صياد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ ابن صياد: (ماذا ترى؟ قال: أرى عرشاً على الماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك عرش الشيطان) طبعاً قوله: أرى عرشاً على الماء، يوهم بأنه يرى العرش قبّحه الله، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذاك عرش الشيطان) فإذاً: أهل الأهواء يرون مثل هذه الأمور، حتى أنهم قد يرون شيئاً على عرش ما فيظنونه الله عز وجل، وأحياناً يتوهمون أنهم يجلسون على العرش وهو عرش الشيطان، فإن الله عز وجل أعظم وأجل من أن يصل أحد إلى إدراك شيء من عظمته.

تصور الشياطين لبعض العباد

تصور الشياطين لبعض العباد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد جرت هذه القصة لغير واحد من الناس، فمنهم من عصمه الله وعرف أنه الشيطان كالشيخ عبد القادر في حكايته المشهورة حيث قال: كنت مرة في العبادة فرأيت عرشاً عظيماً وعليه نور، فقال لي: يا عبد القادر! أنا ربك وقد حللت لك ما حرمت على غيرك، قال: فقلت له: أنت الله الذي لا إله إلا هو؟ اخسأ يا عدو الله، قال: فتمزق ذلك النور وصار ظلمة، وقال: يا عبد القادر، نجوت مني بفقهك في دينك وعلمك وبمنازلاتك في أحوالك، لقد فتنت بهذه القصة سبعين رجلاً، فقيل له: كيف علمت أنه الشيطان؟ قال: بقوله لي: حللت لك ما حرمت على غيرك، وقد علمت أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا تنسخ ولا تبدّل؛ ولأنه قال: أنا ربك، ولم يقدر أن يقول: أنا الله الذي لا إله إلا أنا]. أي: لأن الربوبية تحتمل معانٍ كثيرة، بينما الألوهية لا تحتمل إلا معنى أنه المعبود، بينما الربوبية تعني المالك، وتعني الصاحب، وتعني معانٍ كثيرة في اللغة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن هؤلاء من اعتقد أن المرئي هو الله، وصار هو وأصحابه يعتقدون أنهم يرون الله تعالى في اليقظة، ومستندهم ما شاهدوه، وهم صادقون فيما يُخبرون به، ولكن لم يعلموا أن ذلك هو الشيطان. وهذا قد وقع كثيراً لطوائف من جهال العباد، يظن أحدهم أنه يرى الله تعالى بعينه في الدنيا؛ لأن كثيراً منهم رأى ما ظن أنه الله وإنما هو شيطان. وكثير منهم رأى من ظن أنه نبي أو رجل صالح أو الخضر وكان شيطاناً. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي). فهذا في رؤيا المنام؛ لأن الرؤيا في المنام تكون حقاً وتكون من الشيطان، فمنعه الله أن يتمثل به في المنام، وأما في اليقظة فلا يراه أحد بعينه في الدنيا، فمن ظن أن المرئي هو الميت فإنما أتي من جهله، ولهذا لم يقع مثل هذا لأحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان]. لم يحدث أن أحداً من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة الهدى رأى النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، أو أنه رأى الخضر أو أحداً من الأموات في اليقظة، لم يحدث لأحد من أئمة الهدى الذين هم على الاستقامة، والذين سبيلهم هو سبيل المؤمنين، وبهم القدوة والعبرة، ولذلك ما يحدث عند غلاة الصوفية من دعواهم أنهم يحضر عندهم النبي صلى الله عليه وسلم يقظة في حفلاتهم الراقصة ومجونهم وأورادهم البدعية، هذا كله من عبث الشيطان بهم؛ لأنهم يدّعون أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر لهم، ويسمون ذلك الحضرة، فمنهم من يدّعي أنه يراه، ومنهم من قد لا يدّعي أنه يراه لكن يتخيّل رؤيته ويفرشون له فراشاً أخضر أو نحو ذلك. وقد تأتيهم أشباح أو خيالات، وقد لا تأتيهم، لكن منهم من يدّعي أنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وأنه يحضر هذه المحافل المشينة التي يربأ العاقل بنفسه أن يحضرها أو أن يراها ويسمعها، ففيها من الأمور الباطلة والسفاسف ما يترفع عنه عامة الناس، بل بعض الغوغاء من الناس لا يطيقون مثل هذه المشاهد، فكيف بالعقلاء؟ فكيف يدّعون أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضرهم؟ أما دعواهم حضور الخضر، فهذه دعوى متكاثرة جداً، لا يكاد صوفي إلا ويدّعي هذه الدعوى، حتى الذين لا يدّعون أنهم يرون الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة، لا يشكون أنهم يرون الخضر، وهذا لا شك أنه من الزعم الباطل، وأنه من عبث الشيطان بهم. أما بالنسبة لدعواهم بأن الخضر يحضر؛ لأنه جاء فيه آثار مشكلة أنه حي وأنه لم يمت، فوجود مثل هذه الآثار وإن كانت لا تصح جعلتهم يتعلقون به، وقصته مع موسى قصة فيها غرابة، فإنه لم يكن معروفاً، وموسى عثر عليه في مكان لم يكن يتوقعه، وحدث له معه قصة تدل على أن الناس لا يعرفون هذا الرجل، وكأنه بزعمهم يتلون، فمن هنا صارت حكاية الخضر فيها مجال واسع لدعوى أنه من الممكن أن يظهر بمظاهر كثيرة وفي أماكن كثيرة وأزمان كثيرة، والله أعلم.

اعتقادات باطلة مخالفة للمعقول والمنقول

اعتقادات باطلة مخالفة للمعقول والمنقول قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبعض من رأى هذا أو صدق من قال: إنه رآه اعتقد أن الشخص الواحد يكون بمكانين في حالة واحدة فخالف صريح المعقول. ومنهم من يقول: هذه رقيقة ذلك المرئي، أو هذه روحانيته، أو هذا معناه تشكل، ولا يعرفون أنه جني تصور بصورته. ومنهم من يظن أنه ملك، والملك يتميز عن الجني بأمور كثيرة، والجن فيهم الكفار والفساق والجهال، وفيهم المؤمنون المتبعون لمحمد صلى الله عليه وسلم تسليماً، فكثير ممن لم يعرف أن هؤلاء جن وشياطين يعتقدهم ملائكة. وكذلك الذين يدعون الكواكب وغيرها من الأوثان تتنزل على أحدهم روح يقول: هي روحانية الكواكب، ويظن بعضهم أنه من الملائكة وإنما هو من الجن والشياطين يغوون المشركين]. أغلب ما يحدث التعلق بالكواكب من الصابئة ومن اليونان، ثم انتشر هذا في كثير من الديانات أو الفرق التي خرجت عن بعض الديانات، فالصابئة هم أكثر من يعتقد في الكواكب وأن لها أرواحاً حلّت فيها، وأن لها خصائص الألوهية إلى غير ذلك من الأمور، حتى علّقوا فيها مثل هذه الأوهام. وهذا الأمر لا يزال موجوداً عند الصابئة المعاصرين وعند كثير من الفرق الضالة التي تأثرت بالصابئة مثل اليزيدية، فاليزيدية عبدة الشيطان عندهم مثل هذه الأوهام حتى الآن، وتذكر في كتبهم وفي أحوالهم وسيرهم، ويعتقدون في الكواكب مثل هذه الاعتقادات. كذلك كثير من الأمم القائمة الآن سواء الأمم التي ورثت ديانات قديمة أو الأمم التي تعلقت بمبادئ جديدة، كلها لها نظرة للكواكب فيها نزعة شركية، فهم يزعمون أن للكواكب تأثيراً في الأرض، وفي أحوال البشر وفي طبائع الناس ومصائرهم وحظوظهم ونحو ذلك، ولذلك كثر تعلق هذه الفئات من الناس بالطوالع وربط مصائر الأفراد بها، وسرت هذه الظاهرة إلى كثير من المسلمين عن طريق الصحف والمجلات التي تضع لهذه البدعة أو لهذه الشركيات زوايا وصفحات وأعمدة تذكر فيها تأثير الكواكب والنجوم والطوالع على مجموعات الناس وأفرادهم، وعلى أحداث البشرية العامة والخاصة، وهذا لا شك أنه نزعة وثنية خطيرة وينبغي التنبيه عليها؛ لأني أرى من خلال قراءة هذه الأمور أن هناك من أبناء المسلمين من يكاتب هذه الصحف ويسأل عن مصيره وعن حظوظه ونحو ذلك، فيجيبونه بجواب الدجالين المشعوذين والكذابين، وهذا باب خطير إذا تعلقت به نفوس الأجيال ربما يتدرج كثير من الناس إلى الوثنية والشرك وهو لا يشعر.

موالاة الشياطين لمن يمارس الشرك والفسوق والعصيان

موالاة الشياطين لمن يمارس الشرك والفسوق والعصيان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والشياطين يوالون من يفعل ما يحبونه من الشرك والفسوق والعصيان؛ فتارة يخبرونه ببعض الأمور الغائبة ليكاشف بها، وتارة يؤذون من يريد أذاه بقتل وتمريض ونحو ذلك، وتارة يجلبون له من يريده من الإنس، وتارة يسرقون له ما يسرقونه من أموال الناس من نقد وطعام وثياب وغير ذلك، فيعتقد أنه من كرامات الأولياء وإنما يكون مسروقاً]. قوله: (إن الشياطين يوالون من يفعل ما يحبونه من الشرك والفسوق والعصيان؛ فتارة يخبرونه ببعض الأمور الغائبة ليكاشف بها، وتارة يؤذون من يريد أذاه بقتل وتمريض ونحو ذلك). هذه المسألة فتن بها كثير من الناس اليوم وهم لا يشعرون من خلال تساهل بعض الرقاة، وتعاونهم مع الجن، ومن خلال لجوء الناس إلى السحرة والدجالين والمشعوذين في علاج كثير من الأمراض التي تحدث الآن، خاصة الأمراض التي تنتج عن السحر والعين، وقد كثرت جداً في مجتمعنا اليوم بسبب غفلة الناس عن ذكر الله وعن الأوراد الشرعية، وبسبب قسوة القلوب واقتراف المعاصي والبعد عن شرع الله عز وجل وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، كل ذلك تسبب في كثرة وجود الأمراض النفسية والعضوية التي تكون من أسباب السحر أو العين أو التوهمات ونحوها هذه الأمور ومع وجود ضعف الإيمان في الناس ألجأت الكثير من الناس إلى الذهاب إلى السحرة والدجالين والمشعوذين، والرقاة الذين أحياناً يجمعون بين الشعوذة والرقية، أو الرقاة الجهلة الذين تدخل عليهم هذه الظواهر والسمات من حيث لا يشعرون، فتدخل عليهم بعض الأحوال الشيطانية والاستعانة بالجن بحسن نية في كثير من الأحوال، فصار الناس يستعينون بالجن والشياطين في جلب النفع ودفع الضر بطرق غير مشروعة، وهذا نوع من استدراج الناس إلى أن تعبث بهم الشياطين، وأن تكثر هذه الأحوال والصور على الناس حتى تصبح من الأعمال الشركية الصريحة أحياناً، أما كونها من البدع والكبائر فهذا مما لا شك فيه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وتارة يحملونه في الهواء فيذهبون به إلى مكان بعيد. فمنهم من يذهبون به إلى مكة عشية عرفة ويعودون به فيعتقد هذا كرامة، مع أنه لم يحج حج المسلمين؛ لا أحرم ولا لبى ولا طاف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، ومعلوم أن هذا من أعظم الضلال. ومنهم من يذهب إلى مكة ليطوف بالبيت من غير عمرة شرعية، فلا يحرم إذا حاذى الميقات. ومعلوم أن من أراد نسكاً بمكة لم يكن له أن يجاوز الميقات إلا محرماً، ولو قصدها لتجارة أو لزيارة قريب له أو طلب علم كان مأموراً أيضاً بالإحرام من الميقات، وهل ذلك واجب أو مستحب؟ فيه قولان مشهوران للعلماء. وهذا باب واسع، ومنه السحر والكهانة، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع].

الأسئلة

الأسئلة

عدم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ليست من ضعف الإيمان

عدم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ليست من ضعف الإيمان Q ما رأيك فيمن يرى أن من لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فإن هذا دليل على ضعف إيمانه؟ A ليس هذا صحيحاً ولا يلزم، نعم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام تعتبر من الكرامات للمسلم، وأحياناً تكون من الزواجر، وذلك حسب الرؤيا، وأحياناً تكون من إقامة الحجة عليه، وأحياناً تكون موعظة، ولا يلزم أن تكون من كل وجه كرامة، لكنها دليل خير، ولا يلزم أن من لم ير النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا نقص في إيمانه، بل ربما يكون العكس. ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام لها ضوابط، أهمها أن يراه بصفته الحقيقية، وأن لا يسمع منه إلا حقاً، أما في اليقظة فلا يتأتى. الرؤيا أحياناً تكون صريحة وأحياناً يكون فيها نوع من الغبش، بعض الناس يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لكني لم أستطع أن أميّز الشبه أو الوصف، فهذا قد يتأرجح بين الأمرين، فلا نستطيع أن نجزم أنها الرؤيا التي أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم لمن رآه على صورته.

ما يدخل على الرقى من الحركات والإضافات غير المشروعة

ما يدخل على الرقى من الحركات والإضافات غير المشروعة Q ما رأيكم فيمن يعالج بعض الأمراض بطريقة غريبة، على سبيل المثال فتاة أصيبت بالبهاق فذكر لها حليب العنز ولونها كذا من بعض المواد الموجودة عند العطّارين إلى آخره؟ A المشكلة أن كثيراً من الذين يعالجون بالأدوية الشعبية قد يستعملون أدوية صحيحة وأشياء صحيحة، لكن يضيفون لها أشياء لا أصل لها وهذا حظ الشيطان، قد يعالج الإنسان علاجاً صحيحاً برقية صحيحة وتتوافر فيها شروط الرقية الشرعية، لكن يدخل خلال هذه الرقية تصرف لا أصل له، كأن يقوم بحركة معيّنة يلتزمها، هذه في الحقيقة مشكلة ولا دليل عليها. وقد يستدرجه الجن والشياطين إلى أن تكون هذه الحركة وسيلة إلى أن يستفيد فيبتلى بها، فأنا قد رأيت بعض القراء يقرءون قراءة صحيحة وهم من أهل التقوى والصلاح فيما نحسبهم والله حسيبهم، وليس عندهم أي مشكلات، لكنهم أثناء الرقية أجد كلاً منهم يقوم بحركة معينة تختلف عن حركة الآخر، ويرى أن هذه الحركة من أسباب التوفيق إلى اكتشاف المرض أو إلى إفادة المريض. فالتزام الحركة مسألة إضافية، أضافت على الرقية شبهة إن لم تكن بدعة. كذلك ما قاله السائل هنا من أن هذا الإنسان الذي وصف له بعلاج قد يكون هذا العلاج صحيحاً، لكن هناك شيء لا معنى له وهو أن يكون الحليب حليب عنز سوداء، فليس لهذا معنى عند العقلاء ولا عند الأطباء ولا عند المجربين، وإن ثبت فهو من الابتلاء؛ لأن السواد وعدم السواد في العنز ليس له معنى. فهذا إذاً من مداخل الشيطان على الناس، ولذلك ينبغي من طلاب العلم أن يميزوا جيداً في هذه الأمور؛ لأنه قد يحدث من الرجل الصالح الذي يباشر علاج الناس مثل هذه الأمور وهو لا يشعر، فيستعمل حركة أو عملاً إضافياً على الرقية الشرعية أو على العلاج المادي، فهذا العمل الإضافي الذي لا يفسّر علمياً ولا يفسّر عقلاً ولا شرعاً يجب إبعاده، فأرجو التنبه لهذه المسألة لأنها كثرت جداً عند الرقاة والمعالجين، حتى أكاد أقول إن مشاهير الرقاة لكل واحد له ميزة من هذا النوع، إما حركة، وإما كلمة، وإما توهيم معين للمقروء عليه، والله عز وجل قد أغنانا عنها بالأمور الواضحة البيّنة.

سؤال الراقي للمرقي عن بعض الأشياء

سؤال الراقي للمرقي عن بعض الأشياء Q هل يجوز للراقي أن يقول للمرقي عندما يقرأ عليه: هل ترى أحداً؟ A هذه من الأمور التي ينبغي التمييز فيها بين وجه الحق ووجه الباطل، وهو أن المرقي عليه إذا كان الأمر يشتبه بأن يكون ما أصابه بسبب عين فلا حرج أن يقال له: هل تتذكر أحد؟ هل تعرف أحداً تكلم فيك؟ أو تخيل إن كان حدث لك مواقف سابقة ربما تكون غبطت فيها، أو تكلم الناس بحقك أو أثنوا عليك بما قد يحسدك الآخرون أو نحو هذا فهذا لا حرج فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تتهمون؟) من باب استذكار الحوادث الفعلية التي حدثت للمريض لعله بذلك يكتشف العائن، هذا أمر مشروع، لكن أن نقول له إذا قرأنا عليه: تخيل أي صورة، فأنا متأكد أن الشيطان والجني يصور له أعز الناس عليه، ثم يتهم هذا العزيز وتقع فتنة، وهذا الحاصل أنا أعرف وقائع حدثت منها مشكلات بين أسر كثيرة، وحدثت مقاطعات، ومضاربات، وتشتيت الشمل، وطلاق بين الأزواج، وكل ذلك بسبب مثل هذه الأساليب، وهي أن يأتي القارئ فيقول للمقروء عليه: تخيل، ولا يصح أن تقول: تخيل؛ لأنه في نفسه سيتخيل الناس كلهم من حوله، وأيضاً يدخل عليه الجني والشيطان فيخيِّل له، وهذا الأمر غيب، وما دام غيباً فلا يأتيه إلا من خلال الشياطين والجن أو الأوهام والوساوس. أما أن يقول: تذكّر، أو من تتهم؟ حتى وإن كان أثناء القراءة؛ لأن المريض أثناء القراءة قد يكون قلبه أقوى، وذاكرته أكثر شفافية، فربما يتذكر ما لا يتذكره قبل ذلك. أما الأمور الأخرى التي ذكرتها وذكرها الناس من التخيلات والتصورات وكون الإنسان يُفتح له مجال بأن يتوهم فهذا مما لا يجوز شرعاً ولا أعرف له دليلاً، بل الدليل ضده والواقع أثبت أنه سبب فتنة وسبب دخول الشيطان، وأيضاً عبث الجن ببني آدم، وقد كثر جداً في الناس اليوم، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

[7]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [7] الابتداع وقلة الفقه في الدين يوقع العبد في مصائد الشياطين، فيتوهم الخوارق كرامات، وأنها تدل على التأييد والعون والنصر لمن حدث له ذلك، ولا يفرق بين ما هو كهانة وشعوذة ومخرقة، وما هو كرامة، فالكرامة لا تحصل إلا بالاستقامة، أما مع عدم الاستقامة والاتباع فكله من حيل الشياطين والملبسين من الكهنة والمشعوذين.

الفرق بين الكرامات والمخارق الشيطانية

الفرق بين الكرامات والمخارق الشيطانية قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وعند المشركين عُبّاد الأوثان ومن ضاهاهم من النصارى ومبتدعة هذه الأمة في ذلك من الحكايات ما يطول وصفه، فإنه ما من أحد يعتاد دعاء الميت والاستغاثة به نبياً كان أو غير نبي إلا وقد بلغه من ذلك ما كان من أسباب ضلاله، كما أن الذين يدعونهم في مغيبهم ويستغيثون بهم فيرون من يكون في صورتهم، أو يظنون أنه في صورتهم ويقول: أنا فلان، ويكلمهم ويقضي بعض حوائجهم، فإنهم يظنون أن الميت المستغاث به هو الذي كلمهم وقضى مطلوبهم، وإنما هو من الجن والشياطين. ومنهم من يقول: هو ملك من الملائكة، والملائكة لا تعين المشركين، وإنما هم شياطين أضلوهم عن سبيل الله. وفي مواضع الشرك من الوقائع والحكايات التي يعرفها من هنالك ومن وقعت له ما يطول وصفه]. هذا الأمر إذا استصحبناه في مثل هذه الأمور نجد أن الحق فيه واضح، وأن اللبس الذي يحدث عند الجهلة وأهل البدع والذين يقعون في الشركيات ناتج عن عدم فقههم في دين الله عز وجل، وعن الجهل بهذه القاعدة، وهي قاعدة أنه ليس كل ما يحدث من الخوارق كرامات؛ هذا شيء. الشيء الآخر: أن هذه الأمور الخارقة التي تحدث إذا حدثت وصاحبها متلبس ببدعة فلا يمكن أن تكون خيراً، فإن هذا اللبس لا يكون؛ لأن الدين مبني على البيان والوضوح والحق، فهذه الأمور الملتبسة التي تحدث لأصحاب الشركيات والبدعيات لا يمكن أن تكون من باب الكرامات ولا يمكن أن تكون من ملائكة، ولا يمكن أن تكون أيضاً من الصالحين، فلا أحد من الصالحين خرج على هؤلاء وتصور لهم، ولا أحد من الملائكة يحدث منه ذلك، فكل هذه الأفعال إذاً أفعال شياطين قد يقولون: لماذا؟ نقول لهم: أولاً: لأن هذه الأفعال مضادة لأصول التوحيد، وأصول العبادة لله عز وجل. وثانياً: أنها مبنية على تصرفات ليست من جنس أفعال الملائكة ولا من جنس أفعال الأولياء، ثم إنها لم تحدث لأهل الاستقامة الذين سلموا من البدع فإذاً: لا شك أنها من عمل الشياطين ومن عمل الجن وليست من عمل الملائكة، وهي من باب الابتلاء، وليس كل خارق للعادة يكون معناه التأييد والنصر، أو يكون معناه العون لمن حدث له، بل يكون ابتلاء ويكون من عبث الشياطين والجن. أحياناً الكرامة تكون ابتداءً كرامة لكن يبدأ بها الابتلاء، فصاحب الكرامة قد تحدث له على وجه صحيح، لكنه إذا أدخل عليها ما لا أصل له في الشرع أو عمل تجاهها ما لا أصل له في الشرع كأن يغتر بها أو يظنها دليلاً على الصلاح في المآل، أو أنها بالضرورة تأييد لما عليه من عمل دون اعتبار لقواعد الشرع وأصوله؛ إذا حدث هذا فإن الإنسان قد يستدرج من الكرامة إلى المخرقة والخوارق، ثم إلى عبث الشياطين. فالشاهد أن هذه الأمور التي ذكرها الشيخ مما يحدث عند قبور الأولياء والمشاهد والآثار، وفي تصرفات هؤلاء الممخرقين، ليست على الحق بالضرورة إلا إذا كانت على قواعد الشرع، وقواعد الشرع تقتضي ألا يحدث مثل هذا بشكل سافر ومتكرر يبتلى به الناس حتى يعتمدون عليه ولا يعتمدون على الله عز وجل. أقول هذا لأننا نسمع من كثير من الذين يقعون في هذه الأمور يجعلون هذه الخوارق دليلاً على أنهم على استقامة، وأنهم مؤيدون من قِبل الأنبياء والأولياء، وما دروا أن الذين يتصورون لهم بهذه الصور ليسوا أنبياء ولا أولياء إنما هم شياطين وجن فيحتاج الأمر إلى مزيد تجلية وتقعيد.

أقسام الناس تجاه الخوارق الشيطانية

أقسام الناس تجاه الخوارق الشيطانية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأهل الجاهلية فيها نوعان: نوع يكذب بذلك كله، ونوع يعتقد ذلك كرامات لأولياء الله]. لا يزال الناس على هذا الانقسام تجاه الخوارق، سواء منها الخوارق التي من باب الكرامات، أو الخوارق التي من باب المخرقة والدجل، لا يزال أهل الجاهلية منذ قديم الزمان إلى يومنا هذا ينقسمون إلى قسمين:

القسم الأول من ينكر المخارق الشيطانية

القسم الأول من ينكر المخارق الشيطانية قسم ينكر هذه الأمور ألبتة، وهؤلاء بعض الفلاسفة وبعض العقلانيين وبعض الجهمية، وطائفة من المتحذلقة المثقفين وما سواهم، هؤلاء ينكرون كل هذه الأمور، ويعتبرونها من باب التوهمات ومن باب الخيالات، وكثير من علماء النفس على هذا الاتجاه، خاصة الذين ليس عندهم إحاطة بالعقيدة، فينكرون كل الأمور التي تتعلق بتلبيس الجن بالإنس، والخوارق، والأمور التي يدّعيها الناس مما يحدث ويرون أنه كله من باب الخيالات والأوهام، وهذا خطأ، فهو موجود في أيام الجاهلية الأولى، والجاهلية القريبة، والجاهلية المعاصرة؛ فأكثر أصحاب النزعة العقلانية ممن يدعون الإسلام ينكرونها، مع أنها تقع لكن منها ما يقع على وجه حق ومنها ما يقع على وجه باطل، الأمور الخارقة للعادة إن كانت كرامات فهي على وجه حق ويجب أن نؤمن بها، وإن وقعت على وجه باطل فهي باطل لكنها تقع فعلاً. فهذا المدعي المشرك الذي يستغيث بصاحب القبر يظهر له شكل إنسان وهو شيطان من الشياطين، لا ينكر أنه ظهر له ذلك؛ لأنه رآه وعاينه وربما يراه حتى بعض الصالحين من باب الابتلاء.

القسم الثاني من يعتقد المخارق الشيطانية كرامات

القسم الثاني من يعتقد المخارق الشيطانية كرامات والقسم الثاني من يعتقد أن كل ذلك كرامات لا يفرق بين الكرامة والدجل، ولا بين الكرامة والكهانة والمخرقة والشعوذة، يجعلها من باب واحد، فكل ما كان خارقاً يعتقد أنه كرامة، ولذلك أتي كثير من أهل البدع خاصة العامة والسذج من هذا الباب، حيث يرون أو يزعمون أن كل ما يظهر من هذه الأمور الخارقة للعادة لا يظهر إلا بتأييد من الله عز وجل وأنه دليل على رضا الله عن العبد وعن عمله، وهذا أيضاً خطأ. والقول الثالث هو قول أهل الحق: وهو أن هذه الأمور منها ما هو حق ومنها ما هو باطل، والباطل يكون مما يرى ويعاين، فليس هناك ما يمنع أن يرى الناس شيطاناً ويتمثل بنبي أو ولي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالأول يقول: إنما هذا خيال في أنفسهم لا حقيقة له في الخارج، فإذا قالوا ذلك لجماعة بعد جماعة فمن رأى ذلك وعاينه موجوداً أو تواتر عنده ذلك عمن رآه موجوداً في الخارج وأخبره به من لا يرتاب في صدقه كان هذا من أعظم أسباب ثبات هؤلاء المشركين المبتدعين المشاهدين لذلك والعارفين به بالأخبار الصادقة. ثم هؤلاء المكذبون لذلك متى عاينوا بعض ذلك خضعوا لمن حصل له ذلك وانقادوا له واعتقدوا أنه من أولياء الله، مع كونهم يعلمون أنه لا يؤدي فرائض الله حتى ولا الصلوات الخمس، ولا يجتنب محارم الله لا الفواحش ولا الظلم، بل يكون من أبعد الناس عن الإيمان والتقوى التي وصف الله بها أولياءه في قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]]. معنى هذا أنهم اختلت عندهم القواعد الشرعية التي يلزم بها الحق، ويفرق بها بين الحق والباطل، ومن أهم هذه القواعد أن يكون الإنسان الذي تحدث منه هذه الأمور على الاستقامة، والاستقامة لا تكفي فيها الدعوى، ولكن أن يكون مقيماً لدين الله عز وجل مؤدياً شعائر الله، خالياً من البدع والخرافات. فهؤلاء الذين يحكمون لأهل المخارق البدعية بأنهم أولياء الله يجهلون الموازين الشرعية فلا يفرقون بين حقيقة الولاية والعكس، وذلك إما لجهلهم، أو لأنهم اعتقدوا عقائد باطلة فخرجوا بها على الحق، أو للتقليد الأعمى، وأغلب ما يوقع العامة في هذه الأمور التسليم الأعمى لشيوخهم من المتصوفة، فلا يحكمون عقولهم فضلاً عن أن يحكموا الشرع، وإلا فكيف يوقن عاقل بأن الذي يرتكب كبيرة من الكبائر علناً أو يجاهر بالفواحش أن له كرامة ثم يصدق. والصوفية في واقعهم وفي كتبهم التي يقرونها ويدافعون عنها ملئوا أخبارهم وأحوالهم بوجود أناس من شيوخهم يفعلون الفواحش ويرتكبون الموبقات، ثم يفسرها الأتباع بأنها كرامات، يتركون الفرائض علناً، ويهجرون الصلوات، ولا يصومون ولا يحجون ثم يفسر هذا بأنه كرامات. فأقول: إن من أسباب وقوع الناس في مثل هذه الأمور التقليد الأعمى والتبعية بغير تبصر، هذا بالنسبة للعامة والغوغاء، أما الرءوس فلاشك أنه لا يقع في هذا إلا مبطل، يجني من مثل هذه الأعمال فوائد معنوية ومادية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيرون من هو مِن أبعد الناس عن الإيمان والتقوى له من المكاشفات والتصرفات الخارقات ما يعتقدون أنه من كرامات أولياء الله المتقين. فمنهم من يرتد عن الإسلام وينقلب على عقبيه، ويعتقد فيمن لا يصلي بل ولا يؤمن بالرسل، بل يسب الرسل ويتنقص بهم أنه من أعظم أولياء الله المتقين. ومنهم من يبقى حائراً متردداً شاكاً مرتاباً، يقدم إلى الكفر رجلاً وإلى الإسلام أخرى، وربما كان إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان. وسبب ذلك أنهم استدلوا على الولاية بما لا يدل عليها، فإن الكفار والمشركين والسحرة والكهان معهم من الشياطين من يفعل بهم أضعاف أضعاف ذلك قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221 - 222]. وهؤلاء لابد أن يكون فيهم كذب وفيهم مخالفة للشرع، ففيهم من الإثم والإفك بحسب ما فارقوا أمر الله ونهيه الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم، وتلك الأحوال الشيطانية نتيجة ضلالهم وشركهم وبدعتهم وجهلهم وكفرهم وهي دلالة وعلامة على ذلك، والجاهل الضال يظن أنها نتيجة إيمانهم وولايتهم لله تعالى، وأنها علامة ودلالة على إيمانهم وولايتهم لله سبحانه. وذلك أنه لم يكن عنده فرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كما قد تكلمنا على ذلك في مسألة: الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ولم يعلم أن هذه الأحوال التي جعلها دليلاً على الولاية تكون للكفار من المشركين وأهل الكتاب أعظم مما تكون للمنتسبين إلى الإسلام، والدليل مستلزم للمدلول مختص به لا يوجد بدون مدلوله، فإذا وجدت للكفار والمشركين وأهل الكتاب لم تكن مستلزمة للإيمان فضلاً عن الولاية، ولا كانت مختصة بذلك، فامتنع أن تكون دليلاً عليه. وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وكراماتهم ثمرة إيمانهم وتقواهم لا ثمرة الشرك والبدعة والفسق، وأكا

الأسئلة

الأسئلة

المبالغة في ادعاء الكرامات

المبالغة في ادعاء الكرامات Q ما رأيكم في بعض الكرامات التي يدعيها إخواننا من أهل التبليغ؟ A أنه قد يكون ممن ينتسبون للتبليغ أو لغير التبليغ بعض الجهلة وبعض المتعلقين بالبدع، فيكون عندهم مبالغات، أو تحدث عندهم بعض المخارق الشيطانية ويظنونها كرامات.

[8]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [8] من عوامل ضلال أهل البدع عند القبور تصويرهم ما يأتونه من خوارق ونحوها على أنها كرامات وفتوحات ربانية، ونسوا أن الشياطين التي تزين لهم أعمالهم الشركية والبدعية هي كذلك تصور لهم تلك الخوارق حتى يظنوا أن ما يأتون به من قربات أو أعمال تقربهم إلى الله زلفى، وكل هذا ناتج عن الابتداع في الدين والابتعاد عن هدي سنة سيد المرسلين، وعدم التفريق بين ما هو من خوارق الشياطين، أو كرامات من رب العالمين.

صور الشياطين من أسباب ضلال المشركين

صور الشياطين من أسباب ضلال المشركين قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا أن من أعظم أسباب ضلال المشركين ما يرونه أو يسمعونه عند الأوثان، كإخبار عن غائب أو أمر يتضمن قضاء حاجة ونحو ذلك، فإذا شاهد أحدهم القبر انشق وخرج منه شيخ بهي عانقه أو كلمه، ظن أن ذلك هو النبي المقبور أو الشيخ المقبور، والقبر لم ينشق وإنما الشيطان مثل له ذلك، كما يمثل لأحدهم أن الحائط انشق وأنه خرج منه صورة إنسان، ويكون هو الشيطان تمثل له في صورة إنسان وأراه أنه خرج من الحائط. ومن هؤلاء من يقول لذلك الشخص الذي رآه قد خرج من القبر: نحن لا نبقى في قبورنا، بل من حين يقبر أحدنا يخرج من قبره ويمشي بين الناس. ومنهم من يرى ذلك الميت في الجنازة يمشي ويأخذه بيده إلى أنواع أخرى معروفة عند من يعرفها]. هذه صور عبدة شياطين الجن والإنس ونحوها، هذه الصور موجودة حتى الآن بين طوائف من أهل الضلال الطرقية، وهي في الطرقية أكثر من غيرهم من أصحاب المخرقات والشعوذة وأصحاب البدع، ولا يظن أحد أنها مقصورة على بعض العهود أو أنها اشتهرت في عهد شيخ الإسلام وقبله، أو أنها خفت الآن أو زالت، نعم قد تكون زالت في بعض البيئات، لكنها زادت في بيئات أخرى، وقد يترفع عنها الناس في بعض البلاد إما لقوة إيمانهم ورجوعهم إلى السنة، وإما لعدم تعلقهم بهذه الصور، وكثير من المثقفين وغيرهم قد لا يعرفون هذه الصور ويستنكرونها؛ لأنهم لا يباشرونها ولو باشروها لحدثت لهم؛ لأنهم ليس عندهم من الإيمان واليقين ما يعصمهم، ومع ذلك لا تزال هذه الصور موجودة وأمثلتها حية في أناس نسمع بهم ونسمع منهم، وفي كثير من البلاد تتعدى المسألة إلى أكثر من ذلك، قد تكون هناك البلاد التي تحدث فيها هذه البدع، حيث يكون هناك كثيرون من أهل التصوف والبدع لا تحدث منهم هذه الأمور الكبار؛ لكنهم يعتقدون في الأولياء الأحياء والأموات أن لهم نفعاً أو ضراً، وقد وصل الأمر إلى اعتقاد أنهم يرونهم يخرجون من قبورهم أو أنهم يكلمون فلاناً أو يحضرون الحضرات أو غيرها، قد يكون عامتهم أو جمهور الغوغاء من هذا النوع لا يصلون إلى هذا الحد من التصور، لكن مع ذلك لا يزالون يتعلقون بالأشخاص من حيث اعتقادهم أنهم ينفعون أو يضرون واعتقاد أن لهم تصرفاً بأحوال العباد، وقد حدثني ثقة ومعه من شهد له بذلك ممن تاب ورجع عن هذه الأمور يقول: كنا في بلاد ما من بلاد المسلمين ولا زال أصحابنا الذين لم يتوبوا من هذا المسلك، يقول: كنا نعتقد أن الولي يملك أن ينفع الإنسان في كثير من أموره أو يضره، وأنه يلزم له لجلب النفع أو دفع الضر أن يقدم أشياء ويعمل أشياء تجاه هذا الولي، فيقول مثلاً: كنا نزرع فلا نبذر البذر حتى نأتي إلى الولي نستأذنه ونقدم له صدقة، فإذا استأذناه بذرنا البذر ثم نأتي له لنضمن نبات الزرع فإذا نبت الزرع واستوى واشتد جئنا له لنضمن حصاده من غير آفة فقدمنا له مع العبارات والشركيات أشياء من أغلى ما نملك. ويقول: والعجيب أن من لم يفعل ذلك من الأتباع والمريدين يتضرر زرعه، وتتضرر أنعامه وغنمه، ويتضرر ماله وتجارته قد وكلهم الله إلى ما اعتقدوه؛ يقول: إلا من تاب وتخلص فإن الله عز وجل يحميه ويعصمه. يقول: جربنا تجارب كثيرة أن من يكسل عن الذهاب للشيخ أو لا يواظب على هذه الطريقة بشكل منتظم يرضي الشيخ عنه تضرر ماله وتضررت أحواله وحصل له من العوائق والموانع ما يجعله يأتي راغماً إلى هذا الشيخ فيدعوه من دون الله، ويقدم له الضرائب.

اغترار أهل الضلال بدعاوى الكهان والمشعوذين

اغترار أهل الضلال بدعاوى الكهان والمشعوذين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأهل الضلال إما أن يكذبوا بها وإما أن يظنوها من كرامات أولياء الله، ويظنون أن ذلك الشخص هو نفس النبي أو الرجل الصالح أو ملك على صورته. وربما قالوا: هذا روحانيته أو رقيقته أو سره أو مثاله أو روحه تجسدت، حتى قد يكون من يرى ذلك الشخص في مكانين فيظن أن الجسم الواحد يكون في الساعة الواحدة في مكانين، ولا يعلم أن ذلك حين تصور بصورته ليس هو ذلك الإنسي. وهذا ونحوه مما يبين أن الذين يدعون الأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وغير قبورهم هم من المشركين الذين يدعون غير الله، كالذين يدعون الكواكب، والذين اتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80]. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57]. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]. ومثل هذا كثير في القرآن ينهى أن يدعى غير الله، لا من الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، فإن هذا شرك أو ذريعة إلى الشرك بخلاف ما يطلب من أحدهم في حياته من الدعاء والشفاعة فإنه لا يفضي إلى ذلك]. ما يطلب من أحد العقلاء القادرين في حياته من الدعاء والشفاعة مستثنى لأمرين: الأمر الأول: أنه ورد في الشرع استثناؤه، فيجوز أن تطلب من آخر أن يدعو لك. الأمر الثاني: أنه يقدر على ما تطلب منه، ولو لم يقدر لما جاز دعاؤه. فأنت إذا قلت لأحد من الناس ادع الله لي فإنه قادر على الدعاء؛ لكن لو خاطبت غائباً وقلت: ادع لي وهو لا يسمعك دخل هذا في باب وسائل الشرك، وكذلك لو طلبت منه ما لا يقدر عليه. إذاً: فالحي القادر إذا كان يسمعك فإنه يجوز أن تطلب منه الدعاء؛ لأنه يقدر على أن يدعو لك، ولأن ذلك مشروع بالنص الشرعي ولا يتعدى المشروع أو النص في ذلك.

دعاء الأنبياء في حياتهم وبعد موتهم

دعاء الأنبياء في حياتهم وبعد موتهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن أحداً من الأنبياء والصالحين لم يعبد في حياته بحضرته، فإنه ينهى من يفعل ذلك بخلاف دعائهم بعد موتهم فإن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم، وكذلك دعاؤهم في مغيبهم هو ذريعة إلى الشرك]. هذه أيضاً فائدة عظيمة قد لا يتفطن لها كثير من الناس، وبخاصة الذين ابتلوا بمثل هذه البدع وهي: أنه لم يثبت ولن يثبت أن أحداً من الأنبياء أو الصالحين الذين تعلق بهم هؤلاء القوم عبد في حياته بحضرته، لكن هناك ممن يسمون صالحين ليسوا بصالحين، أما أهل الصلاح والاستقامة الذين تعلق بهم أهل البدع مثل عبد القادر الجيلاني فلا يعرف عنه أنه رضي أن يدعوه أحد وهو حي أو ميت، فإن الجيلاني رحمه الله عنده بعض الشطحات في مسائل العقيدة لكنه في مسائل العبادة لم تعرف عنه زلة، بل يعتبر من الأئمة الكبار الذين لهم في تحصين الأمة في عقيدتها وفي جوانب العبادة جهود كبيرة. فإذاً: لم يحدث أن أحداً من الأنبياء ولا من الصالحين عبد في حياته ورضي بذلك أو دعا إليه أو أقره، بل العكس هو الصحيح فإنهم نهوا عن هذا العمل وعن مثل هذا العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر أمته من أن يتخذ قبره مسجداً؛ لأن ذلك ذريعة للبدعة فكيف بالبدعة نفسها مثل التمسح بقبره، ومثل الدعاء غير المشروع عنده والتوجه إليه من دون القبلة، والطواف به. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمن رأى نبياً أو ملكاً من الملائكة وقال له: ادع لي لم يفض ذلك إلى الشرك به، بخلاف من دعاه في مغيبه، فإن ذلك يفضي إلى الشرك به كما قد وقع، فإن الغائب والميت لا ينهى من يشرك، بل إذا تعلقت القلوب بدعائه وشفاعته أفضى ذلك إلى الشرك به فدعي وقصد مكان قبره أو تمثاله أو غير ذلك، كما قد وقع فيه المشركون ومن ضاهاهم من أهل الكتاب ومبتدعة المسلمين. ومعلوم أن الملائكة تدعو للمؤمنين وتستغفر لهم كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9]، وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الشورى:5 - 6]، فالملائكة يستغفرون للمؤمنين من غير أن يسألهم أحد، وكذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والصالحين يدعو ويشفع للأخيار من أمته هو من هذا الجنس، هم يفعلون ما أذن الله لهم فيه بدون سؤال أحد]. هذا المقطع نقف عنده، فالشاهد من هذا الكلام أن هذه الأمور التي ذكرت قد ورد في الشرع أنها مشروعة، مثل الاستغفار للمؤمنين، سواء من بعضهم لبعض، أو من النبي صلى الله عليه وسلم لهم أو من الملائكة، وليس هذا ذريعة إلى دعاء من لا يقدرون أو دعاء من لا يجيبون أو دعاء من لا يشرع دعاؤهم من دون الله عز وجل، لكن ما زاد عن ذلك من دعاء الأموات أو طلب الدعاء ممن لا يقدرون أو طلب الدعاء مما لا يشرع طلب الدعاء منه يحتاج إلى دليل، ولا دليل عليه، بل الدليل على عكسه.

الأسئلة

الأسئلة

حدود الولاء والبراء مع غير المسلمين

حدود الولاء والبراء مع غير المسلمين Q أرجو توضيح حدود الولاء والبراء مع غير المسلمين؟ A غير المسلمين ليس معهم ولاء من حيث الدين، بل يكون منهم البراء الكامل، أما من حيث التعامل فهذا يرجع لجلب المصالح ودفع المفاسد ويرجع لما يترتب على التصرف من خير أو شر. بعض الناس يخلط بين مسألة التعامل الدنيوي ومسألة التعامل القلبي والبراء القلبي، فالبراء القلبي والبراء الديني والعقدي من الكفار براء كامل، لكن من حيث التعامل فلابد من تحكيم قواعد الشرع بحسب الزمان والمكان والمصلحة والمفسدة، وبحسب الحال والشخص، وبحسب نوع التصرف، فمثلاً المنادمة والمجالسة لا تجوز للكافر في التبسط؛ لكن العمل معه فيما تقتضيه مصلحة عامة للمسلمين أو مصلحة خاصة.

رؤية الأموات أعمال الأحياء

رؤية الأموات أعمال الأحياء Q هل يرى الأموات أعمال الأحياء؟ A الله أعلم، فليس عندنا على هذا دليل إلا الرؤى، والرؤى ليست أدلة الرؤى، فما هي إلا أمثال تضرب للخلق. قد يوجد عند كثير من الناس أن الأحياء يرون أحوال الأموات، وأن الأموات يشعرون الأحياء بأنهم يتفقدون أحوالهم، وأنهم يسرون بما يسر ويتألمون بما يضر إلى آخره لكن هل هذا على الحقيقة من كل وجه، الله أعلم.

القصاص بين الجن والإنس يوم القيامة

القصاص بين الجن والإنس يوم القيامة Q هل يقتص الإنس من الجن يوم القيامة؟ A نعم، الظاهر أن الإنس يقتصون من الجن والجن من الإنس، وأغلب ما يكون الأذى من الجن للإنس؛ لأن الجن يرون الإنس ويشعرون بهم والإنس لا يرون الجن ولا يشعرون بهم فكان الأذى من الجن على الإنس أكثر، ولذلك القصاص سيكون بينهم يوم القيامة كسائر المخلوقات.

وصية الأموات للأحياء

وصية الأموات للأحياء Q هل يوصي الأموات الأحياء عن طريق بعض الأحياء؟ A هذا لا أعرف أنه مشروع ولا أصل له. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[9]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [9] سؤال الخلق ما ليس في مقدورهم لا يجوز شرعاً؛ لأنه يفضي إلى الشرك ونحوه، والرغبة والتوكل يكون على الله وحده لا شريك له، أما إذا سأل السائل شخصاً حياً عن شيء يقدر عليه فللحاجة يجوز له ذلك، وكمال التوكل هو أن يلجأ العبد في أحواله وشئونه وجميع أموره إلى الله تعالى ويسأله كل ما يريد ويحتاج.

موانع دعاء الأموات من الأنبياء والصالحين

موانع دعاء الأموات من الأنبياء والصالحين قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وإذا لم يشرع دعاء الملائكة لم يشرع دعاء من مات من الأنبياء والصالحين، ولا أن نطلب منهم الدعاء والشفاعة وإن كانوا يدعون ويشفعون]. أي: وإذا لم يشرع دعاء الملائكة وهم أحياء فغيرهم ممن مات من الأنبياء والصالحين من باب أولى. قال رحمه الله تعالى: [لوجهين: أحدهما: أن ما أمر الله به من ذلك هم يفعلونه وإن لم يطلب منهم، وما لم يؤمروا به لا يفعلونه ولو طلب منهم، فلا فائدة في الطلب منهم. الثاني: أن دعاءهم وطلب الشفاعة منهم في هذه الحال يفضي إلى الشرك بهم، ففيه هذه المفسدة]. قوله: (في هذه الحال) يعني: في حال موتهم. قوله: (الثاني: أن دعاءهم) أي: دعاء الأنبياء والصالحين من الأموات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلو قدر أن فيه مصلحة لكانت هذه المفسدة راجحة، فكيف ولا مصلحة فيه، بخلاف الطلب منهم في حياتهم وحضورهم فإنه لا مفسدة فيه، فإنهم ينهون عن الشرك بهم بل فيه منفعة، وهو أنهم يثابون ويؤجرون على ما يفعلونه حينئذ من نفع الخلق كلهم؛ فإنهم في دار العمل والتكليف، وشفاعتهم في الآخرة فيها إظهار كرامة الله لهم يوم القيامة].

أنواع السؤال بين الناس

أنواع السؤال بين الناس في المقطع التالي سيتكلم الشيخ في صفحتين أو ثلاث عن أنواع السؤال، وسأنبهكم الآن أو أملي عليكم الفقرات الرئيسية في هذه الأنواع حتى يتضح الكلام القادم بدل أن نقف عند كل مسألة، فالشيخ في المقطع التالي في قوله: (وأصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية) وما بعد هذا الكلام سيذكر أنواع السؤال الممنوعة والمشروعة والمباحة، فالممنوع هو سؤال الخلق ما ليس في مقدورهم، وسؤال الأموات. ثم ذكر أن المشروع نوعين، سؤال الله عز وجل، وهذا هو الواجب على كل العباد، وهذا هو مقتضى العبادة، ونوع ثان من المشروع هو سؤال الحي القادر فيما يقدر عليه. وهو يتفاوت، فمنه المكروه، ومنه المحرم لأمر عارض، ومنه الواجب، ومنه الجائز. ونوع ثالث من السؤال المشروع وهو سؤال من يريد أن يتعلم، هذا أيضاً منه ما هو واجب وهو ما يتوقف عليه الدين، ومنه ما هو جائز وهو سؤال الاستزادة من العلم إذا لم يكن من المستحبات أو الواجبات، وكذلك من هذا النوع من السؤال ما قد يكون حراماً كالسؤال عن أمور القدر المعضلة أمام الملأ، أو السؤال عن أمر يدخل عليهم الشكوك إلى آخره، الشاهد أن هذا سؤال مشروع مباح، وأحياناً يكون واجباً. النوع الرابع: وهو المطلق، وهو أن الأصل في السؤال الإباحة إذا توافرت فيه الشروط، فسؤال الخلق ما هو بمقدورهم الأصل فيه الإباحة. هذا أمر، الأمر الآخر: سيبين الشيخ الفروق بين الحد المباح والحد المشروع والحد الممنوع، وسيركز على أن سؤال الخلق في الأمور المباحة من الأمور العادية وليس من أمور العبادات، ليقطع على المبتدعة حجتهم في أن الناس كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة متعددة في أمور دينهم ودنياهم، فيقول: إن هذا من الأمور المباحة وليس من باب العبادات، فالناس لم يتعبدوا بأن يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلا في أمر الدين، أما في أمور الدنيا فغاية ما يقال: إن السؤال مباح، ومع ذلك قد يحرم أحياناً وقد يستحب أحياناً إلى آخره.

المخلوق مأمور بسؤال الله والرغبة إليه

المخلوق مأمور بسؤال الله والرغبة إليه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية التي لا يجب عليهم فعلها ليس واجباً على السائل ولا مستحباً، بل المأمور به سؤال الله تعالى والرغبة إليه والتوكل عليه. وسؤال الخلق في الأصل محرم لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله أفضل، قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8] أي: ارغب إلى الله تعالى لا إلى غيره. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]، فجعل الإيتاء لله والرسول، لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، فأمرهم بإرضاء الله ورسوله. وأما في الحسب فأمرهم أن يقولوا: حسبنا الله، لا يقولوا: حسبنا الله ورسوله]. الحسب هنا المقصود به التوكل والاعتماد، والتوكل لا يكون إلا على الله عز وجل، وكذا الاعتماد، وهذا يندرج على سائر الأعمال القلبية، فلا تصرف إلا إلى الله عز وجل وإن كان بعضها قد يختلط بأعمال الجوارح العادية، وذلك مثل الاستعانة، فهي من الأمور التي لابد فيها من التفصيل لأن لها وجوهاً: فالاستعانة القلبية في أمر يتعلق بمستقبل الإنسان نوع من التوكل لا يجوز إلا على الله؛ لكن الاستعانة في الأمر العادي يجوز أن تكون بالمخلوق فيما يقدر عليه. وكثير من الناس يخلط في الاستعانة، حتى أن بعض أهل العلم يضرب مثلاً يقول: لا يجوز لمسلم أن يستعين ولا يستغيث بغير الله عز وجل، ومن فعل ذلك فقد أشرك، وهو يقصد الاستغاثة القلبية التي هي تمام التوكل والاعتماد والحسب الذي لا يكون إلا على الله عز وجل، وصرفه لغير الله شرك، لكن الجانب الآخر وهو الاستعانة بالبشر فيما يقدرون عليه أمر آخر. فالقلب يجب ألا يتعلق إلا بالله عز وجل، وألا يتوجه إلا إلى الله؛ لأن الأعمال القلبية أقرب إلى العبادة البحتة، أما أعمال الجوارح فهي في الغالب لا تدخل فيها العبادة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقولون: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]، لم يأمرهم أن يقولوا: إنا لله ورسوله راغبون، فالرغبة إلى الله وحده كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52] فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (يا غلام! إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما أنت لاق، فلو جهدت الخليقة على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً). وهذا الحديث معروف مشهور، ولكن قد يروى مختصراً]. الحديث صحيح صححه الألباني وغيره من أئمة أهل العلم، ولكن الذي صححوه لا يدخل فيه قوله: (فإن استطعت أن تعمل لله إلى آخره) فهذا لفظ زائد في هذا النص، أما ما قبل ذلك فقد صححوه بألفاظ متعددة ومختلفة، وبعضه مختصر كما قال الشيخ وبعضه مطول.

التعلق بالله وحده وعدم التطلع إلى سؤال غيره من أسباب دخول الجنة بغير حساب

التعلق بالله وحده وعدم التطلع إلى سؤال غيره من أسباب دخول الجنة بغير حساب قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، هو من أصح ما روي عنه، وفي المسند لـ أحمد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه، ويقول: إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئاً. وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك (أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع طائفة من أصحابه وأسر إليهم كلمة خفية: ألا تسألوا الناس شيئاً، قال عوف: فقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه). وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب)، وقال: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)، فمدح هؤلاء بأنهم لا يسترقون، أي: لا يطلبون من أحد أن يرقيهم، والرقية من جنس الدعاء فلا يطلبون من أحد ذلك]. على أي حال هذا الحديث كثيراً ما يتكلم عنه الناس قديماً وحديثاً ويخوضون في معنى: (لا يسترقون)، وهل من طلب الرقية يخرج من هذه الأوصاف، وكيف يكون عدم طلب الرقية؟ ولأهل العلم كلام غالبه وجيه؛ لكن من أوجه ما قرأت أن هذا الصنف من قوة توكلهم على الله عز وجل لا تتطلع نفوسهم إلى طلب الرقية، لا أنهم يتصبرون عن طلب الرقية، بل قوة تعلقهم بالله عز وجل وصلتهم به تجعلهم لا يتطلعون إلى طلب الرقية، فهم كلما أحسوا بالألم تعلقت قلوبهم بالله ورجوا من الله عز وجل أن يشفيهم ورقوا أنفسهم، ثم إنهم يعلمون أن الرقية حق وشفاء، فلا يحتاجون إلى أن يرقيهم غيرهم وهم يملكون أن يرقوا أنفسهم فيرقوا أنفسهم. ولذلك ينبغي تنبيه الناس على أن الرقية من الشخص لنفسه أنفع من أن يرقيه غيره، لكن قد يتخلف أثر الرقية لأسباب عارضة، وإلا فالإنسان المسلم مهما كان عنده شيء من التقصير والإعراض فإن رقيته لنفسه أفضل وأرجى من رقية غيره، ومن هذا الجانب كان هذا الصنف من السبعين ألفاً، فقد أدركوا أنهم لا يحتاجون إلى أن يطلبوا السبب من غيرهم والسبب معهم، إضافة إلى ما ذكرته من قوة اعتمادهم على الله عز وجل ومن قوة تعلقهم به، لا أنهم لا يستبيحون الرقية أو لا يجيزونها؛ لأنها مشروعة، وليس من الفضل للإنسان أن يحرم على نفسه المشروع، لكنهم بقوة توكلهم نسوا أنهم يحتاجون إلى الرقية من الغير. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي فيه (ولا يرقون) وهو غلط، فإن رقياهم لغيرهم ولأنفسهم حسنة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقي نفسه وغيره ولم يكن يسترقي، فإن رقيته نفسه وغيره من جنس الدعاء لنفسه ولغيره، وهذا مأمور به]. أيضاً هنا مسألة مهمة سمعت السؤال عنها أكثر من مرة، وهي أن بعض الناس يكون عنده شيء من التورع أو طلب هذه الخصلة، فلا يأذن لأحد بأن يرقيه، ولا أظن هذا وارداً؛ لأن الوارد أن الإنسان لا يطلب، لكن لو يسر الله له من يرقيه دون طلب منه فهذا فضل من الله عز وجل ينبغي ألا يرده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل، وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ وتنفث في يديه كما كان يفعل حال صحته، وتمسح بهما جسمه ووجهه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقيه غيره لكنه لم يطلب الرقية، وكذلك كثير من الصالحين الذين عرفناهم وسمعنا بهم كانوا لا يطلبون الرقية طلباً لهذه المنزلة، وإذا رقاهم غيرهم لم يمنعوا ذلك، بل بعضهم يفرح؛ لأنها نعمة من الله عز وجل وهدية أسديت إليه.

دعوات الأنبياء عليهم السلام

دعوات الأنبياء عليهم السلام قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن الأنبياء كلهم سألوا الله ودعوه كما ذكر الله ذلك في قصة آدم وإبراهيم وموسى وغيرهم، وما يروى أن الخليل عليه السلام لما ألقي في المنجنيق قال له جبريل: سل، قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. ليس له إسناد معروف وهو باطل. بل الذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: حسبي الله ونعم الوكيل، قال ابن عباس: قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173]. وقد روي أن جبريل قال: (هل لك من حاجة؟ قال: أما إليك فلا)، وقد ذكر هذا الإمام أحمد وغيره. وأما سؤال الخليل لربه عز وجل فهذا مذكور في القرآن في غير موضع، فكيف يقول: حسبي من سؤالي علمه بحالي! والله بكل شيء عليم، وقد أمر العباد بأن يعبدوه ويتوكلوا عليه ويسألوه؛ لأنه سبحانه جعل هذه الأمور أسباباً لما يرتبه عليها من إثابة العابدين وإجابة السائلين. وهو سبحانه يعلم الأشياء على ما هي عليه، فعلمه بأن هذا محتاج أو هذا مذنب لا ينافي أن يأمر هذا بالتوبة والاستغفار، ويأمر هذا بالدعاء وغيره من الأسباب التي تقضى بها حاجته، كما يأمر هذا بالعبادة والطاعة التي بها ينال كرامته. ولكن العبد قد يكون مأموراً في بعض الأوقات بما هو أفضل من الدعاء، كما روي في الحديث: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين). وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)، قال الترمذي: حديث حسن غريب. وأفضل العبادات البدنية الصلاة، وفيها القراءة والذكر والدعاء، وكل واحد في موطنه مأمور به، ففي القيام بعد الاستفتاح يقرأ القرآن، وفي الركوع والسجود ينهى عن قراءة القرآن ويؤمر بالتسبيح والذكر، وفي آخرها يؤمر بالدعاء، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في آخر الصلاة ويأمر بذلك، والدعاء في السجود حسن مأمور به، ويجوز الدعاء في القيام أيضاً وفي الركوع وإن كان جنس القراءة والذكر أفضل، فالمقصود أن سؤال العبد لربه السؤال المشروع حسن مأمور به. وقد سأل الخليل وغيره، قال تعالى عنه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:37 - 41]. وقال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:127 - 129]. وكذلك دعاء المسلم لأخيه حسن مأمور به، وقد ثبت في الصحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه بدعوة، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثله) أي: بمثل ما دعوت لأخيك به. وأما سؤال المخلوق المخلوق أن يقضي حاجة نفسه أو يدعو له فلم يؤمر به، بخلاف سؤال العلم فإن الله أمر بسؤال العلم كما في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وقال تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس:94]، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]. وهذا ل

الأسئلة

الأسئلة

حكم الدعاء في الركوع

حكم الدعاء في الركوع Q هل الدعاء في الركوع يعارض حديث: (أما الركوع فعظموا فيه الرب)؟ A لا ما يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الركوع فعظموا فيه الرب)؛ لأن من المشروع في الركوع أن يسبح الله عز وجل أولاً ثم لا مانع أن يدعو؛ لأنه ورد أيضاً في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه: (سبحانك اللهم وبحمدك رب اغفر لي)، فقوله: (رب اغفر لي) دعاء. تقول عائشة: يتأول القرآن، تعني: يتأول قول الله عز وجل، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]. فورد الدعاء في الركوع فإذاً: المقصود التسبيح أولاً، ثم لا مانع من الدعاء في الركوع لكن الأولى في الفرائض الاقتصار على المأثور، أما النوافل فالأمر فيها سهل، فلا مانع أن يدعو الإنسان في القيام أيضاً بعد الفاتحة أو بعد السورة قبل أن يركع، وإذا ركع يدعو وإذا رفع يدعو، وإذا سجد يدعو، لكن بعد أن يقوم بأركان الصلاة وواجباتها.

حكم القول بأن الكون كتاب الله المنظور

حكم القول بأن الكون كتاب الله المنظور Q ما رأيكم في العبارة التالية: القرآن الكريم كتاب الله المتلو والكون كتاب الله المشاهد؟ A على أي حال هذه من العبارات التي تحتاج إلى تفصيل؛ أما كون القرآن كتاب الله المتلو فكلام صحيح، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، لكن قولهم: الكون كتاب الله المشاهد هو من باب التجوز في التعبير، ولا يظهر لي أن فيه حرجاً، صحيح أن فيه مبالغة وفيه نوع من المقابلة لكتاب الله المقروء بكتاب الله المنظور، والمقابلة غير لائقة في هذا المقام؛ لأن كلام الله صفته، وهذا خلقه، فمقابلة صفة الله بخلقه غير لائقة، لكن لا أرى أنه من بدع الألفاظ، بل هو من الأمور التي تجوز إذا عرف قصد القائل فيها.

العقلانيون التسمية والمدلول

العقلانيون التسمية والمدلول Q هل تسمية العقلانيين تسمية صحيحة؟ أليس هذا تشريفاً لهم، ألا يوجد اسم أوضح من هذا نسميهم وقد قال الله عز وجل في كتابه: {أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68]؟ A نعم، كلمة العقلانيين عند كثير من الناس توهم التزكية؛ لأن العقل من الأمور الممدوحة، ولذلك لو اصطلح طلاب العلم على مسمى لهؤلاء غير (العقلانيين) لكان أولى، لكن مع ذلك أصبح عند المتخصصين يفهم منه الذين يقررون الدين بعقولهم، ويفهم منه الذم. أما عند عامة الناس فالإشكال وارد، ولذلك لا مانع أن يطرح الموضوع على أهل العلم والمختصين لعلهم يبدلون هذه الكلمة بغيرها، وبعض الناس يسميهم العصرانيين، وهذه أيضاً تشعر بالتزكية عند من لا يفقه الدين، وبعضهم يسميهم بأسماء أخرى قد لا تكون مشتهرة كأهل التجديد، وهذه أيضاً فيها نظر، فالأولى فعلاً تفادي هذه الكلمة إذا أمكن.

حكم الصلاة خلف مبتدع بدعته غير مكفرة

حكم الصلاة خلف مبتدع بدعته غير مكفرة Q نحن أربعة أشخاص في أحد البلدان الإسلامية البعيدة، نعيش في قرية فيها مسجد واحد فقط، والإمام صوفي يأتي ببعض الألفاظ والعبارات بعد الصلاة وهو يعلم المأمومين فيقول: ربي بالمصطفى بلغ قصدنا، وكذلك يقول: يا لطيف -مائة وتسعاً وعشرين مرة- ونحو ذلك من البدع، فما حكم الصلاة خلفه؟ وهل نصلي وحدنا في البيت؟ A السائل ذكر أنموذجين: ربي بالمصطفى بلغ قصدنا، ولاشك أن هذه كلمة بدعية لكن لا يظهر لي أن فيها ما يقتضي الكفر، وكذلك (يا لطيف) مائة وتسعاً وعشرين مرة، فهو ينادي الله عز وجل باسمه، وتحديد مائة وتسعاً وعشرين مرة بهذه الصيغة لاشك أنه بدعة، لكن مع ذلك ليست بدعة مكفرة. وعلى هذا فإنه إذا كان لا يمكن الصلاة خلف غيره إلا بفرقة عن الجماعة ولا يمكن أن يبدل بغيره فالصلاة خلفه جائزة إذا لم يكن عنده أعظم من هذه البدع، حفاظاً على الجماعة وعدم الفرقة، أما إذا أمكن الصلاة خلف غيره ممن هو أفضل منه ولو بشيء من المشقة، أو أمكن تبديله فالأولى ألا يصلى خلفه.

[10]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [10] سؤال المخلوق فيما يقدر عليه قد يكون محرماً وقد يكون مكروهاً وقد يكون مباحاً، ومنه ما لا يكون مأموراً به، ولكن المسئول مأمور بإجابة السائل، وقد ضرب الصحابة الكرام رضي الله عنهم أروع الأمثلة في أبواب السؤال ما لم يحصل لأحدهم قط، من عدم سؤال بعضهم بعضاً إلا في النفع العام والمصلحة الكبرى، ومن سئل شيئاً لبى وأجاب.

من أنواع السؤال ما ليس مأمورا به والمسئول مأمور بالإجابة

من أنواع السؤال ما ليس مأموراً به والمسئول مأمور بالإجابة قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [ومن السؤال ما لا يكون مأموراً به، والمسئول مأمور بإجابة السائل]. هذا النوع من السؤال ليس هو السؤال البدعي، إنما هو سؤال ممنوع شرعاً، قد يكون مكروهاً وقد يكون محرماً، وهو أن يسأل الإنسان غيره في أمر يقدر عليه هذا الغير، لكنه يكون محرماً بالنسبة للسائل ولا يحرم على المسئول الإجابة، وسيذكر الشيخ صور ذلك. مثل أن يسأل الغني الناس أن يعطوه ويمد يده إليهم وهو غني فهذا حرام عليه لكن ليس على الناس ألا يعطوه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسأله الغني ويسأله الفقير فيعطي الجميع، بل كثير من المؤلفة قلوبهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم وهم أغنياء أثرياء، وكان يعطيهم أجزل مما يعطي غيرهم، وهم قد يكون عليهم السؤال محرماً أو مكروهاً غير لائق شرعاً. إذاً: فهذه الصورة ليست من البدع لكنها من السؤال غير المشروع؛ لأنها سؤال المخلوق فيما يقدر عليه، لكن هذا السؤال بالنسبة للسائل ما كان ينبغي له إما لأنه غني وغير محتاج، أو لأنه سأل ما لا يعينه على الطاعة، أو سأل ما يعينه على المعصية أو غير ذلك من العوارض التي تجعل السؤال غير مشروع في أصله لكنه ليس ببدعة؛ لأنه سؤال يقدر عليه المسئول.

صور من السؤال عند الصحابة الكبار

صور من السؤال عند الصحابة الكبار قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]، وقال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]. ومنه الحديث: (إن أحدكم ليسألني المسألة فيخرج بها يتأبطها ناراً) وقوله: (اقطعوا عني لسان هذا). وقد يكون السؤال منهياً عنه نهي تحريم أو تنزيه، وإن كان المسئول مأموراً بإجابة سؤاله، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان من كماله أن يعطي السائل، وهذا في حقه من فضائله ومناقبه وهو واجب أو مستحب، وإن كان نفس سؤال السائل منهياً عنه. ولهذا لم يعرف قط أن الصديق ونحوه من أكابر الصحابة سألوه شيئاً من ذلك، ولا سألوه أن يدعو لهم وإن كانوا قد يطلبون منه أن يدعو للمسلمين، كما أشار عليه عمر في بعض مغازيه لما استأذنوه في نحر بعض ظهرهم فقال عمر: (يا رسول الله! كيف بنا إذا لقينا العدو غداً رجالاً جياعاً! ولكن إن رأيت أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم فتجمعها ثم تدعو الله بالبركة فإن الله يبارك لنا في دعوتك). وفي رواية: (فإن الله سيغيثنا بدعائك). وإنما كان سأله ذلك بعض المسلمين كما سأله الأعمى أن يدعو الله له ليرد عليه بصره، وكما سألته أم سليم أن يدعو الله لخادمه أنس، وكما سأله أبو هريرة أن يحببه وأمه إلى عباده المؤمنين ونحو ذلك]. هذه الصور تختلف عن الصور البدعية، حتى المحرم منها والمكروه، وهي أن يسأل المخلوق فيما يقدر عليه، فإنها في حد ذاتها ليست ببدعة، سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة؛ لأنها من باب سؤال الناس ما يقدرون عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الصديق فقد قال الله فيه وفي مثله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21]. وقد ثبت في الصحاح عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: (إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، فلم يكن في الصحابة أعظم منه من الصديق في نفسه وماله. وكان أبو بكر يعمل هذا ابتغاء وجه ربه الأعلى لا يطلب جزاء من مخلوق، فقال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21]. فلم يكن لأحد عند الصديق نعمة تجزى، فإنه كان مستغنياً بكسبه وماله عن كل أحد، والنبي صلى الله عليه وسلم كان له على الصديق وغيره نعمة الإيمان والعلم، وتلك النعمة لا تجزى، فإن أجر الرسول فيها على الله، كما قال تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف:104]. وأما علي وزيد وغيرهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان له عندهم نعمة تجزى، فإن زيداً كان مولاه فأعتقه، قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب:37]، وعلي كان في عيال النبي صلى الله عليه وسلم لجدب أصاب أهل مكة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم والعباس التخفيف عن أبي طالب من عياله، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم علياً إلى عياله وأخذ العباس جعفراً إلى عياله، وهذا مبسوط في موضع آخر].

طلب الدعاء على الإحسان معدود من الجزاء

طلب الدعاء على الإحسان معدود من الجزاء قال رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا أن الصديق كان أمن الناس في صحبته وذات يده لأفضل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونه كان ينفق ماله في سبيل الله كاشترائه المعذبين، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً في خاصة نفسه لا إلى أبي بكر ولا غيره، بل لما قال له في سفر الهجرة: (إن عندي راحلتين فخذ إحداهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: بالثمن)، فهو أفضل صديق لأفضل نبي، وكان من كماله أنه لا يعمل ما يعمله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، لا يطلب جزاء من أحد من الخلق، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم. ومن الجزاء أن يطلب الدعاء، قال تعالى عمن أثنى عليهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9]، والدعاء جزاء كما في الحديث: (من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه). (وكانت عائشة إذا أرسلت إلى قوم بصدقة تقول للرسول: اسمع ما يدعون به لنا حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا لنا ويبقى أجرنا على الله)]. هذه مسألة مهمة وخفية على كثير من الناس، وهي أيضاً خلافية كما ذكر الشيخ في موضع آخر، وهي أن الإنسان إذا عمل معروفاً وأحسن إلى آخرين فهل يشرع له أن يطلب منهم الدعاء أو لا؟ قال بعض أهل العلم: لا حرج عليه، ويشرع له أن يطلب الدعاء ممن يحسن إليه، فإذا عمل خيراً مع أحد أو نفعه بشيء من أمور دينه أو دنياه فيقول: ادع الله لي، هذا قول. والقول الآخر وهو الأرجح وعليه غالب أئمة السلف الكبار فيما أعلم: أنهم يرون هذا جائزاً لكن ليس هو الأولى، أي أنك تفرح وتتمنى أن يدعو لك الآخرون لكن لا ينبغي أن تطلب منهم؛ لأن جزاءك ثابت عند الله عز وجل سواء أدعوا لك أم لم يدعوا، ولأن في طلب الدعاء إضعافاً للاحتساب وطلب الأجر من الله، ونوعاً من القدح في الإخلاص. فلذلك كان الأولى لمن بذل معروفاً لأحد أن يحتسب أجره عند الله عز وجل ولا يطلب الدعاء له جزاء إحسانه، ولذلك فقهت عائشة رضي الله عنها هذا الأمر، فكانت إذا أرسلت بالصدقة تقول لمن ترسله: اسمع ما يدعون لنا، تريد أن تدعو له بمثل ذلك، ويتمخض الأجر خالصاً من الله عز وجل. قد يقول قائل: أليس في طلب الدعاء ممن تحسن إليه إذا دعا لك زيادة أجر من الله عز وجل؟ نقول: هذا قد يكون؛ لكن قد يكون العكس أيضاً، حيث يدخل في النفس شيء من العجب والرياء، ثم إنه من جانب آخر قد يضعف إيمان الإنسان في اتكاله على دعاء الآخرين فإن نفع طلب الدعاء من الغير عند الإحسان إليهم من وجه قد يضر من وجوه أخرى ترجع إلى أصل اليقين وإلى أصل التوكل في النفس، وهذا أثره يبقى على النفس أكثر من أثر العارض.

الكف عن طلب الدعاء على الإحسان أحرى بالإخلاص

الكف عن طلب الدعاء على الإحسان أحرى بالإخلاص قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال بعض السلف: إذا قال لك السائل بارك الله فيك، فقل: وفيك بارك الله، فمن عمل خيراً مع المخلوقين سواء كان المخلوق نبياً أو رجلاً صالحاً أو ملكاً من الملوك أو غنياً من الأغنياء، فهذا العامل للخير مأمور بأن يفعل ذلك خالصاً لله يبتغي به وجه الله، لا يطلب به من المخلوق جزاء ولا دعاء ولا غيره، لا من نبي ولا رجل صالح ولا من الملائكة، فإن الله أمر العباد كلهم أن يعبدوه مخلصين له الدين. وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، فلا يقبل من أحد ديناً غيره، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. وكان نوح وإبراهيم وموسى والمسيح وسائر أتباع الأنبياء عليهم السلام على الإسلام، قال نوح: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، وقال عن إبراهيم: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:130 - 132]. {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]. وقالت السحرة: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126]. وقال يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]. وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة:44]. وقال عن الحواريين: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111]. ودين الإسلام مبني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو أمر استحباب، فيعبد في كل زمان بما أمر به في ذلك الزمان. فلما كانت شريعة التوراة محكمة كان العاملون بها مسلمين وكذلك شريعة الإنجيل. وكذلك في أول الإسلام لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس كانت صلاته إليه من الإسلام، ولما أمر بالتوجه إلى الكعبة كانت الصلاة إليها من الإسلام، والعدول عنها إلى الصخرة خروجًا عن دين الإسلام. فكل من لم يعبد الله بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بما شرعه الله من واجب ومستحب فليس بمسلم]. وهذا تتبين به مسألة وقع فيها الإشكال عند كثير من الذين يجهلون العقيدة، وشاع هذا الإشكال عند كثير من العصرانيين والعقلانيين وبعض المثقفين، وهو أنهم يفترضون أن طوائف من أهل الكتاب على الحق في هذا العصر ومنذ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: ما الذي يمنع أن يكون هناك طوائف من أهل الكتاب وهم الذين سلموا من العقائد الكفرية -بزعمهم- أو سلموا مما يوقعهم في الخروج من الملة، يبقون على مسمى الإسلام، وأنهم من الناجين كنجاة المسلمين المسلِّمين للرسول صلى الله عليه وسلم! وهذا جهل؛ لأن من مقتضيات دينهم الذي كانوا عليه أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث، وهذا من الأركان الأساسية التي لا يصح دينهم إلا بها ولذلك كان يوجد بقايا من أهل الكتاب وفقهم الله فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا على الحق، ومن لم يسلم منهم وخذله الله لم يعد مسلماً كإسلامه قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. ومثال ذلك في المسلمين الآن: المسلمون باقون على مسمى الإسلام حتى يخلوا بشيء من نواقض الدين، ومن نواقض الدين أنه إذا جاء عيسى عليه السلام في آخر الزمان فمن آمن به وكان موفياً بشروط الإسلام فهو مسلم؛ لكن من كذب به بعد نزوله أو حتى قبل نزوله مع العلم بتواتر النصوص خرج من مقتضى الدين وهكذا. فإذاً: دعوى أنه قد يوجد من بعض الديانات من يكون على الحق دعوى باطلة من أصلها؛ لأنها تنسف بوجوب إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

الاستدلال بالأمر بالدعاء بعد الأذان على جواز طلب الدعاء

الاستدلال بالأمر بالدعاء بعد الأذان على جواز طلب الدعاء Q ألا يستدل على جواز طلب الدعاء بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم الأذان فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة)؟ A لا أدري ما هو وجه المقارنة بين الأمرين؛ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (سلوا الله لي الوسيلة) من باب أنه مشرع لا من باب أنه يطلب لنفسه شيئاً يكون أجره به من الناس لكن الله عز وجل شرع له ذلك فلا يقاس عليه غيره، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (سلوا الله لي الوسيلة)، فهذا يرجع إلى ما أمره الله به، ثم إن هذه الفضيلة متعلقة بأمر عظيم لا يدركه غير النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يقاس هذا على طلب الناس من الناس.

حكم طلب الدعاء من الرجل الصالح

حكم طلب الدعاء من الرجل الصالح Q هل طلب الدعاء من الرجل الصالح الذي لم تحسن إليه فيه شيء؟ A هذا من الأمور الجائزة، لكن الأصل أنه لا يشرع دائماً؛ لأن الإكثار منه يضعف التوكل ويضعف اليقين، ويجعل القلب يتعلق بغير الله، فلذلك لا ينبغي الإكثار منه، لكن إذا حدث في ظرف يقتضيه، مثل إنسان أصابته ضرورة ووافق رجلاً صالحاً في زمان فاضل أو في مكان فاضل أو في عمل فاضل، فكأنه بذلك طلب من الغير أن يدعو له من باب التماس الأجر أو الفرج من الله عز وجل على لسان الغير. أما الطلب دائماً فليس بمشروع؛ لأنه يؤدي إلى ضعف اليقين، بل إنه بدعة إذا كثر؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك، وإنما فعلوه في مناسبات محدودة وفي ظروف محدودة جداً.

حكم القراءة على المرضى بمكبر الصوت

حكم القراءة على المرضى بمكبر الصوت Q ما حكم من يقرأ على مجموعة من الأشخاص بمكبر الصوت بحجة الزحام؟ A لا أعرف ما يمنع من ذلك شرعاً، لكنه غير لائق، فقد كان هناك مرضى يبحثون عن رقية، فما كان السلف يجمعون الناس ويقرءون عليهم قراءة واحدة. ثم إنه ارتبط بصورة جلب المادة، وارتبط بصور مستبشعة عند العقلاء، فلذلك أرى أنه تصرف غير لائق. أما أن نقول: إنه محرم فليس عندنا دليل على التحريم ولا على عدم مشروعيته، لكنه غير لائق، ولا ينبغي للراقي أصلاً أن يتفرغ للرقية وأن يتجمهر عنده الناس، هذه كلها أمور بعيدة عن السنة فيما أعرف. وصحيح أن الناس ينتفعون، لكن هذا أمر إلى أي حد يكون؟ الآن أصبحت تهيأ لهذا قاعات كبيرة واستراحات وأحواش، خرج الأمر عن سمت السنة، خرج الأمر عن السمت الشرعي.

[11]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [11] مفاسد سؤال المخلوقين كثيرة، منها الذلة التي تلحق السائل، والافتقار إلى غير الله تعالى، وإيذاء المسئول، وكل هذه المفاسد وغيرها فيها ظلم واعتداء، وقد أمر الله العباد وحثهم على سؤاله وحده والتوجه إليه والرغبة فيما عنده، فإنه وحده تعالى الذي ينفع عباده ويثيبهم ويعطيهم أعظم وأجزل وأكثر مما لو طلب العبد غيره.

مفاسد سؤال المخلوق

مفاسد سؤال المخلوق قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ولابد في جميع الواجبات والمستحبات أن تكون خالصة لله رب العالمين، كما قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:4 - 5]. وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:1 - 3]. فكل ما يفعله المسلم من القرب الواجبة والمستحبة؛ كالإيمان بالله ورسوله والعبادات البدنية والمالية ومحبة الله ورسوله، والإحسان إلى عباد الله بالنفع والمال، هو مأمور بأن يفعله خالصاً لله رب العالمين، لا يطلب من مخلوق عليه جزاء، لا دعاء ولا غير دعاء، فهذا مما لا يسوغ أن يطلب عليه جزاء، لا دعاء ولا غيره. وأما سؤال المخلوق غير هذا فلا يجب، بل ولا يستحب إلا في بعض المواضع، ويكون المسئول مأموراً بالإعطاء قبل السؤال، وإذا كان المؤمنون ليسوا مأمورين بسؤال المخلوقين، فالرسول أولى بذلك صلى الله عليه وسلم، فإنه أجل قدراً وأغنى بالله عن غيره. فإن سؤال المخلوقين فيه ثلاث مفاسد: مفسدة الافتقار إلى غير الله، وهي من نوع الشرك. ومفسدة إيذاء المسئول، وهي من نوع ظلم الخلق. وفيه ذل لغير الله وهو ظلم النفس. فهو مشتمل على أنواع الظلم الثلاثة، وقد نزه الله رسوله عن ذلك كله]. قوله: (مفسدة الافتقار إلى غير الله، وهي نوع من الشرك)، لا يقصد بذلك أنها كلها من الشرك الأكبر، فالافتقار إلى غير الله إذا كان من باب العبادة كدعاء غير الله أو الاستعانة والاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهو شرك أكبر، وإذا كان ما دون ذلك، فهو نوع من الشرك الأصغر جزماً، فيسمى شركاً تجوزاً، ولأن كثيراً من طلب العباد للعباد فيه نوع افتقار إلى غير الله، حتى وإن كان من باب المباح، فكون الإنسان يحتاج إلى أخيه بأن يقترض منه مالاً، ومقتضى العزم والحزم أن يدعو الله عز وجل أن يجعل له من أمره يسراً، ويعزم المسألة في دعاء الله عز وجل من دون اقتراض مثلاً، لكن لو اقترض فهذا مباح له وليس فيه عليه حرج، وربما يكون عند الإنسان أحياناً نوع من الاعتماد على المخلوق حتى في المباح، حتى يذهل عن الاعتماد على الله عز وجل، فهذا لا شك أنه يقع في الإثم، مما قد يجعل صورة العمل عنده قريباً من الشرك الأكبر ولو لم تكن شركاً أكبر. وأقول: إن مثل هذا الأمر يتفاوت، فمنه ما هو شرك أكبر، ومنه ما هو دون ذلك، وكله يسمى افتقاراً إلى غير الله، وكل ذلك فيه مفسدة.

