شرح كتاب الفوائد

عمر عبد الكافي

سلسلة شرح كتاب الفوائد [1]

سلسلة شرح كتاب الفوائد [1] إن العبد هو الفقير إلى الله المحتاج إليه، فعليه أن ينصف ربه فيعترف بجهله وفقره وحاجته إلى ربه.

آثار التقصير في كتابة تاريخ أعلام المسلمين

آثار التقصير في كتابة تاريخ أعلام المسلمين الحمد لله رب العالمين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. أما بعد: فنسأل الله عز وجل أن يجعل هذه الجلسة خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل للشيطان فيها حظاً أو نصيباً، وألا يدع لنا رب العباد ذنباً إلا غفره، ولا مريضاً إلا شفاه، ولا عسيراً إلا يسره، ولا كرباً إلا أذهبه، ولا هماً إلا فرجه، ولا ضالاً إلا هداه، ولا مظلوماً إلا نصره، ولا ظالماً إلا قصمه، ولا عيباً إلا ستره، ولا مديناً إلا سدد عنه دينه، ولا ميتاً إلا رحمه، ولا مسافراً إلا رده غانماً سالماً. اللهم إنك تعلم أن في قلب كل واحد منا كرباً، فأذهب -اللهم- كروبنا، وفرج همومنا، وأذهب أحزاننا، وحقق آمالنا، وأذهب آلامنا، وثبت يقيننا، وقو حجتنا، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك. اللهم إنا نسألك أن تطرد عن بيوتنا شياطين الإنس والجن، وأن تطرد عن أبنائنا وبناتنا وأزواجنا وذرياتنا شياطين الإنس والجن، وأن تجعلنا -يا أرحم الراحمين- من عبادك المتقين؛ إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير. لقد طلب إلي بعض الإخوة أن نقرأ بعض الموضوعات من كتاب عظيم للإمام ابن القيم، وهو كتاب الفوائد، وهو من أعظم الكتب التي يقتنيها المسلم. والإمام ابن القيم رضوان الله عليه هو التلميذ النجيب لشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن تيمية لم يأخذ حظه في التاريخ الإسلامي، فلم يكتب عنه في التاريخ الإسلامي، كما ظلم كثيرون في تاريخ الإسلام، فما كتب عنهم أحد. يمتاز الغربيون بشيء معين، وهو أن عندهم أن الرجل قد يكون ربع عظيم، أو ثلث عظيم، فيجعلون منه عبقرياً من العباقرة، فلو أن في الغرب رجلاً كـ ابن تيمية أو كـ صلاح الدين أو كـ ابن القيم أو كـ الشافعي أو نحو هؤلاء العظماء الذين كانوا في حياتنا، وأثروا الفكر الإنساني والفكر الإسلامي، وحافظوا على الكتاب والسنة، لو كان هؤلاء عند الغربيين الأوربيين أو الأمريكان أو غيرهم لألفت فيهم الكتب، فـ نابليون ألف فيه باللغة الفرنسية ألف ومائة كتاب، تحدثت تلك الكتب عن نابليون وحياة نابليون، فصار نابليون أحد أعلام الثورة أو التاريخ أو الحضارة الفرنسية. حتى إنه من كثرة ما كتبوا عن عظمائهم كتبنا نحن عنهم في كتب التاريخ لأبنائنا، ولقد عملت إحصائية منذ سنوات في مراحل التعليم المختلفة للكتب الدراسية التي تتحدث عن الشخصيات وعن الموضوعات التي تهم التلاميذ، فوجدت ما يقرب من ثلاث وسبعين صفحة في الكتب تدرس لأبنائنا في المرحلة الثانوية تتحدث عن أوربا وعن الحضارة الأوربية. ووجدت قرابة تسع وستين صفحة تتحدث عن الحملة الفرنسية وآثارها السياسية والاقتصادية والعسكرية، والعلمية، ووجدت ما يتحدث عن النهضة الإيطالية في قرابة مائة وسبع صفحات. وأما ما كتب عن عمر بن عبد العزيز في القصة التي كان تدرس في سنة من السنوات