شرح كتاب فضل الإسلام لمحمد بن عبد الوهاب - ناصر العقل

ناصر العقل

[1]

شرح كتاب فضل الإسلام [1] لقد امتن الله تعالى علينا أمة الإسلام بهذا الدين العظيم دين الإسلام الذي رضيه لنا ديناً، وفضله على سائر الأديان، وجعله خاتماً لها ومهيمناً عليها، واختصه بفضائل عظيمة عما سواه، فقد جعله ديناً كاملاً، وأتم به النعمة على هذه الأمة، وجعله سبباً لمغفرة الذنوب وحصول التقوى والخشية لله، ولن يقبل الله تعالى من أحد ديناً سواه.

باب فضل الإسلام

باب فضل الإسلام قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين. باب فضل الإسلام، وقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [يونس:104] الآية، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28]]. قبل أن ننتقل إلى الأحاديث نتأمل المعاني التي أشار إليها وإن لم يذكرها شيخ الإسلام في هذه الآيات، وتندرج تحت فضل الإسلام، وعندما تأملت هذه الآيات تذكرت ما اتسم به هذا الشيخ الإمام الجليل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب من دقة في الفقه واستنباط المعاني الشرعية من النصوص، سواء ما يتعلق بالعقيدة أو ما يتعلق بالأحكام، ولا يظن الناس أن مؤلفات الشيخ فيها شيء من العموم وعدم العمق، أو قد يقول قائل عن جهل بحقيقة هذا الإمام: إن الشيخ تميّزت مؤلفاته بشيء من السطحية! أقول: لا، إن إيراده للنصوص على هذا النحو يدل على فقه عظيم، ويذكرني فقهه واستنباطه وإشارته إلى المعاني بمنهج البخاري رحمه الله، فإنه يتميز بالعمق والمنهجية في استنباط المعاني الشرعية والقواعد العظمى من النصوص بأيسر أسلوب، والشيخ هنا لم يذكر الأمور التي استنبطها في فضل الإسلام من هذه النصوص بل تركها للقارئ، ولكن مجرد أن بوّب وجاء بها تحت باب فضل الإسلام فكأنه بذلك وجّه القارئ إلى استنباط فضل الإسلام من هذه النصوص، ولو تأملنا هذه الثلاث الآيات لوجدنا أكثر من ثنتي عشرة مسألة في فضل الإسلام:

فوائد ومعان من آيات في فضل الإسلام

فوائد ومعانٍ من آيات في فضل الإسلام الآية الأولى: استنبط الشيخ معاني كثيرة نأخذ منها ثلاث فوائد في فضل الإسلام: الفائدة الأولى: كمال هذا الدين، بحيث لا يحتاج الناس إلى مصادر أخرى ولا إلى ابتداع أمور ليثبتوها من عند أنفسهم؛ لأن الله عز وجل قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، وهذا من أبرز خصائص الدين وفضل هذا الدين، والذي هو الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص إلى قيام الساعة، بخلاف الأديان السابقة فقد اعتراها النقص بتقصير أهلها، وبأن الله لم يتكفل بحفظها، فوقع فيها التغيير والتبديل ثم النسخ. الفائدة الثانية: يستنبط من قوله تعالى: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]، أن الله عز وجل أتم بهذا الدين النعمة على العباد، وهذا من أبرز فضائل الدين، وهو أن الله أنعم على هذه الأمة، وأتم به النعمة، فتحقق بالإسلام تمام النعمة من الله عز وجل على هذه الأمة. الفائدة الثالثة: أن من فضل الإسلام أنه يحقق رضا الله عز وجل، فالله رضيه لعباده، وأي شيء أعظم من دين رضيه الله لعباده؟ قال الله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. هذه ثلاث فوائد في فضل الإسلام في آية واحدة، مع عدم التعمّق والتطويل، ولو طوّلنا لأخذنا فوائد كثيرة، لا شك أن الشيخ يشير إليها؛ لأن كونه أدرج هذه الآية في فضل الإسلام دليل ظاهر على أنه أدرك بفقهه وبعمق فهمه رحمه الله هذه المعاني. وفي الآية الثانية استنبط فوائد في فضل الإسلام: الأولى: أن هذا الدين هو الذي لا يقبل الله من الناس سواه، قال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [يونس:104] فقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} [يونس:104] دل على أن هذا الدين هو الذي يقبله الله، وأنه الذي لا شك فيه، ولا يمكن أن يتطرق الشك إلى شيء من هذا الدين. الثانية: أن من فضل الإسلام أنه يحقق التوحيد الخالص، قال الله تعالى: {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس:104] فهو يحقق التوحيد الخالص، وينفي الشرك، ويحقق العبادة الحقة والتوحيد والدين الذي رضيه الله للعباد، وهذا كله من فضائل هذا الدين. وفي الآية الثالثة ذكر عدة فوائد: الأولى: أن من فضل هذا الإسلام أنه يتحقق به التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [الحديد:28]، ويتحقق به الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه من غايات الدين ومن أسباب السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة، فهي فضائل لهذا الدين. الثانية: أن الله عز وجل وعد هذه الأمة بمضاعفة الأجر: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28]. الثالثة: أن الله ينوّر به للعبد الطريق المستقيم، فينوّر به القلوب وينوّر به أحوال العبد في الدنيا والآخرة، حتى يمشي على مثل البيضاء في الوضوح والبيان لما تكفّل الله به من حفظه لهذا الدين وبيانه، وإقامة الحجة فيه، فلذلك فُضل هذا الدين بكونه نوراً يمشي به العباد {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد:28]، وهو هذا الدين. الرابعة: أن الله عز وجل يحقق لمن أسلم وحقق إسلامه المغفرة لذنوبه {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28]. هذه معان عظيمة مما يُستنبط من هذه الآيات في فضل الإسلام، ومسألة فضل الإسلام لها عدة اعتبارات، فضل الإسلام من حيث ذاته فالإسلام بذاته فاضل؛ لأن الله عز وجل جعله خيار الأديان وخاتم الأديان وأفضل الأديان، وناسخاً للأديان ومهيمناً عليها، ثم فضل الإسلام بفضائل هذه الأمة بما منحه الله عز وجل لهذه الأمة من الفضائل، ثم فضل الإسلام على الأفراد أيضاً، فالإسلام هو طريق النجاة، وهو طريق السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، وليس المقصود بفضل الإسلام خصائصه فقط، بل المقصود الخصائص والسمات والميزات التي تميزه عن غيره، ثم الفضائل والأجور والخصائص التي يتميز بها أتباعه، ثم النتائج التي وعدها الله للمستمسكين بالإسلام في الدنيا والآخرة، ففضله في نفسه، وفضله على غيره، والفضل الذي يحصل به للعباد كل ذلك يدخل في معنى فضل الإسلام.

أحاديث في فضل الإسلام

أحاديث في فضل الإسلام قال رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل من صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: ما لنا أكثر عملاً وأقل أجراً؟ قال: هل نقصتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ذلك فضلي أوتيه من أشاء). وفيه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة)، وفيه تعليقاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة) انتهى]. في هذه الأحاديث أشار الشيخ إلى بعض ما ورد في الآيات، وإلى زيادة وردت في الأحاديث. ففي الحديث الأول: إشارة إلى أن من فضائل الإسلام مضاعفة الأجور، وهذا خاص لهذه الأمة في جميع أعمالها الصالحة، وهذا لم يكن موجوداً في الأمم الأخرى، ولذلك فإن اليهود والنصارى اعترضت، فبيّن الله عز وجل أن ذلك من فضله، وفضل الله يؤتيه من يشاء. وفي الحديث الثاني: أشار إلى فضل الأجور وإلى أمر آخر وهو تقدم هذه الأمة على الأمم الأخرى، سبقاً في الفضل والهبات من الله عز وجل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. كما أن الإسلام تميز بفضائل أخرى ذكرها في الحديث الآخر المعلّق، وهي سماحة الإسلام ويسر الدين، فالإسلام أسمح الأديان في دفع المشقة عن العباد، وفي مضاعفة الأجور لهم، ومغفرة الذنوب، وفي جلب التيسير لجميع أحكام الدين، حتى عند غير الضرورات والحاجات، وحتى عند وجود مجرد المشقة، فإن الدين يسر، وهذا من فضل الإسلام كما أشار إليه الشيخ.

آثار في فضل الإسلام

آثار في فضل الإسلام قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ليس من عبد على سبيل وسنة ذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسه النار، وليس من عبد على سبيل وسنة ذكر الرحمن فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان كمثل شجرة يبس ورقها، فبينما هي كذلك إذ أصابتها الريح فتحات عنها ورقها، إلا تحاتت عنه ذنوبه كما تحات عن هذه الشجرة ورقها، وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم، مثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين أعظم وأفضل وأرجح من عبادة المغترين]. تضمنت هذه الآثار المعاني السابقة التي منها مضاعفة الأجور وزيادة تكفير الخطايا والذنوب لهذه الأمة، وكذلك تضمنت هذه الآثار معانٍ أخرى وهي أن هذه الأمة يكثر فيها أهل الحزم ورجاحة العقل، كما قال: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم، بمعنى أن هذه الأمة فيها طوائف من العُبّاد الذين هم على السنة، وأهل السنة هم الظاهرون من العلماء والعُبّاد والقائمون بأمر الله عز وجل وهؤلاء تميّزوا بالحزم والعقل -وهو الكيس- في أخذ هذا الدين والتوجه إلى الله عز وجل بالعبادة والخشية والإنابة والزهد، فلذلك فُضّلت هذه الأمة بمضاعفة الأجور لوجود أمثال هؤلاء القدوة فيهم، وهذا من فضل الإسلام، ولذلك كان من وسائل حفظ هذا الدين الذي جعله الله عز وجل من أسباب فضله وتميزه على الأديان الأخرى بقاء هذه الطائفة أهل الكيس والعقل والدين والقدوة، كما أنهم معتزون بهذا الدين وهم ظاهرون لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم إلى أن تقوم الساعة، كل هذا من وسائل حفظ الدين وهو آخر الأديان وأفضلها وأبقاها حتى ولم يبق على الأرض أحد من البشر.

[2]

شرح كتاب فضل الإسلام [2] لقد أوجب الله تعالى على الإنس والجن جميعاً أن يدخلوا في دين الإسلام، وذكر أن من ابتغى غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، والإسلام هو مجموع الشرائع والأحكام التي ذكرها الله تعالى في كتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم في سنته، ولذلك فاتباع الكتاب والسنة هو الالتزام الصحيح بالإسلام الذي أراده الله تعالى وأوجبه على عباده، ومن عدل عن ذلك إلى البدع والشبهات فقد ترك من الإسلام بقدر ما أخذ من بدعة وشبهة.

باب وجوب الإسلام

باب وجوب الإسلام قال رحمه الله تعالى: [باب وجوب الإسلام. وقول الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، وقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] الآية. قال مجاهد: السبل: البدع والشبهات. وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أخرجاه، وفي لفظ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). وللبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سنة جاهلية، ومطّلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه) رواه البخاري. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قوله: (سنة جاهلية) يندرج فيها كل جاهلية مطلقة أو مقيدة، أي: في شخص دون شخص، كتابية أو وثنية أو غيرهما، من كل مخالفة لما جاء به المرسلون. وفي الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه قال: يا معشر القراء! استقيموا، فإن استقمتم فقد سبقتم سبقاً بعيداً, فإن أخذتم يميناً وشمالاً فقد ضللتم ضلالاً بعيداً. وعن محمد بن وضاح أنه كان يدخل المسجد، فيقف على الحلق فيقول: فذكره، وقال: أنبأنا سفيان بن عيينة عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: قال عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله عنه: ليس عام إلا والذي بعده شر منه، لا أقول: عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، لكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم، فيُهدم الإسلام ويثلم].

بيان أن الإسلام الذي أوجبه الله تعالى هو السنة وأدلة ذلك

بيان أن الإسلام الذي أوجبه الله تعالى هو السنة وأدلة ذلك أراد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن يبيّن أن الإسلام الذي أوجبه الله عز وجل هو السنة كما سترون. فقوله: (باب وجوب الإسلام) أدرج تحته من النصوص والآثار ما يدل على أنه جعل الإسلام يتمثل بالسنة بعد ظهور البدع، وهذا حق، ولا يعني ذلك خروج المبتدعة والمبدّلين الذين لم يخرجوا من الملة، لا يعني خروجهم من الإسلام، لكن يعني بذلك أن الله عز وجل كما أوجب الإسلام بالعموم فقد أوجب الاستمساك بحقيقة الإسلام عند اختلاف الناس وعند ظهور الأهواء والبدع، ولذلك فسّر الإسلام في النصوص التالية بالسنة، وهذا من عظيم فقهه؛ لأنه في جميع مؤلفاته كان يترسّم مناهج السلف بدقّة ويزن بها الواقع الذي كان عليه الناس، ولذلك أورد في الآية الأولى قوله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، وهنا قصد الإسلام العام والإسلام الخاص، والإسلام بمعناه العام هو الذي بعث الله به جميع المرسلين، فإن الآية لها عموم، ولها مفهوم خاص، أما الآية في عمومها فإنها تعني أن الله عز وجل لا يقبل من أمة من الأمم إلا الإسلام الذي جاء به النبيون والمرسلون؛ ثم الآية خاصة بهذا الدين؛ لأن الأديان السابقة غُيّرت وبُدّلت ونسخت، فكان بالضرورة أن الآية أصبحت تتوجه إلى هذا الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فمنذ أن بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ومن بلغه الإسلام فإنه إن ابتغى غير الإسلام فلن يُقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين، والإسلام الذي هو هذا الدين الخاتم، وهذا ما قصد به الشيخ من وجوب الإسلام، وأن الإسلام واجب على جميع العباد، وأن الله لا يقبل غيره. ثم في الآية التالية كذلك قوله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] أي: أن الدين المقبول والدين الحق هو الإسلام، وهذه الآية لها عموم وخصوص، فهي عامة في جميع الديانات الشرعية التي أنزلها الله على رسله، فإن الله لا يقبل من جميع الأمم إلا الإسلام، وأنه لا يمكن أن يكون الدين بالمفهوم الشرعي المقبول عند الله عز وجل حق إلا ما جاءت به الرسل، ثم الآية خاصة بهذا الدين بعد أن نسخ الله الأديان السابقة وختم الله الديانات بهذا الدين وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن الدين عند الله هو الإسلام الذي هو السنة وما تستلزمه. ثم ذكر قوله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] معناه: أن اتباع الإسلام واجب، وصراط الله المستقيم هو هذا الدين المتمثل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] وهذا تأكيد في وجوب التزام الإسلام المتمثّل بالسنة. ثم ذكر قول مجاهد بأن السبل: البدع والشبهات، وهذا هو ما فسّر به السلف معنى السبل، فالسبل ليست طرائق الناس في الحياة، ولا المناهج الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف، إنما السبل هي الاختلاف في الأصول، وهي البدع التي يخرج بها الناس عن السنة، جزئية كانت أو كلية فإنها سبل، وأغلب السبل هي أصول الفرق؛ لأنها بدأت من أمور صغيرة ثم انتهت إلى أصول ومناهج، فتمثّلت في سبل نعبّر عنها بالأصول والمناهج والطرائق. ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، ولو نظرنا علاقة هذا الحديث بباب وجوب الإسلام لوجدنا أنها واضحة، لأن الإسلام الذي أمرنا بوجوب التزامه هو التزام السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلّغ الأمانة وأدى الرسالة قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) إذاً: يجب أن نلتزم بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب أن نبتعد عما يخالفه، ولذلك فمن جاء بما يخالف الإسلام بأي أمر من الأمور وسواء كان صغيراً أو كبيراً فهو مردود على صاحبه، فيجب التزام الإسلام الذي هو نهج السنة. ثم ذكر للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)، ثم ذكر أن من عصاه فقد أبى، وأن من أطاعه فقد دخل الجنة وارتباط هذا بوجوب الإسلام هو أن هذا الحديث يحقق فيه التزام طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه يتمثّل بها وجوب الإسلام، فالإسلام لا يتحقق إلا بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن تحقيق وجوب الإسلام طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر الحديث الذي يليه: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة)، وذكر منهم: (ومبتغٍ في الإسلام سنة جاهلية) فهنا يؤكد على أن الإسلام الذي يجب التزامه هو الأخذ بالسنة. وذكر تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك وهو قوله: (سنة جاهلية) أنه يندرج فيها كل جاهلية

[3]

شرح كتاب فضل الإسلام [3] الإسلام هو الاستسلام والانقياد لله تعالى بالقلب والأعمال، وتسليم الظاهر والباطن بالتوحيد والطاعة، فهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، ويعني ذلك القيام بجميع فرائض وأركان الإسلام والإيمان العلمية والعملية، ومعاملة الناس بالأخلاق الحسنة التي أمر الله تعالى بها، هذا هو الدين الذي لن يقبل الله تعالى من أحد ديناً سواه.

باب تفسير الإسلام

باب تفسير الإسلام قال رحمه الله تعالى: [باب تفسير الإسلام. وقول الله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران:20] الآية. وفي الصحيح عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً). وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: (أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام؟ فقال: أن تسلم قلبك لله، وأن تولي وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة) رواه أحمد. وعن أبي قلابة عن رجل من أهل الشام عن أبيه: (أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك لله، ويسلم المسلمون من لسانك ويدك، قال: أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان، قال: وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت)]. تحت هذا العنوان بيّن الشيخ المعنى الشامل للإسلام والمعاني الأخرى المرادفة والتي تتفرع عنه، فمن خلال سياق الآية بيّن التفسير الشامل للإسلام الذي يُفهم من سياق الآية في قوله عز وجل: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران:20] فإنه في الآية أشار إلى المعنى الشامل وهو أن الإسلام هنا يعني التسليم لله عز وجل بالقلب والأعمال، وتسليم الظاهر والباطن بالتوحيد والطاعة، وهو التسليم المطلق فهذا المعنى الشامل للإسلام، وهو ما عرّفه بعض السلف: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك. وبعض الناس يظن أن هذا التعريف خاص بشيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا ليس بعيب، كما أن هذا التعريف قال به بعض السلف في القرون الفاضلة قبل شيخ الإسلام ابن تيمية، فهذا تعريف اصطلاحي أُخذ من معنى اللغة ومن المعنى الشرعي، الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلاص من الشرك كما أن هذا التعريف عرّف به شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وغيره من أئمة سلف الإسلام، لأن أول ما يُفسّر به هو هذا المعنى العام، وهو الذي تدل عليه الآية. ثم جاء بالمعاني الأخرى التي دلّت عليها الأحاديث، ومنها حديث عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسّر الإسلام بأركان الإسلام الخمسة، وهذا يعني القيام بفرائض الدين فالإسلام بمعناه الظاهر هو القيام بفرائض الدين، وهذا هو الإسلام فيما يظهر للناس، ومع أننا نقول: إن من شرط صحة الإسلام إذعان القلب، لكنه خفي، إذاً: يبقى المعنى الآخر للإسلام وهو تفسير الإسلام بالأعمال الظاهرة، وهذا هو الجانب العملي في الإسلام. ثم ذكر الشيخ ما هو أخص من ذلك في حديث أبي هريرة، وهو أن الإسلام لا بد أن يتمثل بثمرته في التعامل مع الناس، وأعظم ثمار الإسلام في سلوك المسلم بعد الفرائض هو منهج التعامل مع الآخرين، وقد رسم النبي صلى الله عليه وسلم التعامل بمثال، وهو أن الإسلام لا يتحقق ولا يؤتي ثماره ولا يكون كاملاً صحيحاً مثمراً ينفع في الدنيا والآخرة إلا عندما يتمثّل المسلم بأخلاق الإسلام، ولذلك قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، والنبي صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن، فمقتضى القرآن ومقتضى السنة سلامة منهج التعامل عند المسلم المتمثّل بالأخلاق. ثم ذكر حديث بهز بن حكيم وهو أن الإسلام يعني تسليم القلب والجوارح وأداء الفرائض جميعاً، استسلام القلب والإذعان لله عز وجل، والاستعداد لقبول شرع الله، وتولي الوجهة إلى الله عز وجل بالعبادة فلا تعبد إلا الله ولا تدعو إلا الله، وتخلص دينك وعبادتك لله، فهذا يعبّر عنه بتولية الوجه إلى الله، ثم يظهر ذلك بإقامة الفرائض وأن تصلي الصلاة، ثم يظهر ذلك بإقامة الفرائض التي فيها حقوق العباد، وهي: أن تؤدي الزكاة، وهذا رمز للتعامل، فإن من الحقوق المفروضة للمسلم على المسلم تأدية الزكاة من الغني للفقير، أو لمن يحتاج. ثم ذكر ما أورده أبو قلابة عن رجل من أهل الشام عن أبيه: (أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك لله، ويسلم المسلمون من لسانك ويدك) وهذا يعني إذعان القلب وتسليم القلب وتوجه القلب إلى الله عز وجل، كما يعني سلامة المنهج في التعامل وسلامة الأخلاق، وهذا هو ثمرة الإسلام؛ ولذلك نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان ونفى الإسلام عن بعض من يعمل بعظائم الذنوب مثل الغش والزنا والسرقة ونحو ذلك. (ثم قال: أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان، قا