الحث على سؤال الله والتوجه إليه

الحث على سؤال الله والتوجه إليه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحيث أمر الأمة بالدعاء له فذاك من باب أمرهم بما ينتفعون به، كما يأمرهم بسائر الواجبات والمستحبات، وإن كان هو ينتفع بدعائهم له، فهو أيضاً ينتفع بما يأمرهم به من العبادات والأعمال الصالحة. فإنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء)، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الداعي إلى ما تفعله أمته من الخيرات، فما يفعلونه له فيه من الأجر مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ولهذا لم تجر عادة السلف بأن يهدوا إليه ثواب الأعمال؛ لأن له مثل ثواب أعمالهم بدون الإهداء من غير أن ينقص من ثوابهم شيء، وليس كذلك الأبوان؛ فإنه ليس كل ما يفعله الولد يكون للوالد مثل أجره، وإنما ينتفع الوالد بدعاء الولد ونحوه مما يعود نفعه إلى الأب، كما قال في الحديث الصحيح: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له). فالنبي صلى الله عليه وسلم فيما يطلبه من أمته من الدعاء؛ طلبه طلب أمر وترغيب ليس بطلب سؤال، فمن ذلك أمره لنا بالصلاة والسلام عليه، فهذا أمر الله به في القرآن بقوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، والأحاديث عنه في الصلاة والسلام معروفة]. هذا ينبغي أن يكون هو الأول، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر الأمة بالدعاء له، فهو امتثال لأمر الله عز وجل، هذا الأمر الأول. ثانياً: لأن الناس ينتفعون بدعائهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه وبالدعاء له بكل وجه من وجوه الدعاء المشروعة؛ لأن الله عز وجل وعدهم بالثواب على ذلك، فوعد من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة أن يصلي عليه عشراً، فهذا من الأمور التي رغب الله فيها وأمر بها. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أصل كل خير، قد جعله الله سبباً لكل خير للأمة إلى قيام الساعة، فالدعاء له من هذا الوجه يكون مشروعاً أكثر من الدعاء لغيره، وإن كان الدعاء مشروعاً لجميع العباد، لكن الدعاء له لا يدخل في صورته الكاملة في مثل الدعاء للآخرين، الدعاء للآخرين قد يكون فيه بعض المحاذير إذا لم يضبط بضوابط الشرع، أما الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم فهو مطلوب مطلقاً، ولذلك سيأتي أيضاً في حديث قادم، أن أحد الصحابة قال: (إني أصلي، كم أترك لك من صلاتي) حتى قال: (لو جعلت لك صلاتي كلها؟) يعني: دعائي كله، فبشر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الداعي بأنه ينتفع بصرف وقته للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء له، وأن ذلك من أعظم القربات ومن أسباب انتفاع هذا الداعي في دينه ودنياه، هذا أمر.

إهداء الثواب للرسول صلى الله عليه وسلم

إهداء الثواب للرسول صلى الله عليه وسلم الأمر الآخر: أن مسألة إهداء الثواب للنبي صلى الله عليه وسلم لا ترد، لأن كل ما يفعله المسلم من القربات، فإن للنبي صلى الله عليه وسلم مثل أجره؛ لأن الله جعله هو السبب في كل خير لهذه الأمة، فكل من فعل خيراً فإن للنبي صلى الله عليه وسلم مثل ثوابه وأكثر، فهو ليس بحاجة إلى إهداء الثواب له، أو كما يفعل بعض الناس من إهداء الحج له أو القربات أو الأضحية إلى آخر؛ لأن كل ما يعمله المسلمون باتباعه صلى الله عليه وسلم وبسنته، وله مثل أجرهم وأكثر، أما مسألة إهداء الثواب للآخرين فهي مسألة أخرى. إهداء الثواب من قبل الحي للميت على صورتين: الصورة الأولى: بمعنى الصدقة عنه، فهذا مشروع، كأن تتصدق عن الغير من الأموات، بمعنى أنك تريد أن تبذل له خيراً بعد مماته فتتصدق عنه، لكن هذه عند كثير من أهل العلم ليست من باب إهداء الثواب، بل هي صدقة جارية قد يكون تسبب فيها الميت أو وهبها له الحي، ولذلك بعض أهل العلم قال: إنه يدخل من باب الصدقة الجارية التي ينتفع بها الميت، لكن هل تعتبر من باب إهداء الثواب أو لا تعتبر هذه محل خلاف. والنوع الثاني: بمعنى إهداء ثواب الطاعة والعبادة، فهذا غير مشروع، اللهم إلا ما ورد استثناؤه في الشرع. ومثال ذلك أن تصلي ثم تقول: أهدي هذه الصلاة لفلان الميت، فهذا غير مشروع، أو تصوم أو تعمل أي عمل من أعمال البر، ثم تقول: أهدي ثواب هذا العمل للميت، أو كما يفعل بعض المبتدعة؛ حيث يقرأ الفاتحة ويقول: أهديها لفلان هذا كله ليس بمشروع، لكن بعض الأشياء استثنيت شرعاً من أعمال الطاعات تهدى للأموات مثل الحج عن الميت وإن كان سبق أن حج، فهذا مما يشرع، أما الطواف فلا يزال فيه خلاف بين أهل العلم إلى اليوم، وبعض مشايخنا لا يزالون يفتون بجواز هذا؛ لأنه ورد عن السلف، وكأنهم رأوا أن ذلك أصل، على أي حال سيأتي تفصيل هذه المسألة لأنها مهمة جداً، وبدأ الناس يقعون في مخالفات في هذه القضية، وبعضهم أيضاً ينكر المشروع منها.

الأمر بطلب الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود للرسول صلى الله عليه وسلم

الأمر بطلب الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود للرسول صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن ذلك أمره بطلب الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة). وفي صحيح البخاري عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد، حلت له شفاعتي يوم القيامة). فقد رغب المسلمين في أن يسألوا الله له الوسيلة، وبين أن من سألها له حلت له شفاعته يوم القيامة، كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً، فإن الجزاء من جنس العمل]. هذا كله من باب الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم، سواء الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، أو طلب الوسيلة له، وأن يبعث في المقام المحمود. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الوسيلة بأنها درجة في الجنة، وبعضهم قال: يدخل فيها ما دون ذلك من الأمور التي ميزه الله بها. أما المقام المحمود فقد فسر بتفسيرين: أولهما: أن المقصود بالمقام المحمود شفاعته صلى الله عليه وسلم للخلائق أن يفصل الله بينهم يوم القيامة، ومنها شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة بأن يدخلوها، وقد جاء تفسيره في النص الصريح بأنه هو المقام المحمود. وفسر بعض السلف المقام المحمود بصورة أخرى، وهو ما ورد في بعض الآثار من أن الله عز وجل يجلس نبيه على العرش، وهذه مسألة قال بها بعض السلف وأنكرها آخرون، فبعضهم جعلها مسألة من مسائل العقيدة والأصول، وبعضهم جعلها من الأمور التي تحتاج إلى تحقيق ونظر، وبعضهم أنكرها، وعلى هذا فإن تفسير المقام المحمود بالشفاعة العظمى هو التفسير القاطع الذي لا شك فيه، لكن هل من المقام المحمود أن الله يجلس نبيه على العرش؟ هذه المسألة لا يمنع منها العقل، بعض الناس يستهولها عقلاً، ويقول: كيف يكون على العرش؟ فنقول: العرش مخلوق والرسول صلى الله عليه وسلم مخلوق، والله عز وجل يقدر ما يشاء ويفعل ما يشاء، لكن لا يلزم من هذا أن يقف الإنسان عند ما يتخيله خياله من لوازم تتعلق باستواء الله على عرشه، فالله ليس كمثله شيء، والله قادر على أن يفعل ذلك، كما أن الله عز وجل رفع مقام النبي صلى الله عليه وسلم في المعراج إلى أن وصل سدرة المنتهى، ووصل إلى مقام لم يصله أحد قبله من الخلق، ولن يصله أحد بعده، قادر على أن يجلسه على العرش كما يليق بفعل الله عز وجل، وليس ذلك بممتنع، لكن أقول: إن هذه المسألة ليست متفقاً عليها عند السلف، بل بعضهم عدها من غرائب الأقوال. والله أعلم.

سؤال رسول الله الدعاء من عمر وحديث: (أجعل لك صلاتي كلها)

سؤال رسول الله الدعاء من عمر وحديث: (أجعل لك صلاتي كلها) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن هذا الباب الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه، وابن ماجه: (أن عمر بن الخطاب استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له، ثم قال: ولا تنسنا يا أخي من دعائك)، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من عمر أن يدعو له كطلبه أن يصلي عليه ويسلم عليه، وأن يسأل الله له الوسيلة والدرجة الرفيعة، وهو كطلبه أن يعمل سائر الصالحات، فمقصوده نفع المطلوب منه والإحسان إليه، وهو صلى الله عليه وسلم أيضاً ينتفع بتعليمهم الخير وأمرهم به، وينتفع أيضاً بالخير الذي يفعلونه من الأعمال الصالحة ومن دعائهم له. ومن هذا الباب قول القائل: (إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت. قال: الربع؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك. قال: النصف؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك، قال: الثلثين؟ قال: ما شئت، وإذا زدت فهو خير لك، قال: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذاً تكفى همك ويغفر لك ذنبك) رواه أحمد في مسنده والترمذي وغيرهما]. يقصد بهذا الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه، ولا يقصد بالصلاة هنا الصلاة المعهودة، فالصلاة يدخل فيها الدعاء أو الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، فالسائل هنا يقول: لو أني جعلت كل وقت من الأوقات أحدده للعبادة أو للذكر في الصلاة عليك والدعاء لك؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن زدت فهو خير لك)، ثم لما قال: أجعل لك صلاتي كلها، قال: (إذاً تكفى همك ويغفر لك ذنبك)، بمعنى أن يخصص كل وقت الذكر للدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد بسط الكلام عليه في جواب المسائل البغدادية، فإن هذا كان له دعاء يدعو به، فإذا جعل مكان دعائه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كفاه الله ما أهمه من أمر دنياه وآخرته، فإنه كما صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً، وهو لو دعا لآحاد المؤمنين لقالت الملائكة: (آمين، ولك بمثل) فدعاؤه للنبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك. ومن قال لغيره من الناس: ادع لي أو لنا، وقصده أن ينتفع ذلك المأمور بالدعاء وينتفع هو أيضاً بأمره وبفعل ذلك المأمور به، كما يأمره بسائر فعل الخير، فهو مقتد بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤتم به، ليس هذا من السؤال المرجوح]. هذه مسألة فيها غموض ويغفل عنها كثير من الناس؛ وهو أن الشيخ فرق بين صورتين في طلب الدعاء من الغير: صورة أن يطلب الدعاء من الغير من أجل أن يؤجر الغير، ثم هو ينتفع، فيقول: إن هذا مشروع. والصورة الأخرى وهي أقل مشروعية وربما تكون غير مرغوب فيها، وهو أن يكثر من طلب الدعاء من الغير لينتفع هو، وليس على باله أن ينتفع الداعي بالأجر. وقد فرق الشيخ بين الصورتين أكثر من مرة فيما مضى وفي هذا المقام وفي مقامات لاحقة، وهذا فقه دقيق لا يدركه أكثر الناس، فالشيخ تجده مرة يقول: طلب الدعاء من الغير ليس مرغوباً فيه، وهنا يقول: طلب الدعاء من الغير في هذه الصورة مرغوب فيه وراجح، وليس من السؤال المرجوح. إذاً: الصورة التي رأى أنها مرغوبة وراجحة وليست من السؤال المرجوح هي: أن تطلب من الغير الدعاء لك ويكون في نيتك الإحسان إلى هذا الغير من أجل أن ينتفع بالدعاء فيؤجر؛ لأن الدعاء للمسلمين من أعظم القربات، والدعاء للمؤمنين بخاصة من أعظم القربات، والدعاء للصالحين كذلك من أعظم القربات، فمن هنا تفطن الشيخ لهذا الفقه ففرق بين الصورتين.

السؤال المذموم في سؤال المخلوق

السؤال المذموم في سؤال المخلوق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما إن لم يكن مقصوده إلا طلب حاجته لم يقصد نفع ذلك والإحسان إليه، فهذا ليس من المقتدين بالرسول المؤتمين به في ذلك، بل هذا هو من السؤال المرجوح الذي تركه إلى الرغبة إلى الله وسؤاله أفضل من الرغبة إلى المخلوق وسؤاله، وهذا كله من سؤال الأحياء السؤال الجائز المشروع]. ختم الشيخ هذا المقطع ببيان أن الصورتين مشروعتان، لكن الصورة الأولى فاضلة والصورة الثانية مفضولة؛ والصورة الأولى أن يقصد فيها طالب الدعاء الإحسان للداعي والنفع له ولغيره، والصورة الأخرى هي أن يطلب الإنسان من آخر أن يدعو له، لكن لانتفاع يخص السائل، وليس على باله نفع الآخرين، فهذه صورة مرجوحة. قال أهل العلم: لا ينبغي للمسلم أن يكثر من طلب الدعاء من الآخرين؛ لأنه يقلل من اعتماده على الله عز وجل، ويضعف يقينه ويضعف قلبه، لكن مجال طلب الدعاء من الآخرين هو في ظروف معينة، كأن يكون في مكان فاضل أو في زمان فاضل أو في عمل جليل، أو من إنسان صالح يتوسم فيه الصلاح ويكون الدعاء في هذا الظرف له مناسبة، كأن يكون مضطراً له حاجة ملحة، فمن هنا يكون طلب الدعاء من الغير في مناسبات محدودة وفي ظروف محدودة، أما أن يكون سمة للشخص، فهذا في الغالب إما أن يكون عن ضعف إيمان، أو على الأقل يدخل فيما لا يشرع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما سؤال الميت فليس بمشروع ولا واجب ولا مستحب، بل ولا مباح، ولم يفعل هذا قط أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من سلف الأمة؛ لأن ذلك فيه مفسدة راجحة وليس فيه مصلحة راجحة، والشريعة إنما تأمر بالمصالح الخالصة أو الراجحة، وهذا ليس فيه مصلحة راجحة، بل إما أن يكون مفسدة محضة أو مفسدة راجحة، وكلاهما غير مشروع. فقد تبين أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من طلب الدعاء من غيره هو من باب الإحسان إلى الناس الذي هو واجب أو مستحب].

الأسئلة

الأسئلة

العرش الذي يسجد موسى عند ساقه بعد الصعقة

العرش الذي يسجد موسى عند ساقه بعد الصعقة Q قال الله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر:22]، وجاء في الحديث أن الخلق يصعقون حينذاك وإذا بموسى عليه السلام ساجد عند ساق العرش، السؤال: هل هذا العرش هو الذي قال الله تعالى فيه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؟ A هذا هو الظاهر والله أعلم.

معنى قول ابن تيمية: (ليس كل ما يفعله الولد يكون للوالد مثل أجره)

معنى قول ابن تيمية: (ليس كل ما يفعله الولد يكون للوالد مثل أجره) Q ما معنى قول شيخ الإسلام: (وليس كذلك الأبوان، فإنه ليس كل ما يفعله الولد يكون للوالد مثل أجره، إنما ينتفع بدعاء الولد ونحوه)، وهل يعارض هذا ما ورد أن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها؟ A هذه العبارة نحتاج أن نرجع لها في الكتاب؛ قال: (لم تجر عادة السلف أن يهدوا إليه -يعني: إلى النبي صلى الله عليه وسلم- ثواب الأعمال؛ لأن له صلى الله عليه وسلم مثل ثواب أعمالهم بدون الإهداء من غير أن ينقص من ثوابهم شيء، وليس كذلك الأبوان، فإنه ليس كل ما يفعله الولد يكون للوالد مثل أجره)، قصده: ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم من أنه: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له)، يعني: دعاء الولد الصالح لأبويه من الأجور الباقية التي يصل ثوابها إلى الميت، وهي مستثناة من عموم إهداء الثواب.

رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه ليس من باب السؤال

رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه ليس من باب السؤال Q ذكر الشيخ ما في سؤال الخلق من المفاسد، والنبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند اليهودي، فهل على هذا سأل الخلق؟ A هذا ليس من باب سؤال الخلق؛ لأن هذا ليس سؤال استجداء، هذا من باب المعاملة مثل البيع والشراء، والأصل فيه الإباحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما طلب لنفسه صدقة أو هدية أو هبة من اليهودي، ولكنه استدان ووضع مقابل الدين عيناً مرهونة، فليس لليهودي فضل على النبي صلى الله عليه وسلم. فإذاً: الشيء إذا كان فيه تبادل، كبيع شيء بشيء، ودين برهن، هذا كله ليس فيه فضل من طرف على الطرف الآخر.

تفضل الله على المؤمن والكافر بنعمة الإيجاد والخلق

تفضل الله على المؤمن والكافر بنعمة الإيجاد والخلق Q ألا يقال: إن الله تفضل في البداية على المؤمن والكافر سواء بسواء عند إيجاد؟ A أنا ذكرت هذا، لكن يبدو أني ما أوضحت المسألة، وذلك أن التفضل على العباد على نوعين: تفضل الربوبية والخلق والرزق والنعم العامة في الدنيا، فالعباد فيها سواء. والنوع الآخر: هو تفضل الله عز وجل على بعض عباده بالهداية، فلا شك أن الله يهدي من يشاء ويتفضل على عباده المؤمنين. والشيخ كأنه أراد أن ينكر على الذين قالوا: إنه ليس هناك فرق بين الهداة والضالين، بين المؤمنين والكافرين، وأن فضل الله عليهم سواء في الدنيا والآخرة، وذكرت لهذا مثالاً واضحاً عند غلاة الفلاسفة والجهمية وغيرهم وهي يمثلهم ابن عربي وغلاة الصوفية.

بيان مفاسد سؤال المخلوق

بيان مفاسد سؤال المخلوق Q هذا يسأل عن قول الشيخ في المفاسد الثلاث: مفسدة الافتقار ومفسدة إلى آخره نرجو شرح هذه الثلاث باختصار مع الأمثلة؟ A كنت أظنها واضحة جداً، فالأولى وقفت عندها؛ لأن فيها بعض الغموض ففسرت شيئاً منها، أما الثانية: مفسدة إيذاء المسئول فواضحة؛ لأن المقصود بها أن السائل قد يقع في شيء من الإحراج، وأحياناً يكون الأمر أكثر من ذلك، أحياناً يكون في السؤال إتعاباً للمسئول أو خسارة عليه في دنياه، أو خسارة عليه في ماله أو نحو ذلك. وكذلك قوله في الذل لغير الله؛ لأن السائل لا يسأل حتى يشعر بشيء من الافتقار إلى المسئول ويشعر بشيء من الذلة، ثم المسئول لابد إذا سئل وطلب منه العون، لابد أن يشعر بشيء من العزة على من يخدمه. فهذه مسألة فطرية نجدها عند جميع الناس.

[12]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [12] لم يشرع الله عز وجل لعباده إلا ما فيه صلاحهم ومعاشهم ومنفعتهم في العاجل والآجل، والشرك والبدع فيها فساد العباد في المعاش والمعاد، ومن هنا فإن صرف أي نوع من العبادات لغير الله تعالى فيه إساءة لله تعالى، وسؤال بغير حق، واستجداء من مخلوق ناقص لا يقدر على شيء، وإعراض عن الخالق الذي يملك كل شيء سبحانه وتعالى، وكل ذلك يحصل نتيجة إيحاءات الشيطان الذي يصرف الإنسان عن أوامر الرحمن واتباع غير سبيل الله وصراطه القويم.

أنواع الظلم في الزيارة الشركية للقبور

أنواع الظلم في الزيارة الشركية للقبور قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وكذلك ما أمر به من الصلاة على الجنائز ومن زيارة قبور المؤمنين والسلام عليهم والدعاء لهم، هو من باب الإحسان إلى الموتى الذي هو واجب أو مستحب، فإن الله تعالى أمر المسلمين بالصلاة والزكاة، فالصلاة حق الحق في الدنيا والآخرة، والزكاة حق الخلق. فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالقيام بحقوق الله وحقوق عباده، بأن يعبدوا الله لا يشركوا به شيئاً، ومن عبادته الإحسان إلى الناس حيث أمرهم الله سبحانه به، كالصلاة على الجنائز، وكزيارة قبور المؤمنين، فاستحوذ الشيطان على أتباعه فجعل قصدهم بذلك الشرك بالخالق وإيذاء المخلوق، فإنهم إذا كانوا إنما يقصدون بزيارة قبور الأنبياء والصالحين سؤالهم أو السؤال عندهم، أو أنهم لا يقصدون السلام عليهم ولا الدعاء لهم كما يقصد بالصلاة على الجنائز كانوا بذلك مشركين مؤذين ظالمين لمن يسألونه، وكانوا ظالمين لأنفسهم، فجمعوا بين أنواع الظلم الثلاثة. فالذي شرعه الله ورسوله توحيد وعدل وإحسان وإخلاص وصلاح للعباد في المعاش والمعاد، وما لم يشرعه الله ورسوله من العبادات المبتدعة فيه شرك وظلم وإساءة وفساد العباد في المعاش والمعاد، فإن الله تعالى أمر المؤمنين بعبادته والإحسان إلى عباده، كما قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء:36] وهذا أمر بمعالي الأخلاق، وهو سبحانه يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه الحاكم في صحيحه، وقد ثبت عنه في الصحيح صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، وقال: (اليد العليا هي المعطية واليد السفلى السائلة)، وهذا ثابت عنه في الصحيح. فأين الإحسان إلى عباد الله من إيذائهم بالسؤال والشحاذة لهم، وأين التوحيد للخالق بالرغبة إليه والرجاء له والتوكل عليه والحب له، من الإشراك به بالرغبة إلى المخلوق والرجاء له والتوكل عليه، وأن يحب كما يحب الله؟ وأين صلاح العبد في عبودية الله والذل له والافتقار إليه من فساده في عبودية المخلوق والذل له والافتقار إليه؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بتلك الأنواع الثلاثة الفاضلة المحمودة التي تصلح أمور أصحابها في الدنيا والآخرة، ونهى عن الأنواع الثلاثة التي تفسد أمور أصحابها]. في هذا المقطع أشار الشيخ إلى معنى جيد ومهم جداً أيضاً في مناقشة أهل البدع والأهواء، خاصة أولئك الذين يصرفون العبادة إلى الأشخاص، أو الذين يتبركون بالأشياء والأشخاص بأكثر مما ورد به الشرع، فمن وجوه الرد عليهم أن يقال: إن عملكم هذا فيه أذى لأولئك المدعوين من دون الله؛ لأن هؤلاء المدعوين إما من الناس الصالحين، أو من الجمادات والمخلوقات التي لا تعقل، أو من غير الصالحين، فإن كانوا من الصالحين فهم لا شك يعظمون الله عز وجل ويعبدونه حق عبادته، ويعلمون أن دعاءهم من دون الله عز وجل أو التبرك بهم أو عمل شيء من البدع باسمهم وبأشخاصهم غير لائق إلا بالله عز وجل، فيتأذون بذلك أشد الأذى؛ لأنهم يعرفون أن هذا باطل، والباطل تضيق به نفس المؤمن حياً وميتاً، ولا شك أنه من الأمور التي تعد من أعظم أبواب الإساءة إلى الخلق، فضلاً عن أنها إساءة إلى الخالق عز وجل. وإن كانوا من غير الصالحين، فإنهم يوماً من الأيام سيدركون أن هذا العمل خطأ ويتمنون أن لو لم يكن، لأنهم إن كانوا أصحاب أوزار زاد ذلك من أوزارهم، وسيعلمون الحقيقة عندما ينتقلون من هذه الحياة إذا لم يعلموها في حياتهم، فيكون ذلك من أشد الإساءة إليهم. وإن كانت المعبودات من الجمادات، فلا شك أن الجمادات خاضعة لله عز وجل خضوعاً كاملاً، تسبح الله وتستغفره وتعبده كما هيأ الله لها ذلك، فعبادتها من دون الله يتنافى مع هذا ويتضاد، فلو كانت لها ألسنة لأعلنت أن ذلك أعظم الإساءة إليها. ثم إنه أشار إلى معنى آخر، وهو أن طلب الأشياء من دون الله عز وجل إضافة إلى أنها إساءة فكذلك هي من الشحاذة لهم، والشحاذة هي السؤال بغير حق، وهي استجداء من المخلوق الناقص الذي لا يقدر على كل شيء، والإعراض عن استجداء الخالق وعبادة الخالق الذي يملك كل شيء، فهذا أيضاً يعتبر من الأعمال الدنيئة الرديئة، حيث قد تكفل الله برزقه وهو يستجدي الآخرين. كما أن طلب اللقمة من الناس من المتسول الذي جعل التوسل مهنته هي شحاذة، فكذلك العبادة لغير الله من باب أولى، فهي نوع من استجداء المخلوقين فيما لا يقدرون عليه، أو فيما يجب أن يتوجه العبد إلى الله عز وجل به، ولا يطلب من المخلوقين إلا ما أذن الله فيه. قال رحمه الله تعالى: [ولكن الشيطان يأمر بخلاف ما يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِي

الأسئلة

الأسئلة

صرف المتكبرين عن آيات الله الكونية والشرعية

صرف المتكبرين عن آيات الله الكونية والشرعية Q الآيات المذكورة في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف:146] هل تشمل الآيات الكونية والشرعية؟ A نعم، هذه تشمل جميع الآيات الكونية والآيات الشرعية، آيات الوحي، وآيات الكون، لكن في بداية الآية يشير إلى الآيات الكونية، التي هي المعجزات التي أظهرها الله على أيدي رسله المعجزات، والآيات الكونية الأخرى أيضاً، كذلك من المعجزات الشرائع والوحي الذي أنزله الله على رسله.

مسألة الرؤية بين المثبتة والنفاة

مسألة الرؤية بين المثبتة والنفاة Q إن من أنكر الرؤية فهو كافر، فهل يدخل في ذلك المؤولة الذين قصدوا من ذلك تنزيه الرب تعالى، مثل بعض الأشاعرة؟ A الأشاعرة لم ينكروا الرؤية، ولا أعرف من الأشاعرة من أنكر الرؤية أبداً، لكنهم أثبتوها إثباتاً فيه نوع البدعة، قالوا: يرى إلى غير جهة، فهم يعتقدون الرؤية، ولذا فلا أعرف في الرؤية مؤولة، الرؤية ليس فيها إلا مثبتة ونافية، لكن بعض المثبتة عندهم نوع من الابتداع في إثبات الرؤية، وهو إثبات الرؤية بلا جهة، هروباً من إثبات العلو الذاتي والاستواء والفوقية، وهروباً من إثبات الصفات الفعلية والذاتية.

[13]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [13] التوسل من الألفاظ المجملة التي تحمل معاني حقة ومعاني باطلة، فالوسيلة الحقة المشروعة التي جاءت النصوص بها هي التقرب إلى الله تعالى بالواجبات والمستحبات، أو التوسل بالنبي في حياته بدعائه وشفاعته، أما التوسل به بعد مماته والإقسام بالله تعالى عليه فهذا ممنوع وباطل.

معاني الوسيلة وأحكامها

معاني الوسيلة وأحكامها قبل أن نقرأ هذا الفصل أحب أن أشير إلى بعض القضايا المهمة فيه تسهيلاً لفقراته؛ وذلك أنه يعد خلاصة لما سبق في موضوع التوسل والوسيلة، ومقدمة لما سيأتي، أي أن الشيخ أتى بما سبق كله كتقعيد للتفصيل، هذا التقعيد ملخصه هذه الصفحات التالية، والتي تتعلق بالتمييز بين المشروع والممنوع من التوسل، والفرق بين عبادة الله عز وجل بما شرع، وعبادة الله بما لم يشرع، أي: التوجه للمخلوقين، وذكر أنواع الوسيلة المشروع منها والممنوع للتفصيل فيها مستقبلاً في بقية الكتاب؛ لأن كل دروسنا هذه في كتاب التوسل والوسيلة. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [فصل: إذا عرف هذا فقد تبين أن لفظ الوسيلة]. قوله: (إذا عرف هذا)، الإشارة إلى الفرق بين التوسل المشروع والتوسل الممنوع، فقد عرف على جهة الإجمال، ثم هذه خلاصة وزبدة لما سبق سيذكرها الشيخ. قال رحمه الله: [إذا عرف هذا فقد تبين أن لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه، ويعطى كل ذي حق حقه، فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه، وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك. ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه، فإن كثيراً من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها، حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب].

المعنى الأول للوسيلة

المعنى الأول للوسيلة بدأ الشيخ يذكر معاني لفظ الوسيلة، وهذا هو المعنى الأول لها، وسيأتي قوله: (الثاني:) إشارة إلى هذا المعنى أن هذا هو الأول. قال رحمه الله تعالى: [فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، وفي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57]. فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب إليه من الواجبات والمستحبات]. هذا هو المعنى الأول، وهو المعنى الشرعي السليم للوسيلة، وهي ما كان المقصود بها التقرب إلى الله عز وجل، بعبادته بما شرع هو وشرع رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد عرفها الشيخ بقوله: (هي ما تقرب إليه من الواجبات والمستحبات)، وهذا هو المعنى الأول للوسيلة، وهو المعنى العام الشامل، والمعنى الشرعي الدقيق الصحيح السليم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك، سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً، فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم فأمر به أمر إيجاب أو استحباب، وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام. فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه؛ باتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك]. حينما عرف التوسل بأنه التقرب إلى الله عز وجل بعبادته بما شرع وشرع رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ذكر أن شرط ذلك هو اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد يدعي أي إنسان أنه يتقرب إلى الله في عبادته، لكن نقول: لا، التقرب إلى الله والوسيلة المشروعة لا يكونان إلا بالتقرب إلى الله بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا بأمر الله.

المعنى الثاني للوسيلة

المعنى الثاني للوسيلة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والثاني: لفظ الوسيلة]. هذا هو المعنى الثاني للوسيلة. قال رحمه الله تعالى: [والثاني: لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة). وقوله: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد، حلت له الشفاعة). فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة، وأخبر أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله، وهو يرجو أن يكون ذلك العبد، وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول، وأخبر أن من سأل له هذه الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم، فإن الشفاعة نوع من الدعاء، كما قال: إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً]. إذاً: هذا هو المعنى الثاني للوسيلة، وهو أن المقصود به المقام المحمود الذي سيكون للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فليس لنا أن نطلب هذه الوسيلة، ولا أن نتطلع إليها؛ لأنها خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم فندعو بأن تتحقق له، وقد وعد الله بهذا، فهذا هو النوع الثاني الشرعي للوسيلة، لكن هذه المسألة لا دخل للعباد بها، فليست من أمور العبادة التي يمكن أن نتخذها طريقة لعبادة الله عز وجل، فغاية ما يكون منا هو الدعاء للرسول صلى الله عليه وسلم بها، كالصلاة عليه.

المعنى الثالث للوسيلة

المعنى الثالث للوسيلة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته]. هذا هو المعنى الثالث، فقد ذكر المعنى الأول: وهو عبادة الله بما شرع وشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعنى الثاني: وهو الوسيلة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه لا نسعى إليها ولا نبحث عنها، إنما نؤمن بها ونرجو أن يحققها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم كما وعد. النوع الثالث، استعمال التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة وهو حي، كما قال الأعمى، وكما ورد في أكثر من قصة، فإن الصحابة توسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو حي، أي: توسلوا إلى الله أن يقبل دعاءه، أو طلبوا منه أن يدعو لهم، وهذه الصور موجودة قد تجتمع عند الصحابة، فيتوسل أحدهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، يعني: يطلب منه أن يدعو الله له، ويتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بمعنى يطلب من الله عز وجل أن يقبل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له. أما لفظ: (إنك لا تخلف الميعاد) بعد دعاء الوسيلة عقب الأذان فالذي أعرف أن العبارة ضعيفة، لكن يبدو لي أن الأمر واسع في مثل هذه العبارات التي ليس فيها زيادة معنى يتعلق بالأحكام، إنما هي تمجيد لله عز وجل، فباب التمجيد والتعظيم لله مفتوح، مثل أن نراوح بين أن نقول: الله عز وجل، أو نقول: الله سبحانه، أو نقول: الله جل وعز، أو نقول: الله تعالى، فأقول: (إنك لا تخلف الميعاد) كلمة حق، ليس فيها معنى زائد أكثر من أن تكون تمجيداً لله عز وجل، وزيادة إيمان ويقين، ولو كانت تحمل معنى آخر جديداً، لقلنا: تترك مادام الحديث فيها ضعيفاً. بقي: ما هو الأولى؟ الأولى تركها؛ لوجود دعاء ثابت في وقت مخصوص على هيئة مخصوصة بمناسبة مخصوصة لكن من قالها لا ننكر عليه، هذا الذي يظهر لي، والله أعلم. وقد سمعت أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله حسن هذه الزيادة.

المعنى الرابع للوسيلة

المعنى الرابع للوسيلة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح]. هذا المعنى الرابع للتوسل، وهو المعنى الباطل الذي لا يصح، وهو التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في عرف كثير من المتأخرين، ويراد به الإقسام على الله عز وجل به، أو السؤال به، فيقول: اللهم إني أسألك بحق نبيك أو أسألك بنبيك، كما يفعل أهل البدع، فبعضهم يقول: (بنبيك) يعني: أقسم، وإذا قال: إني أسألك بنبيك فهو يقصد السؤال به، لكن أحياناً يقسم، فيقول: بنبيك يا ربي أن تفعل لي كذا، بحق نبيك أن تنصرني، بحق نبيك أن تحقق لي كذا، فهذا إقسام وذاك سؤال، فالمعنيان من التوسل الممنوع وهو النوع الرابع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة]. هنا أخرج الوسيلة التي هي المقام المحمود، ومما يجب أن نفرق بين لفظ التوسل والوسيلة، فالوسيلة خمسة أنواع، أما التوسل فهو هذه الأنواع الثلاثة.

حكم التوسل إلى الله تعالى

حكم التوسل إلى الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء، فأحدهما: هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته، والثاني: دعاؤه وشفاعته كما تقدم، فهذان جائزان بإجماع المسلمين. ومن هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، أي: بدعائه وشفاعته. وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] أي: القربة إليه بطاعته، وطاعة رسوله طاعته، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين. وأما التوسل بدعائه وشفاعته كما قال عمر، فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس]. يعني: بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، أما في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يتوسلون به، لكن على المعنى الصحيح المفسر الذي فسرته أفعالهم وأقوالهم، لئلا يأتي مبطل ويقول: مادمتم أقررتم بأنهم يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم فهذا يعني أنهم قصدوا التوسل به، بمعنى دعائه من دون الله، أو الإقسام به على الله، أو السؤال به! وهذا لم يحدث من الصحابة، إنما حدث منهم أنهم طلبوا منه أن يدعو لهم، وطلبوا من الله عز وجل أن يستجيب دعاءه لهم، وبعد مماته عدلوا عن ذلك، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قريب في قبره، فلو كان دعاؤه بعد مماته مشروعاً لكان أسهل لهم من أن يبحثوا عن العباس وغير العباس وأقرب، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مدفوناً بجوار المسجد في حجرة عائشة، فما كانوا بحاجة إلى أن يبحثوا عن غيره لو كان عندهم هذا مشروعاً. والصورة الصحيحة للتوسل لا تتحقق بعد ممات النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً؛ لأنه إذا كان المقصود الشرعي بالتوسل به صلى الله عليه وسلم طلب دعائه، فلا يمكن أن يطلب دعاؤه بعد مماته! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بـ العباس، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بـ العباس علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له فإنه مشروع دائماً. فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان:]. لاحظوا أنه الآن جاء بخلاصة الكلام، فأخرج الوسيلة التي هي المقام المحمود؛ لأنها لا تدخل في معاني التوسل؛ لأن الوسيلة ليست طلب من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من غير النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هي منزلة للنبي صلى الله عليه وسلم أكرمه الله بها يوم القيامة، فليست من نوع الطلب للعبادة، فهنا الشيخ ركز على التوسل الذي هو فعل العباد. وسيذكر ثلاثة معان للتوسل.

حكم الإقسام على الله بخلقه

حكم الإقسام على الله بخلقه قال رحمه الله تعالى: [أحدها: التوسل بطاعته فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به. والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياته، ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته. والثالث: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته، فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة، أو عمن ليس قوله حجة، كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى. وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه: إنه لا يجوز، ونهوا عنه حيث قالوا: لا يسأل بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك. قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخي في باب الكراهة: وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة. قال بشر بن الوليد حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك، وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك، هو الله فلا أكره هذا، وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام]. يكثر السؤال عن معقد العز، فيظهر لي أنه ليس هناك تفسير يتفق عليه في معقد العز، لكن يظهر من خلال تفسير أبي يوسف هنا، أنه فسر معقد العز من العرش الله عز وجل الذي هو مقام الله سبحانه وتعالى الذي لا يعلم له كفيفة، ولا نعرف منه إلا أنه عز وجل على العرش استوى. فربما سمي مقام الله وجلاله معقد العز؛ لأن العرش عرش الله، ومع ذلك فهذه العبارة تبقى غامضة مجملة ليس لها مفهوم، ولا أظنها صدرت عن أهل علم وفقه، إنما صارت أسلوباً لدعاء بعض العباد أو بعض الصالحين الذين قصدوا بها معنى لا يزال غامضاً، إلا إذا وجد لها تفسير، أما أنا فما وجدت لها تفسيراً، فإذا وجد لها تفسير عن أئمة الدين أوضح من هذا فلا بأس. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا تجوز وفاقاً. وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه من أن الله لا يسأل بمخلوق له معنيان: أحدهما: هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى. وهذا بخلاف إقسامه سبحانه بمخلوقاته: كالليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى، والشمس وضحاها، والنازعات غرقاً والصافات صفاً. فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ما يحسن معه إقسامه، بخلاف المخلوق، فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك) وقد صححه الترمذي وغيره، وفي لفظ: (فقد كفر) وقد صححه الحاكم. وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) وقال: (لا تحلفوا بآبائكم فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، وفي الصحيحين عنه أنه قال: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله). وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة أو بما يعتقد هو حرمته كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين وأيمان البندق وسراويل الفتوة وغير ذلك لا ينعقد يمينه، ولا كفارة في الحلف بذلك. والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك، وقيل: هي مكروهة كراهة تنزيه. والأول أصح، حتى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغير الله صادقاً؛ وذلك لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم من الكذب، وإنما يعرف النزاع في الحلف بالأنبياء، فعن أحمد في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم روايتان: إحداهما: لا ينعقد اليمين به كقول الجمهور؛ مالك وأبي حنيفة والشافعي. والثانية: ينعقد اليمين به، واختار ذلك طائفة من أصحابه كـ القاضي وأتباعه، وابن المنذر وافق هؤلاء، وقصر أكثر هؤلاء النزاع في ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وعدى ابن عقيل هذا الحكم إلى سائر الأنبياء، وإيجا

الأسئلة

الأسئلة

معنى أيمان البندق

معنى أيمان البندق Q ما معنى أيمان البندق في كلام شيخ الإسلام؟ A أيمان البندق يظهر لي والله أعلم، أنا راجعت حقيقة كتب اللغة ووجدت أنها أحياناً تطلق، طبعاً البندق يطلق على أمرين: الأول البندق الذي هو الشجر ذا الثمرة الطيبة التي تؤكل ضمن المكسرات والبقول، والثاني: كل ما يرمى به، فيبدو لي أنه يقصد ما يرمى به في أمور الحرب والسلاح؛ لأنه ذكر بعدها ما يناسب هذا وهو الفتوة، فكأنه يقصد اصطلاحاً في وقته يتعلق بنوع من أنواع القوة والرماية. والله أعلم.

سؤال عن أحد المشهورين

سؤال عن أحد المشهورين Q هذا سؤال عن أحد المشهورين بالفتوى وله منهج في الدعوة، ربما يكون أيضاً له أثر بالغ الآن عبر الفضائيات وغيرها، وأظنه من رءوس الإخوان المسلمين أيضاً، فالسؤال من حيث التفافهم حوله وتنويه عن فتاواه وغير ذلك؟ A هذا الرجل كغيره تقاس أعماله بالكتاب والسنة، وقد يكون له اجتهاد صائب في بعض الأمور، لكن من الناحية المنهجية أرى أن منهجه ليس على منهج السلف، فهو في الاعتقاد على منهج المتكلمين، وفي النظر لقضايا الدعوة وقضايا الأمة أرى أنه ينحى منحى يختلف عن منحى المشايخ الراسخين في العلم المقتدين بمنهج السلف.

سبب اختيار عمر للعباس في التوسل

سبب اختيار عمر للعباس في التوسل Q ما الحكمة من اختيار عمر رضي الله عنه للعباس؟ A يظهر لي والله أعلم أن ذلك لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عم رسول الله، ولكبر سنه، ولما له من الفضل والقدر، ولا يمنع أن يكون لصلاحه ولقرابته، كل هذا وارد.

من التوسل برسول الله في حياته طلب الدعاء منه

من التوسل برسول الله في حياته طلب الدعاء منه Q المعنى الثالث من معاني الوسيلة، وهو التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة، هل ينطبق على هذا كلام الصحابي أو ما فعله الصحابي الجليل عكاشة عند طلبه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له؟ A نعم، هذا من أوضح الأمثلة على التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته.

[14]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [14] الأصل في الإقسام على الله تعالى أنه لا يجوز؛ لما فيه من الجرأة وسوء الأدب مع الله تعالى، ولكنه يكون في حالات معينة وأوقات محدودة، ومن أشخاص معينين تتوفر فيهم خصال العبادة والولاية لله تعالى، والدعاء، أما الدعاء العام فلا يشترط لصيغه أن تكون توقيفية، بل ما وافقت ألفاظه الشريعة ويتضمن مدلولات صحيحة فهو جائز ولا حرج فيه.

متى يكون السؤال بالمخلوق قسما ومتى يكون غير قسم

متى يكون السؤال بالمخلوق قسماً ومتى يكون غير قسم بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وأما السؤال بالمخلوق إذا كانت فيه باء السبب ليست باء القسم -وبينهما فرق- فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإبرار القسم. وثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، قال ذلك لما قال أنس بن النضر: (تكسر ثنية الربيع؟ قال: لا والذي بعثك بالحق لا تكسر سنها، فقال: يا أنس! كتاب الله القصاص، فرضي القوم وعفوا، فقال صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره). وقال: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره)، رواه مسلم وغيره. وقال: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعِّف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر)، وهذا في الصحيحين، وكذلك حديث أنس بن النضر، والآخر من أفراد مسلم]. سيأتي أمثلة على ما قال الشيخ فيما بعد، لكن ربما يطول الفاصل؛ فنوضح بعض كلام الشيخ. قوله: (وأما السؤال بالمخلوق إذا كانت فيه باء السبب ليست باء القسم -وبينهما فرق- فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإبرار القسم. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال) يقصد به أن بعض العبارات التي فيها تأكيد لا تعتبر قسماً، مثل أن تقول: أسألك بحق فلان، لكنها نوع من أنواع التأكيد. فعلى هذا فإن بعض أهل العلم يرى -وهذا هو الراجح وهو رأي الجمهور- أن السؤال بحق كذا أو بكذا لا يعد قسماً، لكنه مع ذلك تحكمه القاعدة في أن منه ما هو ممنوع ومنه ما هو مشروع، فإذا كان السؤال بالشيء مما هو حق، كأن تقول وأنت تدعو الله: اللهم إني أسألك بحق صلاتي، أو بحق المصلين، أو بحق ممشاي هذا؛ فهذا ليس قسماً على الله، فهذا جائز؛ لأنك سألت بحق مشروع شرعه الله عز وجل، وهو التوسل بالأعمال الصالحة، وقولك: اللهم إني أسألك بحق السائلين: حق السائلين حق كتبه الله عز وجل على نفسه، فالباء هنا في الراجح ليست باء قسم، إنما هي باب السبب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي في قوله: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) أنه قال: (منهم البراء بن مالك). وكان البراء إذا اشتدت الحرب بين المسلمين والكفار يقولون: يا براء أقسم على ربك! فيقسم على الله؛ فينهزم الكفار، فلما كانوا على قنطرة بالسوس قالوا: يا براء أقسم على ربك! فقال: يا رب! أقسمت عليك لما منحتنا أكتفاهم وجعلتني أول شهيد؛ فأبر الله قسمه، فانهزم العدو واستشهد البراء بن مالك يومئذ. وهذا هو أخو أنس بن مالك قتل مائة رجل مبارزة غير من شرك في دمه، وحُمِل يوم مسيلمة على ترس ورُمي به إلى الحديقة حتى فتح الباب. والإقسام به على الغير أن يحلف المقسم على غيره ليفعلن كذا، فإن حنثه ولم يبر قسمه؛ فالكفارة على الحالف لا على المحلوف عليه عند عامة الفقهاء، كما لو حلف على عبده أو ولده أو صديقه ليفعلن شيئاً ولم يفعله؛ فالكفارة على الحالف الحانث]. الأصل أن الكفارة على الحالف إذا حنث؛ لأنه هو الذي عقد اليمين وانعقدت الكفارة في ذمته، حتى لو أن المحلوف عليه هو الذي تسبب، والغالب أنه إذا كان هناك حالف ومحلوف عليه أن وجود الحنث في اليمين يكون بسبب المحلوف عليه، لكن لا تلزمه الكفارة، إلا أن يتطوع أحد بالكفارة عمن حلف، فهذا لا حرج فيه. إذا وجدت أحداً عليه يمين ووجدته معسراً؛ فلا حرج أن تتصدق له بصدقة يكفر بها عن يمينه، لكنها في ذمته لا ينوب عنه أحد أصلاً، ولا تكون على غيره من حيث الذمة، فكفارة اليمين لاصقة بذمة الحالف.

حكم قول: (سألتك بالله أن تفعل)

حكم قول: (سألتك بالله أن تفعل) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما قوله: (سألتك بالله أن تفعل كذا) فهذا سؤال وليس بقسم، وفي الحديث: (من سألكم بالله فأعطوه)، ولا كفارة على هذا إذا لم يجب سؤاله. والخلق كلهم يسألون الله مؤمنهم وكافرهم، وقد يجيب الله دعاء الكفار؛ فإن الكفار يسألون الله الرزق فيرزقهم ويسقيهم، وإذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه، فلما نجاهم إلى البر أعرضوا وكان الإنسان كفوراً. وأما الذين يقسمون على الله فيبر قسمهم فإنهم ناس مخصوصون].

من هم الذين يقسمون على الله عز وجل

من هم الذين يقسمون على الله عز وجل الأصل أن الإقسام على الله سوء أدب معه عز وجل؛ لأنه جرأة من العبد على ربه لا تليق في كل مقام، لكنها قد تحدث في مواقف مخصوصة أو لأناس مخصوصين، من هم هؤلاء المخصوصون؟ هم ناس من عباد الله عز وجل آتاهم الله خصالاً وخصائص في العبادة والورع وسلامة القلب، ترتقي ثقتهم بالله عز وجل إلى درجة أنهم يقسمون على الله، وهذه غالباً تكون من أناس فيهم طيبة قلب مع الاستقامة والعبادة، فقد لا يستشعرون معنى كون الإقسام على الله عز وجل لا يليق، فقوة ثقتهم بالله عز وجل واستقامتهم على دينه، وقوة وتوكلهم عليه سبحانه ويقينهم به وإحسانهم في العبادة، تجعلهم يقسمون على الله من باب الثقة المطلقة بالله عز وجل، والذهول عن أن الإقسام على الله فيه جرأة لا تليق بالمسلم. ولذلك أكثر ما يكون الإقسام من بعض العوام أو بعض البسطاء الذين فيهم عبادة وصلاح واستقامة، وتتوفر فيهم خصال العبادة والولاية لله عز وجل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الذين يقسمون على الله فيبر قسمهم فإنهم ناس مخصوصون، فالسؤال كقول السائل لله: أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام].

حكم سؤال الله بأسمائه وصفاته

حكم سؤال الله بأسمائه وصفاته قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك. فهذا سؤال الله تعالى بأسمائه وصفاته، وليس ذلك إقساماً عليه، فإن أفعاله هي مقتضى أسمائه وصفاته، فمغفرته ورحمته من مقتضى اسمه الغفور الرحيم، وعفوه من مقتضى اسمه العفو؛ ولهذا لما قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن وافقت ليلة القدر ماذا أقول؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني). وهدايته ودلالته من مقتضى اسمه الهادي، وفي الأثر المنقول عن أحمد بن حنبل أنه أمر رجلاً أن يقول: يا دليل الحيارى! دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين].

صيغ الدعاء ليست توقيفية

صيغ الدعاء ليست توقيفية في هذا دلالة على أن صيغ الأدعية ليست توقيفية، لكن أفضل الأدعية ما ورد في كتاب الله عز وجل، ثم ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يرد على ألسنة أصحاب الحاجات والمضطرين المكروبين من أدعية تناسب أحوالهم جائزة، بل أحياناً تكون أقرب لبعض الناس من الأدعية المأثورة؛ لأن بعض الأدعية المأثورة لا يفهمها كل الناس، فمثل العامي لا نحجر عليه بأن يدعو بالدعاء الذي يتيسر على لسانه، والذي هو أقرب لمواطأة القلب، وأقرب لاستشعار الداعي بقرب الفرج من الله عز وجل، واستشعاره لربه، وإحسانه على مبدأ أصل الإحسان الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فالإنسان الذي يجد في نفسه ميلاً إلى أن يدعو الله في بعض المواقع وفي بعض المواطن عند بعض الضرورات بما يتيسر على لسانه من ألفاظ تناسب حاله فلا حرج عليه. ولذا أثر عن بعض السلف أدعية تناسب أحوالهم كانت سبب الفرج، فهذا قد يكون نسي الدعاء المأثور، وإلا فلا شك أن الدعاء المأثور أجمع وأعظم وأقرب إلى أحوال العباد، لكن مع ذلك لا يستشعرها كل الناس، إما أن يكون ما استشعر الدعاء المأثور، أو أن الدعاء المأثور غير مفهوم له. الأمر الآخر: أن الأدعية الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على نوعين: منها مطلق، ومنها مقيد. فالأدعية المطلقة الأمر فيها يسير. والأدعية المقيدة -يعني: المفروضة والمسنونة- لا محيد عن أن يعمل بها الإنسان، فالأدعية التي هي من واجبات الصلاة، أو الأدعية التي هي من مفاتيح العبادات مثل التلبية بالحج، لا شك أنها توقيفية في أصلها، بمعنى أنه ينبغي أن نتعبد الله بها في مواضعها. فالأدعية المخصوصة في العبادة نلتزم فيها ما ورد فيها في الشرع إذا كانت واجبة أو مفروضة، أو كانت مستحبة أو مسنونة؛ فالواجب يجب استعماله، والمسنون أولى من غيره، لكن هناك أنواع أخرى من الأدعية مطلقة، ليست مقيدة، بأحوال ولا بأوقات، فهذه الأمر فيها أسهل، ومع ذلك يبقى الأصل أن الأدعية المأثورة أفضل، وأقرب لإجابة الدعاء؛ لأنها صادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم بما يناسب أحوال العباد مما علمه الله، ولأنه أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم، لكن لا يلزم التزامها في كل حال، إلا ما لزم منها شرعاً. إذاً فباب الدعاء مطلق، أقول هذا لأنه تكثر الأسئلة في هذا الباب، حتى أن بعض الناس يستوحش وينكر بعض الأدعية التي لم يسمع بها، أو لم ترد في كتب السنة، فأقول: لا حرج في ذلك ما دامت بألفاظ صحيحة صريحة بينة، أما إذا كانت بألفاظ بدعية فلا شك أنها بدع، أو إذا كانت بألفاظ مجملة، فالألفاظ المجملة تحتمل حقاً وباطلاً؛ فالأولى أن تجتنب، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

قياس العمليات الاستشهادية في فلسطين على ما قام به المسلمون في اليمامة من رمي البراء نفسه

قياس العمليات الاستشهادية في فلسطين على ما قام به المسلمون في اليمامة من رمي البراء نفسه Q هل يستدل بقصة البراء بن مالك حينما حمل يوم مسيلمة على ترس ورمي به إلى الحديقة حتى فتح الباب على ما يحدث في فلسطين وغيرها من تفجير السيارة التي هو فيها على العدو؟ A سبحان الله! فرق بين الصورتين، قصة البراء رضي الله عنه تحفها أصول شرعية: أولاً: في معركة قائمة لها قائد تحت ولاية تحت خليفة من الخلفاء الراشدين، وقائد من قواد المسلمين، معركة معلنة بين قوة وقوة، بين المسلمين والكفار، تحت راية جهاد حقيقية ليست عمية، يعرف وجهها ويعرف هدفها وغايتها. أما ما يحدث في فلسطين وغيرها فإن الإنسان ينتحر ويفجر نفسه دون قيادة، ودون أن يكون الجهاد معلناً؛ فهذا نوع من التهور مهما كان مبرره، فهو تهور على أي حال، وهو إلقاء بالنفس إلى التهلكة. وهذه الصورة غير جائزة أن الإنسان يقوم بمثل هذا العمل الانتحاري بلا راية معلنة وبلا جهاد معلن، فهذا انتحار وقتل للنفس، وقتل للأبرياء لا يجوز، حتى لو كانوا بغير حرب معلنة، وإذا لم يكن تحت راية شرعية ظاهرة؛ فإنه لا يجوز، ولو كان قتل كافراً، الكافر إذا كان يعيش في سلم، ولو في بلاد المسلمين، فلا يجوز إتلاف حياته بهذه الصورة، وإلا لو قلنا هذا لوقعت فتن لا يعلمها إلا الله عز وجل، ولو فتح هذا الباب وقع الهرج والمرج الذي ينتهي إلى ما يعنت المسلمين ويوقعهم في أشد الفتن والحرج. فأقول: فرق بين الصورتين ولا قياس، ولا أعرف في عهود السلف أنه في مثل الظروف التي وقع فيها الفلسطينيون يستعمل المسلم مثل هذه الأساليب. فقد وقع المسلمون تحت حكم الصليبيين قريباً من مائة سنة في فلسطين نفسها، وما عملوا هذه الأعمال الانتحارية، حتى قامت راية جهاد تحت ولاية صلاح الدين الأيوبي فقاموا معه. وكانوا قبل ذلك أقدر منا على العمليات الانتحارية وما عملوها. والباطنية حكمت جزيرة العرب ومصر وبلاد المغرب عشرات السنين، ومع ذلك ما لجأ أحد إلى هذه العمليات مع هؤلاء الباطنية الكفار الذين عبثوا بدين المسلمين وأعراضهم، ولا أعرف أن عالماً من العلماء أجاز للمسلمين أن يفعلوا مثل هذا الفعل. فهؤلاء يشتغلون بغير فقه، ومفتوهم ليسوا فقهاء ولا من الراسخين في العلم، وإن وجدت بعض الفتاوى في هذا فهي خاطئة، وما هي إلا لإيقاع الفتنة ووقوع هؤلاء المساكين في مثل هذه التصرفات العاطفية التي لا أصل لها، بل هي داخلة في الراية العمية التي صاحبها مقتول في سبيل الجاهلية. هذا ما يظهر لي، والله أعلم.

[15]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [15] ألفاظ الدعاء الواردة في الكتاب والسنة جامعة لمعاني الكمال، فإذا دعا العبد ربه بأسمائه وصفاته أو أفعاله أو بالإيمان بالله عز وجل، فإن ذلك كله سبب لإجابة وإعطاء من سأله به جل وعلا؛ لأن الله يحب الإحسان إلى الخلق سيما إذا كان الدعاء لكف ظلم أو قضاء حاجة، فإن هذا من حقه على السائلين أن يجيبهم وعلى العابدين أن يثيبهم.

علاقة السبب بإجابة السؤال

علاقة السبب بإجابة السؤال

أفعال الله من مقتضى الربوبية

أفعال الله من مقتضى الربوبية قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وجميع ما يفعل الله بعبده من الخير من مقتضى اسمه الرب، ولهذا يقال في الدعاء: يا رب! يا رب! كما قال آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. وقال نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [هود:47]. وقال إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]. وكذلك سائر الأنبياء. وقد كره مالك وابن أبي عمران من أصحاب أبي حنيفة وغيرهما أن يقول الداعي: يا سيدي يا سيدي، وقالوا: قل كما قالت الأنبياء: رب رب! واسمه الحي القيوم يجمع أصل معاني الأسماء والصفات، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله إذا اجتهد في الدعاء]. الرب من الألفاظ الجامعة في أسماء الله وصفاته، ولذلك يكثر الدعاء بها، وسبق أن ذكرت أن هذا فيه رد على الذين يزعمون أنه يمكن استخراج أسماء لله عز وجل وصفات لم ترد في الكتاب والسنة؛ لأن ما ورد في الكتاب والسنة ألفاظ جامعة لمعاني الكمال الذي يمكن أن يتخيله بشر، أو يرد على ذهن بشر، أو على لسانه بأي لغة؛ فإن أسماء الله الواردة في الكتاب والسنة قد تضمنته وزيادة، من ذلك لفظ الجلالة: الله، ومن ذلك الرب، ومن ذلك الحي القيوم، ومن ذلك العلي العظيم، ومن ذلك العزيز الحكيم. فهذا فيه دلالة على أنه لا يجوز استحداث أسماء الله عز وجل من خارج الكتاب والسنة، ولا الصفات، أما الأفعال فبابها واسع؛ لأن الأفعال وصف لآثار الله في خلقه، وهذا مما لا يتناهى.

السؤال بالسبب يكون بما يقتضي وجود المسئول

السؤال بالسبب يكون بما يقتضي وجود المسئول قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا سئل المسئول بشيء -والباء للسبب- سئل بسبب يقتضي وجود المسئول، فإذا قال: أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان بديع السموات والأرض، كان كونه محموداً مناناً بديع السموات والأرض يقتضي أن يمن على عبده السائل، وكونه محموداً هو يوجب أن يفعل ما يُحمد عليه، وحمد العبد له سبب إجابة دعائه؛ ولهذا أمر المصلي أن يقول: (سمع الله لمن حمده)، أي: استجاب الله دعاء من حمده، فالسماع هنا بمعنى الإجابة والقبول، كقوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع)، أي: لا يستجاب. ومنه قول الخليل عليه السلام في آخر دعائه: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:39]، ومنه قوله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47]، وقوله: {وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة:41]، أي: يقبلون الكذب، ويقبلون من قوم آخرين لم يأتوك؛ ولهذا أمر المصلي أن يدعو بعد حمد الله بعد التشهد المتضمن الثناء على الله سبحانه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن رآه يصلي ويدعو ولم يحمد ربه ولم يصل على نبيه فقال: (عجل هذا، ثم دعاه فقال: إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، وليدع بعد بما شاء)، أخرجه أبو داود والترمذي وصححه. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كنت أصلي والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله، ثم بالصلاة على نبيه، ثم دعوت لنفسي؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سل تعطه)، رواه الترمذي وحسنه. فلفظ السمع يراد به إدراك الصوت، ويراد به معرفة المعنى مع ذلك، ويراد به القبول والاستجابة مع الفهم، قال تعالى: ((وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ))، ثم قال: ((وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ)) على هذه الحال التي هم عليها لم يقبلوا الحق، ثم {لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23]. فذمهم بأنهم لا يفهمون القرآن، ولو فهموه لم يعملوا به. وإذا قال السائل لغيره: أسألك بالله؛ فإنما سأله بإيمانه بالله]. المقصود بالباء هنا باء السببية، يعني: أسأل بالإيمان بالله؛ لأنه لا يتوجه إلا هذا، فلا يقاس عليه غيره أيضاً، ولأن الله عز وجل يسأل به، أي: بالإيمان به، أو بأسمائه وصفاته، كل هذا وارد وجائز، فالباء هنا لا تقاس على الباء في إضافتها للمخلوق، فلا يقال: اللهم إني أسألك برسولك، أو بنبيك، أو بالكعبة، أو بكذا؛ لأن إضافة الباء إلى المخلوق جعلت المخلوق وسيلة غير مشروعة. لكن السؤال بالله عز وجل يقصد به معاني كلها عظيمة وصحيحة؛ إما السؤال بأسمائه وصفاته، أو باسمه هذا الذي هو: لفظ الجلالة، أو بالإيمان بالله عز وجل، فإن الإيمان بالله من العبادة والعمل الصالح الذي يتوسل به إلى الله كما سيأتي في حقيقة التوسل بالأعمال الصالحة، وأول الأعمال الصالحة وأعظمها الإيمان بالله عز وجل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا قال السائل لغيره: أسألك بالله؛ فإنما سأله بإيمانه بالله، وذلك سبب لإعطاء من سأله به، فإنه سبحانه يحب الإحسان إلى الخلق، لا سيما إن كان المطلوب كفَّ الظلم؛ فإنه يأمر بالعدل وينهى عن الظلم، وأمره أعظم الأسباب في حض الفاعل، فلا سبب أولى من أن يكون مقتضياً لمسببه من أمر الله تعالى].

الكلام على حديث (أسألك بحق السائلين)

الكلام على حديث (أسألك بحق السائلين) قال رحمه الله: [وقد جاء فيه حديث رواه أحمد في مسنده وابن ماجه عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه علم الخارج إلى الصلاة أن يقول في دعائه: وأسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا؛ فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياء ولا سمعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك)، فإن كان هذا صحيحاً فحق السائلين عليه أن يجيبهم]. الحديث فيه كلام كثير عند أهل العلم، وقليل من أهل العلم صححه، وبعضهم حسنه، ويترجح عند كثير من المحققين أنه ضعيف، لكن الحديث الضعيف إذا لم يتعارض مع أصل شرعي؛ فإنه يستأنس به ولا يستدل به، واللفظ الذي ورد: (اللهم إني أسألك بحق السائلين)، محتمل لمعنى صحيح، ومحتمل لمعنى فاسد، وعلى هذا فإنه من الألفاظ المجملة التي تحتمل الحق وتحتمل الباطل، فهي تحتمل الوسيلة الصحيحة المشروعة، وتحتمل الوسيلة البدعية الممنوعة، فإذا قال الإنسان: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، ويقصد بذلك ما وعد الله من إجابة السائلين الذي أوجبه الله على نفسه؛ فهذا صحيح لكن فيه سوء أدب، بمعنى أنه أوجب على الله حقاً، وهذا لا يليق. وعلى هذا فإنا لا نجزم بمشروعية ذلك ما دام الحديث ضعيفاً، لكن يبقى أن الاحتمال وارد، والخلاف سائغ بين من أجاز مثل هذه اللفظة وبين من منعها، فمن أجازها -كما قلت- قصد ما كتب الله على نفسه من أن يجيب السائلين، والمعنى الباطل: كوننا نوجب على الله شيئاً لا يجب عليه، أو أن يكون حق السائلين بطريقة غير مشروعة عند أهل البدع، بعض أهل البدع يقول: (اللهم إني أسألك بحق السائلين) ويقصد السائلين للأموات والمخلوقين الذين لا يقدرون، فالمعنى محتمل.

حق السائلين على الله الإجابة

حق السائلين على الله الإجابة قال رحمه الله تعالى: [فإن كان هذا صحيحاً فحق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، وهو حق أوجبه على نفسه لهم. كما يسأل بالإيمان والعمل الصالح الذي جعله سبباً لإجابة الدعاء، كما في قوله تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى:26]. وكما يسأل بوعده؛ لأن وعده يقتضي إنجاز ما وعده، ومنه قول المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193]، وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} [المؤمنون:109 - 110]. ويشبه هذا مناشدة النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حيث يقول: (اللهم أنجز لي ما وعدتني)، وكذلك ما في التوراة أن الله تعالى غضب على بني إسرائيل فجعل موسى يسأل ربه ويذكر ما وعد به إبراهيم، فإنه سأله بسابق وعده لإبراهيم]. الحديث الذي ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم بدر: (اللهم أنجز لي ما وعدتني)، حديث صحيح رواه مسلم كما هو معلوم، ويقصد بهذا كله أن سؤال العبد لله عز وجل بما وعد الله جائز ومشروع، فعلى هذا أجاز كثير من أهل العلم قولك: اللهم إني أسألك بحق إيماني بك اللهم إني أسألك بحق تصديقي لرسولك صلى الله عليه وسلم اللهم إني أسألك بحبي لرسولك، فهذه الأمور الجائزة وإن كان فيها نوع من الجفاء في حق الله عز وجل؛ لأن الإنسان ينبغي أن يسأل الله مباشرة، ولا يضيع عمله بجزاء عاجل، بل يدخره لليوم الآخر أن يطلب جزاءه عاجلاً، لكن مع ذلك يبقى مشروعاً، فهو أشبه بطلب الدعاء من الآخرين من المسلمين. ويستشهد له بمثل ما ذكر المؤلف، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنجز لي ما وعدتني)، وعلى هذا يكون الأصل في ذلك الإباحة، وإن وجد شيء من التحرز فإنما هو في صرف الدعاء أو طلب الانتفاع بعمل صالح ينبغي أن يدخره المسلم لما هو أعظم من حاجته في الدنيا، وهذا لا يلغي المشروعية، إنما تبقى المفاضلة فقط، والله أعلم.

[16]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [16] السؤال والتوسل بالمعظم كالأنبياء أو الملائكة أو الصالحين أو بجاههم ومنزلتهم لا يجوز شرعاً، ولو أن العبد سأل الله تعالى بإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم ومحبته له واتباعه، لكان هذا من أعظم وأرجى الوسائل والأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء.

أنواع التوسل المشروع

أنواع التوسل المشروع قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ومن السؤال بالأعمال الصالحة: سؤال الثلاثة الذين أووا إلى غار، فسأل كل واحد منهم بعمل عظيم أخلص فيه لله؛ لأن ذلك العمل مما يحبه الله ويرضاه، محبة تقتضي إجابة صاحبه: هذا سأل ببره لوالديه، وهذا سأل بعفته التامة، وهذا سأل بأمانته وإحسانه]. في هذا المقطع بدأ الشيخ يفصل ما ذكره في أول كتاب التوسل والوسيلة، وهو أن التوسل المشروع ينحصر في ثلاثة أمور، ذكر منها أشياء، وفصل في أشياء، وسوف يفصل في أشياء أخرى، فكرر الموضوع أكثر من مرة، لكن نذكركم الآن بهذه الأمور الثلاثة: أولاً: أعظم التوسل وأفضله وأبينه وأشمله: عبادة الله عز وجل، والتي منها دعاء الله عز وجل. فالاعتقاد السليم والإيمان وإقامة الفرائض والعمل بالسنن، وكل ما يطلبه المسلم في عبادة ربه فهذا هو التوسل الحقيقي، ومنه الدعاء وهو أعظم وأفضل وأعلى درجات التوسل، فهذا النوع الأول وهو يشمل جميع العبادات، وجميع توجهات المسلمين إلى ربهم بالدعاء. الثاني: السؤال بالأعمال، وهو الذي ذكره الشيخ هنا، ومعناه: سؤال المسلم ربه بأعماله هو، لا بأعمال غيره، كما توسل أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة بأعمالهم إلى الله عز وجل أن يفرج عنهم ما وقع عليهم، فتوسلوا بأعمال عملوها، ليست من عمل الغير، ولا بأمور فيها شبهة أو فيها التواء، ولا بوضع واسطة بينهم وبين ربهم، فلم يجعلوا أعمالهم واسطة، إنما جعلوا ثواب أعمالهم الذي وعد الله به هو الوسيلة إلى هذا التفريج الذي وعد الله به، فاستعملوا أمراً مشروعاً. النوع الثالث -ذكره الشيخ قبل-: وهو طلب الدعاء من الغير على وجه مشروع أيضاً، تقول لأخيك المسلم: ادع الله لي! فهذا وإن كان مفضولاً، لكنه من المشروع.

مشروعية السؤال بالأعمال الصالحة

مشروعية السؤال بالأعمال الصالحة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول وقت السحر: اللهم أمرتني فأطعتك، ودعوتني فأجبتك، وهذا سحر فاغفر لي. ومنه حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول على الصفا: اللهم إنك قلت وقولك الحق: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وإنك لا تخلف الميعاد، ثم ذكر الدعاء المعروف عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول على الصفا. فقد تبين أن قول القائل: أسألك بكذا نوعان: فإن الباء قد تكون للقسم، وقد تكون للسبب، فقد تكون قسما به على الله، وقد تكون سؤالاً بسببه]. يقصد بهذا أن قول القائل: أسألك بكذا بعضه يدخل في المشروع، والذي يدخل منه في المشروع هو السؤال بالأعمال الصالحة، وأن تكون الباء سببية، وهذا مشروع إذا كان من عمل الإنسان نفسه، أما إذا كانت الباء باء القسم ففيها نظر؛ لأن الإنسان لا يقسم على ربه، هذه ناحية. الناحية الأخرى: لا ينبغي أن يعتقد أنه يجب له على ربه حق؛ لأن القسم إيجاب، والعباد لا يوجبون على الله شيئاً. فعبارة: أسألك بكذا، إذا كان المقصود بها التسبب بعمل صحيح للإنسان كقوله: اللهم إني أسألك بإيماني بنبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم إني أسألك بحبي لرسولك صلى الله عليه وسلم، اللهم إني أسألك بهذه الصدقة التي تصدقتها إن كنت قبلتها ونحو ذلك؛ فهذا استعمل العمل الصالح وسيلة إلى المطلوب الذي وعد الله به، فمن هنا تكون الباء سببية. أما إذا كانت الباء للقسم؛ فهذا لا يجوز وفيه عدة محذورات سيذكرها الشيخ.

حكم القسم بالمخلوق والسؤال بمعظم

حكم القسم بالمخلوق والسؤال بمعظم قال رحمه الله تعالى: [فأما الأول فالقسم بالمخلوقات لا يجوز على المخلوق فكيف على الخالق؟ وأما الثاني وهو السؤال بالمعظم كالسؤال بحق الأنبياء فهذا فيه نزاع]. بدأ الشيخ يفرع لكي نعرف أن هذه المسألة تحتها السؤال بالسبب، فإن كان السبب من عمل الإنسان نفسه، كالسؤال بالأعمال الصالحة فهو مشروع، وإن كان من عمل الغير، أو من خصائص الغير، كأن تقول: اللهم إني أسألك بجاه فلان؛ اللهم إني أسألك بصلاح فلان؛ بصلاة فلان، بالأنبياء؛ فهذا لا يجوز؛ لأنك سألت بعمل غيرك وعمل غيرك لا ينفعك، أو سألت بوسيلة دون الله عز وجل ليست من الوسائل المشروعة. أي أنك اتخذت الوسائط التي نهى الله عنها، سواء كانت هذه الوسائط أشخاصاً أو أموراً معنوية أو حسية، فلا تجوز ما لم تكن عمل الشخص، أو مما شرع الله عز وجل مثل طلب الدعاء من الآخرين. والشيخ هنا حينما قال: (وأما الثاني وهو السؤال بالمعظم) انصرف إلى صورة من صور استعمال باء السببية، فباء السببية إن كانت من باب جعل الإنسان عمله سبباً فهي مشروعة، وإذا جعل السبب غير عمله كعمل الآخرين أو جاه الآخرين أو ذوات الآخرين أو مخلوقات أخرى؛ فهذا غير مشروع وسيذكر الشيخ الاختلاف في صورة من صوره. قال رحمه الله تعالى: [وأما الثاني وهو السؤال بالمعظم كالسؤال بحق الأنبياء فهذا فيه نزاع، وقد تقدم عن أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يجوز، ومن الناس من يجوز ذلك. فنقول: قول السائل لله تعالى: أسألك بحق فلان وفلان من الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم، أو بجاه فلان أو بحرمة فلان يقتضي أن هؤلاء لهم عند الله جاه، وهذا صحيح]. نعم، هذا صحيح، وسيستدرك الشيخ استدراكاً مقطوعاً، وهذا ربما يوجد اللبس عند كثير من القراء، بعض الناس قد يستشعر من هذه العبارات أن هناك صورة جائزة من هذا النوع والشيخ لا يقصد هذا، حتى قوله بأن الأمر فيه نزاع لا يقصد أن فيه نزاعاً بين أهل السنة إلا من شذ رأيه ممن ينتسب للسنة. فالسؤال بالمعظم لا يجوز إطلاقاً، لكن هناك صورة قد ترد على وجه بعيد، وهو سؤال الإنسان بحق غيره ممن له جاه بأن يدعو له صاحب هذا الجاه في حياته وقدرته، فبعض الناس قد يقصد هذا المعنى، فيكون معنى بعيداً صحيحاً، فكون الصحابة رضي الله عنهم يطلب أفرادهم ومجموعهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم ويعتبرونه مقبول الدعاء بجاهه، فهم ما استعانوا بالجاه، لكنهم طلبوا من صاحب الجاه أن يدعو لهم، فإذا كانت هذه الصورة تطلب من الحي القادر فلا حرج. وهذا يدخل فيه طلب السؤال من الصالحين؛ لأنا نعتقد أن للصالحين جاهاً عند الله عز وجل بما ذكر الله من قدرهم، فهذا جاه صحيح، ولذلك قال الشيخ: (يقتضي أن هؤلاء لهم عند الله جاه فهذا صحيح)، فإن طلبت هذا الجاه بدعائهم لك وهم أحياء قادرون؛ فهذا لا حرج فيه، لكن إن قصدت بالتوسل بجاههم أن تجعل جاههم واسطة لك فيما هو من خصائصهم دون أن يدعوا لك؛ فهذا لا يجوز، ولذلك ينبغي أن يقال هنا: [لكن جاههم لا ينفع غيرهم في هذا المقام، بل السؤال به عدوان، إلا إذا كان القصد التوسل بدعائهم وهم أحياء]. إذا كمَّلنا العبارة بهذه الجملة التي سيأتي الكلام عنها؛ تصبح العبارة واضحة، ويكون ختام هذا المقطع قوله: [هذا صحيح، لكن جاههم لا ينفع غيرهم في هذا المقام، بل السؤال به عدوان، إلا إذا كان القصد التوسل بدعائهم وهم أحياء، وهذه الصورة بعيدة في مثل هذا المقام].

النزاع الذي أشار إليه ابن تيمية في التوسل بمعظم

النزاع الذي أشار إليه ابن تيمية في التوسل بمعظم مداخلة: ما هو النزاع الذي ذكره الشيخ ابن تيمية في التوسل بمعظم؟ A أما أهل السنة فالنزاع بينهم في طلب الدعاء من الصالحين، ونحو ذلك. أما غيرهم فقد ادعوا أن للأنبياء والصالحين جاهاً ينفع غيرهم دون طلب الدعاء منهم وهم أموات، فالنزاع فيه صورة من الوجه الصحيح لأهل العلم المعتبرين، وصور أخرى إنما هي نزاع بين أهل البدع، وهو أغلب الصور.

مقتضى الجاه عند الله رفع الدرجات وقبول الشفاعة

مقتضى الجاه عند الله رفع الدرجات وقبول الشفاعة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن هؤلاء لهم عند الله منزلة وجاه وحرمة يقتضي أن يرفع الله درجاتهم، ويعظم أقدارهم، ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا، مع أنه سبحانه قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]]. الأنبياء والصالحون والملائكة لهم جاه في الدنيا والآخرة، جاههم في الدنيا ما داموا أحياء: بأن يطلب منهم الدعاء، وجاههم بعد الوفاة بالشفاعة التي يأذن الله بها، لكن بشروطها، فلا شك أنهم أعظم الناس جاهاً، وأولهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم المرسلون والنبيون والملائكة والصالحون من عباد الله، لكن جاههم مضبوط بالضوابط الشرعية، فلا نطلب منهم جاههم وهم أموات، لأن الجاه الذي لهم إما أن يكون شفاعة يوم القيامة، أو طلب دعائهم وهم أحياء، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة، أما أن يطلب منهم جاههم في الدنيا فيما يتعلق بمصالح الدنيا أو غيرها وهم أموات فهذا لا يجوز. فما لهم من جاه في الدنيا ينتهي بموتهم، وما لهم من جاه في الآخرة لا يكون إلا في الآخرة، إلا أن يطلب الإنسان طلباً ليس لهم، يطلب الله عز وجل أن يقبل شفاعتهم فيه، فهذا أمر آخر، لأنه يدعو الله.

علاقة الجاه بإجابة الدعاء

علاقة الجاه بإجابة الدعاء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقتضي أيضاً أن من اتبعهم واقتدى بهم فيما سن له الاقتداء بهم فيه كان سعيداً، ومن أطاع أمرهم الذي بلغوه عن الله كان سعيداً، ولكن ليس نفس مجرد قدرهم وجاههم مما يقتضي إجابة دعائه إذا سأل الله بهم حتى يسأل الله بذلك، بل جاههم ينفعه أيضاً إذا اتبعهم وأطاعهم فيما أمروا به عن الله، أو تأسى بهم فيما سنوه للمؤمنين، وينفعه أيضاً إذا دعوا له وشفعوا فيه. فأما إذا لم يكن منهم دعاء ولا شفاعة، ولا منه سبب يقتضي الإجابة؛ لم يكن مستشفعاً بجاههم ولم يكن سؤاله بجاههم نافعاً له عند الله، بل يكون قد سأل بأمر أجنبي عنه ليس سبباً لنفعه. ولو قال الرجل لمطاع كبير: أسألك بطاعة فلان لك، وبحبك له على طاعتك، وبجاهه عندك الذي أوجبته طاعته لك؛ لكان قد سأله بأمر أجنبي لا تعلق له به. فكذلك إحسان الله إلى هؤلاء المقربين، ومحبته لهم، وتعظيمه لأقدارهم مع عبادتهم له وطاعتهم إياه، ليس في ذلك ما يوجب إجابة دعاء من يسأل بهم، وإنما يوجب إجابة دعائه بسبب منه لطاعته لهم، أو سبب منهم لشفاعتهم له، فإذا انتفى هذا وهذا فلا سبب]. لأن هذا فيه عدوان، فكونهم لهم جاه ولهم قدر، والله عز وجل يستجيب دعاءهم، وأنهم أطاعوا الله وعبدوه، فهذا لا يعني إجابة دعاء غيرهم، لأن المسألة منفكة عن الأخرى، كإنسان مثلاً راح يستشفع عند الآخرين بعمل غيره في أمور الدنيا، فإنه يعتبر ممن يتهم في عقله وإدراكه. فلو أن إنساناً ذهب يستجدي الناس ويطلب منهم العون، ويجعل عمل غيره وسيلة إلى أن ينفعوه؛ لضحك عليه الناس بسبب ذلك؛ لكن لو جاء بصاحب العمل الذي له قدر عند الناس ليشفع له؛ فهذا جائز. فإذاً: استعمال جاه الآخرين وجعله وسيلة لاستجلاب قبول الدعاء من الله عز وجل عدوان؛ لأن عمل الآخرين وجاههم لا ينفعك إلا إن كانوا أحياء فأنت تستشفع بهم بما يجوز في الشرع، وكذلك يوم القيامة، لهم شفاعة، وجاههم ينفع من يستشفع بهم إذا توافرت الشروط المذكورة. إذاً: فهذا كله تقرير لما سبق من أن استعمال جاه الآخرين لإجابة الدعاء من عند الله عز وجل فيه نوع عدوان، وفيه تجاوز للحد الشرعي.

سؤال الله بالإيمان بالرسول ومحبته وطاعته سبب يقتضي الإجابة

سؤال الله بالإيمان بالرسول ومحبته وطاعته سبب يقتضي الإجابة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [نعم، لو سأل الله بإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومحبته له وطاعته له واتباعه؛ لكان قد سأله بسبب عظيم يقتضي إجابة الدعاء، بل هذا أعظم الأسباب والوسائل]. هذا أعظم الأسباب والوسائل لتحقيق الغرض للإنسان الذي يدعو ربه إذا كان له غرض معين، وهذا هو ما سماه أهل العلم السؤال بالأعمال الصالحة، الذي ينطبق عليه ما ورد في قصة أصحاب الغار. أما لو سأل الله بإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم فهذه صورة من صور التوسل مشروع، وهو التوسل بإيمانه ومحبته وطاعته واتباعه؛ فلو سأل به لكان قد سأل بسبب عظيم، فإن من أعظم ما يتقرب به العبد إلى ربه محبة رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته. ثم قال: (بل هذا أعظم الأسباب والوسائل)، يقصد أن وسيلة الهداية التي تتحقق بها نجاة المسلم هو النبي صلى الله عليه وسلم واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فيسأل الله بها أو بسببها ما يسأل من الأمور. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن شفاعته في الآخرة تنفع أهل التوحيد لا أهل الشرك، وهي مستحقة لمن دعا له بالوسيلة، كما في الصحيح أنه قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة). وفي الصحيح أن أبا هريرة قال له: (أي الناس! أسعد بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه). فبين صلى الله عليه وسلم أن أحق الناس بشفاعته يوم القيامة من كان أعظم توحيداً وإخلاصاً؛ لأن التوحيد جماع الدين، والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فهو سبحانه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فإذا شفَّع محمداً صلى الله عليه وسلم حد له ربه حداً فيدخلهم الجنة، وذلك بحسب ما يقوم بقلوبهم من التوحيد والإيمان. وذكر صلى الله عليه وسلم أنه من سأل الله له الوسيلة حلت عليه شفاعته يوم القيامة، فبين أن شفاعته تنال باتباعه بما جاء به من التوحيد والإيمان، وبالدعاء الذي سن لنا أن ندعو له به]. وبذلك تكون الوسيلة الصحيحة -وهي أفضل أنواع الوسيلة- أن يسأل الإنسان بأعماله، وبتوحيده وإخلاصه، وبما وعد الله به من الوسائل المشروعة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذكر أن من سأل له الوسيلة حلت شفاعته؛ فهذه وسيلة مشروعة، والدعاء بها مشروع؛ لأنه وعد من الله، وأن الشفاعة تنال بالتوسل بما يعمله الإنسان من التوحيد والإيمان، وبالدعاء الذي سنه لنا الله عز وجل، سواء الدعاء بطلب الشفاعة وأمور الآخرة، أو طلب أمور الهداية، أو طلب أمور الدنيا؛ كل ذلك جائز، وهذا هو حقيقة الشفاعة، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الدوران على المقابر بقصد الرياضة

حكم الدوران على المقابر بقصد الرياضة Q هذا تنبيه لأمر مهم غفل عنه الناس، وهو ما يستعمله بعض الناس من المشي والرياضة، وفي بعض الأحياء تكون هناك مقابر مسورة ومرصوفة تناسب أرصفتها للمشي فيأخذ في الرياضة بدورانه على المقبرة. A الأمر بادئ ذي بدء قد لا يلفت النظر، لكن في الحقيقة أنه يشكل عند التأمل إذا نظرنا إلى سد الذرائع، وما يحدث غالباً من حدوث البدع، وأنه لا يستهان بأي ذريعة يمكن أن تكون سبباً لاعتقاد باطل، إذا نظرنا إلى هذه الاعتبارات، فيظهر أن الدوران على المقبرة لا ينبغي؛ لأن الذي يدور لم يكن قصده أي شيء يتعلق بالمقابر ولا بالمقبورين ولا بالموت، ولكن يراه الجاهل العامي، ويراه الطفل الناشئ، ويراه الأعجمي؛ فيظن أن هذا من الأمور المشروعة، وأن هذا له علاقة بالموتى، فالناس مفاهيمهم عجيبة! وأعظم من ذلك أن العجم تعودوا الدوران على القبور، ويظنون أن هذا من ضمن المراسم التي يعملونها هناك؛ فلذلك أرجو تنبيه الإخوة الذين يدورون على المقابر أن يبحثوا عن غيرها، كالحدائق والأماكن الأخرى، فالشبهة قوية، وينبغي التنبه لها. وهل يستوي في ذلك الدوران على اليمين واليسار؟ أقول: كله سواء، فأكثر الناس لا يفقه الفرق بين أن تدور على اليمين أو على اليسار.