فثلاث صفحات، وما كتب عن الصحابة رضوان الله عليهم ثلاث وعشرون صفحة، وما كتب عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد على خمس وثلاثين صفحة. فأولادنا يدرسون عظمة الأوروبيين، ولا يدرسون عظمة آبائهم وأجدادهم، فلو سألنا أحدهم عن صلاح الدين الأيوبي فإنه قد لا يعرفه، وكذلك لو سألناه عن سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة. والأولى أن تدفع الجوائز المشجعة في حياة هؤلاء الرجال، فأبناؤنا قد لا يعرفون شيئاً عن أبي بكر الخوارزمي، أو عن الرازي، أو عن الشوكاني صاحب نيل الأوطار، أو عن الإمام محيي الدين النووي صاحب رياض الصالحين، أو عن الإمام الترمذي صاحب السنن، أو عن ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية، أو عن الحسن بن الهيثم، أو جابر بن حيان، وغير هؤلاء الذين أثروا العلم الإنساني، وأخذت عنهم أوروبا، واستيقظت بهم في الظلام. فأين تاريخ هؤلاء العظماء من السلف الصالح الذين أثروا وحافظوا على الكتاب والسنة، وحافظوا لنا على هذا التاريخ العظيم. وقد زارني أخ في الله، واطلع على المكتبة، فرأى كتباً بلون واحد تقع في واحد وأربعين جزءاً، فقلت له: هذا كتاب يقع في واحد وأربعين جزءاً، وهو أحد كتب الإمام ابن تيمية. وابن تيمية ألف ما يقرب من ثلاثمائة واثنين وأربعين كتاباً، وكان قواماً بالليل صواماً بالنهار، مجاهداً في سبيل الله، وكان من أكبر المقاتلين، مع كل هذا لا ندري عن ابن تيمية إلا الشيء اليسير. فنحن نجهل تاريخنا، ولا نعرف شيئاً عن نسيبة بنت كعب، أو عن السيدة زينب زوجة عبد الله بن مسعود، أو عن السيدة أم كلثوم بنت السيدة فاطمة الزهراء التي تزوجها عمر بن الخطاب، لا نعرف من تاريخها شيئاً، ولا نعرف تاريخ رقية أو أم كلثوم أو زينب بنات سيدنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكذلك عاتكة بنت عبد المطلب وصفية بنت عبد المطلب وسائر عمات الرسول صلى الله عليه وسلم، لا ندري عنهن شيئاً. وقد يقول البعض: إن هذا تقصير العلماء؛ لأنهم لم ينظروا إلى عظمة هذا التراث وعظمة هذا التاريخ الذي يعتز الإنسان به. وإني لأذكر رسالة الملك جورج الذي كان حاكم إنجلترا إلى هشام الثالث ملك المسلمين بالأندلس، حيث قال فيها: من الملك جورج الخامس ملك إنجلترا والدنمارك إلى أمير المؤمنين، أما بعد: فإنه قد بلغنا ما تقدمت فيه بلادكم في نواحي العلم المختلفة، ولقد أرسلنا إليكم بعثة علمية تتعلم في بلادكم لمدة عامين ترأسها الأميرة روبانت بنت أختنا، ولعل البعثة خليقة عندكم بالتكريم اللائق. وفي آخر الرسالة كتب: خادمكم المطيع: جورج الخامس ملك إنجلترا. فسبحان من يغير ولا يتغير، والله سبحانه أعطى الناس في الكون أسباباً، فلو صار الإنسان وفق هذه الأسباب واتبع الخطوات التي أعطاها الله له لنجح؛ لأن الله عز وجل سوف يعطيه الثمرة، أما أن نكبر الأمر الصغير، ونصغر الأمر الكبير، ونهتم بأمور لا علاقة لها بالدين، فذلك هو التخلف بعينه، فإن الله -كما قال لنا الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم- يحب من الأمور معاليها، ويكره سفسافها. فربنا سبحانه وتعالى لا يحب إلا معالي الأمور، ويكره الحق عز وجل سفساف الأمور.