باب قول الله: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه)

باب قول الله: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) قال رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تجيء الأعمال يوم القيامة، فتجيء الصلاة، فتقول: يا رب! أنا الصلاة، فيقول: إنك على خير، ثم تجيء الصدقة، فتقول: يا رب! أنا الصدقة، فيقول: إنك على خير، ثم يجيء الصيام، فيقول: يا رب! أنا الصيام، فيقول: إنك على خير، ثم تجيء الأعمال على ذلك، فيقول: إنك على خير، ثم يجيء الإسلام، فيقول: يا رب! أنت السلام، وأنا الإسلام، فيقول: إنك على خير، بك اليوم آخذ وبك أُعطي، قال الله تعالى في كتابه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]) رواه أحمد. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ورواه أحمد]. هنا قرر الشيخ نتيجة أخرى وهي من لوازم ما سبق، وهذه النتيجة هي أنه لا يصح قبول أعمال العباد ولا رضا الله عز وجل عن أعمال العباد إلا بشرط صحة الإسلام، وليس دعوى الإسلام، وإنما بشرط أن يكون الإسلام صحيحاً، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق صحة الإسلام شرطاً لصحة جميع الأعمال، فلذلك حينما جاءت الصلاة تريد أن تكون هي المعوّل في القبول عند الله عز وجل والرضا، وكذلك جاء الصيام، وجاءت الصدقة، وجاءت أعمال البر، فجعل الله عز وجل قبول هذه الأعمال وكونها هي الرأس في أعمال الجوارح أو أعمال القلوب أن ذلك راجع كله إلى صحة الإسلام، فهذه الأعمال من أعمال الإسلام، فلا تصح إلا إذا صح أصلها. وأيضاً فإن المقصود بالإسلام هو المعنى الشرعي لا الإسلام العام بمعناه اللغوي، والمقصود به أيضاً الدين الذي أرسله الله لجميع الرسل، ثم بعد ختم الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم صار الدين الذي لا يبتغي الله من العباد غيره هو هذا الإسلام الخاص، فلذلك لا يصح عمل إنسان إلا بصحة إسلامه، ولا يصح دين من الأديان بعد ظهور الإسلام، فالإسلام هو المهيمن، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) يرجع إلى أن كل الأعمال مردها إلى أمر الله عز وجل الذي هو شرعه، فما لم تكن الأعمال مرتبطة بما شرعه الله وشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم فهي مردودة، وهذا يشمل الدين كله من باب الضرورة، فلا بد أن يكون الدين كله بناء على ما أمر الله به وأخبر وشرع، سواء أصول الإيمان أو أصول الإسلام، أو ما يتفرع عنهما من بقية فرائض الدين في العقيدة والأحكام كل ذلك الأصل فيه أن الله عز وجل لا يقبل من أعمال العباد ولا من أفعالهم القلبية ولا أعمال الجوارح إلا ما تدينوا به لله عز وجل على شرع الله الذي هو هذا الدين؛ ولذلك لا بد من استحضار عدة معانٍ في هذا المجال وهي: المعنى الأول: كمال الدين، وعلى هذا فلا يجوز لأحد أن يدّعي أن الناس بحاجة إلى أي أمر يقررونه في العقيدة أو الأحكام دون مصادر الدين الأصلية. المعنى الثاني: أن هذا الدين باقٍ وظاهر إلى قيام الساعة، فلا يجوز لأحد أن يدّعي أن هناك من أمور الدين وأصوله ما اندثر أو يحتاج إلى أن يبدّل، وقد تخفى بعض السنن لكن لا تخفى على عموم الأمة؛ لأنه لا تزال طائفة من الأمة على الحق جملة وتفصيلاً. المعنى الثالث: أنه لا يسوغ لأحد أن يدّعي أن الدين هو نصوص الكتاب والسنة؛ لأن النصوص لا تصح بدون تفسيرها، وتفسيرها هو عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل الصحابة وعمل التابعين وأئمة الهدى وذلك سبيل المؤمنين الذي توعد الله من خالفه.

[4]

شرح كتاب فضل الإسلام [4] دين الله تعالى كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه، ولذلك فإنه يجب الأخذ به كله، والاستغناء به عما سواه من دين أو مذهب أو فكر أو غير ذلك، ولا يجوز الخروج عن دعوى الإسلام والانتساب إليه إلى غيره، فمن انتسب إلى نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة تديناً واعتقاداً فهو منتسب إلى الجاهلية، ومتعزٍّ بعزاء الجاهلية، فلا دين لنا إلا الإسلام، ولا انتساب لنا إلا إليه.

باب وجوب الاستغناء بمتابعة الكتاب عن كل ما سواه وما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام

باب وجوب الاستغناء بمتابعة الكتاب عن كل ما سواه وما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام قال رحمه الله تعالى: [باب وجوب الاستغناء بمتابعته الكتاب عن كل ما سواه. وقول الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] الآية. روى النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة، فقال: أمتهوكون يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حياً واتبعتموه وتركتموني ضللتم)، وفي رواية: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي، فقال عمر: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً). باب ما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام. وقوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:78]. عن الحارث الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم، فقال رجل: يا رسول الله وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين والمؤمنين عباد الله) رواه أحمد والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وفي الصحيح: (من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية)، وفيه: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟). قال أبو العباس: كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية، بل (لما اختصم مهاجري وأنصاري، فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! قال صلى الله عليه وسلم: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟) وغضب لذلك غضباً شديداً. انتهى كلامه رحمه الله تعالى]. كلام الشيخ رحمه الله واضح، لكن يحسن أن نقف بعض الوقفات لنعرف لماذا ساق هذه النصوص تحت هذه العناوين وتحت العنوان الأصل في فضل الإسلام.

كمال الإسلام ووجوب الاستغناء به عما سواه

كمال الإسلام ووجوب الاستغناء به عما سواه يشير الشيخ هنا إلى أن من فضل الإسلام الكمال، وأنه يغني عن أي حاجة أو مبدأ أو مذهب أو ما يتدين به الناس، فكأنه يشير بذلك إلى أن من فضل الإسلام أنه جاء كاملاً لا يمكن أن يحتاج الناس بعده لا إلى شرائع ولا مبادئ ولا مذاهب وانتماءات ولذلك استشهد بالآية وهي قوله عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وهذا فيه إفادة العموم في أن الإسلام جاء كاملاً، ولا يمكن أن يحتاج الناس بعده إلى أي أمر من أمور الدين والتشريع في العقيدة ولا في الأحكام. ثم أكد ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى مع عمر ورقة من التوراة، فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد جئتكم بها بيضاء نقية) يعني: الملة والديانة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم بيضاء نقية لا يشوبها شائب، ولا تخفى على أحد، فهي بيّنة كاملة نقية من أي شائبة، وهذا وصف للدين وللإسلام إلى قيام الساعة؛ لأن هذا مقتضى ختم النبوة وكمال الدين وحفظه، والنبي صلى الله عليه وسلم غضب حينما رأى مع عمر هذه القطعة، إنما أراد سد ذريعة الحاجة إلى غير هذا الدين حتى وإن كان من الأديان التي جاء بها النبيون من قبل؛ لأن الله عز وجل ختم هذه الأديان بهذا الدين وجعله ناسخاً لها، ولأن ما جاءت به الكتب السابقة التوراة والإنجيل قد حُرّف وبُدّل، وحتى لو لم يُحرّف ولم يُبدّل، فإن الله عز وجل ختمها ونسخها بهذا الإسلام، ولذلك بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا هو مقتضى أمر الله، ويشهد لهذا أن عيسى عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان فإنه يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

حرمة الانتساب إلى غير الإسلام تدينا واعتقادا

حرمة الانتساب إلى غير الإسلام تديناً واعتقاداً ثم ذكر ما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام ليبين أن الإسلام بكماله لا يحتاج الناس إلى أن ينتسبوا إلى غيره بأي نوع من الانتساب، ولا أن يستمدوا من غيرهم أي نوع من الاستمداد، ولا أن يحدثوا من أنفسهم شيئاً يزعمون أنه من الدين، فإن هذا كله خروج عن دعوى الإسلام، فذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن) ثم ذكر: (السمع والطاعة) أي: لولاة الأمر، ولمن ولاه الله أمر المسلمين، والسمع والطاعة إنما هو في المعروف. ثم الجهاد وهو ذروة سنام الإسلام، وهو من مباني هذا الدين والجهاد باقٍ وماضٍ إلى يوم القيامة وليس من الشعائر التي انتهت كما يزعم كثير من المفتونين والجاهلين والمنهزمين الذين زعموا أن الجهاد مرحلة لم يعد لها تشريع الآن ولا مبرر، وهذا خلاف مقتضى قطعيات النصوص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بالإجمال والتفصيل أن الجهاد باقٍ إلى قيام الساعة، وأن المسلمين سيجاهدون حتى أثناء قيام أشراط الساعة الكبرى، فيجاهدون الدجال وشيعة الدجال، ويجاهدون أهل الباطل حتى مع قيام علامات الساعة الكبرى، والمؤمنون والمسلمون أهل السنة لا يضرهم ولا يثنيهم قيام علامات الساعة الكبرى عن إقامة شرع الله ودينه ولا الجهاد. وكذلك الهجرة إذا جاء مقتضاها، وقد اختلف العلماء في الهجرة هل هي باقية أو انتهت؟ والصحيح أن الهجرة باقية إذا وجد مقتضاها بشروطها التي يعرفها الراسخون في العلم. والجماعة: هي اجتماع المسلمين على الحق والسنة، وهي من ضرورات الإسلام، فلا دين إلا بجماعة، ولا يتحقق الدين الأكمل كما رضيه الله عز وجل للأمة إلا بالجماعة، وهذا لعموم الأمة، ولا يستثنى من ذلك إلا حالات الضرورة للأفراد لا للمجموعة كما ورد في حديث الفتن. وقوله: (فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع) فهذا من نصوص الوعيد، بمعنى أنه يخرج من مقتضى كمال الإسلام ومتطلبات الإسلام، والخروج عن الجماعة قد يقتضي الردة إذا تضمن أمراً من الأمور التي فيها ردة علمية أو عملية وأحياناً لا يقتضي الردة وهو الغالب، فإن مفارقة الجماعة قد تكون بالعصيان، وقد تكون بالتمرد، وقد تكون بالخروج، وقد تكون بتبني آراء خارجة عن آراء الجماعة كالعقيدة ونحوها، أو بالبدع ونحو ذلك كل ذلك يعد خروجاً عن الجماعة، لكن لا يقتضي الخروج من الملة إلا في حالات قليلة. وقوله: (ومن دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم) يعني: من أهلها أو من حطبها (فقال رجل: يا رسول الله! وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين والمؤمنين عباد الله) فدعوى المسلم هو أن يدّعي الانتساب لهذا الإسلام ولدين الله عز وجل، ويعتز بإيمانه بالله، ولا ينتسب إلا إلى جماعة المسلمين، إلى أهل السنة والجماعة. ثم ذكر الحديث وهو في الصحيح: (من فارق الجماعة شبراً فميتته جاهلية)، وهو عندي مختصر ويبدو أن عندي كلمات ساقطة، وفيه: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟). قال أبو العباس بن تيمية: (كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن) ويقصد بذلك دعوى السنة والجماعة (من نسب) يعني: من انتسب إلى نسبه أو قبيلته وذويه، وجعل ذلك شعاراً له يتدين به، فهذه دعوى جاهلية، أو انتسب إلى شخص وجعله هو معقد الولاء والبراء كمتعصبة المذاهب، وجعله معقد الولاء والبراء يوالي ويعادي على هذا الشخص، فهذا نوع من الانتساب، فهو من الجاهلية، أو بلد، وهو كذلك وهذا مما بدأ يظهر بين المسلمين، حيث بدأ كثير من المسلمين ينتسب إلى البلد ويعتز به، وإلى الوطن ويعتز به اعتزازاً دينياً، وهذا خلط عند الناس، لأن هناك فرقاً بين الانتماء للبلد من حيث الانتساب له؛ لأنه من أهله وساكنيه، وبين خدمة البلد خدمة تؤدي إلى نصر دين الله عز وجل والتكافل بين المجتمع كما أمر الله، وبين العصبية التي تؤدي إلى المعاداة والموالاة على هذا البلد، أو التي تؤدي إلى تقديس الوطن فهذا من الجاهلية التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم. (أو جنس) كذلك الجنس يرجع إلى جنس النسب أو إلى جنس الأفكار أو المذاهب أو الأقوال أو غير ذلك، لكن الغالب أن الجنس يقصد به القبيلة أو العجم أو العرب ونحو ذلك، أو مذاهب سواء كانت فقهية أو عقدية أو فكرية أو سياسية أو غيرها، أو طريقة كالطرق الصوفية، أو المناهج الخاصة للأفراد وللجماعات وللأشخاص، كل ذلك من عزاء الجاهلية، ويدخل في هذا ما يقع فيه كثير من المسلمين من الانتماءات والتحزبات والجماعات التي يكون لها ولاء وبراء وتفضل عليها غيرها من بقية المسلمين أو تحصر السنة بنفسها، أو تحصر الحق بنفسها وللمنتمين إليها، أو يكون للمنتمين إليها خصائص يختصون بها أو يتميزون عن غيرهم، كما هو حاصل في كثير من فئات المنتسبين للدعوات في عصرنا هذا، فإن هذا من عزاء الجاهلية، بل ويدخل في دعاوى الجاهلية والعزاء ا

الأسئلة

الأسئلة

حقيقة الفكر الإسلامي

حقيقة الفكر الإسلامي Q هل يعتبر ما يطلقه بعض الكتاب من أنهم مفكرون إسلاميون، أو ما يطلق على بعض الكتابات بأنها فكر إسلامي، هل يعتبر ذلك من دعوى الجاهلية؟ A إذا انتمى أحد إلى فكر وتعصب له، أو إلى مفكر إسلامي يتعصب له، فهذا يعتبر من الممنوع شرعاً ومن الدعاوى الجاهلية، ولكن كلمة (فكر إسلامي)، من الكلمات المتميعة التي لم تحدد بعد، وأغلب الفكر يدخل في باب المعلومات الشرعية غير المؤصلة على مقتضى الكتاب والسنة، وإنما هي آراء أناس يسمون بالمفكرين في القضايا المطروحة، فهذه الكلمة من الكلمات التي تحتاج إلى إعادة نظر؛ لأنه ليس هناك شيء اسمه فكر إسلامي، وإن كان المسلمون لهم أفكار وآراء، لكن أن تنسب أفكارهم إلى الإسلام، فهذا من الأخطاء التي ينبغي علاجها، وإن كان فيها صواب وفيها خطأ.

وصف بعض أهل السنة أنفسهم بأهل الحديث

وصف بعض أهل السنة أنفسهم بأهل الحديث Q هناك أناس يتميزون ويصفون أنفسهم بأهل الحديث، فهل في هذا محذور؟ A إذا كانوا فعلاً من أهل الحديث فلا حرج، ما لم يكن شعاراً يتميزون به عن بقية أهل السنة والجماعة، أما إذا كانت شعارات مؤسسية وعناوين مؤسسية، مثلاً: جمعية أهل الحديث، إذا كان المقصود بذلك المجموعة من الناس يشتغلون بنظم إدارية وعلمية على مفهوم الجمعية عندنا، ويخدمون السنة على وجه معين وتراضوا بينهم ويديرون أنفسهم عبر هذه المؤسسة، فالعمل المؤسسي إذا لم يكن على مناهج ولم يكن فيه ولاء وبراء ولا تميز عن بقية أهل السنة فلا حرج فيه، لأن هذا عمل مؤسسي دعوي، وسواء كان علمياً مثل جماعة أهل الحديث، أو دعوياً مثل مؤسسة أهل السنة أو مؤسسة الحرمين أو نحو ذلك، لأن هذه المؤسسات ليس المقصود بها الاختصاص بمكان أو بزمان أو بفئة، إنما المقصود أنها تكون عنواناً لنشاط معين يقوم به طائفة من أهل السنة والجماعة، فلا بأس أن يسموا أنفسهم جماعة أهل الحديث أو جمعية أهل الحديث. كذلك لا بأس أن يسموا أنفسهم جماعة الحديث إذا كانوا يتميزون بالاهتمام بالحديث، لكن لا يكون هذا شعاراً وانتماء يتميزون به عن بقية أهل السنة والجماعة بأي نوع من أنواع التميز.

الوطنية في الإسلام

الوطنية في الإسلام Q ما صحة مقولة: لا وطنية في الإسلام؟ A مقولة لا وطنية في الإسلام هذه كلمة مجملة؛ لأن هذا راجع إلى مفهوم الوطنية، فإن كان المقصود بالوطنية بلد المسلمين أو بلدك الإسلامي الذي أنت فيه فلا شك أن بلدك له حقوق شرعية، فالحقوق المشروعة سواء سميت وطنية أو ما سميت وطنية هي سائغة شرعاً، إنما يأتي اللبس في تسميتها وطنية أنها قد تقترن بالوطنية القومية العصبية، فإذا كان المقصود بها: أن المسلم لابد أن يكون لبلده حق عليه بالدفاع عنه وفي نفع البلد وأهل البلد فهذا لا حرج فيه، وإن كان المقصود بالجوانب الممنوعة من العصبية المقيتة، من تفضيل بلد على بلاد المسلمين الأخرى تفضيلاً يؤدي إلى العصبية إلى آخره، فهذا من العصبية الممقوتة ومن دعاوى الجاهلية.

الاستغناء بالكتاب والسنة عما سواهما

الاستغناء بالكتاب والسنة عما سواهما Q في كتاب فضل الإسلام: باب وجوب الاستغناء بمتابعته عن كل من سواه، وفي بعض النسخ: بمتابعة الكتاب، فهل هناك فرق بينهما؟ A لا فرق، النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالكتاب والسنة.

مفهوم مقالة (سقط من عين الله)

مفهوم مقالة (سقط من عين الله) Q هذه عبارة: سقط من عين الله، عبارة استخدمها السلف أو وردت في أثر، أم أنها محدثة؟ A ما أدري استعملها السلف أم لا، ما يحضرني الآن، وإن كان يترجح عندي أنها وردت في بعض الآثار، وعلى أي حال فهذه من العبارات التي لا حرج فيها إذا قصد بها معنى شرعياً صحيحاً. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[5]

شرح كتاب فضل الإسلام [5] يجب على العبد المؤمن أن يدخل في دين الإسلام كله وأن يترك ما سواه، وذلك بالإقرار والتسليم بكل ما ورد فيه، والعمل بفرائضه وواجباته بما يستطاع من ذلك، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، كما يجب ترك كل ما هو خارج عن الإسلام، كالبدع والانحرافات العقدية أو العملية، وترك التحاكم إلى غيره من الطواغيت ونحوهم، وترك التفرق والاختلاف؛ فإن ذلك خروج عن مقتضى هذا الدين العظيم، الذي أمر بالجماعة ونهى عن الفرقة.

باب وجوب الدخول في الإسلام كله وترك ما سواه

باب وجوب الدخول في الإسلام كله وترك ما سواه قال رحمه الله تعالى: [باب وجوب الدخول في الإسلام كله وترك ما سواه. وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء:60]، وقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] قال ابن عباس رضي الله عنه: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدع والاختلاف. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية كان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين ملة تمام الحديث قوله: وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي) يا لها من موعظة لو وافقت من القلوب حياة! رواه الترمذي. ورواه أيضاً من حديث معاوية عند أحمد وأبي داود وفيه: (إنه سيخرج من أمتي قوم تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله) وتقدم قوله: (ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية)].