سؤال الله بعمل صالح قد يذهب أجره

سؤال الله بعمل صالح قد يذهب أجره Q هل سؤال الله بعمل صالح معين يذهب أجر ذلك العمل؟ A يظهر لي -والله أعلم- أنه إذا كان سؤال الله في أمر اضطراري؛ فإنه مما لا يذهب أجر العمل الأصلي، وإذا كان من فضول الأمور، ومن مصالح الدنيا؛ فربما يكون من استعجال الثواب، والله أعلم.

حكم الإقسام على الله عز وجل

حكم الإقسام على الله عز وجل Q ماذا عن حديث: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره)، هل هذا داخل تحت عدم الجواز المذكور؟ يعني: جواز الإقسام. A الكلام في هذا كثير جداً عند أهل العلم، والراجح الذي عليه جمهور السلف والذي يقتضيه عمل الصحابة فيما يظهر: أن الأصل في الإقسام على الله عز وجل لا ينبغي ولا يجوز ولا يليق، لكن إذا حدث ممن له ولاية ووضع خاص، أو حدث من أناس قد يكون عندهم زيادة جرأة ودلالة على الله عز وجل؛ إما لبساطتهم، أو لأمور تتعلق بخصالهم، ولا تتعلق بالأصل الشرعي؛ فهذا من الأمور التي لا تحكم على هذه القاعدة، أو عند الضرورات القصوى كما يحدث في بعض الأزمات التي يقع فيها المسلمون؛ فيطلبون من أحد أن يقسم على الله، أو يطلب هو عند الضرورات التي تتعلق بمصالح الأمة العظمى، لا الحاجات الشخصية؛ فمن هنا يكون الإقسام على الله استثناء لا يكون بفتوى، إنما هي حالات تحصل لأشخاص نلتمس لهم المعاذير، ونقول: إن عملهم بخصوص مشروع؛ لأسباب يعرفها أهل العلم.

[17]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [17] نعم الله ومننه على العباد كثيرة لا تحصى، ومن اعتقد أنه يجب على الله أن يثيبه ويجزيه بعمله إحساناً وفضلاً مزيداً فهو جاهل لم يتعرف على الفروقات، ولم يدرك أوجه المقارنات بين الخالق والمخلوق، تعالى الله وتقدس.

التفصيل في معنى السؤال بحق فلان

التفصيل في معنى السؤال بحق فلان قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وأما السؤال بحق فلان فهو مبني على أصلين: أحدهما: ما له من الحق عند الله. والثاني: هل نسأل الله بذلك كما نسأل بالجاه والحرمة!].

أقوال العلماء في حق المخلوق على الخالق

أقوال العلماء في حق المخلوق على الخالق قال رحمه الله: [أما الأول: فمن الناس من يقول: للمخلوق على الخالق حق يعلم بالعقل، وقاس المخلوق على الخالق، كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم. ومن الناس من يقول: لا حق للمخلوق على الخالق بحال، لكن يعلم ما يفعله بحكم وعده وخبره، كما يقول ذلك من يقوله من أتباع جهم والأشعري وغيرهما ممن ينتسب إلى السنة]. القول الثالث الذي سيذكره الآن هو القول الراجح، وهو قول الجمهور أهل السنة والجماعة، وهو الذي تؤيده النصوص الشرعية. قال رحمه الله تعالى: [ومنهم من يقول: بل كتب الله على نفسه الرحمة، وأوجب على نفسه حقاً لعباده المؤمنين، كما حرم الظلم على نفسه، لم يوجب ذلك مخلوق عليه، ولا يقاس بمخلوقاته، بل هو بحكم رحمته وحكمته وعدله كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم. كما قال في الحديث الصحيح الإلهي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا). وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، وقال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. وفي الصحيحين عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، يا معاذ! أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم). فعلى هذا القول لأنبيائه وعباده الصالحين عليه سبحانه حق أوجبه على نفسه مع إخباره. وعلى الثاني يستحقون ما أخبر بوقوعه وإن لم يكن ثَّم سبب يقتضيه. فمن قال: ليس للمخلوق على الخالق حق يسأل به، كما روي أن الله تعالى قال لداود: وأي حق لآبائك علي؟ فهو صحيح إذا أريد بذلك أنه ليس للمخلوق عليه حق بالقياس والاعتبار على خلقه، كما يجب للمخلوق على المخلوق، وهذا كما يظنه جهال العباد من أن لهم على الله سبحانه حقاً بعبادتهم]. إذاً: الحق الذي للعباد من الله عز وجل لا يوجبونه عليه بأي مقياس من المقاييس، بل لا يجوز لأحد أن يفرض على الله حقاً للعباد، لكن الله عز وجل وعد عباده بحق ألزم نفسه به، فإذاً: الوعد بفضله ومنه ورحمته، فالعباد ليس لهم على الله أي حق، ولا يستحقون على الله بأي عمل من الأعمال حقاً يفرضونه، ولا يمكن أن يكون لهم على الله فيه أي حجة.

ما تتخيل النفوس من الحق على الله

ما تتخيل النفوس من الحق على الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذلك أن النفوس الجاهلية تتخيل أن الإنسان بعبادته وعلمه يصير له على الله حق من جنس ما يصير للمخلوق على المخلوق، كالذين يخدمون ملوكهم وملاكهم، فيجلبون لهم منفعة ويدفعون عنهم مضرة، ويبقى أحدهم يتقاضى العوض والمجازاة على ذلك، ويقول له عند جفاء أو إعراض يراه منه: ألم أفعل كذا؟! يمن عليه بما يفعله معه، وإن لم يقله بلسانه كان ذلك في نفسه]. يقصد بذلك أن بعض العباد يتصور أنه إذا عبد الله عز وجل وأطاعه؛ فإنه بذلك يكون له حق على الله، وهذا جهل من جميع الوجوه؛ فإن العبد مهما بلغ من العبادة والشكر لله عز وجل والثناء والعرفان فإنه لا يكافئ بذلك نعمة من نعم الله عز وجل الكثيرة. فإذاً: هذا الفهم خاطئ، وكما ذكر الشيخ أنه فهم جاهلي تفهمه بعض الأمم وبعض الملل وبعض الطوائف وبعض الأفراد، فيمنون على الله بإسلامهم أو بعبادتهم، وهذا من جهلهم.

بيان جهل من تخيل أن له على الله حقا

بيان جهل من تخيل أن له على الله حقاً قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وتخيل مثل هذا في حق الله تعالى من جهل الإنسان وظلمه؛ فلهذا بين سبحانه أن عمل الإنسان يعود نفعه عليه، وأن الله غني عن الخلق، كما في قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7]. وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]. وقوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7]. وقوله تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]. وقال تعالى في قصة موسى عليه السلام: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:7 - 8]. وقال تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران:176]. وقال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97].

امتنان الله تعالى بالعمل على الخلق

امتنان الله تعالى بالعمل على الخلق وقد بين سبحانه وتعالى أنه المانُّ بالعمل؛ فقال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]. وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7 - 8]. وفي الحديث الصحيح الإلهي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، وإنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً ولا أبالي؛ فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)].

الفروق بين الخالق والمخلوق

الفروق بين الخالق والمخلوق [وبين الخالق تعالى والمخلوق من الفروق ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة:]

الله تعالى غني عما سواه وهو الذي يخلق العمل

الله تعالى غني عما سواه وهو الذي يخلق العمل [منها: أن الرب تعالى غني بنفسه عما سواه، ويمتنع أن يكون مفتقراً إلى غيره بوجه من الوجوه، والملوك وسادة العبيد محتاجون إلى غيرهم حاجة ضرورية. ومنها: أن الرب تعالى وإن كان يحب الأعمال الصالحة ويرضى ويفرح بتوبة التائبين؛ فهو الذي يخلق ذلك وييسره، فلم يحصل ما يحبه ويرضاه إلا بقدرته ومشيئته. وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة والجماعة الذين يقرُّون بأن الله هو المنعم على عباده بالإيمان، بخلاف القدرية، والمخلوق قد يحصل له ما يحبه بفعل غيره].

الله تعالى يأمر العباد بما يصلحهم

الله تعالى يأمر العباد بما يصلحهم [ومنها: أن الرب تعالى أمر العباد بما يصلحهم، ونهاهم عما يفسدهم، كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا ينهاهم عما نهاهم عنه بخلاً عليهم، بل أمرهم بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم، بخلاف المخلوق الذي يأمر غيره بما يحتاج إليه، وينهاه عما ينهاه بخلاً عليه. وهذا أيضاً ظاهر على مذهب السلف وأهل السنة الذين يثبتون حكمته ورحمته، ويقولون: إنه لم يأمر العباد إلا بخير ينفعهم، ولم ينههم إلا عن شر يضرهم، بخلاف المجبرة الذين يقولون: إنه قد يأمرهم بما يضرهم، وينهاهم عما ينفعهم].

الله هو المنعم بإرسال الرسل وإنزال الكتب

الله هو المنعم بإرسال الرسل وإنزال الكتب [ومنها: أنه سبحانه هو المنعم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو المنعم بالقدرة والحواس وغير ذلك مما به يحصل العلم والعمل الصالح، وهو الهادي لعباده، فلا حول ولا قوة إلا به؛ ولهذا قال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:43]، وليس يقدر المخلوق على شيء من ذلك].

نعم الله على عباده أعظم من أن تحصى

نعم الله على عباده أعظم من أن تحصى [ومنها: أن نعمه على عباده أعظم من أن تحصى، فلو قدر أن العبادة جزاء النعمة؛ لم تقم العبادة بشكر قليل منها، فكيف والعبادة من نعمه أيضاً].

العباد مقصرون في حق الله

العباد مقصرون في حق الله [ومنها: أن العباد لا يزالون مقصرين محتاجين إلى عفوه ومغفرته، فلن يدخل أحد الجنة بعمله، وما من أحد إلا وله ذنوب يحتاج فيها إلى مغفرة الله لها: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)، لا يناقض قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]؛ فإن المنفي نفي بباء المقابلة والمعاوضة، كما يقال: بعت هذا بهذا، وما أثبت أثبت بباء السبب، فالعمل لا يقابل الجزاء وإن كان سبباً للجزاء؛ ولهذا من ظن أنه قام بما يجب عليه، وأنه لا يحتاج إلى مغفرة الرب تعالى وعفوه؛ فهو ضال، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، وروي: (بمغفرته). ومن هذا أيضاً الحديث الذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم) الحديث. ومن قال: بل للمخلوق على الله حق؛ فهو صحيح إذا أراد به الحق الذي أخبر الله بوقوعه، فإن الله صادق لا يخلف الميعاد، وهو الذي أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته. وهذا المستحق لهذا الحق إذا سأل الله تعالى به يسأل الله تعالى إنجاز وعده، أو يسأله بالأسباب التي علق الله بها المسببات؛ كالأعمال الصالحة، فهذا مناسب. وأما غير المستحق لهذا الحق إذا سأله بحق ذلك الشخص؛ فهو كما لو سأله بجاه ذلك الشخص، وذلك سؤال بأمر أجنبي عن هذا السائل لم يسأله بسبب يناسب إجابة دعائه]. هذه -في الحقيقة- نتيجة لذاك الاستطراد، والله عز وجل إنما أوجب ما أوجبه على نفسه برحمته وفضله، وليس للعباد في ذلك أي منة على الله عز وجل، وليس ما يعطيهم الله عز وجل من الفضل مجازاة لأعمالهم، إنما الله عز وجل جعل الأعمال سبباً لرحمته وفضله ومنته. قوله: (وهذا المستحق لهذا الحق)، يعني: العبد المؤمن إذا عمل بمقتضى ما وعد الله به؛ فإنه إذا سأل الله تعالى بطاعته التي أطاعه بها فإنما يسأل الله ما وعده الله به، لا بحق له يوجبه على الله. وأيضاً: فإنما يسأل من فضل الله، لا من حق يمن به على الله، أو يسأله بالأسباب التي علق الله بها المسببات، فقد جعل الله عز وجل الأعمال الصالحة سبباً لتحصيل المطلوب عند الدعاء بها، كما ورد في قصة أصحاب الغار. فجعل الداعي الأعمال الصالحة سبباً لما وعد الله به بفضله وكرمه، لا سبباً يجب على الله؛ هذا أمر. قوله: (أما غير المستحق لهذا الحق إذا سأله بحق ذلك الشخص؛ فهو كما لو سأله بجاه ذلك الشخص)، أي: فإذا قال: اللهم إني أسألك بحق فلان، فهذا غير مشروع، إلا على وجه بعيد ضعيف سيأتي ذكره، يقول: هذا من العدوان؛ لأنك ما سألت بحقك، وذلك الشخص جاهه له، وحقه الذي وعد الله به له؛ لأنه بعمله، والناس لا ينفع أحد منهم الآخر بعمله يوم القيامة. وقال: وذلك سؤال بأمر أجنبي، أي: ليس من عمل السائل، فلم يسأله بسبب يناسبه إجابة دعائه. مثال ذلك: لو أن إنساناً عنده مؤهل جامعي، وآخر ليس عنده شهادة، فجاء هذا الذي ليس عنده شهادة تؤهله للوظيفة فأخذ شهادة الآخر وذهب بها إلى الجهات المسئولة ليتوظف بها؛ فإنهم إذا طابقوا اسمه قالوا: هذه لغيرك، قال: أنا فقط أتوسل بها؛ فهذا يضحك الناس عليه؛ لأنه سأل بغير سببه الذي تسبب به، فهذا مثال السؤال بجاه فلان. فإنه بذلك -بلا شك- علاوة على أنه معتد ربما يشك في عقله وفي ذمته، فكذلك من يسأل بجاه فلان أو بفلان أو بحقه، فإن هذه الحقوق إنما وعد الله بها أصحابها. لكن ستأتي صورة -وهذا وجه من وجوه التداخل- قد يجوز فيها أن يقال: اللهم إني أسألك بجاه فلان، في حالة ما إذا كان فلان المسئول بجاهه موجوداً وقادراً، وأن المقصود بجاهه دعاؤه للغير، كما حدث في قصة الأعمى الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه سأل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الصورة التي سأل بها هو أنه دعا الله عز وجل أن يقبل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فهذا لا حرج فيه؛ لأنه من إنسان قادر ما اعتدينا على أعماله، إنما طلبنا دعاءه، وسبق أن ذكر الشيخ أن من أصول الشرع المتفق عليها: أنه يجوز أن تطلب من الآخرين أن يدعوا لك عند اللزوم، أو في حالة معينة. فإذا قصد بالجاه هذه الصورة فنعم، لكنها بعيدة، وإذا قصد بحق فلان هذا الوجه فهذا صحيح، لكنه غير المتبادر، ولذلك فالأولى اجتناب هذه العبارة؛ لما فيها من اللبس، والصورة الصحيحة تبقى على الوضوح، بمعنى أنه يجوز أن تطلب من الغير أن يدعو لك، وأن تدعو الله عز وجل أن يستجيب دعاءه فيك، لأنك ما استعملت عمله في صالحك، إنما استعملت المشروع في حقك، وهو أن تطلب منه الدعاء لك.

الأسئلة

الأسئلة

الحكم على حديث قصة الأعمى ومفهومه

الحكم على حديث قصة الأعمى ومفهومه Q حال قصة الأعمى مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ A حديث قصة الأعمى مع النبي صلى الله عليه وسلم صحيح، وهي قصة وردت مجملة ووردت مفسرة، فوردت بأنه توسل به، ووردت مجملة في صورة هذا التوسل، وهو أن الأعمى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له ليرد الله إليه بصره، فالنبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يتوضأ وأن يصلي وأن يدعو الله بأن يستجيب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فكان أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له، وهو دعا ربه بأن يقبل الله دعاء نبيه فيه؛ فحصل مقصوده بأن أعاد الله عليه بصره على صورة مشروعة واضحة بينة لا لبس فيها ولا غموض، ومفسرة تفسيراً واضحاً وبيناً. فإذا قيل: هل يجوز أن نعمل على هذه الصورة؟ فالجواب: جمهور السلف على أنه لا يجوز؛ لأن هذا من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله يستجيب دعاءه في مثل هذه الأمور التي يندر أن يحدث، وهي تعتبر من خوارق الأمور، فهذا -والله أعلم- من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه والصورة. ويبقى جزء من هذا الأمر مشروعاً، وهو ما فعله الصحابة، وكذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم فيما يظهر والله أعلم من أن تطلب من غيرك أن يدعو لك؛ لكن أن يزاد على هذا أن تصلي وتتضرع لله عز وجل، أن يجيب دعاء الداعي الآخر فيك؛ فهذه الصورة على جهة التعبد لا تجوز، لكن لو دعا إنسان بعد صلاته، أما أن ينشئ صلاة من أجل ذلك فالظاهر أنه لا يجوز، وهذا رأي الجمهور. لكن كونك تطلب من رجل صالح أن يدعو لك، ثم بعد صلاتك أو بعد طاعة من الطاعات التي تعملها لله عز وجل تدعو ربك بأن يقبل دعاء هذا الرجل الصالح فيك؛ فهذا أمر فيما يبدو ليس فيه حرج، لكن إذا لم ينشئ له صلاة.

اشتراط الاعتقاد في التكفير

اشتراط الاعتقاد في التكفير Q هل القول بأن الكفر لا يكون إلا باعتقاد من أقوال أهل السنة والجماعة؟ A نعم، القول بأن الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد -أي: بالأمور الاعتقادية- قول لبعض أهل السنة، لكنه قول مرجوح، ويخالف قول الجمهور، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكره عن أئمة كبار من أئمة الدين المعدودين من أئمة السنة. لكنه كلام غير مفسر؛ لأنهم قالوا: إن الكفر الاعتقادي لا بد أن ينبثق عنه عمل، فكأنهم جعلوا الكفر العملي من لوازم الكفر الاعتقادي، وعند التفصيل نجد أنهم يتفقون على أن الكفر ليس فقط الكفر الاعتقادي، بل وفيه العملي، لكنهم عند التفصيل يقولون: إنه لا يمكن أن يكون هناك إخلال عملي إلا وهو ناتج عن فساد الاعتقاد، وإن اختل شيء من ذلك فهذه من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، لكن نحن نحكم بقرائن الأمور وقرائن الأقوال. فالشاهد: أن هناك من أئمة السلف من قال بأن الكفر لا يكون إلا بالكفر الاعتقادي، هذا في الإجمال، لكنه كلام مجمل يفسره قول من فصلوا، ومع ذلك فهذا القول مرجوح، والذي عليه جمهور السلف أن الكفر يكون بالاعتقاد فقط، ويكون بالعمل فقط، ويكون بهما؛ لأن الإعراض عن دين الله بالكلية كفر ولو لم يصحبه اعتقاد الشرك بالله عز وجل كفر ولو لم يصحبه اعتقاد؛ لأن مسألة الاعتقاد مسألة ليست ظاهرة، مسألة مجملة مبهمة، قد لا يفهمها كثير من الناس، فإن بعض الناس لا يستصحب الاعتقاد في الأعمال الشركية على الوجه الذي نتصوره نحن، قد يعمل الشرك بالتقليد، لكن مع ذلك يعدُّ فاعله مشركاً. فأقول: إن هناك من الأعمال ما يقتضي الخروج من الملة ولو لم يصحبه اعتقاد في الظاهر لنا، وكذلك الاعتقاد قد يكون مخرجاً من الملة، وهذا متفق عليه ولو لم ينبثق عنه عمل، وقد يجتمع العمل الظاهر والعمل القلبي في الكفريات، أي: الاعتقاد مع العمل، وهذا هو الغالب.

التكفير بالجهل عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب

التكفير بالجهل عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب Q هل صحيح أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كفر الجاهلين؟ A لا، الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسائله وفي كتبه كفر الجاهلين أحياناً ونفى عنهم الكفر أحياناً، وهذا صحيح وهذا صحيح، إذا قرأت ما قاله؛ فإنه لا يكفر الجاهل إذا وقع في الكفر عرضاً، هذا ظاهر ما تأملته من كلامه وكلام أئمة الدعوة، يرون أن الجاهل الذي يقع في الكفر عرضاً لا يكفر حتى نتثبت منه، لكن الجاهل الذي يقع في الكفر أصالة بالتبع، بمعنى أنه يمارس الكفر دائماً وهو ديدنه: يطوف بالقبر يومياًَ أو كل أسبوع أو كل سنة ويستمر على هذا يسجد للصنم دائماً وإن ادعى الإسلام، يعمل كفراً بشكل دائم الأصل فيه أنه يكفر بعمله هذا. أما الكفر العارض فهو ينفى عن الجاهل حتى يتبين حاله، فالمسلم الذي الأصل فيه أنه على السنة إذا وقع في كفر أنه يحمل على الجهل، فنتثبت من حاله، أما من كان الأصل فيه البدعة المغلظة والكفرية، وهي ديدنه؛ فهذا الأصل فيه الكفر حتى يتبين لنا ما يعارض ذلك.

الحكم بالكفر على أصل البدع الكفرية

الحكم بالكفر على أصل البدع الكفرية مداخلة: هل يحكم على من هو واقع في بدعة كفرية بالكفر؟ A هذا الظاهر لنا وأمره إلى الله عز وجل؛ لأن بعض الناس يخلط بين الجزم وبين حكم الله، نحن نحكم على أولئك الذين يمارسون البدع الشركية دائماً وهي عادتهم ومنهجهم بأنهم كفار، هذا في الجملة، وأن أفرادهم أيضاً واقعون في الكفر، هذا الحكم العام الظاهر؛ لكن هل نجزم به فيما بينه وبين الله عز وجل، أو في مصائرهم بأنهم على الحال التي نحكم بها ظاهراً، هذا لا نجزم به، وهذه قاعدة في الكفار وفي عصاة المسلمين وفي الذين يرتكبون الشركيات من المسلمين وغير المسلمين، فنحن نحكم بالظاهر وأمر الباطن وحقائق ما عليه العباد ومصائرهم بعد الموت إلى الله عز وجل. فإذاً من يمارس الشركيات ممارسة أصلية ليست عارضة الأصل فيه أنه مشرك.

مذهب الإمام الطحاوي في التكفير

مذهب الإمام الطحاوي في التكفير Q هل الطحاوي ممن يقول بهذا القول: لا كفر إلا باعتقاد؟ A هذا الظاهر، الطحاوي رحمه الله مال في هذه المسألة إلى قول المرجئة بقوله: إنه لا كفر إلا باستحلال، أو باعتقاد، فقوله أميل إلى قول المرجئة، لكن في عباراته اضطراب، فهو عندما أجمل ذكر قول المرجئة، وأنه لا يكفر أحد بذنب ما لم يستحله. وهذا غير صحيح، فليست هذه هي عبارة السلف، فيبدو لي والله أعلم أنه أقرب إلى قول المرجئة، لكن إذا نظرنا إلى عباراته عند التفصيل نجد أنه يحاول أحياناً أن يقول بقول أهل السنة والجماعة، ولا يستبعد أنه في هذه المسألة على مذهب شيوخه في المذهب الفقهي وهم مرجئة الفقهاء، وإن كان رحمه الله من أئمة السنة في سائر أصول الدين.

انتشار فكر المرجئة عن طريق الفضائيات

انتشار فكر المرجئة عن طريق الفضائيات Q بدأ ينتشر في الآونة الأخيرة وعلى شاشات الفضائيات الفكر الإرجائي، ونريد مرجعاً شاملاً عن هذا الفكر وهذا الاعتقاد؟ A كُتبت الآن عدة كتب في الإرجاء والمرجئة وهي متوافرة في الأسواق، لكن من أراد التأصيل العلمي لمثل مستوياتكم الذين يحضرون الدروس الشرعية فكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية مؤصّل، وذكر هذه الأمور تفصيلاً. وعلى سبيل الإيجاز من الكتب القديمة، ومن أحسن من ناقش هذه القضية أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الإيمان، رسالة موجزة ولكن في الحقيقة تقصّد أقوال المرجئة وأدلتهم بعبارة سهلة موجزة وليس فيها استطراد، وبالدلالات الشرعية الظاهرة القوية. أما انتشار الفكر الإرجائي في الفضائيات فهو راجع إلى أن أغلب الذين يسهمون في البرامج الإسلامية في الفضائيات أشاعرة وماتريدية وعقلانيون وعصرانيون، وهؤلاء مرجئة في الأصل، ولا نتوقع منهم غير ذلك إلا من وفقه الله عز وجل للقول بقول أهل السنة والجماعة.

[18]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [18] التوسل إلى الله تعالى بعمل قلبي مشروع أو بعمل من أعمال الجوارح؛ كأن يتوسل بحبه للرسول أو اتباعه له أو نحو ذلك جائز ولا محذور فيه، وإن كانت طوائف من أهل البدع وقعوا في لبس واضطراب في هذه المسألة، وهكذا التوسل بالحقوق المشروعة كحق الرحم وحق القرابة وحق الصلة فهي جائزة، وليست من التوسلات البدعية ولا من الإقسام على الله تعالى.

حكم السؤال بحق الأنبياء

حكم السؤال بحق الأنبياء قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وأما سؤال الله بأسمائه وصفاته التي تقتضي ما يفعله بالعباد من الهدى والرزق والنصر، فهذا أعظم ما يسأل الله تعالى به. فقول المنازع: لا يُسأل بحق الأنبياء، فإنه لا حق للمخلوق على الخالق ممنوع. فإنه قد ثبت في الصحيحين حديث معاذ الذي تقدم إيراده، وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. فيقال للمنازع: الكلام في هذا في مقامين: أحدهما: في حق العباد على الله. والثاني: في سؤاله بذلك الحق. أما الأول: فلا ريب أن الله تعالى وعد المطيعين بأن يثيبهم، ووعد السائلين بأن يجيبهم، وهو الصادق الذي لا يخلف الميعاد، قال الله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6]، {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم:47]. فهذا مما يجب وقوعه بحكم الوعد باتفاق المسلمين. وتنازعوا: هل عليه واجب بدون ذلك؟ على ثلاثة أقوال كما تقدم. قيل: لا يجب لأحد عليه حق بدون ذلك. وقيل: بل يجب عليه واجبات ويحرم عليه محرمات بالقياس على عباده. وقيل: هو أوجب على نفسه وحرّم على نفسه، فيجب عليه ما أوجبه على نفسه، ويحرم عليه ما حرمه على نفسه كما ثبت في الصحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه كما تقدم]. فيما يتعلق بالأقوال الثلاثة فإن من القول الأول فرع عن القول الثالث، فالقول الأول مجمل والثالث مفصّل، فالقول الأول فيه نقص، وهو قوله: قيل: لا يجب لأحد عليه -أي: على الله عز وجل- حق بدون ذلك، أي بدون ما أوجبه الله على نفسه، وهذا هو الصحيح، لكن التفصيل الذي جاء في القول الثالث أبين وأوضح، وهو قول جمهور السلف. أما القول الثاني وهو قول المعتزلة، وقد أنكر عليهم السلف القول بإيجاب شيء على الله عز وجل هذا أمر. الأمر الآخر: أن كلمة الوجوب هنا لا تعني وجوب التكليف؛ لأن الله عز وجل لا مكره له، وهو سبحانه الحي القيوم القائم على شئون عباده، بيده مقاليد السماوات والأرض ليس لأحد عليه أمر، فهو الآمر الناهي، وهو المشرّع، وهو سبحانه المكلّف لعباده، لكن تساهل بعض الناس فأطلقوا على ما يلزم في حق الله عز وجل عبارة الوجوب، بمعنى أن ما ألزم الله به نفسه أو ما كان من سنن الله عز وجل التي لا تتبدل، أو ما قرر الله عز وجل أنه كائن أو يكون، سواء في ذلك الأمور الكونية والأمور الشرعية، فإن هذا قد يعبر عنه بأنه لازم، يعني بمعنى أنه من سنن الله الكونية والشرعية، وهذا اللزوم أطلق عليه البعض الوجوب، لا وجوب التكليف وإنما هو وجوب اللزوم أو الالتزام، ومع ذلك فإن العبارة لا تليق، لكن قد يلجأ إليها بعض العلماء عند البيان أو عند الرد، أو في مثل هذا التفصيل الذي ذكره الشيخ. إذاً: فيما يتعلق بالقول الأول والثالث يقصد بالوجوب اللزوم.

امتناع الظلم في حق الله ومعنى ذلك

امتناع الظلم في حق الله ومعنى ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والظلم ممتنع منه باتفاق المسلمين، لكن تنازعوا في الظلم الذي لا يقع، فقيل: هو الممتنع، وكل ممكن يمكن أن يفعله لا يكون ظلماً؛ لأن الظلم إما التصرف في ملك الغير، وإما مخالفة الأمر الذي يجب عليه طاعته، وكلاهما ممتنع منه]. هذا الأمر فصّل فيه الأشعري في مقالات الإسلاميين، وذكر أقوال الناس في ذلك، لكن مما ينبغي فهمه وهو ما أشار إليه الشيخ هنا، وهو أنه لا ينبغي أن يقال في حق الله ذلك، فإنا نعلم جزماً بأن الله عز وجل ليس بظلّام للعبيد، وليس في أفعاله ظلم، وأن الله فعّال لما يريد، وأن ما يفعله الله كله حق وعدل؛ ونظراً لأن الله عز وجل يفعل في ملكه ما يشاء فإن كل ما يفعله في عباده فهو عدل وليس بظلم. وهذا مؤدى كلام الشيخ في قوله: فقيل: هو الممتنع، وكل ممكن يمكن أن يفعله لا يكون ظلماً إذاً: أفعال الله عز وجل كلها ليست ظلماً، هذا أمر بدهي، فينتج عن ذلك أن كل ما يفعله الله عز وجل لا يمكن أن يكون ظلماً؛ لأن الله يفعل في ملكه ما يشاء، وأفعاله كلها على مقتضى الحكمة والعدل. فإذاً: الظلم منفي في حق الله عز وجل، ولا ينبغي للمسلم أن يخوض في هذا الأمر، لكن أهل الأهواء خاضوا في ذلك، فالسلف يضطرون إلى الكلام عن ذلك من باب بيان الأقوال وبيان الأخطاء في ذلك، لا من باب التقرير. قال المؤلف رحمه الله: [وقيل: بل ما كان ظلماً من العباد فهو ظلم منه. وقيل: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فهو سبحانه لا يظلم الناس شيئاً، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]. قال المفسّرون: هو أن يُحمل عليه سيئات غيره ويُعاقب بغير ذنبه، والهضم أن يهضم من حسناته]. يعني يُنقص منها. قال رحمه الله: [وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40]، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [هود:101]].

سؤال الله بحق العباد عليه

سؤال الله بحق العباد عليه ذكر الشيخ قبل قليل قال: (فيقال للمنازع: الكلام في هذا في مقامين)، يعني الكلام فيما يتعلق بما سبق ذكره من سؤال الله بأسمائه وصفاته، وهو يذكر ما يتعلق بقول المنازع: لا يسأل بحق الأنبياء فإنه لا حق للمخلوق على الخالق، الشيخ يقول: إن هذا فيه تفصيل، وأن في هذه القاعدة تفصيل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يتعلق بحق العباد على الله. وذكر أنه لا يجب على الله إلا ما أوجبه على نفسه، والوجوب هنا بمعنى الالتزام، لا بمعنى تكليف، هذا المقام الأول فهذا حق يمكن أن يُعبّر عنه بأنه حق للأنبياء أو حق للخلق، وهو مما أوجبه الله على نفسه، أو وعد به عباده أو بعض عباده. والمقام الثاني في هذه القاعدة، وهو ما سيذكره الشيخ الآن.

السؤال بحق هو سبب لإجابة السؤال

السؤال بحق هو سبب لإجابة السؤال قال رحمه الله تعالى: [وأما المقام الثاني فإنه يقال: ما بيّن الله ورسوله أنه حق للعباد على الله فهو حق، لكن الكلام في السؤال بذلك، فيقال: إن كان الحق الذي سأل به سبباً لإجابة السؤال حسُن السؤال به، كالحق الذي يجب لعابديه وسائليه]. لأن الله عز وجل وعد أن يستجيب دعاء العابدين والسائلين، فكونه يجب لعابدي الله عز وجل وسائليه بمعنى أن الله وعد به، فهذا بمعنى اللزوم، وأن الله عز وجل وعدهم، فهذا الوعد يتحقق بإذن الله عز وجل وبوعده.

السؤال بحق لا علاقة له بإجابة السؤال

السؤال بحق لا علاقة له بإجابة السؤال قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما إذا قال السائل: بحق فلان وفلان، فأولئك إذا كان لهم عند الله حق أن لا يعذبهم وأن يكرمهم بثوابه ويرفع درجاتهم، كما وعدهم بذلك وأوجبه على نفسه، فليس في استحقاق أولئك ما استحقوه من كرامة الله ما يكون سبباً لمطلوب هذا السائل، فإن ذلك استحق ما استحقه بما يسّره الله له من الإيمان والطاعة، وهذا لا يستحق ما استحقه ذلك، فليس في إكرام الله لذلك سبب يقتضي إجابة هذا]. هذا صحيح، فالحق للشخص متعلق به هو لا بغيره، فإذا كان هناك رجل صالح عمل من الصالحات فإن ذلك ينفعه، وقد يتعدى نفعه هو بدعائه لغيره، أو بالأسباب التي يعملها تنفع غيره كأن يتسبب لوالديه ببرهما أحياء وأمواتاً، فهذا الأمر -أي: الفعل- متعلق بالشخص نفسه سواء كان مما يرجع ثوابه عليه أو يتعدى نفعه إلى غيره، فإن هذا راجع إلى عمله هو، لكن لا يجوز لغيره أن يستعمل حقه أو يأخذ من حقه فيطلبه من الله عز وجل؛ لأن حق هذا الإنسان متعلق به لا بغيره، فالعبد الصالح أو الرجل الصالح لا يمكن للغير الانتفاع بعمله، أي أن يرجع ثواب عمله أو أن يستشفع أحد بعمله إلا في صورة واحدة، وهي أن يطلب منه الدعاء، أما ما عدا ذلك فإن عمله له ولا يتعدى لغيره، فهذه الصورة إذاً ممنوعة، فقوله: (وأما إذا قال السائل بحق فلان)، فحق فلان له وليس لغيره؛ لأن الله عز وجل جعل لكل إنسان جزاء ما عمل، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

السؤال بدعاء المخلوق وشفاعته وهو قادر على ذلك

السؤال بدعاء المخلوق وشفاعته وهو قادر على ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن قال: السبب هو شفاعته ودعاؤه، فهذا حق إذا كان قد شفع له ودعا له، وإن لم يشفع له ولم يدع له لم يكن هناك سبب]. هذا فيما يتعلق بصورة واحدة؛ لأن الشيخ في المقطع السابق أجمل في قوله: (وفي حق فلان)! نقول: فلان هل هو حي أو ميت؟ إن كان فلان حياً فإنه لا يجوز ولا يمكن أن تسأله إلا ما يستطيعه، إذا جعلته سبباً وجعلت أعماله سبباً فإن كان السبب الذي تتوسل به هو شفاعته ودعاؤه وهو حي قادر فهذا جائز، تقول: يا فلان اشفع لي، أو أتوسل بك إلى فلان، أو أتوسل بك إلى الله عز وجل فهذه صورة صحيحة، أما أن يكون معنى أتوسل بك: أجعلك وسيلة بذاتك وبعملك دون أن تتسبب بالدعاء، فهذه صورة ممنوعة كما هو معلوم. إذاً قال: (وإن قال السبب هو شفاعته)، أي التوسل بشفاعته وبدعائه فإن هذا جائز؛ لأنه حي قادر يستطيع أن يدعو، وهذه الصورة لا تكون في حق الأموات، لأنه لا يمكن لميت أن يدعو لحي، فإذاً هذه الصورة محصورة في حق الحي القادر كما هو معروف في الصور التي ذكرها الشيخ وفصّل فيها من قبل.

السؤال بالمحبة الإيمانية للمخلوق

السؤال بالمحبة الإيمانية للمخلوق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن قال: السبب هو محبتي له وإيماني به وموالاتي له، فهذا سبب شرعي وهو سؤال الله وتوسل إليه بإيمان هذا السائل ومحبته لله ورسوله وطاعته لله ورسوله. لكن يجب الفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله، فمن أحب مخلوقاً كما يحب الخالق فقد جعله نداً لله، وهذه المحبة تضره ولا تنفعه. وأما من كان الله تعالى أحب إليه مما سواه، وأحب أنبياءه وعباده الصالحين له فحبه لله تعالى هو أنفع الأشياء، والفرق بين هذين من أعظم الأمور]. هذه المسألة تضمنت صورة جائزة، وهي ما إذا كان سأل المستشفع أو المتوسل بعمل قلبي مشروع أو عمل من أعمال الجوارح. فإذا توسل المسلم بحبه للرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا توسل بعمله هو لا بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلو قال إنسان: اللهم إني أسألك بحبي لرسولك صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، أو اللهم إني أسألك باتباعي لنبيك صلى الله عليه وسلم فإنه بهذا توسل بعمله هو المتعلق بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتوسل بذات الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بعمل غيره. إذاً هذه الصورة قد تشتبه على كثير من أهل البدع الذين استدلوا على من أجازها بجواز غيرها، وهي من الصور التي قد تخفى على كثير من الناس، ومن هنا فإن أكثر الذين ردوا على أهل السنة والجماعة، وعلى شيخ الإسلام بالذات في هذا المقام جهلوا هذه القضية، وظنوا أن شيخ الإسلام لا يجيز التوسل بالإيمان أو بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ظناً منهم أنه ينفي كل ما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم من التوسلات، في حين أن الصحيح الذي عليه جمهور السلف أن هناك من صور التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم ما هو جائز كالتوسل بدعائه وهو حي، التبرك بآثاره وهو حي، وكالتوسل بحبه وبالإيمان به وباتباعه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: إذا كان التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته على وجهين]. يعني بالرسول صلى الله عليه وسلم أو بالعمل الصالح. قال رحمه الله تعالى: [تارة يتوسل بذلك إلى ثوابه وجنته، وهذا أعظم الوسائل، وتارة يتوسل بذلك في الدعاء كما ذكرتم نظائره]. يقصد بهذا أن التوسل الجائز له صورتان: الصورة الأولى: كون المتوسل يريد بذلك الثواب والجنة، حيث يتوسل الإنسان بأعماله الصالحة ويدعو الله عز وجل ويعبده طلباً لثوابه وجنته، فهذا هو الأصل وهو المطلوب من جميع العباد، وهو أصل العبادة وأساسها. والصورة الثانية: أن يتوسل بالعمل الصالح للوصول إلى غرض آخر، فهذا أيضاً جائز كما في قصة أصحاب الغار الذين توسل كل منهم بعمل صالح لتحقيق غرض وإن كان دنيوياً من جلب نفع أو دفع ضر، فهذا أيضاً جائز بل من الصور المشروعة التي ليس عليها خلاف.

معنى ما جاء عن السلف من التوسل

معنى ما جاء عن السلف من التوسل قال رحمه الله تعالى: [فيُحمل قول القائل: أسألك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم على أنه أراد: إني أسألك بإيماني به وبمحبته، وأتوسل إليك بإيماني به ومحبته، ونحو ذلك. وقد ذكرتم أن هذا جائز بلا نزاع. قيل: من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع]. ولذلك نجد أن أكثر أهل البدع لا يريدون هذا المعنى، فسائرهم لا يقصدون التوسل بالإيمان به ومحبته إلى الله، إنما يقصدون التوسل بذاته، ولذلك ينادونه ويدعونه من دون الله، فهم فسّروا توسلهم بفعلهم وقولهم، فمن هنا لا يحتاج أن نتكلف أن أغلب أهل البدع لم يريدوا هذا الوجه الصحيح وهو التوسل إلى الله بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وباتباعه وطاعته فإن هذا أمر مشروع، لكنهم لا يقصدونه؛ لأن فعلهم لا يدل على ذلك، ولو قصدوه لجاز هذا كما ذكر الشيخ. قال رحمه الله تعالى: [قيل: من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع، وإذا حمل على هذا المعنى كلام من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته من السلف كما نُقل عن بعض الصحابة والتابعين وعن الإمام أحمد وغيره، كان هذا حسناً، وحينئذ فلا يكون في المسألة نزاع، ولكن كثير من العوام يُطلقون هذا اللفظ ولا يُريدون هذا المعنى، فهؤلاء الذين أنكر عليهم من أنكر، وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا جائز بلا نزاع، ثم إن أكثر الناس في زماننا لا يريدون هذا المعنى بهذا اللفظ]. إذاً: تحصّل عندنا أن للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم صورتين جائزتين تتفرع عنهما ألفاظ وطرق: الصورة الأولى: التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم وهو حي، وهذه انتهت بوفاته. الصورة الثانية: التوسل إلى الله بالإيمان به صلى الله عليه وسلم، وبحبه، واتباعه، والجهاد في سبيل دينه، واقتفاء أثره، وطاعته كل هذه الأعمال الإيمانية التي تتعلق بحق الرسول صلى الله عليه وسلم الديني الشرعي يتوسل بها المسلم بقدر ما يعملها. إذاً تنحصر التوسلات بالنبي صلى الله عليه وسلم بهاتين الصورتين وتتفرع عنهما ألفاظ وصور عدة، لكن هذا من الأصول التي تجمع التوسل الجائز بالنبي صلى الله عليه وسلم توسل بدعائه وقد انتهى، والتوسل بما يتعلق بحقوقه واتباعه صلى الله عليه وسلم وهذا جائز، والمسلم يتوسل بقدر ما يعمل.

حكم السؤال بحق الرحم

حكم السؤال بحق الرحم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: فقد يقول الرجل لغيره: بحق الرحم، قيل: الرحم توجب على صاحبها حقاً لذي الرحم كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الرحم شجنة من الرحمن، من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله). وقال: (لما خلق الله الرحم تعلقت بحقوي الرحمن وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قد رضيت). وقال صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته). وقد روي عن علي أنه كان إذا سأله ابن أخيه بحق جعفر أبيه أعطاه لحق جعفر على علي. وحق ذي الرحم باق بعد موته كما في الحديث أن رجلاً قال: (يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم! الدعاء لهما والاستغفار لهما، وإنفاذ وعدهما من بعدهما، وصلة رحمك التي لا رحم لك إلا من قبلهما). وفي الحديث الآخر حديث ابن عمر رضي الله عنهما: من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي. فصلة أقارب الميت وأصدقائه بعد موته هو من تمام بره]. يقصد الشيخ بهذا أن هناك عبارة يستعملها كثير من الناس قديماً وحديثاً، وتشتبه بالتوسل البدعي في ظاهر لفظها، وهي كأن يقول إنسان لأحد أقاربه: أسألك بحق الرحم أن تعطيني، أو أن تزورني، أو بحق الرحم أن تفعل كذا وكذا فهذا أولاً ليس بقسم ولا استشفاع إنما هو سؤال بحق مشروع، وهو حق القرابة التي فرضها الله عز وجل بين ذوي الرحم من وجوب الصلة والعناية فيما بينهم، فإن الله عز وجل شرع للأقارب حقوقاً، والأقربون أولى بالمعروف، فمن هنا يسأل بهذا الحق ما كان من مصالح العباد فيما بينهم، ولا يسأل به شيء من أمور الآخرة ولا من الثواب وغيره، وليس هو من باب القسم، بل هو حق شرعه الله، فلذلك أجازه كثير من أهل العلم؛ لأن المقصود به العمل بما شرعه الله من الحقوق بين ذوي الأرحام، فمن هنا هذه العبارة في الغالب أنها جائزة وليست من باب التوسل البدعي ولا من باب القسم بغير الله.

الفرق بين السؤال بالمخلوق والإقسام على الله به

الفرق بين السؤال بالمخلوق والإقسام على الله به قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والذي قاله أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق، لا بحق الأنبياء ولا غير ذلك يتضمن شيئين كما تقدم]. استطرد الشيخ في هذه المسألة، قوله: أن أبا حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء قالوا: من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق، تكلم عنه الشيخ قبل قليل من وجه، وهو ما قصده في بداية الدرس في قوله: فيقال للمنازع وقصده أن هؤلاء العلماء منعوا هذه العبارة بإطلاق، مع أنها تحتمل معنى صحيحاً، هذا وجه من التفصيل في هذه العبارة، والوجه الثاني أيضاً ما سيذكره الآن من أن هذه الكلمة تتضمن شيئين: قال رحمه الله تعالى: [أحدهما: الإقسام على الله سبحانه وتعالى به، وهذا منهي عنه عند جماهير العلماء كما تقدم]. لأنه حلف بغير الله على القول بأنه يمين، ومن ناحية أخرى أنه من باب التألي على الله عز وجل، وهذا لا يجوز. قال رحمه الله تعالى: [كما يُنهى أن يقسم على الله بالكعبة والمشاعر باتفاق العلماء. والثاني: السؤال به، فهذا يجوّزه طائفة من الناس]. أي: السؤال به على التفصيل السابق، فإن كان المقصود به بعمله أو بذاته فإن هذا لا يجوز، وإن كان السؤال بحبه له وهو ممن يُحب في الله عز وجل بأمر مشروع، كالسؤال بحب النبي صلى الله عليه وسلم والسؤال بطاعته ونحو ذلك، فهذا جائز، ولذلك سيذكر الشيخ هذه الصورة استطراداً في تفصيل المسألة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذا يجوزه طائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف، وهو موجود في دعاء كثير من الناس، لكن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله ضعيف بل موضوع، وليس عنه حديث ثابت قد يُظن أن لهم فيه حجة، إلا حديث الأعمى الذي علمه أن يقول: أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة. وحديث الأعمى لا حُجة لهم فيه، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (اللهم شفعه في)، ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك مما يُعد من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ولو توسل غيره من العُميان الذين لم يدع لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله. ودعا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار وقوله: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، يدل على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته، إذ لو كان هذا مشروعاً لم يعدل عمر رضي الله عنه والمهاجرون والأنصار رضي الله عنهم عن السؤال بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى السؤال بـ العباس رضي الله عنه]. هذه الحجة ظاهرة، وهي من أقوى الحجج على أهل البدع، فإن القصة قصة استشفاع الصحابة وتوسلهم بـ العباس دليل ظاهر في منطوقه ومفهومه وفي فحواه على أنه لا يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، أي التوسل بذاته أو دعائه؛ لأنه لو كان التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم والاستشفاع به بعد وفاته جائزاً فلا يمكن للصحابة رضي الله عنهم أن يعدلوا عن الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاستشفاع بغيره كائناً من كان وهو بين ظهرانيهم، ما كان هذا الاستشفاع في مكة حتى نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم بعيد عنهم في المدينة، هذه القصة حصلت في المدينة والرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الصحابة أي في قبره، ومع ذلك نظراً لأنه لا يجوز التوسل به بعد وفاته؛ لأنه لا يمكن أن يتمكن من الدعاء فإن الصحابة رضي الله عنهم استشفعوا بـ العباس. ثم ألفاظ عمر أيضاً: اللهم إنا كنا نستشفع بنبيك، ثم عدل بعد ذلك إلى الاستشفاع بعم نبيه صلى الله عليه وسلم، هذا دليل قاطع على أنه لا تجوز الصورة الأولى التي كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وشاع النزاع في السؤال بالأنبياء والصالحين دون الإقسام بهم؛ لأن بين السؤال والإقسام فرقاً، فإن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة، والمقسم أعلى من هذا، فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم، والمقسم لا يقسم إلا على من يرى أنه يبر قسمه، فإبرار القسم خاص ببعض العباد]. قوله: (خاص ببعض العباد) أي: الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من العباد من لو أقسم على الله لأبره) وهذا قليل، فالقسم على الله الأصل فيه عدم الجواز، لكنه قد يحدث من بعض الناس إما لجهلهم بالحكم أو عند ضرورة يتجاوزون بها هذا الحد من باب التأوّل أو الترخّص، أو نحو ذلك مما حدث من بعض الصحابة وغيرهم.

الأسئلة

الأسئلة

المراد بتعلق الرحم بحقوي الرحمن

المراد بتعلق الرحم بحقوي الرحمن Q ما المراد بحديث الرحم وأنها تعلقت بحقوي الرحمن؟ A المقصود بحديث الرحم الاهتمام بالرحم وهي القرابة، فللقرابة حق، وأما قوله: (وأنها تعلقت بحقوي الرحمن) فهذا من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، من الأمور التي عبّر السلف عنها بقولهم: (تمر كما جاءت)، لكن لا شك أننا نفهم من هذا التعبير تعلقها بحقوي الرحمن، وهذا يثبت لله عز وجل كما يليق بجلاله؛ لأن هذا الخبر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أخبر به عن ربه، فلا يجوز لنا أن نتأوّل أو نتردد في إثبات ما ثبت، ومع ذلك لا يكون هذا من الصفات، فهذا كالملل وكالاستهزاء، فلا يقر ولا يُثبت إلا بسياقه أو بما يدل على السياق، بحيث لا يكون صفة مستقلة.

بيتان لابن تيمية في الحق على الله تعالى

بيتان لابن تيمية في الحق على الله تعالى Q لشيخ الإسلام ابن تيمية بيتان في قضية الحق على الله عز وجل: يقول: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عُذّبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع A هذا حق.

كيفية التعامل مع زملاء العمل من الرافضة

كيفية التعامل مع زملاء العمل من الرافضة Q عندنا في العمل رافضة وهم ينشرون عقيدتهم بين الزملاء، فكيف نتعامل معهم، هل نهجرهم أو نقاطعهم؟ A إذا كانوا ينشرون عقيدتهم فلا بد من اتخاذ إجراءات نحوهم، بإبلاغ الجهات المسئولة والمشايخ بأسمائهم، ولا يجوز السكوت عنهم، أما إذا كانوا كعادتهم يستعملون التقية ويجاملون فيُعاملون معاملة عادية كمعاملة المنافقين. في الحالة الأولى إذا كانوا يدعون إلى بدعتهم لا بد من هجرهم والحزم معهم ولا أقصد بالدعوة مجرد المحاورة، فبعضهم قد يحاور وإذا حاور فينبغي أن تقام عليه الحجة ويستعد له أمثل من حوله من المعلمين أو الموظفين يستعد للمحاورة ويراجع الكتب، ويراجع طلاب العلم أو يحيله إلى طالب علم، فيجادل بالتي هي أحسن، أما إذا كان يدعو إلى بدعته دعوة طلب الاستجابة لهذه البدعة، بمعنى أنه ينشر عقيدته الفاسدة فينبغي هجره وتعنيفه، وينبغي الوقوف ضد هذه البدعة وهذا العمل بحزم.

حكم التوسل بالعلماء في حياتهم

حكم التوسل بالعلماء في حياتهم Q هل يجوز التوسل بالعلماء في حياتهم؟ وذكر السائل بعض المشايخ الأحياء! A هذا الأمر لا بد أن يرجع فيه إلى القواعد السابقة التي ذكرها الشيخ أكثر من مرة، وهو إن قصد بالتوسل طلب الدعاء منهم فلا حرج، إذا سلّمت على الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله والشيخ ابن جبرين حفظه الله فلا مانع من أن تقول: ادع الله لي يا شيخ، فليس في هذا حرج وهذا من التوسع الجائز، وأما توسل التبرك أو قصد اتخاذ ذواتهم وسيلة عند الله عز وجل، وأن يتخذهم شفعاء بدون أن يطلب الدعاء منهم، فهذا لا يجوز، وهو الصورة الممنوعة، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

[19]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [19] لقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلالهم وتوقيرهم ومحبتهم له ومتابعتهم وامتثالهم له في كل ما يأمر وينهى، ومع هذا كله لم يكن أحد منهم يتوسل به كما يتوسل المبتدعة، بل سدوا جميع الطرق والأسباب التي توصل إلى ذلك، ولا يزال المبتدعة يتمسكون ببعض الحكايات الموضوعة أو آحاد الفتاوى عن بعض العلماء، ليبرروا بدعتهم، كما استدلوا بأثر مالك وهو لا يصح سنداً ولا متناً، ولكن البدعة تلجئ صاحبها لاقتحام جميع المنافذ.

الكلام على ما نقل عن مالك في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

الكلام على ما نقل عن مالك في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وأما إجابة السائلين فعام، فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم وإن كان كافراً. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من داع يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها، قالوا: يا رسول الله! إذن نكثر، قال: الله أكثر). وهذا التوسل بالأنبياء بمعنى السؤال بهم، وهو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم: إنه لا يجوز، ليس في المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك، فضلاً أن يُجعل هذا من مسائل السبب، فمن نقل عن مذهب مالك أنه جوّز التوسل به بمعنى الإقسام به أو السؤال به، فليس معه في ذلك نقل عن مالك وأصحابه فضلاً عن أن يقول مالك: إن هذا سبب للرسول أو تنقص به. بل المعروف عن مالك أنه كره للداعي أن يقول: يا سيدي سيدي، وقال: قل كما قالت الأنبياء: يا رب يا رب يا كريم، وكره أيضاً أن يقول: يا حنّان يا منّان، فإنه ليس بمأثور عنه. فإذا كان مالك يكره مثل هذا الدعاء إذ لم يكن مشروعاً عنده، فكيف يجوز عنده أن يسأل الله بمخلوق نبياً كان أو غيره، وهو يعلم أن الصحابة لما أجدبوا عام الرمادة لم يسألوا الله بمخلوق، لا نبي ولا غيره، بل قال عمر رضي الله عنه: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيُسقون. وكذلك ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر وأنس وغيرهما رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا أجدبوا إنما يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم واستسقائه، لم يُنقل عن أحد منهم أنه كان في حياته صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى بمخلوق، لا به ولا بغيره، لا في الاستسقاء ولا غيره، وحديث الأعمى سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى. فلو كان السؤال به معروفاً عند الصحابة لقالوا لـ عمر: إن السؤال والتوسل به أولى من السؤال والتوسل بـ العباس، فلِم نعدل عن الأمر المشروع الذي كنا نفعله في حياته -وهو التوسل بأفضل الخلق- إلى أن نتوسل ببعض أقاربه، وفي ذلك ترك السنة المشروعة وعدول عن الأفضل، وسؤال الله تعالى بأضعف السببين مع القدرة على أعلاهما، ونحن مضطرون غاية الاضطرار في عام الرمادة الذي يُضرب به المثل في الجدب. والذي فعله عمر فعل مثله معاوية بحضرة من معه من الصحابة والتابعين، فتوسلوا بـ يزيد بن الأسود الجرشي كما توسل عمر بـ العباس رضي الله عنهما. وكذلك ذكر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم أنه يتوسل في الاستسقاء بدعاء أهل الخير والصلاح، قالوا: وإن كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أفضل، اقتداء بـ عمر رضي الله عنه، ولم يقل أحد من أهل العلم: إنه يُسأل الله تعالى في ذلك لا بنبي ولا بغير نبي. وكذلك من نقل عن مالك أنه جوّز سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره بعد موتهم أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين غير مالك كـ الشافعي وأحمد وغيرهما فقد كذب عليهم، ولكن بعض الجهال ينقل هذا عن مالك ويستند إلى حكاية مكذوبة عن مالك رحمه الله، ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذي فيها هو هذا، بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، ولكن من الناس من يحرف نقلها، وأصلها ضعيف كما سنبينه إن شاء الله تعالى. والقاضي عياض لم يذكرها في كتابه في باب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، بل ذكر هناك ما هو المعروف عن مالك وأصحابه، وإنما ذكرها في سياق أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان حال حياته، وكذلك عند ذكره وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه. وذُكر عن مالك أنه سئل عن أيوب السختياني؟ فقال: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه، قال: وحج حجتين فكنت أرمقه فلا أسمع منه غير أنه كان إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه]. في هذا الشاهد والشواهد التالية عن السلف ذكر الشيخ نماذج من تعظيم السلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يصل إلى حد أنهم يتأثرون عند ذكره وعند سماع اسمه، وعند ذكر حديثه أو عند الرواية عنه، فهو يشير بهذا بطريق مباشر إلا أن هؤلاء السلف رضي الله عنهم من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى الذين كانوا يعظّمون الرسول صلى الله عليه وسلم حق تعظيم، ويجلّونه حق الإجلال، ويحبونه ويتأثرون بذكره أو

تعظيم السلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم

تعظيم السلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء، لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه. ولقد كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفرّ لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة. ولقد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما صامتاً، وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعُبّاد الذين يخشون الله. ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيُنظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم وقد جف لسانه في فمه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع. ولقد رأيت الزهري وكان لمن أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته. ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه].

تفنيد ما يروى عن مالك في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

تفنيد ما يروى عن مالك في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الآن سيورد القصة المكذوبة التي أشار إليها الشيخ قبل قليل عن مالك، ويذكر أنها باطلة ولا أصل لها. قال رحمه الله تعالى: [فهذا كله نقله القاضي عياض من كتب أصحاب مالك المعروفة. ثم ذكر حكاية بإسناد غريب منقطع رواها عن غير واحد إجازة، قالوا: حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهات قال: حدثنا أبو الحسن علي بن فهر قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرح، قال: حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله أدّب قوماً فقال: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] الآية، ومدح قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات:3] الآية، وذم قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات:4] الآية، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو؟ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولِم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64]. قلت: وهذه الحكاية منقطعة؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يُدرك مالكاً لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور، فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة (158هـ)، وتوفي مالك سنة 179هـ، وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة 248هـ ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه، وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث، كذّبه أبو زرعة وابن واره. وقال صالح بن محمد الأسدي: ما رأيت أحدا أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه. وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات. وآخر من روى الموطأ عن مالك هو أبو مصعب وتوفي سنة 242هـ وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد ابن إسماعيل السهمي توفي سنة 259هـ. وفي الإسناد أيضاً من لا تُعرف حاله. وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه، ومحمد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند، فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته؟ هذا إن ثبتت عنه، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه، بل إذا روى عنه الشاميون كـ الوليد بن مسلم ومروان بن محمد الطاطري ضعفوا رواية هؤلاء، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين، فكيف بحكاية تناقض مذهبه المعروف عنه من وجوه رواها واحد من الخراسانيين لم يدركه وهو ضعيف عند أهل الحديث؟ مع أن قوله: (وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة)، إنما يدل على توسل آدم وذريته به يوم القيامة، وهذا هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، وهذا حق. كما جاءت به الأحاديث الصحيحة حين يأتي الناس يوم القيامة آدم ليشفع لهم، فيردهم آدم إلى نوح، ثم يردهم نوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى، ويردهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر)].

الأسئلة

الأسئلة

كسب النبي صلى الله عليه وسلم

كسب النبي صلى الله عليه وسلم Q ما هو عمل النبي صلى الله عليه وسلم الدنيوي الذي كان يكسب منه وينفق منه؟ A النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك أموالاً خاصة به، لكن كانت ترد إليه أموال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عزف عن الدنيا لكنه لم يمنعها، تأتي الدنيا والأرزاق والأموال إلى النبي صلى الله عليه وسلم من عدة طرق منها طريق الجهاد، ومنها ما يرد إلى حاكم المسلمين وهو النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين مما يتعلق بالفيء وما يتعلق بمصارف الزكاة، وترد حقوق عامة إلى بيت مال المسلمين. النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب لنفسه شيئاً فقد كفاه الله عز وجل رزق الكفاف، لكنه ما كان يدعو إلى ترك الدنيا، وكان إذا قبض شيئاً يأكل ما يكفيه ويتصدق بما يزيد. أما ما يتعلق بمصارف الأمة فهو يصرفها على الطرق الشرعية المعروفة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يملك أموالاً بالهدايا والحقوق التي تخصه مما أباحه الله له من الغنائم والفيء وغيرها، لكنه ما كان يبقى معه في يده إلا ما يكفيه، وأحياناً تمر عليه الأيام وهو طاو ليس في بيته ما يؤكل إلا الأسودان: التمر والماء، بل ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم يجلس ثلاثة أيام، بل أحياناً أربعة ما أكل شيئاً؛ لأنه كان ينفق، ولا يعني ذلك أنه كان يمنع أن تصله الدنيا بل تصله لكنها تخرج منه إلى مستحقيها من المسلمين الذين يسألونه أو يرى أنهم يحتاجون.

كيفية التوسل بدعاء الرجل الصالح

كيفية التوسل بدعاء الرجل الصالح Q كيف يكون التوسل بدعاء الرجل الصالح، هل يدعو ويؤمَّن على دعائه أم يدعو لوحده في مثل الاستسقاء؟ A الصورتان وغيرهما جائزة بشرط ألا تكون من باب التوسل بذاته. إذاً: التوسل بدعاء الرجل الصالح إما أن يدعو وهو غائب، كأن تقول له: إذا وصلت مكة فادع الله لي، أو يدعو وأنت حاضر دعوة خاصة لك فتؤمّن على دعائه، أو يدعو في مناسبة أو زمان أو مكان معيّن، فسواء أمّنت على دعائه وطلبت الله عز وجل أن يستجيب دعاءه أو لم تطلب، أو يكون في صورة الاستغاثة والاستسقاء أن يدعو ويؤمّن المصلون على دعائه، أو يدعو وحده ولو لم يؤمنوا، بأن يُحضر الرجل الصالح إلى مكان الاستسقاء من أجل أن يدعو سواء أمّن الناس على دعائه أو لم يؤمنوا كل هذه صور صحيحة، بشرط أن يكون حياً قادراً ويدعو هو بنفسه. وقد كان من الناس من يتقصد الصالحين ويخرجهم إلى الصحراء، ويطلب منهم الدعاء، بل حدثت صور صحيحة من بعض الناس، فكان يذهب ببعض الصبيان والأبرياء من الذنوب إلى مكان في الصحراء فيجمعهم ويطعمهم ويفرحهم ثم يطلب دعاءهم، وأُغيث الناس بهذه الطريقة. وحدثت صور كثيرة في نجد، وهي معروفة لا يزال أكثر الناس يتحدثون عنها، وأهل العلم يرضونها، حيث يجمع الرجل الصالح أو المرأة الصالحة الصبيان ويهدون لهم هدايا ويعدونهم بوعد طيب من أجل أن تنفتح هممهم وصدورهم للدعاء، فيدعون الله عز وجل بأن يسقيهم، وليس عليهم ذنوب، ويدعون ببراءة. فأقول: هذه صور تتعدد، وهي أن يُطلب الدعاء ممن يتوسم فيهم الصلاح أو ممن يتوسم أن الله يجيبهم، فيدعون بصورة جماعية أو فردية، بالاستسقاء أو بغير الاستسقاء كل هذه صور صحيحة، لكن لا تكون مما يُكثر بحيث يعتمد الناس عليه كما تفعل بعض الفرق الآن، بحيث يلقنون أتباعهم طلب الدعاء من الآخرين في كل حال وفي كل مكان وفي كل مناسبة، حتى يكاد أحدهم أن يتّكل على طلب الدعاء من الآخرين، وينسى أن يدعو الله عز وجل فهذه تزيد عن الحد المشروع، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

[20]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [20] لقد تنوعت أقوال الأئمة وتعددت في التحذير من الأعمال والأقوال البدعية التي لا أصل لها في الكتاب ولا السنة، ولكن أرباب البدع وأصحاب الأهواء أتوا للآراء الشاذة والأقوال الضعيفة فجعلوها أصولاً وحاكموا الآخرين إليها، ما دام أن فيها مستمسكاً لما يوافق ما هم عليه من البدعة وغيرها، ومن ذلك التوسل البدعي، والأعمال المخالفة للسنة التي يعملها المبتدعة عند القبر النبوي، وكل ذلك قد حذر منه السلف ونهوا عنه إلا ما كان موافقاً للهدي والسنة.

التناقض بين مذهب مالك والرواية المنسوبة له في استقبال القبر

التناقض بين مذهب مالك والرواية المنسوبة له في استقبال القبر ذكر الشيخ فيما مضى قصة نسبت إلى مالك، وذكر فيها شيئاً من التوسل البدعي الذي لا يمكن أن يكون من مالك رضي الله عنه حينما قال أبو جعفر كما يزعمون: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فزعموا أن مالكاً قال: ولِم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام يوم القيامة! بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله ثم تلا الآية هذه القصة مكذوبة، والشيخ في صدد تفنيدها ونفيها عن مالك وإثبات أنه ورد عن مالك وصح عنه ما يناقضها. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ولكنها مناقضة لمذهب مالك المعروف من وجوه: أحدها: قوله: (أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدعو؟ فقال: ولِم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم)؛ فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة والتابعين أن الداعي إذا سلّم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو في مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه، بل إنما يستقبل القبر عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء له. هذا قول أكثر العلماء كـ مالك في إحدى الروايتين والشافعي وأحمد وغيرهم. وعند أصحاب أبي حنيفة، لا يستقبل القبر وقت السلام عليه أيضاً. ثم منهم من قال: يجعل الحجرة عن يساره، وقد رواه ابن وهب عن مالك ويسلّم عليه].

مبالغة الأئمة في سد ذريعة التوسل البدعي

مبالغة الأئمة في سد ذريعة التوسل البدعي قال رحمه الله تعالى: [ومنهم من قال: بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه]. وانظر كيف بالغ بعض أئمة المذاهب رحمهم الله، وأظنه يقصد الأحناف الأولين، أما المتأخرون فقد وقعوا في أشد من هذه البدع، مع أن هذا لا يزال يوجد في كتبهم. قال: منهم من قال: بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه، يعني: يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه في هذه الحال يكون مستقبل القبلة، ويكون القبر خلفه، وهذه مبالغة في سد الذريعة، مع أن عموم السلف يرون أن الإنسان يسلم على الحالة التي هو عليها، أي أنه إذا مر بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم سلّم بدون أن يتعمد أن يكون القبر هنا أو هناك، إلا أن الأولى ألا يكون القبر أمامه والقبلة أمامه حين السلام؛ لأن هذا يشتبه بمن يتوجه للقبر، أما ما عدا ذلك فيسلم على هيئة يكون فيها ماشياً فلا يقف طويلاً أو يستوقف للدعاء، لأن هذا ليس موطناً للدعاء لأن فيه ذريعة لأهل البدع بأن يدعوا غير الله عز وجل أو يتوسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فالإنسان يسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه وهو ماش. فالذي يهمنا هنا أن بعض هؤلاء الأئمة قال: المشروع أن يستدبر الحجرة ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويكون مستقبل القبلة، وهذه مبالغة منهم في سد الذريعة، وليتهم اطّلعوا على أحوال أتباعهم في هذه العصور ليروا ماذا حدث؟ قال رحمه الله تعالى: [ومنهم من قال: بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه، وهذا هو المشهور عندهم، ومع هذا فكره مالك أن يطيل القيام عند القبر. لذلك قال القاضي عياض في المبسوط عن مالك قال: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي]. لأن الدعاء مشروع في كل مكان، وخاصة في وقتنا هذا لا يشرع لمن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه أن يقف إلا وقفة بقدر السلام؛ لأنه أحياناً قد لا يتأتى لك السلام مع الزحام، بل تقف بقدر أداء السلام الشرعي ثم تمضي، وإذا سلّمت ولم تقف فهذا هو الأولى سداً للذريعة، لأن أهل البدع الآن صاروا يظنون كل من وقف أنه يدعو بتوسلاتهم البدعية، وأنه لم يقف مسلِّماً مقتصراً على المشروع.

كيفية تسليم السلف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته والرد على المبتدعة في ذلك

كيفية تسليم السلف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته والرد على المبتدعة في ذلك قال رحمه الله تعالى: [وقال نافع: كان ابن عمر يسلم على القبر، رأيته مائة مرة أو أكثر يجيء إلى القبر فيقول: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، السلام على أبي بكر، السلام على أبي، ثم ينصرف. ورئي واضعاً يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر ثم وضعها على وجهه. قال: وعن ابن أبي قسيط والقعنبي، كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجد جسوا برمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعون. قال: وفي الموطأ من رواية يحيى بن يحيى الليثي أنه -يعني ابن عمر - كان يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر. وعند ابن القاسم والقعنبي: ويدعو لـ أبي بكر وعمر. قال مالك في رواية ابن وهب: يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وقال في المبسوط: ويسلم على أبي بكر وعمر. قال أبو الوليد الباجي: وعندي أن يدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة، ولـ أبي بكر وعمر بلفظ السلام؛ لما في حديث ابن عمر من الخلاف. وهذا الدعاء يفسر الدعاء المذكور في رواية ابن وهب، قال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا، يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم ولا يمس القبر. فهذا هو السلام عليه والدعاء له بالصلاة عليه كما تقدم تفسيره، وكذلك كل دعاء ذكره أصحابه كما ذكر ابن حبيب في الواضحة وغيره، قال: وقال مالك في المبسوط: وليس يلزم من دخل المسجد وخرج من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء، وقال فيه أيضاً: ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر، أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه، ويدعو له ولـ أبي بكر وعمر. قيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر، فيسلّمون ويدعون ساعة، فقال مالك: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع، ولا يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويُكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده]. وفي هذا رد على كثير من أهل البدع الذين يزعمون أن السلف تركوا الناس على اجتهاداتهم، وأن في التوسل البدعي سعة، وأن هناك من يفعل هذه الأمور والسلف يسكتون عنه، وإن لم يفعلوا فإنهم لم ينكروا، ففي مثل هذا الكلام رد عليهم، فإن الإمام مالكاً رحمه الله نبّه على مثل هذه الظواهر التي فيها مبالغة أو فيها توسلات بدعية أو فيها فعل ما لم يُشرع، فإنه لم يسكت، وبيّن أن هذا لم يكن من عمل فقهاء البلد، ولذلك حذّر وقال: لا يصلح هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

التفريق بين أهل المدينة وغيرهم في إتيان القبر النبوي

التفريق بين أهل المدينة وغيرهم في إتيان القبر النبوي قال رحمه الله تعالى: [قال ابن القاسم: ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوا أتوا القبر فسلموا، قال: ولذلك رأي. قال أبو الوليد الباجي: ففرق بين أهل المدينة والغرباء؛ لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم]. هذه مسألة الخلاف فيها كبير، وهو أن بعض الناس قد يقصد بالسفر إلى المدينة زيارة القبر، أو السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه مسألة خلافية لكن الراجح فيها قول عامة أئمة السلف بأنه لا يجوز شد الرحال إلا من أجل المسجد لا من أجل القبر، هذا شيء. الشيء الآخر: أن كثيراً من الناس قد يعمل بالسنة، فيشد الرحال للمدينة من أجل المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فالمسلم إذا شُرع له أن يرحل إلى مسجد المدينة فلا أظنه يستطيع أن يخلي قلبه من أن يكون قصده إذا وصل إلى المسجد أن يذهب ويسلّم، هذه مقاصد يصعب نزعها، لكن يبقى أصل شد الرحل المشروع يكون إلى المسجد، ويكون في نية المسلم أنه إذا وصل المسجد يسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، ويسلّم على من يحق السلام لهم، ويذهب أيضاً إلى الزيارات المشروعة مثل زيارة قباء، وزيارة المقابر التي تشرع زيارتها فهذه المقاصد تتداخل، فربما يكون قصد أبي الوليد الباجي هذا، أو يكون قصده فعلاً الرأي المرجوح من أنه يجوز شد الرحال لغرض السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره، هذه مسألة خلافية في تفسير الحديث، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) بعض أهل العلم المعتبرين تأولها تأولاً يخالف ما عليه أئمة السلف.

بيان ما يقصد بإتيان القبر النبوي وسد ذرائع البدع

بيان ما يقصد بإتيان القبر النبوي وسد ذرائع البدع قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا قبري عيداً). قال: ومن كتاب أحمد بن شعبة فيمن وقف بالقبر: لا يلتصق به ولا يمسه ولا يقف عنده طويلاً. وفي العتبية -يعني: عن مالك - يبدأ بالركوع قبل السلام في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأحب مواضع التنفل فيه مصلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث العمود المخلق، وأما في الفريضة فالتقدم إلى الصفوف، قال: والتنفل فيه للغرباء أحب إلي من التنفل في البيوت. فهذا قول مالك وأصحابه، وما نقلوه عن الصحابة يبيّن أنهم لم يكونوا يقصدون القبر إلا للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء له، وقد كره مالك إطالة القيام لذلك، وكره أن يفعله أهل المدينة كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، وإنما يفعل ذلك الغرباء ومن قدم من سفر أو خرج له، فإنه تحية للنبي صلى الله عليه وسلم. فأما إذا قصد الرجل الدعاء لنفسه فإنما يدعو في مسجده مستقبل القبلة كما ذكروا ذلك عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك عند القبر، بل ولا أطال الوقوف عند القبر للدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بدعائه لنفسه؟ وأما دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب الحوائج منه وطلب شفاعته عند قبره أو بعد موته فهذا لم يفعله أحد من السلف، ومعلوم أنه لو كان قصد الدعاء عند القبر مشروعاً لفعله الصحابة والتابعون، وكذلك السؤال به، فكيف بدعائه وسؤاله بعد موته؟ فدل ذلك على أن ما في الحكاية المنقطعة من قوله: استقبله واستشفع به، كذب على مالك، مخالف لأقواله وأقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم التي يفعلها مالك وأصحابه ونقلها سائر العلماء، إذ كان أحد منهم لم يستقبل القبر للدعاء لنفسه فضلاً عن أن يستقبله ويستشفع به، يقول له: يا رسول الله اشفع لي أو ادع لي، أو يشتكي إليه مصائب الدين والدنيا، أو يطلب منه أو من غيره من الموتى من الأنبياء والصالحين أو من الملائكة الذين لا يراهم أن يشفعوا له، أو يشتكي إليهم المصائب، فإن هذا كله من فعل النصارى وغيرهم من المشركين ومن ضاهاهم من مبتدعة هذه الأمة، ليس هذا من فعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولا مما أمر به أحد من أئمة المسلمين، وإن كانوا يسلّمون عليه إذ كان يسمع السلام عليه من القريب ويُبلّغ سلام البعيد]. نقف عند هذا؛ لأنه ورد في هذا حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن الله يبلّغه سلام البعيد والقريب، وهذا سيأتي ذكره فيما بعد، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

الحكمة من تخصيص أهل المدينة بالتنفل في البيوت

الحكمة من تخصيص أهل المدينة بالتنفل في البيوت Q ما الحكمة من تخصيص أهل المدينة بأن تكون النافلة في البيوت؟ A لفضل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم قادمون من بعيد، فهم بحاجة إلى أن يستزيدوا من فضل المسجد لمزيد الحسنات فيه، فالمقيمون في المدينة يصلون الفرائض في المسجد دائماً فيُشرع لهم أن يفعلوا كما يفعل النبي صلى الله عليه وسلم بأن تكون النافلة في البيوت أحياناً، أما القادم فهو مقيم لوقت مؤقّت فالمشروع له أن يستزيد من الصلاة في المسجد، والغالب أن القادم ليس عنده بيت يتنفل فيه. هذا الظاهر والله أعلم. وأيضاً هذا ينطبق على القادم إلى مكة، فإقامته في مكة محدودة، فيُشرع له أن يستزيد من النوافل ويقضيها في المسجد الحرام.

حكم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم على كل من يدخل المسجد

حكم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم على كل من يدخل المسجد Q هل يسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم كل من دخل المسجد؟ A الأولى أن الآفاقي أول ما يدخل المسجد يسلّم على الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن إذا تكرر دخوله لا يلزم ذلك؛ لأنه لم يرد عن السلف تكرار السلام بشكل غير طبيعي، أو بشكل يتكرر في اليوم، فأما من كان ساكناً في المدينة فأظنه لا يُشرع له الاستمرار أو كثرة التردد إلا إذا شعر أنه قد طال به العهد، كما يذهب يسلّم على المقابر وأهلها، فالأولى أن يسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم في قبره وعلى صاحبيه إذا طال العهد به، وكما هو معروف أن المشروع إذا دخل المسجد أن يبدأ بتحية المسجد، هذا الذي أتى من خارج المدينة، ثم يذهب ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.

عقيدة العز بن عبد السلام

عقيدة العز بن عبد السلام Q ذكرت أن العز بن عبد السلام عنده بعض الخلل في العقيدة؟ A نعم صحيح العز بن عبد السلام رحمه الله من أئمة الإسلام وأئمة الهدى وله مواقف محمودة في نشر السنة ورد البدع، لكنه في جانب العقيدة تابع الأشاعرة في بعض الأمور وخالف أهل السنة، وهناك ردود عليه معروفة في وقته وبعد وقته، لكن لعلها تكون من زلّات العلماء، فهو مما يظهر أنه لا يقصد البدعة، لكن مع ذلك عنده أمور واضحة مثل تقسيمه البدعة، التقسيم الذي صار يتكئ عليه الآن أهل البدع؛ أنه يرى أن هناك بدعة حسنة وغير حسنة، وأن البدعة تجري عليها الأحكام الخمسة، فهذا لا شك أنه خلاف منهج أهل السنة والجماعة، بل يعد خللاً في منهج أهل السنة في هذا الجانب، وهو خلل كبير شرعاً، قسّم الأمة بعد ذلك. كذلك موقفه من الصفات -يغفر الله لنا وله- فهو ممن يتأول وصاحب التأوّل يجب ألا نبدّعه أو نخرجه من السنة في الجملة، لكن فيما خالف فيه أهل السنة نبيّن ذلك.

حكم من استقبل القبر النبوي للسلام ثم تحول إلى القبلة للدعاء

حكم من استقبل القبر النبوي للسلام ثم تحول إلى القبلة للدعاء Q ما رأيك فيمن استقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ودعا للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل القبلة مباشرة ودعا لنفسه وطلب من الله أن يبلّغه شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم؟ A هذا الأصل فيه أنه مما ليس فيه مانع شرعاً لكنه ذريعة، فمنعه من باب سد الذريعة، كون المسلم يأتي ويستقبل القبر مسلماً على النبي صلى الله عليه وسلم وداعياً له بالمشروع، ويسلّم على أبي بكر وعمر ويدعو لهما بالمشروع، فهذا لا حرج فيه. ثم لا حرج بعد ذلك أن يتحول إلى القبلة فيدعو ربه، والأصل في هذا العمل أنه مشروع، لكن تبقى الشبهة في أنه يشتبه بعمل أهل البدع وذريعة لهم؛ لأنهم لا يدرون ماذا تقول، فالصورة تشبه فعل أهل البدع، فالأولى لمن يفعل ذلك أن يبتعد قليلاً عن القبر وليكن في الروضة مثلاً في موقع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويتجه إلى القبلة فيدعو ربه، أما أن يكون السلام ثم الدعاء في مقام واحد ففيه اشتباه، وفيه ذريعة، فالأولى اجتنابه، لكن من فعله لا نستطيع أن نقول: إنه ابتدع، فأصل العمل مشروع، وقد لا يتنبه أكثر الناس لما يترتب عليه من مفاسد، فالناس إن شاء الله بمقاصدهم ونياتهم، والله أعلم.

[21]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [21] يشرع شد الرحال والسفر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، ولا يمنع هذا من أن يكون في نية المسلم أنه إذا وصل إلى المسجد أن يزور قبر النبي ويسلم عليه، كما تزار سائر المقابر، وإنما الممنوع أن ينشئ المسلم سفراً مخصوصاً لزيارة القبر، أما أن تكون زيارة القبر مصاحبة لزيارة المسجد فلا بأس، بل قد تكون عدم زيارته في هذه الحال من الجفاء المذموم.

أحكام زيارة القبر النبوي

أحكام زيارة القبر النبوي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد احتج أحمد وغيره بالحديث الذي رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد من حديث حيوة بن شريح المصري حدثنا أبو صخر عن يزيد بن قسيط عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام). وعلى هذا الحديث اعتمد الأئمة في السلام عليه عند قبره صلوات الله وسلامه عليه، فإن أحاديث زيارة قبره كلها ضعيفة لا يعتمد على شيء منها في الدين، ولهذا لم يرو أهل الصحاح والسنن شيئاً منها، وإنما يرويها من يروي الضعاف كـ الدارقطني والبزار وغيرهما]. إذاً: العمدة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم مبنية على أصلين: الأصل الأول: كون قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه كسائر القبور في مشروعية الزيارة للرجال لهما بالطريقة المشروعة وعلى السنة، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم له مزيد حق ولاشك، وصاحباه كذلك؛ لكن أصل مشروعية الزيارة شرعاً مبنية على أنها كسائر القبور في مشروعية الزيارة. والأمر الثاني: هذا الحديث اعتمد عليه كثير من الأئمة وإن كان فيه ضعف، أو هذه الأحاديث التي تتشابه صياغاتها فهي وإن كان فيها ضعف لكن عمل بها الأئمة على مقتضى الأصل الأول، وهو جواز ومشروعية زيارة القبور.