آثار الذنوب والطاعات في نظر ابن القيم

آثار الذنوب والطاعات في نظر ابن القيم إن الإمام ابن القيم رضوان الله عليه هو -كما قلنا- التلميذ النجيب للإمام ابن تيمية، وقد كان ابن القيم رحمه الله يمشي مع تلميذ له على شاطئ في العراق، فسأله سؤالاً، فظل الإمام يتحدث، وتلميذه يبكي، ثم قال: ألقاك غداً إن شاء الله. وبعد ثلاثة أيام اكتشف التلميذ أن الإجابة هي عبارة عن كتاب سماه الإمام ابن القيم (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، والذي يقرأ كتاب (الجواب الكافي) للإمام ابن القيم يتوب عن الذنوب حقيقة، واقرءوا وجربوا؛ لأنه يبين ما تعمله الذنوب وما تعمله الحسنات، فالذنوب تجعل ظلمة في الوجه، وظلمة في القلب، وعدم قبول عند الناس، وعدم رضا من الله، وبها تدعو الملائكة على المذنب، ومن نتائج الذنوب الذنب بعد الذنب، فالذنب يجلب الذنب، إلى أن تخف وطأة الضمير أو يقظة الضمير، ويعتاد القلب على المعصية. وأما الطاعة فنور في الوجه، وضياء في القلب، ومحبة في قلوب الناس، ودعاء الملائكة لك، وذكر الله عز وجل للطائع، ففي الحديث: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذرعاً، ومن تقرب إلي ذارعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة). فالله عز وجل الغني سبحانه وتعالى يتقرب إلى عبده الفقير، وإن تقرب الفقير إلى الغني أمر عادي، وتقرب الصغير إلى الكبير كذلك، أما أن الغني يتقرب ويتودد إلى الفقير، والقوي يتودد إلى الضعيف فتلك مسألة أخرى. فالله -وهو الغني- يتودد إلينا نحن الفقراء، والله -وهو القادر- يتودد إلينا نحن الضعفاء، أليس في هذا عجب؟! يقول الله جل جلاله: (إني والإنس والجن في نبإ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري، خيري إلى العباد نازل وشرهم إلي صاعد، أتودد إليهم بالمغفرة وأنا أغنى الأغنياء عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أشد ما يكونون حاجة لي، أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل طاعتي أهل محبتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، من تاب إلي منهم فأنا حبيبه، ومن لم يتب فأنا طبيبه، الحسنة عندي بعشر أمثالها وقد أزيد، والسيئة عندي بواحدة وقد أعفو). فالله عز وجل يخلق ويُعبَد غيره، يرزق ويُشْكَر غيره، مع أن الله سبحانه وتعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، وخيره إلى العباد نازل وشر العباد إليه صاعد. إن ولدك إذا عصاك فإنك قد لا تقبله في بيتك، وأنت تعصي الله ليل نهار، ولا يطردك من ملكه، ولا يغضب على العبد أبداً، فإذا كان العبد طائعاً وقال: (يا رب!) قال: لبيك يا عبدي. وإن كان عاصياً وقال: (يا رب!) قال: لبيك لبيك لبيك يا عبدي. فسبحان الله، ولا إله إلا الله. إنها رحمة عظيمة، فالناس يعصون ربهم وهو يرزقهم، وإذا عاد العبد إلى ربه لا يعاتبه على ما مضى، فكأن العبد يقول: يا رب! لقد أذنبت. فيقول الله: عبدي وأنا قد علمت. فيقول: يا رب! أنا قد تبت. فيقول له: وأنا قد قبلت. فيقول: يا رب! لن أعود، فيقول: وأنا سوف أشد عضدك في طاعتي لكي لا تعود. ويروى أن رجلاً قال لموسى عليه السلام: يا موسى! عبدت الله عشرين سنة، وعصيته عشرين سنة، وأريد أرجع، فهل ينفع ذلك؟ فقال الله له: يا موسى! قل له: أطعتنا فأثبناك، وعصيتنا فأمهلناك، وتركتنا فما تركناك، ولو عدت إلينا على ما كان منك قبلناك. فالعبد إذا عاد إلى الله قبل الله توبته، اللهم اقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، ويسر أمرنا، واغفر ذنبنا وزلتنا يا أرحم الراحمين.

بيان حقيقة إنصاف المرء ربه

بيان حقيقة إنصاف المرء ربه

الإقرار بالجهل في العلم

الإقرار بالجهل في العلم يقول الإمام ابن القيم في كتابه (الفوائد): (طوبى لمن أنصف ربه). وطوبى درجة عليا في الجنة. ومعنى (أنصف ربه): أقر له بالجهل في علمه، كما كان ابن عطاء الله يدعو دائماً: يا ربي! أنا الجهول في علمي، فكيف لا أكون جهولاً في جهلي؟! وأنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟! ولذلك قال لنا أهل العلم: إن المسلم بطبيعته يتأدب مع الله عز وجل، فعندما يشعر بالفقر يقول: يا غني أغنني، وعندما يشعر بضعفه يقول: يا قادر يا ناصر انصرني، ويا قوي قوني فإني ضعيف، فقو في رضاك ضعفي، وخذ إلى الخير بناصيتي. فمن أنصف ربه أقر له بالجهل في علمه؛ لأننا إن أقررنا بالجهل علمنا رب العباد، كما روي في الأثر: ما يزال الرجل يتعلم ويتعلم، فإن ظن أنه علم فقد جهل.