وجوب الإقرار والتسليم بكل ما جاء في الدين والعمل بما يستطاع منه

وجوب الإقرار والتسليم بكل ما جاء في الدين والعمل بما يستطاع منه هذا الباب في بيان عموم الدين وضرورة التزام الدين كله من قبل المسلم ومن قبل عموم المسلمين أيضاً. فقوله: (باب: وجوب الدخول في الإسلام كله وترك ما سواه)، يفيد أن على المسلم التسليم الكامل لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والإذعان المطلق، والإيمان بالدين كله دون الأخذ ببعض وترك بعض، وهذا من حيث الإقرار والتسليم، أما من حيث العمل فلا شك أنه لا يلزم المسلم إلا ما يستطيع: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وهذا أمر معلوم بالضرورة؛ وهو أن الأصل في المسلم أن يسلم لله عز وجل، ويقر بالدين كله، وكل ما يرد إلى المسلم مما جاء في كتاب الله عز وجل وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسلم مقر به سلفاً، ولا يتردد إذا ورد له الدليل، فهذا أمر لا يمكن أن يدفعه أحد، التسليم المطلق جملة وتفصيلاً لكل ما يرد ويصح من الدين، فمن ورده أي أمر من أمور الدين وجب أن يقر به، لكن يبقى الجانب الآخر وهو العمل يجب عليه بعد ما يقر ويعلم أن يعمل بما يستطيع. وأحكام الإسلام على نوعين: الفرائض والأركان، فهذه باستطاعة كل إنسان في الجملة، إلا من عرض له عارض، ولا دخل لهذه المدارك والقدرة العقلية أو القدرة العلمية، فأركان الإسلام يعملها العالم ويعملها أبسط الناس وأجهل الناس وكذلك سائر فرائض الدين، إلا من عرض له عارض كإنسان ما استطاع الصيام لمرض عارض فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لكنه يجب أن يبقى إقراره بالصيام وأنه واجب وفرض، وأنه متى ما تمكن سيصوم على سبيل الوجوب. وأيضاً فما أشار إليه الشيخ أننا إذا قلنا: إنه يجب على المسلم الدخول في الإسلام كله، فمن هنا لا يسعه أن يخرج عن مقتضى الدين في أي أمر من الأمور معتقداً أنه يسعه الخروج عن هذا الأمر، سواء كان في الأمور العامة كالتشريع عموماً أو التقنين، أو كان في الأمور الجزئية، كمسائل الحلال القطعي أو الحرام القطعي، حتى الجزئيات منها، فمثلاً: لا يسع المسلم أن يقول: أنا أقر بالإسلام كله، لكن عندي شك في تحريم الربا، فهذه وإن كانت تسمى فرعية أو حكماً من الأحكام من جملة الدين إلا أنه ما قال: إن لم يقر به فقد خرج من مقتضى الإسلام، ولم يدخل في الدين كله، ولذلك أورد الشيخ الآيات الدالة على هذا المعنى؛ مثل قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، أي: ادخلوا في الدين جميعاً وأنتم جميعاً ادخلوا في الدين، فهذا خطاب من الله عز وجل للمؤمنين بأن يدخلوا في الإسلام كله ويتركوا ما سواه، فالسلم هنا بمعنى الإسلام.

وجوب التحاكم إلى الإسلام وتحريم التحاكم إلى الطاغوت

وجوب التحاكم إلى الإسلام وتحريم التحاكم إلى الطاغوت وكقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء:60] وتمام الآية وهي محل الشاهد: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60]، يعني: يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، ومع ذلك يلجئون إلى التحاكم إلى الطاغوت اختياراً من غير اضطرار وقد أمروا أن يكفروا به، فعد ذلك زعماً، وأنهم بهذا ما دخلوا في الدين، وأنهم بسبب هذا المبدأ بقوا من الكافرين الذين لم يدخلوا في الإسلام، وأن دعواهم ليست دعوى سليمة ولا صحيحة ولا مقبولة عند الله عز وجل حينما ادعوا ادعاء ثم ناقضوه بتحاكمهم إلى الطاغوت، وهذا أمر خطير يجب التنبه له في هذا الأصل، وهو الذي يدور حوله النقاش الآن والكلام بين كثير من أهل العلم في مسألة التشريع والإيمان ونحو ذلك، وما حصل به من ميل بعض الناس إلى بعض المرجئة، وميل آخرين إلى بعض أقوال المكفرة، وأهل السنة أهل الحق بقوا على المنهج الحق الوسط. فهذه المسألة من المسائل الخطيرة، وهي مسألة التحاكم إلى الطاغوت، والتحاكم سواء كان جزئياً أو كلياً لابد أن يدخل فيه التفصيل فيمن حكم بغير ما أنزل الله، أو حكَّم غير ما أنزل الله، ولا فرق بين الحكم والتحاكم من حيث التنظير العام، وقد نفرق في الصور الفردية، أما من حيث الأصل فكلها عدول عن شرع الله عز وجل، وسواء كان في مسألة التشريع العام أو التقنين أو في مسائل جزئية كالربا أو الزنا أو نحو ذلك، فإن هذه الجزئية إن صح التعبير يحكمها ما يحكم الأمر الكلي في التحاكم، لكن كل هذه الأمور لابد من التفصيل فيها، ولا يلزم للخروج من الإسلام الاستحلال فقط، بل الإعراض الكلي وترك جنس العمل يعتبر عدم إذعان لدين الله عز وجل، فكلمة (استحلال) من الكلمات المجملة التي لم يتفق عليها المتنازعون في هذه المسألة التي أثيرت في الآونة الأخيرة، والتي قال فيها علماؤنا حفظهم الله والتي يجب الاجتماع عليها. ومن هنا أوصي إخواني طلاب العلم بقاعدة معلومة عند السلف وهي أنه إذا اختلف طلاب العلم في أمر من الأمور مهما كانت اجتهاداتهم، ثم وصل هذا الاختلاف إلى أهل الحل والعقد من العلماء الكبار مثل اللجنة الدائمة أو هيئة كبار العلماء أو غيرها من الهيئات المعتبرة أو العلماء المعتبرين ثم قالوا قولتهم، فيجب الاجتماع على هذه المقولة خوفاً من الفرقة والفتنة والشذوذ والتشرذم الذي وقع بين كثير ممن يدعون السلفية الآن، واستجابة لأمر الله عز وجل، ولنفترض أن أحد طلاب العلم له رأي آخر يرى أنه الرأي الراجح، فيفترض أنه في مثل هذه المسألة التي حسمها العلماء أن يتراجع مادامت المسألة خلافية، ويجب على المسلم أن يتهم نفسه وقدرته واستطاعته، مادام أن الأمر قد تكلم فيه العلماء، لكن إذا كان الأمر من باب التجوز وأنه قد يكون لبعض طلاب العلم رأي يخالف رأي هيئة كبار العلماء أو اللجنة الدائمة؛ فإنه يجب عليه أن يسكت عندما يصل النزاع إلى افتراق الناس، وأن يكون هذا مؤيداً وهذا معارضاً، فيجب على طالب العلم إذا تكلم العالم الكبير أن يسكت جمعاً للكلمة وخوفاً من الفرقة، والقاعدة التي اتفق عليها السلف في مثل هذه الأمور في مصالح الأمة العظمى أنه يجب الاجتماع على الرأي المرجوح وترك الرأي الراجح عند صاحبه، وإن كان يرى أنه هو الأحق وأن الدليل معه؛ لأن الآخرين معهم دليل كذلك، فالمسألة لم تكن قطعية، ولو كانت قطعية ما ورد فيها خلاف بين أهل العلم المعتبرين، وأشير بهذا إلى مسألة مثارة في الاستدلال وعدم الاستدلال، ومسألة الإيمان وما قيل في بعض مقولات الإرجاء ونحو ذلك، فالأدب الذي يجب أن يلتزمه طالب العلم؛ أنه إذا تكلم العلماء أن يسكت وإن كان يرى أنه محق أو مظلوم أو غير ذلك من العبارات التي قد يقتنع بها شخص أو أكثر، فلا يسعه أن يسكت ويثير الفتنة، ولا يرد على العلماء ولو بأدب؛ لأنه إذا وصل الأمر إلى أن رأس الأمة من العلماء الكبار يدخلون في الموضوع، فما دخلوا إلا لأن الأمر يجب أن تجتمع عليه الكلمة، وما دخلوا إلا لأنهم خافوا الفرقة. إذاً: يجب على طالب العلم أن يذعن ويتهم نفسه ويبدي رأيه في وقت آخر إذا كان له رأي عندما تهدأ الأمور، أما في مثل هذه الظروف فأرى أن مصادمة رأي أهل العلم أو الوقوف ضد رأيهم، أو الإصرار على رأي يخالف ما اتفقوا عليه وعلموه أنه نوع من عدم الصبر، ونوع مما قد يستغل في تفريق الأمة نسأل الله السلامة والعافية.

لزوم جماعة المسلمين وبيان أن التفرق خروج عن مقتضى الدين

لزوم جماعة المسلمين وبيان أن التفرق خروج عن مقتضى الدين ثم ذكر في الآية الأخرى الدلالة على عدم جواز الافتراق، وهو خروج من مقتضى أن تكون في الدين، قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159]، فالتفرق في الدين الذي عليه أهل الأهواء ينافي الدخول في الإسلام كله؛ لأن الإسلام مقتضاه لزوم الحق ولزوم الجماعة، والذين فرقوا دينهم لا شك أنهم حادوا عن الحق وخرجوا عن الجماعة، وكذلك قوله عز وجل: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، فالذين اسودت وجوههم هم أهل الأهواء كما ذكر ابن عباس، وهو مقتضى ظاهر الآية. فهؤلاء ما دخلوا في الإسلام كله، بل لجئوا إلى البدع والأهواء فخرجوا من مقتضى هذا الأصل. ثم ذكر حديث الافتراق وهو مثل هذه الآيات، لكن فيه بيان أن هناك من يخرج عن مقتضى كمال الإسلام، فيخل بالمنهج السليم، فإنه يكون خرج من مقتضى الإذعان الكامل وفارق السنة والجماعة، وإن لم يخرج من مسمى الإسلام. وعلى هذا فإن الذين خالفوا أصل الدخول في الإسلام كله هم على نوعين: منهم من خرج بمخالفته، وهم من ارتكب ما يوجب الردة. والنوع الثاني: من خرج عن مقتضى السنة، لكنه ما دخل في الإسلام وهم أهل الأهواء والبدع الذين فارقوا السنة والجماعة مفارقة تقتضي خروجهم من السنة.

الأسئلة

الأسئلة

التمسك بقول كبار العلماء في جزئيات الدين

التمسك بقول كبار العلماء في جزئيات الدين Q ذكرت أنه لابد من التمسك بقول كبار العلماء وعدم مخالفتهم، فهل هذا يكون في الكليات أم يدخل في ذلك الجزئيات؟ A المشايخ يفرقون في بياناتهم بين ما هو فتوى وبين ما هو رأي حاسم في العقيدة، حتى نحن ندرك ذلك الفرق، لكن مسألة الجزئيات إذا كان منها نزاع وشقاق -وليس في الدين جزئيات- فإذا تدخلت هيئة كبار العلماء أو اللجنة الدائمة فيما يسمى جزئية من الجزئيات، فيجب الوقوف على رأي العلماء لقطع النزاع، حتى ولو كانت في سنن الوضوء، فمثلاً: المشايخ وفقهم الله أصدروا بعض الفتاوى حول مسائل حلق اللحية، وصبغ الشعر بالسواد، وحول مسائل هي عند الناس جزئيات، ولكن لما رأوا أن بعض طلاب العلم قد يكون عنده جرأة، فيفرض رأيه وكأنه جاء بجديد على الأمة، ثم ينتصر لرأيه أناس، أو يخشى أن ينتصر لرأيه أناس، فعندما يخشى أن يحصل التفرق على المسألة الجزئية، أو يكون في مخالفة للفتوى العامة لأهل العلم، مما يوقع الناس في الفتنة، فمن هنا يصدر البيان، حتى وإن كان من عالم، فمثلاً: عندما صار عند بعض الناس لبس في فهم فتوى أحد المشايخ عن مسألة كشف العورة للمرأة، فاضطر المشايخ بعد مدة أن يوضحوا القضية بالتفصيل لا للرد على الشيخ، لكن لتصحيح فهم الناس. ونظراً لأن الفتوى لا يزال لها آثارها على سلوك كثير من النساء، فإنه يجب أن نفرق بين مسألة العورة وبين مسألة الحجاب، فالعورة ما كان بين السرة إلى الركبة، أما الحجاب فهو كما ورد في الشرع أنه يجب أن تحتجب المرأة عند الرجال وعند النساء، وإن كان عند الرجال بقدر وعند النساء بقدر، فعند الرجال الأجانب تحتجب كلها، وعند المحارم وعند النساء يجوز لها أن تخرج الوجه واليدين وما تحتاج ضرورة لإخراجه لعملها في البيت أو في العمل النسائي، أما اليوم فإن بعض النساء في المجتمعات النسائية تخرج شبه عارية، وتقول: هذه فتوى الشيخ، فتوى الشيخ في العورة لا في الحجاب، الحجاب واجب، وله قدر عند الرجال وله قدر عند محارم النساء. فينبغي أن ينبه طلاب العلم لهذه المسألة؛ لأنه صار بسببها فتنة نسأل الله العافية.

حكم اعتزال الجماعة بسبب روائح الجوارب

حكم اعتزال الجماعة بسبب روائح الجوارب Q مجموعة من الموظفين في دائرة عسكرية يتأذون كثيراً من رائحة الجوارب، فرأوا أن يصلوا في مجموعة صغيرة في مكان آخر ليسلموا من الأذى، علماً أنهم قد نصحوا إخوانهم كثيراً؟ A الذي يظهر لي أن هذا ليس بمبرر لترك الجماعة، ولو أنهم يبحثون عن وسائل علمية لحجب أنوفهم عن الشم أولى من أن يتركوا الجماعة، يبحث عن وسيلة واقية تريحه من شم الرائحة الكريهة في المسجد، كما ينبغي أن تستمر المناصحة، وسوف يجدون من الحلول والبدائل ما يصرفهم عن عبث الشيطان بهم بأن ينفصلوا عن الجماعة. نسأل الله للجميع التوفيق والسداد. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[6]

شرح كتاب فضل الإسلام [6] البدعة في الدين شأنها خطير؛ ولذلك فقد ورد أنها أشد من كبائر الذنوب، ومما يدل على شناعتها أن الله تعالى قد لا يوفق صاحبها للتوبة منها؛ لأنه يعتقد أنه على هدى ودين فكيف يتركه؟! والبدعة أقسام منها المكفرة، ومنها المغلظة، ومنها البدع الصغيرة التي تقع من الجهلة والعوام من أهل البدع، وقد يقع فيها بعض جهلة أهل السنة، والواجب هو الحذر من البدع جميعها، ووجوب التوبة لمن وقع في شيء منها.

باب ما جاء أن البدعة أشد من الكبائر

باب ما جاء أن البدعة أشد من الكبائر قال رحمه الله تعالى: [باب ما جاء أن البدعة أشد من الكبائر. وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:144]، وقوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]. وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال في الخوارج: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وفيه: (أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أمراء الجور ما صلوا)، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه: (أن رجلاً تصدق بصدقة، ثم تتابع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) رواه مسلم، وله مثله من حديث أبي هريرة ولفظه: (من دعا إلى هدى، ثم قال: ومن دعا إلى ضلالة). باب ما جاء أن الله احتجز التوبة على صاحب البدعة. هذا مروي من حديث أنس ومن مراسيل الحسن، وذكر ابن وضاح عن أيوب قال: كان عندنا رجل يرى رأياً فتركه، فأتيت محمد بن سيرين فقلت: أشعرت أن فلاناً ترك رأيه؟ قال: انظر إلى ماذا يتحول؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله: (يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه). وسئل أحمد بن حنبل عن معنى ذلك فقال: لا يوفق للتوبة]. بين الشيخ في هذا الباب أموراً تخفى على كثير من الناس، وهي خطر البدعة وحكمها وأنها أشد من كبائر الذنوب، وأن صاحب البدعة غالباً لا يوفق للتوبة، وهذا فيه إشارة صريحة إلى فضل التمسك بالسنة، وأن المستمسك بالسنة بإذن الله موفق ومعان ومهتدٍ، حتى وإن وقع منه شيء من التقصير فإن الله عز وجل سوف يوفقه للتوبة ويعينه عليها، بخلاف صاحب الكبيرة، فمن فضل السنة أن صاحبها يوفق للتوبة، وهذا داخل في عموم فضل الإسلام. ثم ذكر الشيخ الأدلة على أن البدعة أشد من الكبائر، فاستدل بقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وهذا فيه إشارة إلى أن أعظم البدع الشرك بالله.

أقسام البدع

أقسام البدع ولهذا فإن أقسام البدع ثلاثة: القسم الأول: البدع المكفرة، وهي بدع الشرك، والبدع التي تخل بأصول الإسلام الناقضة للدين، أو إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، أو الإعراض عن الدين بالكلية، حتى ولو لم يكن في ذلك شيء من الشرك الصريح، فإنه يعد من البدع الكفرية. والقسم الثاني من البدع: البدع المغلظة التي هي من كبائر الذنوب بل من أعظم الكبائر، والبدع المغلظة هي الأكثر مما يقع فيه كثير من أهل البدع في العصور المتأخرة، والتي منها على سبيل المثال: الموالد البدعية والبناء على القبور، واتخاذ المزارات والمشاهد، والتبرك بما لم يرد الشرع ببركته ونحو ذلك، هذه بدع كبيرة ومغلظة. والقسم الثالث: بدع صغيرة، يقع فيها أكثر جهلة المنتسبين للبدع إذا لم يقعوا في كبائر البدع، وقد يقع فيها بعض المنتسبين للسنة، مثل: التزام السبحة عند التسبيح، أو التزام شعار معين، أو تقليد الأشخاص، ومثل بعض التصرفات التي تكون عند المآكل وفي الجنائز، فهذه غالباً من أنواع البدع الصغيرة. إذاً: الشرك هو أعظم أنواع البدع، ولذلك أدخله الشيخ هنا للاستدلال على أن البدع أشد من الكبائر، كذلك الكذب على الله عز وجل وارد في قوله سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:144]، وهو باب واسع يدخل فيه التشريع بما لم يشرعه الله عز وجل، والابتداع أي: إحداث البدع، ونسبة البدع إلى الشرع، والقول بأنها من شرع الله ودينه، كل هذا داخل في الافتراء والكذب على الله. ثم استدل بقوله عز وجل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]، فهذا أراد به أن صاحب البدعة مرتكب ذنباً عظيماً، ومما يتحمله صاحب البدعة أنه يتحمل أوزار الذين يقلدونه إلى يوم القيامة.

قتل الخوارج

قتل الخوارج ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم)، وهذا من أدلة دقة فقه الشيخ رحمه الله، والشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب فقهه قريب من فقه البخاري في عمق ودقة الاستنباط بعبارة وجيزة وإشارة وجيزة، فسياقه لهذا الحديث على هذا الوجه والاختصار يقصد به أن البدعة أغلظ من كبائر الذنوب، والدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح قتل الخوارج لبدعهم، ومع ذلك لم يجز قتل أمراء الجور؛ لأن عملهم من أنواع المعاصي وليس من أنواع البدع، فالجور عظيم والظلم عظيم، ومع ذلك أمرنا بألا نقاتل أمراء الجور والظالمين في حين أننا أمرنا أن نقاتل الخوارج؛ لأن الخوارج أصحاب بدعة، ولأن الظلمة وأئمة الجور أصحاب معاصٍ، وهذا دليل على أن البدعة أعظم من المعصية، ولذلك جاز قتل المبتدع ولم يجز قتل صاحب الكبيرة إلا لموجب شرعي.

السنة الحسنة والبدعة الحسنة

السنة الحسنة والبدعة الحسنة ثم ذكر حديث جرير: (أن رجلاً تصدق بصدقة ثم تتابع الناس)، والحديث يمثل قاعدة عظيمة من قواعد الشرع: (أن من سن سنة حسنة)، أي: من عمل بسنة من سنن الإسلام؛ لأنه لا يمكن أن تكون سنة حسنة إلا والإسلام جاء بها؛ لأن الله عز وجل أكمل الدين، والعكس: (من سن سنة سيئة)، يعني: ابتدع بدعة، (فعليه وزرها ووزر من عمل بها)، وهذا الحديث يقلبه أهل الأهواء بالاستدلال على مشروعية البدع، وقالوا: إن البدع الحسنة مشروعة، بدلالة هذا الحديث، وأنها تدخل في السنة الحسنة، فمن ابتدع صلاة أو تسبيحاً أو صدقة أو نحو ذلك مما لم يشرع فكل ذلك داخل في الحسن، فيكون ابتداعه من السنة الحسنة، ولا شك أن هذا قلب للحقائق؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين النوعين. وأيضاً: أن السنة الحسنة لا يمكن أن تكون حسنة إلا وقد أقرها الشرع، فإذا أقرها الشرع فالأصل أنها مشروعة، لكن الإنسان قد يبدع في الوسيلة، فمن سن سنة حسنة، أو وسيلة تؤدي إلى أمر مشروع، وعلى سبيل المثال: المؤسسات الخيرية كلها من السنة؛ لا بذاتها وإنما لأنها أدت إلى العمل بالسنة، والعمل بمقتضى الإسلام بتعاون المسلمين، ومن التعاون على البر والتقوى، ومن نشر المبرات والخيرات بين الناس، والعلم النافع والصدقات وتعاضد المسلمين بينهم. إذاً: الوسيلة المؤدية إلى تطبيق السنة تعتبر سنة حسنة، ولذلك فإن كل من أحدث مشروعاً خيرياً انتفع به المسلمون وصار فيه قدوة فقد سن سنة حسنة؛ لأنه جاء على مقتضى السنة. وأيضاً: قد يرد أن السنن تنسى أحياناً ويغفل عنها، فمن أحياها فقد سن سنة حسنة، والدليل على هذا ما في الحديث نفسه: (أن رجلاً تصدق بصدقة)، والصدقة من السنن التي سنها الله وسنها رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: هذا الرجل إنما عمل عملاً أدى إلى دفع الناس إلى العمل بالمشروع، فعمله الذي هو سنة حسنة من أداء الصدقة، وفعل الصدقة، فهو قام بوسيلة إلى عمل الخير، ولم يحدث عملاً جديداً، ولم يكن هو المشرع للصدقة، أو ابتدع حكماً شرعياً لا في العقيدة ولا في الشرع، إنما عمل بمقتضى ما أمر به الله وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم على وسيلة أو بفعل كان فيه قدوة، وكذلك بقية النصوص: (من دعا إلى هدى)، ثم قال: (من دعا إلى ضلالة) والمعنى واحد.