الكلام على الأحاديث الواردة في زيارة القبر النبوي

الكلام على الأحاديث الواردة في زيارة القبر النبوي قال رحمه الله تعالى: [وأجود حديث فيها ما رواه عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف، والكذب ظاهر عليه. مثل قوله: (من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي)، فإن هذا كذبه ظاهر مخالف لدين المسلمين، فإن من زاره في حياته، وكان مؤمناً به كان من أصحابه، لاسيما إن كان من المهاجرين إليه، المجاهدين معه. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) أخرجاه في الصحيحين. والواحد من بعد الصحابة لا يكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة؛ كالحج والجهاد والصلوات الخمس والصلاة عليه، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين، بل ولا شرع السفر إليه بل هو منهي عنه].

استحباب السفر إلى المسجد النبوي

استحباب السفر إلى المسجد النبوي [وأما السفر إلى مسجده للصلاة فيه، والسفر إلى المسجد الأقصى للصلاة فيه فهو مستحب]. السفر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مستحب من عدة وجوه: أولاً: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، هذا فيه إشارة إلى أن المسجد استحق أن تشد إليه الرحل وهذا يفهم الندب والاستحباب. ثانياً: أن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم تعدل ألف صلاة فيما سواه، فهذا فضل يشرع القصد إليه إذا جمعناه مع حديث (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، فإذا أخذنا بهذا النص وأخذنا بالأصل بأن المسلم بإرشاده إلى الخيرات يسابق العمل الصالحات وإلى مضاعفة الأجر والحسنات وهذا الفضل مذكور ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإذاً: يشرع شد الرحال والسفر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، ولا يمنع هذا من أن يكون في نية المسلم أنه إذا وصل إلى المسجد سيزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم للسلام عليه كما تزار المقابر ويسلم عليه سلام الشرع، وإنما الممنوع أن يكون إنشاء السفر أصلاً من أجل زيارة القبر، فالظاهر أنه من البدع، أما أن ينشئ السفر من أجل الصلاة في المسجد، ثم يكون في نيته ويحتسب ذلك عند الله عز وجل أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فهذا أمر فضل من الله عز وجل. ولذلك كثير من الناس يقع في حرج؛ لأنه يعجز عن فك الهدفين في قلبه يقول: إني أعجز عن أن أدفع حب النبي صلى الله عليه وسلم بأن إذا وصلت إلى المسجد أذهب إلى قبره وأزوره، نقول: نعم لا حرج في أن يكون من مقاصدك بعدما تصل أن تسلم، وهذا أمر مشروع، بل من الجفاء أن يأتي المدينة وهو من غير أهلها فلا يسلم ولا يزور قبور الصحابة، فإن هناك -فيما يبدو لي- بعض الناس الذين كثر عندهم طرق موضوع ما يفعله أهل البدع حول البقيع وحول قبور الشهداء وحول قبر النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، يستشعر أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لمن يأتي من خارج المدينة وزيارة المقابر غير مشروعة، فأقول: بالعكس فهذا مشروع، والذي لا يشرع هو أن يكون قصد السفر زيارة القبور.

حكم من نذر السفر إلى المسجد النبوي ومن نذر زيارة القبر

حكم من نذر السفر إلى المسجد النبوي ومن نذر زيارة القبر قال رحمه الله تعالى: [وأما السفر للحج فواجب، وأما السفر إلى مسجده للصلاة فيه، والسفر إلى المسجد الأقصى للصلاة فيه فهو مستحب، والسفر إلى الكعبة للحج فواجب، فلو سافر أحد السفر الواجب والمستحب لم يكن مثل واحد من الصحابة الذين سافروا إليه في حياته، فكيف بالسفر المنهي عنه؟ وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره، بل ينهى عن ذلك، ولو نذر السفر إلى مسجده والمسجد الأقصى للصلاة ففيه قولان للشافعي أظهرهما عنه: يجب ذلك، وهو مذهب مالك وأحمد. والثاني: لا يجب، وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأن من أصله أنه لا يجب من النذر إلا ما كان واجباً بالشرع، وإتيان هذين المسجدين ليس واجباً بالشرع فلا يجب بالنذر عنده. وأما الأكثرون فيقولون: هو طاعة لله، وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، وأما السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين فلا يجب بالنذر عند أحد منهم لأنه ليس بطاعة، فكيف يكون من فعل هذا كواحد من أصحابه؟ وهذا مالك كره أن يقول الرجل: زرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعظمه، وقد قيل: إن ذلك لكراهية زيارة القبور. وقيل: لأن الزائر أفضل من المزور، وكلاهما ضعيف عند أصحاب مالك]. بعض أهل العلم يرى أنه لا تجوز أو لا تشرع زيارة القبور إلا إذا جاءت من غير قصد، كما إذا ذهب الإنسان لدفن ميت مثلاً أو مر عابراً فإنه يسلم على أهل المقابر، والمسألة فيها نزاع بين أهل العلم وإن كان الصحيح أنه يشرع زيارة القبور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)، فهنا قول مالك يتوافق مع قول طائفة من أهل العلم الذين يرون كراهة القصد لزيارة القبور، أي أن هذا الرأي وإن كان مرجوحاً إلا أنه يحمل عليه قول مالك، وسيأتي عن الشيخ ما هو الصحيح عن مالك. قال رحمه الله تعالى: [والصحيح أن ذلك؛ لأن لفظ زيارة القبر مجمل يدخل فيها الزيارة البدعية التي هي من جنس الشرك، فإن زيارة قبور الأنبياء وسائر المؤمنين على وجهين كما تقدم ذكره]. إذاً: الإمام مالك كره أن يقول: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الزيارة تشتبه بالزيارة البدعية؛ لأن الزيارات البدعية يبدو أنها ظهرت في عهد مالك، ولذلك كثر إنكاره على هذه الأمور.

أنواع زيارة قبور الأنبياء والصالحين

أنواع زيارة قبور الأنبياء والصالحين قال رحمه الله تعالى: [فإن زيارة قبور الأنبياء وسائر المؤمنين على وجهين كما تقدم ذكره: زيارة شرعية، وزيارة بدعية. فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام عليهم، والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات فيصلى عليه صلاة الجنازة، فهذه الزيارة الشرعية. والثاني: أن يزورها كزيارة المشركين وأهل البدع لدعاء الموتى وطلب الحاجات منهم، أو لاعتقاده أن الدعاء عند قبر أحدهم أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت، أو أن الإقسام بهم على الله وسؤاله سبحانه بهم أمر مشروع يقتضي إجابة الدعاء، فمثل هذه الزيارة بدعة منهي عنها. فإذا كان لفظ الزيارة مجملاً يحتمل حقاً وباطلاً عدل عنه إلى لفظ لا لبس فيه، كلفظ السلام عليه، ولم يكن لأحد أن يحتج على مالك بما روي في زيارة قبره أو زيارته بعد موته، فإن هذه كلها أحاديث ضعيفة بل موضوعة، لا يحتج بشيء منها في أحكام الشريعة. والثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، هذا هو الثابت في الصحيح. ولكن بعضهم رواه بالمعنى فقال: (قبري). وهو صلى الله عليه وسلم حين قال هذا القول لم يكن قد قبر بعد صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا لم يحتج بهذا أحد من الصحابة لما تنازعوا في موضع دفنه، ولو كان هذا عندهم لكان نصاً في محل النزاع، ولكن دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها في الموضع الذي مات فيه بأبي هو وأمي صلوات الله عليه وسلامه].

توسيع المسجد النبوي وهيئة القبر فيه قديما

توسيع المسجد النبوي وهيئة القبر فيه قديماً قال رحمه الله تعالى: [ثم لما وسع المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك وكان نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز أمره أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد، وكانت الحجر من جهة المشرق والقبلة فزيدت في المسجد ودخلت حجرة عائشة رضي الله عنها في المسجد من حينئذ، وبنوا الحائط البراني مسنماً محرفاً]. (مسنماً محرفاً)، يعني: كما وصف شيخ الإسلام هذا في كتبه الأخرى ووصفه كثير من المؤرخين أنه حينما بنى الجدار على المسجد بناه على شكل مثلث رءوسه ليست إلى الاتجاهات التي يمكن أن تشتبه بالقبلة، وهذا احتياط من عمر بن عبد العزيز لئلا يتوجه الناس إلى القبر، ولئلا يتعلقوا به أو يعرفوا موضعه، لاسيما أن سبب هذه الإجراءات كما تعلمون أن بعض الرافضة حاولوا أن ينتهكوا ذات النبي صلى الله عليه وسلم بقبره وينتهكوا قبور صاحبيه، فحفر سراديب تحت الأرض ليصلوا إلى القبر فحصن القبر بهذه الطريقة، ووضعت الجدران عليه بطريقة لا تجعل من يرد إلى الحجرة المبنية يعرف أين موقع القبر بالتمام، وهذا في السابق. أما الآن فإن الأتراك بنوا اللبنات الأخيرة فجعلوه مربعاً، وإلا فبناية عمر بن عبد العزيز كانت مسنمة مثلثة عبارة عن رءوس مختلفة بحيث لا يتحقق القادم من الخارج عن موقع القبر لئلا يصله أذى أو يعمل معه أعمالاً غير مشروعة؛ لأن البدع كثرت في ذلك الوقت.

المشروع عند زيارة القبر هو السلام لا الصلاة والدعاء عنده

المشروع عند زيارة القبر هو السلام لا الصلاة والدعاء عنده قال رحمه الله تعالى: [فإنه ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي أنه قال صلى الله عليه وسلم: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)؛ لأن ذلك يشبه السجود لها، وإن كان المصلي إنما يقصد الصلاة لله تعالى، وكما نهى عن اتخاذها مساجد ونهى عن قصد الصلاة عندها، وإن كان المصلي إنما يقصد الصلاة لله سبحانه والدعاء له، فمن قصد قبور الأنبياء والصالحين لأجل الصلاة والدعاء عندها فقد قصد نفس المحرم الذي سد الله ورسوله ذريعته، وهذا بخلاف السلام المشروع حسبما تقدم. وقد روى سفيان الثوري عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام)، رواه النسائي وأبو حاتم في صحيحه. وروى نحوه عن أبي هريرة، فهذا فيه أن سلام البعيد تبلغه الملائكة. وفي الحديث المشهور الذي رواه أبو الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا علي من الصلاة في كل يوم جمعة، فإن صلاة أمتي تعرض علي يومئذ، فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة). وفي مسند الإمام أحمد حدثنا شريح حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)، ورواه أبو داود. قال القاضي عياض: وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى نائياً أبلغته). وهذا قد رواه محمد بن مروان السدي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وهذا هو السدي الصغير وليس بثقة، وليس هذا من حديث الأعمش. وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن موسى بن محمد بن حيان عن أبي بكر الحنفي حدثنا عبد الله بن نافع حدثنا العلاء بن عبد الرحمن سمعت الحسن بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً، ولا تتخذوا بيتي عيداً، صلوا علي وسلموا فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني). وروى سعيد بن منصور في سننه أن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلاً يكثر الاختلاف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا هذا! إن رسول الله قال: (لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)، فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء. وروي هذا المعنى عن علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه عن علي بن أبي طالب ذكره أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ في مختاره الذي هو أصح من صحيح الحاكم. وذكر القاضي عياض عن الحسن بن علي قال: إذا دخلت فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)].

الأسئلة

الأسئلة

حكم زيارة قبور شهداء أحد

حكم زيارة قبور شهداء أحد Q هل زيارة قبور شهداء أحد مشروعة؟ A نعم، مشروعة، والنبي صلى الله عليه وسلم أرخص في زيارة القبور، أما الزهور التي تلقى في المقبرة فلا تجوز، وهي من البدع.

حكم وضع علامات قريبة من القبور المراد زيارتها

حكم وضع علامات قريبة من القبور المراد زيارتها Q بعض الناس يعقد عقداً على حديدة في سور المقبرة أو يضع علامة على جدارها حتى يعرف القبر، فما حكم ذلك؟ A لا ما ينبغي ما ينبغي هذه الحقيقة بدايات البدع؛ لأنه الناس قد يتوهمون أن هذا شيء له أثر على الميت فما ينبغي حقيقة لكنه أحياناً توضع هذه كعلامات؛ لأنه الآن في المقابر الحديثة توجد القبور على شكل صفوف، أشوف بعض الناس يضع في نهاية الجدار أو في الشبك خيط أو شيء أو علامة أو خدش في الجدار يدل على الصف الذي فيه الميت الذي يريد أن يزوره، أقول: هذه الأمور إن كثرت ينبغي أن تزال وبإمكان الإنسان أن يضع علامة عادية لا تلفت النظر تدل على قبر قريبه أو والده أو والدته أو نحو ذلك بدون أن يلجأ إلى الأساليب الملفتة كالألوان والأواني أو الأدوات الظاهرة التي فيها شهرة يعني: الأصل أن توضع أحجار أو لبن بإمكان أي واحد أن يختار حجر على مواصفات معينة يعرفه ويعرفه غيره أو يمكن وصفه للآخرين ولا يلفت نظر من لم يعرف هذا الوصف، أما اللجوء إلى هذه الأساليب فأنا أرى أنها قد كثرت وأخذت أشكالاً متعددة، حتى صار بعضهم يتفنن في اتخاذ الوسائل للدلالات على القبور، فأخشى أن تزداد إلى أن تصل إلى التجصيص أو ما يشبه التجصيص من الوسائل الأخرى، فمثلاً: القطع الرخامية بدءوا يستخدمونها، وبعض الناس قد لا يفهم أن المقصود بالرخام علامة على القبر، فيظنون أن الرخام من الأمور التي تتعلق فيها النفوس، أو أنها إكرام للميت، فيصل الأمر إلى وضع الجدار ثم بناية إلى آخره. والشيطان حريص على الإغواء، مع أننا قد نستغرب أن تكون هذه الأمور ذريعة إلى ما بعد ذلك؛ لكن الناس يستغلهم الشيطان ويستدرجهم إلى أن توصلهم هذه الوسائل إلى ما هو أكبر منها، فيقعون فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من البناء على القبور والتجصيص، ونحو ذلك من الوسائل البدعية التي يقع فيها كثير من أهل البدع، نسأل الله السلامة. فينبغي أن نتنبه لهذه الأمور ونرشد الناس إلى الوسائل التي تحقق أغراضهم المشروعة بدون اللجوء إلى هذه الوسائل، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[22]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [22] يتعلق أهل البدع ببعض الآثار الضعيفة والأقوال الشاذة عن بعض الأئمة في التوسل والاستشفاع عند القبور، وكل ما يعتقدونه مخالف لجمهور الصحابة والتابعين وغيرهم من العلماء الراسخين، فإنه من المعلوم أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه كان يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعوه أو يستشفع به أو يتوسل به، ولو كان أمراً مشروعاً لكانوا هم أسبق الناس قبل غيرهم إلى فعله، ولذكره أئمة المسلمين عنهم؛ لأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

بطلان ما روي من الأمر باستقبال القبر والاستشفاع به

بطلان ما روي من الأمر باستقبال القبر والاستشفاع به قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ثم قال في الحكاية: (استقبله واستشفع به فيشفعك الله)، والاستشفاع به معناه في اللغة: أن يطلب منه الشفاعة كما يستشفع الناس به يوم القيامة، وكما كان أصحابه يستشفعون به. ومنه الحديث الذي في السنن: (أن أعرابياً قال: يا رسول الله! جهدت الأنفس وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا، فإنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله، فسبح رسول الله حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: ويحك أتدري ما تقول؟ شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه). وذكر تمام الحديث فأنكر قوله: (نستشفع بالله عليك)، ومعلوم أنه لا ينكر أن يسأل المخلوق بالله أو يقسم عليه بالله، وإنما أنكر أن يكون الله شافعاً إلى المخلوق، ولهذا لم ينكر قوله: (نستشفع بك على الله) فإنه هو الشافع المشفع. وهم لو كانت الحكاية صحيحة إنما يجيئون إليه لأجل طلب شفاعته صلى الله عليه وسلم? ولهذا قال في تمام الحكاية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء:64] الآية، وهؤلاء إذا شرع لهم أن يطلبوا منه الشفاعة والاستغفار بعد موته فإذا أجابهم فإنه يستغفر لهم، واستغفاره لهم دعاء منه وشفاعة أن يغفر الله لهم. وإذا كان الاستشفاع منه طلب شفاعته، فإنما يقال في ذلك: استشفع به فيشفعه الله فيك، لا يقال: فيشفعك الله فيه، وهذا معروف الكلام، ولغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر العلماء، يقال: شفع فلان في فلان فشفع فيه، فالمشفع الذي يشفعه المشفوع إليه هو الشفيع المستشفع به، لا السائل الطالب من غيره أن يشفع له، فإن هذا ليس هو الذي شفع، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الشفيع المشفع ليس المشفع الذي يستشفع به. ولهذا يقول في دعائه: يا رب! شفعني فيشفعه الله، فيطلب من الله سبحانه أن يشفعه لا أن يشفع طالبي شفاعته، فكيف يقول: واستشفع به فيشفعك الله؟ وأيضاً: فإن طلب شفاعته ودعائه واستغفاره بعد موته وعند قبره ليس مشروعاً عند أحد من أئمة المسلمين، ولا ذكر هذا أحد من الأئمة الأربعة وأصحابهم القدماء، وإنما ذكر هذا بعض المتأخرين، ذكروا حكاية عن العتبي أنه رأى أعرابياً أتى قبره وقرأ هذه الآية، وأنه رأى في المنام أن الله غفر له، وهذا لم يذكره أحد من المجتهدين من أهل المذاهب المتبوعين الذين يفتي الناس بأقوالهم، ومن ذكرها لم يذكر عليها دليلاً شرعياً].

بيان أنه لا يصح الاعتماد على الرؤى كدليل شرعي

بيان أنه لا يصح الاعتماد على الرؤى كدليل شرعي هنا مسألة مهمة جداً وهي من أسباب اللبس في وقوع كثير من البدع في تاريخ الإسلام، وفي التباس هذه البدع على بعض أهل العلم وهي الخلط بين الرؤى وبين الأدلة الشرعية من ناحية، والخلط أيضاً بين نسبة القول إلى إمام متبوع أو إلى رجل مشهور وبين الاستدلال بالكتاب والسنة، فإن مثل هذه الحكاية عن العتبي اشتهرت عند الناس في وقتها وبعد وقتها، والقصة تعلقت بها عواطف بعض الناس حتى بعض الذين ينتسبون للعلم لكنهم انطلت عليهم المسألة أو جهلوا أو تجاهلوا. حكاية العتبي أنه رأى أعرابياً أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ هذه الآية، وأنه رأى في المنام أن الله غفر له، هذه حكاية حتى لو ثبتت لم تكن دليلاً على البدعة أو الاستشفاع الممنوع، فأولاً: كون الأعرابي أتى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، هذا غلط، والأعرابي ليس قدوة ولو كان إماماً في الدين لما سمي أعرابياً، لأن الإمام في الدين وإن كان أصله من البادية لا يقال: إنه أعرابي، فهذا أعرابي جاهل لم يجد من يعلمه، ثم يزعمون أنه أتى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم إنه رأى في المنام أن الله غفر له. فمن يصدق أنه رأى، ثم إذا كان رأى فيحتمل أنه لبس عليه الشيطان. وقال الشيخ: (وهذا لم يذكره أحد من المجتهدين من أهل المذاهب المتبوعين الذين يفتي الناس بأقوالهم) إلى آخره، المهم أن الحكايات مثلها كثير صلوات ابتدعت، أعمال التمسح بالقبور، تعلق بالأموات والأحياء، كذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ابتداع في أعمال الحج، ابتداع في الصيام، أعمال في الزكاة، وكلها ابتداع من الناس وكثير منها من أمثال هذه الحكاية، حيث يأتي إنسان جاهل فيفعل فيتبعه غيره، ثم يدعي آخر أو يدعي هو أنه رأى رؤيا تصدق فعله، ثم يأتي الشيطان فيرد على كثير من الناس فتتواتر الرؤيا بزعمهم، فتكون الرؤيا سبيل فتنة، أو يتناقلون أشياء ليس لها أصل وتتواتر عندهم كأنها دليل حقيقي، أو يفتنون بقول عالم ما تأمل المسألة وأخطأ فيها، فتتراكم الأمور الملبسة ما بين رؤى، وزلات علماء وشهرة القصة، والثقة بالشخص القائل، وتناقل الشائعات، فتكون البدع من هذا الباب. أقول هذا لأنه كثر عندنا هذا النوع من البدع، بدع في الرقى، بدع في علاج السحر، في علاج الأمراض، وأكثرها بدع حول الأعياد، وبدع حول بعض الأعمال التي يظن الناس أنها من أعمال البر، فكثر في الناس هذا النوع حتى تعلقوا بأشياء كثيرة ثم تتواتر عندهم الرؤى أو تكثر حتى تتعلق نفوسهم بهذا الأمر وهو في الأصل بدعة.

طلب الدعاء والشفاعة عند القبر مخالف لهدي السلف

طلب الدعاء والشفاعة عند القبر مخالف لهدي السلف قال رحمه الله تعالى: [ومعلوم أنه لو كان طلب دعائه وشفاعته واستغفاره عند قبره مشروعاً، لكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أعلم بذلك وأسبق إليه من غيرهم، ولكان أئمة المسلمين يذكرون ذلك. وما أحسن ما قال مالك رحمه الله: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، قال: ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك. فمثل هذا الإمام كيف يشرع ديناً لم ينقل عن أحد من السلف، ويأمر الأمة أن يطلبوا الدعاء والشفاعة والاستغفار بعد موت الأنبياء والصالحين منهم عند قبورهم، وهو أمر لم يفعله أحد من سلف الأمة]. يقصد بهذا الإمام، الإمام مالك. قال رحمه الله تعالى: [ولكن هذا اللفظ الذي في الحكاية يشبه لفظ كثير من العامة الذين يستعملون لفظ الشفاعة في معنى التوسل، فيقول أحدهم: اللهم إنا نستشفع إليك بفلان وفلان، أي نتوسل به. ويقولون لمن توسل في دعائه بنبي أو غيره: قد تشفع به، من غير أن يكون المستشفع به شفع له ولا دعا له، بل وقد يكون غائباً لم يسمع كلامه ولا شفع له. وهذا ليس هو لغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء الأمة، بل ولا هو لغة العرب، فإن الاستشفاع طلب الشفاعة، والشافع هو الذي يشفع للسائل فيطلب له ما يطلب من المسئول المدعو المشفوع إليه]. هناك صورة لا أدري هل سيوردها الشيخ أو لا يوردها؛ وهي مسألة أنه قد يقصد بالشفاعة أحياناً معنى صحيح لكنه بعيد، وهو أن يقصد بالاستشفاع بالشخص الاستشفاع بدعائه مع دعاء المستشفع، كما إذا طلبت من أحد ممن ترجى إجابة دعوته أن يدعو لك، ادع فكأنك شفعت دعاءه مع دعائك، فهذا المعنى صحيح لكنه بعيد وملبس بحيث إنه لا يحتج به على تسمية التوسل شفاعة من كل وجه.

احتمال التحريف فيما نسب لمالك في الاستشفاع عند القبر

احتمال التحريف فيما نسب لمالك في الاستشفاع عند القبر قال رحمه الله تعالى: [وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولا طلب له حاجة بل وقد لا يعلم بسؤاله، فليس هذا استشفاعاً لا في اللغة ولا في كلام من يدري ما يقول. نعم هذا سؤال به، ودعاؤه ليس هو استشفاعاً به، ولكن هؤلاء لما غيروا اللغة كما غيروا الشريعة وسموا هذا استشفاعاً -أي: سؤالاً بالشافع- صاروا يقولون: استشفع به فيشفعك. أي: يجيب سؤالك به، وهذا مما يبين أن هذه الحكاية وضعها جاهل بالشرع واللغة، وليس لفظها من ألفاظ مالك. نعم قد يكون أصلها صحيحاً، ويكون مالك]. يعني: قد يكون أصلها صحيحاً لكنها حرفت، بمعنى أنه قد يكون للحكاية أصل دون هذه المعاني والألفاظ البدعية، وهذا كثير مما ينقل عن الأئمة مما قد يكون له أصل لكن يزيد عليه الناس من أهل الأهواء والبدع والجهلة، وأيضاً بسبب النسيان وطول الأمد قد يزيد بعض الناس أشياء لم تحدث في القصة، أو يعبر عنها كما فهمها ويكون فهمه خاطئاً أو نحو ذلك، بمعنى أن الشيخ احتاط فيقول: حتى ولو لم تثبت بسند فقد يكون لهذه الحكاية أصل؛ لكن ليست هذه ألفاظ تليق بـ مالك وأمثاله من أئمة الدين؛ لأنها لا تصح شرعاً ولا تصح لغة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [نعم، قد يكون أصلها صحيحاً ويكون مالك قد نهى عن رفع الصوت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم? اتباعاً للسنة، كما كان عمر رضي الله عنه ينهى عن رفع الصوت في مسجده، ويكون مالك أمر بما أمر الله به من تعزه وتوقيره ونحو ذلك مما يليق بـ مالك أن يأمر به].

تحريف المبتدعة لمعاني الألفاظ والمصطلحات الشرعية

تحريف المبتدعة لمعاني الألفاظ والمصطلحات الشرعية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن لم يعرف لغة الصحابة التي كانوا يتخاطبون بها ويخاطبهم بها النبي صلى الله عليه وسلم? وعادتهم في الكلام وإلا حرف الكلم عن مواضعه، فإن كثيراً من الناس ينشأ على اصطلاح قومه وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو رسوله أو الصحابة فيظن أن مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريده بذلك أهل عادته واصطلاحه، ويكون مراد الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك. وهذا واقع لطوائف من الناس من أهل الكلام والفقه والنحو والعامة وغيرهم. وآخرون يتعمدون وضع ألفاظ الأنبياء وأتباعهم على معان أخر مخالفة لمعانيهم، ثم ينطقون بتلك الألفاظ مريدين بها ما يعنونه هم، ويقولون: إنا موافقون للأنبياء. وهذا موجود في كلام كثير من الملاحدة المتفلسفة والإسماعيلية ومن ضاهاهم من ملاحدة المتكلمة والمتصوفة، مثل من وضع المحدث والمخلوق والمصنوع على ما هو معلول وإن كان عنده قديماً أزلياً، ويسمي ذلك الحدوث الذاتي. ثم يقول: نحن نقول: إن العالم محدث وهو مراده. ومعلوم أن لفظ المحدث بهذا الاعتبار ليس لغة أحد من الأمم، وإنما المحدث عندهم ما كان بعد أن لم يكن]. أقرب مثال لما ذكر عن ملاحدة المتكلمة والمتصوفة في وضعهم بعض الألفاظ على غير وضعها الشرعي الصحيح تسميتهم لبعض صفات الله عز وجل بأنه محدث كصفة الكلام، فيقولون: بأن كلام الله حادث، ومع ذلك يدعون بأن أصل كلام الله أزلي، بمعنى أنه قد تشتبه ألفاظهم ببعض ما عند أهل السنة، لكن عند التفصيل نجد أنهم يقصدون بالحادث المعنى الأزلي، وهذا من باب العبث في استعمال الألفاظ لاسيما متكلمة ومتصوفة الجهمية.

مغالطة الفلاسفة والمتكلمين فيما يثبتونه من الإيمان

مغالطة الفلاسفة والمتكلمين فيما يثبتونه من الإيمان قال رحمه الله تعالى: [وكذلك يضعون لفظ الملائكة على ما يثبتونه من العقول والنفوس وقوى النفس، ولفظ الجن والشياطين على بعض قوى النفس. ثم يقولون: نحن نثبت ما أخبرت به الأنبياء، وأقر به جمهور الناس من الملائكة والجن والشياطين]. طبعاً أهل الفلسفة وكثير من المتكلمين والعقلانيين ورثة أهل الكلام من المعاصرين ينزعون هذه النزعة، فعلى سبيل المثال كثير منهم الآن يطلقون على الملائكة نوازع الخير، يقولون: الملائكة ليست خلقاً مستقلاً بالخلقة وبالأخلاق وبالأعمال، إنما هي نوازع الخير الموجودة في البشر، والجن والشياطين نوازع الشر، وهذا قول فلسفي استمدوه من الفلاسفة والمتكلمين ومن سلك سبيلهم. تنبيه: بعض الناس قد يعترض على كلمة (عقلانيين)؛ لأن العقل ليس بمذموم، أقول: بلى، العقل إذا تجاوز حده فإن صاحبه مذموم، فالذين استعملوا العقل على غير وجهه الصحيح هم عقلانيون بهذا الاعتبار، أي: بسبب الشهرة في الكلمة، فالعقلانية ليست مدحاً، إنما هي مدح على الوجه السليم الصحيح.

العقل عند الفلاسفة واعتقاداتهم الرديئة فيه

العقل عند الفلاسفة واعتقاداتهم الرديئة فيه قال رحمه الله تعالى: [ومن عرف مراد الأنبياء ومرادهم علم بالاضطرار أن هذا ليس هو ذاك، مثل أن يعلم مرادهم بالعقل الأول وأنه مقارن عندهم لرب العالمين أزلاً وأبداً، وأنه مبدع لكل ما سواه، أو بتوسطه حصل كلما سواه. والعقل الفعال عندهم عنه يصدر كلما تحت فلك القمر، ويعلم بالاضطرار من دين الأنبياء أنه ليس من الملائكة عندهم من هو رب كل ما سوى الله، ولا رب كل ما تحت فلك القمر، ولا من هو قديم أزلي أبدي لم يزل ولا يزال. ويعلم أن الحديث الذي يروى: (أول ما خلق الله العقل) حديث باطل عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه لو كان حقاً لكان حجة عليهم، فإن لفظه (أول ما خلق الله العقل) بنصب الأول على الظرفية، (فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال: أدبر، فأدبر. فقال: وعزتي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك، فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب، وبك العقاب)، وروي: (لما خلق الله العقل). فالحديث لو كان ثابتاً كان معناه أنه خاطب العقل في أول أوقات خلقه، وأنه خلق قبله غيره، وأنه تحصل به هذه الأمور الأربعة لا كل المصنوعات]. قال رحمه الله تعالى: [والعقل في لغة المسلمين: مصدر عقل يعقل عقلاً، يراد به القوة التي بها يعقل، وعلوم وأعمال تحصل بذلك، لا يراد بها قط في لغةٍ جوهٌر قائم بنفسه، فلا يمكن أن يراد هذا المعنى بلفظ العقل. مع أنا قد بينا في مواضع أخر فساد ما ذكروه من جهة العقل الصريح، وأن ما ذكروه من المجردات والمفارقات ينتهي أمرهم فيه إلى إثبات النفس التي تفارق البدن بالموت، وإلى إثبات ما تجرده النفس من المعقولات القائمة بها، فهذا منتهى ما يثبتونه من الحق في هذا الباب]. لكنهم يقصرون ويقصرون عن إثبات كثير من الحق، ولذلك يلتبس أمر الفلاسفة على كثير من القراء والمثقفين حيث يعترف الفلاسفة بمبادئ الأصول، يقولون مثلاً: نؤمن بالله ونؤمن بالملائكة، هكذا يقول كثير من الفلاسفة الإسلاميين إن صح التعبير، فيظن الناس أنهم يؤمنون به على الوجه الحق، وهم يؤمنون بهذه الأمور على الوجه الباطل، وقد يصلون إلى إثبات شيء من الأمور التي توافق الشرع؛ لكن عند التفصيل يخالفون مخالفة صريحة، بل كل الفلاسفة وقعوا في شركيات ووقعوا في إلحاد عندما أرادوا أن يفصلوا في معنى إيمانهم، ومن الأشياء التي خلفوا فيها العقل والشرع زعمهم أن العقل جوهر، أي: جسم له ذات، فمعنى هذا أنهم يرون أن العقل له كيان مستقل عن المخلوقات الأخرى يدبر بها، وهذا هو الذي جعلهم يعتقدون أن العقل مدبر مع الله عز وجل. ولذلك قال بعضهم: إن العقل جوهر، يوجد ضمن الملائكة وضمن الكواكب وضمن الأجرام والمخلوقات الأخرى. ومنهم من قال: العقل كيان مستقل. ولهذا فليس عندهم إلا التخرص والخيال والأوهام، وهذا الكلام ينبذه العقل أو التفكير، إذ كيف نقول: إن العقل له كيان ونحن نعرف أن العقل ليس إلا موهبة أعطاها الله الإنسان يفكر بها. وهم لا يقصدون آلة العقل من المخ والقلب إلى آخره، ولو قصدوه لكان الأمر سهلاً، ولقلنا: هذا من باب التوسع في الاصطلاح أو التوسع في المفهوم لكنهم قصدوا أن العقل وثن يعبد من دون الله عز وجل؛ لكنه وثن غير منظور، وجعلوه رباً يدبر الكون مع الله هذه خلاصة قولهم. ويزعمون أنهم يؤمنون بالملائكة، وإذا فسروا الملائكة فسروهم بما ذكر الشيخ، وإنما يظهرون الإيمان بهم خشية من العوام، فيقول أحدهم: أنا أومن بوجود الجن والشياطين، لكن يفسرها بتفسير إلحادي فيقول: الجن هم نوازع الشر في الإنسان، ولذلك ذهب بعض المتأخرين من تلامذة مدرسة محمد عبده إلى مذهب شيخه وقرر هذا في تفسير سورة الجن، فزعم أن الجن ما هم إلا طائفة من البشر ينقسمون إلى نوعين: النوع الأول: مستضعفو البشر يقول: أغلب الجن من مستضعفي البشر، فعلى هذا أكثر البشرية جن عنده، وجبابرة البشر شياطين، وهذا امتداد للمدرسة الفلسفية ومدرسة محمد عبده العقلانية ثم أصبح هذا الآن من مقررات كثير من العقلانيين؛ لكن أكثرهم لا يجرؤ على إظهاره. ومن جرأ وأعلن هذا ولم يكن عنده في ذلك تحفظ مثل: الدكتور البهي. لاشك أن إنكار الجن أصلاً بدون ما يؤولهم أسهل ممن يؤول، لكن مع ذلك مآل التأويل الإنكار؛ لأنه سيضطر إلى إنكار نصوص صريحة في وصف الملائكة والجن؛ فإن الله عز وجل وصفهم بأنهم أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، فكيف تكون نوازع الخير لها أجنحة مثنى وثلاث ورباع، ولذلك فإن من يعتقد ذلك ناقض العقل منكر نص القرآن المتواتر، نقول لو ناقشناه: كيف تكون الملائكة نوازع الخير والله عز وجل وصفهم بأن لهم أجنحة ووصفهم بأنهم يعرجون وينزلون، ووصفهم بأعمال ظاهرة حسية؟ فيصعب عليه أن يؤول جميع النصوص، وإذا أولها تأويلاً لا يقتضيه المقام فهو مثل الإنكار؛ لكنه إنكار الجبناء، والله أعلم!

الأسئلة

الأسئلة

طلب الدعاء من الغير يضعف التوكل

طلب الدعاء من الغير يضعف التوكل Q هل طلب الدعاء من أهل الصلاح ينافي التوكل؟ A لا ينافيه إذا كان قليلاً، وأما الإكثار منه فهو يضعف التوكل.

التعلق بالرؤى المنامية وضعف التوكل

التعلق بالرؤى المنامية وضعف التوكل Q كثير من الناس بين إفراط وتفريط في الرؤى، فمنهم من يعظمها وتقض مضجعه، وتسبب خللاً في توكله، ومنهم من لا يلقي للرؤى بالاً فيعتقد أنها أضغاث أحلام، فما رأيكم؟ A أما من لا يلقي للرؤيا بالاً فليس عليه حرج، أما من يتعلق بها فلاشك أن هذا يضعف توكله ويقع في إشكالات، والأمر وسط، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وضع لنا قاعدة الرؤى وقال: (الحلم من الشيطان والرؤى من الله، فمن رأى منكم رؤيا يكرهها فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم وينفث على يساره ثلاثاً، فإنها لا تضره)، ومع ذلك إذا غلب على ظنه أنها ليست أضغاث أحلام، فإن كانت مما يسوءه من أمر يزعجه فالأولى ألا يلتفت إليها، فذلك خير له؛ لأنه ورد في حديث آخر (أن الرؤيا على جناح طائر) فإن أولتها وقعت، فإن تأويل الرؤيا غالباً يكون فتنة وابتلاء، بينما الإعراض عنها والتعوذ بالله من الشيطان الرجيم والاستعاذة منها ومن شرها يجعلها لا تضره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا وعد حق والحديث صحيح. فإذا كانت الرؤيا مزعجة له فلا يتعلق بها، أما إن كانت خيراً فليستبشر بها ولا يخبر بها إلا صديقاً كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، هذه قاعدة في الرؤى، لكن أغلب الرؤى من المزعجات وأغلب الأحلام من المزعجات فالأولى ألا يلتفت إليها الإنسان، وإن خاف أن يتعلق بها قلبه فليعمل بالسنة فيستعيذ ثلاثاً وينفث على يساره، وليتوكل على الله عز وجل صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه: (من رأى منكم رؤيا)، لكن هل منا من يكون كالنبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الرؤيا. ثم إن هذه ليست قاعدة مطردة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم اليومية، وإنما حدثت مرات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ربما كان يبحث عن مبشرات في أمور تتعلق بالجهاد أو غيره، أو مبشرات تتعلق بأفراد المسلمين. إذاً: مبدأ السؤال عن الرؤيا لا بأس به لكن ينبغي للمسلم أن يعمل بالضابط الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.

التعلق ببدعة عيد الحب

التعلق ببدعة عيد الحب Q هذا السؤال يتعلق بأمر من الأمور التي تعلق بها بعض جهلة الناس وأهل البدع والنساء خاصة، وهي مناسبة ما يسمى بعيد الحب، فقد تعلقت بها كثير من الفتيات والنساء، وهذا أمر خطير جداً، والدين النصيحة فأدركوا الأمة قبل أن تقع في مثل هذه الكوارث في دينها. فمن المعلوم أنه لا يجوز للمسلم أن يحتفل بعيد غير عيدي الفطر والأضحى، هذه قاعدة متفق عليها عند جمهور الأمة، بل مجمع عليها عند سلف الأمة قديماً وحديثاً فكيف إذا كان بعيد للكفار وكيف إذا تعلق به الناس على هذا النحو من تقليد ما يحدث عند الكفار في عيد الحب من ألبسة وتهانٍ ووسائل وأساليب يتعامل بها طوائف من نسائنا، هذا أمر خطير ولم نعرفه إلا في السنين الأخيرة. ولذلك ينبغي أن تبذلوا جهودكم في النصح كل بقدر ما يستطيع في بيته وذويه وجيرانه وحيه، وفي عمله ومع أصدقائه ومع الناس في المساجد، فنبهوا أئمة المساجد على مثل هذه الأمور الخطيرة، فإنه ينبغي أن نبذل الجهد في المناصحة، وإن شاء الله نجد لذلك ثمرة أو على الأقل نعذر فالإعذار أمام الله مطلوب لئلا تشملنا عقوبة الله، نسأل الله السلامة، ونسأل الله أن يحمينا جميعاً من البدع والأهواء ومضلات الفتن. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[23]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [23] من أعظم الانحرافات في أبواب الدين استعمال مصطلحات دخيلة وغريبة تحمل معاني وتفسيرات متباينة، ثم يأتون للنصوص الشرعية فيفسرونها بتلك المصطلحات وبما يوافق عقائدهم ومذاهبهم، ومن هنا حصل لبس عند طوائف أهل البدع في مصطلح التوسل والشفاعة وغيرها، ولم يدركوا مفاهيمها الشرعية كما فهمها السلف الصالح على ضوء النصوص الشرعية المبينة لها.

منهج أهل البدع في استعمال المصطلحات الشرعية

منهج أهل البدع في استعمال المصطلحات الشرعية قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا أن كثيراً من كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يتكلم به من يسلك مسلكهم ويريد مرادهم لا مراد الله ورسوله]. هذا أيضاً يعتبر من مناهج المبتدعة عموماً، وهو أنهم يضعون لأنفسهم مصطلحات ويفسرون نصوص الشرع على هذه المصطلحات، أو يأخذون المصطلحات الشرعية ويفسرونها على ضوء أصولهم لا على ضوء دلالاتها الشرعية ولا اللغوية. وذلك أنه ما من فرقة من الفرق إلا وتسلك هذا المسلك، وهم بين مقل ومكثر، فالباطنية يفسرون غالب نصوص الشرع بتفسيرات لا تقتضيها الأصول الشرعية ولا اللغة، ولا العرف والعادة، ولا العقول السليمة، يفسرون بالتفسير الرمزي الباطني والإشاري وقلب المفاهيم قلباً كاملاً لا يقتضيه أي مفهوم لغوي ولا شرعي. وما من فرقة إلا وتستعمل بعض المصطلحات استعمالاً خاطئاً فتأخذ الألفاظ الشرعية وتفسرها على مصطلحاتها الخاصة، وقد أراد الشيخ بهذا أن يثبت أنهم استعملوا الشفاعة والاستشفاع والتوسل على غير معناه اللغوي الصحيح السليم، وعلى غير معناه الشرعي المعروف والمعهود عند الصحابة وأئمة السلف. فقصد الشيخ هنا، أنهم تلاعبوا بالألفاظ ووضعوا لهم فيها مصطلحات خاصة فحكموا على النصوص من خلال هذه المصطلحات. قال رحمه الله تعالى: [كما يوجد في كلام صاحب الكتب المضنون بها وغيره]. المقصود بالكتب المضنون بها كتب علم الكلام وكتب المتصوفة وكتب الفلاسفة، وسماها المضنون بها أخذاً من عنوان كتاب للغزالي سماه: المضنون به على غير أهله، ادعى الغزالي أن علم الكلام وعلم التصوف علم الحقيقة والشريعة وما يتفرع عنه ومصطلحات الفلاسفة؛ أنها علوم راقية على مستويات عالية لا يدركها العوام، والعوام هم الأنبياء وأتباع الأنبياء ولذلك يقول: ينبغي لكتب الكلام ألا تبتذل فيقرؤها العوام من غير أهل الكلام، ولا تدرس عند الحشوية فإنهم لا يدركونها. وكذلك بقية علوم أهل البدع أغلبها من الكتب المضنون بها على غير أهلها.

نماذج من التلاعب بالألفاظ عند أهل البدع

نماذج من التلاعب بالألفاظ عند أهل البدع قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مثل ما ذكره في اللوح المحفوظ حيث جعله النفس الفلكية، ولفظ القلم حيث جعله العقل الأول، ولفظ الملكوت والجبروت والملك حيث جعل ذلك عبارة عن النفس والعقل، ولفظ الشفاعة حيث جعل ذلك فيضاً يفيض من الشفيع على المستشفع وإن كان الشفيع قد لا يدري، وسلك في هذه الأمور ونحوها مسالك ابن سيناء كما قد بسط في موضع آخر]. وهذا القدر مشترك عند جميع الفرق، أعني إعطاء المصطلحات الشرعية معاني بدعية، فالباطنية عندهم ظاهر وباطن، فهم يرون أن الباطن هو الحق المقصود، وأن الظاهر شكليات تصلح لعوام الناس الذين هم أهل ضلال عندهم، وأهل التصوف يقسمون المعاني الشرعية إلى حقيقة وشريعة، فالشريعة هي الأحكام الظاهرة، وتفسير النصوص بمقتضى اللغة ومقتضى التفسير المعلوم عند بقية العقلاء، والحقيقة هي تفسير النصوص بمعاني لا يدركها إلا أهل الاختصاص -ضلال الصوفية-! وكذلك الفلاسفة وغيرهم كل منهم عنده قدر، نأتي إلى أهل البدع العملية في العبادات كبدع الموالد وغيرها، فهؤلاء عندهم قدر من هذه المعاني، فهم عندما يعبدون المخلوقات من دون الله سواء كانت بشراً أو غير بشر، أو عندما يتوسلون ويتبركون بالأشياء؛ فعندهم شعور أن لها أرواحاً ونفوساً، وأن هذه الأرواح والنفوس تمدهم بالبركة، ولذلك تجد الواحد منهم إذا كان عند قبر صالح يقول: المدد يا فلان، اعتقاداً منه أن للأرواح فيضاً يسعفه. ونحن نقول: الأرواح لها معان لكنها معان غيبية ليس لها علاقة بتصريف الكون أو التأثير في مصالح العباد أو مقاديرهم، وإلا فلاشك أن الأرواح عالم آخر، فالأحلام والرؤى، وما ورد في الشرع مما يقع للأموات في قبورهم، وما يقع بين الأموات والأحياء من أمور روحية في الأحلام وغيره كل هذا معلوم، لكن ينبغي ألا يتعدى ما ثبت في الشرع، هذا من ناحية. والناحية الأخرى: ينبغي ألا يصل وجود شهادة الأرواح وتنقلها إلى حد أن يعتقد الإنسان أن لهذه الأرواح تأثيراً في مقاليد وشئون الأحياء من دون الله عز وجل. فأقول: إن اعتقاد أن الألفاظ الشرعية لها معان غامضة، وأن هذه المعاني تتعلق بها القلوب أو الأحوال أو مقاليد البشر؛ هذا قدر مشترك تجده عند المبتدع الساذج الذي يتبرك ويتوسل، وعند المبتدع المركب الذي يشرك بالله عز وجل مثل الفلاسفة وغلاة الصوفية وغيرهم كلهم عندهم قدر مشترك في اعتقاد أن هناك تأثيراً للمخلوقات من دون الله عز وجل بعضها في بعض، وهذا التأثير هو سبب نزعة التعلق بالقبور والمشاهد والآثار، فمن مقل ومكثر، وهذه النزعة أول ما جاءتنا من العجم؛ لأنها موجودة في الديانات السابقة التي يعيشها العجم وهي جزء من كيانهم، إلا من طهر الله قلبه ونفسه بالدين الحق. ولو تأملتم لوجدتم أن من أساسيات أهل البدع وتصوراتهم الضرورية اعتقاد أن ما يتمسحون به ويتوسلون ويتبركون له تأثير يفيض عليهم، ويعبرون عن هذا بتعبيرات كثيرة تختلف بحسب مشاربهم ومداركهم ومستوياتهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا ذكر من يقع ذلك منه من غير تدبر منه للغة الرسول صلى الله عليه وسلم كلفظ القديم، فإنه في لغة الرسول صلى الله عليه وسلم التي جاء بها القرآن خلاف الحديث، وإن كان مسبوقاً بغيره، كقوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39]، وقال تعالى عن إخوة يوسف: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95]. وقوله تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء:75 - 76]. وهو عند أهل الكلام عبارة عما لم يزل أو عما لم يسبقه وجود غيره إن لم يكن مسبوقاً بعدم نفسه، ويجعلونه -إذا أريد به هذا- من باب المجاز، ولفظ المحدث في لغة القرآن مقابل للفظ القديم في القرآن]. هذا في الحقيقة من المناهج الباطلة عند أهل الكلام، أنهم يسلكون في تبيين الحقائق أوعر المسالك، والشيخ نقل أن القديم عند أهل الكلام عبارة عما لم يزل أو عما لم يسبقه ذو جود غيره، ويقصدون الذي ليس قبله شيء، ولو قالوها لأراحونا وأراحوا أنفسهم، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم اسم الله الأول الذي ليس قبله شيء؛ لكنهم يبحثون عن أعسر معنى وأبعد أسلوب يوصلك إلى ما يريدون؛ لأنك تستبعد أن يكون قصدهم هو هذا المعنى البسيط، وهذا في عموم عبارات المتكلمين، وقد قرأت كتاباً يعتبر على درجة المتكلمين دون الفلاسفة، وهو كتاب التوحيد لـ أبي منصور الماتريدي، فإذا هو عسر جداً جداً، فقد كتبه بأسلوب ملتو بحيث تقرأ صفحة أو صفحات وتفاجأ بأنه يريد حقيقة بسيطة جداً، مثل قوله عز وجل: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10]، فتجد أنه قد بحث عن أوحش العبارات وأبعدها وأصعب الأساليب حتى يصل إلى هذه النتيجة.

بيان ما يقع من الغلط من قبيل الاصطلاح

بيان ما يقع من الغلط من قبيل الاصطلاح قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك لفظ (الكلمة) في القرآن والحديث وسائر لغات العرب إنما يراد به الجملة التامة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم). وقوله: (إن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل). ومنه قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5]، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] الآية، وقوله تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة:40]، وأمثال ذلك. ولا يوجد لفظ الكلام في لغة العرب إلا بهذا المعنى]. يقصد الشيخ أن الكلمة في أصل إطلاقها عند العرب وعند السلف الأوائل وكما أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، أنها ما نسميه نحن الجملة المفيدة لمعنى تام، أما الكلمة المجردة مثل الاسم المجرد أو الفعل المجرد والحرف فلا يسمى كلمة إلا في اصطلاح النحاة، ولذلك ينبغي أن نفرق بين اصطلاح الشرع الأصلي وبين الاصطلاح الذي يتعارف عليه أهل العلوم، وكذلك ينبغي أن يتفطن طلاب العلم للتفريق بين عبارتين: بين عبارة (في الاصطلاح) إذا قصد بها اصطلاح أهل الاختصاص وبين عبارة (في الاصطلاح) إذا قصد بها الاصطلاح الشرعي، ولذلك الأولى أن تقيد المعاني الشرعية بكلمة (الاصطلاح الشرعي)؛ لأن هناك مصطلحات اصطلح عليها بعض أهل العلوم الجزئية لا تتوافق مع المصطلحات الشرعية وبناء على ذلك فهم الناس خطاب الشرع على غير وجهه بسبب استعمالهم للمصطلح الخاص لعلم من العلوم، وهذا مما ينبغي أن يعنى به طلاب العلم من الباحثين في هذا العصر الآن؛ لأن وسائل البحث قد توفرت، فينبغي أن تحرر مثل هذه الأمور وتنقح المصطلحات الشرعية وتعزل عنها المصطلحات الخاصة وتبين الفروق؛ لأنه إن بنى على استعمال هذه المصطلحات في فهم نصوص الكتاب والسنة انبنى عليها مفاهيم خطيرة خاصة عند البعيدين عن التخصص الشرعي، مثل بعض اللغويين والأدباء والأصوليين ونحوهم الذين يتعمقون في جانب معين ويبعدون عن المعاني الشرعية، فيستعملون مصطلحاتهم يطبقونها على المعاني الشرعية فيقع منهم خلط وخبط. ونجد مثل ذلك في تعبيرات كثير من المحدثين الذين تطفلوا على العلوم الشرعية وهم غير مؤهلين، قد يكون بعضهم طبيباً أو مهندساً فتجده يستعمل مصطلحات فنه في التعبير عن الأمور الشرعية، فوقع الناس في حرج وإشكالات؛ لأنه جرهم إلى مفاهيم ومصطلحات معينة لا تنطبق على المفاهيم الشرعية ولا على المصطلحات الشرعية، وربما يكون الأدب هو أخطر ما حدث في ذلك كما حدث من سيد قطب رحمه الله في استعماله كثيراً من المصطلحات الشرعية بتعبير أدبي ميع المعاني الشرعية تمييعاً شديداً خطيراً، أوقع الناس في خلط واختلاف في معاني كلماته هو، واتهمه بعض الناس بالزندقة والإلحاد. فيجب أن نتنبه ونأخذ درساً مما حدث ويحدث، وننقح هذه الأمور ونبينها، ونضع للناس مناهج بينة واضحة ونضرب الأمثلة لذلك. فالشاهد كما سيذكر الشيخ أن استعمال المصطلحات على غير وجهها الشرعي من أسباب وقوع الناس في التوسل البدعي، وهذا ما أراده الشيخ، لكنه يستطرد أحياناً حتى يبعد ذهن القارئ عن الأصل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والنحاة اصطلحوا على أن يسموا الاسم وحده والفعل والحرف كلمة، ثم يقول بعضهم: وقد يراد بالكلمة الكلام، فيظن من اعتاد هذا أن هذا هو لغة العرب. وكذلك لفظ (ذوي الأرحام) في الكتاب والسنة يراد به الأقارب من جهة الأبوين، فيدخل فيهم العصبة وذوو الفروض، وإن شمل ذلك من لا يرث بفرض ولا تعصيب، ثم صار ذلك في اصطلاح الفقهاء اسماً لهؤلاء دون غيرهم، فيظن من لا يعرف إلا ذلك أن هذا هو المراد بهذا اللفظ في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة، ونظائر هذا كثيرة. ولفظ التوسل والاستشفاع ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما أوجب غلط من غلط عليهم في دينهم ولغتهم. والعلم يحتاج إلى نقل مصدق ونظر محقوق]. لعل الأقرب: (ونظر محقق) ومع ذلك فـ (محقوق) تؤدي المعنى ولو من بعيد.

دخول الخطأ في فهم معنى التوسل

دخول الخطأ في فهم معنى التوسل قال رحمه الله تعالى: [والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة بثبوت لفظه ومعرفة دلالته، كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية، ونصوص الكتاب والسنة متظاهرة بأن الله أمرنا أن نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ونسلم عليه في كل مكان، فهذا مما اتفق عليه المسلمون، وكذلك رغبنا وحضنا في الحديث الصحيح على أن نسأل الله له الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه مقاماً محموداً الذي وعده. فهذه الوسيلة التي شرع لنا أن نسألها الله تعالى كما شرع لنا أن نصلي عليه ونسلم عليه هي حق له، كما أن الصلاة عليه والسلام حق له صلى الله عليه وسلم، والوسيلة التي أمرنا الله أن نبتغيها إليه هي التقرب إليه بطاعته، وهذا يدخل فيه كل ما أمرنا الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الوسيلة لا طريق لنا إليها إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان به وطاعته، وهذا التوسل به فرض على كل أحد. وأما التوسل بدعائه وشفاعته كما يسأله الناس يوم القيامة أن يشفع لهم، وكما كان الصحابة يتوسلون بشفاعته في الاستسقاء وغيره، مثل توسل الأعمى بدعائه حتى رد الله عليه بصره بدعائه وشفاعته، فهذا نوع ثالث من باب قبول الله دعاءه وشفاعته لكرامته عليه، فمن شفع له الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا له فهو بخلاف من لم يدع له ولم يشفع له. ولكن بعض الناس ظن أن توسل الصحابة به كان بمعنى أنهم يقسمون به ويسألون به، فظن هذا مشروعاً مطلقاً لكل أحد في حياته ومماته، وظنوا أن هذا مشروع في حق الأنبياء والملائكة، بل وفي الصالحين وفيمن يظن فيهم الصلاح، وإن لم يكن صالحاً في نفس الأمر]. هذه فائدة مهمة جداً، وهي زبدة لكل ما مر وما يلحق، وهي أنه ليس هناك دليل على ما يفعلون من التوسل البدعي، والعبادات توقيفية وهذه أمور عبادة يتوجه بها الإنسان إلى الله عز وجل ويدين بها. فأعظم دليل وأقوى حجة في منع التوسل البدعي والاستشفاع البدعي هو أنه ليس على ما يفعلون ويقولون أي دليل، والشيخ تحدى الناس في وقته أن يأتوا بشيء من ذلك ولم يأتوا ولا يزال التحدي قائماً. قال رحمه الله تعالى: [وليس في الأحاديث المرفوعة في ذلك حديث في شيء من دواوين المسلمين التي يعتمد عليها في الأحاديث، لا في الصحيحين ولا كتب السنن ولا المسانيد المعتمدة كمسند الإمام أحمد وغيره، وإنما يوجد في الكتب التي عرف أن فيها كثيراً من الأحاديث الموضوعة المكذوبة التي يختلقها الكذابون بخلاف من قد يغلط في الحديث ولا يتعمد الكذب، فإن هؤلاء توجد الرواية عنهم في السنن ومسند الإمام أحمد ونحوه، بخلاف من يتعمد الكذب فإن أحمد لم يرو في مسنده عن أحد من هؤلاء].

الأسئلة

الأسئلة

حكم زيارة النساء للقبور

حكم زيارة النساء للقبور Q يوجد نص حديث يحدد تحريم زيارة النساء للقبور؟ A قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج). وأما قوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) فهذا يتعلق بالرجال. وما دام وجد النص الذي يفسر النص الآخر فلابد من الوقوف عنده، والحديث صحيح، بل النصوص في تحريم زيارة النساء للقبور ليست نصاً واحداً، وعليها عمل جمهور السلف.

حكم زيارة قبور شهداء أحد

حكم زيارة قبور شهداء أحد Q هل زيارة قبور الشهداء أو شهداء أحد مشروعة؟ A زيارة المقابر عموماً مشروعة إنما الممنوع هو السفر من أجل زيارة قبور الشهداء أو البقيع أو غيرها، أما إذا وصل الإنسان إلى المدينة فالأولى والأجدر به أن يزور مقابر البقيع والشهداء وغيرها، وما أشار إليه السائل من إلقاء الزهور أو غيرها من المثمنات أو غير المثمنات فهذا من البدع.

الفرق بين المتفلسفة والمتصوفة

الفرق بين المتفلسفة والمتصوفة Q كثيراً ما يذكر شيخ الإسلام المتفلسفة والمتصوفة، فما الفرق بين المتفلسفة والمتصوفة؟ A المتفلسفة والمتصوفة بينهم وجوه اتفاق ووجوه اختلاف، فأهم وجوه الاختلاف أن المتصوفة أصحاب النزعة التعبدية وتكثر عندهم بدع العبادات، وأكثر مسالكهم تتعلق بالأوراد وبالأحوال القلبية التي يبالغون بها، وتتعلق بالطرق والشيوخ والمريدين وبعض العقائد الباطنية الوهمية. أما المتفلسفة فأغلبهم من الذين ليس عندهم تدين إنما عندهم أفكار، حيث تسرح خيالاتهم في قضايا الاعتقادات والغيبيات فيحكمون العقل والآراء في قضايا الغيب، وأغلب الفلاسفة القدامى على هذا المنهج. وهناك طائفة تجمع بين الأمرين، وهم الصوفية الفلاسفة، والفلاسفة الصوفية يعني: الفلاسفة الذين سلكوا مسلك التصوف عندهم النزعتان: نزعة الإغراق في الخيالات الفكرية والأوهام، ونزعة الإغراق في البدع والأحوال القلبية والبدع العملية، وكذلك بعض المتصوفة عندهم نفس بدع الصوفية وعندهم نزعة فلسفية، فمثلاً ابن عربي وابن الفارض والسهروردي المقتول وابن سيناء عندهم نزعة التفلسف والتصوف، وهناك فلاسفة خلص مثل الفارابي وابن رشد، وهؤلاء الفلاسفة الخلص ما عندهم نزعة تصوف إلا قليل جداً.

أفضلية النبي صلى الله عليه وسلم على الملائكة

أفضلية النبي صلى الله عليه وسلم على الملائكة Q هل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56]، دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملائكة، أم أن الملائكة أفضل من النبي؟ A الراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم بشخصه أفضل من الملائكة، وهذا الراجح هو الذي يدل عليه عموم النصوص، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق من الإنس والجن والملائكة، والله أعلم.

[24]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [24] يتمسك أصحاب التوسلات البدعية بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، وكذا ما يوردونه من السؤال بنفس المخلوقين أحاديثه واهية وموضوعة، وهذا يوردونه في أبواب العقائد والأصول، ويبنون بها قواعدهم ويحاكمون الآخرين إليها، وقد كان السلف رضوان الله عليهم لا يستدلون بمثل درجة أحاديث التوسلات البدعية في فضائل الأعمال ونحوها، فكيف بمن يبني بها ويشيد أصولاً وقواعد.

تنازع الهمذاني وابن الجوزي في وجود الموضوع في مسند أحمد

تنازع الهمذاني وابن الجوزي في وجود الموضوع في مسند أحمد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ولهذا تنازع الحافظ أبو العلاء الهمذاني والشيخ أبو الفرج بن الجوزي: هل في المسند حديث موضوع؟ فأنكر الحافظ أبو العلاء أن يكون في المسند حديث موضوع، وأثبت ذلك أبو الفرج، وبين أن فيه أحاديث قد علم أنها باطلة. ولا منافاة بين القولين، فإن الموضوع في اصطلاح أبي الفرج هو الذي قام دليل على أنه باطل وإن كان المحدث به لم يتعمد الكذب بل غلط فيه؛ ولهذا روى في كتابه في الموضوعات أحاديث كثيرة من هذا النوع. وقد نازعه طائفة من العلماء في كثير مما ذكره وقالوا: إنه ليس مما يقوم دليل على أنه باطل، بل بينوا ثبوت بعض ذلك، لكن الغالب على ما ذكره في الموضوعات أنه باطل باتفاق العلماء. وأما الحافظ أبو العلاء وأمثاله فإنما يريدون بالموضوع المختلق المصنوع الذي تعمّد صاحبه الكذب، والكذب كان قليلاً في السلف. أما الصحابة فلم يعرف فيهم -ولله الحمد- من تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، كما لم يعرف فيهم من كان من أهل البدع المعروفة كبدع الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، فلم يعرف فيهم أحد من هؤلاء الفرق].

براءة الصحابة من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

براءة الصحابة من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتان فائدتان عظيمتان، وهما من جملة اعتقاد السلف في الصحابة رضي الله عنهم، ومن الأمور المتفق عليها مما تبطل به دعاوى أهل الأهواء قديماً وحديثاً، وهو ما بدأت به بعض الاتجاهات وبعض المفتونين -شنشنة لا نزال نسمعها من بعضهم- ودعاوى أن الصحابة منهم من قد يحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يثبت، وهذا لا يمكن؛ لأنه يتنافى مع عصمة الدين وحفظه، ويتنافى مع تزكية الصحابة رضي الله عنهم وعدالتهم، فإن عدالتهم معلومة من الدين بالضرورة، لأنه لا يمكن أن يتأتى ما تكفل الله به من حفظ الدين إلا بعدالة الصحابة. نعم جاءت الأهواء من بعدهم وانتشرت فحدث الكذب، لكن الذين كذبوا كانوا من دون الصحابة أو كذبوا على الصحابة، أما الصحابة رضي الله عنهم فلم يعرف فيهم من تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا معروف بالاستقراء فضلاً عن أنه من لوازم عصمة هذا الدين وثبات الوحي وحفظه. الفائدة الثانية: قال: (كما لم يُعرف فيهم من كان من أهل البدع المعروفة)، أي أن الصحابة لم يكن منهم أحد من أهل الأهواء والفرق، نعم الصحابة رضي الله عنهم كسائر البشر قد يقع منهم أخطاء عن اجتهاد لكن لا يتعلق ذلك بالدين، ولم يُعرف أبداً من خلال استقراء حياة الصحابة أن أحداً من الصحابة ابتدع في الدين أو تابع الفرق. الفرق التي ظهرت في عهد الصحابة من الفرق المشهورة ثلاث فرق فقط: الرافضة بفرقها الأولى، والخوارج، والقدرية هذه الفرق خرجت في عهد الصحابة ولم يكن أحد من الصحابة قال ببدعة من بدع هؤلاء ولا بغيرها من البدع، هذه أيضاً فائدة عظيمة يجب أن نفهمها جيداً، وهذا معلوم بالاستقراء فضلاً عن أنه من الأصول التي هي من حق الصحابة رضي الله عنهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا كان فيهم من قال: إنه أتاه الخضر، فإن خضر موسى مات كما بُيّن هذا في غير هذا الموضع]. حتى لو قيل أن الخضر لم يمت وهو خلاف ضعيف، فإنه لم يحدث من أحد من الصحابة أن ادّعى أنه يأتيه الخضر، وهذا رد على أهل البدع من الصوفية ومن سلك سبيلهم، فإنهم لا يزالون يدّعون أن الخضر يأتيهم، وأنهم يستمدون منه أشياء من الدين، ويعتمدون عليه وعلى الرواية عنه وعلى فعله في كذبهم وفي بدعهم العلمية والعملية والاعتقادية.

تصور الجن للعباد والجهلة بأنهم الخضر

تصور الجن للعباد والجهلة بأنهم الخضر قال رحمه الله تعالى: [والخضر الذي يأتي كثيراً من الناس إنما هو جني تصور بصورة إنسي أو إنسي كذاب، ولا يجوز أن يكون ملكاً مع قوله أنا الخضر، فإن الملك لا يكذب، وإنما يكذب الجني والإنسي. وأنا أعرف ممن أتاه الخضر وكان جنياً مما يطول ذكره في هذا الموضع. وكان الصحابة أعلم من أن يروج عليهم هذا التلبيس، وكذلك لم يكن فيهم من حملته الجن إلى مكة وذهبت به إلى عرفات ليقف بها كما فعلت ذلك بكثير من الجهال والعباد وغيرهم، ولا كان فيهم من تسرق الجن أموال الناس وطعامهم وتأتيه به، فيظن أن هذا من باب الكرامات كما قد بُسط الكلام على ذلك في مواضع. وأما التابعون فلم يعرف تعمد الكذب في التابعين من أهل مكة والمدينة والشام والبصرة، بخلاف الشيعة فإن الكذب معروف فيهم، وقد عرف الكذب بعد هؤلاء في طوائف]. يشير بهذا إلى أن التشيع في ذلك الوقت في الكوفة، ولذلك استثنى مكة والمدينة والشام والبصرة ولم يستثن الكوفة. قال رحمه الله تعالى: [وأما الغلط فلا يسلم منه أكثر الناس، بل في الصحابة من قد يغلط أحياناً وفيمن بعدهم؛ ولهذا كان فيما صنف في الصحيح أحاديث يعلم أنها غلط وإن كان جمهور متون الصحيحين مما يُعلم أنه حق. فالحافظ أبو العلاء يعلم أنها غلط، والإمام أحمد نفسه قد بيّن ذلك وبيّن أنه رواها لتعرف، بخلاف ما تعمد صاحبه الكذب. ولهذا نزه أحمد مسنده عن أحاديث جماعة يروي عنهم أهل السنن كـ أبي داود والترمذي مثل نسخة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده، وإن كان أبو داود يروي في سننه منها، فشرط أحمد في مسنده أجود من شرط أبي داود في سننه. والمقصود أن هذه الأحاديث التي تروى في ذلك من جنس أمثالها من الأحاديث الغريبة المنكرة، بل الموضوعة، التي يرويها من يجمع في الفضائل والمناقب الغث والسمين، كما يوجد مثل ذلك فيما يصنف في فضائل الأوقات، وفضائل العبادات، وفضائل الأنبياء والصحابة، وفضائل البقاع ونحو ذلك، فإن هذه الأبواب فيها أحاديث صحيحة، وأحاديث حسنة، وأحاديث ضعيفة، وأحاديث كذب موضوعة، ولا يجوز أن يُعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة. لكن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا أن يروى في فضائل الأعمال ما لم يُعلم أنه ثابت إذا لم يعلم أنه كذب].

استدلال السلف بالآثار الضعيفة على الأصول إنما هو من باب الاعتضاد

استدلال السلف بالآثار الضعيفة على الأصول إنما هو من باب الاعتضاد هذه تذكرنا بأصل عند السلف، وهذا الأصل يجهله كثير من أهل الأهواء، وقد أثاره بعض المفتونين في أيامنا هذه، حيث ادّعى أن السلف أهل السنة والجماعة في كتبهم وفي مصنفاتهم المعتمدة في العقيدة خاصة كتب الآثار والسنن المطولة أنهم يحشون كتبهم بالأحاديث الضعيفة والروايات التي لا أصل لها، فهذا المفتون ومن تأثر بمقولته ربما يعلمون أنها في الصحيح، لكن أرادوا إثارة الفتنة ظنوا أن السلف يتساهلون في أخذ الدين عن غير المصادر النقية، وأنهم يجوزون الاستدلال بما لا يصح من الموضوع والضعيف، وهذا جهل من بعض الذين تابعوا هذه المقولة، وتجاهل من الذي أثارها؛ لأني أظنه يعرف ذلك. أما السلف رضي الله عنهم فلا يعتمدون في أصل من أصول الدين، ولا في قضية قطعية، ولا في حكم قطعي، ولا في مسألة من المسائل التي عليها جمهورهم على دليل ضعيف أبداً، وكل ما عُد من أصول الدين ومن المسائل القطعية يستند على دليل صحيح، إما آية وإما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وإما من قاعدة شرعية تعتمد على عدة نصوص أو إجماع كل ما كتبه السلف في أصول الدين يعتمد على هذا النهج في الاستدلال، ليس عند السلف من مناهجهم شيء يعتمد على دليل ضعيف أو لم يثبت، لكن بعد استدلالهم على كل مسألة بالدليل الثابت من القرآن والسنة قد يحشدون الآثار الضعيفة، من باب الاعتضاد لا من باب الاعتماد. ومعروف أن الآثار الضعيفة قد تكون أكثر من الصحيحة، كما فعل الآجري وكما فعل عبد الله بن الإمام أحمد، وكما فعل اللالكائي وابن خزيمة وغيرهم من الأئمة قديماً وحديثاً حيث يستدلون على المسألة بدليل صحيح أو دليلين أو ثلاثة أو أربعة، ثم يحشدون عشرات الأدلة الضعيفة، فيظن هذا الجاهل أن هذا الحشد هو الدليل، وليس الأمر كذلك، فهم من عادتهم إذا توثقوا من المسألة الشرعية بدليلها أن يحشدوا الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت ضعيفة ما دام الأصل صحيحاً، ثم الآثار عن الصحابة وعن التابعين، بل وحتى الأشعار والمنامات، فهذا من باب الاعتضاد لا من باب الاعتماد. ومع ذلك كما قال الشيخ لا يستدل أحد من الأئمة بدليل يرى أنه موضوع، لكن كثيراً من الحديث الضعيف هو بمنزلة الحسن فيستدلون به للاعتضاد لا للاعتماد، وإنما كررت هذه المسألة لأنها ظهرت الآن بمذكرات وبمقالات نشرت وشاعت بين طلاب العلم من قِبل أحد المفتونين الذي بدأ ينهش لحوم السلف كما نهج أسلافه، وحسبنا الله ونعم الوكيل!

جواز الاعتضاد بالضعيف من الأدلة على أصل علم ثبوته

جواز الاعتضاد بالضعيف من الأدلة على أصل علم ثبوته قال رحمه الله تعالى: [وذلك أن العمل إذا عُلم أنه مشروع بدليل شرعي وروي في فضله حديث لا يُعلم أنه كذب جاز أن يكون الثواب حقاً، ولم يقل أحد من الأئمة إنه يجوز أن يُجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع]. هذه فائدة كما قلت، بل قد تضمن هذا المقطع فائدتين: الفائدة الأولى: أن العمل إذا عُلم أنه مشروع بدليل شرعي وروي في فضله حديث لا يُعلم أنه كذب جاز أن يكون الثواب حقاً؛ لأن الأصل موجود. الفائدة الثانية: لم يقل أحد من الأئمة إنه يجوز أن يُجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف، هذه أيضاً قاعدة ذهبية يجب أن نفهمها جيداً، وإذا استدل بعض الأئمة في حديث نرى أنه ليس له أصل أو غير صحيح أو ضعيف، فإن المستدل به يرى له وجهاً من القوة، كأن يكون عنده بمثابة الحسن، كما قيل عن الإمام أحمد إنه أحياناً يستدل بالضعيف، والضعيف عنده مثل الحسن عند كثير من أئمة الحديث.

جواز إيراد الآثار الضعيفة والإسرائيليات في الترغيب والترهيب

جواز إيراد الآثار الضعيفة والإسرائيليات في الترغيب والترهيب قال رحمه الله تعالى: [وهذا كما أنه لا يجوز أن يُحرِّم شيء إلا بدليل شرعي، لكن إذا علم تحريمه وروي حديث في وعيد الفاعل له، ولم يعلم أنه كذب جاز أن يرويه، فيجوز أن يروي في الترغيب والترهيب ما لم يعلم أنه كذب، لكن فيما علم أن الله رغّب فيه أو رهّب منه بدليل آخر غير هذا الحديث المجهول حاله. وهذا كالإسرائيليات يجوز أن يروى منها ما لم يُعلم أنه كذب للترغيب والترهيب فيما علم أن الله تعالى أمر به في شرعنا ونهى عنه في شرعنا. فأما أن يثبت شرعاً لنا بمجرد الإسرائيليات التي لم تثبت فهذا لا يقوله عالم، ولا كان أحمد بن حنبل ولا أمثاله من الأئمة يعتمدون على مثل هذه الأحاديث في الشريعة. ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقد غلط عليه. ولكن كان في عُرف أحمد بن حنبل ومن قبله من العلماء أن الحديث ينقسم إلى نوعين: صحيح، وضعيف. والضعيف عندهم ينقسم إلى: ضعيف متروك لا يحتج به، وإلى ضعيف حسن، كما أن ضعف الإنسان بالمرض ينقسم إلى: مرض مخوف يمنع التبرع من رأس المال، وإلى ضعف خفيف لا يمنع من ذلك]. ويقصد بذلك أن المريض إذا كان مرضه مميتاً فقد لا تُقبل بعض تصرفاته فيما يتعلق بماله، كالتبرع من رأس المال، أما إذا كان المرض خفيفاً فلا يمنع من ذلك فيبقى له حق التصرف.

معنى الحديث الضعيف عند الإمام أحمد

معنى الحديث الضعيف عند الإمام أحمد قال رحمه الله تعالى: [وأول من عُرف أنه قسّم الحديث ثلاثة أقسام: صحيح وحسن وضعيف هو أبو عيسى الترمذي في جامعه. والحسن عنده ما تعددت طرقه ولم يكن في رواته متهم وليس بشاذ. فهذا الحديث وأمثاله يسميه أحمد ضعيفاً ويحتج به، ولهذا مثّل أحمد الحديث الضعيف الذي يحتج به بحديث عمرو بن شعيب وحديث إبراهيم الهجري ونحوهما، وهذا مبسوط في موضعه]. ولذلك مما ينبغي أيضاً أن يفهمه طالب العلم جيداً أنه ليس في أصول الدين وفي أمور العقيدة المتفق عليها أو التي عليها جمهور السلف ما يكون دليله ضعيفاً ولا حسناً ولا حتى حديث آحاد، أقصد حديث آحاد لم تحف به قرائن، فالآحاد نوعان: آحاد تحف به قرائن تدل على صحته، وهذا هو الذي استدل به السلف على كثير من قضايا العقيدة، بمعنى أنه آحاد لكنه صحيح حتى عند الذين يطعنون في دلالة الآحاد؛ لأنهم أخذوا مسألة دلالة حديث الآحاد مجردة عن القرائن التي تحف بالحديث وتقويه، لكنهم يتفقون مع جمهور السلف على أن الآحاد إذا كانت معه قرائن تحف به وتدل على صحته أو الجزم بأنه يقيني فإنه يستدل به، ومع ذلك فإنه لم يحدث أن أصلاً من أصول الدين القطعية الكبرى كان دليله دليل آحاد لا تدعمه أدلة أخرى، أو شواهد، أو قواعد، أو إجماع، أو قرائن تحف به، وتجعله بمنزلة الحديث الصحيح القطعي. ومثل ذلك أيضاً فيما يتعلق بالحديث الضعيف، ليس هناك قضية تعبدية شرعية كبرى استدل لها السلف بحديث ضعيف، إلا كما قالوا في باب الفضائل، والفضائل لها قواعدها ولها دلالات ترجع إلى نصوص كثيرة تدخل في قواعد الشرع، فمن هنا قد يستدل بعض السلف على بعض الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف، لكن فيما يرجع إلى قواعد الشرع ولا ينافي قواعد الشرع.

حكم الأحاديث التي تروى في باب السؤال بالمخلوقين

حكم الأحاديث التي تروى في باب السؤال بالمخلوقين قال رحمه الله تعالى: [والأحاديث التي تروى في هذا الباب وهو السؤال بنفس المخلوقين، هي من الأحاديث الضعيفة الواهية بل الموضوعة]. هذا الاستطراد كله لتثبيت الدلالة عند السلف، وليقول إنه لم يحدث أن وجد دليل صحيح يدل على ما ذهب إليه أصحاب التوسلات البدعية، ولا حتى دليل على أدنى درجة من الدرجات التي يستدل بها السلف على الفضائل، أي: إذا كان السلف يستدلون بالحديث الحسن ويستأنسون بالضعيف الذي ليس بموضوع في تأييد بعض الفضائل التي لها أصل في الشرع، فإن هذا لم يوجد في مسألة التوسل البدعي، فليس هناك ما يصح ولا يقوى دليل على ما يقول به هؤلاء المبتدعة. وأقول: الشيخ أراد أن يصل إلى هذه النتيجة، ليبّن أنهم ليس لهم فيما يذهبون أي دليل ولا شبهة دليل.

ذكر طرق حديث عبد الملك بن هارون في التوسل والحكم عليه

ذكر طرق حديث عبد الملك بن هارون في التوسل والحكم عليه قال رحمه الله تعالى: [ولا يوجد في أئمة الإسلام من احتج بها ولا اعتمد عليها. مثل الحديث الذي يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده: (أن أبا بكر الصديق أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنني أتعلم القرآن ويتفلت مني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل اللهم إني أسألك بمحمد نبيك، وبإبراهيم خليلك، وبموسى نجيك، وعيسى روحك وكلمتك، وبتوارة موسى، وإنجيل عيسى، وزبور داود، وفرقان محمد، وبكل وحي أوحيته وقضاء قضيته) وذكر تمام الحديث. وهذا الحديث ذكره رزين بن معاوية العبدري في جامعه، ونقله ابن الأثير في جامع الأصول ولم يعزه لا هذا ولا هذا إلى كتاب من كتب المسلمين، لكنه قد رواه من صنف في عمل يوم وليلة كـ ابن السني وأبي نعيم. وفي مثل هذه الكتب أحاديث كثيرة موضوعة لا يجوز الاعتماد عليها في الشريعة باتفاق العلماء. وقد رواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب فضائل الأعمال، وفي هذا الكتاب أحاديث كثيرة كذب موضوعة. ورواه أبو موسى المديني من حديث زيد بن الحباب عن عبد الملك بن هارون بن عنترة، وقال: هذا حديث حسن مع أنه ليس بالمتصل. قال أبو موسى: ورواه محرز بن هشام عن عبد الملك عن أبيه عن جده، عن الصدّيق رضي الله عنه، وعبد الملك ليس بذاك القوي، وكان بالري، وأبوه وجده ثقتان. قلت: عبد الملك بن هارون بن عنترة من المعروفين بالكذب. قال يحيى بن معين: هو كذاب. وقال السعدي: دجال كذاب. وقال أبو حاتم بن حبان: يضع الحديث. وقال النسائي: متروك. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أحمد بن حنبل: ضعيف. وقال ابن عدي: له أحاديث لا يتابعه عليها أحد. وقال الدارقطني: هو وأبوه ضعيفان. وقال الحاكم في كتاب المدخل: عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني روى عن أبيه أحاديث موضوعة. وأخرجه أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الموضوعات. وقول الحافظ أبي موسى: هو منقطع يريد أنه لو كان رجاله ثقات فإن إسناده منقطع. وقد روى عبد الملك هذا الحديث الآخر المناسب لهذا في استفتاح أهل الكتاب به كما سيأتي ذكره، وخالف فيه عامة ما نقله المفسرون وأهل السير، وما دل عليه القرآن، وهذا يدل على ما قاله العلماء فيه من أنه متروك؛ إما لتعمده الكذب، وإما لسوء حفظه، وتبين أنه لا حجة لا في هذا ولا في ذاك].

ذكر حديث عبد الرحمن بن زيد في التوسل والحكم عليه

ذكر حديث عبد الرحمن بن زيد في التوسل والحكم عليه قال رحمه الله تعالى: [ومثل ذلك الحديث الذي رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب مرفوعاً وموقوفاً عليه أنه لما اقترف آدم الخطيئة قال: (يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، قال: وكيف عرفت محمداً؟ قال: لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، قال: صدقت يا آدم، ولولا محمد ما خلقتك). وهذا الحديث رواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن مسلم الفهري عن إسماعيل بن مسلمة عنه. وقال الحاكم: وهو أول حديث ذكرته لـ عبد الرحمن في هذا الكتاب، وقال الحاكم: هو صحيح. ورواه الشيخ أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة موقوفاً على عمر من حديث عبد الله بن إسماعيل بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم موقوفاً. ورواه الآجري أيضاً من طريق آخر، من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه موقوفاً عليه، وقال: حدثنا هارون بن يوسف التاجر، حدثنا أبو مروان العثماني، حدثني أبو عثمان بن خالد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أنه قال: من الكلمات التي تاب الله بها على آدم: قال: اللهم إني أسألك بحق محمد عليك، قال الله تعالى: وما يدريك ما محمد؟ قال: يا رب رفعت رأسي فرأيت مكتوباً على عرشك: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك].

تصحيح الحاكم لحديث عبد الرحمن بن زيد وبيان غلطه فيه وموقعه بين أئمة الحديث

تصحيح الحاكم لحديث عبد الرحمن بن زيد وبيان غلطه فيه وموقعه بين أئمة الحديث قلت: ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أُنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في كتاب المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه. قلت: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً، ضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي، والدارقطني وغيرهم. وقال أبو حاتم بن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثُر ذلك من روايته، من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك. وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله، فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث وهي موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث. كما صحح حديث زريب بن بثرملي الذي فيه ذكر وصي المسيح، وهو كذب باتفاق أهل المعرفة كما بين ذلك البيهقي وابن الجوزي، وغيرهما. وكذلك أحاديث كثيرة في مستدركه يصححها، وهي عند أئمة أهل العلم بالحديث موضوعة. ومنها ما يكون موقوفاً يرفعه. ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم، وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح، لكن هو في المصححين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه، وإن كان الصواب أغلب عليه، وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه، بخلاف أبي حاتم بن حبان البستي، فإن تصحيحه فوق تصحيح الحاكم وأجل قدراً. وكذلك تصحيح الترمذي والدارقطني وابن خزيمة وابن منده وأمثالهم فيمن يصحح الحديث، فإن هؤلاء وإن كان في بعض ما ينقلونه نزاع، فهم أتقن في هذا الباب من الحاكم. ولا يبلغ تصحيح الواحد من هؤلاء مبلغ تصحيح مسلم، ولا يبلغ تصحيح مسلم مبلغ تصحيح البخاري، بل كتاب البخاري أجل ما صُنف في هذا الباب، والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه، وقد ذكر الترمذي أنه لم ير أحداً أعلم بالعلل منه. ولهذا كان من عادة البخاري إذا روى حديثاً اختُلف في إسناده أو بعض ألفاظه أن يذكر الاختلاف في ذلك لئلا يُغتر بذكره له بأنه إنما ذكره مقروناً بالاختلاف فيه. ولهذا كان جمهور ما أُنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه، بخلاف مسلم بن الحجاج فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها وكان الصواب فيها مع من نازعه. كما روى في حديث الكسوف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات كما روي أنه صلى بركوعين. والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين، وأنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم، وقد بين ذلك الشافعي، وهو قول البخاري وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه. والأحاديث التي فيها الثلاث والأربع فيها أنه صلاها يوم مات إبراهيم، ومعلوم أنه لم يمت في يومي كسوف ولا كان له إبراهيمان، ومن نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب. وكذلك روى مسلم: (خلق الله التربة يوم السبت). ونازعه فيه من هو أعلم منه كـ يحيى بن معين والبخاري وغيرهما، فبينوا أن هذا غلط ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. والحجة مع هؤلاء، فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأن آخر ما خلقه هو آدم وكان خلقه يوم الجمعة، وهذا الحديث المختلف فيه يقتضي أنه خلق ذلك في الأيام السبعة. وقد روي إسناد أصح من هذا أن أول الخلق كان يوم الأحد. وكذلك روى أن أبا سفيان لما أسلم طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بـ أم حبيبة، وأن يتخذ معاوية كاتباً، وغلطه في ذلك طائفة من الحفاظ. ولكن جمهور متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة الحديث، تلقوها بالقبول وأجمعوا عليها وهم يعلمون علماً قطعياً أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وبسط الكلام في هذا له موضع آخر].

تضعيف حديث توسل آدم بمحمد صلى الله عليه وسلم وما يشبهه من الحكايات

تضعيف حديث توسل آدم بمحمد صلى الله عليه وسلم وما يشبهه من الحكايات قال رحمه الله تعالى: [وهذا الحديث المذكور في آدم يذكره طائفة من المصنفين بغير إسناد وما هو من جنسه مع زيادات أخر، كما ذكر القاضي عياض قال: وحكى أبو محمد المكي وأبو الليث السمرقندي وغيرهما: أن آدم عند معصيته قال: اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي، قال: ويروى: تقبل توبتي، فقال الله له: من أين عرفت محمداً؟ قال: رأيت في كل موضع من الجنة مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله. قال: ويروى: محمد عبدي ورسولي، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك، فتاب عليه وغفر له. ومثل هذا لا يجوز أن تُبنى عليه الشريعة ولا يحتج به في الدين باتفاق المسلمين، فإن هذا من جنس الإسرائيليات ونحوها التي لا يعلم صحتها إلا بنقل ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه لو نقلها مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما ممن ينقل أخبار المبتدأ]. يعني مبتدأ الخلق. [وقصص المتقدمين عن أهل الكتاب لم يجز أن يُحتج بها في دين المسلمين باتفاق المسلمين، فكيف إذا نقلها من لا ينقلها لا عن أهل الكتاب ولا عن ثقات علماء المسلمين، بل إنما ينقلها عمن هو عند المسلمين مجروح ضعيف لا يُحتج بحديثه، واضطرب عليه فيها اضطراباً يُعرف به أنه لم يحفظ ذلك، ولا ينقل ذلك ولا ما يشبهه أحد من ثقات علماء المسلمين الذين يُعتمد على نقلهم، وإنما هي من جنس ما ينقله إسحاق بن بشر وأمثاله في كتب المبتدأ، وهذه لو كانت ثابتة عن الأنبياء لكانت شرعاً لهم، وحينئذ فكان الاحتجاج بها مبنياً على أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا أم لا؟ والنزاع في ذلك مشهور. لكن الذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أنه شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وهذا إنما هو فيما يثبت أنه شرع لمن قبلنا من نقل ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أو بما تواتر عنهم، لا بما يروى على هذا الوجه، فإن هذا لا يجوز أن يحتج به في شرع المسلمين أحد من المسلمين]. الخلاصة أن هذه الأدلة لا تثبت، وهي من عُمد أهل البدع الذين يتوسلون التوسلات البدعية، والذين ينسجون أيضاً عليها عقائد باطلة فيما يتعلق بقصة آدم، وفيما يتعلق بما رآه وما شاهده من حول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يعني عدم القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق، ولا يعني أن الأنبياء عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم وأن الإيمان به من أصول دينهم، هذا أمر آخر له أدلته، لكن الذي يُنكره الشيخ هنا الجانب الذي يتعلق بالتوسل البدعي. أما الجوانب الأخرى فلها أحاديث أخرى تدل عليها، أي ما يتعلق بفضل النبي صلى الله عليه وسلم وأن آدم عرفه وآمن به، وأن الأنبياء كلهم أوصاهم الله عز وجل وأوصى أممهم بأن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهذا له أدلة أخرى، مع أن في بعض جزئياته نزاعاً، لكن ما يتعلق بهذه الحكايات التي يتذرّع بها أهل البدع في الاستدلال على التوسل البدعي لا تثبت على نحو ما ذكر الشيخ، وما سيذكره إن شاء الله.

الأسئلة

الأسئلة

شذوذ حديث: (خلق الله التربة يوم السبت)

شذوذ حديث: (خلق الله التربة يوم السبت) Q هل يقال: إنه شاذ؟ A نعم، لأن النصوص متواترة على أن خلق السماوات في ستة أيام تبدأ بالأحد كما ورد في نصوص أخرى، فالأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والتي هي آخر الخلق خلق الله بها آدم، يبقى السبت لم يدخل في أيام الخلق، فيكون في الحديث شذوذ من عدة اعتبارات، وإن كان بعض أهل العلم وجهه بتوجيه متكلّف؛ لكن الشذوذ في متن الحديث ظاهر.

الإجماع مصدر من مصادر العقيدة

الإجماع مصدر من مصادر العقيدة Q ذكرت أن مصادر العقيدة هي الكتاب والسنة والإجماع، فكيف يكون الإجماع مصدراً للعقيدة؟ A سبق الكلام عن هذا، وهو أن الإجماع المقصود به الإجماع المعتبر، وهو إجماع الصحابة في وقتهم قبل الافتراق، ثم اجتماع أهل الحق بعد الافتراق، والإجماع مبناه الكتاب والسنة، بمعنى أنه ليس هناك إجماع إلا مبني على نص أو عدة نصوص.

[25]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [25] طالما يستدل أهل الأهواء والبدع بحديث الأعمى على جواز التوسل البدعي، وليس لهم فيه مستمسك، فإنه طلب أمراً مشروعاً من شخص حي حاضر، والنبي صلى الله عليه وسلم أمره بأمور شرعية ليس فيها ألغاز ولا غموض كما هي طريقة أهل البدع في التوسلات وغيرها، والسلف في القرون الثلاثة كانوا على منهج واحد لم يختلفوا في التوسل، ولكن في العصور المتأخرة كثرت الروايات الضعيفة، وأدخل في الدين ما ليس منه، وكثر المتطفلون وذوو المآرب من أهل الأهواء وغيرهم، حتى أحدثوا في العقائد ما ليس منها.

الكلام على حديث موسى بن عبد الرحمن في التوسل

الكلام على حديث موسى بن عبد الرحمن في التوسل لا يزال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يتكلم عن مسألة استدلال السلف بالضعيف، وقد ذكر أن السلف رحمهم الله لم يستدلوا في تقرير الدين بالأحاديث الضعيفة، وأنهم إنما يأتون بالأحاديث الضعيفة للاعتضاد لا الاعتماد وذلك بشرط ألا تصل إلى حد الوضع والكذب. وذكر أن عندهم في حشد النصوص والآثار مناهج: منهج يعتمدون فيه جمع النصوص بصرف النظر عن تمحيص الصحيح من غير الصحيح، ويتركون العهدة على الرواة، ويتركون الأسانيد لطلاب العلم ليمحّصوا الصحيح من غير الصحيح، وهذا كثير في كتب السنن والمصنفات. وهناك كتب جاءت لتقديم الأحاديث الصحيحة واعتمدت ذلك مثل الكتب الصحيحة، هناك كتب اعتمدت على ما يرى أصحابها أنه يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولو بطرق حسنة أو ضعيفة، لكنهم لا يدرجون في كتبهم ما يسمى بالموضوع أو المكذوب، وقد يكون بعض الأحاديث موضوعاً عند شخص وليس بموضوع عند آخر، ويفرّقون بين الجمع والاستدلال، فإنهم إذا استدلوا لا يستدلون إلا بالصحيح، أما إذا جمعوا فإنهم يجمعون ما يرد لهم من الأسانيد، وقد لا يستبعد الواحد منهم إلا ما ثبت عنده أنه موضوع وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما عدا هذا -فكما ذكرت- أن هناك طوائف من السلف يجمعون الآثار ويتركون تمحيص الصحيح من غير الصحيح لمن يأتي بعدهم، أو لمن يشتغل بهذا الأمر. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ومن هذا الباب حديث ذكره موسى بن عبد الرحمن الصنعاني صاحب التفسير بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً أنه قال: (من سره أن يوعيه الله حفظ القرآن وحفظ أصناف العلم، فليكتب هذا الدعاء في إناء نظيف، أو في صحف قوارير بعسل وزعفران وماء مطر، وليشربه على الريق، وليصم ثلاثة أيام، وليكن إفطاره عليه، ويدعو به في أدبار صلواته: اللهم إني أسألك بأنك مسئول لم يسأل مثلك ولا يسأل، وأسألك بحق محمد نبيك، وإبراهيم خليلك، وموسى نجيك، وعيسى روحك وكلمتك ووجيهك) وذكر تمام الدعاء. وموسى بن عبد الرحمن هذا من الكذابين. قال أبو أحمد بن عدي فيه: منكر الحديث. وقال أبو حاتم بن حبان: دجال يضع الحديث، وضع على ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس كتاباً في التفسير جمعه من كلام الكلبي ومقاتل. ويروى نحو هذا دون الصوم عن ابن مسعود من طريق موسى بن إبراهيم المروزي حدثنا وكيع عن عبيدة عن شقيق عن ابن مسعود. وموسى بن إبراهيم هذا قال فيه يحيى بن معين: كذاب. وقال الدارقطني: متروك. وقال ابن حبان: كان مغفلاً يلقن فيتلقن فاستحق الترك. ويروى هذا عن عمر بن عبد العزيز عن مجاهد بن جبر عن ابن مسعود بطريق أضعف من الأول. ورواه أبو الشيخ الأصبهاني من حديث أحمد بن إسحاق الجوهري: حدثنا أبو الأشعث، حدثنا زهير بن العلاء العتبي حدثنا يوسف بن يزيد عن الزهري، ورفع الحديث قال: (من سره أن يحفظ فليصم سبعة أيام، وليكن إفطاره في آخر هذه الأيام السبعة على هؤلاء الكلمات). قلت: وهذه أسانيد مظلمة لا يثبت بها شيء]. مع ضعف الأسانيد يلاحظ أيضاً نكارة المتون، ففي المتون معان ومطالبات ومتطلبات لا تستاغ، وليس عليها نور النبوة ولا الحكمة أيضاً، فليست من جنس كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا من جنس كلام الصحابة؛ لأن فيها خلطاً بين التكهنات والتخرصات، وبين تعليق الأمور على ما لا تعلق به الأمور مثل الاتكال على غير الله عز وجل فهذه المعاني يدرك بعدها ونشازها بمجرد النظر العقلي، فضلاً عن أن تكون من الحكم أو من المعاني التي يؤبه بها.

بيان أن رواية بعض المصنفين للحديث الضعيف لا يعني الاحتجاج به

بيان أن رواية بعض المصنفين للحديث الضعيف لا يعني الاحتجاج به قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رواه أبو موسى المديني في أماليه، وأبو عبد الله المقدسي، على عادة أمثالهم في رواية ما يروى في الباب، سواء كان صحيحاً أو ضعيفاً، كما اعتاده أكثر المتأخرين من المحدثين، أنهم يروون ما روي به الفضائل، ويجعلون العهدة في ذلك على الناقل، كما هي عادة المصنفين في فضائل الأوقات والأمكنة والأشخاص والعبادات. كما يرويه أبو الشيخ الأصبهاني في فضائل الأعمال وغيره، حيث يجمع أحاديث كثيرة لكثرة روايته، وفيها أحاديث كثيرة قوية صحيحة وحسنة، وأحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة وواهية. وكذلك ما يرويه خيثمة بن سليمان في فضائل الصحابة، وما يرويه أبو نعيم الأصبهاني في فضائل الخلفاء في كتاب مفرد، وفي أول حلية الأولياء. وما يرويه أبو الليث السمرقندي وعبد العزيز الكناني وأبو علي بن البناء وأمثالهم من الشيوخ، وما يرويه أبو بكر الخطيب وأبو الفضل بن ناصر وأبو موسى المديني وأبو القاسم بن عساكر والحافظ عبد الغني وأمثالهم ممن له معرفة بالحديث، فإنهم كثيراً ما يروون في تصانيفهم ما روي مطلقاً على عادتهم الجارية؛ ليعرف ما روي في ذلك الباب لا ليحتج بكل ما روي، وقد يتكلم أحدهم على الحديث ويقول: غريب، ومنكر، وضعيف. وقد لا يتكلم]. وهؤلاء الذين كتبوا على المنهج الأول الذي ذكرته -أعني مجرد الجمع- ليس عندهم اهتمام بتمحيص الروايات ودراسة أسانيدها وتبيين الصحيح من الضعيف، وإن بيّنوا فليس ذلك هو الغالب، نعم قد يقول أحدهم عند حديث من الأحاديث: هذا صحيح أو هذا ضعيف أو شاذ أو منكر لكن لا يلتزم هذه القاعدة، فهم إذاً ليس عندهم إلا مجرد الجمع، وليس كل ما جمعوه يعتبر عندهم صحيحاً ولا حجة، ولا يلزم أن يكونوا أقروه، بمعنى أنهم يروون ويتركون العهدة على الرواة، بل إن عمل كثير من هؤلاء الأئمة والمحدثين على غير مقتضى ما رووه في كثير من الأمور التي فيها شيء من البدع أو فيها شيء من المخالفات للسنة، فإنهم يلتزمون السنة، هذا بالنسبة لأعمالهم وعباداتهم، لكن فيما يروونه لا يقصدون به إلا الحشد والجمع، بخلاف الصنف الثاني الذين سيذكرهم الشيخ، وهم الذين يروون من الحديث ما يرون الاحتجاج به.

الأئمة الذين يروون الحديث لبناء الأحكام عليه

الأئمة الذين يروون الحديث لبناء الأحكام عليه قال رحمه الله تعالى: [وهذا بخلاف أئمة الحديث الذين يحتجون به ويبنون عليه دينهم، مثل مالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وأبي داود، ومحمد بن نصر المروزي، وابن خزيمة، وابن المنذر، وداود بن علي، ومحمد بن جرير الطبري، وغير هؤلاء، فإن هؤلاء الذين يبنون الأحكام على الأحاديث يحتاجون أن يجتهدوا في معرفة صحيحها وضعيفها وتمييز رجالها. وكذلك الذين تكلموا في الحديث والرجال ليميزوا بين هذا وهذا لأجل معرفة الحديث كما يفعل أبو أحمد بن عدي، وأبو حاتم البستي، وأبو الحسن الدارقطني وأبو بكر الإسماعيلي، وكما قد يفعل ذلك أبو بكر البيهقي، وأبو إسماعيل الأنصاري، وأبو القاسم الزنجاني، وأبو عمر بن عبد البر، وأبو محمد بن حزم وأمثال هؤلاء، فإن بسط هذه الأمور له موضع آخر. ولم يذكر من لا يروي بإسناد مثل كتاب وسيلة المتعبدين لـ عمر الملا الموصلي، وكتاب الفردوس لـ شهريار الديلمي، وأمثال ذلك فإن هؤلاء دون هؤلاء الطبقات، وفيما يذكرونه من الأكاذيب أمر كبير. والمقصود هنا، أنه ليس في هذا الباب]. يقصد باب التوسل البدعي. قال رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا، أنه ليس في هذا الباب حديث واحد مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُعتمد عليه في مسألة شرعية باتفاق أهل المعرفة بحديثه، بل المروي في ذلك إنما يعرف أهل المعرفة بالحديث أنه من الموضوعات إما تعمداً من واضعه، وإما غلطاً منه]. هذه في الحقيقة خلاصة كافية، والشيخ سيكررها أيضاً وسيستدل تفصيلاً على أن التوسلات البدعية التي يتدرع بها أهل الأهواء والبدع قديماً وحديثاً ليس فيها حديث واحد مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقوم دليلاً على ما قالوه، فضلاً عن أن يكون هناك حشد من الأدلة كما زعموا، كذلك فيما يتعلق بآثار السلف في التوسل البدعي يقول الشيخ: إن أكثرها ضعيفة، كما سيأتي في الفقرة التالية.

الكلام على ما روي عن السلف في التوسل بالمخلوقات

الكلام على ما روي عن السلف في التوسل بالمخلوقات وأحب أن أنبه إلى أنه يقصد أن هناك أشياء أُثرت عن بعض السلف، لكنها إما أن تكون ضعيفة وهو الغالب، وإما أن تكون اجتهادات خاطئة مخالفة لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومخالفة لما ثبت عن عموم الصحابة، ومخالفة لما اتفق عليه جمهور السلف، وهي مصدر فتنة لكثير من أهل الأهواء والبدع في مسألة التوسل البدعي، وسيأتي الشيخ لها بنماذج في المقطع القادم.

الكلام على اجتماع عبد الملك بن مروان وأبناء الزبير والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

الكلام على اجتماع عبد الملك بن مروان وأبناء الزبير والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [وفي الباب آثار عن السلف أكثرها ضعيفة: فمنها حديث الأربعة الذين اجتمعوا عند الكعبة وسألوا، وهم عبد الله ومصعب ابنا الزبير، وعبد الله بن عمر وعبد الملك بن مروان. ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب مجابي الدعاء. ورواه من طريق إسماعيل بن أبان الغنوي، عن سفيان الثوري، عن طارق بن عبد العزيز، عن الشعبي أنه قال: لقد رأيت عجبا‍ً! كنا بفناء الكعبة أنا، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، فقال القوم بعد أن فرغوا من حديثهم: ليقم كل رجل منكم، فليأخذ بالركن اليماني وليسأل الله حاجته، فإنه يعطى من سعة، ثم قالوا: قم يا عبد الله بن الزبير فإنك أول مولود في الإسلام بعد الهجرة، فقام فأخذ بالركن اليماني، ثم قال: اللهم إنك عظيم تُرجى لكل عظيم، أسألك بحرمة وجهك، وحرمة عرشك، وحرمة نبيك، ألا تميتني من الدنيا حتى توليني الحجاز، ويُسلَّم علي بالخلافة، ثم جاء فجلس. ثم قام مصعب، فأخذ بالركن اليماني، ثم قال: اللهم إنك رب كل شيء، وإليك يصير كل شيء، أسألك بقدرتك على كل شيء، ألا تميتني من الدنيا حتى توليني العراق، وتزوجني بـ سكينة بنت الحسين. ثم قام عبد الملك بن مروان، فأخذ بالركن اليماني، ثم قال: اللهم رب السموات السبع، ورب الأرض ذات النبت بعد القفر، أسألك بما سألك به عبادك المطيعون لأمرك، وأسألك بحقك على خلقك وبحق الطائفين حول عرشك إلى آخره قلت: وإسماعيل بن أبان الذي روى هذا عن سفيان الثوري كذاب. قال أحمد بن حنبل: كتبت عنه، ثم حدث بأحاديث موضوعه فتركناه. وقال يحيى بن معين: وضع حديثاً على السابع من ولد العباس يلبس الخضرة يعني المأمون. وقال البخاري، ومسلم، وأبو زرعة، والدارقطني: متروك. وقال الجوزجاني: ظهر منه على الكذب. وقال أبو حاتم: كذاب. وقال ابن حبان: يضع على الثقات. وطارق بن عبد العزيز الذي ذكر أن الثوري روى عنه لا يُعرف من هو، قال: فإن طارق بن عبد العزيز المعروف الذي روى عنه ابن عجلان ليس من هذه الطبقة. وقد خولف فيها، فرواها أبو نعيم عن الطبراني: حدثنا أحمد بن زيد بن الجريش، حدثنا أبو حاتم السجستاني، حدثنا الأصمعي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: اجتمع في الحجر مصعب وعروة وعبد الله أبناء الزبير، وعبد الله بن عمر فقالوا: تمنوا، فقال عبد الله بن الزبير أما أنا فأتمنى الخلافة، وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة. قال: فنالوا كلهم ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غُفر له. قلت: وهذا إسناد خير من ذاك الإسناد باتفاق أهل العلم، وليس فيه سؤال بالمخلوقات].

الكلام عن المنامات الواردة في التوسل بالمخلوقات ونحوها من الحكايات

الكلام عن المنامات الواردة في التوسل بالمخلوقات ونحوها من الحكايات قال رحمه الله تعالى: [وفي الباب حكايات عن بعض الناس، أنه رأى مناماً قيل له فيه: ادع بكذا وكذا، ومثل هذا لا يجوز أن يكون دليلاً باتفاق العلماء. وقد ذكر بعض هذه الحكايات من جمع الأدعية. وروي في ذلك أثر عن بعض السلف، مثل ما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب مجابي الدعاء، قال: حدثنا أبو هاشم، سمعت كثير بن محمد بن كثير بن رفاعة يقول: جاء رجل إلى عبد الملك بن سعيد بن أبجر، فجس بطنه فقال: بك داء لا يبرأ، قال: ما هو؟ قال: الدبيلة، قال: فتحول الرجل فقال: الله الله، الله ربي، لا أشرك به شيئاً، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم تسليماً، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك وربي يرحمني مما بي، قال: فجس بطنه فقال: قد برئت ما بك علة. قلت: فهذا الدعاء ونحوه قد روي أنه دعا به السلف، ونُقل عن أحمد بن حنبل في منسك المروذي التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء، ونهى عنه آخرون، فإن كان مقصود المتوسلين التوسل بالإيمان به وبمحبته وبموالاته وبطاعته، فلا نزاع بين الطائفتين، وإن كان مقصودهم التوسل بذاته فهو محل النزاع، وما تنازعوا فيه يرد إلى الله والرسول]. في هذا المقطع أشار الشيخ إلى بعض الأمور التي قد تشكل، منها قوله: (فهذا الدعاء ونحوه قد روي أنه دعا به السلف)، هذا أيضاً كلام مجمل لا ندري على أي وجه دعا به السلف، ثم إذا كان أُثر عن السلف وروي عنهم فما مدى صحة هذه الرواية، ثم إنه قد يلجأ بعض أهل العلم أو بعض السلف إلى شيء من هذا عن جهل أو خطأ. كذلك قوله: (ونُقل عن أحمد بن حنبل في منسك المروذي التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء). هذا كلام مجمل، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية فسّره بأحد أمرين، قال: (يحتمل أن يقصد به التوسل بالإيمان به، وبمحبته، وهذا حق)، وهذا هو الغالب، وهذا الذي يتماشى مع قواعد الشرع ومع ما كان عليه السلف من أنهم قد يتوسلون بالأمور الصالحة التي تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم كالتوسل بمحبته وطاعته واتباعه ونحو ذلك. وإن كان المقصود الأمر الآخر، وهو التوسل البدعي، أي: التوسل بذاته، فهذا أيضاً كلام مجمل، فمن هم الذين توسلوا بذاته؟ هل هم الصحابة في أثناء حياته؟ فهذا أمر معلوم، هل هم بعض السلف بعد مماته؟ نعم نقل بعض آثار عن بعضهم أكثرها فيها ضعف، ومنها ما يكون محل اجتهاد لكنه مجمل ربما يفسّر على وجه شرعي صحيح. إذاً: ما يمكن أن يتذرع به بعض أهل البدع مما أُثر عن بعض السلف من التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم قد لا يثبت، وأيضاً يحتاج إلى تفسير، فالكلام المجمل لا يستدل به، لا سيما إذا لم يكن له أصل في الدين، ويتعارض مع قواعد الشرع، ومع إجماع السلف، ويتعارض أيضاً مع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وإذا كل ما يروى من الروايات المجملة يتعارض مع هذه الأصول، فإنه لا بد أن يحمل على تفسير صحيح أو يكون خطأ وزلة من عالم، فالخطأ والزلة ينبغي أن تفسّر على أنها أمر شخصي وقع فيه بعض المعتبرين من أهل العلم عن اجتهاد خاطئ، والزلة قد تقع من العالم فليس معصوماً إلا النبي صلى الله عليه وسلم.

حصول المقصود من الدعاء لا يدل على جوازه

حصول المقصود من الدعاء لا يدل على جوازه قال رحمه الله تعالى: [وليس مجرد كون الدعاء حصل به المقصود ما يدل على أنه سائغ في الشريعة]. هذه شبهة جديدة، فالشيخ بعد أن حرر مسألة الاستدلال وبيّن أنه ليس هناك دليل ثابت يستدل به أهل التوسل البدعي، انتقل إلى شبهة يقولها كثير من أهل البدع قديماً وحديثاً، وهذه الشبهة هي أن بعض الذين يدعون بأدعية بدعية يستجاب لهم، كأن يتوسلوا إلى الأموات والأحياء بطلب حوائج فتحصل لهم أغراضهم ومطالبهم، فظن أهل البدع أن تحصيل هذه المطالب بالوسيلة البدعية دليل على أن هذه الوسيلة شرعية، قالوا: لذلك استجاب الله لهم، فيقولون فلان دعا عند القبر أو دعا صاحب القبر فأجيب دعاؤه، فلان توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكان كذا بعد موته فحصل له مطلوبه وهكذا، وهنا الشيخ سيناقش هذه القضية ويبيّن أن ما يحصل من إجابة لطلبات هؤلاء بالوسيلة البدعية لا تدل على أن عملهم مشروع، إنما هو من باب الابتلاء والفتنة، ومن باب تسخير الشياطين لتؤز هؤلاء المبتدعة إلى البدعة والكفر أزاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وليس مجرد كون الدعاء حصل به المقصود ما يدل على أنه سائغ في الشريعة، فإن كثيراً من الناس يدعون من دون الله من الكواكب والمخلوقين، ويحصل ما يحصل من غرضهم. وبعض الناس يقصد الدعاء عند الأوثان والكنائس وغير ذلك، ويدعو التماثيل التي في الكنائس ويحصل ما يحصل من غرضه، وبعض الناس يدعو بأدعية محرمة باتفاق المسلمين ويحصل ما يحصل من غرضهم. فحصول الغرض ببعض الأمور لا يستلزم إباحته، وإن كان الغرض مباحاً، فإن ذلك الفعل قد يكون فيه مفسدة راجحة على مصلحته، والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فجميع المحرمات من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم قد يحصل لصاحبه به منافع ومقاصد، لكن لما كانت مفاسدها راجحة على مصالحها نهى الله ورسوله عنها. كما أن كثيراً من الأمور كالعبادات والجهاد وإنفاق الأموال قد تكون مضرة، لكن لمّا كانت مصلحته راجحة على مفسدته أمر به الشارع؛ فهذا أصل يجب اعتباره، ولا يجوز أن يكون الشيء واجباً أو مستحباً إلا بدليل شرعي يقتضي إيجابه أو استحبابه، والعبادات لا تكون إلا واجبة أو مستحبة، فما ليس بواجب ولا مستحب فليس بعبادة، والدعاء لله تعالى عبادة إن كان المطلوب به أمراً مباحاً. وفي الجملة فقد نُقل عن بعض السلف والعلماء السؤال به]. أي بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله تعالى: [بخلاف دعاء الموتى والغائبين من الأنبياء والملائكة والصالحين، والاستغاثة بهم والشكوى إليهم؛ فهذا مما لم يفعله أحد من السلف، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا رخّص فيه أحد من أئمة المسلمين].

الكلام على حديث الأعمى في التوسل وما ورد فيه من الروايات

الكلام على حديث الأعمى في التوسل وما ورد فيه من الروايات [وحديث الأعمى الذي رواه الترمذي والنسائي هو من القسم الثاني من التوسل بدعائه، فإن الأعمى قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يرد الله عليه بصره، فقال له: (إن شئت صبرت وإن شئت دعوت، فقال: بل ادعه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويقول: اللهم إني أسألك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد يا رسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه ليقضيها، اللهم فشفعه في) فهذا توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال: (وشفعه في) فسأل الله أن يقبل شفاعة رسوله فيه وهو دعاؤه. وهذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب، وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه صلى الله عليه وسلم ببركة دعائه لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره. وهذا الحديث حديث الأعمى قد رواه المصنفون في دلائل النبوة كـ البيهقي وغيره. رواه البيهقي من حديث عثمان بن عمر عن شعبة عن أبي جعفر الخطمي، قال: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدّث عن عثمان بن حنيف: (أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال له: إن شئت أخرت ذلك فهو خير لك، وإن شئت دعوت، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فيقضيها لي، اللهم فشفعه في وشفعني فيه، قال: فقام وقد أبصر). ومن هذا الطريق رواه الترمذي من حديث عثمان بن عمر، ومنها رواه النسائي وابن ماجه أيضاً. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو غير الخطمي، هكذا وقع في الترمذي وسائر العلماء قالوا: هو أبو جعفر الخطمي وهو الصواب. وأيضاً فـ الترمذي ومن معه لم يستوعبوا لفظه كما استوعبه سائر العلماء، بل رووه إلى قوله: (اللهم شفعه في) قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا عثمان بن عمر حدثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف: (أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: إن شئت صبرت فهو خير لك. قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي، اللهم شفعه في). قال البيهقي: رويناه في كتاب الدعوات بإسناد صحيح، عن روح بن عبادة عن شعبة قال: (ففعل الرجل فبرأ). قال: وكذلك رواه حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي. قلت: ورواه الإمام أحمد في مسنده عن روح بن عبادة كما ذكره البيهقي. قال أحمد: حدثنا روح بن عبادة حدثنا شعبة عن أبي جعفر المديني: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف: (أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله! ادع الله أن يعافيني، قال: إن شئت أخرت ذلك فهو خير لآخرتك، وإن شئت دعوت لك. قال: لا، بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضأ، وأن يصلي ركعتين، وأن يدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى الله في حاجتي هذه، فتقضي لي وتشفعني فيه وتشفعه في. قال: ففعل الرجل فبرئ). ورواه البيهقي أيضاً من حديث شبيب بن سعيد الحبطي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المديني -وهو الخطمي - عن أبي أمامة سهل بن حنيف، عن عثمان بن حنيف قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل ضرير يشتكي إليه ذهاب بصره، فقال: يا رسول الله! ليس لي قائد وقد شق علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد! إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي عن بصري، اللهم فشفعه في وشفعني في نفسي قال عثمان بن حنيف: والله ما تفرقنا ولا طال الحديث بنا حتى

الأسئلة

الأسئلة

حكم طلب الدعاء من شخص ودعاء الله باستجابة دعاء ذلك الشخص

حكم طلب الدعاء من شخص ودعاء الله باستجابة دعاء ذلك الشخص Q هل يجوز تكرار نفس الصورة مع رجل صالح فيطلب منه الدعاء، ثم الطالب يسأل الله عز وجل أن يستجيب فيه دعاء هذا الرجل الصالح؟ A فيما يظهر لي أن هذه الصورة ليس فيها ما يشكل. أما الدعاء بقوله: (اللهم إني أسألك بهذا الرجل الصالح)، فهو انتقال عن الصفة المشروعة إلى الصفة البدعية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز التوسل بذاته في حياته، بينما لا يجوز التوسل بذات غيره لا أحياء ولا أمواتاً فمن هنا قد توجد صورة تحتاج إلى تحرير، فيجوز التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم وأشيائه بمعنى التبرك بها في حياته، وهذا مما اتفق عليه الصحابة، واتفقوا على العكس أيضاً، أنه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لم يتوسلوا بذاته إنما توسلوا بآثاره حتى انقرضت، أي تبركوا بها حتى انقرضت؛ لأن التوسل يأتي على معان كثيرة، والمقصود هنا التبرك. أما في الصورة التي يمكن أن يطلب فيها أحد من الناس من رجل صالح أن يدعو له، ثم هو يطلب من الله أن يستجيب دعاء هذا الرجل الصالح فيه، فهذا مما لا حرج فيه؛ لكن لا يعلّق الدعاء بذات الرجل، لأنه فرق بين ذات النبي صلى الله عليه وسلم وبين بقية الذوات، إذ ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. أما عبارة: (وشفعني فيه)، ففيها إشكال وسيأتي الكلام عنها إن شاء الله.

الحكم على أثر: (يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي)

الحكم على أثر: (يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي) Q ما الحكم في قوله: (يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك وربي يرحمني مما بي)؟ A هذه لا شيء فيها، فمعناها هنا: بدعائك؛ لأن النص فسّر بعضه بعضاً، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يسمع ويستجيب، فالنبي صلى الله عليه وسلم سمع نداء الأعمى ووجهه إلى ذلك، ثم لما قال: يا محمد، استجاب له النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه حقق رغبته بأن دعا له، فالصورة واضحة هنا رغم اختلاف الألفاظ واختلاف السياقات، فإنها كلها تدور على أن النبي صلى الله عليه وسلم وجّه الرجل بأن يتوضأ ويصلي ثم يدعو الله عز وجل، ثم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، ثم يدعو الله بأن يستجيب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيه. فالداعي الرجل الضرير، وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حينما قال: أتوجه إليك يا رسول الله، فالمعنى: أن تدعو لي، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، ثم هو أيضاً دعا الله أن يستجيب فيه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فالمسألة واضحة إن شاء الله. وأما قوله: (يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك وربي يرحمني مما بي)، فكلمة (وربي) فيها إشكال، والظاهر أنها لا بأس بها، والمعنى: أتوجه بك إلى ربنا جميعاً ربي وربك!

الرد على شبهة أن بعض علل الأحكام لا تعرف

الرد على شبهة أن بعض علل الأحكام لا تعرف Q الإسلام دين الفطرة والعقل فكيف لا تُعرف حكم بعض الأمور الشرعية، وكيف أرد على هذه الشبهة؟ A لم يرد أن جميع أمور الدين لا بد أن تُدرك بالفطرة والعقل، بل بعضها يدرك وبعضها لا يُدرك، ثم إنه لم يرد أننا متعبدون بالبحث عن الحكم، بل نحن متعبّدون بالتسليم المطلق لله عز وجل والتصديق بالرسول صلى الله عليه وسلم، فكوننا نقول إن أمور الدين تقتضيها الفطرة فهذا في الجملة، أما التفاصيل فلا؛ لأن العقل والفطرة لا يستقلان بذلك، لكن ندرك بهما الأمور الجملية، مثل ضرورة التوحيد والعبادة والبعث وإرسال الرسل، والحكم في كثير من أمور التشريع تدركها العقول والفطر السليمة على وجه إجمالي لا على سبيل التقصي والكمال، ولا على سبيل الحصر لجميع الحكم.

حكم تقبيل المصحف

حكم تقبيل المصحف Q ما حكم تقبيل المصحف؟ A تقبيل المصحف فيما أعلم لا حرج فيه، إذا لم يكن لمعنى بدعي، أما مجرد تقبيل الإكرام فلا حرج فيه إن شاء الله.

مدى صحة الآثار الواردة عن ابن مسعود وعكرمة في تقبيل المصحف

مدى صحة الآثار الواردة عن ابن مسعود وعكرمة في تقبيل المصحف Q ما مدى صحة الآثار التي وردت عن ابن مسعود وعكرمة في تقبيل المصحف؟ A لا يحضرني مدى صحة هذه الروايات، لكن أُثر ذلك عن كثير من السلف، وإلى اليوم يعتبر هذا من الأمور المقرة عند أهل العلم المعتبرين، إلا أن هناك من يخالف، فالمسألة من الأمور الخلافية، لكن الظاهر لي والله أعلم أنه ليس هناك مانع من تقبيل المصحف إذا كان على سبيل التكريم، والله أعلم، ونسأل الله للجميع التوفيق والسداد. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

[26]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [26] العبادات لا تثبت إلا بنص الشارع، وما ثبت في حالات نادرة عن آحاد من الصحابة أو التابعين وفي مسائل محدودة وخالفهم عليها جمهور الصحابة، فإنه لا يعتد بتلك الآحاد النادرة، سيما إذا كانت النصوص الكثيرة بل والمتواترة قاضية على تلك الجزئيات، وهذا إذا سلمنا بصحة تلك الروايات، وإن كان في الأعم الأغلب أنها قد تكون ضعيفة أو باطلة الإسناد والمتن، والاجتهاد إذا عارض النصوص الواضحة البينة فإنه يلغى، ومثل هذا ما ثبت في التوسل من روايات ضعيفة، وإن ثبت عن آحاد الصحابة، ومن ذلك ما ورد عن عثمان بن حنيف فإنه من هذا الباب.

ما ورد من الاحتجاج بحديث الأعمى بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم

ما ورد من الاحتجاج بحديث الأعمى بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وصلنا في الفتاوى إلى صفحة (268) المقطع الأخير، وكلام الشيخ هنا سيتركّز على حديث يستدل به كثير من أصحاب التوسلات البدعية، وتزيد ألفاظه ومعانيه عن الحديث الأصل الذي ورد فيه أن الأعمى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يدعو له ليكشف الله ضره، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يتوضأ ويصلي ويدعو الله عز وجل في أن يستجيب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ومن ضمن هذه الروايات أيضاً أنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بأن يشفع له، وطلب من الله أن يقبل هذه الشفاعة هذه الصورة وردت في حديث صحيح، وورد في بعض روايات الحديث بأسانيد أخرى وبألفاظ أخرى زيادات تعتبر مصدر فتنة وذريعة لأصحاب التوسل البدعي، وهذا ما سيتحدث عنه الشيخ في الصفحات التالية. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: [ورواه البيهقي من هذه الطريق، وفيه قصة قد يحتج بها من توسل به بعد موته إن كانت صحيحة، رواه من حديث إسماعيل بن شبيب بن سعيد الحبطي، عن شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المديني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، وكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقي الرجل عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة، فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي لي حاجتي، ثم اذكر حاجتك، ثم رح حتى أروح، قال: فانطلق الرجل فصنع ذلك، ثم أتى بعد عثمان بن عفان، فجاء البواب فأخذ بيده، فأدخله على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة وقال: انظر ما كانت لك من حاجة، فذكر حاجته، فقضاها له].

بيان ما ورد أن عثمان بن حنيف يعلم رجلا التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام بعد موته

بيان ما ورد أن عثمان بن حنيف يعلم رجلاً التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام بعد موته في هذه القصة أمور زائدة عن أصل الحديث الأول، من هذه الأمور أن هذه القصة حدثت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها أن هذا الصحابي وجّه هذا الرجل إلى أن يعمل عملاً صورته قريبة من صورة ما حدث للأعمى، لكن بغياب النبي صلى الله عليه وسلم وليس بحضوره، وأنه لا يريد بها التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة إنما أراد التوسل به، ثم أيضاً أن يؤثر هذا التوسل في عثمان رضي الله عنه، وهذا أمر فيه إشكال، إذ كيف يطلب منه أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقضي عثمان حاجته؟ هذه مسألة تدل على أن القصة فيها نوع لبس كما سيذكر الشيخ فيما بعد. ثم إن الذي وجهه إلى ذلك ما أراد أن يتدخل مباشرة في القصة، وإلا لكان من الممكن أن نقول إنه أراد أن يشفع له عند عثمان بعدما يعمل هذا العمل، كأنه يريد الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم على وجه من الوجوه، لكن كان في نية عثمان بن حنيف ألا يذهب به إلى عثمان، إنما تصور القصة أنه يعتقد أنه إذا فعل ذلك فإن هذا العمل بذاته سيؤثر في عثمان رضي الله عنه فيقضي له حاجته. إذاً القصة فيها غرائب وغوامض ومقاطع منفكة عن الأصل الذي وردت فيه، مما يدل على أن هذه الحكاية ليست صحيحة بهذه الصورة، وأن فيها جملة أغلاط وتوهمات، وربما يكون هذا راجعاً إلى أن القصة لا أصل لها، أو أن سندها غير صحيح. قال رحمه الله تعالى: [ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته في، فقال عثمان بن حنيف: ما كلمته، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وجاءه ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أو تصبر؟ فقال له: يا رسول الله ليس لي قائد وقد شق علي، فقال: ائت الميضأة فتوضأ وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه إلى ربي فيجلي لي عن بصري، اللهم فشفعه في، وشفعني في نفسي، قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا وما طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط). قال البيهقي: ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد عن أبيه بطوله، وساقه من رواية يعقوب بن سفيان، عن أحمد بن شبيب بن سعيد قال: ورواه أيضاً هشام الدستوائي عن أبي جعفر عن أبي أمامة بن سهل عن عمه وهو عثمان بن حنيف، ولم يذكر إسناد هذه الطريق. قلت: وقد رواه النسائي في كتاب عمل اليوم والليلة من هذه الطريق، من حديث معاذ بن هشام عن أبيه عن أبي جعفر عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف. ورواه أيضاً من حديث شعبة وحماد بن سلمة كلاهما عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة، ولم يروه أحد من هؤلاء لا الترمذي، ولا النسائي، ولا ابن ماجة من تلك الطرق الغريبة التي فيها الزيادة، طريق شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم. لكن رواه الحاكم في مستدركه من الطريقين، فرواه من حديث عثمان بن عمر حدثنا شعبة عن أبي جعفر المدني سمعت عمارة بن خزيمة يحدث عن عثمان بن حنيف: (أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني فقال: إن شئت أخرت ذلك فهو خير لك، وإن شئت دعوت، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، اللهم فشفعه في وشفعني فيه). قال الحاكم: على شرطهما. ثم رواه من طريق شبيب بن سعيد الحبطي، وعون بن عمارة عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف: (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وجاءه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، وقال: يا رسول الله! ليس لي قائد وقد شق علي، فقال: ائت الميضأة، فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي، فيجلي لي عن بصري، اللهم فشفعه في وشفعني في نفسي، قال عثمان: فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل الرجل وكأن لم يكن به ضر قط). قال الحاكم: على شرط

الكلام على شبيب أحد رواة حديث عثمان بن حنيف

الكلام على شبيب أحد رواة حديث عثمان بن حنيف قال رحمه الله تعالى: [وشبيب هذا صدوق، روى له البخاري، لكنه قد روي له عن روح بن الفرج أحاديث مناكير، رواها ابن وهب، وقد ظن أنه غلط عليه، ولكن قد يقال: مثل هذا إذا انفرد عن الثقات الذين هم أحفظ منه، مثل شعبة وحماد بن سلمة وهشام الدستوائي بزيادة، كان ذلك عليه في الحديث، لا سيما وفي هذه الرواية أنه قال: (فشفعه في وشفعني في نفسي)، وأولئك قالوا: (فشفعه في وشفعني فيه). ومعنى قوله: (وشفعني فيه) أي: في دعائه، وسؤاله لي، فيطابق قوله: (وشفعه في). قال أبو أحمد بن عدي في كتابه المسمى بالكامل في أسماء الرجال، ولم يصنف في فنه مثله: شبيب بن سعيد الحبطي أبو سعيد البصري التميمي حدث عنه ابن وهب بالمناكير، وحدث عن يونس عن الزهري بنسخة الزهري أحاديث مستقيمة، وذكر عن علي بن المديني أنه قال: هو بصري ثقة كان من أصحاب يونس، كان يختلف في تجارة إلى مصر، وجاء بكتاب صحيح. قال: وقد كتبها عن ابنه أحمد بن شبيب، وروى عن عدي حديثين عن ابن وهب عن شبيب هذا عن روح بن الفرج: أحدهما: عن ابن عقيل عن سابق بن ناجية عن ابن سلام قال: مرّ بنا رجل فقالوا: إن هذا قد خدم النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: عنه عن روح بن الفرج عن عبد الله بن الحسين عن أمه فاطمة حديث دخول المسجد. قال ابن عدي: كذا قيل في الحديث عن عبد الله بن الحسين عن أمه فاطمة بنت الحسين عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عدي: ولـ شبيب بن سعيد نسخة الزهري عنده، عن يونس عن الزهري وهي أحاديث مستقيمة. وحدث عنه ابن وهب بأحاديث مناكير. وإن حدثني روح بن الفرج اللذين أمليتهما، يرويهما ابن وهب عن شبيب، وكان شبيب بن سعيد إذا روى عنه ابنه أحمد بن شبيب نسخة الزهري: ليس هو شبيب بن سعيد الذي يحدث عنه ابن وهب بالمناكير التي يرويها عنه، ولعل شبيباً بمصر في تجارته إليها كتب عنه ابن وهب من حفظه فيغلط ويهم، وأرجو أن لا يتعمد شبيب هذا الكذب. قلت: هذان الحديثان اللذان أنكرهما ابن عدي عليه، رواهما عن روح بن القاسم، وكذلك هذا الحديث حديث الأعمى رواه عن روح بن القاسم، وهذا الحديث مما رواه عنه ابن وهب أيضاً، كما رواه عنه ابناه، لكنه لم يتقن لفظه كما أتقنه ابناه، وهذا يصحح ما ذكره ابن عدي، فعُلم أنه محفوظ عنه. وابن عدي أحال الغلط عليه لا على ابن وهب، وهذا صحيح إن كان قد غلط، وإذا كان قد غلط على روح بن القاسم في ذينك الحديثين أمكن أن يكون غلط عليه في هذا الحديث. وروح بن القاسم ثقة مشهور روى له الجماعة؛ فلهذا لم يحيلوا الغلط عليه. والرجل قد يكون حافظاً لما يرويه عن شيخ، وغير حافظ لما يرويه عن آخر، مثل إسماعيل بن عياش فيما يرويه عن الحجازيين، فإنه يغلط فيه، بخلاف ما يرويه عن الشاميين، ومثل سفيان بن حسين فيما يرويه عن الزهري، ومثل هذا كثير فيحتمل أن يكون هذا يغلط فيما يرويه عن روح بن القاسم إن كان الأمر كما قاله ابن عدي، وهذا محل نظر].

رواية الطبراني لحديث عثمان بن حنيف

رواية الطبراني لحديث عثمان بن حنيف قال رحمه الله تعالى: [وقد روى الطبراني هذا الحديث في المعجم، من حديث ابن وهب عن شبيب بن سعيد، ورواه من حديث أصبغ بن الفرج: حدثنا عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف: أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فلقي عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: (ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك عز وجل فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة، وقال: حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فائتنا، ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إلي حتى كلمته في، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أفتصبر؟ فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائت الميضأة، فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات، فقال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا، ولا طال بنا الحديث، حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط). قال الطبراني: روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر واسمه عمير بن يزيد وهو ثقة، تفرد به عثمان بن عمر عن شعبة قال أبو عبد الله المقدسي: والحديث صحيح. قلت: والطبراني ذكر تفرده بمبلغ علمه، ولم تبلغه رواية روح بن عبادة عن شعبة، وذلك إسناد صحيح، يبيّن أنه لم ينفرد به عثمان بن عمر. وطريق ابن وهب هذه تؤيد ما ذكره ابن عدي، فإنه لم يحرر لفظ الرواية كما حررها ابناه، بل ذكر فيها أن الأعمى دعا بمثل ما ذكره عثمان بن حنيف، وليس كذلك، بل في حديث الأعمى أنه قال: (اللهم فشفعه في وشفعني فيه أو قال: في نفسي) وهذه لم يذكرها ابن وهب في روايته، فيشبه أن يكون حدث ابن وهب من حفظه كما قال ابن عدي: فلم يتقن الرواية].

رواية حديث الأعمى بزيادة تدل على التوسل عند كل حاجة

رواية حديث الأعمى بزيادة تدل على التوسل عند كل حاجة قال رحمه الله تعالى: [وقد ذكر أبو بكر بن أبي خيثمة في تاريخه حديث حماد بن سلمة فقال: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا أبو جعفر الخطمي عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف: (أن رجلاً أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت في بصري فادع الله لي، قال: اذهب فتوضأ وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أستشفع بك على ربي في رد بصري، اللهم فشفعني في نفسي، وشفع نبيي في رد بصري، وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك، فرد الله عليه بصره). قال ابن أبي خيثمة: وأبو جعفر هذا الذي حدث عنه حماد بن سلمة اسمه عمير بن يزيد وهو أبو جعفر الذي يروي عنه شعبة. ثم ذكر الحديث من طريق عثمان بن عمر عن شعبة. قلت: وهذه الطريق فيها: (فشفعني في نفسي) مثل طريق روح بن القاسم، وفيها زيادة أخرى وهي قوله: (وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك -أو قال- فعل مثل ذلك). وهذه قد يقال: إنها توافق قول عثمان بن حنيف لكن شعبة وروح بن القاسم أحفظ من حماد بن سلمة، واختلاف الألفاظ يدل على أن مثل هذه الرواية قد تكون بالمعنى، وقوله: (وإن كانت حاجة فعل مثل ذلك) قد يكون مدرجاً من كلام عثمان لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يقل: وإن كانت لك حاجة فعلت مثل ذلك، بل قال: وإن كانت حاجة فعل مثل ذلك].

حكم الزيادة الواردة في حديث الأعمى والتي تدل على التوسل عند كل حاجة

حكم الزيادة الواردة في حديث الأعمى والتي تدل على التوسل عند كل حاجة قال رحمه الله تعالى: [وبالجملة فهذه الزيادة لو كانت ثابتة لم تكن فيها حجة، وإنما غايتها أن يكون عثمان بن حنيف ظن أن الدعاء يدعى ببعضه دون بعض، فإنه لم يأمره بالدعاء المشروع بل ببعضه، وظن أن هذا مشروع بعد موته صلى الله عليه وسلم، ولفظ الحديث يناقض ذلك]. بدأ الشيخ الآن يذكر رأيه في هذه القضية ويفند أصل الاستدلال بها على التوسل البدعي، لكن كلامه في ذلك مفرّق، وستجدون أنه يبدأ بالنقض ثم يستطرد، ثم يعود إلى النقض مرة أخرى، وسيوجزه في كلمات سيأتي ذكرها بعد قليل. فهو يذكر أن هذا الكلام الزائد بعضه من عثمان بن حنيف، وأيضاً ربما يكون عثمان بن حنيف ظن أن ما حدث للأعمى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يصلح بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر خالف فيه إجماع الصحابة، فيكون -إن ثبت- اجتهاد صحابي زلّ في اجتهاده. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن في الحديث، أن الأعمى سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، وأنه علم الأعمى أن يدعو وأمره في الدعاء أن يقول: اللهم فشفعه في. وإنما يدعى بهذا الدعاء إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم داعياً شافعاً له بخلاف من لم يكن كذلك، فهذا يناسب شفاعته ودعاءه للناس في محياه في الدنيا ويوم القيامة إذا شفع لهم].

معنى قوله في حديث الأعمى: (وشفعني فيه)

معنى قوله في حديث الأعمى: (وشفعني فيه) قال رحمه الله: [وفيه أيضاً أنه قال: (وشفعني فيه). وليس المراد أن يشفع للنبي صلى الله عليه وسلم في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كنا مأمورين بالصلاة والسلام عليه، وأمرنا أن نسأل الله له الوسيلة. ففي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال إذا سمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة)]. إذاً: قوله: (وشفّعني فيه) إذا ثبتت فإن المقصود بها الإشارة إلى أنه يدعو الله عز وجل بأن يقبل منه الدعاء كما يقبل من النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن يقبل الله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيه. وقوله: (شفّعني): يعني استجب دعائي، فليس المقصود بالتشفيع بأن يكون له على النبي صلى الله عليه وسلم عدالة أو فضل، ولكن كأنه يقول: اقبل دعائي كما تقبل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا نوع من الإشفاق والحرص على كشف الضر. قال رحمه الله تعالى: [وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة). وسؤال الأمة له الوسيلة هو دعاء له، وهو معنى الشفاعة؛ ولهذا كان الجزاء من جنس العمل، فمن صلى عليه صلى عليه الله، ومن سأل الله له الوسيلة المتضمنة لشفاعته، شفع له صلى الله عليه وسلم، كذلك الأعمى سأل منه الشفاعة، فأمره أن يدعو الله بقبول هذه الشفاعة، وهو كالشفاعة في الشفاعة؛ فلهذا قال: اللهم فشفعه في وشفعني فيه. وذلك أن قبول دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا هو من كرامة الرسول على ربه؛ ولهذا عُدّ هذا من آياته ودلائل نبوته، فهو كشفاعته يوم القيامة في الخلق، ولهذا أمر طالب الدعاء أن يقول: (فشفعه في وشفعني فيه). بخلاف قوله: (وشفعني في نفسي)، فإن هذا اللفظ لم يروه أحد إلا من هذا الطريق الغريب. وقوله: (وشفعني فيه) رواه عن شعبة رجلان جليلان: عثمان بن عمر وروح بن عبادة، وشعبة أجل من روى هذا الحديث، ومن طريق عثمان بن عمر عن شعبة رواه الثلاثة: الترمذي والنسائي وابن ماجه. رواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن عثمان بن عمر عن شعبة. ورواه ابن ماجه عن أحمد بن يسار عن عثمان بن عمر. وقد رواه أحمد في المسند عن روح بن عبادة عن شعبة فكان هؤلاء أحفظ للفظ الحديث، مع أن قوله: (وشفعني في نفسي)، إن كان محفوظاً مثل ما ذكرناه، وهو أنه طلب أن يكون شفيعاً لنفسه مع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم يدع له النبي صلى الله عليه وسلم كان سائلاً مجرداً كسائر السائلين. ولا يسمى مثل هذا شفاعة، وإنما تكون الشفاعة إذا كان هناك اثنان يطلبان أمراً فيكون أحدهما شفيعاً للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره. فهذه الزيادة فيها عدة علل: انفراد هذا بها عمن هو أكبر وأحفظ منه، وإعراض أهل السنن عنها، واضطراب لفظها، وأن راويها عُرف له عن روح هذا أحاديث منكرة. ومثل هذا يقتضي حصول الريب والشك في كونها ثابتة فلا حجة فيها، إذ الاعتبار بما رواه الصحابي لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذي رواه لا يدل على ما فهمه، بل على خلافه. ومعلوم أن الواحد بعد موته إذا قال: (اللهم فشفعه في وشفعني فيه) مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع له كان هذا كلاماً باطلاً، مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا أن يقول: (فشفعه في)، ولم يأمره بالدعاء المأثور على وجهه، وإنما أمره ببعضه، وليس هناك من النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة، ولا ما يُظن أنه شفاعة، فلو قال بعد موته: فشفعه في لكان كلاماً لا معنى له، ولهذا لم يأمر به عثمان، والدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به، والذي أمر به ليس مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا لا تثبت به شريعة، كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات، إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يخالفه لا يوافقه، لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها، بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة، فيجب

استدلال أهل البدع بالشاذ النادر

استدلال أهل البدع بالشاذ النادر لو تأملنا هذه الحكاية التي وقعت في عهد عثمان رضي الله عنه لوجدنا أنها حالة نادرة، هذا إذا ثبتت، وفي ثبوتها نظر كما ذكر الشيخ قبل ذلك. والأمر الآخر: أنه لم يرد في القصة أنها شوهدت من مجموع من الناس، ولكن حدثت بين ثلاثة، وهي دعوى اجتهد فيها عثمان بن حنيف وربما أن عثمان رضي الله عنه لم يطّلع على الأمر أيضاً، بل هو الغالب، فالغالب أن هذا الرجل عمل باجتهاد خاطئ من صحابي ولم يطّلع عليه آخرون، فلا يقال: إن هذا أُقرّ من عثمان أو ممن شهدوا، أو أنه أُقر من جماعة من الصحابة، فغاية ما يقال: إن ثبتت القصة فهي اجتهاد من عثمان بن حنيف مع رجل آخر عمل هذا العمل، وربما كان عمله خطأ، وعثمان بن عفان لم يشهد الموقف، ولكن أمره أن يسأل فسأل ولا يدري ماذا فعل. ثم عثمان رضي الله عنه إن ثبتت القصة حينما قضى حاجته لم يعلم أنه فعل ذلك، ولو علم لأنكر، فأصبح الأمر يرجع إلى اجتهاد من صحابي ولم يعلم به الصحابة الآخرون فضلاً عن أن يوافقوه عليه. ثم إنها حالة نادرة والنادر لا حكم له، وهي قصة واحدة لا يمكن أن يُبنى عليها قاعدة في الدين وتكون سلوكاً يعمل عليه جماعة أو طوائف من المسلمين كما هو حال أهل التوسل البدعي، وهذه قاعدة في كثير من الأمور المشتبهة، أو النصوص والأدلة التي فيها اشتباه، فلا ينبغي أن تكون حجة في أمور تعارض أصول الدين وقواعده العامة التي أجمع عليها المسلمون، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، (كل بدعة ضلالة)، وغير ذلك من القواعد القوية الصارمة، فلا يمكن أن تُخرق هذه القواعد من أجل روايات إن ثبتت فهي فردية. والأمور التي تتعلق بالعبادة فعلها في حالات نادرة في عهد الصحابة دليل على عدم ثبوتها وعدم العمل بها، أو أنها إن ثبتت فليست معتبرة؛ ولذلك نجد أغلب أدلة أهل البدع في استدلالاتهم من هذا النوع الشاذ النادر القليل إن ثبت، أو الذي في دلالته شبهة مثل استدلالهم بقول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة، وهذه يتعلقون بها وكأنها وحي منزّل، مع أنه معروف في سياق قصة عمر ماذا يقصد عمر، وأن التراويح كانت في أصلها سنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركها إلا لعلة، ولما زالت هذه العلة ما استصحبوا السياق، فالشاهد أن استدلالهم بهذه القصة استدلال ساقط على جميع الاعتبارات، ويبقى عمل الصحابة هو الأصل، والصحابة لم يعملوا بشيء من ذلك.

قاعدة فيما يسن فيه الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وما لا يسن

قاعدة فيما يسن فيه الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وما لا يسن قال رحمه الله تعالى: [ولهذا نظائر كثيرة: مثل ما كان ابن عمر يدخل الماء في عينيه في الوضوء، ويأخذ لأذنيه ماء جديداً، وكان أبو هريرة يغسل يديه إلى العضدين في الوضوء ويقول: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل. وروي عنه أنه كان يمسح عنقه ويقول: هو موضع الغل. فإن هذا وإن استحبه طائفة من العلماء اتباعاً لهما، فقد خالفهم في ذلك آخرون وقالوا: سائر الصحابة لم يكونوا يتوضئون هكذا، والوضوء الثابت عنه صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين وغيرهما من غير وجه ليس فيه أخذ ماء جديد للأذنين، ولا غسل ما زاد على المرفقين والكعبين، ولا مسح العنق، ولا قال النبي صلى الله عليه وسلم: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل. بل هذا من كلام أبي هريرة رضي الله عنه جاء مدرجاً في بعض الأحاديث، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء)، وكان صلى الله عليه وسلم يتوضأ حتى يشرع في العضد والساق، فقال أبو هريرة: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل، وظن من ظن أن غسل العضد من إطالة الغرة، وهذا لا معنى له فإن الغرة في الوجه لا في اليد والرجل، وإنما في اليد والرجل الحجلة، والغرة لا يمكن إطالتها، فإن الوجه يغسل كله، لا يغسل الرأس، ولا غرة في الرأس، والحجلة لا يستحب إطالتها وإطالتها مثلة.

المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل

المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما كان يتحرى أن يسير مواضع سير النبي صلى الله عليه وسلم، وينزل مواضع منزله، ويتوضأ في السفر حيث رآه يتوضأ، ويصب فضل مائه على شجرة صب عليها. ونحو ذلك مما استحبه طائفة من العلماء ورأوه مستحباً، ولم يستحب ذلك جمهور العلماء، كما لم يستحبه ولم يفعله أكابر الصحابة، كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهم، لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر رضي الله عنهما، ولو رأوه مستحباً لفعلوه كما كانوا يتحرون متابعته والاقتداء به. وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا فعل فعلاً على وجه العبادة، شُرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصصناه بذلك، كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة، وأن يستلم الحجر الأسود، وأن يصلي خلف المقام، وكان يتحرى الصلاة عند أسطوانة مسجد المدينة، وقصد الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذكر هناك، وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما. وأما ما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده مثل أن ينزل بمكان، ويصلي لكونه نزله لا قصداً لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه. فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول لم نكن متبعين، بل هذا من البدع التي كان ينهى عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة عن سليمان التيمي عن المعرور بن سويد قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سفر فصلى الغداة، ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه فيقولون: صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً، فمن عرضت له الصلاة فليصل، وإلا فليمض. فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه، بل صلى فيه لأنه موضع نزوله، رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصورة، ومتشبه باليهود والنصارى في القصد الذي هو عمل القلب. وهذا هو الأصل، فإن المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل؛ ولهذا لما اشتبه على كثير من العلماء جلسة الاستراحة: هل فعلها استحباباً أو لحاجة عارضة تنازعوا فيها؟ وكذلك نزوله بالمحصب عند الخروج من منى لما اشتبه: هل فعله لأنه كان أسمح لخروجه، أو لكونه سنة؟ تنازعوا في ذلك].

ما انفرد به صحابي اجتهادا لا يعد سنة

ما انفرد به صحابي اجتهاداً لا يعد سنة قال رحمه الله تعالى: [ومن هذا وضع ابن عمر يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم. وتعريف ابن عباس بالبصرة، وعمرو بن حريث بالكوفة]. التعريف المقصود به الجلوس والتعبد في المسجد يوم عرفة، وهذا حدث من ابن عباس ولم يوافقه عليه عامة الصحابة، وهو اجتهاد منه، وابن عباس ومن عمل بعده هذا العمل ربما تحرى فضل هذا اليوم، لا يقصد به التعبد اللازم بحيث تكون سنة من السنن الثابتة. فهذا التعريف لم يكن من عمل عموم الصحابة، ولم يكن من السنة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعلها ولا أقرها، وإنما هو اجتهاد؛ فمثل هذه الأمور النادرة لا تعتبر أدلة، خاصة إذا اتُخذت هذه الأمور ذرائع إلى البدع. وهذا ما حصل، فالذين فعلوها من الصحابة وغيرهم اجتهدوا، وغاية ما كان من الذين عاصروهم أنهم عذروهم بذلك لكن لم يفعلوا فعلهم، ولو سئلوا لأجابوا بالمنع، فاتخاذ ذلك سنة أو طريقة يكون من البدع. فهذه -إذاً- قاعدة ينبغي أن يستفيد منها طالب العلم خاصة في قضايا العبادة والعقيدة، أنه أي أمر يكون القدوة فيه عالم لا يوافقه غيره من العلماء، ينبغي أن يُحمل على أنه غلطة أو زلة أو اجتهاد خاطئ، وأن هذا من ذرائع أهل البدع التي يتخذونها لتأييد بدعهم، ولذلك ما من بدعة من البدع إلا ويجدون لها مثل هذه المستمسكات التي لا تصح في الاستدلال، والتي تسقط بمجرد كونها شاذة أو نادرة، لا سيما إذا بُني عليها وتفرع عنها بدع كثيرة. فأهل البدع مثلاً في مسألة التوسل لا يكتفون بمثل هذه الصورة التي وردت عن عثمان بن حنيف وأمر بها، بل يخرجون عليها صور ما لا نهاية له من الصور، وهذا دليل على أن هذه فتنة، وأنها من الأمور الملبسة التي ينبغي أن ينبه عليها الناس ويتنبه لها طلاب العلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن هذا وضع ابن عمر يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم، وتعريف ابن عباس بالبصرة، وعمرو بن حريث بالكوفة. فإن هذا لما لم يكن مما يفعله سائر الصحابة ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم شرعه لأمته، لم يمكن أن يقال هذا سنة مستحبة. بل غايته أن يقال: هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مما لا يُنكر على فاعله لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، لا أنه سنة مستحبة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته. أو يقال في التعريف: إنه لا بأس به أحياناً لعارض إذا لم يُجعل سنة راتبة]. لعل الشيخ يقصد أن إنساناً مثلاً تذكر فضل هذا اليوم يوم عرفة وهو صائم، ثم ذهب إلى المسجد يتعبد فيتلو القرآن ويدعو لا لاعتقاد أن عمله هذا من السنن، إنما فعله تحرياً للزمن الفاضل والمكان الفاضل، نقول: لو حدث هذا لا على اعتقاد أنه من السنن المشروعة المأمور بها لكان ذلك مما يمكن أن يُسكت عنه، إذا لم يكن دائماً ولم يقصد به أنه متعبّد بذلك، فهذا هو مقصود الشيخ بقوله: (لعارض إذا لم يُجعل سنة راتبة). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا يقول أئمة العلم في هذا وأمثاله تارة يكرهونه، وتارة يسوغون فيه الاجتهاد، وتارة يرخصّون فيه إذا لم يتخذ سنة، ولا يقول عالم بالسنة: إن هذه سنة مشروعة للمسلمين، فإن ذلك إنما يقال فيما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ليس لغيره أن يسن ولا يشرع، وما سنه خلفاؤه الراشدون فإن ما سنوه بأمره فهو من سننه، ولا يكون في الدين واجباً إلا ما أوجبه، ولا حراماً إلا ما حرمه، ولا مستحباً إلا ما استحبه، ولا مكروهاً إلا ما كرهه، ولا مباحاً إلا ما أباحه].

ما اختلف فيه الصحابة فالرد فيه إلى الكتاب والسنة

ما اختلف فيه الصحابة فالرد فيه إلى الكتاب والسنة قال رحمه الله تعالى: [وهكذا في الإباحات، كما استباح أبو طلحة أكل البرد وهو صائم. واستباح حذيفة السحور بعد ظهور الضوء المنتشر حتى قيل هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع، وغيرهما من الصحابة لم يقل بذلك، فوجب الرد إلى الكتاب والسنة]. يشير بذلك إلى أن الصحابة رضي الله عنهم ليسوا معصومين، وأن اجتهاداتهم التي ينفرد الواحد منهم بها قد تكون خاطئة، ولا ينقص من قدرهم واعتبارهم وفضلهم كون الواحد منهم قد يخطئ في اجتهاد يخالفه عليه آخرون، فلذلك لا ينبغي للناس أن يتصيدوا هذه الزلّات ويعتمدوا عليها، ويجعلوها تشريعاً، ولا أن يتصيدوها فيطعنوا فيها بالصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كغيرهم من البشر يقع منهم الخطأ والسهو والنسيان والفهم الخاطئ، ويقع منهم اجتهاد خاطئ، فقد يتأولون النصوص على غير تأولها، لكن هذا يكون في حالات نادرة، بمعنى أنه لا يكون سلوكاً دائماً لصحابي من الصحابة، وإنما يكون عن اجتهاد هو سائغ بالنسبة له، لكن لا يسوغ لغيره أن يقتدي به؛ لأن العبرة بالكتاب والسنة وبما عليه عامة العلماء، ولذلك تجدون المحققين من أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن تبعهم إلى يومنا هذا يبرزون مثل هذه الأمور على أنها تخالف قواعد الشرع ولا يطعنون فيمن فعلها، فالأصل عندهم أنهم يبيّنون وجه الخطأ فيها، وأنها تخالف أصول الكتاب والسنة، وأنها تخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا يجعلون ذلك ذريعة إلى الطعن فيمن فعل أو في دينه أو في قدره، إذا كان ممن له قدر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك الكراهة والتحريم، مثل كراهة عمر وابنه للطيب قبل الطواف بالبيت. وكراهة من كره من الصحابة فسخ الحج إلى التمتع]. يقصد قبل الطواف بالبيت ما إذا تحلل الحاج من التحلل الأول فالأصل أنه يجوز له الطيب ولو لم يطف بالبيت، إذا كان قد رمى الجمرة وحلق مثلاً، فيجوز جاز له أن يلبس ثيابه وأن يتطيب، وهذا ما يسمى بالتحلل الأول، فكره ابن عمر التطيب قبل الطواف مطلقاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكراهة من كره من الصحابة فسخ الحج إلى التمتع أو التمتع مطلقاً، أو رأى تقدير مسافة القصر بحد حده، وأنه لا يقصر بدون ذلك، أو رأى أنه ليس للمسافر أن يصوم في السفر. ومن ذلك قول سلمان: إن الريق نجس. وقول ابن عمر: إن الكتابية لا يجوز نكاحها. وتوريث معاذ ومعاوية رضي الله عنهما للمسلم من الكافر. ومنع عمر وابن مسعود رضي الله عنهما للجنب أن يتيمم. وقول علي وزيد وابن عمر رضي الله عنهم في المفوضة: إنها لا مهر لها إذا مات الزوج. وقول علي وابن عباس في المتوفى عنها الحامل: إنها تعتد أبعد الأجلين. وقول ابن عمر وغيره: إن المحرم إذا مات بطل إحرامه وفعل به ما يفعل بالحلال. وقول ابن عمر وغيره: لا يجوز الاشتراط في الحج. وقول ابن عباس وغيره في المتوفى عنها: ليس عليها لزوم المنزل. وقول عمر وابن مسعود: إن المبتوتة لها السكنى والنفقة. وأمثال ذلك مما تنازع فيه الصحابة، فإنه يجب فيه الرد إلى الله والرسول، ونظائر هذا كثير فلا يكون شريعة للأمة إلا ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن قال من العلماء: إن قول الصحابي حجة فإنما قاله إذا لم يخالفه غيره من الصحابة ولا عُرف نص يخالفه، ثم إذا اشتهر ولم ينكروه كان إقراراً على القول، فقد يقال: هذا إجماع إقراري، إذا عُرف أنهم أقروه لم ينكره أحد منهم، وهم لا يقرون على باطل. وأما إذا لم يشتهر فهذا إن عُرف أن غيره لم يخالفه فقد يقال: هو حجة، وأما إذا عرف أنه خالفه فليس بحجة بالاتفاق. وأما إذا لم يُعرف هل وافقه غيره أو خالفه لم يجزم بأحدهما، ومتى كانت السنة تدل على خلافه كانت الحجة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فيما يخالفها بلا ريب عند أهل العلم]. بعد هذا الاستطراد سيذكر الشيخ النتيجة، وهذا ما جعلنا نطيل القراءة؛ لأجل أن نصل إلى النتيجة في سياق واحد، الشيخ رحمه الله ذكر كثيراً من أقوال بعض الصحابة التي خالفوا فيها الجمهور، بل أحياناً يخالفون فيها مقتضى النصوص عن غير قصد، فأراد بهذا أن يقول إن هذه القصة التي تذرع بها أهل التوسل البدعي هي أعظم شذوذاً مما حدث من الصحابة في مثل هذه المفردات، وهذه النتيجة سيذكرها.

خلاصة الكلام على حديث عثمان بن حنيف في التوسل

خلاصة الكلام على حديث عثمان بن حنيف في التوسل قال رحمه الله تعالى: [وإذا كان كذلك فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعياً له ولا شافعاً فيه، فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعاً بعد مماته، كما كان يُشرع في حياته، بل كانوا في الاستسقاء في حياته يتوسلون به، فلما مات لم يتوسلوا]. من وجوه الاستدلال هنا، وهو استدلال ملزم، أنه لو صحت هذه الحكاية أن عثمان بن حنيف حينما وجّه هذا الرجل، لكان عموم الصحابة وعموم الأمة أحوج إلى مثل هذا في استغاثتهم بعد الجدب أو أثناء الجدب، هذه حاجة عامة ملحّة كبيرة، فلو كان الصحابة يرون مثل هذا لاستشفعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في قبره على نحو ما كان استشفع به الأعمى في حياته، فلما لم يفعلوا ذلك دل على سقوط الدلالة فيما نسب إلى عثمان بن حنيف والرجل الذي عمل بعمله، فإن الضرورة العامة مع عموم الصحابة أقوى وأولى من ضرورة خاصة فردية لم تُعرف وهي مغمورة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل قال عمر رضي الله عنه في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر لا يأكل سمناً حتى يخصب الناس، ثم لما استسقى بـ العباس قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة، لم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في خلافته لما استسقى بالناس. فلو كان توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته كتوسلهم به في حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما؟ ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله. فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد عُلم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره، علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به لا بذاته. وحديث الأعمى حجة لـ عمر وعامة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإنه إنما أمر الأعمى أن يتوسل إلى الله بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه لا بذاته، وقال له في الدعاء: قل اللهم فشفعه في]. هذا واضح بأنه في حياته صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله تعالى: [وإذا قُدّر أن بعض الصحابة أمر غيره أن يتوسل بذاته لا بشفاعته، ولم يأمر بالدعاء المشروع بل ببعضه وترك سائره المتضمن للتوسل بشفاعته، كان ما فعله عمر بن الخطاب هو الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المخالف لـ عمر محجوجاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم حجة عليه لا له، والله أعلم].

الأسئلة

الأسئلة

حكم قول: أنا معتمد على الله ثم معتمد عليك

حكم قول: أنا معتمد على الله ثم معتمد عليك Q ما حكم قول: أنا معتمد على الله ثم معتمد عليك في هذا الشيء؟ A هذا من الأمور التي يتسامح فيها، الاعتماد هو رديف للتوكل، لكن كلمة معتمد أخف من التوكل.

[27]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [27] الإقسام على الله عز وجل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو الإقسام عليه بالأشخاص من الملائكة والنبيين وصالحي المؤمنين كله لم يثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبت عن بعض التابعين جوازه إلا أن النصوص الواضحة وكذا أقوال أهل العلم والمذاهب المتبوعة كلها تنص على حرمة ذلك، وإن سماه بعضهم توسلاً أو كان من باب اليمين، فإنه لا يجوز أن يوضع بين الله وبين خلقه واسطة لا بالإقسام ولا بالتوسل.

الحلف على الله بالمخلوق

الحلف على الله بالمخلوق سيتكلم الشيخ هنا عن القسم الثالث من أقسام التوسل، فإنه قسم التوسل في أكثر من موضع إلى ثلاثة أقسام، تدور هذه الأقسام الثلاثة على ما يلي: القسم الأول: أن المقصود بالتوسل العبادة والطاعة، يعني التوسل بالأعمال الصالحات، وهذا هو المشروع والمطلوب من جميع العباد، أن يتوسلوا إلى الله بأعمالهم في تحقيق ما يرجونه من منافع لهم في الدنيا والآخرة، فهذا القسم لا غُبار عليه، وهو مجمع عليه، وهو الأصل في التوسل. القسم الثاني: التوسل بمعنى طلب الدعاء من الغير، أو طلب الشفاعة من الحي في أمر يقدر عليه، خاصة فيما يتعلق بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، سواء كان التوسل بدعائه أو ما يتفرع عن ذلك من توسع في معنى التوسل، وهو التبرك بأشياء النبي صلى الله عليه وسلم وبذاته، وهذا قد يسمى توسلاً، وهو مشروع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبما بقي من آثاره. القسم الثالث: التوسل بمعنى الإقسام على الله عز وجل بذات النبي صلى الله عليه وسلم، أو الإقسام على الله بالأشخاص، كالأنبياء والصالحين. وهذا هو القسم الثالث الذي سيتكلم عنه الشيخ الآن، ويذكر تفاصيله والقول الحق فيه.

عدم ورود الإقسام على الله عن النبي صلى الله عليه وسلم

عدم ورود الإقسام على الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وأما القسم الثالث مما يسمى توسلاً، فلا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً يحتج به أهل العلم كما تقدم بسط الكلام على ذلك، وهو الإقسام على الله عز وجل بالأنبياء والصالحين أو السؤال بأنفسهم، فإنه لا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ثابتاً لا في الإقسام أو السؤال به، ولا في الإقسام أو السؤال بغيره من المخلوقين]. إذاً القسم الثالث قسّمه الشيخ هنا إلى نوعين: الإقسام به يعني بذاته، أو السؤال به. وأحياناً يختلط الأمران، بمعنى أنه تحتمل الصيغة المعنيين، كأن يقول الطالب من الله عز وجل: أسألك بفلان، قد يُقصد بهذا المعنى القسم، وقد يُقصد بهذا المعنى التوسل، وكلها أيضاً تسمى توسلاً. قال رحمه الله تعالى: [وإن كان في العلماء من سوغه فقد ثبت عن غير واحد من العلماء أنه نهى عنه، فتكون مسألة نزاع كما تقدم بيانه]. يقصد الشيخ أنه هنا قد يرد عن بعض أهل العلم إجازة مثل هذا العمل البدعي، لكن هذا من باب الزلة من العالم أو الاجتهاد الخاطئ، فيقول: لا ينبغي للناس أن يستدلوا على هذه البدع بأقوال أو أفعال حدثت لعلماء معتبرين؛ لأن هذا مما نازع فيه آخرون وهم الذين معهم الدليل. فإذاً: عند التنازع في مثل هذه الأمور يرد الأمر إلى الكتاب والسنة، ويريد شيخ الإسلام أن يصل إلى نتيجة وسيقولها فيما بعد، أننا عندما رددنا هذه الأمور إلى الكتاب والسنة وهي الإقسام على الله، أو التوسل بالذوات أو نحو ذلك، وجدناها ممنوعة بصريح النصوص. إذاً: لا يحتج بقول من خالف في ذلك، مع العلم أن من نُقل عنهم ذلك إما أن يكون النقل مكذوباً أو محرّفاً أو يكون عن اجتهاد خاطئ إن ثبت، وهذا قليل نادر.

عدم جواز الإقسام بغير الله تعالى

عدم جواز الإقسام بغير الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [فيُرد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويبدي كل واحد حجته كما في سائر مسائل النزاع، وليس هذا من مسائل العقوبات بإجماع المسلمين، بل المعاقب على ذلك معتد جاهل ظالم، فإن القائل بهذا قد قال ما قالت العلماء، والمنكر عليه ليس معه نقل يجب اتباعه لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة. وقد ثبت أنه لا يجوز القسم بغير الله لا بالأنبياء ولا بغيرهم كما سبق بسط الكلام في تقرير ذلك. وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن ينذر لغير الله لا لنبي ولا لغير نبي، وأن هذا نذر شرك لا يوفى به. وكذلك الحلف بالمخلوقات لا ينعقد به اليمين، ولا كفارة فيه، حتى لو حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تنعقد يمينه كما تقدم ذكره، ولم يجب عليه كفارة عند جمهور العلماء كـ مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، بل نهى عن الحلف بهذه اليمين، فإذا لم يجز أن يحلف بها الرجل ولا يقسم بها على مخلوق فكيف يقسم بها على الخالق جل جلاله؟]. لا يجوز أن يحلف الرجل بالمخلوقات ولا يقسم بالمخلوقات على مخلوق، فكيف يقسم بها على الخالق جل جلاله؟ بمعنى أنه لا يجوز للإنسان أن يعقد يمينه بمخلوق على مخلوق ولا يليق ذلك، فكيف يعقد اليمين بمخلوق يُقسم به على الله؟ هذا أمر عظيم مستنكر في أصول الشرع وقواعده ونصوصه.

حكم السؤال بالمخلوق من غير قسم

حكم السؤال بالمخلوق من غير قسم قال رحمه الله تعالى: [وأما السؤال به من غير إقسام به فهذا أيضاً مما منع منه غير واحد من العلماء، والسنن الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تدل على ذلك. فإن هذا إنما يفعله من يفعله على أنه قربة وطاعة، وأنه مما يستجاب به الدعاء]. يقصد أن الذين يفعلون هذه الممنوعات من الحلف بغير الله، الإقسام على الله بخلقه أو التوسل بالأنبياء والصالحين بذواتهم أو نحو ذلك كل هذا يُفعل من الذين يفعلونه على وجه التعبّد، ولو كانت المسألة من الأمور العادية لكان الأمر أسهل، لكنهم يفعلون ذلك تعبداً لله وتقرباً إليه. فمن هنا يريد الشيخ أن يجر الخصوم إلى الأصل، وهو أن التعبد الأصل فيه الشرع، فيقول: ما دمتم تتعبدون بهذه الألفاظ وترون أنها من أمور القربة والطاعة، فلا بد أن تُرجع إلى أصلها، وهو أن القربة لا بد أن يكون لها أصل في الدين، ليست من قبيل العادات؛ لأنها لو كانت عادات ما تقربتم بها وجعلتموها من أصول القربات والتعبد لله عز وجل، فما دام أنكم تتعبدون إذاً نعيد هذه الألفاظ والتوسلات إلى القواعد الشرعية، فإذا كان لها أصل في الشرع نتعبد بها، وإن لم يكن لها أصل في الشرع فتكون بدعة مردودة. قال رحمه الله تعالى: [وما كان من هذا النوع فإما أن يكون واجباً وإما أن يكون مستحباً، وكل ما كان واجباً أو مستحباً في العبادات والأدعية فلا بد أن يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، فإذا لم يشرع هذا لأمته لم يكن واجباً ولا مستحباً ولا يكون قربة وطاعة ولا سبباً لإجابة الدعاء، وقد تقدم بسط الكلام على هذا كله. فمن اعتقد ذلك في هذا أو في هذا فهو ضال]. قوله: (في هذا أو في هذا)، يقصد السؤال بالمخلوقين والإقسام على الله بهم، ويدخل في ذلك بالتبع الحلف بالمخلوق. قال رحمه الله تعالى: [فمن اعتقد ذلك في هذا أو في هذا فهو ضال وكانت بدعته من البدع السيئة، وقد تبين بالأحاديث الصحيحة وما استقرئ من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن هذا لم يكن مشروعاً عندهم. وأيضاً فقد تبيّن أنه سؤال لله تعالى بسبب لا يناسب إجابة الدعاء، وأنه كالسؤال بالكعبة والطور والكرسي والمساجد وغير ذلك من المخلوقات، ومعلوم أن سؤال الله بالمخلوقات ليس هو مشروعاً، كما أن الإقسام بها ليس مشروعاً بل هو منهي عنه، فكما أنه لا يسوغ لأحد أن يحلف بمخلوق فلا يحلف على الله بمخلوق ولا يسأله بنفس مخلوق، وإنما يسأل بالأسباب التي تناسب إجابة الدعاء كما تقدم تفصيله].