احتجاز التوبة على صاحب البدعة

احتجاز التوبة على صاحب البدعة أما المقطع الثاني فيما يتعلق باحتجاز التوبة على صاحب البدعة، فقد فسره الإمام أحمد وفسره سائر السلف، فلا يقصد بذلك أن صاحب البدعة لو تاب أن الله لا يتوب عليه، بل العكس فالله عز وجل يتوب على المشرك وعلى من هو أعظم من صاحب البدعة ذنباً، لكن القصد بقول السلف: (إن الله احتجز التوبة)، أي: لا يوفقه للتوبة، ولذلك أسباب، منها: أن صاحب البدعة يزين له سوء عمله، فيتوهم أن عمله حسن وليس بحسن، والإنسان إذا توهم أن عمله حسن لا يتطلع إلى أن يخرج من هذا العمل أو يتوب منه، بل يتمسك به، كما قال الله عز وجل: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]، وهذا من عدم التوفيق من الله عز وجل. إذاً: ليس المقصود كما يفهم بعض من أثار هذه الشبهة وقال: إنهم يزعمون أن صاحب البدعة لا تقبل له توبة، وهم ما قالوا: لا تقبل له توبة، وحتى لو قالوا هذه العبارة فلا يقصدون أنه لو تاب لا يتوب الله عليه، وإنما يقصدون أنه لا يوفق للتوبة، وهذا أمر مستفيض عند السلف، وليس من الأمور التي اخترعوها من عند أنفسهم، بل هذا هو مقتضى النصوص، ومقتضى استقراء الواقع، ويندر أن صاحب بدعة يتوب، خاصة دعاة البدع، أما الأتباع والهمج والرعاع فهؤلاء ليس لهم حكم؛ لأن قلوبهم ليست مؤصلة للبدعة، بل فطرهم وقلوبهم قابلة للحق، فمتى ما سمعوا بالحق رجعوا إلى الحق، وهذا لا يسمى أصالة صاحب بدعة، بل هذا تابع، لكن القصد هنا هم الزعماء والكبار والمنتفعون بالبدع أو رءوس البدع والدعاة إليها، فهؤلاء لا يوفقون، ولذلك لا نسمع في تاريخ الافتراق والأهواء والبدع بأن أحداً رجع من هؤلاء الرءوس إلا ما لا يتجاوز العشرات إذا بالغنا في التمحيص، وإلا فلا نعرف من مشاهير أهل البدع والأهواء الدعاة القائمين على البدع ما يزيد على أصابع اليد الكبار، مثل الأشعري والجويني والرازي والغزالي ومن يشابههم، فهؤلاء من كبار أئمة أهل الكلام، ومن دعاة البدع والمؤصلين للبدع، فهؤلاء تابوا ورجعوا لكنهم ندرة، ولهم من الفضل والعلم والفقه ما جعل الأمر يكون سبباً لتوبتهم؛ لأنهم ليسوا من أهل الإصرار الكامل، كانوا رواد حق، والله أعلم أن نياتهم صالحة رغم ما وقعوا فيه من أخطاء، وكانوا يعظمون العلم الشرعي والدين، ولهم من الفضائل ما يتوقع أنهم يوفقون للتوبة، لكن هؤلاء ندرة وقلة. أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه)، فهذا أحسن وصف لأهل الأهواء، وهو من الدلالات الظاهرة على ما قال به السلف من أن الله احتجز التوبة على صاحب البدعة. إذاً: ليس قولهم -أي: قول السلف بأن صاحب البدعة لا يتوب- جاء من فراغ، إنما جاء من الاستدلال بمثل هذا النص، ومن استقراء الواقع.

الأسئلة

الأسئلة

جنس البدع أعظم من جنس الكبائر

جنس البدع أعظم من جنس الكبائر Q قولك: إن البدعة أشد من الكبائر، هل تقصد جميع أنواع البدع؟ A أقصد أن جنس البدع أعظم من جنس الكبائر، وإلا فقد يكون بعض مفردات البدع أهون من الكبائر، فالبدع الصغيرة صنف منها هي أهون من ارتكاب الفواحش والكذب ونحو ذلك، لكن القصد الجنس، وعموم البدع لا شك أنها أعظم من الكبائر؛ لأن من البدع ما هو شرك وكفر، والبدع المغلظة أيضاً أشد من الكبائر، حتى إن بدع أهل الافتراق الذين يدخلون في عموم الأمة وأهل القبلة بدعهم أشد من مخالفات أصحاب المعاصي والكبائر.

تكفير الخوارج

تكفير الخوارج Q بوب الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن البدعة أشد من الكبائر، ثم ذكر الخوارج، فهل يرى الشيخ تكفيرهم؟ A لا، ما يلزم أنه يرى تكفيرهم، والذي أعرف أن الشيخ لا يرى تكفيرهم عموماً، والخوارج ليسوا كفاراً، ولكنهم من أهل البدع، ولا يلزم من قتال المبتدع أن يكون كافراً، ولذلك قاتلهم الصحابة وعلى رأس الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولما سئل عنهم، قال: هم إخواننا بغوا علينا، ثم قيل له: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، فينبغي أن نفهم أنه لا يلزم من القتال الكفر، فقتال أهل البغي والخارجين عن الإمام وقد يكونون من الصالحين، لكنهم تأولوا ويقاتلون، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم وغيره أن من خرج على إمام له بيعة وله عهد أو خرج عن الجماعة فإنه يقاتل كائناً من كان، وإن كان ظاهره الصلاح، فأمره إلى الله عز وجل، وأيضاً أهل الذنوب الذين تقتضي ذنوبهم قتلهم مثل المرجوم الزاني إذا استحق الرجم، فهذا لا يخرج من الملة وإن قتل في ظاهر الأمر قتلة فيها نوع من التعزير الشديد، لكن لله في ذلك حكمة بالغة. فهذا علي رضي الله عنه والصحابة معه اجتهدوا في تنفيذ القتل متى يكون، وكأن الإمام علياً والله أعلم وتخصيص علي بالإمام دون بقية الصحابة هذا من سمات الرافضة والشيعة، فهو خليفة من الخلفاء الراشدين، والمهم أن علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة الذين قاتلوا الخوارج كانوا يرون أن قتالهم محل خلاف، لكن علي الذي هو إمام المسلمين في ذلك الوقت، كان لا يرى قتالهم حتى يحدثوا ويقاتلوا، وهذا ظن غالب عندي، أنه يقصد أننا لا نتحقق من بدعتهم حتى يعملوا بمقتضاها، لأننا لا نستطيع أن نلزمهم بأنهم ارتكبوا بدع التكفير، لأنه قد يكون قول بعضهم، أو لهم في التكفير معاذير لجهل أو تأويل نحو ذلك، فلما قاتلوا عليها تبين إصرارهم على بدعة التكفير التي هي فعلهم للقتال واستباحهم للدم، ودليل على أن هذه البدعة تعمقت فيهم، وأنها ليست مجرد عوارض أو قول البعض، بل هي إجماعهم وقد اتفقوا عليها، فمن هنا استباح علي قتالهم؛ لأن بدعتهم ظهرت وتأكدت من خلال أفعالهم، أما الأحاديث فهي مطلقة، فبعضها رد في الخوارج القدامى، وبعضها في الخوارج المتأخرين الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري وغيره: (سيخرج في آخر الزمان أناس حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، -ثم سرد صفاتهم والقول فيهم إلى أن قال:- فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن لمن قتلهم الجنة)، فهذا الذي جاء في سياق الحديث هو في خوارج يخرجون في آخر الزمان، وهم على القول الراجح في كلام كثير من المحققين من أهل العلم أنهم غير الخوارج الأولين؛ لأن هؤلاء جاءت فيهم نصوص، وهؤلاء جاءت فيهم نصوص، وكلهم خوارج. إذاً: قتل الخوارج لا يدل على خروجهم من الملة، ولا أن بدعتهم بدعة مكفرة.

الفرق بين الشرك والكفر

الفرق بين الشرك والكفر Q ما الفرق بين الشرك الأكبر وبين الكفر الأكبر؟ A الشرك الأكبر هو صنف من أصناف الكفر الأكبر، والكفر الأكبر أشمل من الشرك؛ لأن الكفر قد يكون بغير شرك مباشر، فقد يكون بترك أعمال الإسلام، أو بالإعراض عن الدين، أو الاستهزاء بالله عز وجل، أو الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو إنكار معلوم من الدين بالضرورة، فهذا كفر، لكن ليس له صورة الشرك، فعلى هذا يكون الشرك نوعاً من أنواع الكفر الأكبر، والكفر الأكبر يشمل الشرك وغيره. والله أعلم. أما الأمثلة على الشرك الأصغر، فمنها الرياء، والسمعة، وهذا من أوضح أمثلة الشرك الأصغر، والرياء هو الخلط في أمر يجب الإخلاص فيه للخالق عز وجل، وسواء كان قلبياً أو من أعمال الجوارح، فيجب أن يخلص لله عز وجل، وهذا الرياء فيما إذا كان لم يصل إلى صرف العبادة لغير الله، فإذا صرفت العبادة لغير الله صار شركاً، أما إذا كان مجرد مراعاة الخلط في عمل يجب أن يكون فيه الإخلاص لله عز وجل، فيكون من الرياء الأصغر، وصوره كثيرة، وأبرزها الرياء والسمعة، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[7]

شرح كتاب فضل الإسلام [7] دين الإسلام هو الحنيفية السمحة دين إبراهيم عليه السلام ووصيته، فمن رغب عن هذه الملة فقد سفه نفسه، وهو دين اليسر والسماحة، فلا إفراط فيه ولا تفريط، ولا غلو ولا تنطع، ومن يسره وسماحته أن شرع الله تعالى الرخص لأهل الأعذار، ولم يكلف نفساً إلا ما تطيق وتستطيع، وهذا كله يدل على فضل الإسلام وهيمنته على سائر الأديان.

المحاجة في إبراهيم والرغوب عن ملته ودينه

المحاجة في إبراهيم والرغوب عن ملته ودينه قال رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:65]، إلى قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]، وقوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130]]. قبل أن نتجاوز الآيتين أحب أن أقف بعض الوقفات؛ لأن الأحاديث والآثار التالية تحتاج إلى كلام مستقل. ذكر الشيخ أن من خصائص الإسلام أنه المهيمن، وأنه الحنيفية ملة إبراهيم، وأنه وصية إبراهيم عليه السلام، وأن من رغب عن هذه الملة فإنه قد وقع في السفه، وأن محاجة أهل الكتاب ودعواهم على المسلمين في كثير من الأمور في نسبتهم إبراهيم إليهم، ودعواهم أنهم أتباعه وأنه حجة على العرب، وأن النبوة لا تكون إلا في ذرية إسحاق ونحو ذلك من الأمور التي ادعوها، فإن الله عز وجل قد أقام عليهم الحجة بأن ما يقولونه ليس عندهم فيه سند؛ لأن سندهم التوراة والإنجيل، والتوراة والإنجيل إنما أنزلت بعد إبراهيم عليه السلام، وليست ملغية للحنيفية؛ لأن التوراة والإنجيل كانت في بني إسرائيل، وملة إبراهيم كانت في قومه عامة، منهم أبناؤه هؤلاء وغيرهم، وكانت في بني إسرائيل وبني إسماعيل، وملة إبراهيم عامة وشاملة، وليس فيها حجة لبني إسرائيل -اليهود والنصارى- ولذلك فإن الله عز وجل جعل ملة إبراهيم هي ملة لجميع أهل التوحيد من بعده: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27]، ومن ذلك ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن محمداً صلى الله عليه وسلم من ذرية إبراهيم، وكتابه في ذرية إبراهيم القرآن، إنما هو في ذرية إبراهيم، فليس لهم حجة ولا أن يحتكروا ديانة إبراهيم أو يزعموا أنها لهم أو أنها فيهم، أو غير ذلك مما ادعوه، فمن فضل الإسلام أنه جمع بين خصائص ملة إبراهيم التي من ضمنها الديانات التي جاءت بعدهم، وأيضاً من خصائص الإسلام أنه جاء لجميع البشرية.

الإسلام دين السنة والفطرة

الإسلام دين السنة والفطرة قال رحمه الله تعالى: [وفيه حديث الخوارج وقد تقدم. وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما أوليائي المتقون)، وفيه أيضاً عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكر له أن بعض الصحابة قال: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أُفطر، فقال صلى الله عليه وسلم: لكنني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فتأمل إذا كان بعض الصحابة لما أراد التبتل للعبادة قيل فيه هذا الكلام الغليظ، وسمي فعله رغوباً عن السنة، فما ظنك بغير هذا من البدع، وما ظنك بغير الصحابة؟]. في هذه الأحاديث فوائد تتعلق بأصل الكتاب وما تفرع عنه من الأمور التي ذكرها في الأبواب السابقة، والتي سيعيدها فيما بعد أيضاً. ويريد الشيخ بسياق هذه النصوص أن يبيّن أن من فضل الإسلام أنه دين السنة ودين الفطرة، وأن الإسلام يتميّز بأنه نقي صافٍ وأنه البيضاء التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسلوكها لا يزيغ عنها إلا هالك، وأن البدع والمحدثات ليست من الإسلام، وأن الذين وقعوا في البدع والمحدثات في الدين وخالفوا السنة فمخالفتهم طعن في أصل الدين وفي أصل تمام الدين، وأن الله عز وجل ميّز الإسلام بالحفظ وبالكمال بحيث لا يحتاج إلى تجديد أو ابتداء، كما أن الله عز وجل ميّز الإسلام بالشمول. والشيخ رحمه الله بدأ الأحاديث بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما أوليائي المتقون) يشير بذلك إلى أن الإسلام يتضمن ولاية الله، وأن المسلم ولي لله، وأن شرط هذه الولاية هي التقوى، فلا تنال ولاية الله إلا بالتقوى والعمل الصالح، وهذا من خصائص الإسلام أنه لا تصح فيه دعوى التقوى إلا بأن يظهر ذلك على أمر المسلم وفي قلبه، وأن هذا يعني أن الإسلام من كماله أنه يشمل صلاح القلوب وصلاح الأعمال، وأنه ليس مجرد دعوى، فالإنسان لا ينال ولاية الله عز وجل بالدعوى. ثم ذكر الحديث الذي فيه قصة بعض الصحابة الذين مالوا إلى التبتل تعبداً لله، هؤلاء الذين أرادوا أن يحرموا أنفسهم أو يشددوا على أنفسهم في بعض الأمور ما ورد على أذهانهم مسألة الابتداع، إنما الذي كان يرد على أذهانهم صريحاً أنهم أرادوا أن يعبدوا الله عز وجل على أصول موجودة في الدين، لكن على غير ما أمر به الشرع تفصيلاً، أي: أنهم أخذوا بمجملات الدين لكن على غير ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم على جهة التفصيل؛ وهذا يدل على أن الدين لا بد أن يؤخذ جملة وتفصيلاً، فلا يقال: إن مبدأ الصيام مطلوب شرعاً، فأنا إذاً أصوم الدهر كله! نقول: إن جنس الصيام مطلوب شرعاً في الجملة، لكن لا يجوز أن تصوم أو تشرع صياماً على جهة التفصيل إلا بأمر شرعي. حتى ولو كان يوماً واحداً تتعبد به دون أن يكون لهذا اليوم أصل شرعي؛ لأن العبادات توقيفية لا يجوز للمسلم أن يزيد فيها ولا ينقص، ومنها ما هو مقيد ومنها ما هو مطلق، والمطلق له ضوابط أيضاً، فالنوافل بعضها مطلقة، لكن إطلاقها يكون وفق ضوابط شرعية لئلا يتعبد الإنسان بوقت دائم ويشرعه للناس، وأن لا يزيد في الصلاة بما يشغله عن واجبات أخرى، أو عن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك. فهؤلاء الصحابة الذين فعلوا ما فعلوا كان قصدهم الخير وكانوا ينهجون على أمور لها أصل في الإسلام، لكنهم شرّعوا تشريعاً تفصيلياً لم يرد به الإسلام بل يتنافى مع قواعد أخرى للشرع، فصيام الدهر لا شك أنه يؤدي إلى الإخلال بواجبات أوجبها الله عز وجل على المسلم، والتبتل وترك الزواج يؤدي إلى ترك أمر أوجبه الله على العباد وهو التناسل، والحقوق المتبادلة بين الناس والرحم وغير ذلك، والقيام دائماً يحجب الإنسان عن أن يقوم بواجبات سائر النهار؛ لأنه إذا سهر الليل للقيام فلا بد أن يأخذ قسطه من النوم كسائر البشر، فهذا يؤدي إلى الإخلال بواجبات أوجبها الله عليه من طلب المعاش، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومعايشة أمور الناس ومخالطتهم على وجه شرعي. إذاً: هناك نتيجة نستفيدها عند تطبيقنا على مناهج الناس وهي: أنه تبين بالاستقراء أن الكمل من الرجال أولو العزائم ليسوا هم الذين يتفرغون للعبادة، ولا لنوع واحد من أنواع الطاعات والقربات، وليسوا هم الذين يقبلون على الدين ويهجرون الدنيا، أو يعتزلون الناس تعبداً لله، مع أن هذه المناهج فردية قد يُمدح بعض الناس فيها، لكن ليست هي الأمثل للمنهج السليم في اقتفاء السنة، لأن اقتفاء السنة يقتضي أن المسلم يعبد الله عز وجل ويقوم بالفرائض والنوافل على الوجه الذي يناسب حاله وواجباته ووقته ثم يقوم بالأمور الأخرى، بمعنى أن يسد عملاً من أعمال المسلمين بحسب قدرته واستطاعته، وبمعنى أن يسد حاجة نفسه ومن حوله في أمور الدنيا فلا يبقى عالة على الآخرين، وأن يسهم في أعمال الخير ويسابق إليها جملة

الشمولية في تطبيق الدين وأحكامه

الشمولية في تطبيق الدين وأحكامه ولذلك فإن الأفضل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اكتمل فيهم معنى الدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم، واكتملت فيهم معاني القدوة، نجدهم ليسوا ممن ينزع إلى العبادة فحسب، أو إلى الجهاد فحسب، أو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فحسب، أو إلى الدنيا وإن صرفها في سبيل الله فحسب، بل تجد الكُمّل النماذج والطراز الأول والرعيل الأول والقدوة الذين هم الأئمة أولو العزم من الرجال، هم الذين تتكامل شخصياتهم في العبادة والعمل في الدين والدنيا، في العمل الفردي والعمل الجماعي الذي يشاركون فيه الأمة، الأنموذج هم الأئمة والخلفاء الأربعة الراشدون، كل منهم إذا نظرنا إلى حاله وجدناه قمة في العبادة، وإذا نظرنا إلى عمله وجدناه قمّة في أمور إدارة دنيا الناس، وكلهم تولوا الخلافة الراشدة وأداروا بالفتح الدين والإسلام والمسلمين على وجه نادر في التاريخ، وكلهم لهم في الدنيا نصيب، فمنهم من هم أصحاب تجارة كـ أبي بكر وعثمان، وما ألهتهم تجارتهم عن العبادة ولا عن القيام بالجهات الأخرى، وفي الجهاد نجدهم كلهم من المبرزين، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نجدهم كلهم من المبرزين، وفي أعمال الخيرات والمسابقة إليها نجدهم كلهم من المتسابقين والسابقين لغيرها على ما بينهم من تفاوت، ولا يستطيع مسلم أن يكون مثلهم، لكن يجب ألا نغتر بما يلجأ إليه بعض أصحاب الأهواء والبدع من النزوع إلى أخذ خصائص بعض الصحابة وجعلها هي المنهج فقط، فمثلاً: المتصوفة زعموا أن منهج أهل الصفّة هو المنهج الذي يجب الأخذ به، مع أنهم ما نهجوا منهج أهل الصفّة، فأهل الصفّة لهم ظروفهم وأحوالهم وهم فقراء من مساكين المسلمين، لكن مع ذلك كانوا يجاهدون، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إلا أنهم مع ذلك اشتهروا بأنهم أكثر الناس تفرغاً للعبادة؛ لأنه لا يشغلهم شاغل ولا يوجد عندهم وسائل للدنيا، فكذلك نجد من يسلك مسلك المراء والجدل والكلاميات يدّعي أن أمثال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس أصحاب جدل ومناظرات، وليس الأمر كذلك، فما كانت هذه صفاتهم، بل كانت هذه أموراً عارضة يحتاجونها عند الضرورة والحاجة وأيضاً فإن بعض الصحابة لهم خصائص أخرى لكن نجد أنهم في الأمور الأخرى التي ليست من خصائصهم ما نعرف أن لهم إسهاماً مثل إسهام الآخرين، فمثلاً: خالد بن الوليد رضي الله عنه اشتهر بالشجاعة والبراعة في الجهاد والقتال، فهذا من خصائصه لكن لم يكن له في الفقه كبير موقف، ولا يعني أن هذا لا يقدر، لكن أشغله الجهاد، فإذاً: الكمال ندرة في الرجال، وهذا المنهج هو الذي نعتبره المنهج الأمثل، سواء استطاع كل واحد منا أن يصل إليه أو لم يستطع؛ لأن أغلب الناس لا يستطيعون أن يكونوا على هذا المستوى، لكن يجب أن نعلم نظرياً ومنهجياً أن هذا هو المنهج الأمثل وأن نسعى إليه، وإلا فمن المعلوم أنه لا يستطيع كل واحد منا ولا أكثرنا، وربما أننا على وضعنا الحاضر لا نستطيع أن نكون مثل هؤلاء أو قريبين منهم، لكن يجب أن نسعى إلى الأمثل، بمعنى أن نعرف أن نهج الشخصية المسلمة التي تتمثل به القدوة هي الشخصية المتكاملة، وأن هذا هو النهج الذي يدعى إليه الناس، وهو نهج الأئمة الذين يقتدى بهم في الدين، وعلى هذا قيسوا على مدار التاريخ كبار التابعين، الأئمة الأربعة، الدعاة المشاهير في التاريخ، وفي المعاصرين على سبيل المثال الإمام الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تجده في كل عمل يستطيعه له إسهام، في العلم ونشره لا يبارى، وفي الاجتهاد والفقه والأحكام لا يبارى، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يضاهيه أحد، وفي النصح للمسلمين عامتهم وخاصتهم لا يضاهيه أحد، وفي رعاية أحوال المسلمين من الأيتام والأرامل والمساكين لا يضاهيه أحد في عصره، وفي إغاثة المسلمين في الخارج والاهتمام بشئون المسلمين والأمة جميعاً والسبق إلى الأمور الإغاثية لا يضاهيه أحد، وفي الاهتمام بالأقليات في أقصى الدنيا لا يضاهيه أحد، وفي تفقد أحوال المسلمين حتى خارج هذه البلاد أفراداً وجماعات، مثل المستضعفين والمساكين والعجائز والمرضى لا يكاد يضاهيه أحد، وفي نصرة المظلومين عندما يصل الظلم إلى أقصاه لا يضاهي منهج الشيخ أحد، وتعرفون أنه حينما حدث لبعض طلاب العلم وكادوا أن يُقتلوا في بعض البلاد الإسلامية وحُكم عليهم بالقتل، فالشيخ فزع واتصل بالمسئولين حتى أنقذهم الله على يده، ولم يكتفِ بذلك بل دعاهم بأن يأخذوا عمرة ثم يزوروه في بيته، لما أنقذهم الله على يديه، وغير ذلك من القصص العجيبة التي تدل على كمال الشخصية فيه، فلا تجد الشيخ يدرك باباً للمعروف إلا ويسلكه وهذه من كرامات الله له. ولو تأملنا كثرة أشغال الشيخ في أمور المسلمين الخاصة والعامة، وتأملنا عملاً واحداً من أعماله لقلنا: هذا يكفي لإتعاب مئات الرجال بل لا أشك ولا أُبالغ حينما أقول: إن بعض أعمال الشيخ في جانب الإغاثة فقط تُعادل عمل مؤسسات