الكلام على ما ورد من القول بجواز سؤال الله بالمخلوقات

الكلام على ما ورد من القول بجواز سؤال الله بالمخلوقات قال رحمه الله تعالى: [لكن قد روي في جواز ذلك آثار وأقوال عن بعض أهل العلم؛ ولكن ليس في المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ثابت بل كلها موضوعة، وأما النقل عن من ليس قوله حجة فبعضه ثابت وبعضه ليس بثابت. والحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة وفيه: (بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا). رواه أحمد عن وكيع عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال إذا خرج إلى الصلاة: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة، وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته)]. هذا الحديث سيتكلم عنه الشيخ ويبيّن أنه ضعيف ولا يكون حجة في مثل هذه الأمور، لكن هذه العبارة ذكر الشيخ في مواضع كثيرة من كتبه، وذكر غيره، وسيذكر أيضاً هنا أن مسألة الكلام بحق السائلين كلام مجمل؛ لأن الإنسان إذا طلب الله عز وجل أو دعا الله بحق السائلين فيحتمل هذا عدة احتمالات، نكتفي منها باحتمالين، الاحتمال الأول: أن يقصد بذلك ما وعد الله به من حق لا يقصد الإجابة على الله، فهذا ربما يكون مشروعاً لكن يجب أن يتفادى كلمة (حق السائلين)، يقول: اللهم إني أسألك بعملي هذا؛ لأن الله عز وجل وعد المؤمنين بأن يجزيهم على الأعمال الصالحة، بمعنى أن يتوسل إلى الله بعمله كما فعل أصحاب الغار الذين سيذكر قصتهم الشيخ بعد قليل، فهذا من الأمور المشروعة، لكن العبارة فيها لبس، وإن قصد المعنى الآخر أو الاحتمال الآخر وهو أنه يعتقد أن لله حقاً على العباد غير ما أوجبه الله على نفسه، كما تقول المعتزلة: يجب على الله أن يجزي المطيع وأن يعذّب العاصي من باب الإلزام من المخلوق للخالق فهذا لا يجوز. إذاً: العبارة فيها معنى حق ومعنى باطل، والشيخ رد الحديث من حيث إنه ضعيف في السند، لكن هذه العبارات لها معانٍ قد تكون صحيحة، فينبغي أن نتنبه لذلك. قال رحمه الله تعالى: [وهذا الحديث هو من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد، وهو ضعيف بإجماع أهل العلم. وقد روي من طريق آخر وهو ضعيف أيضاً، ولفظه لا حجة فيه، فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم وحق العابدين أن يثيبهم، وهو حق أحقه الله تعالى على نفسه الكريمة بوعده الصادق باتفاق أهل العلم، وبإيجابه على نفسه في أحد أقوالهم، وقد تقدم بسط الكلام على ذلك. وهذا بمنزلة الثلاثة الذين سألوه في الغار بأعمالهم، فإنه سأله هذا ببره العظيم لوالديه، وسأله هذا بعفته العظيمة عن الفاحشة، وسأله هذا بأدائه العظيم للأمانة]. قوله: (هذا)، يعني حق السائلين وهو التوسل بالعمل الصالح، وهو القسم الأول الذي سبق ذكره عند تقسيم التوسل، وهذا استطراد من الشيخ ليبيّن وجوه التشابه بين هذه الأقسام والوجه الجائز والوجوه الباطلة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لأن هذه الأعمال أمر الله بها ووعد الجزاء لأصحابها، فصار هذا كما حكاه عن المؤمنين بقوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193]. وقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:109]. وقال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:15 - 16]. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في السحر: اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا سحر فاغفر لي].

الرد على من يجيز الإقسام على الله بالمخلوقات

الرد على من يجيز الإقسام على الله بالمخلوقات قال رحمه الله تعالى: [وأصل هذا الباب أن يقال: الإقسام على الله بشيء من المخلوقات، أو السؤال له به، إما أن يكون مأموراً به إيجاباً أو استحباباً، أو منهياً عنه نهي تحريم أو كراهة، أو مباحاً لا مأموراً به ولا منهياً عنه. وإذا قيل: إن ذلك مأمور به أو مباح فإما أن يفرق بين مخلوق ومخلوق، أو يقال: بل يشرع بالمخلوقات المعظّمة أو ببعضها، فمن قال: إن هذا مأمور به أو مباح في المخلوقات جميعها لزم أن يسأل الله تعالى بشياطين الإنس والجن فهذا لا يقوله مسلم]. الشيخ سيفيض في هذه المسألة، من باب حصر الخصوم لئلا يكون لهم وجوه يستدلون بها. يقول: إذا قلتم إنه يجوز الإقسام بشيء من المخلوقات على الله عز وجل، فما هي هذه المخلوقات، ربما يقولون: الأمور المعظّمة عند الله عز وجل. يقول: ما هي الأمور المعظّمة؟ ربما يقولون: الأنبياء والرسل مثلاً، أو يقولون: كذا وكذا، قد يقولون مثلاً: كعبة أو نحو ذلك، فهم يخصصون أشياء، فواقع أهل البدع الذين يقسمون بالأشياء أو بالمخلوقات على الله كل منهم يقسم بشيء دون شيء، أي أنهم لا يقسمون بجميع المخلوقات المعظّمة، ولا يرون ذلك مشروعاً، فالشيخ هنا سيأخذهم بهذا ويقول: لِم فرّقتم بين شيء وشيء؟ ثم يضرب أمثلة ويقول لهم: لو أن أحداً أقسم بكذا وكذا من الأمور المعظّمة لقلتم: هذا ممنوع، إذاً: فلماذا جعلتم الإقسام بالأنبياء والصالحين وبعض الأشجار والأحجار يقسم بها، وما يماثلها أو يشابهها من الأمور المعظّمة التي عظّمها الله عز وجل أو أقسم بها في كتابه تجعلون الإقسام بها غير مشروع؟ لِم فرّقتم بين هذا وذاك؟ ثم سيقول: إن هذا التفريق مثل التفريق بين النبيين، فالله عز وجل جعل من آمن ببعض وكفر ببعض كافراً، فكذلك أنتم حينما أقسمتم بأشياء دون أشياء تناقضتم، ولو قيل لكم: أقسموا بجميع الأشياء المعظّمة منعتم ذلك.

إلزام من يجيز السؤال بالمخلوقات أن يسأل بكل مخلوق

إلزام من يجيز السؤال بالمخلوقات أن يسأل بكل مخلوق قال رحمه الله تعالى: [فإن قال: بل يسأل بالمخلوقات المعظمة كالمخلوقات التي أقسم بها في كتابه، لزم من هذا أن يسأل بالليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها ويسأل الله تعالى ويقسم عليه بالخنس الجواري الكنس، والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس، ويسأل بالذاريات ذرواً، فالحاملات وقراً، فالجاريات يسراً، فالمقسمات أمراً، ويسأل بالطور، وكتاب مسطور في رق منشور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، ويسأل ويقسم عليه بالصافات صفاً، وسائر ما أقسم الله به في كتابه، فإن الله يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته فهي دليل على ربوبيته، وألوهيته، ووحدانيته، وعلمه، وقدرته، ومشيئته، ورحمته، وحكمته، وعظمته، وعزته، فهو سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه، ونحن المخلوقون ليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع. بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يقسم بشيء من المخلوقات، وذكروا إجماع الصحابة على ذلك، بل ذلك شرك منهي عنه، ومن سأل الله بها لزمه أن يسأله بكل ذكر وأنثى، وبكل نفس ألهمها فجورها وتقواها، ويسأله بالرياح، والسحاب، والكواكب، والشمس، والقمر، والليل، والنهار، والتين، والزيتون، وطور سينين، ويسأله بالبلد الأمين مكة، ويسأله حينئذ بالبيت، والصفا، والمروة، وعرفة، ومزدلفة، ومنى، وغير ذلك من المخلوقات، ويلزم ذلك أن يسأله بالمخلوقات التي عُبدت من دون الله، كالشمس، والقمر، والكواكب، والملائكة، والمسيح، والعزير، وغير ذلك مما عبد من دون الله ومما لم يعبد من دونه. ومعلوم أن السؤال لله بهذه المخلوقات أو الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في دين الإسلام، ومما يظهر قبحه للخاص والعام]. يقصد بذلك أنه قد اتفق الخاص والعام على أن الإقسام بهذه المخلوقات من أعظم البدع، إذاً فتخصيص بعضها لا دليل عليه، لأنه قد يوجد من يقسم ببعض المخلوقات التي أقسم الله بها، أو التي عظّمها الله عز وجل، فيقول: ما دام هناك اتفاق على أن كثيراً من هذه الأمور لا يجوز الإقسام بها، فما الدليل الذي خصص به هؤلاء المبتدعة الإقسام ببعضها دون بعض. قال رحمه الله تعالى: [ويلزم من ذلك أن يقسم على الله تعالى بالأقسام والعزائم التي تكتب في الحروز والهياكل التي تكتبها الطرقية والمعزّمون. بل ويقال: إذا جاز السؤال والإقسام على الله بها فعلى المخلوقات أولى، فحينئذ تكون العزائم والأقسام التي يقسم بها على الجن مشروعة في دين الإسلام، وهذا الكلام يستلزم الكفر والخروج من الإسلام بل ومن دين الأنبياء أجمعين]. يقصد الشيخ هنا أن كثيراً من الذين يضعون العزائم ويضعون المعلقات التي يعلقون بها تمائم وغيرها، يضعون من ضمن عباراتها الإقسام على أحد من الخلق بأن ينفع هذا الشخص أو يدفع عنه الضر، أو يشفيه من مرضه إلى آخره، فبعض الإنس يقسمون على بعض الجن أو على بعض الإنس والعكس كذلك، ويكتبون ذلك ضمن هذه الأمور سواء عزائم أو غيرها.

الرد على من يخصص بعض المخلوقات المعظمة في سؤال الله بها

الرد على من يخصص بعض المخلوقات المعظمة في سؤال الله بها قال رحمه الله تعالى: [وإن قال قائل: بل أنا أسأله أو أقسم عليه بمعظّم دون معظم من المخلوقات، إما الأنبياء دون غيرهم، أو نبي دون غيره، كما جوز بعضهم الحلف بذلك، أو الأنبياء والصالحين دون غيرهم. قيل له: بعض المخلوقات وإن كانت أفضل من بعض فكلها مشتركة في أنه لا يجعل شيء منها نداً لله تعالى، فلا يُعبد ولا يُتوكل عليه ولا يُخشى ولا يُتقى ولا يُصام له ولا يُسجد له ولا يُرغب إليه، ولا يُقسم بمخلوق، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت)، وقال: (لا تحلفوا إلا بالله). وفي السنن عنه أنه قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك). فقد ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات، لا فرق في ذلك بين الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم ولا فرق بين نبي ونبي. وهذا كما قد سوى الله تعالى بين جميع المخلوقات في ذم الشرك بها وإن كانت معظمة. قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57]. قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة، فقال تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم عبادي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، ويتقربون إلي كما تتقربون إلي. وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52]. فبيّن أن الطاعة لله والرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، وبيّن أن الخشية والتقوى لله وحده، فلم يأمر أن يُخشى مخلوق ولا يُتقى مخلوق. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]، وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]. فبيّن سبحانه وتعالى أنه كان ينبغي لهؤلاء أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله، ويقولوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله، إنا إلى الله راغبون، فذكر الرضا بما آتاه الله ورسوله؛ لأن الرسول هو الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ أمره ونهيه، وتحليله وتحريمه، ووعده ووعيده فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. فليس لأحد أن يأخذ من الأموال إلا ما أحله الله ورسوله، والأموال المشتركة، كمال الفيء والغنيمة والصدقات عليه أن يرضى بما آتاه الله ورسوله منها، وهو مقدار حقه لا يطلب زيادة على ذلك، ثم قال تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [التوبة:59]، ولم يقل: ورسوله؛ فإن الحسب هو الكافي، والله وحده هو كاف عباده المؤمنين كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] أي هو وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين. هذا هو القول الصواب الذي قاله جمهور السلف والخلف كما بُيّن في موضع آخر، والمراد أن الله كاف للرسول ولمن اتبعه، فكل من اتبع الرسول فالله كافيه وهاديه وناصره ورازقه، ثم قال تعالى: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59] فذكر الإيتاء لله ورسوله، لكن وسّطه بذكر الفضل فإن الفضل لله وحده بقوله: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59] ثم قال تعالى: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59] فجعل الرغبة إلى الله وحده دون الرسول وغيره من المخلوقات]. يريد بذلك كما سيذكر أن التوسلات البدعية كلها خلاف ذلك، بمعنى أن من توسل توسلاً بدعياً فكأنه لم يجعل الله وح

الأسئلة

الأسئلة

التأسيس والتوسع في علم العقيدة

التأسيس والتوسع في علم العقيدة Q أريد أن أتوسع في علم العقيدة، فهل ترشدني إلى بعض الكتب القوية في هذا الفن، علماً بأني قرأت كتاب التوحيد وشروحه وكذلك الواسطية والتدمرية، وحفظت بعض المتون؟ A فيما يتعلق بهذا السؤال وأمثاله أقول: من الصعب أن تكون الإجابة واحدة؛ لأن كل طالب علم له ظروفه وله إمكاناته وقدراته الذاتية، وأيضاً استعداده ومدى وجود الوقت عنده، فمثل هذا الأخ الذي قرأ هذه الكتب وحفظ بعض المتون ربما يقصد بالمتون في العقيدة وهو الغالب، إذا أراد أن يتوسع فليعلم أن معنى ذلك أن يتخصص ليفيد؛ لأن طالب العلم الذي يريد أن يحصّن نفسه يكفيه مثل هذه الكتب، إذا كان قرأ قبلها الأصول الثلاثة والمسائل الأربع، وكتاب التوحيد، وحفظ كما يذكر المتون الأساسية مثل متن الطحاوية، متن لمعة الاعتقاد أو سلّم الوصول أو نحو ذلك إذا حفظ هذه المتون، ثم أخذ شرحاً من شروحها أو شروح أحدها، فقد أسس العقيدة بأساسياتها الضرورية. فإذا كان ممن عنده رغبة وهواية للاستزادة فأرى أن يتدرج ويجمع بين اتجاهين: كتب العقيدة الجامعة الموسّعة مثل شرح الطحاوية، أو معارج القبول التي تأخذ العقيدة على المسائل بصياغة علمية وتستدل بعد الصياغة. والجانب الثاني لا يستغني عنه: وهو أخذ كتب العقيدة المسندة بالآثار. فيجمع بين الاتجاهين من أجل أن يستزيد ويتعمق ويجمع بين أقوال السلف كما وردت، وبين خلاصة أقوال السلف كما عبّر عنها هؤلاء العلماء. وعلى الأخ أن يقرأ كتاب الحموية ما دام قرأ الواسطية والتدمرية، أما كتب الآثار الجامعة التي أشرت إليها فهي كثيرة، مثل السنة لـ أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد، وشرح السنة للالكائي، ولـ ابن بطة كذلك الإبانة الصغرى والكبرى، وكذلك الشريعة للآجري، فهذه الكتب وأمثالها استوعبت أصول السلف بالرواية والإسناد.

مدى صحة ما ورد عن عمر من النهي عن الحلق

مدى صحة ما ورد عن عمر من النهي عن الحلق Q ما صحة ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نهى أن يحلق الرجل شعره وأمر بالتقصير، إلا لحج أو عمرة، لعدم التشبه بالخوارج أو الرافضة؟ A ورد أن الخوارج سيماهم التحليق، وأيضاً ورد عن عمر وأظنه ثابتاً عنه أنه حينما جيء إليه بـ صبيغ بن عسل التميمي الذي خاض في القدر، فتش رأسه ولما رآه غير محلوق، قال: لو رأيتك محلوق الرأس لقطعت رأسك أو نحو ذلك، بمعنى أنه يجزم أنه من الخوارج، والخوارج أُمر الصحابة بقتلهم. هذا يدل على أن من علامات الخوارج التحليق فالذي يظهر لي أن التزام الحلق وجعله شعاراً هو الممنوع، وهو من سمات الخوارج. أما كون الإنسان يحلق شعره إذا طال فهذا أمر عادي، سواء حلقه بسبب أو بغير سبب. في المدارس يلاحظ أن الشباب الصغار حدثاء الأسنان إذا طالت شعورهم قد يكون فيه تشبه ببعض الفسقة الفجار، ووسيلة إلى الفتنة والزينة، فطلب الحلق تفادياً لهذه الظاهرة، لكن لا يعني ذلك أن يبقى الرأس دائماً محلوقاً، والذي أعرف أن في المدارس يلزم الطلاب بحلق رءوسهم إذا طالت بشكل يؤدي إلى محاذير.

معنى الحلف بالطلاق

معنى الحلف بالطلاق Q لو حلف شخص على آخر بالطلاق أن يفعل ثم لم يفعل، فهل يدخل هذا تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)؟ A لا، والحاصل: أن الذين يحلفون بالطلاق لا يقسمون بالطلاق، إنما سمي حلفاً لأنه يقصد به العزم والتأكيد، وأغلب صور الحلف بالطلاق أن يقول: عليه الطلاق أن يفعل كذا، فجعل الطلاق وسيلة للتأكيد والعزم، وليس معناه أنه يقسم بالطلاق يقول: والطلاق! إذاً: صيغة الحلف بالطلاق السائدة والمعروفة عند عامة الذين يحلفون بالطلاق: أن يفرض على نفسه الطلاق إذا لم يفعل كذا، أو لم يفعل غيره كذا، فيقول: عليه الطلاق إذا لم يفعل فلان أو لم يترك فهذه الصيغة السائدة تسمى: الحلف بالطلاق عند الناس، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[28]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [28] الإقسام بغير الله تعالى سواء بالنبي أو غيره والرغبة إليه والتوجه كله من الابتداع والإحداث في الدين، وإدخال ما ليس منه فيه، وفيه من اتخاذ الواسطة والغلو في الشخص وتعظيمه، وجماع الأمر في ذلك أن يتوجه الإنسان بنفسه ويطرق أبواب السماء، أو يطلب من رجل صالح أن يدعو له، أو غير ذلك من الأسباب المشروعة التي جاءت نصوص الوحي بتبيانها.

حكم سؤال الله بالمخلوق

حكم سؤال الله بالمخلوق تكلم الشيخ فيما سبق في مسألة الشفاعة الممنوعة، واستطرد في مسألة الإقسام على الله عز وجل، وأنه لا تجوز، سواء كان من باب التوسل، أو من باب اليمين ونحو ذلك؛ فإنه لا يجوز أن يوضع بين الله والخلق واسطة، لا بالإقسام ولا بالتوسل. وسيتكلم هنا عن مسألة الإقسام بغير الله والرغبة إليه ونحو ذلك، وما يترتب على هذا من الابتداع، أو ما ابتدع الناس في هذا الجانب، خاصة في الإقسام بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودعوى أن ذلك من تعظيمه. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وإذا كان الإقسام بغير الله والرغبة إليه وخشيته وتقواه ونحو ذلك هي من الأحكام التي اشتركت المخلوقات فيها؛ فليس لمخلوق أن يقسم به، ولا يتقي ولا يتوكل عليه وإن كان أفضل المخلوقات، ولا يستحق ذلك أحد من الملائكة والنبيين، فضلاً عن غيرهم من المشايخ والصالحين. فسؤال الله تعالى بالمخلوقات إن كان بما أقسم به وعظمه من المخلوقات؛ فيسوغ السؤال بذلك كله]. قصد المؤلف بقوله: (وعظمه): مما يعظمه الناس، وخاصة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن له من المحبة والتوقير ما ليس لغيره من الخلق، لكن هذا لا يبرر أن يقسم به على الله؛ لأن حق الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو حق له، والمسلم إنما يحقق الشرف والقرب إلى الله عز وجل باتباعه الرسول صلى الله عليه وسلم، لا بالإقسام بحقه، ولا الإقسام بذاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز جعله وسيطاً بذاته أو بحقوقه بين العبد والخالق. وسبق الكلام على مسألة التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم، وفهمت أن بعض الإخوان أشكل عليه جانب من حديثي في درس سابق، وهو أني -فيما أظن- قلت له: يجوز في عهد النبي صلى الله عليه وسلم التوسل بذاته الذي هو بمعنى التبرك، على اعتبار أن بعض الناس يسمي التبرك توسلاً. أقول: نعم، النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي يجوز التبرك بذاته، لا التوسل بمعنى اتخاذ ذاته وسيلة بين الله والعبد، هذا لا يجوز، لكن التبرك بمعنى التماس البركة بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأشيائه وذاته في حياته؛ لأن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. وأما التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت فعلى نوعين: النوع الأول: التبرك الذي نتحدث عنه، بمعنى: التماس البركة، لا اتخاذه واسطة بين الله وبين خلقه، ولكن التبرك فيما يتعلق بمصالح الناس الدنيوية ونحوها؛ هذا نوع. النوع الثاني: التوسل به بمعنى أن يطلب منه الإنسان الدعاء، كما حدث للأعمى، وكلتا الصورتين لا تكونان إلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياته، وأيضاً بما بقي من أشيائه بعد مماته -وقد انقرضت فلم يبق من أشياء النبي صلى الله عليه وسلم التي استعملها شيء- فمن هنا نقول جزماً: انقطع التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بأي شكل من الأشكال وبأي صورة من الصور، سواء كان التبرك بأشيائه أو بذاته في حياته، فقد انتهى ذلك، أو كان التوسل بمعنى: طلب دعائه؛ وهذا انقطع بوفاته صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يملك أن يجيب، ولا يملك أن يدعو بعد وفاته فقد لقي ربه.

بطلان التفريق بين المخلوقات في سؤال الله بها

بطلان التفريق بين المخلوقات في سؤال الله بها قال رحمه الله تعالى: [فسؤال الله تعالى بالمخلوقات إن كان بما أقسم به وعظمه من المخلوقات فيسوغ السؤال بذلك كله، وإن لم يكن سائغاً لم يجز أن يسأل بشيء من ذلك، والتفريق في ذلك بين معظَّم ومعظّم كتفريق من فرق فزعم أنه يجوز الحلف ببعض المخلوقات دون بعض، وكما أن هذا فرق باطل فكذلك الآخر. ولو فرَّق مفرِّق بين ما يؤمن به وبين ما لا يؤمن به؛ قيل له: فيجب الإيمان بالملائكة والنبيين، ويؤمن بكل ما أخبر به الرسول، مثل منكر ونكير، والحور العين، والوِلْدَان وغير ذلك، أفيجوز أن يقسم بهذه المخلوقات لكونه يجب الإيمان بها، أم يجوز السؤال بها كذلك؟ فتبين أن السؤال بالأسباب إذا لم يكن المسئول به سبباً لإجابة الدعاء، فلا فرق بين السؤال بمخلوق ومخلوق، كما لا فرق بين القسم بمخلوق ومخلوق، وكل ذلك غير جائز؛ فتبين أنه لا يجوز ذلك كما قاله من قاله من العلماء، والله أعلم]. يعني: فبينوا أن السؤال بالأسباب إذا لم يكن المسئول به سبباً شرعياً لإجابة الدعاء كالعمل الصالح، فلا فرق بين السؤال بالمخلوق والمخلوق. فلا يزال الشيخ يقرر ما سبق الكلام عنه، ولا يزال يرد على أولئك الذين يتوسلون بالأشياء والمخلوقات ويجعلونها سبباً لإجابة الدعاء، وليس ذلك عندهم في جميع الأوقات، بل يخصون أفراداً أو أنواعاً من المخلوقات، ومشاهد وآثاراً وأشخاصاً بعينها، فالشيخ يقول: هناك أشياء معظمة كتعظيم ما تعبدونه وتتخذونه مشاهد وآثار وسائط عند الله أنتم لا تجيزون أن تكون واسطة عند الله، هذا فرق. إذاً: فيغلق مبدأ اتخاذ الواسطة إلا إذا كان لسبب شرعي، والسبب الشرعي هو عمل الإنسان نفسه، أو ما شرعه الله مثل طلب الدعاء من الرجل الصالح ونحو ذلك.

معنى استفتاح أهل الكتاب على الكفار في الجاهلية والرد على من استدل به على التوسل البدعي

معنى استفتاح أهل الكتاب على الكفار في الجاهلية والرد على من استدل به على التوسل البدعي قال رحمه الله تعالى: [وأما قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:89]، فكانت اليهود تقول للمشركين: سوف يبعث هذا النبي ونقاتلكم معه فنقتلكم، لم يكونوا يقسمون على الله بذاته ولا يسألون به، أو يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الأمي لنتبعه ونقتل هؤلاء معه. هذا هو النقل الثابت عند أهل التفسير، وعليه يدل القرآن؛ فإنه قال تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} [البقرة:89]، والاستفتاح: الاستنصار، وهو طلب الفتح والنصر، فطلب الفتح والنصر به هو أن يبعث فيقاتلونهم معه؛ فبهذا ينصرون، ليس هو بإقسامهم به وسؤالهم به، إذ لو كان كذلك لكانوا إذا سألوا أو أقسموا به نصروا، ولم يكن الأمر كذلك، بل لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نصر الله من آمن به وجاهد معه على من خالفه. وما ذكره بعض المفسرين من أنهم كانوا يقسمون به أو يسألون به؛ فهو نقل شاذ مخالف به للنقول الكثيرة المستفيضة المخالفة له]. يقصد الشيخ شيئاً سيذكره بعد قليل، فأحب أن أنبه على أن الشيخ رد على دعوى يدعيها أهل البدع من أصحاب التوسلات البدعية، ويعتمدون فيها على أحاديث ضعيفة، يدعون أن الاستفتاح الذي كان يستفتح به أهل الكتاب هو السؤال بالنبي الذي سيبعث أن ينصرهم، فيقول الشيخ: إن هذا لم يحدث، وهو مبني على أحاديث مكذوبة. والأمر الآخر: أنه ما كان هذا من الاستفتاح الذي كانوا يستفتحون به، وإنما كان بنو إسرائيل يتوعدون العرب بأنه سيبعث نبي يقاتلونهم معه، ويقولون للعرب: اصبروا قليلاً! سيأتينا نبي ينصرنا ونقاتلكم معه، فننصر عليكم. هذا هو نوع الاستفتاح الذي كانوا يستفتحون به ويتوعدون به. أما أنهم يسألون بحق النبي فهذا لم يثبت، وما ورد في ذلك من الأحاديث إنما هو ضعيف أو موضوع لا أصل له. قال رحمه الله تعالى: [وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في (دلائل النبوة)، وفي كتاب (الاستغاثة الكبير)، وكتب السيرة ودلائل النبوة والتفسير مشحونة بذلك. قال أبو العالية وغيره: كان اليهود إذا استنصروا بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا حتى نغلب المشركين ونقتلهم، فلما بعث الله محمداً ورأوا أنه من غيرهم؛ كفروا به حسداً للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآيات: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]. وروى محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن رجال من قومه قالوا: مما دعانا إلى الإسلام -مع رحمة الله وهداه- ما كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن؛ فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، كثيراً ما كنا نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله محمداً رسولاً من عنده أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدونا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به؛ ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات التي في البقرة: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]. ولم يذكر ابن أبي حاتم وغيره ممن جمع كلام مفسري السلف إلا هذا، وهذا لم يذكر فيه السؤال به عن أحد من السلف، بل ذكروا الإخبار به، أو سؤال الله أن يبعثه: فروى ابن أبي حاتم عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:89]، قال: يستظهرون، يقولون: نحن نعين محمداً عليهم، وليسوا كذلك، يكذبون. وروى عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}، قال: كانوا يقولون: إنه سيأتي نبي، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:89]. وروى بإسناده عن ابن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد قال: أخبرني عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهوداً كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور و

الكلام على حديث ابن عباس في معنى استفتاح اليهود على الذين كفروا

الكلام على حديث ابن عباس في معنى استفتاح اليهود على الذين كفروا قال رحمه الله تعالى: [وأما الحديث الذي يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود؛ فعاذت بهذا الدعاء: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا دعوا بهذا الدعاء؛ هزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به؛ فأنزل الله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:89]، وهذا الحديث رواه الحاكم في مستدركه، وقال: أدت الضرورة إلاَّ إخراجه، وهذا مما أنكره عليه العلماء]. وفي نسخة: (إلى إخراجه)، وكلتاهما صحيحتان. وقصد الشيخ: أن هذا الحديث اضطر بحكم سنده فيما يظهر لي أن يخرجه، هذا الذي يظهر أنه التزم إخراج الأحاديث على شرط الصحيحين، فتوهم أن هذا على شرط الصحيحين. وقول المؤلف رحمه الله تعالى: (وهذا مما أنكره عليه العلماء). يعني: أنكروا وما وافقوه أن هذا على شرط الصحيحين، كما هو معروف أنه استدرك على الحاكم مستدركات كثيرة، من ضمنها هذا الحديث. قال رحمه الله تعالى: [فإن عبد الملك بن هارون من أضعف الناس، وهو عند أهل العلم بالرجال متروك، بل كذاب، وقد تقدم ما ذكره يحيى بن معين وغيره من الأئمة في حقه. قلت: وهذا الحديث من جملتها، وكذلك الحديث الآخر الذي يرويه عن أبي بكر كما تقدم. ومما يبين ذلك أن قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:89]، إنما نزلت باتفاق أهل التفسير والسير في اليهود المجاورين للمدينة أولاً؛ كبني قينقاع، وقريظة، والنضير، وهم الذين كانوا يحالفون الأوس والخزرج]. يعني: لم تنزل هذه الآيات في أهل خيبر باتفاق المفسرين؛ لأنها وردت في حال اليهود الذين هم جيران أهل المدينة، أو ساكنو المدينة. قال رحمه الله تعالى: [وهم الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، ثم لما نقضوا العهد حاربهم، فحارب أولاً بني قينقاع، ثم النضير -وفيهم نزلت سورة الحشر- ثم قريظة عام الخندق. فكيف يقال: نزلت في يهود خيبر وغطفان؟ فإن هذا من كذاب جاهل لم يحسن كيف يكذب. ومما يبين ذلك: أنه ذكر فيه انتصار اليهود على غطفان لما دعوا بهذا الدعاء، وهذا مما لم ينقله أحد غير هذا الكذاب، ولو كان هذا مما وقع؛ لكان مما تتوفر دواعي الصادقين على نقله. ومما ينبغي أن يعلم: أن مثل هذا اللفظ لو كان مما يقتضي السؤال به، والإقسام به على الله تعالى؛ لم يكن مثل هذا مما يجوز أن يعتمد عليه في الأحكام؛ لأنه -أولاً- لم يثبت، وليس في الآية ما يدل عليه]. يقصد باللفظ: ما سبق في الحديث الضعيف أو الموضوع السابق: (اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي)، يقول: هذا لم يثبت، ولو ثبت فهو ليس على هذا الوجه الذي فسروه به.

الجواب على المستدلين للتوسل البدعي باستفتاح اليهود على الذين كفروا من وجوه أخرى

الجواب على المستدلين للتوسل البدعي باستفتاح اليهود على الذين كفروا من وجوه أخرى قال رحمه الله تعالى: [لأنه -أولاً- لم يثبت، وليس في الآية ما يدل عليه، ولو ثبت لم يلزم أن يكون هذا شرعاً لنا؛ فإن الله تعالى قد أخبر عن سجود إخوة يوسف وأبويه، وأخبر عن الذين غلبوا على أهل الكهف أنهم قالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21]، ونحن قد نهينا عن بناء المساجد على القبور، ولفظ الآية إنما فيه أنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به]. أي: لو ثبت -جدلاً- الحديث، أو أن اليهود كانوا يقولون: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي، فإنه من قولهم، وهم ليسوا قدوة لنا، وليس شرعهم من شرعنا، وهذا الذي فعلوه كان قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلو افترضنا أنهم فعلوه فليس من شرع محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجب أن نتبعه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا كقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ} [الأنفال:19]، والاستفتاح طلب الفتح وهو النصر. ومنه الحديث المأثور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي: يستنصر بهم، أي: بدعائهم، كما قال: (وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم، بصلاتهم ودعائهم وإخلاصهم؟!). وهذا قد يكون بأن يطلبوا من الله تعالى أن ينصرهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان، بأن يعجل بعث ذلك النبي إليهم لينتصروا به عليهم، لا لأنهم أقسموا على الله وسألوا به؛ ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، فلو لم ترد الآثار التي تدل على أن هذا معنى الآية؛ لم يجز لأحد أن يحمل الآية على ذلك المعنى المتنازع فيه بلا دليل؛ لأنه لا دلالة فيها عليه، فكيف وقد جاءت الآثار بذلك؟ وأما ما تقدم ذكره عن اليهود من أنهم كانوا ينصرون، فقد بيَّنا أنه شاذ، وليس هو من الآثار المعروفة في هذا الباب، فإن اليهود لم يعرف أنها غلبت العرب، بل كانوا مغلوبين معهم، وكانوا يحالفون العرب، فيحالف كل فريق فريقاً، كما كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج]. المقصود بذلك: أن أهل البدع الذين يستدلون بهذا الموضوع فيدعون أن اليهود كانوا إذا قالوا هذا الدعاء الذي هو التوسل -بزعمهم- بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بحقه، أنهم كانوا ينصرون، فيقول الشيخ: هذا خلاف الواقع، فإن اليهود ما كانوا ينصرون، بل كانوا دائماً يغلبون، ولم يكونوا ينصرون إلا بالتحالف مع آخرين، فيكون الناصر لهم من غيرهم ممن ينتصرون به. فيقول: أصل الملابسات التي وضع لها هذا الحديث أيضاً غير صحيحة، مما يدل على أن في هذا الاستدلال شك من أصله في سنده وفي لفظه. قال رحمه الله تعالى: [وأما كون اليهود كانوا ينتصرون على العرب فهذا لا يعرف، بل المعروف خلافه، والله تعالى قد أخبر بما يدل على ذلك، فقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران:112]. فاليهود -من حين ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس- لم يكونوا بمجردهم ينتصرون لا على العرب ولا غيرهم، وإنما كانوا يقاتلون مع حلفائهم قبل الإسلام، والذلة ضربت عليهم من حين بعث المسيح عليه السلام فكذبوه، قال تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14]. وكانوا قد قتلوا يحيى بن زكريا وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة:61]]. واقع اليهود كما ذكر الشيخ أنه كتب الله عليهم الذلة، فإنهم لا ينصرون إلا بحبل من الله وحبل من الناس، أما الحبل من الله فمنها أن الله عز وجل جعلهم عقوبة على المسلمين، أو على غيرهم من

الاستدلال على بطلان التوسل البدعي بأن السلف لم يفعلوه

الاستدلال على بطلان التوسل البدعي بأن السلف لم يفعلوه قال رحمه الله تعالى: [فإذا لم يكن الصحابة كـ عمر بن الخطاب وغيره، في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد موته يقسمون بذاته، بل إنما كانوا يتوسلون بطاعته أو بشفاعته، فكيف يقال في دعاء المخلوقين الغائبين والموتى، وسؤالهم من الأنبياء والملائكة وغيرهم، وقد قال تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:56 - 57]. قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالمسيح وعزير وغيرهما، فنهى الله عن ذلك، وأخبر تعالى أن هؤلاء يرجون رحمة الله ويخافون عذابه ويتقربون إليه، وأنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله عنهم. وقد قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80]].

مفهوم نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن إطرائه واتخاذ قبره عيدا ومسجدا

مفهوم نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن إطرائه واتخاذ قبره عيداً ومسجداً قال رحمه الله تعالى: [ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ قبره مسجداً، وأن يتخذ عيداً، وقال في مرض موته: (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ يحذر ما صنعوا)، أخرجاه في الصحيحين، وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، رواه مالك في الموطأ. وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم؛ إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، متفق عليه. وقال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، بل ما شاء الله ثم شاء محمد)، وقال له بعض الأعراب: (ما شاء الله وشئت؛ فقال: أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده). وقد قال الله تعالى له: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ} [الأعراف:188]، وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [يونس:49]، وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، وهذا تحقيق التوحيد، مع أنه صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على الله، وأعلاهم منزلة عند الله].

الكلام على حديث أبي بكر ودعوته إلى الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم

الكلام على حديث أبي بكر ودعوته إلى الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [وقد روى الطبراني في معجمه الكبير: (أن منافقاً كان يؤذي المؤمنين، فقال أبو بكر: قوموا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله). وفي صحيح مسلم في آخره: (أنه قال قبل أن يموت بخمس: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك). وفي صحيح مسلم -أيضاً- وغيره أنه قال: (لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها). وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة -وله طرق متعددة عن غيرهما- أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى). وسئل مالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال مالك: إن كان أراد القبر فلا يأته، وإن أراد المسجد فليأته، ثم ذكر الحديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، ذكره القاضي إسماعيل في مبسوطه]. هذا استطراد في حق الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين الشيخ ما يدخل في حقوق النبي صلى الله عليه وسلم، وما يتجاوز الحقوق المشروعة، وهو الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم والإطراء. ومن ذلك اتخذ قبره مسجداًَ، أي: الصلاة إليه أو التمسح به أو التوسل به توسلاً بدعياً، أو نحو ذلك مما يفعله أهل الأهواء. وكذلك أراد أن يبين أن كل ما يتعدى حدود الطاعة فلا يعتبر من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء الأمر بطاعته، وأن طاعته من طاعة الله، أما العبادة فلا تكون إلا لله، ولذلك إذا جاء ذكر الطاعة في القرآن وفي السنة فإنه يذكر طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد طاعة الله، كقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92]، ففيما يتعلق بالطاعة والتشريع نجد أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تقرن بطاعة الله، لكن في مسألة العبادة لا يرد إلا قصر العبادة على الله عز وجل. ومن ذلك ما يتعلق بذرائع العبادة ووسائل العبادة، مثل التبرك والتوسل والتعظيم، واتخاذ المساجد ونحو ذلك، فكل ذلك لا يجوز في حق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مما يتجاوز الحد المشروع، والمساجد لا تكون إلا لله عز وجل، والتقديس لا يكون إلا لله، والعبادة لا تكون إلا لله. فالشيخ يطول استطراده إلى ذكر القبور والمساجد؛ لأن أهل البدع جعلوا من قبر النبي صلى الله عليه وسلم معبداً يدعونه من دون الله، ويستقبلونه من دون القبلة، ونحو ذلك مما يفعلونه، وكل ذلك مما تجاوزوا به الحد المشروع.

التفريق بين حقوق الله وحقوق خلقه

التفريق بين حقوق الله وحقوق خلقه

حق الله أن يعبد وحده ولا يشرك به

حق الله أن يعبد وحده ولا يشرك به قال رحمه الله تعالى: [ولو حلف حالف بحق المخلوقين لم تنعقد يمينه، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء والملائكة وغيرهم، ولله تبارك وتعالى حق لا يشركه فيه أحد: لا الأنبياء ولا غيرهم، وللأنبياء حق، وللمؤمنين حق، ولبعضهم على بعض حق: فحقه تبارك وتعالى: أن يعبد ولا يشرك به كما تقدم في حديث معاذ. ومن عبادته تعالى: أن يخلصوا له الدين ويتوكلوا عليه ويرغبوا إليه، ولا يجعلوا لله نداً: لا في محبته ولا خشيته ولا دعائه ولا الاستعانة به، كما في الصحيحين أنه قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يدعو نداً من دون الله؛ دخل النار). وسئل: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، وقيل له: (ما شاء الله وشئت؛ فقال: أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده). وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وقال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51] {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]. وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، وقال تعالى في فاتحة الكتاب التي هي أم القرآن: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وقال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]، وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي} [المائدة:44]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ} [الأحزاب:39]. ولهذا لما كان المشركون يخوفون إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:80 - 82]. وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: (لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك الشرك كما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13])].

منهج السلف في التفسير

منهج السلف في التفسير تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الحديث يذكرنا بأصل وقاعدة من قواعد الاستدلال، وذلك أنه لا ينبغي للمسلم أن يأخذ الأدلة من النصوص دون مراعاة قواعد الاستدلال. وهذه الآية لو أخذت على ظاهرها وفهمها الصحابة فهماً ظاهراً؛ لكان فيها مشقة وعنت على الأمة، ومثل هذه الآية كثير في كتاب الله وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله، هناك طائفة من النصوص لا يدرك فهمها إلا من قبل الراسخين على قواعد الشرع. ومن هنا ينبغي أن نعرف جيداً ما تميز به أهل السنة والجماعة في الاستدلال عن غيرهم من أهل الأهواء، وهو أنهم: أولاً: يستدلون للنصوص بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم لها، إذا ورد تفسير للنصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن نقف عنده، مثل تفسيره لهذه الآية، فإنه فسر الظلم على غير ما نفهمه، ففسره بالشرك. ثانياً: أنه لا بد أيضاً من اعتبار فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تطبيقه للنصوص، في هذا أيضاً تفسير عملي، حتى لو لم يقل أو لم ينطق. ثالثاً: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للناس على ما يفعلونه عند امتثالهم للنصوص، فإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لأفعال الناس يعتبر تشريعاً وتفسيراً معصوماً. ثم تفسير الصحابة وفهمهم؛ لأنهم عرب أقحاح، ولأنهم أيضاً فهموا القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، فكان يؤيدهم ويقرهم، فتفسيرهم للقرآن أيضاً حجة. ثم تفسير السلف؛ لأنه سبيل المؤمنين أعني أن فهم السلف للنصوص يتمثل به سبيل المؤمنين الذي توعد الله من خالفه وجعله مشاقاً لله ولرسوله، فقال عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115]، فسبيل المؤمنين هو ما تمثل به منهجهم، وأول وأعظم أصول السلف: منهجهم العلمي والعملي في تفسير النصوص. أقول: تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآية على غير ما يظهر للناس دليل على أنه لا بد في تفسير النصوص من الرجوع إلى قواعد التفسير وإلى قواعد فهم النصوص وفقهها، وهذا أمر اختل عند جميع أهل الأهواء والافتراق فضلوا عن السنة.

طاعة الله ورسوله والفرق بين الطاعة والعبادة

طاعة الله ورسوله والفرق بين الطاعة والعبادة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} [النور:52]، فجعل الطاعة لله والرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله. وجعل الخشية والتقوى لله وحده فلا يخشى إلا الله، ولا يتقى إلا الله. وقال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]. فجعل سبحانه الإيتاء لله والرسول في أول الكلام وآخره، كقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، مع جعله الفضل لله وحده، والرغبة إلى الله وحده]. خلاصة هذه القاعدة التي أشار إليها الشيخ في مسألة الطاعة، والفرق بين الطاعة والعبادة، أو الفرق بين الطاعة والتقديس والخشية، أن نقول: إن الأنبياء يطاعون في التشريع ويتبعون فيه لأن هذا هو ما أمر الله تعالى به، ولا يمكن أن يستفيد الناس، ولا أن تنجو الأمم إلا بطاعة الرسل، لكن لا تتجاوز هذه الطاعة ما لا يجوز إلا لله عز وجل، فمسألة العبودية لا تكون إلا لله، والربوبية لا تكون إلا لله، القدر لا يكون إلا بيد الله. هذه الأمور الثلاثة لا يشرك فيها معه أحد حتى الأنبياء والمرسلون. فمن عرف هذا الحد؛ تصور جيداً معنى التوحيد، وأنه يعني: إخلاص العبادة لله عز وجل في إلهيته وربوبيته، وكذلك إخلاص القدر لله عز وجل، فلا يملك الأقدار خيرها وشرها إلا الله سبحانه. والأنبياء كلهم أتوا بأن لا يطاع إلا الله، وأن لا يعبد إلا الله، فقضيتهم الكبرى التي بعثوا بها هي تحرير عقائد الناس في هذه الأمور: أن لا يشركوا في العبادة، ولا يشركوا في الربوبية، ولا يشركوا في القدر فينسبونه لغير الله، فإنه لا مقدر إلا الله عز وجل الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وهو يجير ولا يجار عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو تعالى وحده حسبهم لا شريك له في ذلك. وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (حسبنا الله ونعم الوكيل، قال: قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين: {قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، ومعنى ذلك عند جماهير السلف والخلف: أن الله وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، كما بسط ذلك بالأدلة، وذلك أن الرسل عليهم الصلاة والسلام هم الوسائط بيننا وبين الله في أمره ونهيه ووعده ووعيده، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله. فعلينا أن نحب الله ورسوله، ونطيع الله ورسوله، ونرضي الله ورسوله: قال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62]، وقال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59]، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]]. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

معنى الظل في حديث: (سبعة يظلهم الله)

معنى الظل في حديث: (سبعة يظلهم الله) Q ورد في الصحيحين: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، ما المراد بالظل هنا؟ A هذه المسألة مختلف فيها، فمنهم من قال: المقصود بالظل على ظاهره، وأن نسبة الظل إلى الله عز وجل على ما يليق بجلاله، وهذا من الألفاظ التي تكون من باب الخبر، وخبر الله صدق وحق. ومنهم من قال: إن المقصود به ظل عرشه، وهذا نوع من التأويل ليس عليه دليل، وإن كان قال به بعض الأئمة، والصحيح أنه يمر كما جاء على ما يليق بالله عز وجل، هذه مسألة غيبية، ومع ذلك تمر كما جاءت، وينسب الظل إلى الله عز وجل على وجه لا نعلمه؛ لأنه هكذا جاء في الحديث عن المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، ولا يلزم من ذلك تشبيه ولا يلزم من ذلك حرج، بل العكس، ينبغي توقير مثل هذا الكلام وتعظيمه، والوقوف عنده دون تأويل، ودون تكلف ولا تعسف، مثل بقية النصوص التي وردت في نسبة أشياء إلى الله عز وجل، فإنها تثبت كما جاءت. فإن كان المقصود ظل العرش فهذا ليس عندنا دليل على نفيه ولا على إثباته، لكن كما قلت: يترجح الإقرار بأنه من الأخبار عن الله عز وجل التي تمر كما جاءت دون تأويل، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[29]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [29] التوسل المشروع هو التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة رجاء ثوابه والابتعاد عن عقابه، أو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، كما حصل من الصحابة الكرام في حياته عليه الصلاة والسلام من التوسل بدعائه، فإنه كان يدعو لمن طلب منه ذلك.

الإيمان بالله والرسول وإفراد العبادة لله وحده

الإيمان بالله والرسول وإفراد العبادة لله وحده سيبين الشيخ رحمه الله فيما يأتي الحقيقة الشرعية للتوسل على جهة التفصيل والاستدلال لذلك، ويبين أنواع التوسل الشرعي إجمالاً، ثم سيلخصها في نهاية هذا المقطع كما سيتبين إن شاء الله. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار). وقد قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح:8 - 9]]. بين الشيخ فيما سبق أن حقيقة التوسل تكون أولاً بحب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بالسعي إلى ما يرضي الله وما يرضي الرسول صلى الله عليه وسلم. أي أن من أنواع التوسل المشروعة: الحب ثم الرضا ثم الطاعة، ثم ذكر هنا أيضاً توقير الرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيره ونحو ذلك، وأن هذه هي حقيقة التوسل الذي ينبغي أن يسعى إليه المسلم، وأن هذه الأنواع من التوسل الشرعي تغني الإنسان عن أن يتطلع إلى توسلات أخرى مبتدعة وليست مما يحبه الله ولا يرضاه، وأن ما شرعه الله عز وجل من التوسل الشرعي الصحيح الذي أنواعه كثيرة هو القدر الكافي الذي لا يحتاج البشر بعده إلى أن يلجئوا إلى خلق الله من دونه سبحانه، ليميز لنا في هذه المقامات بين التوسل الشرعي والتوسلات البدعية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، وتعزيره نصره ومنعه، والتسبيح بكرة وأصيلاً لله وحده، فإن ذلك من العبادة لله. والعبادة هي لله وحده: فلا يصلى إلا لله، ولا يصام إلا لله، ولا يحج إلا إلى بيت الله، ولا تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة؛ لكون هذه المساجد بناها أنبياء الله بإذن الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يحلف إلا بالله، ولا يدعى إلا الله، ولا يستغاث إلا بالله. وأما ما خلقه الله سبحانه من الحيوان والنبات والمطر والسحاب وسائر المخلوقات، فلم يجعل غيره من العباد واسطة في ذلك الخلق، كما جعل الرسل واسطة في التبليغ، بل يخلق ما يشاء بما يشاء من الأسباب، وليس في المخلوقات شيء يستقل بإبداع شيء، بل لا بد للسبب من أسباب أخر تعاونه، ولا بد من دفع المعارض عنه، وذلك لا يقدر عليه إلا الله وحده، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، بخلاف الرسالة، فإن الرسول وحده كان واسطة في تبليغ رسالته إلى عباده]. يقصد الشيخ الفرق بين كون الرسل وسائط في تبليغ الرسالة، وبين كونهم وسائط في العبادة، فكونهم واسطة في تبليغ الرسالة هذا عين الحق؛ لأن الله أرسلهم وبعثهم ليبينوا التوحيد ويشرعوا الشرائع، وجعلهم هم الوسيلة للتبليغ، يعني: الواسطة؛ فهذه وسيلة، لكن ليس للإنسان أن يتعبد بها، يعني: أن يجعلهم وسيلة في العبادة. نعم، الأنبياء هم الذين بعثهم الله بالحق، وطاعتهم من عبادة الله عز وجل، فهم واسطة في التبليغ، لكنهم ليسوا وسائط في العبادة، فإنه لا يجوز أن يعبد إلا الله وحده، ولم يجعل الله عز وجل بينه وبين خلقه وسيطاً في العبادة، لا الأنبياء ولا الملائكة ولا من دونهم. وهذا التفريق تفريق شرعي وعقلي، فكون الأنبياء وسائط في التبليغ لا يعني ذلك اتخاذهم وسائط في العبادة؛ لأن مما بلغوه عن الله تحريم أن تتخذ المخلوقات وسائط، وأمر ألا ندعو غيره، وألا نعبد غيره، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نصرف أي نوع من العبادة إلا له عز وجل، والرسل ليس عليهم إلا البلاغ، نحبهم ونوقرهم ونتبع ما جاءوا به، ونعلم أن ما جاءوا به هو الحق، ونصدقهم بما شرعه الله عز وجل على ألسنتهم، وما عدا ذلك فليس بمشروع.

الرسل وسائط في الأمر والنهي والوعد والوعيد وليسوا أربابا أو شركاء

الرسل وسائط في الأمر والنهي والوعد والوعيد وليسوا أرباباً أو شركاء قال رحمه الله تعالى: [وأما جعل الهدى في قلوب العباد فهو إلى الله تعالى لا إلى الرسول، كما قال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وقال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل:37]. وكذلك دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، واستغفارهم وشفاعتهم هو سبب ينفع إذا جعل الله تعالى المحل قابلاً له، وإلا فلو استغفر النبي للكفار والمنافقين لم يغفر لهم، قال الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون:6]. وأما الرسل فقد تبين أنهم هم الوسائط بيننا وبين الله عز وجل في أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وخبره؛ فعلينا أن نصدقهم في كل ما أخبروا به، ونطيعهم فيما أوجبوا وأمروا، وعلينا أن نصدق بجميع أنبياء الله عز وجل، لا نفرق بين أحد منهم، ومن سب واحداً منهم كان كافراً مرتداً مباح الدم. وإذا تكلمنا فيما يستحقه الله تبارك وتعالى من التوحيد؛ بيَّنَّا أن الأنبياء وغيرهم من المخلوقين لا يستحقون ما يستحقه الله تبارك وتعالى من خصائص، فلا يشرك بهم ولا يتوكل عليهم، ولا يستغاث بهم كما يستغاث بالله، ولا يقسم على الله بهم، ولا يتوسل بذواتهم، وإنما يتوسل بالإيمان بهم وبمحبتهم وطاعتهم، وموالاتهم وتعزيرهم وتوقيرهم، ومعاداة من عاداهم، وطاعتهم فيما أمروا، وتصديقهم فيما أخبروا، وتحليل ما حللوه، وتحريم ما حرموه]. في هذه السطور الثلاثة لخَّص الشيخ ما سبق تلخيصاً رائعاً جداً، وأعطى خلاصة ما سبق بعبارات جامعة وهي وصف حقيقة التوسل الشرعي، وقال: إنما يتوسل بالإيمان بهم أولاً، ومحبتهم وطاعتهم وموالاتهم وتعزيرهم وتوقيرهم ومعاداة من عاداهم، وطاعتهم فيما أمروا به، وتصديقهم إلى آخر ما قال. هذه خلاصة وصف التوسل الشرعي بأنواعه التي سيذكرها فيما بعد من وجه آخر. والشيخ فصَّل ليحكم المسألة ويسدُّ باب الشبهات والاعتراضات التي قال بها أهل الأهواء الذين يعملون أو يقولون بالتفسيرات البدعية.

أنواع التوسل المشروع

أنواع التوسل المشروع قال رحمه الله تعالى: [والتوسل بذلك على وجهين]. المقصود بـ (ذلك) هذه الأعمال: الإيمان والمحبة والطاعة والموالاة وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه وتوقيره إلى آخر هذه الأمور الإيمانية، فالتوسل بها على وجهين قال رحمه الله تعالى: [أحدهما: أن يتوسل بذلك إلى إجابة الدعاء وإعطاء Q كحديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فإنهم توسلوا بأعمالهم الصالحة ليجيب دعاءهم ويفرج كربتهم، وقد تقدم بيان ذلك. والثاني: التوسل بذلك إلى حصول ثواب الله وجنته ورضوانه]. الوجهان متقاربان، لكن الأول غالباً تطلب به المنافع العاجلة. والنوع الثاني: هو التوسل بالأعمال الصالحة بطلب الثواب لها من الله عز وجل، أي: حصول الثواب وحصول المصلحة الآجلة من تحصيل السعادة والجنة في الآخرة، ورضوان الله عز وجل قبل ذلك كله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والثاني: التوسل بذلك إلى حصول ثواب الله وجنته ورضوانه، فإن الأعمال الصالحة التي أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم هي الوسيلة التامة إلى سعادة الدنيا والآخرة. ومثل هذا كقول المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193]، فإنهم قدموا ذكر الإيمان قبل الدعاء. ومثل ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المؤمنين في قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:109]، وأمثال ذلك كثير. وكذلك التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، فإنه يكون على وجهين]. الوجهان اللذان سيذكر فيهما الشيخ أنواع التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم هما مثل الوجهين السابقين: توسل لتحقيق مصلحة عاجلة، أو توسل لطلب مصلحة آجلة، كذلك التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم قد يطلب به مصلحة عاجلة، أو مصلحة آجلة، المصلحة العاجلة تحصيل المنافع في الدنيا، ودفع المضار، والمصلحة الآجلة تكون بالشفاعة ونحو ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أحدهما: أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيدعو ويشفع، كما كان يطلب منه في حياته، وكما يطلب منه يوم القيامة، حين يأتون آدم ونوحاً ثم الخليل ثم موسى الكليم ثم عيسى، ثم يأتون محمداً صلى الله عليه وسلم وعليهم فيطلبون منه الشفاعة. والوجه الثاني: أن يكون التوسل مع ذلك بأن يسأل الله تعالى بشفاعته ودعائه، كما في حديث الأعمى المتقدم بيانه وذكره، فإنه طلب منه الدعاء والشفاعة، فدعا له الرسول وشفع فيه، وأمره أن يدعو الله فيقول: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك به، اللهم فشفعه في، فأمره أن يسأل الله تعالى قبول شفاعته، بخلاف من يتوسل بدعاء الرسول وشفاعة الرسول، والرسول لم يدع له ولم يشفع فيه، فهذا توسل بما لم يوجد، وإنما يتوسل بدعائه وشفاعته من دعا له وشفع فيه]. يظهر أن الوجهين فيهما اختلاف عن الوجهين السابقين، الوجهين هنا فيما يتعلق بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر الشيخ أن الوجه الأول هو طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة بأن يدعو بمنفعة عاجلة أو آجلة، بمعنى أن من الشفاعة المشروعة في حق النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب منه الدعاء وهو حي، سواء حياته في الدنيا أو في الآخرة كما سيأتي. فهذا طلب منه أن يشفع على طريقة شرعية يأذن الله له بها. أما النوع الثاني فهو: أن يطلب المستشفع من الله عز وجل أن يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيه حينما يدعو له، وهذه الصورة فيها نوع غموض وتعقيد، والغموض فيها هو الذي جعل كثيراً من أهل الأهواء يلتبس عليهم الأمر، ويستدلون بحديث الأعمى على الشفاعة الممنوعة. هذه الصورة قد تحدث مفصلة وقد تحدث مختصرة، فهذه هي الصورة التي أشكلت على كثير من أهل الأهواء ولم يفقهوها، ولا تعرف جيداً إلا من خلاصة الجمع بين روايات الحديث؛ هذا من ناحية. ومن خلال تطبيق أو عمل الصحابة بهذه الشفاعة فيما بعد؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لما مات النبي صلى الله عليه وسلم انقطع عملهم بهذه الوسيلة؛ لأنهم يعرفون أنه لا يمكن عملها إلا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الوجه الذي تمت به لا يمكن الخروج عن حدوده الشرعية؛ لأن الخروج عن حدوده الشرعية ربما يؤدي إلى التوسل البدعي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن هذا الباب قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقت الاستسقاء كما تقدم، فإن عمر والمسلمين توسلوا بدعاء العباس، وسألوا الله تعالى مع دعاء العباس، فإنهم استشفعوا جميعاً، ولم يكن العباس وحده هو الذي دعا لهم؛ فصار التوسل بطاعته والتوسل بشفاعته كل منهما يكون مع دعاء المتوسل وسؤاله، ولا يكون بدون ذلك؛ فهذه أربعة أنواع كلها مشروع

فتوى ابن تيمية رحمه الله في التوسل وهو بمصر

فتوى ابن تيمية رحمه الله في التوسل وهو بمصر قال رحمه الله تعالى: [وكنت وأنا بالديار المصرية في سنة إحدى عشرة وسبعمائة قد استُفتيت عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكتبت في ذلك جواباً مبسوطاً، وقد أحببت إيراده هنا؛ لما في ذلك من مزيد الفائدة، فإن هذه القواعد -المتعلقة بتقرير التوحيد، وحسم مادة الشرك والغلو- كلما تنوع بيانها، ووضحت عبارتها؛ كان ذلك نوراً على نور، والله المستعان. وصورة Q المسئول من السادة العلماء أئمة الدين، أن يبينوا ما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين].

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وعظم قدره

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وعظم قدره قال رحمه الله تعالى: [وصورة A الحمد لله رب العالمين. أجمع المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة. ثم إن أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، واستفاضت به السنن، من أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضاً لعموم الخلق. فله صلى الله عليه وسلم شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات يشركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين، لكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأكرمهم على ربه عز وجل، وله من الفضائل التي ميزه الله بها على سائر النبيين ما يضيق هذا الموضع عن بسطه: من ذلك: المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون. وأحاديث الشفاعة كثيرة متواترة، منها في الصحيحين أحاديث متعددة، وفي السنن والمسانيد مما يكثر عدده. وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، فزعموا أن الشفاعة إنما هي للمؤمنين خاصة في رفع الدرجات، وبعضهم أنكر الشفاعة مطلقاً]. العبارة كأن فيها بعض اللبس، أعني قوله: (فزعموا أن الشفاعة إنما هي للمؤمنين خاصة)، وهي فعلاً إنما هي للمؤمنين، أما الكفار فلا تنفعهم شفاعة الشافعين، لكن الشيخ قصد أنهم حصروا الشفاعة للمؤمنين في رفع الدرجات، وفي غير مسألة الشفاعة لأهل الكبائر، أو الشفاعة لخروج عصاة المؤمنين من النار، فهو هنا يقصد أنهم لم يعترفوا بجميع شفاعات المؤمنين، أما حصر الشفاعة في المؤمنين فلا شك أن هذا حق، لكن كونهم ضيقوا نطاق الشفاعة حتى لم يقروا إلا بالشفاعات التي هي أقل في دلالاتها في النصوص، وأنكروا الشفاعات المتواترة، مثل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، فإنهم بذلك خالفوا السنة، وأنكروا الشفاعة التي هي المقصودة عند الإطلاق، بعد المقام المحمود، وهي الشفاعة لأهل الكبائر، وقد تواترت بذلك النصوص.

توسل الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته

توسل الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته قال رحمه الله تعالى: [وأجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به ويتوسلون به في حياته بحضرته، كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بـ العباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا؛ فيسقون. وفي البخاري أيضاً عن ابن عمر أنه قال: ربما ذكرت قول الشاعر -وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل] طبعاً يقصد بقوله: (ثمال اليتامى): أي مغيث اليتامى، وعصمة، أي: كافل. قال رحمه الله تعالى: [والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكره عمر بن الخطاب قد جاء مفسراً في سائر أحاديث الاستسقاء، وهو من جنس الاستشفاع به، وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته، ونحن نقدمه بين أيدينا شافعاً وسائلاً لنا بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وكذلك معاوية بن أبي سفيان -لما أجدب الناس بالشام- استسقى بـ يزيد بن الأسود الجرشي فقال: اللهم إنا نستشفع ونتوسل بخيارنا، يا يزيد! ارفع يديك، فرفع يديه ودعا، ودعا الناس حتى سقوا. ولهذا قال العلماء: يستحب أن يستسقى بأهل الدين والصلاح، وإذا كانوا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أحسن. وهذا الاستشفاع والتوسل حقيقته التوسل بدعائه، فإنه كان يدعو للمتوسل به المستشفع به والناس يدعون معه، كما أن المسلمين لما أجدبوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه أعرابي، فقال: (يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، وما في السماء قزعة؛ فنشأت سحابة من جهة البحر، فمطروا أسبوعاً لا يرون فيه الشمس، حتى دخل عليهم الأعرابي -أو غيره- فقال: يا رسول الله! انقطعت السبل، وتهدم البنيان؛ فادع الله يكشفها عنا، فرفع يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب ومنابت الشجر وبطون الأودية، فانجابت عن المدينة كما ينجاب الثوب)، والحديث مشهور في الصحيحين وغيرهما].

معنى حديث: (نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك)

معنى حديث: (نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك) قال رحمه الله تعالى: [وفي حديث آخر في سنن أبي داود وغيره: (أن رجلاً قال له: إنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك؛ فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رئي ذلك في وجوه أصحابه، وقال: ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك). وهذا يبين أن معنى الاستشفاع بالشخص في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو استشفاع بدعائه وشفاعته، ليس هو السؤال بذاته، فإنه لو كان هذا السؤال بذاته لكان سؤال الخلق بالله تعالى أولى من سؤال الله بالخلق، ولكن لما كان معناه هو الأول، أنكر النبي صلى الله عليه وسلم قوله: نستشفع بالله عليك، ولم ينكر قوله: نستشفع بك على الله؛ لأن الشفيع يسأل المشفوع إليه أن يقضي حاجة الطالب، والله تعالى لا يسأل أحداً من عباده أن يقضي حوائج خلقه. وإن كان بعض الشعراء ذكر استشفاعه بالله تعالى في مثل قوله: شفيعي إليك الله لا رب غيره وليس إلى رد الشفيع سبيل فهذا كلام منكر لم يتكلم به عالم. وكذلك بعض الاتحادية ذكر أنه استشفع بالله سبحانه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلاهما خطأ وضلال، بل هو سبحانه المسئول المدعو الذي يسأله كل من في السماوات والأرض، ولكن هو تبارك وتعالى يأمر عباده فيطيعونه، وكل من وجبت طاعته من المخلوقين؛ فإنما وجبت لأن ذلك طاعة لله تعالى، فالرسل يبلغون عن الله أمره، فمن أطاعهم فقد أطاع الله، ومن بايعهم فقد بايع الله، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. وأولو الأمر من أهل العلم وأهل الإمارة إنما تجب طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه، ما لم يؤمر بمعصية الله، فإذا أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). وأما الشافع فسائل لا تجب طاعته في الشفاعة وإن كان عظيماً، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سأل بريرة أن تمسك زوجها ولا تفارقه لما أعتقت، وخيرها النبي صلى الله عليه وسلم فاختارت فراقه، وكان زوجها يحبها فجعل يبكي، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم أن تمسكه، فقالت: أتأمرني؟ فقال: لا، إنما أنا شافع). وإنما قالت: (أتأمرني؟) وقال: (إنما أنا شافع)؛ لما استقر عند المسلمين أن طاعة أمره واجبة بخلاف شفاعته، فإنه لا يجب قبول شفاعته، ولهذا لم يلمها النبي صلى الله عليه وسلم على ترك قبول شفاعته، فشفاعة غيره من الخلق أولى ألا يجب قبولها. والخالق جل جلاله أمره أعلى وأجل من أن يكون شافعاً إلى مخلوق، بل هو سبحانه أعلى شأناً من أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:26 - 29]]. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التوسل بجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم

حكم التوسل بجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم Q هل يكفر من يتوسل إلى الله بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم؟ A نظراً لأن التوسل بالجاه من الأمور المحتملة لعدة مقاصد، فالظاهر أنه يدخل في البدع المغلظة وكبائر الذنوب، وقد يكون فيه بعض الصور الكفرية، لكن هذا راجع إلى اعتقاد المتوسل، وإلى أسلوب التوسل بالجاه، إن كان التوسل بالجاه يؤدي إلى دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم من دون الله؛ فهذا شرك وكفر، وإن كان لمجرد التبرك بجاه النبي صلى الله عليه وسلم فهو بدعة قد لا تصل إلى الكفر. والله أعلم.

حكم سؤال الرجل لغيره بحرمة الإسلام

حكم سؤال الرجل لغيره بحرمة الإسلام Q ما حكم قول الرجل لآخر: أسألك بحرمة الإسلام أن تعمل كذا وكذا؟ A هذه كلمة مجملة، فيقال: ما المقصود بالسؤال بحرمة الإسلام؟ فإن كان المقصود مجرد اليمين فهذا لا يجوز؛ لأنه من الحلف بغير الله عز وجل، وإن كان المقصود به أن يجعل حرمة الإسلام وسيلة لتنفيذ شيء من الأشياء، فهذا مما ليس له أصل، لكن يرجع أيضاً إلى المقصد. ومع ذلك فإن الأصل في سؤال الآخرين بمثل هذه الصيغة عدم المشروعية، فإذا سألت أحداً فلا تسأله بشيء غير بين، ولا يجوز الحلف إلا بالله. وإن قصد به مجرد العزم على الشخص بحرمة الإسلام، وكأنه يقول: بحق هذا الإسلام أن تعمل كذا وكذا، فهذه العبارة قد يكون لها وجه من الصحة، لكنه بعيد، واحتمالات الوجوه الممنوعة أقرب إلى أذان الناس؛ لأن الغالب أن الناس يتعلقون في مثل هذه الأمور بالجانب الممنوع أكثر مما يتعلقون بالجانب المشروع لكثرة البدع المشابهة، وتعلق أهل البدع بمثل هذه الألفاظ. أقول: لولا أن هذه اللفظة محتملة ويشكل ظاهرها لوجدنا لها من المعاني ما هو صحيح، لكن مادام هناك احتمال وفي ظاهرها إشكال، وأنها قد يقصد بها الإقسام، وقد يقصد بها طلب حق ليس للإنسان، فإن الأولى اجتنابها فيما يظهر لي. والله أعلم.

حكم الحقوق الملكية للأشرطة

حكم الحقوق الملكية للأشرطة Q ما حكم نسخ الأشرطة سواء المسموعة أو المرئية، وسواء كان النسخ لغرض تجاري أو شخصي أو دعوي، كان شريط قديم؟ A كأن السائل يقصد الأشرطة التي يحجر مالكوها النسخ منها كبعض أصحاب التسجيلات حيث يقولون: لا يسمح لأحد أن ينسخ هذا الشريط. أقول: إن النسخ لأجل نشر العلم، ومن أجل الاستفادة والإفادة، ومن أجل الدعوة لا حرج فيه شرعاً، لكن إذا كان من أجل البيع فهذه مسألة تحتاج إلى نقاش، وأنا ليس لي فيها رأي، لكن ينبغي عرضها على المشايخ. فالذين يحجرون على الأشرطة يحجرون حجراً تجارياً، لكن التوزيع الخيري لا يستطيعون الحجر عليه ولا يجوز لهم ذلك، وكذلك الإفادة الشخصية. والحجر التجاري سببه أن يتعب صاحب تسجيلات على شريط معين، ويتكلف في تسجيله وإخراجه، ولذلك يكون له حق نشر هذا الشريط، فهذه مسألة أظن فيها بعض الحق، لكن ليس عندي فيها تفصيل، لا في إباحتها ولا في تحريمها، فيحسن أن تعرض على المشايخ، وأظنها عرضت والفتاوى فيها متفاوتة، لكن في الآونة الأخيرة صار هناك ضوابط نظامية في وزارة الإعلام لحفظ الحقوق، يمكن أن تكون هذه الضوابط مبنية على أصول شرعية، فينظر فيها، وأيضاً تعرض على العلماء؛ لأن هذا الموضوع كثر فيه الحرج، وكثر فيها دعوى التضرر أيضاً من أصحاب التسجيلات. ونسأل الله للجميع التوفيق والسداد. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[30]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [30] مذهب جماهير أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الكبائر من أمته، وأنه لا يخلد من أهل الإيمان في النار أحد، وهذا كله يوم القيامة جائز ومشروع، كما أنه يجوز أن يتوسل به في حياته، أما في مغيبه أو الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء أو السؤال بذواتهم لا بنفس سؤالهم فهذا ليس مشهوراً عن الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان.

الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل

الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: [ودل الحديث المتقدم على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستشفع به إلى الله عز وجل، أي: يطلب منه أن يسأل ربه الشفاعة في الدنيا والآخرة، فأما في الآخرة فيطلب منه الخلق الشفاعة في أن يقضي الله بينهم، وفي أن يدخلوا الجنة، ويشفع في أهل الكبائر من أمته، ويشفع في بعض من يستحق النار ألا يدخلها، ويشفع في بعض من دخلها أن يخرج منها]. وينبغي التنبه إلى ما قرره الشيخ من أن كون النبي صلى الله عليه وسلم سيشفع يوم القيامة شفاعات خاصة وعامة، لا يعني ذلك جواز أن تطلب منه الشفاعة في الآخرة من قبل الأحياء في الدنيا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لم يعد يدعى ولا يطلب منه، إنما يكون باب الشفاعة مفتوحاً في الآخرة، أما في الدنيا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن لأحد أن يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من هذه الشفاعات المثبتة في الآخرة. إنما يقصد الشيخ أن الشفاعة ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا نزاع بين جماهير الأئمة أنه يجوز أن يشفع لأهل الطاعة المستحقين للثواب، ولكن كثيراً من أهل البدع والخوارج والمعتزلة أنكروا شفاعته لأهل الكبائر، فقالوا: لا يشفع لأهل الكبائر، بناء على أن أهل الكبائر عندهم لا يغفر الله لهم ولا يخرجهم من النار بعد أن يدخلوها لا بشفاعة ولا غيرها]. وذلك أنهم أخذوا بنصوص الوعيد، وتركوا نصوص الوعد، وهذا من تلبيس الشيطان عليهم، ومن تلبيسهم على الناس، وهو دليل جهلهم وأنهم خالفوا منهج السلف في الاستدلال، والمخالفة في الاستدلال هي أكبر الأسباب لخروج أهل الأهواء عن منهج السنة والجماعة، خاصة الأوائل؛ فالخوارج والرافضة والقدرية الأوائل أول ما أُتوا من الخلل في منهج الاستدلال فأخذوا نصوصاً من الكتاب والسنة ففسروها على غير وجهها، ولم يردوا النصوص إلى بعضها.

المعنى الصحيح للاستشفاع والتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم

المعنى الصحيح للاستشفاع والتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [ومذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وسائر أهل السنة والجماعة أنه صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الكبائر، وأنه لا يخلد في النار من أهل الإيمان أحد، بل يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة من إيمان أو مثقال ذرة من إيمان. لكن هذا الاستسقاء والاستشفاع والتوسل به وبغيره كان يكون في حياته]. كلمة (لكن) هذا كلام مستأنف يرجع إلى ما سبق، فمن بعد استطراد الشيخ في هذه المسألة رجع ليقول: (لكن هذا الاستسقاء) أي الذي سبق ذكره في حديث سابق، (والاستشفاع والتوسل به وبغيره، إنما يكون في حياته)، كما حدث من الصحابة، فإنهم طلبوا منه أن يدعو الله أن يسقيهم وهو حي، فلما مات طلبوا الاستسقاء من الأحياء؛ مثل العباس ويزيد بن الأسود وغيرهما. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بمعنى أنهم يطلبون منه الدعاء فيدعو لهم، فكان توسلهم بدعائه، والاستشفاع به طلب شفاعته، والشفاعة دعاء]. معنى الشفاعة هنا التوسل بالدعاء؛ لأن المشكلة أن كلمة (توسل) لا تزال موهمة، وأكثر الناس قد يفهم منها التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم، أو التوسل به ميتاً كالتوسل به حياً، وهذا خطأ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للناس وهو حي. وقد يفهم بعض الناس أن المقصود بالتوسل التبرك، وهذا خطأ، فإن التبرك شيء والتوسل شيء آخر، وإن كان أحدهما يطلق على الآخر، لكن الصحيح أن التبرك غير التوسل، وإن كان من أنواعه، فالتوسل: هو اتخاذ الشيء أو الشخص وسيلة، وهذا لا يجوز حتى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والذين توسلوا به ما جعلوا ذاته بينهم وبين ربهم، إنما توسلوا بدعائه، فطلبوا منه أن يدعو لهم، وطلبوا من الله أن يقبل دعاءهم في حاجتهم، وهذه هي حقيقة التوسل كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: فكان توسلهم -أي: الصحابة- بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، والاستشفاع به أيضاً ليس بذاته، إنما هو طلب الشفاعة منه، والشفاعة هنا إنما هي الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم لمن طلب ذلك.

بيان أن التوسل بالذات النبوية الكريمة لم تكن من هدي الصحابة والتابعين

بيان أن التوسل بالذات النبوية الكريمة لم تكن من هدي الصحابة والتابعين قال رحمه الله تعالى: [فأما التوسل بذاته في حضوره أو مغيبه أو بعد موته، مثل: الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء، أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم، فليس هذا مشهوراً عند الصحابة والتابعين، بل عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان ومن بحضرتهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، لما أجدبوا استسقوا، وتوسلوا واستشفعوا بمن كان حياً كـ العباس وكـ يزيد بن الأسود، ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا في هذه الحال بالنبي صلى الله عليه وسلم لا عند قبره ولا غير قبره، بل عدلوا إلى البدل كـ العباس وكـ يزيد، بل كانوا يصلون عليه في دعائهم، وقد قال عمر: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا؛ فجعلوا هذا بدلاً عن ذاك لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه. وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به ويقولوا في دعائهم في الصحراء بالجاه ونحو ذلك من الألفاظ التي تتضمن القسم بمخلوق على الله عز وجل، أو السؤال به، فيقولون: نسألك أو نقسم عليك بنبيك، أو بجاه نبيك ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس]. نعم، لكنهم لم يفعلوا ذلك، وهذا من أقوى الردود وأقوى الحجج؛ في أن الصحابة رضي الله عنهم حينما استسقوا، لو كان يجوز التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم لاستسقوا عند قبره، أو لجعلوا القبر أمامهم ليتوجهوا إلى ذات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم يفعلوا. قد يقول قائل: الاستسقاء به أو التوسل به المقصود به التوسل بجاهه. يقول: كذلك الصحابة لما خرجوا إلى الصحراء، فلو كان التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم فإن الأيسر لهم والأسهل أن يتوسلوا بجاهه وهم بالصحراء، فإن التوسل بالجاه لا يلزم منه غير ذكر ذلك في اللسان أو التوجه به إلى الله عن التصريح بالجاه، فلم يفعلوا ذلك أيضاً، وعدلوا عن التوسل بالذات والتوسل بالجاه لأنه ليس بمشروع، إلى أن توسلوا بالموجودين من الصحابة، وطلبوا منهم الدعاء، ولذلك تجدون الشيخ استعمل العبارات كلها، من أجل أن يسد منافذ الفهم الخاطئ، يقول في السطرين الأخيرين: (ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا)، وقال قبلها: (لما أجدبوا استسقوا وتوسلوا وتشفعوا واستشفعوا)، لأنه لو قال: لم يتوسلوا، لقالوا: نحن نقصد الاستشفاع، أو نقصد الاستسقاء.

الكلام على حديث: (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي)

الكلام على حديث: (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي) قال رحمه الله تعالى: [وروى بعض الجهال عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم). وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث، مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين. وقد أخبرنا سبحانه عن موسى وعيسى عليهما السلام أنهما وجيهان عند الله، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69]، وقال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45]. فإذا كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عز وجل فكيف بسيد ولد آدم، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، وصاحب الكوثر والحوض المورود الذي آنيته عدد نجوم السماء، وماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، ومن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة حين يتأخر عنها آدم، وأولو العزم، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويتقدم هو إليها وهو صاحب اللواء، آدم ومن دونه تحت لوائه، وهو سيد ولد آدم وأكرمهم على ربه عز وجل، وهو إمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا، ذو الجاه العظيم صلى الله عليه وسلم وعلى آله. ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم:93 - 94]، وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:172 - 173]. والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب، والله تعالى لا شريك له؛ كما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]].

ظهور الشرك في الأرض وعلاقته بالتوسل البدعي

ظهور الشرك في الأرض وعلاقته بالتوسل البدعي قال رحمه الله تعالى: [وقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن من يفعل ذلك، ونهى عن اتخاذ قبره عيداً؛ وذلك لأن أول ما حدث الشرك في بني آدم كان في قوم نوح، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، وثبت ذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نوحاً أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض)، وقد قال الله تعالى عن قومه أنهم قالوا: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح:23 - 24]]. الحديث الذي فيه أن نوحاً أول رسول يدل على أن الأنبياء غير الرسل؛ لأنه ثبت أيضاً أن آدم عليه السلام نبي، لكن الرسالة مقام أعلى من النبوة، ومعروف أن آدم عليه السلام هو أول البشر، وذريته كانوا على الفطرة وعلى الاستقامة، فما كانوا بحاجة إلى كتاب منزل؛ لأن الله عز وجل علم آدم كل شيء. فلما نسي الناس مقتضى الفطرة، وخالفوا شرع الله الذي كان على عهد آدم، وكثر الجهل واندثرت معالم النبوة، بعث الله نوحاً رسولاً. فكون نوح أول الرسل لا يتنافى مع كون آدم نبياً، أي: فآدم نبي لكن ليس برسول، وهذا هو الراجح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال غير واحد من السلف: هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، فلما طال عليهم الأمد عبدوهم. وقد ذكر البخاري في صحيحه هذا عن ابن عباس، وذكر أن هذه الآلهة صارت إلى العرب، وسمى قبائل العرب الذين كانت فيهم هذه الأصنام. فلما علمت الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حسم مادة الشرك بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وإن كان المصلي يصلي لله عز وجل، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس لئلا يشابه المصلين للشمس، وإن كان المصلي إنما يصلي لله تعالى، وكان الذي يقصد الدعاء بالميت أو عند قبره أقرب إلى الشرك من الذي لا يقصد إلا الصلاة لله عز وجل لم يكونوا يفعلون ذلك. وكذلك علم الصحابة أن التوسل به إنما هو التوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته وموالاته، أو التوسل بدعائه وشفاعته، فلهذا لم يكونوا يتوسلون بذاته مجردة عن هذا وهذا. فلما لم يفعل الصحابة رضوان الله عليهم شيئاً من ذلك، ولا دعوا بمثل هذه الأدعية، وهم أعلم منا وأعلم بما يجب لله ورسوله وأعلم بما أمر الله به رسوله من الأدعية، وما هو أقرب إلى الإجابة منا، بل توسلوا بـ العباس وغيره ممن ليس مثل النبي صلى الله عليه وسلم، دل عدولهم عن التوسل بالأفضل إلى التوسل بالمفضول أن التوسل المشروع بالأفضل لم يكن ممكناً].

نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذرائع الشرك

نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذرائع الشرك قال رحمه الله تعالى: [وقد قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، رواه مالك في موطئه ورواه غيره. وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني). وفي الصحيحين أنه قال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً). وفي صحيح مسلم عن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاًُ لاتخذت أبا بكر خليلاً، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك). وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)].