الأسئلة

الأسئلة

الاقتصار على جانب واحد مما ينفع الإسلام

الاقتصار على جانب واحد مما ينفع الإسلام Q ما رأيك فيمن يقول: إن القيام بجانب واحد من أمور نفع الإسلام أجدى وأنفع من الجوانب المتنوعة؛ لأن في ذلك تركيزاً للجهود؟ A هذا صحيح لبعض الناس ومن بعض الوجوه، وهناك فرق بين المنهج وبين التطبيق، فحينما نتحدث عن المنهج الأمثل في الإسلام لا بد أن نعترف ونقر بأن المنهج الأمثل في الإسلام لمن يستطيعه هو الشمولية والعمومية، لكن عند التطبيق نجد أن بعض الناس لا يستطيع أن ينفع بأكثر من نفع واحد، فقد تعطيه مهمة واحدة يشتغلها، وإذا أعطي أكثر من مهمة يرتبك، فهذه قدرات ولكن ليس له دخل في المنهج، ولذلك حتى الصحابة رضي الله عنهم وهم الجيل الأول والكمّل قد لا يستطيع الفرد الواحد أن يعمل إلا عملاً واحداً، ومنهم من برّز في شيء ولم يبرّز في أشياء، وليس معناه أنه مقصّر، بل هذه استطاعته، كذلك بالنسبة للتطبيق وبالنسبة للعمل في الدين والإسلام سواء العمل الواجب على كل فرد أو الأعمال التطوعية، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وينبغي أن نحمد هذا ونحمد هذا، والإنسان الذي يعمل بعمل واحد ويتمه ولا يستطيع أن يعمل أكثر منه، يُحمد على ذلك وربما لا يقل أجره عن أجر ذاك الذي يعمل أصنافاً من الأنشطة أو غيرها، فربما كان أجر هذا أكثر من أجر ذاك. إذاً: يجب أن نفرّق بين أمرين: بين مسألة المنهج عندما نرسم القدوة لأجيال المسلمين، نبيّن لهم أن القدوة كذا وكذا، ولا نجعل القدوة في أمر جزئي يصرف الناس عن الواجبات الأخرى، والذي جعل بعض الجماعات الإسلامية وبعض المراكز وبعض الهيئات وبعض الاتجاهات يعمل بعمل واحد ويخطئ الآخرين، مثل بعض الشباب الذين يدّعون السلفية لا يهمهم فقط إلا قراءة علم الحديث، وإذا قرأت في الفقه فأنت قد خرجت عن منهجهم، وإذا اعتنيت بالعقيدة فأنت قد خرجت عن منهجهم، وإذا عملت بنشاط عملي للناس في أنشطة مدرسية أو مؤسسية أو مراكز صيفية، فتكون عندهم قد خرجت عن المنهج، وهذا غلط بل المفروض أن يحمدوا لهذا عمله ويشجعونه، وقد يكون الواحد ليس عنده استيعاب للعلم الشرعي ولا يستطيع ذلك وحتى يقرأ الحديث قراءة متخصصة، لكنه يعمل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا نقل: إنه مقصّر! لا، نقول: جزاك الله خيراً، وهذا عملك، إذاً: يجب أن نعرف أن الناس تختلف قدراتهم كأفراد، فالذي يقدر على الكمال ولا يسعى إليه مقصر، والذي يسعى إلى الكمال ولا يستطيعه هذا مفرط، فينبغي أن نبيّن له أنه كما قال الخليل بن أحمد للأصمعي حينما أراد أن يتعلم العروض، وهو إمام ترجع الأمة إليه إلى الآن قال له بيتاً: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع فعرف وأدرك أنه يريده، فخرج، فهذا عالم ولا يضره هذا، ولا يضر ذلك في قدره ولا في أجره عند الله عز وجل، فالأجور عند الله لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى. ويبدو لي من خلال السؤال أن هناك فرقاً بين أن نرسم المنهج الأمثل وبين واقع الناس، لأن الناس حسب مقدراتهم، وكل من عمل خيراً وهذا ما يستطيعه نقول: جزاك الله خيراً، ونشجعه ونؤيده، حتى لو ما عمل إلا أدنى المعروف الذي أوصى به من وصايا، فينبغي أن نفهم هذا وذاك لئلا نخلط. فمن الخطأ الفادح والخلل الذي أوقع شبابنا في ربكة وجعل كثيراً منهم لهم جهود في الخير ولكن يكون عندهم نوع من الاضطراب الآن هو خطأ كثير ممن ينتسبون إلى الدعوة والعلم في تبصير الناس وقصرهم الخير على باب واحد، ويخطئون من يعمل بغير هذا الباب، ويجعلون ما يجيدونه هم هو الأنموذج بأمر قد لا يريده بعض الناس الآخرين، والناس يتفاوتون، فمنهم من لا يفهم إلا فهماً بسيطاً، ومنهم من لا يعمل إلا عملاً بسيطاً، ومنهم من يستطيع أن يصدر عن عمله ويشغل الأمة، وفرق بين هذا وذاك، وبعض الناس ينفع نفسه ويكف شره عن الناس، فهذا على خير عظيم، وبعض الناس خير كله، تجده معطاء، فلا نجعل الناس كلهم على درجة واحدة، إنما المنهج ينبغي أن يكون هو المنهج الشامل وهو منهج السنة.

التخصص في العلوم الشرعية

التخصص في العلوم الشرعية Q ما رأيكم فيمن يدعو إلى التخصص في العلم الشرعي وفي العمل الإسلامي عموماً؟ A لا نطلق ولا نحجر، فالتخصص في العلم الشرعي إذا كان لا يستطيع الإنسان أن يكون عنده شمولية فلا حرج فيه، ولكن ينبغي ألا يجهل البدهيات في العلوم الأخرى، فمثلاً: يركز على التخصص في الحديث ويجهل الفقه والعقيدة هذا أو في منهج الاستدلال هذا لا يصح، لكن ينبغي أن يؤسس شخصيته العلمية على أصول العلوم الشرعية، مثل القرآن وعلومه وتفسيره، والحديث وعلومه ورجاله، ثم العقيدة وما يتفرع عنها من الأصول الضرورية، ثم الفقه وأصوله، ثم اللغة العربية فهذه العلوم لا بد أن ترتكز عليها قاعدة طالب العلم، ولا بد أن توجد مثل الأسس للبيت، فأنت إذا أسست البيت لا بد أن تؤسس قواعده، فإذا انتهيت من القواعد تشكل البيت حسب حاجتك وهذا راجع لك، لكن لا بد أن تكون الأسس قوية ومتينة بحيث لو احتجتها تجدها على أصول شرعية. فلذلك لا حرج في هذا ولكن لا يحجر أحد على أحد خاصة في العلوم الشرعية التي ينفع الله بها، لكن من استطاع أن يكون شمولياً في العلم الشرعي فهذا هو المطلوب الإمامة في الدين لا تكون للأمة إلا من العلماء الراسخين وليس المتخصصين، والمتخصصون يكفل بعضهم بعضاً، ولذلك لو أردنا أن نناقش قضية من النوازل الحديثة المتشابكة، يكون فيها جانب طبي وجانب هندسي وجانب كذا وآخر، فأردنا أن نبحث فيها فلابد أن نأتي بالمتخصصين كلهم ويعطونا خلاصة عن التخصص، ولكن الذي يفتي فيها هو العالم، وكذلك القضايا الشرعية الأخرى لو افترضنا أننا الآن ليس عندنا عالم شمولي، وأتت قضية من القضايا العلمية التي تحتاج أن نرجع فيها للتفسير والحديث والفقه والعقيدة واللغة العربية، فهذا يتأتى في كثير من قضايا الشرع، لأن كثيراً من القضايا الشرعية تحتاج إلى التخصصات فلو فرضنا أننا احتجنا قضية من القضايا الخطيرة التي لا بد فيها من تكامل هذه التخصصات، وليس عندنا عالم شمولي، فلا بد أن نأتي بأربعة أو خمسة كل في تخصصه، وهنا تدركون خطأ التركيز على التخصصات، فالتخصصات مفيدة لكن بشرط أن يوجد عندنا مرجعية وأن نركز على أنموذج من طلاب العلم ننمي فيهم العلم الشرعي الشامل، ولذلك ينبغي أن نستدرك أنفسنا، ونستدرك الحال مع طلاب العلم في أن نشجع الطلاب النابهين للحضور عند دروس المشايخ الشاملة، ولا يقتصر على فن واحد، فإن وجد عند شيخ من المشايخ الشمولين وإلا فينبغي أن ينوع، فيحضر عند هذا الشيخ درساً وعند الآخر الدرس الثاني، حتى نخرج شخصيات متكاملة، ولذلك أقول: الأمة مقبلة على كارثة في هذا الجانب، فمسألة طلب العلم صارت تخصصات، فإذا ذهب هذا الجيل الذي بقي منه حبيبات الجيل التخصصي الشامل جيل الراسخين في العلم ماذا ستتصورون؟ وعندنا علماء لكنهم ليسوا علماء شمولية، هذه حقيقة خطيرة ينبغي أن نشجع طلاب العلم الذين يأخذون من عموم المشايخ ونركز على أن يطلبوا العلم الشمولي. كما نحثكم على قراءة كتاب الحداثة في ميزان الإسلام، وهو كتاب جيد وأثنى عليه سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[8]

شرح كتاب فضل الإسلام [8] الإسلام هو دين الفطرة التي هي دين إبراهيم ودين جميع الأنبياء عليهم السلام، وهي تعني إخلاص العبادة لله تعالى دون من سواه، ومن خرج عن الفطرة وتنكب الصراط المستقيم فقد عرض نفسه للعذاب، وليأتين يوم يذاد فيه عن الحوض أقوام بدلوا وغيروا، وارتدوا على أدبارهم، فيقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: سحقاً سحقاً لمن غير وبدل.

أدلة الفطرة من الكتاب والسنة

أدلة الفطرة من الكتاب والسنة قال رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]. وقوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]. وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل نبي ولاة من النبيين، وأنا وليي منهم أبي إبراهيم وخليل ربي، ثم قرأ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:68] رواه الترمذي). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). ولهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن إلي رجال من أمتي، حتى إذا أهويت لأناولهم احتجبوا دوني، فأقول: أي رب! أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك). ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواني الذين لم يأتوا بعد، قالوا: فكيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك؟ قال: أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهراني خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى، قال: فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال يوم القيامة عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم، فيقال: إنهم بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً). وللبخاري: (بينما أنا قائم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة فذكر مثله قال: فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم). ولهما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117])]. بوب الشيخ لهذا الموضوع بالفطرة: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا)) الذي هو دين الفطرة، وقد ذكر وبيّن ذلك من خلال الأحاديث فأراد في هذا الفصل أن يبيّن أن الإسلام هو الفطرة، وأنه هو الحنيفية ملة إبراهيم، وهو وصية إبراهيم عليه السلام، ثم بدأ الباب بالآية وهي قوله عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]. والدين القيّم هو الدين المستقيم، دين الله عز وجل، وهو ما جاء به جميع الأنبياء بمقتضى هذه الفطرة، سواء في جانب الاعتقاد أو في أصول التشريع، إنما الاختلاف في فروع الشريعة وفي الأحكام التفصيلية، أما في مجملات الدين الذي يتمثل في العقيدة وفي أصول الأحكام وتحقيق الغاية الكبرى من الخلق وهو عبادة الله عز وجل، ثم أيضاً تحقيق الأصول الكبرى مثل العدل والفضيلة والصدق والوفاء والأمانة ونحو ذلك هذا كله مقتضى الفطرة وكله جاء به جميع الأنبياء، وهو ملة إبراهيم ومن قبله ومن بعده.

معاني الإسلام

معاني الإسلام ثم ذكر أن ذلك وصية إبراهيم وهو الإسلام في كل زمان بحسبه؛ لأن الإسلام مسمى لهذا الدين الذي أنزله الله عز وجل في كل أمة حسب وقتها وما أرسل الله إليها، ووصية إبراهيم {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] وهذه الوصية تعني التزام الإسلام كما هو آخر الآية ((فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) والإسلام هو دين الله الذي أرسل به جميع الرسل، ثم إن الإسلام يعني جميع ما جاءت به الرسل في أوقاتهم، ومن هنا فإن الإسلام بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ينطبق على معنيين: المعنى الأول: الإسلام العام الذي هو العقيدة والأصول التي جاء بها جميع النبيين، وهذا أمر لا يختلف فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عما جاء به غيره من لدن نوح إلى خاتم النبيين كله واحد. والمعنى الثاني: الإسلام بالمعنى الخاص وهو ما يضاف إلى ذلك من الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي هي مهيمنة وناسخة للشرائع السابقة. إذاً: فالإسلام بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إنما يعني هذا المعنى وهو: الإسلام الخاص، ولا يعني ذلك أن نخرج الأمم من مسمى الإسلام، فآدم وذريته مسلمون إلا من انحرف فيما بعد عن الإسلام، ونوح وأتباعه مسلمون، وإبراهيم وأتباعه مسلمون، وبنوه الذين بعثهم الله وجعل النبوة في ذريته ذرية يعقوب وذرية إسحاق وذرية إسماعيل، وأغلب أنبياء بني إسرائيل من ذرية إسحاق، لكن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل، فهم فيهم النبوة، وكلهم جاءوا بالإسلام، وكلهم وأتباعهم مسلمون، لكن بعدما اندثرت الشرائع وطالها التحريف ووقع أتباعها في الجهل والفرقة والتحريف والتبديل نسخ الله ذلك كله وأبدله بهذا الدين وبهذا الإسلام، فصار الإسلام يعني هذا الإسلام الخاص الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يسع أحد من الناس بأن يدّعي أنه مسلم بمجرد أن ينتسب إلى نبي كما هي الدعوى الحاصلة الآن من رافعي لواء التقريب بين الديانات الكتابية أو ما يسمى بالديانات الإبراهيمية، فإنهم زعموا أن هؤلاء كلهم على الإسلام؛ لأنهم أتباع الأنبياء، وهذا خطأ، بل ضلال مبين، ومن أعظم الضلال والتلبيس، فإنا كما نؤمن بموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كلهم أوصوا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث، فلا يجوز أن نتبع غيره ولا أن نعترف بالإسلام أو بأن من حاد عن هذا الدين على الحق، لا نعترف لأحد بالإسلام إلا من كان على هذا الدين، ولا أنه على الحق إلا من كان على هذا الدين، وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (والله لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار). ثم ذكر قوله عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] وهذا في جانب الاعتقاد، أما في الشريعة فإن الله عز وجل جعل لهذه الأمة شريعة خاصة.

أولى الناس بإبراهيم عليه السلام

أولى الناس بإبراهيم عليه السلام ثم ذكر حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل نبي ولاة من النبيين، وأنا وليي منهم أبي إبراهيم خليلي وخليل ربي، ثم قرأ قوله عز وجل: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:68]). ويعني هذا أن دعوى بني إسرائيل بأنهم هم أولياء إبراهيم هذه دعوى باطلة، وكذلك دعوى أصحاب القوميات والنزعات القومية العرقية الذين يدعون أن اجتماع العرب واجتماع الأمم ينبغي أن يكون على مثل هذه السلالة، وأن الأخوة بين البشر ينبغي أن تنبني على مثل ذلك، حتى ادعوا أن بني إسرائيل المعاصرين من اليهود إخوة للمسلمين؛ لأنهم كلهم يرجعون إلى إبراهيم عليه السلام، وهذا خطأ، لأن الله عز وجل إنما أشار إلى أن الولاية للذين اتبعوه {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران:68] لا الذين انتسبوا إليه بالنسب، ومع أننا نلتقي مع بني إسرائيل الذين هم اليهود نسباً بإبراهيم عليه السلام، لكن لا يعني ذلك أن هذا هو طريق الولاية، فالولاية لا تكون إلا بالإيمان والتقوى، ولا تكون إلا باتباع ملة إبراهيم التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم ((وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)) جميعاً، أي: الذين اتبعوا إبراهيم على هذا النهج، وكذلك اتبعوا هذا النبي الذي هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية من الآيات المحكمة في تقرير الولاية وتقرير الولاء للمسلم، فلا يجوز للمسلم أن يوالي إلا على الدين، ولا يوالي على دين إلا على دين الإسلام، وأن الذين ينحرفون عن هذا الدين الذي هو الإسلام ليسوا أولياء لا لإبراهيم ولا لغيره من النبيين، بل النبيون براء منهم، والمؤمنون يجب أن يتبرءوا منهم، ويجب أن يكون هذا الحد من الأمور الواضحة عند كل مسلم، فلا يوالي إلا على الدين، ولا يوالي إلا على النهج السليم الذي هو مقتضى السنة، ولذلك لا تحصل للمسلم ولا لغيره الولاية لله عز وجل إلا بالإيمان، ولا يمكن لأحد أن يدّعي دعوى صحيحة أنه من أتباع إبراهيم ولا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم إلا إذا التزم هذا الدين، وهذا يقتضي بالضرورة البراءة من عكس ذلك والبراءة ممن لم ينتسب لهذا الدين الحق.

الفطرة هي موافقة العمل الصالح

الفطرة هي موافقة العمل الصالح ثم ذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). وهذا يفيد أن المعوّل في الحكم بالصلاح والاستقامة وتحقيق رضا الله عز وجل وتقواه هو التقوى والعمل الصالح، وليس المظاهر ولا الأموال، فالأموال والأجسام والصور يعطيها الله عز وجل جميع العباد المسلم والكافر، إذاً: المعوّل على ما في القلوب والأعمال من الإيمان بالله عز وجل والتقوى والإحسان والاستقامة وسائر الأعمال القلبية التي يتحقق بها الإيمان الحقيقي الذي أراده الله عز وجل، وأيضاً الأعمال لا تصح إلا على مقتضى دين الله عز وجل. فإذاً: الولاية لله لا تكون إلا بذلك؛ لأن معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم) بمعنى أن الله عز وجل لا يبالي بغير ذلك، ولا تنال ولاية الله إلا بالتقوى والعمل.

مآل من خرج عن فطرة الإسلام

مآل من خرج عن فطرة الإسلام ثم ذكر عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن إلي رجال من أمتي، حتى إذا أهويت لأناولهم احتجبوا دوني، فأقول: أي رب! أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك). فهذا الحديث ونحوه من الأحاديث المشابهة تعتبر من النصوص التي تشتبه معانيها، ولا بد من ردها إلى نصوص أخرى، والاشتباه آتٍ من أن أهل الأهواء استدلوا بمثل هذا الحديث على أن الصحابة ارتدوا، وهذا استدلال خاطئ ومبني على أن أهل الأهواء لا يردون النصوص إلى النصوص الأخرى، ولا يفسّرون النص بنص آخر، أو يردون النصوص إلى القواعد الشرعية التي تفسرها وتبينها، فإن هذا الحديث وأمثاله جاء على عدة ألفاظ وعلى عدة معانٍ تقتضي أن نفسّر هذا الحديث بغيره، وهذا الحديث لا بد أن يخصص هذه الفئة الذين يرتدون، والمخصص هو الأحاديث الأخرى التي فيها تزكية الصحابة رضي الله عنهم وأن الله رضي عنهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي عنهم وقد زكاهم وأمر بعدم سبهم، وعلى ذلك فإنا لا بد أن نفسّر الحديث بمقتضى نصوص أخرى كما سيأتي. إذاً: الحديث من يعني من فئة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ بعض أهل العلم قال: إن هذا فيه إشارة إلى المنافقين ممن كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتظاهرون بأنهم أصحابه، وهؤلاء لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وبعضهم قال: إن هذا لا يعني الردة، وهو الراجح، وإن وردت في بعض ألفاظه: (ارتدوا) وارتدوا بمعنى تراجعوا أو تركوا بعض الحق لا ارتدوا عن الإسلام، فيحمل الحديث على معنى آخر، وهو أن المقصود به الذين وقعوا في أخطاء عن اجتهاد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ممن كانوا في وقته لكنهم يذادون عن الحوض فقط، ولا يعني ذلك عدم دخولهم الجنة، فهم يعاقبون بذنوب كسائر الذنوب التي يقع فيها المؤمنون، فهم قد يكونون ممن كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا احتمال بعيد، لكن ليسوا من أصحاب الردة أو البدع أو الأهواء والافتراء، إنما ممن وقعوا في معاصٍ أو مخالفات للسنة، فيذادون عن الحوض ولا يشربون لكنهم يدخلون الجنة، وهذا يؤيده القول الراجح في أن الحوض بعد الصراط، ونحن نعلم أن من تجاوز الصراط لا بد أن يدخل الجنة، لكن قد يحصل له قبل دخول الجنة أمور، منها: أن توصد أبواب الجنة أمام الكثيرين من المؤمنين، وأيضاً بعض المؤمنين قد لا يشربون من الحوض عقوبة لهم على ذنوب عملوها، لكنهم نجوا بغيرها فعوقبوا عقوبة جزئية لا تحرمهم من الجنة، لكن تحرمهم من بعض النعيم قبل دخول الجنة، وهذا على احتمال أن المقصود به أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الاحتمال الراجح والذي يفسره النصوص أن المقصود بـ (أصحاب) هنا الأتباع وليس المقصود بالأصحاب الصحابة، لأن أمة النبي صلى الله عليه وسلم كلهم أصحابه وإن كان فسّر ذلك في حديث آخر حينما قال: (أنتم أصحابي) فنقول: إن المقصود هنا بالأصحاب المعنى الخاص، والأصحاب هناك يقصد المعنى العام، ولا شك أن الصحبة لها معنى خاص ومعنى عام، فالأصحاب قد تطلق على الأتباع حتى على مقتضى اللغة العربية، وجاءت بعض الألفاظ الشرعية تدل على أن الأصحاب هم الأتباع الذين هم الأمة، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم جملة أمته، وصحابته الذين عاشوا في عصره لهم صحبة أخص؛ فإذاً: المقصود بالأصحاب هنا المعنى اللغوي العام، وهو أنهم من أمته. ولذلك عندما يأتي مثل حديث أبي هريرة التالي قوله صلى الله عليه وسلم: (وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي) فالأصحاب هنا بمعنى الصحبة الخاصة، لكن الإخوان لا يخرجون من المعنى العام للأصحاب، وهذا هو الظاهر على مقتضى القواعد الشرعية واللغة العربية (الذين لم يأتوا بعد، قالوا: فكيف تعرف من لم يأت بعد) إلى آخره، ثم ذكر وصف أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم غر محجلون، تظهر آثار الوضوء على جباههم وأيديهم وأرجلهم، وهذه من فضائل هذه الأمة وتدخل في فضائل الإسلام التي أشار إليها الشيخ في العنوان. وفي الحديث الآخر الذي رواه البخاري: (بينما أنا قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم، فقلت: أين؟ فقال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة) إلى آخره، فقوله: (ثم زمرة) يدل على أن هذا يحصل في أجيال بعد الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الحديث لا يدل على الردة عن الإسلام، وإن كان يحتمل هذا المعنى، لكن ظاهره أن المقصود به الارتداد عن الحق بمعنى التفريط وبمعنى الإخلال لا بمعنى أن ينهدم الإسلام في نفوسهم، هذا هو الظاهر؛ لأن هذه من نصوص الوعيد. ثم قال: (فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)، هذا يدل على أنه ليس المقصود بهم الصحابة؛ لأن الصحابة جملتهم ناجون بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم

[9]

شرح كتاب فضل الإسلام [9] ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، هذه الفطرة هي التوحيد والإسلام بمعناه العام، فإذا نشأ العبد على الإسلام تحقق له الإسلام الخاص بتفاصيله المعروفة. ولابد أن تأتي الفتن وتظهر خاصة في آخر الزمان، فإذا ظهرت فعلى المؤمن ان يلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فليعتزل تلك الفرق كلها ولو أن يعض على أصل شجرة حتى يأتيه الموت.

معاني الفطرة والحنيفية

معاني الفطرة والحنيفية قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [(ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها)، ثم قرأ أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]، متفق عليه. وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وأنا أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. فقلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. فتنة عمياء ودعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا. قال: قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا. قلت: يا رسول الله! ما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك) أخرجاه. وزاد مسلم: (ثم ماذا؟ قال: ثم يخرج الدجال معه نهر ونار، فمن وقع في ناره وجب أجره وحط عنه وزره، ومن وقع في نهره وجب وزره وحط أجره. قلت: ثم ماذا؟ قال: هي قيام الساعة). وقال أبو العالية: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا عن الصراط يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وإياكم وهذه الأهواء. انتهى. تأمل كلام أبي العالية رحمه الله تعالى هذا ما أجله واعرف زمانه الذي يحذر فيه من الأهواء التي من اتبعها فقد رغب عن الإسلام، وتفسير الإسلام بالسنة والإسلام، وخوفه على أعلام التابعين وعلمائهم من الخروج عن السنة والكتاب، يتبين لك معنى قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]، وقوله: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130]. وأشباه هذه الأصول الكبار التي هي أصل الأصول والناس عنها في غفلة، وبمعرفته يتبين معاني الأحاديث في هذا الباب وأمثالها، وأما الإنسان الذي يقرؤها وأشباهها وهو آمن مطمئن أنها لا تناله، فيظنها في قوم كانوا فبانوا، {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثم قال: هذه سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]) رواه أحمد والنسائي]. هذا الكلام والنصوص متمم لما سبق تحت الباب الأصل وهو، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم:30]، وهنا ساق الشيخ عدة نصوص وأقوال وآثار للعلماء هي امتداد لتفسير معنى الحنيفية والدين، وأيضاً ما أمر الله به من الاستقامة على الفطرة والإسلام، وللشيخ وقفات عجيبة ولمحات تدل على قوة فقهه في السنة والنصوص، فهو أورد الحديث ليبين أن الإسلام هو دين الفطرة (ما من مولود يولد إلا على الفطرة). ثم أشار إلى أن الأصل في الناس كلهم أنهم على الفطرة، وعلى الإسلام بمعناه العام، فإذا وفق الإنسان لأن ينشأ في بيئة مسلمة ويتربى على يد أبوين مسلمين فإنه يتحقق له الإسلام بمعناه الخاص وهذه درجة ثانية، ودرجة ثالثة وهي إذا وفق العبد للاستقامة على السنة وربي عليها وبقي له معنى الإسلام الصحيح الكامل وإن لم يوفق فقد ينحرف عن السنة ولو لم يخرج من مسمى الإسلام بمفهومه العام الشامل، ولذلك لما تكلم الشيخ بعد ذلك عن هذه الأمور فصل فيها على هذا النحو.

تأملات في حديث حذيفة: (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني)

تأملات في حديث حذيفة: (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني) ثم ذكر حديث حذيفة رضي الله عنه في مسألة موقف المسلم من الفتن إذا كثرت، ومن غربة الإسلام إذا صارت، وقد كثر كلام أهل العلم حول هذا الحديث وما الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما أخبر وأوصى حذيفة ووصى بعض الصحابة بمثل هذه الأمور أوصاهم على أمر سيكون، لكن إذا تأملنا الوصاية التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وجدناها تخصص بأحوال؛ لأن هناك نصوصاً أخرى تفسر معاني هذه الوصاية، فلو تأملنا قوله صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن الشر الذي كان قبل الجاهلية وهل سيحدث مثله أو سيعود مرة أخرى: (فهل بعد هذا الخير) أي: هذا الإسلام الذي جاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل (هل بعده من شر؟ قال: نعم) وبهذا نفهم أنه ليس المقصود بالشر عودة الجاهلية بكاملها لكنه شر نسبي، وهذا التفسير يشمل نصوصاً وأخباراً كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: نفي الإسلام عن بعض الأحوال، ونفي الإسلام عن بعض الأشخاص، ونفي الإسلام عن بعض الفئات، لابد أن يخصص لما جاء له، كذلك سيكون شر لكنه نسبي فتنة أو فتن تقع لكنها لا تزيل جذور الإسلام ولا تستبيح بيضة الإسلام والمسلمين، إنما هو أمر جزئي يقع لفتنة عارضة أو لأمور تحدث في بعض فئات المسلمين دون البقية، ودليل ذلك: الأخبار المؤكدة بأن الله عز وجل سيحفظ هذا الدين، والأخبار المؤكدة بأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، حتى مع وجود الشر النسبي الذي سيكون على طوائف من الأمة أو يكون في أحوال تكون الفتنة هي السائدة، ولكن هذه ومضات وإلا فالخير باقٍ إلى قيام الساعة وإلى أن يقاتل المسلمون الدجال كما في آخر الحديث. إذاً: لابد من تخصيص مثل هذه النصوص التي تحكي وجود الشر، وهيمنة الفتنة والغربة لابد من تخصيصها بالنصوص الأخرى وتفسيرها بالنصوص الأخرى. ولذلك لما قال: (وهل بعد الشر من خير؟) معناه أنه يمر على الأمة مراحل تسود فيها الفتن ويسود فيها بعض الشرور، لكن تبقى جذوة السنة وتبقى الطائفة المنصورة ويبقى الحق ظاهراً بيناً كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (تركتكم على المحجة أو على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، فهذه البيضاء معناها أنها كالشمس الطالع لا تغيب فالشمس الظاهرة لا يمكن أن تخفى على الناس، (فقال: نعم، وفيه دخن)، فلو أخذنا أنموذجاً لتطبيق هذا الحديث لوجدنا أنه بعد هذا الحديث حدثت فتنة في عهد عثمان رضي الله عنه وهذه الفتنة صار فيها شيء من الأمور التي جعلت بعض الصحابة لا يستطيع أن يجزم بالحق في أمر ما حدث بين الأمة فوقفوا؛ فمنهم من أخذ بهذه الوصية واعتزل؛ لأنه لم يستبصر الأمر فاعتزل لكن هذا الاعتزال لم يحكم الأمة كلها، فمن الصحابة من استبصر الأمر وصار الأمر عنده واضحاً كما حدث من علي رضي الله عنه ومن كانوا معه، ومنهم من تأول كـ معاوية رضي الله عنه ومن كان معه، ومنهم من قال: لا أدري؛ لأن هؤلاء صحابة وهؤلاء صحابة وليس عندنا ما نجزم به، وهؤلاء يريدون الحق ولا نستطيع أن نتهم دين أحد، فهؤلاء عملوا بمقتضى الحديث في ذلك الوقت المبكر. لكن أثناء تطبيقهم لمقتضى الحديث: هل زال الإسلام وزالت السنة؟ لا، الإسلام كان قوياً والسنة كانت ظاهرة، لكن بعد هذه الفتنة وبعد انجلائها تبين الأمر أكثر من قبل، وأعقبها خير، والخير الذي فيه الدخن هو ظهور الفرق. فالخير يكون فيه دخن ولبس وخلط، أي: يعرفون فيه نوعاً من المخالفات والبدع، ويكون الناس يرجعون للإسلام ولكن يبقى مخالفات البدع في طوائف من الأمة وليس في كل الأمة، ولذلك ينبغي أن نحذر من تفسير بعض المعاصرين لهذا الحديث حين قال: يجب أن نقبل من المسلمين ما هم عليه، فصاحب البدعة نقبل بدعته، وصاحب الفساد والفسق والفجور نقبل منه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه سيعود الخير وفيه دخن، فلابد أن نقبل ما عند الناس ولا داعي أن نقول: السنة هكذا أو الحق هكذا أو النهج الذي كان عليه السلف هو الذي ينبغي أن يلتزم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الحق أو الخير يعود وفيه دخن! نقول له: لا، هذا فقه قاصر، فليس كل الحق يكون فيه دخن، إنما معنى ذلك أنه بعد الفتن وبعد ما يحدث على الأمة أحياناً في بعض الظروف تخرج طوائف من الأمة عن السنة، فهذا الدخن في مجموع الأمة لا في كلها، فبعد الفتنة على عثمان رضي الله عنه وبعدما حدث الشجار بين الصحابة ظهرت فرق، وهذه الفرق هي الدخن، لكن بقية المسلمين على السنة وليس في عقائدهم لبس، ولا عندهم دخن في الدين، بل كانوا على السنة الظاهرة. ثم فسر الدخن، (قال: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر) وهم أهل البدع والظلم والفسق والفجور وهذا يدل على أن

لزوم جماعة المسلمين عند ظهور الفتن

لزوم جماعة المسلمين عند ظهور الفتن أيضاً: في قوله صلى الله عليه وسلم: (تلزم جماعة المسلمين)، لما قال: (قلت: يا رسول الله! ما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، وهذه وصية عامة لكل مسلم يحدث له مثل ذلك في أي زمان وفي أي مكان إذا رأى الأمر يوجد فيه شيء مما يخفى فيه الحق، فإذا حدثت فتنة بين المسلمين أياً كان نوع هذه الفتنة، فعليه أن يلزم ما عليه جماعة المسلمين؛ لأن كلاً يدعي أنه الجماعة، وفي الأزمنة الأخيرة خصوصاً ضاعت مسألة المفاهيم الشرعية في أذهان الناس، فقد يقول قائل: ما الجماعة؟ وهذا حق وكل يدعي اليوم مفهوم الجماعة فظهرت نابتة تدعي أن المسلمين كلهم هم جماعة مسلمة، وأن الفرق المفارقة هي أولى بأن تكون جماعة المسلمين ممن يسمون السلف، وهذه دعوى من أكبر الدعاوى العريضة الفاتنة للناس، ولكن هناك ضابط شرعي للجماعة، فالجماعة لها مفاهيم كلها ينطبق عليها هذا الوصف، ومن هذه المفاهيم أولاً: أن جماعة المسلمين هم الذين اجتمعوا على إمام له بيعة، والمسلم يجمع على البيعة، فهذه من الأوصاف التي تعرف بها الجماعة، حتى وإن كانوا على رأي مرجوح، وإن كان فيهم شيء من الخلل والتقصير ما دامت كلمتهم مجتمعة على إمام مسلم، فلابد أن تتمثل بهم الجماعة في مثل هذه الوصية التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وأوصى بها. ثانياً: أن جماعة المسلمين يتمثلون بأهل الحق، وأهل الحق أيضاً دعوى ولكن نعرفها بما كان عليه العلماء أصحاب الثقة والرسوخ العلماء، والعلماء أيضاً وصف اعتباري له شروطه وضوابطه، يهبه الله عز وجل لمن يشاء ممن يوفق بأن يكون له من العلم والفضل والاعتبار في قلوب المسلمين، فالعالم القدوة الذي يكون له الرأي هذا معنى من معاني جماعة المسلمين ولا ينفك عن الأول، فالمسلمون الذين تحت إمام أو حاكم مسلم لابد أن يمثلهم علماؤهم، فيجتمع المعنيان على هذا المعنى، جماعة المسلمين الذين لهم بيعة بإمام مسلم ومن فيهم من العلماء هم داخلون على رأس الجماعة، ثم يدخل في مفهوم الجماعة من يصدرون عن العلماء وعن الحاكم المسلم من أهل الحل والعقد أهل الرأي والمشورة من أمراء وولاة وقواد ورؤساء عشائر ومطاعون في الأمة، هؤلاء يتمثل بمجموعهم جماعة المسلمين أو في بعضهم إذا فقد البعض الآخر، فقد تجتمع هذه المعاني جميعاً أو بعضها. إذاً: المسلم إذا أشكل عليه أمر وظهرت الأقوال المتضاربة وظهرت الفتنة، عليه أن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم على حالهم التي كانوا عليها بعيداً عن النظرة المثالية كما يحدث من بعض الناس الذين يجهلون أحكام الشرع، وبعيداً عن العواطف وبعيداً عن الاعتداد بالرأي. ومما ينبغي التنبه له: أن الجماعة في بعض الأزمان والأمكنة التي يجب الاعتصام بها قد لا تكون على الحال الأمثل وقد لا تكون في خلافة راشدة، قد تكون في ملك عضوض وقد لا يكون العلماء فيها بالصورة التي نسمع بها في القرون الثلاثة الفاضلة، وقد لا يكون الناس في جملتهم على الاستقامة، وقد يكون عندهم شيء من الانحرافات في الجملة لكن لا يضيع الحق بينهم.

العزلة زمن الفتن

العزلة زمن الفتن ثم ذكر الشيخ بعد ذلك توجيهاً آخر فيما إذا لم يجد المسلم في بيئة من البيئات أو مكان من الأمكنة جماعة ولا إماماً، وهذا قد ينطبق على عصرنا أكثر من غيره، فقد مر على المسلمين فترات في السابق ويحدث في بعض الأزمان والأمكنة مثل هذا الحال لا يكون للمسلمين في بلد ما أو في مكان ما، لا جماعة ولا إمام ولكنه في زماننا أكثر، وقد يوجد في بعض بيئات المسلمين وفي بعض الأمكنة وفي بعض الظروف أن المسلم عندما يتأمل يجد أنه لا يتحقق في البيئة التي هو فيها معنى الجماعة الشرعي ولا الإمام، ولكن هذا لا يكون في الأمة كلها لوجود طائفة على الحق ظاهرين، والأمة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا يضيع الحق، وأن الحق يبقى كالبيضاء ليلها كنهارها إلى آخره من النصوص التي نجزم قطعاً بأن الحق لا يضيع في مجموع الأمة بكل مكان وفي زمان واحد لا يمكن إلى أن تقوم الساعة، لكن الحديث يحكم حالات محدودة لأفراد محدودين وفي بيئات محدودة وفي زمن محدود، فإذا حدث مثل ذلك فعلى المسلم أن يعتزل هذه الفرق؛ لأنه لا يجد واحدة على السنة ولو وجد واحدة على السنة لما وسعه أن يعتزل، ويجوز له أن يعتزل، لكن ما وجد أحداً على السنة، ولا وجد إماماً يسمع له ويطيع ويخضع، فمن هنا عليه أن يعمل بهذه الوصية، وهذه حالات نادرة تحدث في الأمة. قال عليه الصلاة والسلام: (فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك) ولذلك لما تأول بعض الصحابة رضي الله عنهم ما شجر بين الأمة في ذلك الوقت ونظروا في فقه هذا الحديث أبعدوا عن الحاضرة وذهب بعضهم إلى البادية والأرياف بعيدين عن المدن، واعتزلوا الفتنة أخذاً بمثل هذه الوصية، لكن ليس لجميع أفراد الأمة وإنما لمن لم يستبن له الأمر. ثم ذكر بعد ذلك قال: (ثم يخرج الدجال معه نهر) وهذا فيه إشارة والله أعلم إلى أن الحال الأخيرة تحدث قبيل ظهور الدجال أكثر من غيرها، وإلا فإنها تحدث على فترات التاريخ، ثم قبل خروج الدجال.