الكلام على حديث الضرير في التوسل

الكلام على حديث الضرير في التوسل قال رحمه الله تعالى: [وقد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه علم رجلاً أن يدعو فيقول: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد يا رسول الله، إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي، اللهم شفعه في)، وروى النسائي نحو هذا الدعاء. وفي الترمذي وابن ماجه عن عثمان بن حنيف: (أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك، فقال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا رسول الله يا محمد، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه النسائي عن عثمان بن حنيف ولفظه: (أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله، ادع الله أن يكشف لي عن بصري، قال: فانطلق فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري، اللهم فشفعه في، قال: فرجع وقد كشف الله عن بصره). وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا روح حدثنا شعبة عن عمير بن يزيد الخطمي المديني قال: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف: (أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت أخرت ذلك فهو خير لآخرتك، وإن شئت دعوت لك، قال: لا، بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضأ، وأن يصلي ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى، اللهم فشفعني فيه وشفعه في، قال: ففعل الرجل فبرأ). فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء]. العبارات الأخيرة في الحديث قد تشكل في فهمها مع أن الشيخ شرحها قبل ذلك وسيبينها أيضاً فيما بعد؛ لكن أشير إلى الفهم الصحيح لها، فقوله بعدما قال: (يا محمد إني أتوجه بك) أي: أتوجه بك إلى ربي أن تدعو لي في حاجتي هذه فتقضى. وقوله: (اللهم فشفعني فيه) أي: اقبل دعائي، (وشفعه في) أي اقبل دعاءه، وهذا ما فسره به الشيخ، وهو أيضاً مقتضى مفهوم القصة من خلال ألفاظها، ومن خلال سياقها اللفظي والعملي، فإننا إذا تصورنا وقائع قصة الأعمى وما ورد فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم من توجيه لهذا الضرير، ثم ما فعله هذا الضرير نجد أن الألفاظ يفسر بعضها بعضاً، وإن كانت في بعض سياقاتها ملبسة، وهذا اللبس هو الذي استمسك به أهل البدع، فأجازوا التوسل البدعي، ومما يمكن أن يلبس هذه العبارة: (اللهم فشفعني فيه)، نحن نعلم أن المقصود: اقبل دعائي في أن تقبل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في، (وشفعه في)، يعني: اقبل دعاءه حينما يدعو لي، ولذلك لما فعل ذلك استجاب الله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فقبل شفاعته فعاد إليه بصره. قال رحمه الله تعالى: [فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء]. بعد هذه العبارة سيذكر وجوه الخطأ في فهم هذه النصوص عند المبتدعة، وسيميز بين وجه الخطأ ووجه الصواب في سياق النصوص. قال رحمه الله تعالى: [ومن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل به مطلقاً حياً وميتاً]. يعني: أنهم عمموا جواز التوسل، وما اقتصروا على الصورة المشروعة الواردة، فالصورة المشروعة الواردة واضحة، وأنها تسد منافذ البدعة، وتفتح منافذ المشروع، للوضوح من سياقاتها القولية والعملية. أهل البدع عمموا النص، فقالوا: هذا يقتضي جواز بذات النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً، سواء كان حياً أو ميتاً. قال رحمه الله: [وهذا يحتج به من يتوسل بذاته بعد موته وفي مغيبه، ويظن هؤلاء أن توسل الأعمى والصحابة في حياته كان بمعنى الإقسام به على الله أو بمعنى أنهم سألوا الله بذاته أن يقضي حوائجهم]. الإقسام به على الله يتجه إلى الجاه في الغالب. أما الثاني: فهو التوسل بذاته، يعني: اعتقاد أن ذاته مؤثرة في تقدير الله عز وجل وفي حكم الله، أي أنهم يجعلون النبي صلى الله عليه وسلم كالصنم الذي يعبدونه، ويتقربون بذاته إلى الله عز وجل، لا بأعمالهم ولا بموافقتهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو باتباعهم للسنة، أو بطلب دعائه، فلا يكتفون بالمشروع، فيجعلون ذاته أو تعظيم ذاته وسيلة للشرك مع الله عز وجل، وهم ممن يغلون في النبي صلى الله عليه وسلم إلى حد التقديس، ولا نستغرب ذلك منهم، إذا عرفنا أن تصورهم في النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعلم الغيب، وأنه يشارك الله في الربوبية، وأن له هيمنة على الكون، فمن الطبيعي إذا كان هذا تصورهم؛ تصور الغلو والتقديس أن يعتقدوا أن الن

الأسئلة

الأسئلة

معنى قول ابن تيمية: (كتب الله في اللوح المحفوظ أننا سننتصر)

معنى قول ابن تيمية: (كتب الله في اللوح المحفوظ أننا سننتصر) Q في ملحق الفتاوى لـ شيخ الإسلام من الأعداد الجديدة المطبوعة كلام لـ ابن القيم يذكر فيه عن شيخ الإسلام أنه كان قبل غزو التتار يقول: كتب الله في اللوح المحفوظ أننا سوف ننتصر، فعلام يحمل قول الشيخ هنا؟ A يظهر لي والله أعلم أنه يقصد أنهم إذا أخذوا بأسباب النصر، كتب الله عز وجل الغلبة لله ولرسله، كما ورد في القرآن الكريم وفي صحيح الأحاديث التي أثبتت أن المسلمين إذا بذلوا الأسباب واستنفذوا جهدهم أن الله وعدهم بالنصر، فقد يقصد ذلك، أي أن الله كتب في اللوح المحفوظ بمقتضى وعده لا بمقتضى فعل البشر، وهذا الكلام مجمل، وهذا لا مانع من قوله من باب تقوية عزائم المسلمين؛ لأن له مقصداً صحيحاً وإن كانت العبارة موهمة.

مظان الكلام على أدلة كفر تارك الصلاة

مظان الكلام على أدلة كفر تارك الصلاة Q هذا يسأل عن العلماء الذين يرون أن كفر تارك الصلاة كفر عملي، وأين بسطوا أدلتهم؟ A في غالب كتب الفقه المطولة، وأيضاً في كتب متخصصة في هذا الموضوع، وهناك كتب فصلت في مثل هذه المسائل مثل كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأيضاً توجيه النصوص والأحاديث في تعظيم قدر الصلاة للمروزي أشار فيه إلى أشياء كثيرة من هذا، فينبغي الرجوع إلى مثل هذه الكتب.

الفكر العصراني العقلاني

الفكر العصراني العقلاني Q يكثر في هذه الأيام أطروحات الفكر العصراني والعقلاني، سواء من العقلانيين أو ممن يسمونهم المفكرين الإسلاميين، ومن بعض الدعاة، فالرجاء بيان مناهج هؤلاء، وهل أطروحاتهم موافقة للسنة مع بيان أوجه المخالفة؟ A هذا موضوع طويل، لكن أوجز التصور عن الفكر العصراني العقلاني فأقول: هو أولاً: امتداد للمناهج الكلامية الاعتزالية، وزاد عليها بالأخذ بمناهج الغربيين ونظرتهم تجاه الديانات وتجاه الشرائع، فتلخص منهج العصرانيين في أنهم يرون أن الإسلام إنما يدور مع مصلحة البشر، ومصلحة البشر هم الذين يقررونها، هذا ملخص منهج العقلانيين أي أنهم يرون أن الإسلام جاء لإسعاد البشر من حيث رؤيتهم هم، وأن البشر هم الذين يقررون سعادتهم وإسعادهم، فمن هنا أرادوا أن يطوعوا الإسلام لمناهجهم وأهوائهم، لا لأن يسيروا على ما يريده الإسلام، ولذلك يستدلون بالنصوص المجملة، ولا يستدلون بالنصوص المفصلة أبداً ولا يطيقونها، فلا يعرجون على النصوص التي تحلل وتحرم إطلاقاً، لكن يعرجون على النصوص العامة التي فيها ذكر المصالح، وتقرير العدل، ولذلك يستدلون بالقرآن ولا يستدلون بالسنة؛ لأن القرآن فيه مجملات وليس فيه تفاصيل الشريعة، وينفرون من الاستدلال بالسنة إلا الحديث الذي يحلو لهم، إذا أعجبهم قد يستدلون به، وإلا فالسنة ليست لها ميزان عندهم، وهذا تصور لمنهج العقلانيين، وإلا فهو يمثل مناهج أهل الأهواء عموماً، والاتجاه العصراني هو عبارة عن خلاصة المناهج، ورايات الأهواء رفعت من جديد بأسلوب عصري ملبس. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[31]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [31] الشفاعة الواردة في النصوص شفاعتان: شفاعة مثبتة وشفاعة منفية، فالمنفية هي كل شفاعة لم يأذن الله تعالى بها، والمثبتة هي التي أثبتها الله تعالى لعباده الصالحين وملائكته المقربين، وتكون بإذنه ورضاه سبحانه وتعالى.

حديث الضرير في التوسل

حديث الضرير في التوسل قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ومن الناس من يقولون: هذه قضية عين يثبت الحكم في نظائرها التي تشبهها في مناط الحكم، لا يثبت الحكم بها فيما هو مخالف لها لا مماثل لها، والفرق ثابت شرعاً وقدراً بين من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وبين من لم يدع له، ولا يجوز أن يجعل أحدهما كالآخر]. هذه المسألة هي امتداد للكلام السابق، في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو التوسل بدعائه، أو التوسل به في دعاء الله عز وجل، وذكر الشيخ وجه الخطأ والتناقض في فهم المبتدعة، وأنهم لم يفرقوا بين التوسل به بمعنى طلب الدعاء منه وهو حي، وبين التوسل بذاته بالإقسام به على الله.

بيان أن توسل الضرير برسول الله هو طلب الدعاء منه

بيان أن توسل الضرير برسول الله هو طلب الدعاء منه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الأعمى شفع له النبي صلى الله عليه وسلم فلهذا قال في دعائه: (اللهم فشفعه في)، فعلم أنه شفيع فيه، ولفظه: (إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك، فقال: ادع لي)، فهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي ويدعو هو أيضاً لنفسه، ويقول في دعائه: (اللهم فشفعه في)، فدل ذلك على أن معنى قوله: (أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد) أي: بدعائه وشفاعته، كما قال عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا. فالحديثان معناهما واحد، فهو صلى الله عليه وسلم علم رجلاً أن يتوسل به في حياته، كما ذكر عمر أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا، ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلاً عنه، فلو كان التوسل به حياً وميتاً سواء، والمتوسل به الذي دعا له الرسول كمن لم يدع له الرسول، لم يعدلوا عن التوسل به وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه وأقربهم إليه وسيلة، إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله. وكذلك لو كان أعمى توسل به ولم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى، لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثلما فعل الأعمى، فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛ فإنهم أعلم منا بالله ورسوله وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء وينفع، وما لم يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره، وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير؛ وإنزال الغيث بكل طريق ممكن، دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه]. يقصد بهذا صورة واحدة، وهو أن دعاء الغائب مثل دعاء الميت؛ فدعاء الغائب لا يجوز كما أن دعاء الميت لا يجوز، والسبب أنه لا يسمع دعاء من يدعوه أو يدعو به أو يتوسل به، ولذلك يقول شيخ الإسلام: إنه لم يحدث من الصحابة أو من أفرادهم كالأعمى أن دعوا النبي صلى الله عليه وسلم أو دعوا الله أن يستجيب دعاءه فيهم وهو غائب، وإنما الحديث عن صورة واحدة تكررت، وهو أنه يأتي بعض الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو حاضر يسمع؛ فيطلب منه أن يشفع له بالدعاء فيدعو له، أما وهو غائب فلم يقع ذلك. فهذا ما أراده الشيخ. وهذا أيضاً يحكم القول ويقوي الحجة ضد أهل البدع؛ أن الصحابة كان فيهم أصحاب ضرورات، وفيهم عميان غير هذا الأعمى، وأحياناً تقع لهم ضرورات عامة ليست ضرورات شخصية، وجوائح وجدب في بعض ديار الإسلام، ومع ذلك ما كانوا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم وهو غائب، مع أنه حي بين ظهرانيهم، فكيف وقد مات؟ إذاً: الأمر واضح، هو أنه حتى الذين يدعون الغائبين من الأحياء يقعون في البدعة، كما يخطئون في دعائهم للأموات، وحتى دعاء الحي بما لا يقدر عليه شرك؛ لكن القصد هنا طلب الدعاء من الغير، وهذه هي الصورة التي نتكلم فيها، فإن طلبت منه أن يدعو لك وهو حاضر، ويملك أن يدعو فهذا مشروع، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوسل به الصحابة ولم يدعوه وهو غائب، ولا طلبوا أيضاً بمغيبه عنهم أو في غير حضرته أن يدعو لهم من هذا الباب حتى في صورة التوسل المشروع؛ لأن التوسل المشروع لا يكون إلا من حاضر يسمع ويقدر.

أدلة على مشروعية التوسل بطلب الدعاء

أدلة على مشروعية التوسل بطلب الدعاء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء ما فعلوه دون ما تركوه؛ وذلك أن التوسل به حياً هو الطلب لدعائه وشفاعته، وهو من جنس مسألته أن يدعو لهم، وهذا مشروع، فما زال المسلمون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم. وأما بعد موته فلم يكن الصحابة يطلبون منه الدعاء، لا عند قبره ولا عند غير قبره كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين؛ يسأل أحدهم الميت حاجته، أو يقسم على الله به ونحو ذلك، وإن كان قد روي في ذلك حكايات عن بعض المتأخرين. بل طلب الدعاء مشروع من كل مؤمن لكل مؤمن، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عمر لما استأذنه في العمرة: (لا تنسنا يا أخي من دعائك) إن صح الحديث. وحتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر للطالب وإن كان الطالب أفضل من أويس بكثير].

الكلام على التوسل بطلب الدعاء وأن تركه أولى

الكلام على التوسل بطلب الدعاء وأن تركه أولى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراًً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة). مع أن طلبه من أمته الدعاء ليس هو طلب حاجة من المخلوق، بل هو تعليم لأمته ما ينتفعون به في دينهم، وبسبب ذلك التعليم والعمل بما علمهم يعظم الله أجره]. إذاً: صلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم، هي استجابة لأمر الله عز وجل، فإن الله أمرنا بذلك في كتابه، وهذا تكريم للرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك بناء على أمر الله، وليس ذلك لأن أحداً من الناس أفضل من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو أفضل الخلق على الإطلاق، ولا لأن النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى دعائنا، لكننا نحن المحتاجون. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإنا إذا صلينا عليه مرة صلى الله علينا عشراً، وإذا سألنا الله له الوسيلة حلت علينا شفاعته يوم القيامة، وكل ثواب يحصل لنا على أعمالنا فله مثل أجرنا من غير أن ينقص من أجرنا شيء، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً). وهو الذي دعا أمته إلى كل خير، وكل خير تعمله أمته له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ولهذا لم يكن الصحابة والسلف يهدون إليه ثواب أعمالهم ولا يحجون عنه ولا يتصدقون ولا يقرءون القرآن ويهدون له؛ لأن كل ما يعمله المسلمون من صلاة وصيام وحج وصدقة وقراءة له صلى الله عليه وسلم مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء، بخلاف الوالدين، فليس كل ما عمله المسلم من الخير يكون لوالديه مثل أجره، ولهذا يهدي الثواب لوالديه وغيرهما. ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم مطيع لربه عز وجل في قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، فهو صلى الله عليه وسلم لا يرغب إلى غير الله. وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون). فهؤلاء من أمته وقد مدحهم بأنهم لا يسترقون، والاسترقاء: أن يطلب من غيره أن يرقيه، والرقية من نوع الدعاء، وكان هو صلى الله عليه وسلم يرقي نفسه وغيره، ولا يطلب من أحد أن يرقيه. ورواية من روى في هذا (لا يرقون) ضعيفة غلط، فهذا مما يبين حقيقة أمره لأمته بالدعاء أنه ليس من باب سؤال المخلوق للمخلوق الذي غيره أفضل منه، فإنه من لا يسأل الناس، بل لا يسأل إلا الله، أفضل ممن يسأل الناس، ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم]. مسألة الاسترقاء والرقية، تكلم فيها العلماء بكلام كثير، وكله فيه توجيه بمعنى كونهم لا يسترقون؛ لأن أكثر أهل العلم افترض بعض الإشكالات، إذا نظرنا إلى عموم النصوص التي تجيز التداوي وتجيز الرقية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رقى، وأنه رقي، فكيف صار عدم الاسترقاء صفة مدح؟ ثم إن المسلم إذا احتاج إلى الرقية، فهل يعني ذلك أنه لا يشرع له أن يطلب الرقية، وما معنى كونهم لا يسترقون؟ فأولاً: لا يفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يسترقون) أنهم يمنعون الرقية، أو أنهم لا يرونها مشروعة، فإن هؤلاء طبقة ممن يكون فقههم بحيث لا يعارضون شرع الله عز وجل، هؤلاء من الطبقة الخلص الأتقياء، الذين لا يمكن أن يكون منهم بدعة أو أمر يخل بما شرعه الله عز وجل. إذاً: من أحسن ما وجه به هذا النص أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (هم الذين لا يسترقون)، أي: لا يطلبون الرقية لا لأنهم يرونها غير جائزة، لكن لقوة إيمانهم ويقينهم وتوكلهم على الله عز وجل وإحسانهم في العبادة لا تتوق نفوسهم إلى الرقية. وهذا له نماذج من حياة أفراد من السلف، يصل الواحد منهم إلى درجة أنه لا تتطلع نفسه إلى بذل الأسباب، لا لأنه يراها محرمة، لكن لقوة يقينه بالله عز وجل، ولقوة اعتماده بنفسه على الأسباب الشرعية، لا يطلب الرقية، فهذه قوة إيمان يهبها الله عز وجل لمن يشاء، فيصل عنده التوكل واليقين إلى ألا تطلع نفسه إلى طلب الرقية؛ لا لأنه لا يراها مشروعة أو أنه يحرمها، أو يحرم نفسه مما أباحه الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تداووا عباد الله)، وأن أفضل ما تداوينا به هو هذا القرآن، فالجمع بينهما ما ذكرت، والله أعلم. وقد يقال: ما الفرق بين طلب الرقية وطلب التطبب، حيث إنه مشروع؟ والذي يظهر لي عدم الفرق، أي أنهم لا يطلبون الطبيب، والدليل على هذا قوله: (ولا يكتوون)، والكي من الطب، كما يقال: آخر الدواء الكي، لكن مع ذلك ربما يكون التداوي أفضل من الكي؛ لأن الكي مكروه، كما ورد في أحاديث أخرى. و

أعظم الدعاء إجابة

أعظم الدعاء إجابة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث: (أعظم الدعاء إجابة دعاء غائب لغائب)، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكاً، كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثله)؛ وذلك أن المخلوق يطلب من المخلوق ما يقدر المخلوق عليه، والمخلوق قادر على دعاء الله ومسألته، فلهذا كان طلب الدعاء جائزاً، كما يطلب منه الإعانة بما يقدر عليه، والأفعال التي يقدر عليها. فأما ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فلا يجوز أن يطلب إلا من الله سبحانه، لا يطلب ذلك لا من الملائكة، ولا من الأنبياء ولا من غيرهم، ولا يجوز أن يقال لغير الله: اغفر لي، واسقنا الغيث، وانصرنا على القوم الكافرين، أو اهد قلوبنا ونحو ذلك].

حكم الاستغاثة بالمخلوق

حكم الاستغاثة بالمخلوق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا روى الطبراني في معجمه: (أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصديق رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فجاءوا إليه فقال: إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله) وهذا في الاستعانة مثل ذلك. فأما ما يقدر عليه البشر، فليس من هذا الباب، وقد قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]، وفي دعاء موسى عليه السلام: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وإليك المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك. وقال أبو يزيد البسطامي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق. وقال أبو عبد الله القرشي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57]. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء، فقال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم هم عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي ويتقربون إلي كما تتقربون إلي. فنهى سبحانه عن دعاء الملائكة والأنبياء، مع إخباره لنا أن الملائكة يدعون لنا ويستغفرون، ومع هذا فليس لنا أن نطلب ذلك منهم، وكذلك الأنبياء والصالحون وإن كانوا أحياء في قبورهم، وإن قدر أنهم يدعون للأحياء وإن وردت به آثار، فليس لأحد أن يطلب منهم ذلك، ولم يفعل ذلك أحد من السلف؛ لأن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم وعبادتهم من دون الله تعالى، بخلاف الطلب من أحدهم في حياته، فإنه لا يفضي إلى الشرك، ولأن ما تفعله الملائكة ويفعله الأنبياء والصالحون بعد الموت هو بالأمر الكوني، فلا يؤثر فيه سؤال السائلين، بخلاف سؤال أحدهم في حياته فإنه يشرع إجابة السائل، وبعد الموت انقطع التكليف عنهم]. هنا مسألة قد توهم، وهي قوله: (وإن وردت به آثار)، وهو لا يقصد بالآثار الآيات والأحاديث. وقوله: (وإن وردت به آثار)، أي: دعاء الأموات، أو القول بأنهم يسمعون؛ فهذا وإن وردت به آثار، فإن هذه الآثار أولاً ليست أحاديث صحيحة، وسماع الأموات محدود على ما ورد به الشرع، فقد ورد أن الميت يسمع وقع نعال الذين يدفنونه، وورد أن بعض الأموات يسمعون السلام ويردون السلام على من سلم عليهم، هذه مسألة محدودة على هيئة معينة وبأمر محدود شرعاً ووقت محدود، فلا يعني هذا أنهم يسمعون دائماً، ثم لو سمعوا أيضاً فلم يرد أنهم يدعون. وما ورد من آثار يقصد أنه في عهد السلف وردت تجاوزات من بعض أناس: إما أن يكونوا جهلة، أو لم تثبت، أو ثبتت عن تأول منهم، أو أنها زلة من زلات بعض العلماء، فإذا كان قد حدث مثل هذا، فإن هذه الآثار ليست أدلة شرعية، والأمور الخطيرة كهذه لا يستند فيها إلا إلى دليل شرعي، لا إلى تصرفات أفراد أو زلات علماء، فتجعل أصولاً وقواعد تنسف بها السنة وتثبت بها البدعة، ويقع الناس بسببها في الشرك. ولذلك فغاية ما يتعلق به أهل الأهواء والبدع في التوسلات البدعية، تجدها إما أشعار وإما مواقف من بعض الأعراب وإما أشياء لم تثبت، أو تثبت على وجه مجمل لا يعد دليلاً صريحاً على نوع البدعة، أو على الهيئة التي يبتدعونها، فهذه الآثار مما فتن به الناس، وليست أصلاً في الدين ولا من الأمور المشروعة.

دعاء الأموات للأحياء

دعاء الأموات للأحياء مداخلة: هذه الآثار التي يشير إليها الشيخ، هل المقصود فيها دعاء الأموات للأحياء، أو دعاء الأحياء الأموات؟ A هو قال: (وكذلك الأنبياء والصالحون وإن كانوا أحياء في قبورهم، وإن قدر أنهم يدعون للأحياء، وإن وردت به آثار)، يعني: وإن وردت آثار عن بعض الناس أن الأنبياء والصالحين يدعون للأحياء، أي: يسمعون المتوسلين ويدعون لهم. إذاً: فالمنفي هنا عدة صور: المنفي هو أنهم أولاً يسمعون مطلقاً، وإن كان في الأنبياء غير ما عند عامة الناس. والأمر الثاني أيضاً: أنهم إذا سمعوا يستطيعون الإجابة، ثم نفى ما هو أخص؛ وهو أنهم إذا سمعوا فإنهم يستطيعون الدعاء لمن طلب منهم، ماداموا أمواتاً في قبورهم، فهذه الصور كلها منفية، وإن وردت بها آثار عن بعض الناس.

الله تعالى لا يأمر بالشرك ووسائله

الله تعالى لا يأمر بالشرك ووسائله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80]. فبين سبحانه أن من اتخذ الملائكة والنبيين أرباباً فهو كافر. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]. وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]. وقال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس:3]. وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة:4]. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]. وقال تعالى عن صاحب يس: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:22 - 25]. وقال تعالى: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]. وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109]. وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]. فالشفاعة نوعان: أحدهما: الشفاعة التي نفاها الله تعالى كالتي أثبتها المشركون ومن ضاهاهم من جهال هذه الأمة وضلالاهم، وهي شرك. والثاني: أن يشفع الشفيع بإذن الله، وهذه التي أثبتها الله تعالى لعباده الصالحين، ولهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتي ويسجد، قال: (فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقال: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع). فإذا أذن له في الشفاعة شفع صلى الله عليه وسلم لمن أراد الله أن يشفع فيه]. الشفاعة المنفية التي ذكرها الشيخ المقصود بها: كل شفاعة زعمت لمن ليس بشفيع، أو كل شفاعة لم يأذن بها الله عز وجل، أي: لم تكن برضا الله وإذنه، فمن لم يكن بشفيع مثل الأصنام والأوثان والكواكب والنجوم والكفار الذين يعبدون من دون الله برضاهم وغير ذلك كل هؤلاء ليسوا شفعاء، وكل ما يستشفع به المشركون فإن شفاعتهم منفية؛ إما لأن الذين استشفعوا بهم ليسوا شفعاء، أو أنهم شفعاء، -ومن هنا تأتي الصورة الثانية- لكن الله عز وجل لم يأذن بهذا النوع من الشفاعة، فالمشركون وأهل البدع الذين يطلبون من الأنبياء أن يشفعوا لهم، لا شك أن الأنبياء شافعون عند الله، لكن لم يأذن الله عز وجل بأن يشفعوا للكفار، بما فيهم أهل البدع الذين يعملون الأعمال الشركية، فهؤلاء ليسوا من المشفوع لهم. فإذاً: مثال الشفاعة المنفية: هي التي تطلب ممن ليس من أهل الشفاعة، من حجر أو شجر أو جماد أو طير أو غير ذلك، أو كانت من صاحب شفاعة، لكنها طلبت لمن لا يستحق الشفاعة، كالمشرك والمنافق الخالص والكافر وغيرهم ممن لم يأذن الله بأن يشفع لهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أهل هذا القول: ولا يلزم من جواز التوسل والاستشفاع به -بمعنى أن يكون هو داعياً للمتوسل به- أن يشرع ذلك في مغيبه وبعد موته، مع أنه هو لم يدع للمتوسل به، بل المتوسل به أقسم به أو سأل بذاته، مع كون الصحابة فرقوا بين الأمرين؛ وذلك لأنه في حياته يدعو هو لمن توسل به، ودعاؤه هو لله سبحانه أفضل دعاء الخلق، فهو أفضل الخلق وأكرمهم على الله، فدعاؤه لمن دعا له وشفاعته له أفضل دعاء مخلوق لمخلوق، فكيف يقاس هذا بمن لم يدع له الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يشفع له؟]. قوله: (بمن لم يدع له النبي صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لأنه غائب وميت، إما أنه غائ

الأسئلة

الأسئلة

أسباب قسوة القلب وعلاجه

أسباب قسوة القلب وعلاجه Q من الظواهر عند بعض طلاب العلم قسوة القلوب مع حرصهم على العلم وطلبه، فما هي الأسباب وما هو العلاج، وهل من أسبابها التعلم بعيداً عن تعظيم الله والنصوص؟ A عدم تعظيم الله عز وجل وعدم تعظيم النصوص راجع لقسوة القلب، وقسوة القلب أسبابها كثيرة، لكن لعل من أبرز أسبابها أن الدنيا ضحكت للناس ببهرجها وأضوائها، هذه لا شك أنها تشد الناس إلى الدنيا والشهوات والمغريات، فالآن كل ما أمام المسلم يصرفه عن حلاوة الإيمان إلا من جاهد نفسه جهاداً عظيماً، أنت في الصلاة الآن والمسجد مضاء ومزخرف، والفرش مزخرفة، والصوت رنان، والجو مكيف فلا شك أن هذه صوارف. ثم المغريات الأخرى في البيت والشارع مع التكاسل والتقصير في بذل الأسباب التي تُبعد الإنسان عن هذه الأجواء ولو في بعض أيامه حتى يتذوق فيها طعم الإيمان ويتزود بالتقوى واليقين والاستقامة. الآن حتى لو ذهبت إلى بيت الله الحرام، فأمامك أضواء وبهرج ومناظر، والناس يتحلقون حلقاً للكلام كأنهم في الشوارع، وبدءوا الآن يدخلون القهوة والعصيرات فالعابد الذي يعبد الله على ما كان يرى مدة 30 أو 20 سنة ما استطاع ذلك، لا تستطيع أن تتخلص من الأضواء إلا بصعوبة، فهذه من أسباب قسوة القلوب. اليوم الدنيا ضحكت للناس ضحكة الذئب، والذئب إذا كشّر عن أنيابه لفريسته، تظن الفريسة المغفلة أنه يضحك، ونحن كذلك نسأل الله أن يعفو عنا، الآن ضحكت لنا الدنيا وأكثرنا متبسط في الحياة، كوننا نغتبط بنعمة الله عز وجل علينا هذا طيب، لكن إلى أي حد؟ فأجد أننا مقصرون في شكر النعمة وفي رعايتها وفي تقييدها بالقيود الشرعية. واستتبع هذا طلب الدنيا والتعلق بها واستتبع هذا أموراً كثيرة، ثم ضعف الاشتغال بالأمور التي تحيي القلب، وأهمها الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأكثر الناس يكفيه أن يتعلم وأن يجلس مع جلساء صالحين من شكله، لكن يقتلون الأوقات قتلاً، لا تجد هناك أعمال حسبة، لأن أعمال الحسبة تنقل الإنسان من جو إلى جو آخر، حتى يتذوّق الخير ويتذوق المعروف، فتدخل في قلبه آثار البر فتصلحه وتؤثر فيه. ثم قلة الذكر، ومع كثرة المشغلات يسهو الناس ويغفلون عن الذكر، وهذا مما يقسي القلب. وكذلك قلة الاستغفار وهكذا وعلى كل حال فأمثالكم يدركون أسباب قسوة القلب، لكن الكلام عن: ما هو العلاج؟ ولذلك أنا أرى أن طلاب العلم -ونحن منهم- مقصرون فنحن وإن انتسبنا إلى العلم فنحن أول المقصرين، مقصرون في طرق جانب الوعظ وتحريك القلوب، الآن أكثر كلام الخطباء والدعاة والمصلحين في مسألة الأحكام والمعلومات، لكن الوعظ قليل، فكم تعد مثلاً من الخطباء المشهورين بالوعظ في الرياض؟ أظنهم يُعدون على أصابع اليد! فينبغي لطلاب العلم والخطباء أن يحرصوا على جانب الوعظ، فالناس قست قلوبهم وتراكمت القسوة، وطلاب العلم والدعاة قست قلوبهم؛ لأن جانب الوعظ قليل جداً، فينبغي للناس أن يهتموا بالأمور التي تزيل قسوة القلوب، وأمها الوعظ في المنابر وفي المجالس وفي كل مكان، ثم الأمور التي تليّن القلوب، مثل زيارة المقابر، وزيارة المرضى، والحرص على أن تكون أكثر الأعمال مخلصة وصادقة لله عز وجل. التزاور في الله الآن إذا طرق عليك أحد الباب فغالب ما يرد في ذهنك أنه يريد شيئاً لغير أمور الدين، وآخر ما يرد في ذهنك أنه يزورك في الله، بل هذه الكلمة لم نعد نسمعها إلا في النادر، والنادر لا حكم له الناس من قبل كان أكثر تزاورهم في الله، يطرق عليك الباب يريد أن يسأل عن حالك وكيف أنت؟ ويجلس معك قليلاً يذكرك بأمر يهمك في دينك وفي إصلاح قلبك ثم يمشي، الآن أكثر زيارات الناس للعلاقات، أو لرد معروف أو نحو ذلك. فأقول: هذا من الأمور التي تسبب قسوة القلوب، وعلاجها يحتاج إلى كلام آخر، ولعل هذا يكون موضوع محاضرة تقترحونها على المشايخ، ولعل المشايخ يطرحون العلاج الشرعي، والله أعلم، نسأل الله للجميع التوفيق والسداد والرشاد، ونسأل الله أن يجمعنا جميعاً في دار كرامته. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

[32]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [32] ترتكز العبادة على أصلين عظيمين: أولهما: ألا يعبد إلا الله وحده، والثاني: أن يعبد الله بالشرع والاتباع، لا بالهوى والابتداع، وأن يكون العمل خالصاً لله تعالى لا يشوبه رياء ولا شرك ولا بدعة، فمن عبد الله ولكنه يصرف نوعاً من العبادة لغير الله، كالحلف والذبح أو الطواف أو غير ذلك، فما حقق أصلي العبادة التي أرادها الله تعالى من العبد.

الأصول التي ترتكز عليها العبادة

الأصول التي ترتكز عليها العبادة قبل أن نبدأ أحب أن أنبه إلى أن الشيخ هنا يتكلم في نوع الشفاعة، ثم ما يتعلق بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن هناك فرقاً بين التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبين التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد موته. وقال: إن التوسل به بعد موته على النحو الذي يعمله أهل البدع وسيلة إلى الوقوع في الإشراك، كما أشركت النصارى بالمسيح واليهود بالعزير، ووقعوا في الشركيات حتى عند قبور الأنبياء والصالحين، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يُطرى بمعنى أن يُقدّس أو يعظّم بأعظم مما يحق له، أي أن يوصف بصفات الله عز وجل أو يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله. ثم ذكر الخلاصة في قوله: وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان: أحدهما: ألا نعبد إلا الله، والثاني: ألا نعبده إلا بما شرع. ثم فرّع على هذه المسألة، ولنبدأ الآن بقراءة المقطع. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان: أحدهما: أن لا نعبد إلا الله، والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة. وهذان الأصلان هما تحقيق: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، وذلك تحقيق قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]. وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً. وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ر). وفي لفظ في الصحيح: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). وفي الصحيح وغيره أيضاً يقول الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك). ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف، كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنه قبّل الحجر الأسود، وقال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك)]. هذا مثال لمعنى التوقيف، وهذه العبارة تستعمل كثيراً، وهي عبارة صحيحة وسليمة، لكن أكثر الناس قد لا يفقه معناها بالتفصيل، أي أنه كثيراً ما يقول أهل العلم: هذه المسألة توقيفية، هذا الأمر توقيفي، هذا الحكم توقيفي، ويقصدون بذلك أنه محصور على ما ورد في الشرع، لا يجوز استمداده من غير الشرع، والدين كله توقيفي، لكن التوقيف له حدان، يرجع هذان الحدان إلى نوع التشريع أو نوع الحكم الشرعي، فإذا كان الأمر الشرعي يتعلق بأمر غيب أو بأصول الاعتقاد أو الأحكام القطعية مثل الحلال القطعي والحرام القطعي، أو بضوابط الشرع مثل: (إنما الأعمال بالنيات)، ومثل: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فهذه الأصول كلها توقيفية. والجانب الآخر هو أيضاً توقيفي، لكنه توقيفي في أصله وليس في فرعه، بمعنى أنه توقيفي في حكمه وليس في تطبيقه، وأعني بذلك النصوص والقواعد الشرعية التي يكون استخراج الأحكام منها اجتهادياً، أي أن إرجاع الصور وأفعال البشر إلى هذه القواعد هو الاجتهادي، فهو توقيفي من حيث الأصل واجتهادي من حيث التطبيق؛ لأن التطبيق يتنازع العلماء أحياناً في إرجاعه إلى أصل من الأصول. والحاصل أن أحكام الشرع كلها حتى الاجتهادية منها راجعة إلى الأمور التوقيفية، لكن من حيث إلحاق أفعال البشر بالأصول هذا هو الاجتهادي، فإذا نزلت نازلة من النوازل اجتهد العلماء في إلحاقها بالأصول التوقيفية، فهذا يلحقها بالأصل الفلاني، وذاك يلحقها بالأصل الفلاني، وذاك يلحقها بالدليل الفلاني فمن هنا كان استمداد الأحكام من النصوص هو الاجتهادي، أما القواعد والأصول فكلها توقيفية. إذاً: الدين كله توقيفي، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)؛ لأن الدين كله موقوف على ما ورد في الوحي مما جاء عن الله تعالى وصح عن رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: معنى (توقيفي) أن الدين كله إنما يستمد من الوحي -أي من الكتاب والسنة- لا من غيره. قال المؤلف رحمه

حكم الحلف بغير الله

حكم الحلف بغير الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد جاء في الأحاديث النبوية ذكر ما يسأل الله تعالى به، كقوله: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي، يا قيوم) رواه أبو داود وغيره. وفي لفظ: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه]. في هذا المقطع بيّن الشيخ نماذج من التوسلات الشرعية، والتي هي القواعد التي ينطلق منها، فالتوسلات الشرعية هي سؤال الله عز وجل بأسمائه وصفاته، وسؤاله أيضاً بنعمه وما من به على العباد، وكذلك سؤال الله عز وجل بالأعمال الصالحة كما في آخر المقطع: (أسألك بأني أشهد أنك أنت الله)، وهذا من أعظم وأعلى درجات الإيمان، أعني: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي من الأعمال التي يسع المسلم، بل يُشرع له، بل يجب عليه أن يسأل بها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى، وهو الحلف بالمخلوقات، فلو حلف بالكعبة، أو بالملائكة، أو بالأنبياء، أو بأحد من الشيوخ، أو بالملوك لم تنعقد يمينه، ولا يشرع له ذلك، بل ينهى عنه إما نهي تحريم، وإما نهي تنزيه؛ فإن للعلماء في ذلك قولين، والصحيح أنه نهي تحريم. ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت). وفي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك). ولم يقل أحد من العلماء المتقدمين: إنه تنعقد اليمين بأحد من الأنبياء إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن عن أحمد روايتين في أنه تنعقد اليمين به، وقد طرد بعض أصحابه كـ ابن عقيل الخلاف في سائر الأنبياء، وهذا ضعيف].

أدلة القائلين بانعقاد الحلف بغير الله تعالى

أدلة القائلين بانعقاد الحلف بغير الله تعالى اعلم أن الذين قالوا تنعقد اليمين به هنا لا يقصدون أنه مشروع، إنما قالوا: إنها تلزم، أي مثل النذر، فالنذر مكروه وقد يحرم لكنه يلزم الإنسان، فكذلك الذين قالوا بانعقاد اليمين في هذه الحال التي يحلف فيها بغير الله لا يقصدون أن اليمين مشروعة، لكن يقصدون أن الإنسان ألزم نفسه بشيء فلزمه مع أن اليمين بدعية، وهي إما محرمة وهو قول الجمهور وهو الصحيح، وإما مكروهة على أقل الأحوال. ربما يرد تساؤل: وهو أن الذين قالوا: إنها مكروهة منهم أناس من علماء السلف قديماً أو حديثاً وإن كانوا قلة، فكيف عدلوا عن الحديث الصريح بأن الحلف بغير الله شرك؟ و A أن لهم في هذا شبهات كثيرة، منها أنه ظن بعضهم أن مثل هذا الحديث منسوخ، وظنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من باب التأكيد، وأنه أقر بعض الأيمان عند الناس. ومنهم من قال: إن الجمع بين النصوص يؤدي إلى تنزيل النهي من التحريم إلى الكراهة وهذا كله مرجوح؛ لأن الحلف بغير الله تعظيم لغير الله في أمر يعتبر من العقود العظيمة بين البشر، فكيف يكون عقد عظيم بين البشر بغير الله؟ هذا غير لائق، مما يدل على أن ظاهر الحديث التحريم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا وصف الأمر بالشرك فأقل أحواله أنه بدعة أو كبيرة. فأقول: هذا من باب التنبيه على عذر بعض الأئمة الذين قالوا بأنه مكروه، مع أنهم قلة وقولهم مرجوح، وتوجيههم للأدلة أيضاً مرجوح.

أصل القول بانعقاد اليمين بالنبي

أصل القول بانعقاد اليمين بالنبي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأصل القول بانعقاد اليمين بالنبي ضعيف شاذ، ولم يقل به أحد من العلماء فيما نعلم، والذي عليه الجمهور كـ مالك والشافعي وأبي حنيفة أنه لا تنعقد اليمين به، كإحدى الروايتين عن أحمد، وهذا هو الصحيح. وكذلك الاستعاذة بالمخلوقات، بل إنما يستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته؛ ولهذا احتج السلف كـ أحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق فيما احتجوا به بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات) قالوا: فقد استعاذ بها، ولا يستعاذ بمخلوق. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً). فنهى عن الرقى التي فيها شرك، كالتي فيها استعاذة بالجن كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والإقسام التي يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغيره التي تتضمن الشرك، بل نهوا عن كل ما لا يعرف معناه من ذلك خشية أن يكون فيه شرك، بخلاف ما كان من الرقى المشروعة فإنه جائز. فإذاً لا يجوز أن يقسم لا قسماً مطلقاً، ولا قسماً على غيره إلا بالله عز وجل، ولا يستعيذ إلا بالله عز وجل. والسائل لله بغير الله إما أن يكون مقسماً عليه]. لأن الإقسام بالشيء سواء كان من باب الحلف أو الاستشفاع، كله نوع من التوسل، ولذلك فصّل الشيخ في هذه المسألة، أي أنه إذا سأل الله بغير الله بمعنى أنه توسل إلى الله بمخلوق، فهو بذلك استشفع أو توسل وسيلة ممنوعة ولا شك؛ لأن الله عز وجل لم يجعل بينه وبين خلقه وسطاً، وأمر بدعائه مباشرة، والوسطاء من العباد الفقراء إلى الله، فكيف يجعلون وسائل.

الروايات المنسوبة عن أحمد

الروايات المنسوبة عن أحمد مداخلة: ماذا يقصد الشيخ بقوله: كإحدى الروايتين عن أحمد؟ A قد يقصد أنها نسبت للإمام أحمد، وكثير ما يذكر الشيخ مثل هذه الأمور عن الإمام أحمد، وسيأتي في مسألة أهم من هذه وأخطر أنها نسبت للإمام أحمد، وأنها رواية رويت، لا يلزم أن يكون الشيخ يرى أنها ثابتة، والإمام أحمد نسبت له أشياء كثيرة لم يقل بها، إما وهم من الذين نسبوها خاصة في هذه المسائل، وإما من باب التخريج على قوله كما يفعل كثير من أتباع الأئمة يخرّجون على أقوالهم بما لم يقولوا به، وهذا وقع للأئمة الأربعة ولغيرهم من أئمة السلف، والشذوذ لا يعني بأنه لم يقل به إمام من الأئمة، فالقول الشاذ قد يقول به إمام من الأئمة، ومع ذلك يعتبر شاذ، لأن الأئمة أو العلماء ليسوا معصومين فقد يحدث منهم بعض المواقف والأقوال الشاذة، إما لتوهم أو لاجتهاد خاطئ.

سؤال الله بغير الله

سؤال الله بغير الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والسائل لله بغير الله إما أن يكون مقسماً عليه وإما أن يكون طالباً بذلك السبب]. أي أنه إذا قال واحد: أسأل بالرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً، فسؤاله بالرسول صلى الله عليه وسلم يحتمل أمرين: أنه يقصد اليمين، وهذا خطأ، أو يقصد التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أيضاً خطأ، فعلى الاعتبارين يعد هذا من الأخطاء التي شاعت عند أهل البدع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما توسل الثلاثة في الغار بأعمالهم، وكما يتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين، فإن كان إقساماً على الله بغيره فهذا لا يجوز]. لا يجوز لأمور أهمها أمران: الأمر الأول: كونه إقساماً على الله، والإقسام على الله لا ينبغي. والأمر الثاني: لأنه حلف بغير الله، وهذا الخطأ فيه أوضح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن كان سؤالاً بسبب يقتضي المطلوب كالسؤال بالأعمال التي فيها طاعة الله ورسوله، مثل السؤال بالإيمان بالرسول، ومحبته، وموالاته ونحو ذلك فهذا جائز. وإن كان سؤالاً بمجرد ذات الأنبياء والصالحين؛ فهذا غير مشروع]. ويدخل في هذا السؤال بالأشياء، لكن الشيخ كثيراً ما يحصر مثل هذه الصور بالأنبياء والصالحين؛ لأن أكثر البلوى من هذا الوجه، لكن أيضاً يدخل فيه من باب أولى السؤال بالأشياء كالذي يسأل بحجر، أو بشجر، أو بقبر، أو بمكان، أو بزمان، أو بحال كل ذلك إما شرك وإما بدعة بحسب الصورة التي يكون فيها السؤال.

السؤال بذوات المخلوقين

السؤال بذوات المخلوقين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد نهى عنه غير واحد من العلماء وقالوا: إنه لا يجوز، ورخّص فيه بعضهم، والأول أرجح كما تقدم، وهو سؤال بسبب لا يقتضي حصول المطلوب، بخلاف من كان طالباً بالسبب المقتضي لحصول المطلوب، كالطلب منه سبحانه بدعاء الصالحين، وبالأعمال الصالحة، فهذا جائز؛ لأن دعاء الصالحين سبب لحصول مطلوبنا الذي دعوا به، وكذلك الأعمال الصالحة سبب لثواب الله لنا، وإذا توسلنا بدعائهم وأعمالنا كنا متوسلين إليه تعالى بوسيلة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، والوسيلة هي الأعمال الصالحة، وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57]]. إذاً: النتيجة والفائدة من هذا المقطع هو أن الشيخ يقول: إن السؤال بمجرد ذوات الأنبياء أو الأشياء أو الأشخاص أو الأحوال أو الهيئات أو الأزمنة، يعني السؤال بالأشياء المخلوقة لا يجوز، ولا يحصل به المطلوب لا شرعاً ولا قدراً، فالله عز وجل لم يشرع لنا أن نحصّل الفائدة والمنافع بالسؤال بالأشياء لا بذات الأنبياء ولا بغيرهم. وأيضاً: لم يجعل من أقداره عز وجل أن تكون هذه الوسائل سبباً لحصول المطلوب، لا نعرف أن من أقدار الله أن السؤال بذوات الأنبياء يحصل به المطلوب، لكن يحصل المطلوب بسبب آخر، فقد يبتلي الله عز وجل بعض الذين يقعون في هذه الشركيات فتحصل لهم مطالبهم لا لأن الذات التي سألوا بها هي السبب، إنما السبب أمر آخر كأن يسلّط الله عليهم الجن والشياطين فيحققون لهم رغباتهم، ويظنون أن الذي حقق رغبته وأن السبب هو هذا الميت أو هذا المسئول به، وهذا خطأ. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما إذا لم نتوسل إليه سبحانه بدعائهم ولا بأعمالنا، ولكن توسلنا بنفس ذواتهم لم تكن نفس ذواتهم سبباً يقتضي إجابة دعائنا]. يعني لم يكن سبباً لا قدراً ولا شرعاً. قال رحمه الله تعالى: [فكنا متوسلين بغير وسيلة؛ ولهذا لم يكن هذا منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً صحيحاً، ولا مشهوراً عن السلف. وقد نُقِل في منسك المروذي عن أحمد دعاء فيه سؤال بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا قد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز القسم به، وأكثر العلماء على النهي في الأمرين]. تلاحظون تعبير الشيخ عما روي عن الإمام أحمد أنه يورده بصيغة التضعيف: (نُقل في منسك المروذي). وأيضاً منسك المروذي الله أعلم هل تصح النسبة فيه للإمام أحمد أو لا تصح، والغالب في مثل هذه الأمور أنها لا تصح عن الإمام أحمد؛ لكنها إما أن تخرّج على قوله أو تكون وهماً من الرواة أو الله أعلم كيف دخلت؛ لأن الإمام أحمد رحمه الله واضح المنهج في مثل هذه الأمور، ومنهجه قوي في الاستمساك بالسنة. ثم إن ثروة الإمام أحمد رحمه الله من النصوص تجعلنا نثق أنه لا يقول بمثل هذه الأمور؛ لأن الإمام أحمد كما تعلمون من الأئمة الذين استوعبوا أكثر السنة، وربما يكون استوعب كل ما روي في وقته إلا النادر؛ لأنه كان يحفظ مليون حديث، استخرج منها المسند الذي هو فوق أربعين ألف حديث. فيندر أن يقع هذا الإمام الذي عُرف باستمساكه بالسنة وعنده هذه الثروة من النصوص في مثل هذه الأمور؛ لأن النصوص صريحة ومتكاثرة في منعها، وقد يكون هناك وجه آخر بعيد في تخريج أقواله من قبل تلاميذه، والله أعلم.

قول العلماء في التوسل بجاه المخلوقين وذواتهم

قول العلماء في التوسل بجاه المخلوقين وذواتهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأكثر العلماء على النهي في الأمرين، ولا ريب أن لهم عند الله الجاه العظيم، كما قال تعالى في حق موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وقد تقدم ذكر ذلك، لكن ما لهم عند الله من المنازل والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا لهم، فإذا توسلنا إلى الله تعالى بإيماننا بنبيه ومحبته وموالاته واتباع سنته فهذا من أعظم الوسائل. وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته فلا يجوز أن يكون وسيلة، فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بالإيمان بالمتوسل به ولا بطاعته فبأي شيء يتوسل؟ والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقال لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عنده، وهذا جائز]. يقصد الشيخ ما نسميه نحن الآن (الوساطات)، وهذا أمر وارد وجائز ولا يدخل فيما نحن فيه، فالناس فعلاً قد يحتاج بعضهم إلى جاه بعض في أمورهم ومصالحهم في الدنيا، لكن تقديم جاه البعض عند الله عز وجل لا ينفع؛ لأن كل إنسان لا ينفعه عند الله إلا عمله، لا جاهه، والجاه الذي يكون للأنبياء أو للصالحين أو للملائكة إنما ينفع أهله ولا ينفع غيرهم، لكن هذا لا يدخل فيما بين الناس من الجاه والحقوق التي بين الأرحام والحقوق التي بين الأصدقاء، والتي بين الراعي والرعية، والقدر الذي يكون للإنسان استخدامه لنفع الآخرين، فإنما هو من باب المنافع التي تكون بين البشر، فهو جائز بالضوابط الشرعية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإما أن يقسم عليه]. يعني: يقسم على المطلوب أو على الله عز وجل. الملقي: [كما يقول: بحياة ولدك فلان، وبتربة أبيك فلان، وبحرمة شيخك فلان، ونحو ذلك. والإقسام على الله تعالى بالمخلوقين لا يجوز، ولا يجوز الإقسام على مخلوق بمخلوق]. لأن هذه الأمور التي ذكرها الشيخ مثل أن يقول: بحياة ولدك أو كذا، سواء قصد القسم أو قصد النوع الآخر وهو اتخاذ الجاه وسيلة فهذه أمور ليست أسباباً لتحصيل المطلوب لا شرعاً ولا قدراً، كما ذكر الشيخ في السابق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإما أن يسأل بسبب يقتضي المطلوب، كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1] وسيأتي بيان ذلك. وقد تبيّن أن الإقسام على الله سبحانه بغيره لا يجوز، ولا يجوز أن يُقسم بمخلوق أصلاً، وأما التوسل إليه بشفاعة المأذون لهم في الشفاعة فجائز. والأعمى كان قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له كما طلب الصحابة منه الاستسقاء، وقوله: (أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة)، أي بدعائه وشفاعته لي، ولهذا تمام الحديث: (اللهم فشفعه في)، فالذي في الحديث متفق على جوازه، وليس هو مما نحن فيه، وقد قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]. فعلى قراءة الجمهور بالنصب إنما يسألون بالله وحده لا بالرحم، وتساؤلهم بالله تعالى يتضمن إقسام بعضهم على بعض بالله، وتعاهدهم بالله]. تفسير الآية واضح؛ لأن الله عز وجل أمر باتقاء الأرحام على قراءة النصب، بمعنى أن ترعى حقوقها، ومن حقوق الأرحام التساؤل بها أيضاً من وجه آخر كما سيأتي، فالتساؤل بالأرحام ليس المقصود به القسم بها ولا التوسل بها، بل اعتبارها في الحقوق، كما إذا رأيت ولداً قصّر في حق أبيه، تقول: هذا أبوك، فتجعل الأبوة وسيلة لأن تقنعه بأن يبر بأبيه، إن كان السائل أخاه تقول: هذا أخوك له رحم وله قرابة، فجعلت القرابة وسيلة لتحقيق الغرض المطلوب من ذاك الشخص المقصّر، وهكذا يقال في كل ما بين الناس من قرابات، فهذا معنى التساؤل بالأرحام، وليس المقصود اليمين بها، ولا اتخاذها وسيلة فيما يتعلق بدعاء الله عز وجل وسيلة غير مشروعة. إذاً: ظاهر الآية واضح في أن المقصود بالتساؤل بالأرحام هو مراعاة حقوق الأرحام، وهذا مما يقع بين البشر مثلما يحدث في الشفاعات والواسطات وغيرها، فإن أولى من يشفع هو القريب، وأول من يعتبر قوله في حق الآخرين هو القريب وهكذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما على قراءة الخفض، فقد قال طائفة من السلف: هو قولهم: أسألك بالله وبالرحم، وهذا إخبار عن سؤالهم، وقد يقال: إنه ليس بدليل على جوازه، فإن كان دليلاً على جوازه، فمعنى قوله: أسألك بالرحم ليس إقساماً بالرحم، والقسم هنا لا يسوغ لكن بسبب الرحم، أي: لأن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقاً كسؤال الثلاثة لله تعالى بأعمالهم الصالحة، وكسؤالنا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته. ومن هذا الباب ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ابن أخيه عبد الله بن جعفر كان إذا سأله بحق جعفر أعطاه. وليس هذا من باب الإقسام، فإن الإقسام بغير جعفر أعظم، بل من باب حق الرحم؛ لأن حق الله إنما وجب بسبب جعفر، وجعفر

الأسئلة

الأسئلة

حكم المساهمة في البنوك ونحوها

حكم المساهمة في البنوك ونحوها Q ما حكم المساهمة في بعض البنوك والشركات التي يدّعي أصحابها شرعية تعاملها، وهل يتورع المسلم عنها؟ A إذا كانت الصناديق الاستثمارية أو غيرها معلومة النظام، ونظامها لا يتعارض مع الشرع، وعُرفت بمقتضى فتاوى المشايخ فيبقى الأصل فيها الإباحة. أما التورع وعدم التورع فهي مسألة أخرى، وعلى المسلم أن يبحث في المصارف والبنوك عن الأسلم، لكن يمتنع من أن يساهم ويضارب بمضاربة شرعية في بنك الأصل فيه أنه ربوي، لكن إذا فتح باب مضاربة شرعية لا تختلط بالعمل الربوي، وتتوافر فيه الشروط الصحيحة فلا نستطيع أن نقول هذا حرام، لكن التورع أمر آخر، فيسع المسلم أن يتورع ويبحث عن الأسلم.

حكم لفظ: (خدمة الله)

حكم لفظ: (خدمة الله) Q ورد في كتاب ابن القيم رحمه الله لفظ: (خدمة الله) فما حكمها؟ A كلمة: (خدمة)، هي من الألفاظ الصوفية، وربما يكون الشيخ تساهل فيها.

حكم القسم بالدعاء على النفس بالموت

حكم القسم بالدعاء على النفس بالموت Q بعض الناس يقسم بالدعاء بموته ويدعو على نفسه بالموت، فما الحكم؟ A ليس هذا إقساماً، بل هذا دعاء على النفس، ولا يجوز للمسلم أن يدعو على نفسه بمثل هذه الأمور، بل لا يدعو على نفسه ولا على غيره، إلا من شُرع الدعاء عليه.

الفرق بين دعاء العبادة ودعاء الطلب

الفرق بين دعاء العبادة ودعاء الطلب Q ما المقصود بدعاء العبادة ودعاء الطلب أو المسألة؟ A دعاء العبادة هو الذكر، فالذكر يسمى دعاء، وأما دعاء الطلب فهو الدعاء الذي يطلب فيه المسلم شيئاً يحققه من مصالحه في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

[33]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [33] الله تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات، بل لا يقسم بها بحال، وإنما يقسم الإنسان بأسماء الله وصفاته، وأما السؤال بمعاقد العز من عرشه فقد كرهه الأئمة؛ لأنه سؤال غامض لا يدرى ما المقصود به، وفي الأدعية الشرعية غنية وكفاية عن مثل هذا الدعاء.

الفروق بين السؤال بحق المخلوقين وبين القسم بهم

الفروق بين السؤال بحق المخلوقين وبين القسم بهم قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وإذا قال السائل: أسألك بحق الملائكة، أو بحق الأنبياء وحق الصالحين -ولا يقول لغيره: أقسمت عليك بحق هؤلاء- فإذا لم يجز له أن يحلف به ولا يقسم على مخلوق به، فكيف يقسم على الخالق به؟ وإن كان لا يُقسم به، وإنما يتسبب به فليس في مجرد ذوات هؤلاء سبب يوجب تحصيل مقصوده، ولكن لابد من سبب منه كالإيمان بالملائكة والأنبياء، أو منهم كدعائهم، ولكن كثيراً من الناس تعودوا ذلك، كما تعودوا الحلف بهم، حتى يقول أحدهم: وحقك على الله، وحق هذه الشيبة على الله. وإذا قال القائل: أسألك بحق فلان، أو بجاهه، أي: أسألك بإيماني به، ومحبتي له، وهذا من أعظم الوسائل. قيل: من قصد هذا المعنى فهو معنى صحيح، لكن ليس هذا مقصود عامة هؤلاء]. يظهر لي أن في المعنى شيئاً من الغموض يحتاج إلى بيان. يقول: قال القائل: أسألك بحق فلان، والمثال أكثر ما ينطبق على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا سأل السائل ربه عز وجل، وقال: اللهم إني أسألك بحق رسولك أو بجاهه، فقد يقصد معنى صحيحاً على وجه بعيد جداً؛ لكن هذا المعنى بعيد لا يدل عليه اللفظ، لكن نقول: نظراً لأن مقاصد الناس لا يعلمها إلا الله عز وجل، وهذا اللفظ يحتمل هذا المعنى، وهو أن السائل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بحق النبي أو بجاهه أراد إيمانه وتصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقول: من قصد هذا المعنى فإنه معنى صحيح، لكن يبعد أن تقصد إيمانك بالنبي صلى الله عليه وسلم وتسميه جاه الرسول صلى الله عليه وسلم أو حق الرسول، كيف تسمي إيمانك حق النبي صلى الله عليه وسلم؟ نعم هو حق له من حيث إنه يجب التصديق والإيمان والمحبة له صلى الله عليه وسلم، لكن السؤال بهذا الشيء وبهذا اللفظ بعيد جداً، ولذلك فالوجه الصحيح لمن يريد هذا المعنى أن يقول: اللهم إني أسألك بحبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بإيماني به صلى الله عليه وسلم، أو باتباعي له صلى الله عليه وسلم فإنه يحق له ذلك، لكن هذه اللفظة يبعد أن يقصد بها هذا المعنى الذي ذكره الشيخ، ولذلك يبدو لي أنه ساق هذا من باب الاحتياط؛ لئلا يوجد أحد من الصالحين أو من أهل السنة، أو من العلماء المقتدى بهم قال هذا اللفظ ويقصد هذا المعنى، وهو معنى قد يرد لكنه بعيد جداً ولا يسوّغ استعمال هذه العبارة؛ لأنها إلى المعنى المبتدع أقرب، وهي إلى الاشتباه أيضاً أقرب؛ فيجب اجتنابها.

سؤال الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح

سؤال الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمن قال: أسألك بإيماني بك وبرسولك ونحو ذلك، أو بإيماني برسولك ومحبتي له ونحو ذلك، فقد أحسن في ذلك كما قال تعالى في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16]، وقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:109]، وقال تعالى: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53]. وكان ابن مسعود يقول: اللهم أمرتني فأطعت، ودعوتني فأجبت، وهذا سحر فاغفر لي. ومن هذا الباب حديث الثلاثة الذين أصابهم المطر، فأووا إلى الغار وانطبقت عليهم الصخرة، ثم دعوا الله سبحانه بأعمالهم الصالحة، ففرّج عنهم وهو ما ثبت في الصحيحين. وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا خالد بن خراش العجلاني وإسماعيل بن إبراهيم قالا: حدثنا صالح المري عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض ثقيل، فلم نبرح حتى قُبض، فبسطنا عليه ثوبه، وله أم عجوز كبيرة عند رأسه، فالتفت إليها بعضنا، وقال: يا هذه احتسبي مصيبتك عند الله، قالت: وما ذاك، مات ابني؟ قلنا: نعم، قالت: أحق ما تقولون؟ قلنا: نعم، فمدت يديها إلى الله فقالت: اللهم إنك تعلم أني أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعقبني عند كل شدة فرجاً، فلا تحمل علي هذه المصيبة اليوم، قال: فكشفت الثوب عن وجهه فما برحنا حتى طعمنا معه. وروى في كتاب الحلية لـ أبي نعيم أن داود عليه السلام قال: بحق آبائي عليك، إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله تعالى إليه: يا داود! وأي حق لآبائك علي؟. وهذا وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فالإسرائيليات يُعتضد بها، ولا يُعتمد عليها]. بهذه المناسبة؛ لأن هذه قاعدة عظيمة أشار إليها الشيخ يغفل عنها كثير من طلاب العلم اليوم خاصة مع كثرة الطاعنين في مناهج السنة، وهي مسألة إيراد مثل هذه الآثار الإسرائيلية أو الأحاديث الضعيفة عند الاستدلال على بعض المسائل. وقد ظهرت أيضاً عندنا هذه الشنشنة من جديد في بعض شبابنا المفتونين، وهي اتهام السلف بأنهم يعتمدون في الاستدلال على الإسرائيليات والأحاديث الضعيفة والحكايات التي لا أصل لها، وأن كتبهم مليئة بهذه الآثار التي لا أصل لها، حتى أوهم أحدهم في مذكرة انتشرت بين الناس اليوم أن كثيراً مما استدل به السلف في أصول الدين ومناهج السلف العلمية والعملية تقوم على هذا المنهج الخاطئ في الاستدلال، وأوهم أن السلف ليس عندهم في تقرير الدين والدعوة إليه ومحاجة الخصوم إلا حشد هذه الآثار الضعيفة إلا القليل. أقول: لا شك أن هذه فرية، وما كان ينبغي أن تنطلي على مسلم فضلاً عن طالب علم، وهي فرية ليست جديدة بل قديمة، قال بها أهل الأهواء والبدع منذ نشأت الأهواء والبدع. وأقول: إن السلف فعلاً قد يستدل أحدهم بالإسرائيليات، أو بالحكايات الضعيفة، أو بالأحاديث الضعيفة في معرض الاستدلال على قضية ما من قضايا الدين، لكن كيف كانوا يستدلون، وهل كانوا يستدلون بهذه الأحاديث الضعيفة على مسائل الدين المهمة؟ لا، فالثابت والمتقرر والذي عليه جميع علماء السنة المعتبرين أنهم لا يستدلون في قضية من قضايا الدين القطعية أو أصل من أصول السنة التي اتفقوا عليها إلا بدليل صحيح من القرآن أو السنة أو مما أجمع عليه السلف، لكن بعد الاستدلال بذلك قد يحشدون هذا النوع من الأدلة الإسرائيلية والضعيفة من باب الاعتضاد لا من باب الاعتماد، مثل ما تحشد الجيوش من الأقوياء الشجعان المدربين وممن دونهم من الضعاف والجبناء أحياناً من باب تكثير القوة أمام الخصم، فلا أعرف قضية من قضايا الدين اعتمد فيها السلف على أحاديث موضوعة ولا ضعيفة، أو حكايات إسرائيلية أو تاريخية أبداً، وأقول ذلك جازماً، ولذلك فإن بعض المسائل التي استدل بها بعض أهل العلم المعتبرين بحديث ضعيف، اعتبرها الآخرون من الشذوذ في الرأي ومن الزلّات، والزلّات ليست عقائد للأمة، نعم قد يستدل بعض العلماء بأشياء ضعيفة ويعتقدها ويجزم بها، لكن هل هذا منهج الجميع؟ لا، بل هذه تعتبر من الزلّات التي يقع فيها البشر وليس أحد معصوماً إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، أما المنهج الذي عليه سلف الأمة الاعتقادي والعلمي والعملي فليس فيه ما يستدل به بحديث ضعيف أو دلالة محتملة قطعاً وبعض هؤلاء الذين كتبوا -

طلب الدعاء من الغائب الحي أو الميت

طلب الدعاء من الغائب الحي أو الميت قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد مضت السنة أن الحي يُطلب منه الدعاء كما يُطلب منه سائر ما يقدر عليه، وأما المخلوق الغائب والميت، فلا يُطلب منه شيء، يحقق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه به لفظ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يُطلب منه الدعاء والشفاعة، فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته، ودعاؤه وشفاعته صلى الله عليه وسلم من أعظم الوسائل عند الله عز وجل، وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى ويقسم عليه بذاته. والله تعالى لا يُقسم عليه بشيء من المخلوقات، بل لا يقسم بها بحال، فلا يقال: أقسمت عليك يا رب بملائكتك، ولا بكعبتك، ولا بعبادك الصالحين، كما لا يجوز أن يُقسم الرجل بهذه الأشياء، بل إنما يُقسم بالله تعالى بأسمائه وصفاته؛ ولهذا كان السنة أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته، فيقول: أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. (وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك) الحديث كما جاءت به السنة، وأما أن يسأل الله ويُقسم عليه بمخلوقاته فهذا لا أصل له في دين الإسلام. وكذلك قوله: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وبكلماتك التامات. مع أن هذا الدعاء الثالث، في جواز الدعاء به قولان للعلماء]. الدعاء الثالث لا يقصده كله، فهو ذكر ثلاثة أدعية الأول: أقسمت عليك يا رب بملائكتك، هذا لا يجوز. والثاني: أسألك بأن لك الحمد ونحو ذلك، فهذا جائز. والثالث: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، هذا اشتمل على دعاء جائز ودعاء فيه خلاف. أما الجائز منه فقوله: وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وبكلماتك التامات، لكن يبقى: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك فهذه فيها تفصيل، أولاً: ما معنى (معاقد العز من عرشك)؟ فإذا عرفنا معناها عرفنا هل يجوز الدعاء بها أو لا يجوز، فهي من الألفاظ المحتملة؛ لأن معاقد العز قد يقصد بها مواطن العز من العرش، ومواطن العز من العرش قد يقصد بها ما يتعلق بذات الله، فمن هنا يجوز الدعاء. وقد يقصد بها ما يتعلق بالمخلوق وهو العرش، فمن هنا لا يجوز الدعاء بها. كلمة (بمعاقد العز من عرشك) من الكلمات الغامضة، ولذلك لا ينبغي الدعاء بها وإن أُثرت عن بعض السلف لأنهم يقصدون معنى صحيحاً لا يرد في أذهان الناس اليوم بعدما ضعفت اللغة العربية عندهم وقل فقههم لها، فأكاد أجزم أن أكثر الذين يدعون بمثل هذا الدعاء يقصدون معنى فاسداً في مفهوم (معاقد العز من عرشك).

الاختلاف في الدعاء بـ (أسألك بمعاقد العز من عرشك)

الاختلاف في الدعاء بـ (أسألك بمعاقد العز من عرشك) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مع أن هذا الدعاء الثالث، في جواز الدعاء به قولان للعلماء. قال الشيخ أبو الحسين القدوري في كتابه المسمى بشرح الكرخي: قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به]. يعني إلا بالله عز وجل. قال رحمه الله تعالى: [وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك. وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف: معقد العز من عرشه هو الله]. إذاً هذا تفسير لمعقد العز على أن المقصود به مواطن العز المتعلقة بأفعال الله، أو المقصود بها أفعال الله تجاه العرش، وهذا أمر غامض لا ندري ما المقصود به فلذلك كرهه هؤلاء الأئمة أبو حنيفة وأبو يوسف. قال رحمه الله تعالى: [قال أبو يوسف: معقد العز من عرشه هو الله فلا أكره هذا، وأكره أن يقول: بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام. قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا يجوز يعني وفاقاً، وهذا من أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما يقتضي المنع أن يُسأل الله بغيره]. أبو يوسف حينما فسّر معقد العز من العرش ما يتعلق بالله عز وجل أجازه، لأنه فسّره بمعنى يتعلق بالله، يعني بصفة الله عز وجل أو بفعل الله، فأجازه لأنه سؤال بالله، لكن ومع ذلك يبقى كما قلت: معقد العز يحتمل أن يقصد به المخلوق وليس الله عز وجل؛ لأن المعقد هو الموطن أو المحك، أو الفعل وهذه كلها محتملة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا من أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما يقتضي المنع أن يُسأل الله بغيره، فإن قيل: الرب سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته، وليس لنا أن نُقسم عليه إلا به، فهلا قيل: يجوز أن يُقسم عليه بمخلوقاته، وأن لا يُقسم على مخلوق إلا بالخالق تعالى؟ قيل: لأن إقسامه سبحانه بمخلوقاته من باب مدحه والثناء عليه وذكر آياته، وإقسامنا نحن بذلك شرك إذا أقسمنا به لحض غيرنا أو لمنعه أو تصديق خبر أو تكذيبه. ومن قال لغيره: أسألك بكذا؛ فإما أن يكون مقسماً فهذا لا يجوز بغير الله تعالى، والكفارة في هذا على المقسم، لا على المقسم عليه، كما صرح بذلك أئمة الفقهاء، وإن لم يكن مقسماً فهو من باب السؤال، فهذا لا كفارة فيه على واحد منهما. فتبين أن السائل لله بخلقه إما أن يكون حالفاً بمخلوق، وذلك لا يجوز، وإما أن يكون سائلاً به، وقد تقدم تفصيل ذلك. وإذا قال: بالله افعل كذا، فلا كفارة فيه على واحد منهما، وإذا قال: أقسمت عليك بالله لتفعلن أو والله لتفعلن فلم يبر قسمه لزمت الكفارة الحالف، والذي يدعو بصيغة السؤال فهو من باب السؤال به. وأما إذا أقسم على الله تعالى مثل أن يقول: أقسمت عليك يا رب لتفعلن كذا، كما كان يفعل البراء بن مالك وغيره من السلف، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره). وفي الصحيح أنه قال، لما قال أنس بن النضر: (والذي بعثك بالحق لا تُكسر ثنية الربيع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أنس، كتاب الله القصاص فعفا القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره). وهذا من باب الحلف بالله لتفعلن هذا الأمر، فهو إقسام عليه تعالى به، وليس إقساماً عليه بمخلوق. وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة، فإن ذلك لا ريب في فضله وحسنه، وأنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً].

التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم

التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم [وقد تقدم أن ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت لكم حاجة فاسألوا الله بجاهي) حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث، وإنما المشروع الصلاة عليه في كل دعاء. ولهذا لما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء وغيره ذكروا الصلاة عليه، لم يذكروا فيما شُرع للمسلمين في هذه الحال التوسل به، كما لم يذكر أحد من العلماء دعاء غير الله والاستعانة المطلقة بغيره في حال من الأحوال، وإن كان بينهما فرق فإن دعاء غير الله كفر، ولهذا لم ينقل دعاء أحد من الموتى والغائبين لا الأنبياء ولا غيرهم عن أحد من السلف وأئمة العلم، وإنما ذكره بعض المتأخرين ممن ليس من أئمة العلم المجتهدين، بخلاف قولهم: أسألك بجاه نبينا أو بحقه، فإن هذا مما نُقل عن بعض المتقدمين فعله، ولم يكن مشهوراً بينهم ولا فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل السنة تدل على النهي عنه كما نُقل ذلك عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما. ورأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام قال: لا يجوز أن يتوسل إلى الله بأحد من خلقه إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم إن صح حديث الأعمى، فلم يعرف صحته. ثم رأيت عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما من العلماء أنهم قالوا: لا يجوز الإقسام على الله بأحد من الأنبياء، ورأيت في كلام الإمام أحمد أنه في النبي صلى الله عليه وسلم لكن قد يخرّج على إحدى الروايتين عنه في جواز الحلف به، وقد تقدم أن هذا الحديث لا يدل إلا على التوسل بدعائه، ليس من باب الإقسام بالمخلوق على الله تعالى، ولا من باب السؤال بذات الرسول كما تقدم. والذين يتوسلون بذاته لقبول الدعاء وعدلوا عما أمروا به وشرع لهم، وهو من أنفع الأمور لهم إلى ما ليس كذلك، فإن الصلاة عليه من أعظم الوسائل التي بها يستجاب الدعاء، وقد أمر الله بها].

الأسئلة

الأسئلة

التحذير ممن يثيرون الشبه حول ركنية العمل في الإيمان

التحذير ممن يثيرون الشبه حول ركنية العمل في الإيمان Q نأمل بيان ما يجب نحو بعض الآراء الشاذة التي تظهر من آن لآخر من بعض طلاب العلم في مسائل الاعتقاد، مثل أن العمل ليس شرطاً أو ركناً في الإيمان، وهذا له أثر على بعض طلبة العلم؟ A على أي حال مثل هذه المسائل من القضايا الكبيرة المنهجية التي لا يجوز لطلاب العلم التغافل عنها أو التساهل فيها، فيجب أن تتظافر الجهود أولاً في الرد على أصحابها بالأسلوب المناسب. وأغلب الذين بدءوا يثيرون مثل هذه الأفكار في مسائل الاعتقاد أغلبهم حدثاء، وأيضاً ليسوا من طلاب العلم الذين يثق الناس فيهم ثقة شرعية مطلقة، فلذلك ينبغي تجاهل أسمائهم؛ لأنهم جزء من حزب الشيطان، والشيطان إذا استعيذ منه تعاظم، فأخشى أن يتعاظموا بذكر أسمائهم، فلذلك ينبغي الرد على أفكارهم بأسلوب علمي موضوعي مركز، ولا يحقر أحد منكم نفسه عن مثل هذا العمل؛ لأن الأفكار التي بدءوا يثيرونها أفكار ناسفة قوية، وشبهات من لم يكن عنده فقه في دين الله عز وجل ينجرف تجاهها، وأنا لاحظت من بعض من ينتسبون لطلاب العلم، خاصة الذين تخرجوا من الكليات الشرعية أنهم ضحية هذا الاتجاه؛ وسمعت أن طوائف من هذا الصنف قالوا بلسان الحال وبعضهم بلسان المقال: إن ما أثاره هؤلاء ضد السلف معقول، فما الذي عندكم نرد عليه؟! وقد سمعتها بنفسي من إنسان ما كنت أتصور أن تنطلي عليه مثل هذه الأمور؛ ولذلك قلت إنهم يثيرون قضايا ناسفة، والإنسان الذي ليس عنده اطلاع تدخل في قلبه وتؤثر على تفكيره، فيحتاج الأمر إلى بسط هذه المسائل أمام الناس ونشرها، وحماية المجتمع من غوائل هذا الانحراف بكل وسيلة متاحة مشروعة، وعدم التعلق بالأشخاص أو ذكر أسمائهم؛ لأن هذا يؤدي إلى التعصب لهم، ويؤدي إلى تعاظمهم؛ لأن الذين يثيرون هذه الفتنة بين المسلمين ليسوا ممن يكرهون الكلام فيهم، بل يرغب أن تتكلم فيه، حتى لو قلت لبعضهم: إنه زنديق يفرح بها؛ لأنه ليس عنده في الزندقة مشكلة، فالزندقة عنده شعار للحرية والخروج عن المألوف، ومعارضة الاتجاه الذي يراه غير سليم إلى آخره. فلذلك ينبغي الرد على هذه الأصول الخاطئة وهذه الانحرافات بالتأصيل الشرعي، وبالإشارة إلى الرأي المخالف على لغة: (ما بال أقوام) كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل؛ لأن بعضهم ممن وقع دون قصد فلا ينبغي التشهير به، وبعضهم وقع بقصد فلا ينبغي إشهار اسمه والدعاية له بهذه الصورة. فأقول: لا يجوز لأحد من طلاب العلم أن يتساهل في هذا الأمر، ويجب أن تسهموا في رد هذه الشبهات جزئياً أو كلياً بأي جهد؛ لأنها بدأت الآن تسير بالناس سير النار في الهشيم.

حكم إنكار طلب الدعاء من الإخوان

حكم إنكار طلب الدعاء من الإخوان Q هناك من العلماء من ينكر على من يطلب من أخيه الدعاء، معللاً ذلك بالتواكل وترك العمل، ثم فيه تزكية للشخص الداعي؟ A الأمر ينبغي أن يكون باعتدال لا إفراط ولا تفريط، فإذا رأيت إنساناً من عادته أن يطلب الدعاء كثيراً من الآخرين فيجب أن تنصحه، كما تفعل بعض الجماعات، فمن سمتهم التي يتواصون بها طلب الدعاء من الآخرين، وهذا لا ينبغي أن يكون منهجاً، أما أن يحدث لمناسبة دون أن يتكرر من الشخص كثيراً فلا بأس، كأن يحدث في ظرف مناسب ومكان مناسب وزمان مناسب، مع شخص له اعتباره في الصلاح والاستقامة، فإذا كان يحدث قليلاً فلا حرج فيه، كما هو مقتضى السنة، ووارد عن السلف، بل ورد في أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان في بعضها ضعف، لكن الأصل مما اتفق عليه السلف كما ذكر شيخ الإسلام في هذا الكتاب القيم الذي قرأناه. نسأل الله للجميع التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[34]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [34] الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام هي الدعاء له، وهي هنا من التوسل بالدعاء له صلى الله عليه وسلم، وتكون في ألفاظ الدعاء الواجبة داخل الصلاة، كما أنها وردت في المستحبات من الأذكار والأدعية وغيرها، والعبد يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بالنطق والكتابة.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [والصلاة عليه في الدعاء هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وفي الصحيح عنه أنه قال: (من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً). وعن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يحمد الله، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجل هذا، ثم دعاه، فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد ربه، ثم يصلي على النبي، ثم يدعو بعده بما شاء) رواه أحمد وأبو داود، وهذا لفظه، والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث صحيح. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي، فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة). وفي سنن أبي داود والنسائي عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل كما يقولون، فإذا انتهيت سل تعطه). وفي المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (من قال حين ينادي المنادي: اللهم رب هذه الدعوة القائمة والصلاة النافعة صل على محمد وارض عنه رضاء لا سخط بعده، استجاب الله له دعوته). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة)، رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء قلما ترد على داع دعوته: عند حصول النداء، والصف في سبيل الله)، رواه أبو داود].

معنى حديث: (أجعل لك صلاتي كلها)

معنى حديث: (أجعل لك صلاتي كلها) قال رحمه الله تعالى: [وفي المسند والترمذي وغيرهما عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال: يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، قال أبي: قلت يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت، قلت: الربع؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك، قلت: النصف؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك، قلت: الثلثين؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذاً يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك)، وفي لفظ: (إذاً تكفى همك، ويغفر ذنبك)]. المقصود هنا بالصلاة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي بمعنى الدعاء له، يعني: الدعاء والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من المعلوم أنه ليس المقصود العبادة للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا اللفظ دليل على أن الدعاء يسمى صلاة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم دعاء له، سميت صلاة من باب إطلاق الكل على الجزء، هذا أمر. الأمر الآخر: الأحاديث التي مرت كلها صحيحة. ذكر في مجموع هذه الأحاديث أن التوسل هو بالدعاء، وأن حق النبي صلى الله عليه وسلم بعد حبه واتباعه بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تعبدنا بها مقيدة في ألفاظ الدعاء الواجبة، مثل الصلاة، وغير الواجبة مثل كثير من الأدعية في الأوراد وغيرها، ثم أيضاً أمرنا أمراً مؤكداً بالصلاة عليه كلما يذكر اسمه صلى الله عليه وسلم، وعدم الصلاة عليه جفاء، ولذلك ينبغي أن تكون الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بكل وجوه الصلاة، بالنطق، وبالكتابة، باللسان والقلم، والأحاديث التي مرت كما قلت كلها صحيحة، بعضها أشار شيخ الإسلام إلى صحتها، والباقي كله صحيح، وتعرفون أن شيخ الإسلام قل أن يستدل بغير الصحيح، وقد يستدل بالضعيف إما للاعتضاد كما سبق، وإما لأنه عنده صحيح وإن ضعفه أهل العلم.

معنى جعل الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم

معنى جعل الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول السائل: أجعل لك من صلاتي؟ يعني: من دعائي، فإن الصلاة في اللغة هي الدعاء، قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم صل على آل أبي أوفى)، وقالت امرأة: (صل علي يا رسول الله وعلى زوجي، فقال: صلى الله عليك وعلى زوجك). فيكون مقصود السائل: أي يا رسول الله إن لي دعاء أدعو به، أستجلب به الخير، وأستدفع به الشر، فكم أجعل لك من الدعاء، قال: (ما شئت) فلما انتهى إلى قوله: (أجعل لك صلاتي كلها؟ قال له: إذاً تكفى همك ويغفر ذنبك)، وفي الرواية الأخرى: (إذاً يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك)، وهذا غاية ما يدعو به الإنسان من جلب الخيرات ودفع المضرات، فإن الدعاء فيه تحصيل المطلوب واندفاع المرهوب، كما بسط ذلك في مواضعه]. لا يزال الشيخ يذكر أنواع الأدعية المشروعة، وكأنه بذلك يشير إلى أن ما شرعه الله عز وجل وشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم من أنواع الأدعية كافيان عما يبتدعه الناس من التوسل بغير الله أو الاستشفاع بغيره، أو الأيمان المحرمة، أو السؤال بجاه الآخرين، إلى آخره مما ذكره من النماذج التي يقع فيها المبتدعة. وهنا يشير إلى أنواع التوسلات التي هي الأدعية المشروعة وأنها أصناف كثيرة.