الصراط المستقيم هو الإسلام

الصراط المستقيم هو الإسلام أما قول أبي العالية: (تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام) كلمة الإسلام يقصد بها في الأولى السنة وقصد بالثانية الإسلام بمفهومه العام. ولا يعني ذلك أنه حصر الإسلام بمفهومه العام بالسنة، لكنه حصر الحق النقي من البدع والشوائب بالسنة؛ لأنه في سياق هذه النصوص أراد أن يشير إلى أنه عند الاختلاف والفتن وعند الأهواء والبدع ودعاة الضلالة فإن الإسلام الحقيقي الذي أمر الله به يتمثل بالسنة؛ لأن من لم يكونوا على السنة أدخلوا في الإسلام ما ليس منه، وزعموا أنه من الإسلام، فليس هذا هو الإسلام المطلوب وإن كان المخالف بما أحدثه لا يخرج به من الإسلام بالجملة إلى الردة، لكنه يخرج به من المفهوم الصحيح النقي للإسلام الذي هو الصراط المستقيم. ثم قال: (ولا تنحرفوا عن الصراط يميناً ولا شمالاً وعليكم بسنة نبيكم وإياكم وهذه الأهواء) انتهى. ثم ذكر استنتاجاً من كلام أبي العالية قال: (وتأمل كلام أبي العالية هذا وما أجله واعرف زمانه الذي يحذر فيه من الأهواء)، فإنه يلفت نظرنا إلى المقارنة فكأنه يقول: إذا كان أبو العالية ذكر هذا في وقت مبكر وأبو العالية من كبار التابعين في وقت مبكر في القرن الأول، فكيف بعصرنا هذا المليء بالأهواء والتي من اتبعها فقد رغب عن الإسلام. وتفسير الإسلام هنا هو السنة. والشيخ يقول: إنه لما بدأت تظهر الأهواء في عهد أبي العالية فسر الإسلام المطلوب شرعاً بالسنة؛ لأن الأهواء حدثت وكل يدعي الإسلام، فلابد من حصر المفهوم الحقيقي الشرعي للإسلام النقي المطلوب من العباد بالسنة، أما ما حدث من أهل الأهواء والبدع فليس هو الإسلام بمفهومه النقي الصحيح وخوفه على أعلام التابعين وعلمائهم من الخروج عن السنة والكتاب، يتبين لك معنى قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} [البقرة:131] أي: لإبراهيم. ثم ذكر وصية ابن مسعود (أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]) وفي هذا بيان لمعنى السنة، وأن السنة لا تتعدد، وفيه رد على أهل الأهواء قديماً وحديثاً والمفتونين الذين لم يميزوا بين الحق والباطل ولا بين المحق من المبطل، رد عليهم بأنه ليس كل من انتسب للإسلام يكون على سبيل الله، وأن أهل الأهواء والبدع خرجوا عن السبيل التي هي سبيل الله، وأنهم اتبعوا السبل ذات اليمين وذات الشمال، وهذا إشارة إلى الإفراط والتفريط، فالذين غلوا والذين تساهلوا، كغلو الخوارج وتساهل المرجئة هؤلاء سلكوا ذات اليمين، وهؤلاء سلكوا ذات الشمال عن صراط الله المستقيم. إذاً: فسبيل الله الذي هو دين الحق الصافي هو سبيل واحدة، والفرق التي خرجت عن السنة من فرق المسلمين ليست على سبيل الله إنما هي على سبل الأهواء والبدع وعلى سبل الشيطان حتى وإن لم تخرج بذلك من الملة، وهذا الفهم لابد من بثه بين أذهان الناس اليوم؛ لأن بعض شبابنا فتن في هذه المسألة بدعوى أن أهل الأهواء ما داموا ما خرجوا؛ فهم على الإسلام، وهذا كلام مجمل، نعم هم على الإسلام لكن هل هم على ما يرضي الله عز وجل؟ هل هم على سبيل الله؟ هل هم على السنة؟ لأنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الافتراق ذكر أن أهل الافتراق متوعدون بالنار، وحذر من هذه السبل، وبين أنها ليست على السنة، وأن السبيل الحق واحدة كما ذكر في حديث ابن مسعود في الخط واحدة، فمن هنا نجزم أنه لا يبقى على الحق والاستقامة إلا أهل السنة والجماعة الذين هم على سبيل الله، أما البقية فهم على غير السنة، وعلى غير استقامة، وفي سبل الشيطان، نسأل الله السلامة والعافية، وهم معرضون للوعيد وإن خرجوا من الملة، فهم من أهل الردة نسأل الله العافية. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الانتخابات التي تجري في البلدان الإسلامية اليوم

حكم الانتخابات التي تجري في البلدان الإسلامية اليوم Q هل يعد ترشيح رئيس معين عن طريق الانتخابات بيعة يلزم المسلمين اعتمادها وعدم الخروج عليها؟ A الولاية والإمارة في الإسلام والخلافة والسلطة تحدث بعدة وجوه، وبعضها حدث في الإسلام وبعضها ربما لم يحدث لكن يبقى من الوجوه المفترضة، فهناك بيعة الطائفة من المسلمين وهم أهل الحل والعقد كأن يجتمع العلماء وقواد الأمة وأهل الرأي فيها فيبايعون الإمام، فهذه تكون طريقاً من طرق البيعة أحياناً، وقد تكون البيعة عن طريق الترشيح العام، كأن يطرح الاسم أو الأسماء على جميع الأمة أو على جميع المجتمع أو الدولة فيخرج بالأصوات وهذا إذا كان الإمام مسلماً ثم تمكن بهذه الطريقة فله حق الولاية، وإن كانت هذه الطريقة عليها مآخذ شرعية؛ لأن دخول الدهماء والغوغاء هم أكثر الناس في كل بيئة، في كل مكان وفي كل زمان، فإذا فتح باب الترشيح من الغوغاء وهم الأكثرية فالغالب أنهم يرشحون بأهوائهم ويغرر بهم. ولذلك لما اتخذت بعض الدول الإسلامية هذا المسلك رشحت فسقة ونساء، فالدول التي ترشح النساء كان عن طريق هذه الطريقة المعيبة، وهذه الطريقة وإن كان يتشدق بها المثقفون فيجوز للأمة أن يتاح لهم فرصة أن يرشحوا أهل الحل والعقد والرأي والمشورة، أما البقية فلهم عقول مشتراة، اشتراها الشيطان والهوى وأصحاب الأحزاب والشعارات، لكن إن حدث وتوافرت شروط الإمامة في هذا الإنسان على ما ذكر السائل وتمكن بهذه الطريقة فقد وجب له السمع والطاعة وصحت بيعته بأي وجه من وجوه الولاية، سواء من وال إلى والٍ آخر، أياً كان صورة العهد مثل عهد أبي بكر لـ عمر أو عهد معاوية رضي الله عنه لـ يزيد فذاك عهد خلافة، وهذا عهد ملك، وكلها صحت في الأمة، وكلها اندرجت تحت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وفي وصيته بالسمع والطاعة، فعلى أي حال ما يتسع الوقت لسرد الصور التي تكون فيها، بل علماء السنة اتفقوا على أنه لو بغى إنسان على الإمام -رغم أن هذا خروج عن السنة- وقاتل وتمكن على الأمة بقوة السيف ولا يستطيع الناس إزالته وهو مسلم صارت له البيعة، وإن كان ارتكب أمراً لا يجوز، ولا يجوز للأمة أن تسلك هذا المسلك. إذاً: الصور الكثيرة تنتهي إلى أنه إذا تمكن إمام مسلم من أن يكون والياً على بلاد المسلمين في أي صورة من صور التمكن، سواء كانت مشروعة برضا الأمة أو بغير رضاها، فإذا تمكن وصارت له الغلبة وجب له السمع والطاعة والبيعة.

الكلام عن منهج ابن عثيمين رحمه الله في الدعوة إلى الله

الكلام عن منهج ابن عثيمين رحمه الله في الدعوة إلى الله Q لو كان هناك تخصيص لبعض الدروس يستخلص منها ما تميز به الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في مناهجه في الدعوة في الوقت المعاصر؟ A الكلام عن مناهج العلماء والأئمة في الدعوة طيب ومخيف؛ لأنهم هم القدوة لاسيما في هذا العصر ونحتاج إلى أن نستجلي مناهج علمائنا ومشايخنا، الأموات منهم رحمهم الله والأحياء وفقهم الله على حياة طيبة وعلى مصالح نحن وإياهم، لكن أرى أن هذا إذا كان بعد موت الإمام أو العالم مباشرة أن فيه نوعاً من المخالفة الشرعية، فينبغي أن يكون بعد مدة، والشيخ رحمه الله لا تزال سيرته حية في أذهان كثير من طلاب العلم، والعمل بمثل هذه الأمور وهو قريب عهد فيه شيء من الندبة والنعي الذي لا يجوز شرعاً، خاصة إذا كان فيه تخصيص وقت حتى يطول الوقت ويحتاج الناس إلى التنبيه على هذه المناهج.

مفاهيم حول الطائفة المنصورة

مفاهيم حول الطائفة المنصورة Q ما رأيكم فيمن تنطبق عليه الجماعة المنصورة في هذا الوقت وعلى أي من البقاع؟ A بدأت ترد بعض الآراء الغريبة في مفهوم الطائفة المنصورة ومن تكون وأين تكون إلى آخره، وهذا ما قرره أهل العلم من أن الطائفة المنصورة أو الفرقة الناجية وتعني أهل السنة والجماعة أنه لا يلزم أن يجمعها مكان أو زمان، لكنها قد تتوافر في مكان أكثر من غيره، وإلا فمن كان على السنة والاستقامة في أي بلد كان فهو داخل في الطائفة المنصورة والفرقة الناجية أهل الحق وأهل السنة والجماعة أينما كانوا، سواء في بلاد المسلمين وهذا هو الأولى والأصل، أو كان في غير بلاد المسلمين فهو من الطائفة المنصورة ما دام على نهجهم ويحبهم ويتواصل معهم ومستقيم في عقيدته وعمله على السنة. أما هل يشترط في الطائفة المنصورة أن تكون محكمة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قلباً وقالباً أو قد يوجد بها بعض الخلل أو كثير من الخلل في تحكيم الكتاب والسنة ولكنه أفضل الموجود، أهل السنة والجماعة في جملتهم سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين لابد أن يكونوا على الكتاب والسنة في جملتهم، أما الأفراد فلا يلزم أن يكون الواحد منهم على الاستقامة الكاملة، وأهل السنة والجماعة منهم المقصر، ومنهم من يكون عنده شيء من الإعراض، ومنهم من يكون عنده شيء من الغلو، ومنهم من يكون عنده شيء من البدع غير المغلظة؛ لأن البدع المغلظة تخرجهم من السنة، فيقع في أفرادهم ما يقع للبشر من التقصير والخلل حتى في العقيدة أحياناً، لكن لا يكون في أصول العقيدة فضلاً عن السلوك والتقصير في العبادات أو التشدد أو غير ذلك. إذاً: أهل السنة والجماعة في جملتهم لابد أن يكونوا على مقتضى الكتاب والسنة أما أفرادهم فقد يكون من بعضهم شيء من التقصير، أو شيء من الخروج عن بعض الجزئيات في السنة.

حكم مبايعة المرأة بعد انتخابها

حكم مبايعة المرأة بعد انتخابها Q هل يجوز مبايعة المرأة بعد أن تفوز في الانتخابات؟ A المرأة ليس لها ولاية على المسلمين، فالمسلم لا يجوز له أن يبايع امرأة طائعاً غير مكره، وكذلك بيعة الكافر، بيعة دين لا تجوز، وقد يضطر المسلم وهو في بلد غير مسلم أن يبايع على أمور دنيوية، أما بيعة الخلافة والإمارة التي هي السمع والطاعة على مقتضى الكتاب والسنة فلا تكون للكافر أصلاً.

حجة تعطيل الصفات

حجة تعطيل الصفات Q ما حجة أهل التعطيل عندما قالوا في أسماء الله وصفاته: إنه سميع بلا سمع، عليم بلا علم؟ A هذا كلام المعتزلة؛ لأنهم قالوا: إذا قلنا: لله سمع وعلم إلخ، فهذا يعني تعدد الصفات، وتعدد الصفات عندهم يدل على تعدد الموصوف، فمن هنا نفوا الصفات، وهذا أمر غير معقول، لكن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: بعض الناس يتكلف في رد أصول أهل الباطل ظناً منه أن لها أصلاً ولو أنك نظرت لها بداهة لوجدتها لا يمكن أن يقرها العقل السليم، لكن هؤلاء عقولهم غير سليمة، وقد يقول قائل: كيف وصلت عقولهم التي يعتزون بها إلى هذا المقام من الخروج عن البدهيات، ومصادمة العقل السليم والفطرة وهو قول المعتزلة ومنه: أن تعدد الصفات يدل على تعدد الموصوف؟ وهل هذه قاعدة صحيحة إذا تعددت الصفات حتى في المخلوقات -ولله المثل الأعلى-؟ الإنسان كم له من صفة الجماد وكم له من صفة؟ لكنهم عندهم نظرة لله تجريدية ليست حقيقية، فهم وقعوا في معضلة إذا وصفوا الله بالصفات فلابد أن الصفات تنطبق على ذلك، وهم يهربون من إثبات الذات، وعبروا عن هذا بمسألة تعدد الموصوف؛ لأنهم يقولون: إن الذات لابد أن تتجزأ والله غير متجزئ، وهذه فلسفات تعالى الله عما يقولون، فلسفات أوهام، فمن هنا فإن أهل التعطيل ليس لهم من الحجج إلا الشبهات الواهية التي لا يقرها العقل، وأهم شيء عندهم وقاعدتهم في التعطيل أن الصفات لابد أن تدل على موصوف، وإذا تعددت الصفات تعددت الموصوفات، وهذا لا يجوز بحق الله، وهذا بالنسبة للمعتزلة. أما الجهمية فهم ينكرون ذات الله عز وجل، ولذلك أنكروا الأسماء والصفات؛ لأنهم قالوا: إن الاسم لابد أن يدل على مسمى، والمسمى لابد أن يكون له حقيقة ذاتية، ونظراً لأنه ليس لله عندهم حقيقة ذاتية، نفوا الأسماء والصفات ببساطة، والمسألة ما فيها تعقيد في أولياتها، إنما التعقيد فيما يسلكونه من مسالك إلى مثل هذه الأمور التي تصادم البدهيات. نسأل الله العافية. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[10]

شرح كتاب فضل الإسلام [10] ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، وهم أهل الصلاح المتمسكون بالكتاب والسنة، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، الذي يصلحون إذا فسد الناس، ويصلحون ما أفسد الناس، هؤلاء للعامل منهم في زمن الغربة أجر خمسين عاملاً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

باب ما جاء في غربة الإسلام وفضل الغرباء

باب ما جاء في غربة الإسلام وفضل الغرباء قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في غربة الإسلام وفضل الغرباء. وقول الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116]، الآية. وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)، رواه مسلم، ورواه أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وفيه: (قيل: من الغرباء؟ قال: النزاع من القبائل). وفي رواية: (الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس)، ورواه أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص وفيه: (فطوبى يومئذٍ للغرباء، إذا فسد الناس)، وللترمذي من حديث كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده: (فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي). وعن أبي أمية قال: سألت أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه: (كيف تقول في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم. قلنا: منا أم منهم؟ قال: بل منكم)، رواه أبو داود والترمذي. وروى ابن وضاح معناه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ولفظه: (إن من بعدكم أياماً للصابر فيها المتمسك بمثل ما أنتم عليه اليوم له أجر خمسين منكم). ثم قال: أنبأنا محمد بن سعيد أنبأنا أسد قال: أنبأنا سفيان بن عيينة عن أسلم البصري عن سعيد أخي الحسن يرفعه، قلت لـ سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: (إنكم اليوم على بينة من ربكم، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتجاهدون في سبيل الله، ولم تظهر فيكم السكرتان: سكرة الجهل، وسكرة حب العيش. وستحولون عن ذلك لا تأمرون بالمعروف، ولا تنهون عن المنكر، ولا تجاهدون في الله، وتظهر فيكم السكرتان، فالمتمسك يومئذٍ بالكتاب والسنة له أجر خمسين. قيل: منهم؟ قال: لا، بل منكم). وله بإسناد عن المعافري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طوبى للغرباء، الذين يمسكون بكتاب الله حين يترك، ويعملون بالسنة حين تطفأ)].

ضوابط في معرفة الغربة

ضوابط في معرفة الغربة الكلام عن غربة الإسلام لابد له من ضوابط: منها أنه لابد من رد نصوص الغربة إلى النصوص الأخرى التي فيها الإشارة إلى ضمان بقاء طائفة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم، وهم أهل السنة والجماعة، وهذا يفسر معنى الغربة شرعاً، وعلى هذا فإن حدود الغربة لا يمكن أن تكون بضياع الحق وانعدامه وخفائه، كما أنها لا تكون باستئصال أهل الحق، وهذا أمر قطعي، وبه لابد أن تفسر نصوص الغربة من الوجه الآخر، وهو أن الغربة تأتي على وجوه قد تجتمع وقد يوجد بعضها، ومن وجوه الغربة قلة أهل الحق عددياً، وأحياناً قلة المسلمين عددياً، وقلة أهل الحق أهل الاستقامة بين المسلمين نوع من الغربة، وقلة المسلمين بين الأمم نوع من الغربة؛ خاصة إذا صحب هذا النوع الثاني من الغربة أو النوع الثالث كثرة الخبث وكثرة البدع والأهواء والافتراق والفسق والفجور، فإنه إذا كثر ذلك قلَّ عدد أهل الحق لكن لا يكون ذلك بانعدام وجودهم ولا بضياع الحق ولا بخفاء السنة، لا يمكن أن يكون من الغربة خفاء السنة في العموم ولا خفاء جميع أهل الإسلام، فالغربة قد تكون في بلاد ما، أي: غربة المسلم المستمسك بدينه في بلد كانت إسلامية ثم أصابها ما أصابها، إما من اعتداء الكفار، أو انحراف أهلها إلى البدع والخرافات كما يكون في أقاصي العالم الإسلامي، أقاصي بلاد المسلمين كانت في يوم من الأيام الأصل فيها السنة، والسنة هي الظاهرة والبدعة مقموعة، ثم مع تحولات الزمن أصبح صاحب السنة فيها في غربة شديدة، فهذا يكون في بعض البلاد الإسلامية لا في كلها. وأيضاً قد تكون غربة الإسلام نفسه في بلد كانت إسلامية ثم تحولت إلى غير إسلامية مثل الأندلس، لأن الأندلس تمثلت فيها معاني الغربة للمسلم الذي بقي بعد دخول الكفار فيها بعد أن بقيت على الإسلام ثمانية قرون، فهذه غربة تتمثل فيها أقسى أنواع الغربة، وهناك بلاد في العصور الحديثة كانت مسلمة ثم تحولت إلى نصرانية بقوة السيف مثلما صار في الفلبين، والفلبين كانت مسلمة وكانت دولتها مسلمة وفيها سلطان مسلم، ويحكم فيها بشرع الله، ثم دخلها الأسبان وحاربوا الإسلام والمسلمين بعنف حتى تحولت إلى دولة نصرانية، حتى إنهم حجبوا الأخبار عن الأجيال حينما كان الاستعمار هو المستولي عليها والاحتلال، فكانوا يحجرون على جهات التعليم والمراكز العلمية والمدارس أن تدرس هذه الحقبة من التاريخ إلى وقت متأخر، كما علمنا أنه بدأت المدارس والمناهج في تلك البلاد يقرأ فيها أنها كانت مسلمة ثم تحولت إلى نصرانية، فمثل هذه البلاد تجد المسلمين إلى اليوم فيها في غربة شديدة. فهذه الغربة قد لا تكون على البلاد الإسلامية كلها، وأحياناً تكون الغربة غربة السنة وأهل السنة، وتكون بمخالفة الناس من الوجهين، والناس يخالفون أهل السنة، وأهل السنة يخالفون الناس، فربما في بعض البلاد الإسلامية يحكم على صاحب السنة بأنه إنسان مخالف للحق، وربما يرمى بأوصاف الشذوذ والإرهاب ونحو ذلك، وأحياناً بالألقاب مثل الوهابية وغيرها من الألقاب التي يعتبرونها من الأمور المنفرة، فيعيش صاحب السنة في غربة في مثل هذه البلاد وإن كانت إسلامية، وهذا واقع كثير من البلاد الإسلامية اليوم. فإن صاحب الحق يعيش غربة حقيقية وإن كانت البلاد مسلمة، وأحياناً الغربة قد تعني المشقة في العمل بالعمل بالسنة حتى بين المنتسبين لأهل السنة، العمل بها على الوجه الشرعي الكامل قد يكون فيه مشقة كما هو حاصل اليوم حتى في البلاد التي أهلها هم أهل السنة، فإن الذي يريد أن يأخذ السنة بحذافيرها قد يعيش غربة، لكنها ليست الغربة الكبرى أو الغربة التي تنطبق عليها أغلب هذه الأحاديث لكنها نوع من الغربة؛ لأن الناس الآن قد يكون لهم جرأة على من يعمل بالسنة وإن كان معه الدليل؛ وذلك لأنه خالفهم أو خالف ما هم عليه. كما أن الغربة قد تكون غربة الإسلام وقد تكون غربة السنة، أما غربة الإسلام فلا شك أن المسلمين تمر عليهم فترة من فترات التاريخ مثل عصرنا هذا، قد يكونون أقل عدداً من عموم الكفار والمشركين، فإذا صاحب هذا شيء من الضعف فإننا نجد أن المسلمين اليوم في جملتهم أمام العالم يعيشون غربة فعلاً؛ لأنهم وإن كانوا كثرة لكنهم كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: (كغثاء السيل)، وثبت في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلمين كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود إزاء الأمم المشركة، فهذه الغربة إذا اجتمعت معها الغربة المعنوية كما هو حاصل اليوم فقد يكون أهل الإسلام عموماً في نوع من الغربة وهذا حاصل، أما غربة أهل السنة فهي ظاهرة، غربة أهل السنة في سائر البلاد الإسلامية اللهم إلا القليل مثل هذه البلاد نسأل الله أن يثبتنا على السنة.

أجر الغرباء

أجر الغرباء في حديث أبي هريرة الأول ذكر الغرباء، وذكر وصفهم حينما قال: (فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي)، فهنا الغرباء هم أهل الإصلاح أهل السنة والجماعة، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، فهي تعني طائفة من المسلمين، وهم الذين يتصدون للباطل ويدعون للسنة. وفي النصوص الأخرى كثير من الأحاديث فيها ضعف، لكن بعض معانيها وردت في الصحاح، وكثير منها فيها ضعف إما في ألفاظها أو أسانيدها، وكثير منها وردت في أحاديث صحيحة، فهي في الجملة صح منها الكثير، لكن قد يكون بعض ألفاظها فيه نظر. وفيما يتعلق بالإشارة إلى أن المستمسك الصابر على السنة اليوم له أجر خمسين، هذا له توجيهات كثيرة، ولعل من أحسنها أن المقصود الأجر وليس مطلق الفضل؛ لأن هذا قد يتعارض مع فضل الصحابة رضي الله عنهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر في فضل الصحابة ما لم يكن لغيرهم ممن يأتون بعدهم. فله في هذا وجوه كثيرة في الجمع، وأحسنها وجهان: الوجه الأول: أن يقال: قد يوجد من أفراد الأمة في آخر الزمان -ولكن ليسوا كثرة- من يكون له أجر خمسين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لكن هذا لا يكون في جماعة أو طائفة تكون أفضل من الصحابة، إنما هم نزَّع من أفراد الأمة؛ وهذا توجيه لا بأس به. الوجه الثاني: أن يقال: إن هذا الأجر -أجر الخمسين- على عمل معين، وليس على جميع الأعمال، ولا يعني الأفضلية المطلقة، فإن أفضلية صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعدلها شيء، لكن تتفاضل من بعض الوجوه، وليس من جميع الوجوه.

الأسئلة

الأسئلة

من هم النزاع من القبائل

من هم النزَّاع من القبائل Q ما معنى النزاع؟ وقوله في مكان آخر: (النزاع من القبائل) هل هو بمعنى ما ذكرت؟ A النزاع هم الأفراد القلائل. والغربة تأتي على وجوه كثيرة، ومن ضمنها: أن يكون هناك نزاع من القبائل، أي: أفراد قلة يصمدون بالحق، وقليل من يعينهم، وأكثر الناس يخذلونهم، لكن مع ذلك يوجدون في بلاد متنوعة، وفي قبائل متنوعة، وأقاليم متنوعة، وهذا معنى قوله: (نزَّاع) أي: أفراد قلة وليسوا جماعات.

غرباء السنة

غرباء السنة Q من يقوم بإحياء سنة مندثرة إلى حد ما هل يعد من الغرباء؟ A نعم، إذا كان على فقه، فمن أحيا سنة مهجورة على فقه؛ لأنه قد يبدو لإنسان أنها مهجورة وهي من الأمور الاختيارية، فإذا كان على فقه صحيح ووجد شيئاً من الإنكار من الناس؛ فربما يشعر بشيء من الغربة. وأضرب لذلك مثالاً واضحاً: استجدت عندنا الآن حول مسألة العزاء والمآتم أشياء من عمل بالسنة فيها سينكر عليه، فالناس إذا مات لهم ميت لا بد من جلوس ثلاثة أيام للعزاء، ويعلن عن ذلك العزاء في الجرائد، وإذا ما فعل ذلك اعتبر مقصراً في حق الميت، وهذا إذا عمل السنة، وقال: أنا سأتقبل العزاء في البيت أو في الشارع أو في المسجد أو في أي مكان، ما يلزم أجلس ثلاثة أيام كأنه حداد؛ فمن خالف سنتهم في ذلك فسينكر عليه كثير من الناس. فلذلك ينبغي أن يتنبه طلاب العلم لمثل هذه الظواهر ولا يستهينوا بها، وإن كانت خلافية، لكن التوجه فيها إلى الابتداع واضح. والناس تعدوا حدود ما أفتى به العلماء، وتجرءوا إلى أكثر مما يقول به بعض أهل العلم.

[11]

شرح كتاب فضل الإسلام [11] لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من البدع والمحدثات في الدين، وما ذاك إلا لعظيم خطرها وكبر إثمها، والواجب على المسلم هو أن يتعبد الله بما شرع في كتابه وسنة رسوله وما جاء عن الصحابة الكرام، لا بالأهواء والبدع؛ فإن الخير كل الخير في اتباع من سلف، والشر كل الشر في ابتداع من خلف.

باب التحذير من البدع

باب التحذير من البدع قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [باب التحذير من البدع: عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون؛ قلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودِّع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وعن حذيفة قال: كل عبادة لا يتعبدها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، فاتقوا الله يا معشر القراء! وخذوا طريق من كان قبلكم. رواه أبو داود. وقال الدارمي: أخبرنا الحكم بن المبارك أنبأنا عمر بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا! فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! إني رأيت آنفاً في المسجد أمراً أنكرته، ولم أر -والحمد لله- إلا خيراً، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدّوا سيئاتكم؛ فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله! ما أدري لعل أكثرهم منكم، تم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحِلَق يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج. والله المستعان، وعليه التكلان. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين].

وقفات وفوائد من حديث العرباض بن سارية

وقفات وفوائد من حديث العرباض بن سارية في هذه الأحاديث تحذير صريح مجمل ومفصل من البدع، ويحسن أن نقف على بعض المسائل بعض الوقفات. أولاً: في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة)، ووصف هذه الموعظة بأنها (وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون)، وهذا فيه عدة فوائد:

التخول بالموعظة

التخول بالموعظة الفائدة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخول أصحابه بالموعظة بين وقت وآخر، فلا يكثر منها، ولا يغفل عنهم، وكان في مجالسه يبين لهم شيئاً من الأحكام وما جاءهم من الوحي، وأحياناً يسمر معهم، وأحياناً يطيل الحديث، وأحياناً يوجز، لكن بين ذلك كله كان لا يغفل عن الموعظة، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له طلاب العلم، والمرشدون والوعاظ والدعاة، وذلك لأنه قلَّ عند الناس اليوم في كلماتهم الإرشادية والدعوية الاهتمام بجانب الوعظ؛ ولذلك فقد يستغرب أو يستهين بعض الناس بهذا الجانب حتى إنهم يصفون الخطيب الواعظ أو الداعية الواعظ أو العالم الواعظ بأنه ليس على المنهج، أو أن منهجه غير متكامل، أو أن عنده جانب نقص في الدعوة، وهذا خطأ، بل ينبغي لكل من تصدى لتوجيه الناس، سواء خطباء الجمع، أو المشايخ وطلاب العلم في الدروس، أو المعلمون في المدارس والمربون، وغيرهم ممن تصدى لإرشاد الأمة بأفرادها ومجموعها، ومؤسساتها ومساجدها وغيرها، أن يكثر من الجانب الوعظي في هذا العصر بالذات؛ لأن الناس كثرت عندهم الملهيات والمشغلات والصوارف التي قست بسببها القلوب. ولذلك فإن أكثر المسلمين اليوم لا يتعظون بالمواعظ، وأكثر ما يتعرض الناس في حياتهم اليومية للموت بينهم، كم من الجنائز نصلي عليها وندفنها، وكم من أخبار الموتى؟! طربنا الآن من خلال ما نرى وما نسمع وما نقرأ، ومع ذلك تجد المتعظ والمستبصر والمستفيد من عبرة الموت -وكفى بالموت واعظاً- قليل جداً. بل أصبحت تجمعات الناس واجتماعاتهم والجنائز والمآتم والتعازي شبيهة بالأعراس، أكل وشرب وحديث وابتسامات وضحكات وبيع وشراء. فالناس يحتاجون إلى الموعظة من قبل الدعاة والمصلحين، وهكذا كانت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه والسلف الصالح، كانوا يتخولون الناس بالموعظة وقلوبهم أنقى من قلوب الناس اليوم، وأكثر استعداداً للخشوع والخشية. أما الناس اليوم فهم أحوج إلى الموعظة وإلى الخطاب الوعظي، وكنت أتمنى لو أن كل خطيب من خطباء الجمعة هم أكثر من يجتمع حولهم عموم المسلمين في كل مكان أن يخصصوا خطباً متقاربة ولو في الشهر مرة، أو في الشهرين مرة على الأقل يخصص منها خطبة أو خطبتين للمواعظ.

السمع والطاعة لولاة الأمور

السمع والطاعة لولاة الأمور الفائدة الثانية: عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والسمع والطاعة)، هذا مبدأ شرعي جهله كثير من الناس اليوم، خاصة الذين ليس عندهم فقه في الدين، إنما مجرد العواطف أو الثقافة، أو الذين تدينهم ليس على فقه شرعي صحيح، لا يعرفون معنى السمع والطاعة، ولا قواعد السمع والطاعة، ولا يدركون أنها أصل من أصول الدين، وأنها وصية النبي صلى الله عليه وسلم المؤكدة في أحاديث كثيرة، وأنها نهج السلف الصالح، حتى إننا نجد من يقول ويصدق: إن مسألة طاعة ولاة الأمر من الأصول التي صنعتها السياسة، أو إنها من الأمور التي اتجهت إليها الدول بعد الخلافة الراشدة مثل دولة بني أمية وبني العباس، وإن هناك من العلماء من سايروا الحكام؛ فوضعوا أصلاً اسمه: السمع والطاعة لولاة الأمور. والعجب أننا نقرأ ونسمع مثل هذه الأحاديث بين مجتمع كمجتمعنا عاش على السنة، ونشأ على السنة وعرفها، وفيه من طلاب العلم والعلماء من يبين هذه الأحكام ويقرؤها ويدرسها في المناهج وفي الدروس وفي المجالس وعند العلماء والعامة، ومع ذلك نجد فئة من شبابنا بعضهم قد يكون من المتدينين ومن الدعاة يثقل عليه سماع مثل هذا الأصل، ويجدون حرجاً من تدريسه وبيان أصل السمع والطاعة لولاة الأمر. ومعروف أن السمع والطاعة بالمعروف، وأنها لولي الأمر المسلم، ولكن مع ذلك فإن هذا الأصل أصبح ثقيلاً؛ بسبب كثرة الأهواء والشعارات، وردود الأفعال أو التصدي لمنكرات الأمة بردود الأفعال على غير أصول شرعية. ويؤكد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن تأمر عليكم عبد)، مما يدل على أن السمع والطاعة ليست للخليفة الراشد أو الوالي المختار، أو لمن يحبه الناس فقط، بل السمع والطاعة لولي الأمر براً كان أو فاجراً، عادلاً كان أو ظالماً، راشداً كان أو غير راشد، وسواء كان بخلافة أو بملك عادل أو بملك عضوض، وسواء كان الإمام بالاختيار أو بالقوة، إذا تمكن السلطان المسلم وجب له السمع والطاعة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن تأمر)، ومعنى (تأمر) فرض إمارته عليكم، انظر دلالة اللغة ودلالة تعبير النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (وإن تأمر عليكم عبد)، والعبد المقصود به: الرقيق، أي: لو تأمر عليكم من لا يملك -في الأصل- لنفسه شيئاً، بل هو منبوذ، ومع ذلك لو تأمر بقوة السيف وتسلط على المسلمين؛ وجب له السمع والطاعة بالمعروف، وهذا يؤكد خطورة هذا الأصل، وضرورة أن يفقهه طلاب العلم والعلماء، وأن تبين أحكامه للناس.

التفرق والاختلاف والمخرج من ذلك

التفرق والاختلاف والمخرج من ذلك الفائدة الثالثة: أشار صلى الله عليه وسلم في قوله: (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) إلى الافتراق، وأحاديث الافتراق ووقوعه والخبر عنه والتحذير منه كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك نجد بعض المفتونين من المعاصرين من يزعم أن مسألة حدوث الافتراق، ووجود الفرقة بين الأمة من الأمور التي صنعها المتشددون أو المتزمتون، وأنها ردود أفعال لأهل السنة والجماعة ضد خصومهم، وأنهم بالغوا في مسألة وجود الافتراق، وإلا فالأمة تشمل كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن ادعى الإسلام فهو مسلم، ولا داعي لذكر الفرقة والافتراق ووجود الفرق إلخ. وهؤلاء الذين يقولون هذا الكلام جهلة، والإسلام درجات، لكن دعوى الإسلام قد تعصم المسلم أو تعصم قائلها، لكنها لا تعني أن يكون على السنة والاستقامة، فأهل الإسلام -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- سينقسمون؛ منهم من يبقى على السنة وعلى الصراط المستقيم، ومنهم من ينحرف يميناً وشمالاً، كما ورد في حديث السبل وغيره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، يقصد الصحابة، فكيف بمن بعدهم؟ وفعلاً الصحابة رأوا اختلافاً، وعايشوا في حياتهم ظهور أول الفرق الرافضة والشيعة وفرقها المختلفة: الشيعة الغالية وغير الغالية وغيرهم، ثم القدرية، وأوائل ظهور التجهم والاعتزال بدأ في آخر عهد الصحابة، وكذلك المرجئة بدأت بذورها في آخر عهد الصحابة. إذاً: الاختلاف واقع، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر وخبره صدق أنه من يعش فسيرى اختلافاً كثيراً. ثم إذا وجد الخلاف فهناك وصية من النبي صلى الله عليه وسلم تؤكد ضرورة البقاء على السنة، قال: (فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ). فقوله: (فعليكم بسنتي) يؤكد أنه عند الاختلاف تكون هناك سبيل واحدة هي التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأخذها والاستمساك بها وسلوكها، وهي سبيل السنة، وهذا مما يدل على أن (أهل السنة) مصطلح شرعي؛ لأنهم الذين أخذوا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وغيره. ثم في الأثر الذي يليه عن حذيفة وعن ابن مسعود وعن أبي موسى الأشعري كلهم في هذا الحديث اجتمعوا على أمر، واتفقوا على بيان نهج من مناهج السنة.

العبادة توقيفية لا اجتهاد فيها برأي أو هوى

العبادة توقيفية لا اجتهاد فيها برأي أو هوى قول حذيفة: (كل عبادة لا يتعبدها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها)، هذه قاعدة شرعية عظيمة، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقلوا عبادتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم نقلة هذا الدين؛ إذاً: فالعبادات توقيفية، فما لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته فهو من البدع، وهذا فيه إشارة إلى أن الصحابة لا يقعون في البدع، وأن الله عز وجل حماهم وعصمهم من أن يكون منهم أحد من أهل الأهواء والبدع والافتراق؛ فكان اتباعهم والأخذ عنهم والاقتداء بهم هو السنة. ثم قال: (فاتقوا الله يا معشر القراء) ويقصد بالقراء: طلاب العلم؛ لأن طالب العلم أول ما يبدأ بقراءة القرآن، ثم إذا أتقنه وتعلمه شرع في تعلم الفقه في الدين، بحسب ما يتيسر له من المقدرة والوقت، فطلاب العلم الناشئين مثلما نسميهم الآن: طلاب الحلقات طلاب المدارس صغار السن من الشباب الذين يحضرون مجالس العلم والدروس، هؤلاء يسمون القراء في مصطلح الصحابة والتابعين. وقوله: (فاتقوا الله يا معشر القراء! وخذوا طريق من كان قبلكم)، يعني: على السنة، (طريق من كان قبلكم) ليس المقصود بها مطلقاً، (من كان قبلكم)، يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهذا مفهوم من السياق.

موقف الصحابة من الإحداث في الدين

موقف الصحابة من الإحداث في الدين ثم في قصة أصحاب البدعة الذين اطلع على حالهم أبو موسى الأشعري ثم أشعر عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما بعض الوقفات التي ينبغي أن نستفيدها: أولاً: قول أحد رواة الأثر: (كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد) وهذا يؤكد نهجاً من مناهج المسلمين في طلب العلم، وهو الحرص على تلقي العلم واغتنام جميع الفرص للاستفادة من علم العلماء. فهؤلاء من حرصهم لم يكتفوا في أخذ العلم بالدروس التي كان ابن مسعود وغيره من الصحابة يلقونها في المساجد والمجامع وفي غيرها، بل كانوا يحرصون على تلقي العلم من العالم حتى وهو يمشي إلى المسجد أو يمشي إلى حاجة من الحاجات، وكانوا يقفون -أي: طلاب العلم- عند أبواب العلماء، حتى إذا خرجوا استثمروا أوقاتهم معهم، وأخذوا من الدرر العلمية والفقهية من هؤلاء العلماء. ثم ذكر أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه خرج إليهم، وقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن؟ يعني: عبد الله بن مسعود، وهذا يشير إلى أدب العلماء مع بعضهم، أبو موسى وابن مسعود كلهم صحابة كبار، وكلهم علماء، لكن مع ذلك تواضع أبو موسى الأشعري إلى حد أنه وقف موقف التلميذ الصغير في صيغته للسؤال، وفي أدبه، وفي عدم استعجاله، وعدم دخوله على ابن مسعود بطريقة غير مناسبة وصبر وصار ينتظر أخاه ابن مسعود كما ينتظر الطلاب والتلاميذ الصغار الذين عند الباب، وسألهم: هل خرج؟ وكان بإمكانه أن يطرق عليه الباب، لكنه التزم الأدب، لا سيما والأمر بالميزان الشرعي خطير؛ لأنه رأى بدعة عظيمة استهولها واستعظمها. قال: (فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن!) انظر الاستهلال في الحديث، فيه قمة الرفق والأدب وحسن المدخل، وهو لا يريد أن يثير انفعال ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأن القضية خطيرة، فاستهل بكلام مناسب أراد أن يدخل به في علاج هذه القضية، قال: (يا أبا عبد الرحمن! إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أر -والحمد لله- إلا خيراً)، خير لكنه على وضع منتقد؛ لأنهم يسبحون ويهللون، لكن الوضع الذي سبحوا به وهللوا وضع مبتدع، فانظر إلى تعبير العالم الفقيه بحسنه وجودته. قال: (فما هو؟ قال: إن عشت فسترى، ثم قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً) إلخ القصة، وذكرها مفصلة. ثم ذهب ابن مسعود إلى هؤلاء القوم وحصل بينهم ما حصل، وورد أنه حثا عليهم التراب، وأنه عنفهم وأخرجهم من المسجد إلخ. ثم قال ابن مسعود لـ أبي موسى: (أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء) ثم كرر هذه العبارة فيما بعد قال: (فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء)، نستفيد من هذا أنه لا ينبغي للمسلم أن يتجاوز ما شرع الله عز وجل عند أداء العبادة؛ لأن ما شرعه الله فيه الكفاية، فلا يجوز للمسلم أن يغلو ولا يزيد بدعوى أنه يريد أن يزيد من التطوع، أو يزيد من الحسنات؛ فإن الحسنات والأجر في التزام ما شرعه الله عز وجل، وفيما شرعه الله الكفاية، وفي التجاوز الابتداع؛ ولذلك قال: فعدوا سيئاتكم) بمعنى: إن كنتم حريصين على التقوى والورع والاستقامة والتعبد لله عز وجل؛ فكفوا عن السيئات واحرصوا على ما شرعه الله من العبادات وفعل الخيرات، ففي هذا الكفاية، أما أن تزيدوا في الدين فهذا من الابتداع؛ ولذلك نجد أن ابن مسعود عارض هذه المسائل وهي في ميزان الناس اليوم تعتبر مسائل صغيرة، لكنه عارضها بشدة وقوة، مثل التسبيح بالحصى، وبعض الناس قد يقول: المسألة سهلة، وبدل أن أسبح بالأصبع أسبح بالحصى أو بالعد، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أحياناً أعداداً للتسبيح والتكبير، لكن أسلوب العد فيه نكارة، ثم أداء العبادة بشكل جماعي هذا إضافة بدعية ليست من السنة. إذاً: هذه الأمور مستصغرة عند الناس، لكن مع ذلك أنكرها ابن مسعود وأيده على ذلك الصحابة، أنكرها إنكاراً شديداً حتى صار منه ما صار من ذلك الموقف الحازم من هؤلاء القوم، وتفرست فيهم؛ لأن سياق القصة كان لها مراحل، وهؤلاء القوم الذين نهاهم ابن مسعود لم ينتهوا كلهم، بل ربما انتهى بعضهم، فذهبوا يعملون أشياء من ضمنها أنهم خصصوا مسجداً للعبادة يتعبدون فيه غير مساجد المسلمين، خصصوا مسجداً من المساجد يجتمعون فيه، فنهاهم وأخرجهم منه، ثم لما رأوا أنه يتتبعهم خصصوا مسجداً لهم ثم أمر بهدمه، ثم خصصوا دويرة لهم فأمر بهدمها، فتتبعهم، فلما رأى منهم الإصرار على البدعة وأنهم لا يفقهون ولا يطيعون من هو أفقه منهم، ولا يرجعون إلى الحق ولا يرعوون؛ توسم فيهم أن يكونوا من الخوارج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الخوارج بأوصا

§1/1