مراتب الأدعية الشرعية وغير الشرعية

مراتب الأدعية الشرعية وغير الشرعية قال رحمه الله تعالى: [وقد ذكر علماء الإسلام وأئمة الدين الأدعية الشرعية، وأعرضوا عن الأدعية البدعية، فينبغي اتباع ذلك، والمراتب في هذا الباب ثلاث: إحداها: أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب، سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم، فيقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا أستجير بك، أو أستغيث بك، أو انصرني على عدوي ونحو ذلك، فهذا هو الشرك بالله. والمستغيث بالمخلوقات، قد يقضي الشيطان حاجته أو بعضها؛ وقد يتمثل له في صورة الذي استغاث به، فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، وإنما هو شيطان دخله وأغواه لما أشرك بالله، كما يتكلم الشيطان في الأصنام وفي المصروع وغير ذلك، ومثل هذا واقع كثيراً في زماننا وغيره، وأعرف من ذلك ما يطول وصفه في قوم استغاثوا بي أو بغيري، وذكروا أنه أتى شخص على صورتي أو صورة غيري، وقضى حوائجهم فظنوا أن ذلك من بركة الاستغاثة بي أو بغيري، وإنما هو شيطان أضلهم وأغواهم، وهذا هو أصل عبادة الأصنام واتخاذ الشركاء مع الله تعالى في الصدر الأول من القرون الماضية، كما ثبت ذلك، فهذا أشرك بالله، نعوذ بالله من ذلك. وأعظم من ذلك أن يقول: اغفر لي وتب علي، كما يفعله طائفة من الجهال المشركين، وأعظم من ذلك أن يسجد لقبره ويصلي إليه ويرى الصلاة إليه أفضل من استقبال القبلة، حتى يقول بعضهم: هذه قبلة الخواص، والكعبة قبلة العوام. وأعظم من ذلك أن يرى السفر إليه من جنس الحج، حتى يقول: إن السفر إليه مرات يعدل حجة، وغلاتهم يقولون: الزيارة إليه مرة أفضل من حج البيت مرات متعددة ونحو ذلك، فهذا شرك بهم، وإن كان يقع كثير من الناس في بعضه. الثانية: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي، أو ادع لنا ربك، أو اسأل الله لنا، كما تقول النصارى لمريم وغيرها. فهذا أيضاً لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة، وإن كان السلام على أهل القبور جائزاً، ومخاطبتهم جائزة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يغفر الله لنا ولكم، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم). وروى أبو عمر بن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام). وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)، لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات لا دعاء ولا غيره. وفي موطأ مالك أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف].

سماع الحي للميت

سماع الحي للميت فيما يتعلق برد السلام أو سماع الميت للحي، هذه مسألة فيها خلاف كبير، والحديث الذي أورده الشيخ عن ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يمر بقبر رجل)، هذا الحديث ضعيف، ولذلك الذين استدلوا به على أن الميت يجيب الحي، يرد على هذا الاستدلال بأن ما ورد في هذا الجانب أحاديث ضعيفة، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت أنه يرد عليه روحه ويسلم، وأنه يرد السلام على من يسلم عليه أينما كان؛ وهذا خاص به لأنه ورد به النص. أما غيره فالمشروع من المسلم إذا أتى إلى قبر أخيه المسلم الميت، فإنه يسلم عليه، ويخاطبه بالسلام، وهذا الخطاب فيه دلالة غير قاطعة على أنهم يسمعون، لكن كيف يكون سماعهم؟ هذا أمر غيبي، لكن لم يثبت أنهم يردون. وأيضاً فإنهم قد يسمعون، لكن ليس سماعاً مطلقاً، وإنما يسمعون القدر الشرعي، أعني أنك إذا أتيت وسلمت عليهم هذا السلام الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم أو مثله فإنهم يسمعون، لكن لا يسمعون الداعي لهم. وقد تنازع الناس في هذه المسألة بسبب ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو صحيح: أنه لما دفن موتى المشركين في غزوة بدر، خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم كما أمره الله عز وجل، فقال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً وذكر لهم أنه وجد ما وعده ربه حقاً، فالصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: هل يسمعون؟ فذكر أنهم أسمع منهم له، وهذه والله أعلم حادثة عين، إما خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبذلك الموقف؛ لأنه ليس هناك دلالة على عموم هذا في جميع الأموات وجميع المخاطبين والمخاطبين. إذاً: الظاهر والراجح أن أهل القبور من المسلمين إذا سلمت عليهم يسمعون السلام، أما هل يردون أو لا يردون فهذه مسألة خلافية، لكن غير السلام، مثل قراءة القرآن عليهم، والصلاة عندهم، وإهداء الأشياء عند القبور لهم، الله أعلم أنهم لا ينتفعون به، ولا يردون على المخاطب كما يقال في السلام. وكما قلت: الحديث الذي ساقه ابن عبد البر ضعيف، فلا يعتمد عليه في أن صاحب القبر يرد السلام.

كيفية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره

كيفية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن عبد الله بن دينار قال: رأيت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو لـ أبي بكر وعمر، وكذلك أنس بن مالك وغيره نقل عنهم أنهم كانوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى، لا يدعون مستقبلي الحجرة، وإن كان قد وقع في بعض ذلك طوائف من الفقهاء والصوفية والعامة ممن لا اعتبار بهم، فلم يذهب إلى ذلك إمام متبع في قوله، ولا من له في الأمة لسان صدق عام. ومذهب الأئمة الأربعة مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة الإسلام: أن الرجل إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة. واختلفوا في وقت السلام عليه، فقال الثلاثة مالك والشافعي وأحمد: يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه. وقال أبو حنيفة: لا يستقبل الحجرة وقت السلام، كما لا يستقبلها وقت الدعاء باتفاقهم. ثم في مذهبه قولان]. تلاحظون المفارقات العجيبة، وهذه كثيرة في أتباع الأئمة الأربعة أو غيرهم من المشاهير الذين لهم من يقتدي بهم، نجد أنه لو قارنا بين آراء ومواقف هذه الأمة تجاه نشر السنة ونفي البدعة، وجدنا أن أتباعهم أبعد الناس عنهم، فنجد أبا حنيفة رحمه الله شديد في هذه المسألة، في حين أن المنتسبين له الآن من الماتريدية والأحناف هم أكثر الناس وقوعاً في المخالفة، يعني: ليسوا على مذهب إمامهم، فهو -كما ترون- خالف الأئمة الثلاثة في أنه حتى في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم يرى ألا يستقبل القبر خوفاً من البدعة، أو سداً لذريعة توجه الناس في قلوبهم إلى غير الله عز وجل، ومع ذلك فإن أتباعه من أكثر الناس في هذا العصر وقوعاً في خلاف قوله، وهذا كثير. وما من جماعة شذت عن السنة إلا نجد الرد عليها -إذا كانت تنتسب إلى إمام من أئمة السنة- في أصول إمامها الذي تنتسب إليه، وينبغي أن ننبه على هذه المسألة الآن، وأرى أن من أحسن الردود على الأشاعرة في تأويلهم صفات الله عز وجل كتب الأشعري، من أجل ألا يقال: والله هذا مذهب الوهابية، مذهب الحنابلة، هذا مذهب ابن تيمية، فنأتي بالدليل من أئمتهم، وهذا كثير جداً، ليس في جزئيات، بل في أصول الدين، وليس فقط في جوانب الصفات والأمور النظرية، بل حتى في جوانب العبادة، فأغلب الناس الآن تنتسب للأئمة الأربعة، فينبغي أن نبين لهم أن هؤلاء الأئمة الأربعة كلهم على السنة، وكلهم على خلاف ما عليه أتباعهم الآن، وكلهم أيضاً يذمون ويسبون الأصول والبدع التي عليها أتباعهم الآن، فهم الآن يشتمون أئمتهم وهم لا يشعرون، فينبغي التنويه على هذا والاهتمام به، وتبصير المسلمين ونصحهم في مثل هذا الجانب؛ لأن الناس ابتلوا بالانتماء للمذاهب الأربعة، وإذا كان كذلك فمن الأفضل أن نقيم عليهم الحجة، بل نعيدهم إلى الحق، بهذا الانتماء والانتساب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم في مذهبه قولان: قيل يستدبر الحجرة، وقيل يجعلها عن يساره، فهذا نزاعهم في وقت السلام]. قوله: (يجعلها عن يساره) أي: إذا كان في المسجد؛ لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم تكون الحجرة عن يساره، فكأنه يقول: يدعو في المسجد متجهاً للقبلة، فلا يتجه للقبر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذا نزاعهم في وقت السلام، وأما في وقت الدعاء فلم يتنازعوا في أنه إنما يستقبل القبلة لا الحجرة].

حكاية مالك في استقبال الحجرة والتوسل

حكاية مالك في استقبال الحجرة والتوسل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحكاية التي تذكر عن مالك: أنه قال للمنصور لما سأله عن استقبال الحجرة، فأمره بذلك، وقال: هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم، كذب على مالك ليس لها إسناد معروف، وهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه، كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي وغيره، مثلما ذكروا عنه أنه سئل عن أقوام يطيلون القيام مستقبلي الحجرة يدعون لأنفسهم، فأنكر مالك ذلك، وذكر أنه من البدع التي لم يفعلها الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وقال: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. ولا ريب أن الأمر كما قاله مالك، فإن الآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين تبين أن هذا لم يكن من عملهم وعادتهم، ولو كان استقبال الحجرة عند الدعاء مشروعاً لكانوا هم أعلم بذلك وكانوا أسبق إليه ممن بعدهم. والداعي يدعو الله وحده، وقد نهى عن استقبال الحجرة عند دعائه لله تعالى، كما نهى عن استقبال الحجرة عند الصلاة لله تعالى، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)، فلا يجوز أن يصلى إلى شيء من القبور، لا قبور الأنبياء ولا غيرهم؛ لهذا الحديث الصحيح. ولا خلاف بين المسلمين أنه لا يشرع أن يقصد الصلاة إلى القبر، بل هذا من البدع المحدثة، وكذلك قصد شيء من القبور لاسيما قبور الأنبياء والصالحين عند الدعاء، فإذا لم يجز قصد استقباله عند الدعاء لله تعالى فدعاء الميت نفسه أولى أن لا يجوز، كما أنه لا يجوز أن يصلي مستقبله فلأن لا يجوز الصلاة له بطريق الأولى. فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئاً، لا يطلب منه أن يدعو الله له ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يشكى إليه شيء من مصائب الدنيا والدين. ولو جاز أن يشكى إليه ذلك في حياته، فإن ذلك في حياته لا يفضي إلى الشرك، وهذا يفضي إلى الشرك؛ لأنه في حياته مكلف أن يجيب سؤال من سأله لما له في ذلك من الأجر والثواب، وبعد الموت ليس مكلفاً، بل ما يفعله من ذكر لله تعالى ودعاء ونحو ذلك، كما أن موسى يصلي في قبره، وكما صلى الأنبياء خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ببيت المقدس، وتسبيح أهل الجنة والملائكة، فهم يتمتعون بذلك، وهم يفعلون ذلك بحسب ما يسره الله لهم ويقدره لهم، ليس هو من باب التكليف الذي يمتحن به العباد]. كأن الشيخ يشير بهذا إلى ما ورد أن بعض الأنبياء تكون لهم حياة وأعمال خاصة بهم في القبور، وهذا لا يدل على أنهم يجيبون السائل، ولا أنهم ينتفعون بهذه الصلاة، لكن هي من باب الصلاة العامة التي سخر الله فيها جميع الخلق، فليس ذلك من باب التكليف ولا من باب زيادة الكرامة، إنما هو من باب الخضوع لله عز وجل كتسبيح الحصى وتسبيح الملائكة وغير ذلك.

بيان أن سؤال الميت لا ينفع

بيان أن سؤال الميت لا ينفع قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحينئذ فسؤال السائل للميت لا يؤثر في ذلك شيئاً، بل ما جعله الله فاعلاً له هو يفعله وإن لم يسأله العبد، كما تفعل الملائكة ما تؤمر به، وهم إنما يطيعون أمر ربهم لا يطيعون أمر مخلوق، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:26 - 27] فهم لا يعملون إلا بأمره سبحانه وتعالى. ولا يلزم من جواز الشيء في حياته جوازه بعد موته، فإن بيته كانت الصلاة فيه مشروعة، وكان يجوز أن يجعل مسجداً، ولما دفن فيه حرم أن يتخذ مسجداً، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا، ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً). وفي صحيح مسلم وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك). وقد كان صلى الله عليه وسلم في حياته يصلى خلفه؛ وذلك من أفضل الأعمال، ولا يجوز بعد موته أن يصلي الرجل خلف قبره، وكذلك في حياته يطلب منه أن يأمر وأن يفتي وأن يقضي، ولا يجوز أن يطلب ذلك منه بعد موته وأمثال ذلك كثير. وقد كره مالك وغيره أن يقول الرجل: زرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا اللفظ لم يرد، والأحاديث المروية في زيارة قبره كلها ضعيفة، بل كذب، وهذا اللفظ صار مشتركاً في عرف المتأخرين يراد به الزيارة البدعية التي في معنى الشرك، كالذي يزور القبر ليسأله أو يسأل الله به أو يسأل الله عنده. والزيارة الشرعية هي أن يزوره لله تعالى للدعاء له، والسلام عليه كما يصلي على جنازته، فهذا الثاني هو المشروع، ولكن كثير من الناس لا يقصد بالزيارة إلا المعنى الأول، فكره مالك أن يقول: زرت قبره؛ لما فيه من إيهام المعنى الفاسد الذي يقصده أهل البدع والشرك. الثالثة: أن يقال: أسألك بفلان أو بجاه فلان عندك ونحو ذلك الذي تقدم عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما أنه منهي عنه، وتقدم أيضاً أن هذا ليس بمشهور عن الصحابة، بل عدلوا عنه إلى التوسل بدعاء العباس وغيره]. إذاً: الشيخ هنا استكمل المراتب الثلاث للدعاء المشروع والدعاء غير المشروع، وهي: المرتبة الأولى: أن يدعو غير الله سواء كان ميتاً أو حياً دعاء عبادة، فإذا دعاه فإنه يقع في الشرك. والثانية: أن يطلب من الميت أن ينفعه بالدعاء أو نحو ذلك، أو يطلب من الميت أي طلب، لا على سبيل الدعاء، أو يتوجه إليه، أو يدعو الله متوجهاً إلى الميت، كل هذه الصور تدخل في المرتبة الثانية، وهذا كله بدعة إذا ما قصد به عبادة المدعو أو سؤاله من دون الله. المرتبة الثالثة: السؤال بالغيب، وهذه مر التفصيل فيها، إن قصد القسم فهي حلف بغير الله وهذا لا يجوز، وإن قصد التوسل فهذا بدعي؛ وإذا قصد الجاه أو جاه فلان أو عمل فلان أو رتبة فلان أو فضله، فإن فضل الإنسان لا ينفع غيره ولا يستطيع الإنسان أن ينتفع بفضل غيره ولا بجاه غيره إلى آخره مما ورد تفصيله. والله أعلم.

عدم مشروعية التوسل البدعي

عدم مشروعية التوسل البدعي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد تبين ما في لفظ التوسل من الاشتراك بين ما كانت الصحابة تفعله وبين ما لم يكونوا يفعلونه، فإن لفظ التوسل والتوجه في عرف الصحابة ولغتهم: هو التوسل والتوجه بدعائه وشفاعته]. كأنه الآن يلخص ما مضى يعطي الخلاصة في مفهوم التوسل؛ لأن أصل الموضوع في هذا الكتاب هو التوسل والوسيلة، أي: ما المفهوم الصحيح والمفهوم غير الصحيح، والمفهوم الشرعي واللغوي كما مر، ثم ما هي الصور الصحيحة للتوسل المشروع والصور الفاسدة للتوسل الممنوع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا يجوز أن يتوسل ويتوجه بدعاء كل مؤمن، وإن كان بعض الناس من المشايخ المتبوعين يحتج بما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، أو فاستعينوا بأهل القبور)، فهذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وقد قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58]. وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه غير مشروع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما هو أقرب من ذلك؛ عن اتخاذ القبور مساجد ونحو ذلك؛ ولعن أهله تحذيراً من التشبه بهم، فإن ذلك أصل عبادة الأوثان، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]، فإن هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروهم، ثم اتخذوا الأصنام على صورهم، كما تقدم ذكر ذلك عن ابن عباس وغيره من علماء السلف. فمن فهم معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، عرف أنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وحده، وأنه يستعان بالمخلوق فيما يقدر، وكذلك الاستغاثة لا تكون إلا بالله، والتوكل لا يكون إلا عليه، وما النصر إلا من عند الله، فالنصر المطلق -وهو خلق ما يغلب به العدو- لا يقدر عليه إلا الله، وفي هذا القدر كفاية لمن هداه الله. والله أعلم. وهذا الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الشرك هو كذلك في شرائع غيره من الأنبياء: ففي التوراة أن موسى عليه السلام نهى بني إسرائيل عن دعاء الأموات وغير ذلك من الشرك، وذكر أن ذلك من أسباب عقوبة الله لمن فعله؛ وذلك أن دين الأنبياء عليهم السلام واحد وإن تنوعت شرائعهم، كما في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد)، وقد قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ} [الشورى:13]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:51 - 53]، وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:30 - 32]. وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره من الأولين والآخرين، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد

الأسئلة

الأسئلة

حكم كتابة (ص) بدلا من (صلى الله عليه وسلم)

حكم كتابة (ص) بدلاً من (صلى الله عليه وسلم) Q ما حكم كتابة حرف صاد، بدلاً من كتابة صلى الله عليه وسلم؟ A أنا أظن أن هذا من البخل والشح في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تكفي، وإن كانت اصطلاحاً على الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، لكن أرى أن فيها شيئاً من الجفوة التي لا تليق به.

معنى أنه لا يعرف الإسلام من لا يعرف الجاهلية

معنى أنه لا يعرف الإسلام من لا يعرف الجاهلية Q ما صحة المقولة: لا يعرف الإسلام من لا يعرف الجاهلية؟ A هذه أظنها عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي حكمة صائبة، لكن لا تعني أن الإنسان يبدأ تعلمه بمعرفة الجاهلية، هذا خلل وخطل، فلا يصح أن نعتبر هذه الحكمة دليلاً، ولا أنها تنصب على معنى أن المسلم يشرع له أن يبدأ بتعلم غير العلوم الشرعية، ويقرأ ما هب ودب، لكن القصد أن المسلم ينبغي له بعدما يتفقه في دين الله عز وجل، أن يطلع على أصول الضلالة والكفر والفساد، فيردها ويرد عليها ويحمي الأمة من غوائلها.

حكم الدعاء عند القبر النبوي

حكم الدعاء عند القبر النبوي Q هل الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم مشروع، وهل ينهى من نراه يفعل؟ A الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من السلام غير مشروع؛ لأنه إما بدعة وإما وسيلة إلى البدعة، هذا إذا لم يستقبل القبر، أما إذا دعا مستقبلاً القبر، يعني: زاد مجرد السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم أخذ يدعو بأدعية لنفسه مستقبل القبر فهذه بدعة مغلظة. المسلم مشروع له أن يدعو في كل مكان، ومن ذلك مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والروضة، لكن إن قصد قرب القبر، إن لاحظ في دعائه وتوجه قلبه إلى القبر، فهذه بدعة، سواء كان قريباً جداً أو ليس بقريب، والمسجد الآن واسع جداً، فلو أنه دعا في أقصى المسجد من جهة الغرب مثلاً، وكان قصده الدعاء قرب القبر فهذه بدعة؛ لأنه علق قلبه بغير الله. فإذاً: لا شك أن قصد الدعاء عند القبر يعتبر بدعة، أما وقوع الدعاء عند القبر قدراً، دون القصد القلبي فهذا أمر لا حرج فيه؛ لأن المساجد من مواطن قبول الدعاء. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[35]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [35] من مناهج أهل الأهواء والبدع التي يقوم عليها تدينهم وعبادتهم الاستمداد من الأوهام والتعلق بها، لا بدليل علمي ولا شرعي، وإنما هي أوهام الشياطين، خرجوا بها عن السنة وبعضها عن الإسلام.

تحريم التوسل والاستغاثة بمن دون الرسول صلى الله عليه وسلم

تحريم التوسل والاستغاثة بمن دون الرسول صلى الله عليه وسلم قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [فصل: وإذا تبين ما أمر الله به ورسوله، وما نهى الله عنه ورسوله، في حق أشرف الخلق وأكرمهم على الله عز وجل، وسيد ولد آدم وخاتم الرسل والنبيين، وأفضل الأولين والآخرين، وأرفع الشفعاء منزلة وأعظمهم جاهاً عند الله تبارك وتعالى، تبين أن من دونه من الأنبياء والصالحين أولى بألا يشرك به، ولا يتخذ قبره وثناً يعبد، ولا يدعى من دون الله لا في حياته ولا في مماته. ولا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني وانصرني وادفع عني، أو أنا في حسبك ونحو ذلك. بل كل هذا من الشرك الذي حرم الله ورسوله، وتحريمه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام].

إغواء الشياطين لمن يستغيث بغير الله

إغواء الشياطين لمن يستغيث بغير الله قال رحمه الله تعالى: [وهؤلاء المستغيثون بالغائبين والميتين عند قبورهم وغير قبورهم؛ لما كانوا من جنس عباد الأوثان صار الشيطان يضلهم ويغويهم، كما يضل عباد الأصنام ويغويهم، فتتصور الشياطين في صورة ذلك المستغاث به، وتخاطبهم بأشياء على سبيل المكاشفة، كما تخاطب الشياطين الكهان، وبعض ذلك صدق، لكن لابد أن يكون في ذلك ما هو كذب، بل الكذب أغلب عليه من الصدق. وقد تقضي الشياطين بعض حاجاتهم، وتدفع عنهم بعض ما يكرهونه، فيظن أحدهم أن الشيخ هو الذي جاء من الغيب حتى فعل ذلك، أو يظن أن الله تعالى صور ملكاً على صورته فعل ذلك، ويقول أحدهم: هذا سر الشيخ وحاله، وإنما هو الشيطان تمثل على صورته ليضل المشرك به المستغيث به. كما تدخل الشياطين في الأصنام وتكلم عابديها وتقضي بعض حوائجهم، كما كان ذلك في أصنام مشركي العرب، وهو اليوم موجود في المشركين من الترك والهند وغيرهم. وأعرف من ذلك وقائع كثيرة في أقوام استغاثوا بي وبغيري في حال غيبتنا عنهم، فرأوني أو ذاك الآخر الذي استغاثوا به قد جئنا في الهواء ودفعنا عنهم، ولما حدثوني بذلك بينت لهم أن ذلك إنما هو شيطان تصور بصورتي وصورة غيري من الشيوخ الذين استغاثوا بهم؛ ليظنوا أن ذلك كرامات للشيخ، فتقوى عزائمهم في الاستغاثة بالشيوخ الغائبين والميتين. وهذا من أكبر الأسباب التي بها أشرك المشركون وعبدة الأوثان، وكذلك المستغيثون من النصارى بشيوخهم الذين يسمونهم العلامس؛ يرون أيضاً من يأتي على صورة ذلك الشيخ النصراني الذي استغاثوا به فيقضي بعض حوائجهم. وهؤلاء الذين يستغيثون بالأموات من الأنبياء والصالحين والشيوخ وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم غاية أحدهم أن يجري له بعض هذه الأمور، أو يحكي لهم بعض هذه الأمور، فيظن أن ذلك كرامة وخرق عادة بسبب هذا العمل. ومن هؤلاء من يأتي إلى قبر الشيخ الذي يشرك به ويستغيث به، فينزل عليه من الهواء طعام أو نفقة أو سلاح أو غير ذلك مما يطلبه، فيظن ذلك كرامة لشيخه، وإنما ذلك كله من الشياطين. وهذا من أعظم الأسباب التي عبدت بها الأوثان]. يدخل في مثل هذا ما يحصل لكثير من الناس قديماً وحديثاً، واليوم بدأ يشيع، وهو لجوء الناس إلى غير الأسباب الشرعية، كلجوئهم إلى الكهنة والعرافين والدجالين والسحرة، والرقاة الجهلة في دفع الأضرار وكشف الأمور الغائبة، أو في الاستشفاء من الأمراض وغيرها. أقول: إن هذا الأمر يكثر فيه الدجل، بل غالب أبوابه من الدجل، ما عدا الرقية الشرعية الصحيحة السليمة، ويحدث فيه الابتلاء أيضاً والفتنة، إن الكثيرين ممن يلجئون إلى هذه الأساليب غير الشرعية قد يستفيدون، إما فائدة وهمية، وهو الغالب، وإما فائدة حقيقية؛ كأن يشفى بعض المرضى بسبب هذه الأنواع من الدجل والشعوذة وغيرها، وقد يدل على أمر يكشف به ضره أو تتبين به حاله كبعض السحر، أو بعض من يضرون الشخص أو العائن ونحو ذلك، يكون هذا فعلاً من قبل الشياطين من الجن، ومن قبل بعض البشر الذين يموهون على الناس، وقد ينتفع المحتاج أو الذي يلجأ إلى هؤلاء، إما في جلب نفع أو دفع ضر، ويظن أن هذا دليل المشروعية لما سلك، فيأخذ ينشر مثل هذه الأمور، ويعمل ما يسمى بدعاية لهؤلاء الذين يعملون هذه الأمور الممنوعة، فيتكدس الناس حوله.

المفاسد والفتن في الرقى وعلاج المشعوذين

المفاسد والفتن في الرقى وعلاج المشعوذين فأقول: ما يحصل من دفع الضر أو جلب النفع، لا شك أنه من باب الابتلاء والفتنة، وأنه نوع من الأنواع التي ذكرها شيخ الإسلام هنا؛ من أن أولئك القوم الذين يشركون بالله ويدعون غيره عز وجل؛ يحصل لهم أن يروا من يدعون أو يروا الشيخ الغائب أو الميت وهو أمامهم يغيثهم في اللحظات الحرجة، أو يجلب لهم أشياء يريدونها، أو يدفع عنهم شروراً يريدون دفعها، هذا في الشرك الصريح. أقول: حتى ما دون ذلك من البدع المغلظة والتوسلات البدعية يحصل به من الفتنة كما يحصل بالصور الشركية التي ذكرها الشيخ، وربما كان أكثر هذه الصور التي يعملها المعاصرون مما يوقع في الشرك، فينبغي التنبه لهذا الأمر؛ لأنه قد كثر واستفحل في مجتمعنا، وأخذ صوراً وأسماء ليست كالسابق. الآن الدجال لا يسمى دجالاً، بل يسمى طبيباً شعبياً أو طبيب أعشاب، وكثير من الدجالين دخل على الناس من باب الرقية، يبدأ بالآيات، ثم يتمتم بأمور مجهولة، والتلبيس يحدث حتى من قديم الزمان، فكثير من الكهنة والسحرة الذين عرفوا في التاريخ كانوا يستفتحون أعمالهم بالآيات، وهذا من باب التلبيس والعبث والاستهزاء بكتاب الله، والتلبيس على الناس، فيظن بعض السذج وبعض الجهلة، أن مجرد قراءة القرآن تكفي لتزكية هذا الدجال والمشعوذ؛ وأنه لو كان دجالاً لما قرأ القرآن، ويظنون أن الدجال لا يستطيع أن يقرأ القرآن، وهذا غير صحيح، فإنه قد يقرأ القرآن، ثم بعد ذلك يعمل أعماله الشركية، وهذا من باب لمن يفعل ذلك، ولمن يستعين بهم من دون الله عز وجل. فينبغي أن يبصر الناس بهذا الأمر؛ لأنه خطير جداً، وأن ما يحصلون عليه من منافع إنما هو من باب الابتلاء الذي يستفيدون فيه نفعاً في دنياهم، ويخسرون دينهم، وهذا هو الخسران المبين، نسأل الله السلامة.

الاستدراج إلى الشرك

الاستدراج إلى الشرك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35 - 36] كما قال نوح عليه السلام، ومعلوم أن الحجر لا يضل كثيراً من الناس إلا بسبب اقتضى ضلالهم، ولم يكن أحد من عباد الأصنام يعتقد أنها خلقت السماوات والأرض، بل إنما كانوا يتخذونها شفعاء ووسائط لأسباب: منهم من صورها على صور الأنبياء والصالحين، ومنهم من جعلها تماثيل وطلاسم للكواكب والشمس والقمر، ومنهم من جعلها لأجل الجن، ومنهم من جعلها لأجل الملائكة. فالمعبود لهم في قصدهم، إنما هو للملائكة والأنبياء والصالحين أو الشمس أو القمر، وهم في نفس الأمر يعبدون الشياطين، فهي التي تقصد من الإنس أن يعبدها، وتظهر لهم ما يدعوهم إلى ذلك، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41]. وإذا كان العابد ممن لا يستحل عبادة الشياطين أوهموه أنه إنما يدعو الأنبياء والصالحين والملائكة وغيرهم ممن يحسن العابد ظنه به، وأما إن كان ممن لا يحرم عبادة الجن عرفوه أنهم الجن، وقد يطلب الشيطان المتمثل له في صورة الإنسان أن يسجد له، أو أن يفعل به الفاحشة، أو أن يأكل الميتة ويشرب الخمر، أو أن يقرب لهم الميتة، وأكثرهم لا يعرفون ذلك، بل يظنون أن من يخاطبهم إما ملائكة وإما رجال من الجن يسمونهم رجال الغيب، ويظنون أن رجال الغيب أولياء الله غائبون عن أبصار الناس، وأولئك جن تمثلت بصورة الإنس، أو رئيت في غير صور الإنس، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]. كان الإنس إذا نزل أحدهم بواد يخاف أهله قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، وكانت الإنس تستعيذ بالجن فصار ذلك سبباً لطغيان الجن، وقالت: الإنس تستعيذ بنا].

قيام البدع الشركية على التوهمات

قيام البدع الشركية على التوهمات يشير الشيخ هنا إلى أمر مهم جداً، وهو أن أهل البدع والأهواء سواء كانت أهواؤهم تصل إلى درجة الشرك أو دون ذلك، كالبدع المغلظة، بدع التوسلات والتبركات البدعية وغير ذلك مما يقع فيه كثير من المسلمين اليوم؛ هذا الأمر يقوم على التوهمات وليس له حقيقة، كما أنه ليس له دليل شرعي، يعني: كثير مما يستمد منه أهل الأهواء عبادتهم أوهام، هذه الأوهام قننت من قبل شياطين الجن والإنس، ورتبت وجعلت أصولاً منهجية لأهل الأهواء، فالفلاسفة يسمون أوهامهم التي يعلقون بها مصائرهم ومصالحهم في الدين والدنيا، الفيض، ويسمونها كذا وكذا من الأسماء التي ترجع إلى المعاني الفلسفية، والصوفية وإن كان كثير من الفلاسفة أيضاً ينزعون إلى التصوف والعكس كذلك، لكن هناك من المتصوفة من قد لا يدرك المعاني الفلسفية العميقة، فتجده يعبر عن هذه الأوهام التي يستمد منها دينه وعبادته البدعية الكشف والذوق والوجد، وتواصل الأرواح، ويصل الأمر إلى أعلى درجة من الكفر، كأن يقول: حدثني قلبي عن ربي، فلا يستمد من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعتمد على الأوهام التي هي من وحي الشياطين ويظنها من عند الله، ومن دونه من يظن أنه ينكشف له شيء من الغيب، فيحل به عبادة غير الله، ويحل به البدع والوسائل البدعية، بل يستحل به الحرام ويحرم به الحلال، وكذلك الذوق، فيرون أن الولي معصوم، وما تذوقه فهو مقتضى الشرع، وقد يتذوق عبادة المقبورين وعبادة الأصنام والأوثان، فيظن هذا مقتضى التشريع. إذاً: يعود هذا كله إلى أن الشيطان أوهمهم أشياء فصدقوها وعملوا بها، فعلى هذا نستطيع أن نقول: إن من مناهج أهل الأهواء والبدع العامة التي يقوم عليها تدينهم وعبادتهم الاستمداد من الأوهام، والتعلق بالأوهام، لا بدليل شرعي، ولا بدليل علمي يقيني، ولا المشاهدة بالعين ولا بالسمع ولا، إنما هي أوهام شرعها لهم الشيطان، فكانت من شرعتهم التي خرجوا بها من السنة، أو خرج منها بعضهم من الإسلام. نسأل الله العافية.

الرقى الأعجمية والاستعانة بالجن

الرقى الأعجمية والاستعانة بالجن قال رحمه الله تعالى: [وكذلك الرقى والعزائم الأعجمية هي تتضمن أسماء رجال من الجن يدعون ويستغاث بهم، ويقسم عليهم بمن يعظمونه، فتطيعهم الشياطين بسبب ذلك في بعض الأمور. وهذا من جنس السحر والشرك، قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102]]. هنا لفتة مهمة جداً، وهي إشارة الشيخ إلى الرقى والعزائم الأعجمية أو غير الأعجمية، هذا يلزم فيه التنبيه إلى ما يفعله بعض الرقاة هداهم الله، خاصة ما يتعلق بالاستعانة بالجن، هذه المسألة سبق الوقوف عليها أكثر من مرة، لكن لأهميتها وخطورتها وكونها استفحلت بين الناس، يجب التنبيه عليها ويجب التناصح في أمرها. أقول: إن بعض الرقاة هداهم الله، قد يتجاوز في هذه المسألة إلى حد يوصله إلى البدعة الصريحة أو إلى ذريعة البدعة، وأخص مسألة الاستعانة بالجن؛ لأن تجاوزات الرقاة كثرت الآن، ولا يعني ذلك عموماً كل الرقاة، فإنا نعرف فيهم عدداً كبيراً من طلاب العلم والأخيار الذين لا يزال ينفع الله بهم، وهم على أصول شرعية، لكن نظراً لأن الرقية انتشرت وصارت مهنة وحرفة، فإن كثيراً ممن امتهنوها وقعوا في أخطاء عن قصد وعن غير قصد، وهي كثيرة ليس هذا مجالها، يهمنا في هذا الجانب ما أشار إليه شيخ الإسلام هنا من الاستعانة بالجن.

الأصل في خبر الجني الكذب

الأصل في خبر الجني الكذب في باب الاستعانة بالجن ظهرت عندنا الآن ظواهر بدعية كثيرة، منها تصديق الجن، الجن يتلبسون ببني آدم ولا شك، وتلبسهم ظاهر من قديم الزمان وأخيره، والذين ينكرون هذا عندهم مكابرة وجهل بهذا الأمر، وقد يكونون علماء نفس وأطباء وقد يكونون طلاب علم إلى آخره، لكن عندهم مكابرة ويجهلون حقيقة الأمر، ويفسرون بتفسيرات هي إلى الدجل والتخرص أقرب منها إلى الواقع الذي يحصل ويشهد به الناس، كيف يفسرون تلبس الجن بتفسيرات نفسيه، ونحن نسمع الجني يتكلم بغير لغة الشخص، جني يتكلم في امرأة ساذجة ما عرفت تقرأ العربية فضلاً عن أن تعرف لغة أخرى، فتجده يتكلم بلهجة قبيلة في الشام أو بلغة هندية؟ لابد أن يكون هناك كائن آخر، هم يسمونه جرثومة، لابد أن يكون هذا جنياً؛ لأن الجن موجودون مخلوقون، يلتبسون بالإنس منذ القدم، ولهم وقائع وحالات معروفة مشهودة يشهدها العقلاء. على أي حال ليس هذا مجال الكلام، فمجال الكلام هو ما يفعله بعض الرقاة من تصديق الجن، الجني الذي يتلبس بالإنسي الأصل فيه الفسق، فلو لم يكن فاسقاً لما آذى الإنسي، هذه مسألة معروفة شرعاً؛ لأن الواجب على الجني كالواجب على الإنسي ألا يظلم ولا يؤذي، وتلبس الجني بالإنسي مهما كان سببه فإنه من الأذى، ثم إنه من الاستمتاع الذي حرمه الله عز وجل، ثم إنه إذا تكلم الجني فالغالب أنه في موقع ضعف، لكنه إذا وجد الإنسي يعظمه ويجله ويخاف منه تعاظم واستعلى، ثم بدأ يهذي بالصدق والكذب، والأصل فيه الكذب والفجور، فيتهم الأبرياء من أجل أن يتخلص، ويخلط الحقيقة بالكذب من أجل أن يموه على الناس، يقول: تجد السحر في الصرة الفلانية تحت الشجرة الفلانية، فيذهب الناس فيجدون فعلاً تحت الشجرة صرة، لكن صرة من مخلفات البيت، فيظنون أن هذا هو السحر، مع أنه قد يكون هو السحر وقد لا يكون سحراً؛ لكن لا ننسى أن الأصل في هذا الكذب، والصدق إن وجد فهو قليل، وهكذا قد يقول: الذي عان هذا الرجل أو هذه المرأة وتسبب في مرضه هو فلان أو فلانة، وقد يكون قريباً أو صديقاً أو جاراً، فيقاطع وتحصل أمور عظام وفتن. فالشاهد أن أخبار الجن للإنس الأصل فيها أن يتثبت منها، كأخبار الإنسي للإنس، ثم إذا صار الخبر عن جني متلبس فالجني فاسق بذلك قطعاً، فيجب أيضاً التثبت وأن الأصل في خبره الكذب، ثم إن هذا نوع من أنواع الدجل ولا شك، لكن نستثني ما إذا وجدت قرائن على صدق الجني هذا أمر. الأمر الآخر: ألا يكون هذا من باب التعاقد بين الراقي والجني، بعض الرقاة كما سمعت وعلمت، إذا نطق الجني تعاقد معه بأن يأتيه كل وقت يحتاجه، أو أنه إذا أراد الخبر الفلاني يعطيه الخبر ويقول: العهد بيني وبينك أنك إذا احتجناك تأتي وتقول وتفعل، هذا من الاستمتاع المحرم، وهذا من الدجل، أما إذا جاء الخبر من الجني بدون عقد أو عهد بينك وبينه فلا بأس. فقد يكون فيه أحياناً منفعة قد يصدق، وقد يكرم الله بعض عباده عن طريق الجن، مما يخبرونهم بالعلاج أو يخبرونهم بأسباب المرض أو نحو ذلك، لكن هذا قليل ليس هو الأصل. أعود وأقول: ينبغي أن ينبه الرقاة، أن التمادي في هذا الموضوع والخروج عن الأصول الشرعية في هذا الجانب من الاستمتاع المحرم بين الإنس والجن، وأنه نوع من أنواع الدجل والكهانة التي حرمها الله عز وجل.

اقتران الشياطين بالمرء بحسب ما عنده من مادة الشرك والفجور

اقتران الشياطين بالمرء بحسب ما عنده من مادة الشرك والفجور قال رحمه الله تعالى: [وكثير من هؤلاء يطير في الهواء وتكون الشياطين قد حملته، وتذهب به إلى مكة وغيرها، ويكون مع ذلك زنديقاً يجحد الصلاة وغيرها مما فرض الله ورسوله، ويستحل المحارم التي حرمها الله ورسوله. وإنما يقترن به أولئك الشياطين لما فيه من الكفر والفسوق والعصيان، حتى إذا آمن بالله ورسوله وتاب والتزم طاعة الله ورسوله، فارقته تلك الشياطين، وذهبت تلك الأحوال الشيطانية من الإخبارات والتأثيرات. وأنا أعرف من هؤلاء عدداً كثيراً بالشام ومصر والحجاز واليمن، وأما الجزيرة والعراق وخراسان والروم ففيها من هذا الجنس أكثر مما بالشام وغيرها، وبلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب أعظم. وإنما ظهرت هذه الأحوال الشيطانية التي أسبابها الكفر والفسوق والعصيان بحسب ظهور أسبابها، فحيث قوي الإيمان والتوحيد ونور الفرقان والإيمان وظهرت آثار النبوة والرسالة ضعفت هذه الأحوال الشيطانية، وحيث ظهر الكفر والفسوق والعصيان قويت هذه الأحوال الشيطانية، والشخص الواحد الذي يجتمع فيه هذا وهذا الذي تكون فيه مادة تمده للإيمان ومادة تمده للنفاق، يكون فيه من هذا الحال وهذا الحال. والمشركون الذين لم يدخلوا في الإسلام مثل البخشية والطونية والبُدَّى ونحو ذلك من علماء المشركين وشيوخهم الذين يكونون للكفار من الترك والهند والخطى وغيرهم، تكون الأحوال الشيطانية فيهم أكثر، ويصعد أحدهم في الهواء ويحدثهم بأمور غائبة، ويبقى الدف الذي يغني لهم به يمشي في الهواء، ويضرب رأس أحدهم إذا خرج عن طريقهم، ولا يرون أحداً يضرب له، ويطوف الإناء الذي يشربون منه عليهم ولا يرون من يحمله، ويكون أحدهم في مكان، فمن نزل منهم عنده ضيفه طعاماً يكفيهم، ويأتيهم بألوان مختلفة؛ وذلك من الشياطين تأتيه من تلك المدينة القريبة منه أو من غيرها تسرقه وتأتي به. وهذه الأمور كثيرة عند من يكون مشركاً أو ناقص الإيمان من الترك وغيرهم، وعند التتار من هذا أنواع كثيرة. وأما الداخلون في الإسلام إذا لم يحققوا التوحيد واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، بل دعوا الشيوخ الغائبين واستغاثوا بهم، فلهم من الأحوال الشيطانية نصيب بحسب ما فيه مما يرضي الشيطان. ومن هؤلاء قوم فيهم عبادة ودين مع نوع جهل، يحمل أحدهم فيوقف بعرفات مع الحجاج من غير أن يحرم إذا حاذى المواقيت، ولا يبيت بمزدلفة، ولا يطوف طواف الإفاضة، ويظن أنه حصل له بذلك عمل صالح وكرامة عظيمة من كرامات الأولياء، ولا يعلم أن هذا من تلاعب الشيطان به، فإن مثل هذا الحج ليس مشروعاً ولا يجوز باتفاق علماء المسلمين، ومن ظن أن هذا عبادة وكرامة لأولياء الله فهو ضال جاهل].

قلة الخرافات والبدع بظهور دعوة التوحيد

قلة الخرافات والبدع بظهور دعوة التوحيد هذا ما يتعلق بوجود طوائف من أهل البدع، يعتقدون فيمن يسمونهم الأولياء أن أحدهم يطير في الهواء أو يذهب إلى مكة، أو يصلي في الكعبة وهو في بلاد بعيدة، كل هذا من الاعتقادات الموجودة الآن، لكن صورها قلت لعدة أسباب، وقد كانت موجودة بكثرة في أول عهد شيخ الإسلام، ثم خفت بعد أن نفع الله بعلمه، وصار له تلاميذ، وعم منهجه كثيراً من البلاد الإسلامية، فخفت في وقته وبعده بقرنين أو ثلاثة، ثم بعد ذلك كثرت في القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر الهجري، ثم بظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحين تأثر بها كثيرون في البلاد الإسلامية الأخرى عن طريق الحجاج وعن طريق الوفود التي تفد بعدما قامت للتوحيد دولة، وبعدما ظهر نور التوحيد وانتشر، قلت هذه الصور بشكل كبير جداً، لهذا العامل. ولعامل آخر أيضاً ليس محموداً وفي كل شر، وهو أن كثيراً من المسلمين في العصور المتأخرة حينما هيمنت عليهم دول الاحتلال النصرانية واليهودية، قل التدين أصلاً، حتى التدين البدعي قل، وكثر إعراض المسلمين عن الدين جملة، فتجد عامة المتعلمين والمثقفين في أكثر البلاد الإسلامية هم إلى التفرنج والإعراض عن الدين أقرب منهم إلى التدين، وإن كان عندهم نزعة تصوف؛ لأن التصوف مأوى لكل مبطل، يستطيع المعرض عن دين الله عز وجل بالكلية مهما عمل من الجرائم والآثام إذا ارتبط بشيخ من شيوخ الصوفية، أن يسمي نفسه متديناً، تجده في المسجد بسبحته، وإذا خرج لبس لباس الفجار، وعمل عمل الفجار، ثم يأتي بعد ذلك للمسجد ويصلي ويقبل رأس الشيخ، ثم يدعي بذلك أنه غفر له ذنبه كما عند النصارى. فهذا استوجب شيئاً -أي: الإعراض مع بقاء نزعة التدين مجرد صورة- حيث جعل صور هذه البدع تقل، لا في الاعتقاد، لكن من الناحية العملية. إذاً: قلت هذه الصور وإن كانت موجودة يشهد بها أناس أحياء، كما ذكرت لكم أكثر من مرة عن بعض أنصار السنة، فقد سمعت منهم: أن أفراداً كانوا على منهج أهل التصوف وكانت تحصل لهم مثل هذه الحالات، ومنهم الشيخ محمد الهدية رئيس أنصار السنة الآن بالسودان، سمعته أكثر من مرة يحدث عن نفسه، أنه عندما كان مع الصوفية كان يخيل له أنه يطير في الهواء. فالشاهد أن هذه الصور قلت، لكن لم تنعدم، وسبب انحلالها وضعفها هو هذه الدعوة المباركة، التي وجد لها نماذج في أكثر بلاد المسلمين، والآن يوجد بحمد الله دعاة إلى التوحيد في كل بلاد الدنيا، فهؤلاء ينير الله بهم البصائر، وتخف بسببهم البدع وتستنكر عند طوائف من الناس، ولو لم يقلع الناس كلهم عن البدع، لكن على الأقل يصبح هذا المنكر محل نقاش ويوجد من ينكره، فتقل هذه الظواهر البدعية المغلظة. والله أعلم.

بيان الوهم فيما يتخيله الخرافيون كرامات

بيان الوهم فيما يتخيله الخرافيون كرامات قال رحمه الله: [ولهذا لم يكن أحد من الأنبياء والصحابة يفعل بهم مثل هذا، فإنهم أجل قدراً من ذلك. قد جرت هذه القضية لبعض من حمل هو وطائفة معه من الإسكندرية إلى عرفة، فرأى ملائكة تنزل وتكتب أسماء الحجاج، فقال: هل كتبتموني؟ قالوا: أنت لم تحج كما حج الناس، أنت لم تتعب ولم تحرم ولم يحصل لك من الحج الذي يثاب الناس عليه ما حصل للحجاج. وكان بعض الشيوخ قد طلب منه بعض هؤلاء أن يحج معهم في الهواء، فقال لهم: هذا الحج لا يسقط به الفرض عنكم؛ لأنكم لم تحجوا كما أمر الله ورسوله. ودين الإسلام مبني على أصلين: على أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيء، وعلى أن يعبد بما شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. وهذان هما حقيقة قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فالإله هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة ومحبة وتعظيماً وخوفاً ورجاء وإجلالاً وإكراماً، والله عز وجل له حق لا يشركه فيه غيره فلا يعبد إلا الله، ولا يدعى إلا الله، ولا يخاف إلا الله، ولا يطاع إلا الله. والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله تعالى أمره ونهيه وتحليله وتحريمه، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه والدين ما شرعه، والرسول صلى الله عليه وسلم واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وتحليله وتحريمه وسائر ما بلغه من كلامه. وأما في إجابة الدعاء، وكشف البلاء، والهداية، والإغناء، فالله تعالى هو الذي يسمع كلامهم ويرى مكانهم ويعلم سرهم ونجواهم، وهو سبحانه قادر على إنزال النعم، وإزالة الضر والسقم، من غير احتياج منه إلى أن يعرفه أحد أحوال عباده، أو يعينه على قضاء حوائجهم. والأسباب التي بها يحصل ذلك هو خلقها ويسرها، فهو مسبب الأسباب، وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]. فأهل السماوات يسألونه، وأهل الأرض يسألونه، وهو سبحانه لا يشغله سمع كلام هذا عن سمع كلام هذا، ولا يغلطه اختلاف أصواتهم ولغاتهم، بل يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، ولا يبرمه إلحاح الملحين، بل يحب الإلحاح في الدعاء. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحكام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجابتهم، كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]، {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة:217] إلى غير ذلك من مسائلهم. فلما سألوه عنه سبحانه وتعالى قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، فلم يقل سبحانه: فقل، بل قال تعالى: ((فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ))، فهو قريب من عباده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لما كانوا يرفعون أصواتهم بالذكر والدعاء، فقال: (أيها الناس، أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى صلاته فلا يبصقن قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً، ولكن عن يساره وتحت قدمه) وهذا الحديث في الصحيح من غير وجه. وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وهو سبحانه غني عن العرش وعن سائر المخلوقات لا يفتقر إلى شيء من مخلوقاته، بل هو الحامل بقدرته العرش وحملة العرش. وقد جعل تعالى العالم طبقات، ولم يجعل أعلاه مفتقراً إلى أسفله، فالسماء لا تفتقر إلى الهواء، والهواء لا يفتقر إلى الأرض، فالعلي الأعلى رب السماوات والأرض وما بينهما الذي وصف نفسه بقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] أجل وأعظم وأغنى وأعلى من أن يفتقر إلى شيء بحمل أو غير حمل، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، الذي كل ما سواه مفتقر إليه، وهو مستغن عن كل ما سواه. وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، قد بين فيه التوحيد الذي بعث الله به رسوله قولاً وعملاً. فالتوحيد القولي مثل سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، والتوحيد العملي: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسل

الأسئلة

الأسئلة

حكم العمرة في شهر رجب

حكم العمرة في شهر رجب Q العمرة بشهر رجب. A إذا لم يقصد فيها المعنى البدعي وهو: تخصيص هذا الشهر بعمل معين كالعمرة أو التعبد بذلك فلا حرج، فشهر رجب من عموم الأشهر، بل ورد فيه فضل، لكن لم يرد تفضيل عمل فيه بذاته، وبعض السلف كان يعتمر في رجب، لكن لا يقصد التعبد، لأنه لو كان تعبد لدعا الناس إلى ذلك ولتداعى المسلمون، لكن ربما لأنه شهر متوسط، أو يرجع إلى أمر يتعلق بهذا الشهر، أو اجتهاد خاطئ في المواظبة على عمرة في رجب، فكون الإنسان تتهيأ ظروفه يحرم في هذا الشهر بدون أن يقصد اعتبار التعبد بعمرة في هذا الشهر لذاته أيضاً فيتميز بها هذا الوقت فلا حرج فيه.

الرد على من يقول: إن الكاهن لا يقرأ القرآن

الرد على من يقول: إن الكاهن لا يقرأ القرآن Q كيف يرد على من يقول: إن الكاهن لا يقرأ القرآن؛ لأن الشياطين يمنعونه من ذلك؟ A قد يكون بعضهم لا يستطيع أن يقرأ القرآن نسأل الله السلامة، هذا حسب الشروط التي بينهم وبينه، بعض الكهنة تمنعهم شياطينهم من قراءة القرآن، لكن بعضهم ليس كذلك، فقد يقرأ القرآن وبعده يبدأ يتمتم بأمور غامضة هي شفرة بينه وبين الشياطين، فالمهم ليست قراءة القرآن دليلاً على صلاح الشخص أو صلاح عمله دائماً؛ لأنه قد يلبس بالقرآن على الناس.

حكم قول البعض: (تباركت علينا بالدخول)

حكم قول البعض: (تباركت علينا بالدخول) Q ما حكم قول بعض الناس: تباركت علينا بدخول المنزل؟ A ( تباركت) هذه ما أسمع بها أنا، لكن يقولون: حلت علينا البركة، يعني: من باب التبسط مع الضيف، ومن باب الفأل، ولا حرج في ذلك، أما إذا قصد أنه مبارك يأتي ببركة من عند ذاته فلا.

رأي ابن تيمية في الاستعانة بالجن

رأي ابن تيمية في الاستعانة بالجن Q هل ورد عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا يرى بأساً في الاستعانة بالجن المسلمين عند الضرورة؟ A نعم، عند الضرورة إذا كان هناك دليل على وجود الجن، ووجد لذلك موجب بشروطه الشرعية فلا حرج، بمعنى: أن يقع مصادفة، كما إذا حدث للإنسان موقف حرج، وعلم أن الجن في هذا الموقع إما حدثوه وإما رآهم وإما سمعهم، فطلب منهم الإعانة فيما يقدرون عليه فلا حرج في هذا، من باب الكرامة أحياناً للعبد، لكن الممنوع أن يمتهن هذه المهنة، وأن يكون بينهم وبينه عهد أو شرط يستدعيهم إذا شاء، ويأخذ عليهم ويأخذون عليه، هذا من باب الاستمتاع المحرم.

حكم الاستعانة بالجن في العلاج وغيره

حكم الاستعانة بالجن في العلاج وغيره Q هناك رجل في البلاد العربية المجاورة اشتهر بالعلاج، وأن شخصاً ذهب إليه، وأنه يقول: أنا لا أشفي، ولا يأمر إلا بقراءة آيات وأحاديث معروفة، وأخذ هذا المريض وجعله ينام ما يقارب من (48) ساعة، ثم قام المريض من الغرفة وقد شفي مما يعانيه من مرض في الفقرات، وذكر أن ابن تيمية قال: إن من الناس من يسخر لهم بعض الجن المسلمين، وأن ما حصل لهذا المريض من ذلك. A ما أدري هل اقتصر هذا الشخص على الأسباب الشرعية، ثم مما يرد في هذه المسألة كونه نوَّم الشخص 48 ساعة، أما كونه قرأ عليه القرآن فهذا طبيعي، لكن كونه ينومه 48 ساعة بأي وسيلة نومه؟ هل عن طريق الجن والشياطين؟ هذا غلط، فقد فوت عليه صلاة الفرائض، وفوت أموراً عظيمة في دينه ودنياه، وأنا أذكر لكم قاعدة: غالباً أن الأمر الغريب غير المعتاد يكون من نصيب الشياطين والجن، فهو نوع من الدجل. إنسان مثلاً يعمل حركات معينة لا يعمل غيرها، تكون هي وسيلته في التأثير في المريض، هذا دخل عليه الشيطان، ما هو معنى هذه الحركة؟! لماذا هذه الحركة بذاتها؟! وليست حركة مطردة عند الناس جميعاً أو عند جميع الرقاة، كل واحد له نوع: واحد يطبب على الرأس، وواحد يخنق الرقبة حتى يكاد يقتل المريض، وواحد يضرب بسياط، وواحد يلوي اليد، والآخر يفعل ويفعل، هذه تصرفات غير طبيعية، هي حظ الشيطان من الإنسان، أي عمل يعمله الراقي أو المداوي لا تفسير له، ليس له أصل شرعي، وغير مفسر بأمر علمي أو عقلي فهو نوع من الدجل، ومنه ما ذكره السائل هنا.

حكم الاستعانة بالجن في العلاج

حكم الاستعانة بالجن في العلاج Q هل يجوز استعمال الجن المسلمين والعلاج عند من يعرف بذلك؟ A إذا جاءت الخدمة من الجني بدون اتفاق وعهد فلا حرج فيها؛ لأنه قد تكون من الكرامة للإنسان. والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[36]

شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [36] أهل الأهواء والبدع الذين يتعلقون بالقبور والأموات وغيرها عملهم هو مثل الطقوس والمراسم التي يفعلها عباد الأوثان وإن اختلفت الشكليات، وقد وقع لشيخ الإسلام ابن تيمية مناظرات مع بعض هؤلاء الخرافيين وفضحهم وكشف أستارهم، وهدم ما يتعلقون به من شبهات وحجج واهية باطلة.

معنى قول القائل: (أسألك بحق السائلين)

معنى قول القائل: (أسألك بحق السائلين) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [في قول القائل: أسألك بحق السائلين عليك، وما في معناه. A أما قول القائل: أسألك بحق السائلين عليك، فإنه قد روي في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه ابن ماجه، لكن لا يقوم بإسناده حجة، وإن صح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم كان معناه: أن حق السائلين على الله أن يجيبهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، وهو كتب ذلك على نفسه، كما قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، فهذا سؤال الله بما أوجبه على نفسه كقول القائلين: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران:194]، وكدعاء الثلاثة الذين أووا إلى الغار لما سألوه بأعمالهم الصالحة التي وعدهم أن يثيبهم عليها. انتهى]. سبق أن بين الشيخ هذا أكثر من مرة في ثنايا قاعدة التوسل والوسيلة التي انتهت في الدرس الماضي، لكن أحب أن أشير إلى نقطة رمز إليها الشيخ أكثر من مرة وقد لا تكون واضحة في أذهان الكثيرين، وهي أنه حينما فسر، يقول: إن ثبت حديث: (اللهم إني أسألك بحق السائلين)، فسر: (حق السائلين) بأنه ما وعد الله به عباده من إجابة دعائهم، فإنه يقصد بذلك: أن السائل بهذا الدعاء الذي يدعو بهذا الدعاء يقصد أنه واحد من السائلين، لا يقصد أنه يتوسل بحق الآخرين الذين وعدهم الله. إذاً: فحق السائلين الذي قد يجوز الدعاء به إن صح الحديث إنما هو ما يتعلق بهذا الشخص نفسه، فهذا الشخص هو واحد من السائلين، فإذا دعا الله ربه بحق السائلين فإنه يدعو بحقه الذي يخصه لا بحقوق الآخرين، وقد يكون من وجه بعيد أيضاً: جواز طلب الدعاء من الآخر، أي: طلب الدعاء من أخيك المسلم، وأخوك المسلم وعد الله بإجابة دعائه، فقد يتعلق قلبك بإجابة الله للداعي لك، فهذا حق لك شرعه الله لإخوانك المسلمين بأن يدعوا لك. إذاً: إذا قلت: بحق السائلين إن جاز فإنما تدعو لأنك واحد من هؤلاء السائلين لا لأنك تدعو بحقوق إخوانك الآخرين.

مناظرة ابن تيمية لبعض الرهبان

مناظرة ابن تيمية لبعض الرهبان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولما كان الشيخ في قاعة الترسيم دخل إلى عنده ثلاثة رهبان من الصعيد فناظرهم وأقام عليهم الحجة بأنهم كفار، وما هم على الذي كان عليه إبراهيم والمسيح عليهما السلام. فقالوا له: نحن نعمل مثل ما تعملون: أنتم تقولون بالسيدة نفيسة، ونحن نقول بالسيدة مريم، وقد أجمعنا نحن وأنتم على أن المسيح ومريم أفضل من الحسين ومن نفيسة، وأنتم تستغيثون بالصالحين الذين قبلكم ونحن كذلك. فقال لهم: وأي من فعل ذلك ففيه شبه منكم، وهذا ما هو دين إبراهيم الذي كان عليه، فإن الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه السلام: أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند له ولا صاحبة له ولا ولد له، ولا نشرك معه ملكاًً ولا شمساً ولا قمراً ولا كوكباً، ولا نشرك معه نبياً من الأنبياء ولا صالحاً، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، وأن الأمور التي لا يقدر عليها غير الله لا تطلب من غيره، مثل: إنزال المطر، وإنبات النبات، وتفريج الكربات، والهدى من الضلالات، وغفران الذنوب، فإنه لا يقدر أحد من جميع الخلق على ذلك، ولا يقدر عليه إلا الله، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام نؤمن بهم ونعظمهم ونوقرهم ونتبعهم ونصدقهم في جميع ما جاءوا به ونطيعهم، كما قال نوح وصالح وهود وشعيب عليهم الصلاة والسلام: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:3]، فجعل العبادة والتقوى لله وحده والطاعة لهم، فإن طاعتهم من طاعة الله، فلو كفر أحد بنبي من الأنبياء وآمن بالجميع ما ينفعه إيمانه حتى يؤمن بذلك النبي، وكذلك لو آمن بجميع الكتب وكفر بكتاب كان كافراً حتى يؤمن بذلك الكتاب، وكذلك الملائكة واليوم الآخر. فلما سمعوا ذلك منه قالوا: الدين الذي ذكرته خير من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه. ثم انصرفوا من عنده]. فهذه من الأمور التي تحتاج إلى تجلية من طلاب العلم في الجانب العلمي والعملي والتطبيق في سلوكهم وتعاملهم مع الناس. أقول: هذا الأمر الذي ذكره الشيخ، وهو التباس أمر الإسلام على كثير من الأمم بسبب أهل البدع، وفهمهم الخاطئ عن الإسلام بسبب الممارسات الخارجة عن السنة، هذا أمر واقع اليوم في كثير من بلاد المسلمين وغير بلاد المسلمين، فكم من إنسان حجب عن الهداية بسبب ما رآه من أفعال المسلمين وأقوالهم وسلوكهم وتعاملهم، في العبادات والأخلاق واللباس والمعاملات، وفي سائر الأمور، وذلك أن من يرى أحوال المسلمين مع غيرهم من الكفار والمرتدين والأمم الأخرى لا يجد عندهم ما يصدق به معنى الإسلام الصحيح الذي أمر الله باتباعه، فهم في العبادات لا يختلفون كثيراً عن الهندوس والمجوس والصابئة واليهود، أنا أقصد أهل الأهواء والبدع الذين يتعلقون بالقبور والأموات والأشجار والأحياء، فإن عندهم من الطقوس كما عند أهل الأوثان في عباداتهم وإن اختلفت بعض الشكليات. فإذاً: كيف يصلون إلى الإسلام الحقيقي من خلال هؤلاء؟ ثم الأمور الأخرى الكثيرة: خلط الدين بالعادات، وخلط الدين بالأهواء، وخلط الدين بالشهوات والشبهات. فإذاً: لو استعرضنا واقع الأمة الإسلامية الآن نجد أن حال المسلمين هو الذي يحجب الأمم عن الاستفادة من الإسلام، البشرية اليوم بحاجة إلى هذا الدين في جميع وجوه حياتهم، ومن البشر من عقلاء الأمم من لو فتح بينه وبين الإسلام لنادى به في ديار الكفر، ولو عرض الإسلام بمنهج أهل السنة المنهج الصحيح السليم عرضاً سليماً لتغير وجه الدنيا اليوم. فمن هنا أحب أن أؤكد إلى أنه ينبغي لطالب العلم المسلم الذي على السنة أن يلتزم السنة في كل مكان، وأن يعتز بها حتى في اللباس، وألا يترخص إلا للحاجة الضرورية، وإقامة شعائر الدين الظاهرة؛ ليتميز المسلم المستمسك بالسنة عن المسلم الذي يقع في البدع والخرافات، ومسايرة القوم، وموالاة الكفار ونحو ذلك. واليوم بحمد الله كثرت وسائل نشر الدين، ينبغي الاستفادة من هذه الوسائل في نشر السنة، وينبغي ألا يقف صاحب السنة موقف المستضعف، لا في قوله ولا في فعله وسلوكه ولا في مظهره، ينبغي أن يكون قوياً لكن بحكمة، وينبغي أن يكون أنموذجاً للإسلام كما أمر الله به لكن بشيء من التوازن والحكمة، فلا يمكن إخراج المسلمين من هذه الورطة وهي تمثيل الإسلام تمثيلاً غير صحيح إلا بتطبيق السنة تطبيقاً كاملاً من قبل أهل السنة وإن قلوا.

حكم تقبيل الأرض تدينا

حكم تقبيل الأرض تديناً [سئل رحمه الله: عمن يبوس الأرض دائماً هل يأثم؟ وعمن يفعل ذلك لسبب أخذ رزق وهو مكره كذلك؟ فأجاب: أما تقبيل الأرض ورفع الرأس ونحو ذلك مما فيه السجود مما يفعل قدام بعض الشيوخ وبعض الملوك فلا يجوز، بل لا يجوز الانحناء كالركوع أيضاً، كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (الرجل منا يلقى أخاه أينحني له؟ قال: لا)، (ولما رجع معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا يا معاذ؟ قال: يا رسول الله! رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم ويذكرون ذلك عن أنبيائهم، فقال: كذبوا عليهم، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من أجل حقه عليها، يا معاذ! إنه لا ينبغي السجود إلا لله). وأما فعل ذلك تديناً وتقرباً فهذا من أعظم المنكرات، ومن اعتقد مثل هذا قربة وتديناً فهو ضال مفتر، بل يبين له أن هذا ليس بدين ولا قربة، فإن أصر على ذلك استتيب، فإن تاب وإلا قتل، وأما إذا أكره الرجل على ذلك بحيث لو لم يفعله لأفضى إلى ضربه، أو حبسه، أو أخذ ماله، أو قطع رزقه الذي يستحقه من بيت المال ونحو ذلك من الضرر، فإنه يجوز عند أكثر العلماء، فإن الإكراه عند أكثرهم يبيح الفعل المحرم كشرب الخمر ونحوه، وهو المشهور عن أحمد وغيره، ولكن عليه مع ذلك أن يكرهه بقلبه ويحرص على الامتناع منه بحسب الإمكان، ومن علم الله منه الصدق أعانه الله تعالى، وقد يعافى ببركة صدقه من الأمر بذلك. وذهب طائفة إلى أنه لا يبيح إلا الأقوال دون الأفعال، ويروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ونحوه قالوا: إنما التقية باللسان، وهو الرواية الأخرى عن أحمد، وأما فعل ذلك لأجل فضول الرياسة والمال فلا، وإذا أكره على مثل ذلك ونوى بقلبه أن هذا الخضوع لله تعالى كان حسناً، مثل أن يكره كلمة الكفر وينوي معنى جائزاً، والله أعلم].

حكم النهوض والقيام عند قدوم شخص

حكم النهوض والقيام عند قدوم شخص [وسئل الإمام العالم العامل الرباني والحبر النوراني أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: عن النهوض والقيام الذي يعتاده الناس من الإكرام عند قدوم شخص معين معتبر هل يجوز أم لا؟ وإذا كان يغلب على ظن المتقاعد عن ذلك أن القادم يخجل أو يتأذى باطناً، وربما أدى ذلك إلى بغض وعداوة ومقت، وأيضاً المصادفات في المحافل وغيرها، وتحريك الرقاب إلى جهة الأرض والانخفاض، هل يجوز ذلك أم يحرم؟ فإن فعل ذلك الرجل عادة وطبعاً ليس فيه له قصد هل يحرم عليه أم لا يجوز ذلك في حق الأشراف والعلماء، وفيمن يرى مطمئناً بذلك دائماً هل يأثم على ذلك أم لا؟ وإذا قال: سجدت لله هل يصح ذلك أو لا؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين. لم تكن عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه الصلاة والسلام كما يفعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لـ عكرمة، وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ رضي الله عنه: (قوموا إلى سيدكم)، وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة؛ لأنهم نزلوا على حكمه. والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أحد عن هدي خير الورى وهدي خير القرون إلى ما هو دونه، وينبغي للمطاع أن لا يقر ذلك مع أصحابه بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد. وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقياً له فحسن، وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك أصلح لذات البين، وإزالة التباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء؛ ولهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد، وقد ثبت في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعداً في مرضه صلوا قياماً أمرهم بالقعود، وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضاً)، وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد؛ لئلا يتشبه بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود، وجماع ذلك كله الذي يصلح اتباع عادات السلف وأخلاقهم والاجتهاد عليه بحسب الإمكان، فمن لم يعتقد ذلك ولم يعرف أنه العادة وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدة راجحة فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما]. نجد شيخ الإسلام رحمه الله كعادته في مثل هذه الأمور، يقرر ويقعد، فهو في مسألة القيام التي يتنازع عليه الكثير من الناس الآن قد حرر المسألة من الناحية الشرعية وقعد لها أيضاً على أصول ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ويأمر به، فهو هنا ذكر أن القيام أنواع: فإذا كان القيام للشخص القادم وهو جاء من سفر، أو بعد العهد به من باب التحية له والاحترام، فهذا جائز وهو مشروع. وإذا كان القيام لشخص ليس بغائب ولا مسافر لكن جرت العادة من الناس أن يقوموا، وليس المقصود بالقيام التعظيم والتقديس فهذا أيضاً جائز ما دام القعود أو عدم القيام يحدث شيئاً من سوء الفهم أو سوء الظن بين الفريقين أو بين القائم والقاعد، أو يعتبر إهانة وعدم تقدير للقادم، فإن الأولى القيام، كما يفعل الناس اليوم، إذا قام الناس من أجل السلام على القادم، فليس باللائق من واحد أن يشذ ويجلس، ما لم يكن هناك اعتبارات أخرى. والصورة المثلى بين طلاب العلم أن يكون بينهم تواصي بألا يقوموا، مثلاً: مجلس فيه طلاب العلم كما يكون الآن في الجلسات والاستراحات ومجالس العمل وغيرها، فينبغي أن يكون بينهم شيء من التواصي بالأخذ بالسنة، بحيث أنهم كلهم لا يقومون، فإذا وجدت هذه الصورة بدون أن يكون هناك حزازات ولا لبس ولا مفاسد فهذا طيب، وينبغي للطلاب أن يعودوا الناس على هذا، لكن إن كان يترتب عليه أشياء من سوء الظنون أو إهانة الآخرين أو اعتقاد للإهانة ونحو ذلك فالأولى أن لا يوقع المسلم نفسه في حرج ويحرج الآخرين، أما إذا كان القيام لقاعد كما يحصل عند بعض أصحاب العوائج، يكون الشيخ أو الزعيم أو غيره قاعداً ثم يقوم الناس لأي سبب من الأسباب تعظيماً لهم، فهذا النص فيه صريح في المنع، وكذلك لو كان القيا

تغيير الأسماء المعبدة لغير الله

تغيير الأسماء المعبدة لغير الله وقال شيخ الإسلام: [فصل: كان المشركون يعبدون أنفسهم وأولادهم لغير الله فيسمون بعضهم: عبد الكعبة كما كان اسم عبد الرحمن بن عوف، وبعضهم عبد شمس كما كان اسم أبي هريرة، واسم عبد شمس بن عبد مناف، وبعضهم عبد اللات وبعضهم عبد العزى وبعضهم عبد مناة وغير ذلك مما يضيفون فيه التعبيد إلى غير الله من شمس أو وثن أو بشر أو غير ذلك مما قد يشرك بالله، ونظير تسمية النصارى عبد المسيح، فغير النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وعبدهم لله وحده، فسمى جماعات من أصحابه: عبد الله وعبد الرحمن كما سمى عبد الرحمن بن عوف ونحو هذا، وكما سمى أبا معاوية وكان اسمه عبد العزى فسماه عبد الرحمن وكان اسم مولاه قيوم فسماه عبد القيوم ونحو هذا من بعض الوجوه ما يقع في الغالية من الرافضة ومشابهيهم الغالين في المشايخ فيقال: هذا غلام الشيخ يونس أو للشيخ يونس أو غلام ابن الرفاعي أو الحريري ونحو ذلك مما يقوم فيه للبشر نوع تأله، كما قد يقوم في نفوس النصارى من المسيح وفي نفوس المشركين من آلهتهم رجاء وخشية، وقد يتوبون لهم كما كان المشركون يتوبون لبعض الآلهة والنصارى للمسيح أو لبعض القديسين. وشريعة الإسلام الذي هو الدين الخالص لله وحده تعبيد الخلق لربهم كما سنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتغير الأسماء الشركية إلى الأسماء الإسلامية والأسماء الكفرية إلى الأسماء الإيمانية، وعامة ما سمى به النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله وعبد الرحمن، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، فإن هذين الاسمين هما أصل بقية أسماء الله تعالى، وكان شيخ الإسلام الهروي قد سمى أهل بلده بعامة أسماء الله الحسنى، وكذلك أهل بيتنا غلب على أسمائهم التعبيد لله كعبد الله وعبد الرحمن وعبد الغني والسلام والقاهر واللطيف والحكيم والعزيز والرحيم والمحسن والأحد والواحد والقادر والكريم والملك والحق، وقد ثبت في صحيح مسلم عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها: حارث وهمام، وأقبحها: حرب ومرة)، وكان من شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في الحروب: يا بني عبد الرحمن، يا بني عبد الله، يا بني عبيد الله، كما قالوا ذلك يوم بدر وحنين والفتح والطائف، فكان شعار المهاجرين: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله]. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

رجوع الأسماء الحسنى إلى (الله، الرحمن)

رجوع الأسماء الحسنى إلى (الله، الرحمن) Q قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، هل هذين الاسمين هما أفضل من بقية الأسماء الحسنى؟ A يظهر لي والله أعلم أن غالب الصفات الذاتية ترجع إلى اسم الجلالة الله، وغالب الصفات الفعلية ترجع إلى اسم الجلالة الرحمن؛ لأن من الرحمن تكون الرحمة وهي فعل الله، ورحمة الله هي السائدة في أفعاله؛ وكثير من أفعال الله عز وجل على مقتضى الرحمة، والتأليه بمعنى: العبودية والعظمة لله عز وجل، لأن المألوه هو العظيم المعبود، فترجع بقية الأسماء أو تكون الأسماء موزعة بين الفعلية والذاتية، والذاتية أكبر ما يجمعها هو اسم الجلالة الله، والفعلية أفضل الأسماء التي ترمز هي الرحمة، والله أعلم.

حكم التسمية بـ (عبده)

حكم التسمية بـ (عبده) Q ما حكم التسمية بـ (عبده)؟ A ( عبده) فيها حرج، الأولى أنه يغير لكن مع ذلك ليس الحرج فيها كالتعبيد لغير الله؛ لأن الأصل في المسلمين أن يقصدون به التعبيد لله، عبده يعني: عبد الله، لكن الاشتباه موجود في الاسم، فإذا أمكن تغييره فهو حسن، وإذا لم يمكن فليس فيه حرج كالحرج في التعبيد لغير الله.

(المحسن) من أسماء الله

(المحسن) من أسماء الله Q هل ورد أن المحسن من أسماء الله؟ A المحسن ورد فيه آثار ونصوص لكن لا تحضرني الآن، وللشيخ عبد المحسن العباد رسالة في ثبوت اسم الله المحسن، وهو عالم ثقة، وأذكر أنه أثبت لهذا دليلاً شرعياً صحيحاً، فأرجو أن ترجعوا إليه؛ لأني بعيد العهد به. أمامي استدراك عن موضوع سبق أن تكلمت فيه وهو: حكم تقبيل المصحف هل هو جائز؟ وأذكر أني قلت: إنه ليس بجائز مطلقاً إلا إذا اقتضت الحال، كأن يقع المصحف في مكان مهين، أو يسقط من الإنسان في الأرض، أو يحدث عند الأطفال شيء من العبث بالمصحف، فبعض أهل العلم أجاز تقبيله، من باب إظهار تعظيم كتاب الله عز وجل، وأنه ليس من الأمور التعبدية أي التقبيل، بل أمر عادي لا يلتزم دائماً، فإذا التزم دائماً فهو بدعة، هذا ما قلته أنا. وأنا ما قلت من عندي، فأنا أذكر أن لهذه المسألة تفصيلاً كثيراً عند أهل العلم قديماً وحديثاً، عن كثير من الأئمة الأربعة أئمة السلف وغيرهم أن بعضهم أجاز التقبيل وبعضهم لم يجز، والذين أجازوا ما قصدوا بذلك الجواز مطلقاً أو أن يلتزم على شكل عبادة، لكن إذا جاء للتقبيل موجب. ولذلك لما استفتي كثير من العلماء المعاصرين منهم اللجنة الدائمة منعوا، وفعلاً المنع هو الأصل، وذكر أحد الإخوان الآن في الورقة التي أمامي فتوى المشايخ بأرقامها، وقال من عباراتهم أنهم قالوا: لا نعلم لتقبيل الرجل القرآن أصلاً، وهذا صحيح فليس لها أصل شرعي، وكذلك قولهم: لا نعلم دليلاً على مشروعية تقبيل القرآن، وهو أنزل لتلاوته وتدبره وتعظيمه والعمل به، وهذا صحيح، وكذلك قولهم: لا نعلم لذلك أصلاً في الشرع المطهر، وذكر صاحب الورقة يقول: سئل الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله عن ذلك فأجاب بقوله: إن تقبيل المصحف بدعة وليس بسنة، والفاعل لذلك إلى الإثم أقرب منه إلى السلامة فضلاً عن الأجر، فمن قبل المصحف فلا أجر له. وعلى أي حال هذا هو رأي المشايخ، ولا بد أن يحترم، وهو الرأي المقدم، وأنا كما قلت: أنا فصلت قول أهل العلم، وأن الأصل عدم المشروعية إلا عندما تكون مناسبة، ومع ذلك ما دام المشايخ لم يفصلوا في مثل هذه الفتاوى فأنا أرجع عن التفصيل، لكني أحكيه لكم أنه قول معتبر عند بعض السلف.

وجه وضع مسألة القيام للرجل في كتاب توحيد الألوهية

وجه وضع مسألة القيام للرجل في كتاب توحيد الألوهية Q يقول: ما وجه وضع مسألة النهوض والقيام للرجل بالسلام في كتاب توحيد الألوهية؟ A سبحان الله! وإذا لم يوضع في توحيد الألوهية فأين يوضع؟! لأن القيام والركوع للرجال أو للناس والسجود لهم مظنة العبادة، وتوحيد الألوهية هو توحيد العبادة. طبعاً ينبغي أن يفهم السائل أن جميع البدع التي تدخل في العبادات هي قادحة في توحيد الألوهية وليس في توحيد الربوبية، إلا أشياء قليلة جداً تتعلق بتوحيد الربوبية، وإلا فالأمور التعبدية التي تحدث للناس مثل هذه البدع هي راجعة إلى الإخلال بتوحيد الإلهية.

حكم المظاهرات في الشريعة الإسلامية

حكم المظاهرات في الشريعة الإسلامية Q هذا يتكلم عن المظاهرات التي في فلسطين وغيرها هل هو جائز شرعاً؟ A الذي يظهر لي أن المظاهرات ليست طريقة شرعية سليمة.

حكم تتبع زلات العلماء

حكم تتبع زلات العلماء Q من يدخل في كلامكم عن الذين يجمعون أخطاء بعض السلف، هل يدخل في هذا الذين يجمعون الأخطاء والزلات لبعض الدعاة والمعاصرين؟ A الذي قصده تصيد الزلات وتجميعها والتشهير بمن له فضل من أهل العلم والدعوة إلى الله عز وجل يدخل في هذا، إذا كان الأمر يؤدي إلى التشهير واستنقاص من له فضل وقدر، فلا شك أنه يدخل في الممنوع.

واجبنا تجاه إخواننا في فلسطين

واجبنا تجاه إخواننا في فلسطين Q ما واجبنا تجاه إخواننا في فلسطين؟ A واجبنا تجاه إخواننا في فلسطين أن ندعو لهم، وأن نساعدهم بما نستطيع، إن احتاجوا للأموال احتاجوا إلى أي أمر من الأمور التي نستطيعها ونقدر عليها فيجب؛ لأنهم مظلومون، ولأن عدوهم عدو الجميع، عدو الإسلام والمسلمين، أعداؤهم هم أبناء القردة والخنازير.

وجه تخصيص عيسى بالذكر في بعض النصوص

وجه تخصيص عيسى بالذكر في بعض النصوص Q ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من ضمن بعض الأدعية التي أوصى بها مع شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن عيسى عبد الله ورسوله، لماذا خص عيسى؟ A لأن عيسى ولد من غير أب، فيتوهم ويدخل الشيطان على الناس شبهات أنه مقدس أو أنه له علاقة بذات الله عز وجل كما تفعل النصارى، فإنهم تعللوا في قولهم: بأن عيسى ابن الله بأنه ليس له أب من البشر، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. فالقصد أنه نص على أن عيسى عبد الله لرد هذه الشبهة التي انتشرت بين النصارى وبين الأمم التي صدقت النصارى، وما دام قد ثبت أنه ولد بإذن الله عز وجل وبتقدير الله لغير أب، فقد ينقدح في أذهان بعض من يوسوس لهم الشيطان شيء في نسبة عيسى إلى الله، فصار النص عليه في كثير من الأحاديث والأدعية للنبي صلى الله عليه وسلم، بل ورد إثبات ذلك في القرآن.

مذهب مرجئة الفقهاء

مذهب مرجئة الفقهاء Q نسمع كثيراً عن مذهب مرجئة الفقهاء، فأرجو توضيح هذا المذهب؟ A مرجئة الفقهاء المقصود بهم أولئك الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق، أو أنه التصديق والقول فقط، وأن الأعمال كالصلاة والصيام والحج وسائر أعمال الجوارح خاصة لا تدخل في مسمى الإيمان، لا تكون من الإيمان لكنها من الإسلام، وقد تكون شرطاً للإيمان عند بعضهم، فالمهم أنهم لا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، ويترتب على هذا أن كثيراً منهم يجعلون الإيمان هو القدر الضروري المطلوب من المسلم، فإنه لو لم يعمل شيئاً من أركان الدين يبقى مؤمناً ولا يخرج بذلك من الملة، وهذا خلاف قول السلف، فإن السلف يرون أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأن من الأعمال ما يخرج من الملة فعله أو تركه، وأن الإعراض عن الأعمال بالكلية يخرج صاحبه من الإسلام، فلا يبقى من المسلمين، إذا أعرض عن الدين بالكلية حتى لو ادعى الإيمان في قلبه فإن يخرج من الإسلام بالكلية إذا لم يعمل شيئاً من الأعمال، لا الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا الذكر ولا غير ذلك. ثم أيضاً السلف بنوا على ذلك أنه لا يلزم لخروج المسلم بالأعمال المكفرة أو الشركيات الاستحلال لها؛ لأنه لو عمل ما يقتضي الردة أو قال ما يقتضي الردة أو اعتقد ما يقتضي الردة فهو يخرج من الملة ولو لم يظهر لنا شيء من قرائن الاستحلال، وأن مسألة الاستحلال أيضاً من الأمور الغامضة القلبية الغيبية، فعلى هذا لا يعلق الكفر بالاستحلال، حتى فعل الذنوب لا يعلق بالاستحلال، فإن الإنسان إذا فعل ما يوجب خروجه من الملة بنص صريح أو قال ما يوجب خروجه من الملة خرج، سواء استحل أو لم يستحل. فهذا ملخص قول المرجئة والقول الذي يقابله عند أهل السنة. إذاً: المرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق فقط، ويبنون على هذا ما ذكرته لكم.

قاعدة لا إنكار في مسائل الخلاف

قاعدة لا إنكار في مسائل الخلاف Q لا إنكار في المسائل التي اختلف فيها العلماء، هل تعتبر هذه قاعدة شرعية؟ وهل ينطبق هذا على مسائل في المعتقد؟ A لا إنكار في المسائل التي اختلف فيها العلماء، هذه كلمة عائمة ليس لها قرار، لأنه إن قصد لا إنكار في المسائل التي اختلف فيها العلماء المعتبرون وهي من المسائل الخلافية ففعلاً لا ينبغي الإنكار فيها، أما إذا كانت من المسائل التي اختلف فيها العلماء ومخالفهم ليس من أهل الاعتبار، أو في أمور اختلف فيها العلماء ولكن المخالف زل بذلك وهو من العلماء المعتبرين وهي من قضايا الاعتقاد والأصول فلا تصح فيه هذه القاعدة. إذاً: القاعدة لو سلمت من جر المخالفين لها على غير حقيقتها واستخدامها على غير وجهها لكانت في الجملة أقرب إلى السلامة، لكن نظراً إلى أنها استخدمت على غير الوجه الصحيح فتبقى تحتاج إلى التفصيل، فليست على إطلاقها. والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1