الإقرار بالآفات في العمل

الإقرار بالآفات في العمل يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: طوبى لمن أنصف ربه، فأقر له بالجهل في علمه وبالآفات في عمله. فحين أصلي لا أقول: أديت الذي علي، بل أصلي وأخاف أن ترد علي الصلاة فلا تقبل؛ لأن مالي حرام، أو لأن القميص حرام، أو لأن القلب مليء بالغل والحقد على الناس، أو لأن الزوجة تخون زوجها في إخراج أسرار بيته، أو أن الزوج يخون زوجته فينشر أسرارها، أو لأن المصلي يخون الأمانة، أو يخون الوظيفة فيأخذ ما ليس من حقه، ثم يقف بين يدي الله ويقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. فأنا أصلي وأنا خائف ألا تقبل الصلاة، وأقرأ القرآن وأخاف ألا يتقبل الله مني، وعندي رجاء في القبول، ولكن يجب علي أن أغلب الخوف على الرجاء، فنحن في زمن غلب فيه الناس جميعاً الرجاء على الخوف، لأن الواحد منهم ينظر إلى من هو أقل منه في الدين، وينظر إلى من هو أفضل منه في الدنيا. فإذا صلى الجمعة، ثم خرج فرأى عظيماً بماله كبر في نفسه، ولا ينظر إلى من يصوم الإثنين والخميس، ولا ينظر إلى من يقوم الليل، ولا ينظر إلى من يتقرب بالصدقة، ولا ينظر إلى من يصل الرحم، ولا ينظر إلى من يفعل الخير أو يتوارى بين الناس تواضعاً وخجلاً. فالإنسان يجب عليه أن يقر لله بالجهل في علمه، وبالآفات في عمله. وكان عمر بن الخطاب يقول: اللهم إني أسألك من العمل أخلصه وأصوبه. فيقولون: يا أمير المؤمنين! ما أخلصه وما أصوبه؟ فيقول: أخلصه ما كان لله عز وجل، وأصوبه ما كان على الكتاب والسنة. فلا يصح أن أخرج من البيت لأصلي ركعتين عند السيد البدوي، فالصلاة هي عبادة، ولكنها هنا ليست لله عز وجل، فاللازم علي وأنا أصلي أو أؤدي العمل أن يكون العمل على منهج الكتاب والسنة، فلا يصح الطواف حول قبر الحسين كما يطاف حول الكعبة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا إن صنعتم كما صنعوا لعنكم كما لعنهم). وبعث علي بن أبي طالب على ألا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه، ولا صنماً إلا كسره.

الإقرار بالعيوب في النفس

الإقرار بالعيوب في النفس يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (طوبى لمن أنصف ربه، فأقر له بالجهل في علمه، وبالآفات في عمله، وبالعيوب في نفسه)، فيقول: سوف أفرغ وقتي لإصلاح عيوبي. ليس هناك امرؤ يقول: فيَّ عيب. فكل يرى العيب في غيره، ولا يراه في نفسه. فيجب علي أن أقتنع بأنني ذو عيوب، وأتعهد بإصلاح عيوب نفسي، ولو فعل ذلك كل واحد لبلغنا مبلغاً عظيماً، فمن منا لم تأت عليه أوقات لم يؤد فيها زكاة ماله، أو لم يصم رمضان، أو لم يقم بالنوافل، أو قطع رحمه؟! ومن منا يبيت مظلوماً تدعو له الملائكة، ولا يبيت ظالماً تدعو عليه الملائكة؟!

دوران العبد بين رؤية عدل الله ورؤية فضله

دوران العبد بين رؤية عدل الله ورؤية فضله إن كل واحد منا يرى أنه المظلوم، وأنه هو المسلم الوحيد، وأنه على الطريق الصحيح، ولكن لن يستطيع الإنسان أبداً أن يضحك على نفسه دائماً، كما قال أحد الحكماء: إنك تستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت، وتستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، ولكن لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت. وكذلك لا تستطيع أن تخدع نفسك التي بين جنبيك في بعض الوقت؛ لأنك صادق مع نفسك، حتى وإن قبلت الكذبة ثم صدقتها، فإنك سوف تفيق يوماً، وتعود إلى نفسك يوماً فتوقن بأنك قد فرطت في جنب الله، فتقر لله عز وجل بأنك جاهل في علمك، وأنك مفرط، وأن عملك مليء بالآفات، وأن نفسك مليئة بالعيوب، وأنك ظالم في معاملة الله عز وجل، فإن أخذك بالذنوب رأيت عدله، وإن لم يؤاخذك بها رأيت فضله، وهناك فرق بين عفو الله عن العبد وبين الاستدراج. فالاستدراج معناه: أن عبداً من العباد مقصر في جنب الله، ومع تقصيره ينصب عليه الخير ليل نهار، فهذا استدراج، فالله تعالى يقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45]، والعياذ بالله رب العالمين. إذاً: إذا رأيت العبد مقيماً على المعاصي والخير ينصب عليه فاعلم أنه مستدرج. فالعبد الصالح إن آخذه الله بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤاخذه بها رأى فضله، وإن عمل حسنة رآها من منته عليه، فيقول: من فضل الله علي أنه وفقني لصلاة الجماعة، ومن فضل الله علي أنني تصدقت، ومن فضل الله علي أنني وصلت الرحم، ومن فضل الله علي أنني صمت الإثنين والخميس. وهكذا يرى فضل الله عز وجل في كل طاعة من الطاعات، وهذه هي المنة الأولى. المنة الثانية: أنه تقبلها منه، وفي الحديث: (إن الله ليقبل صدقة أحدكم بيمينه، فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه). فالله تعالى إذا قبل طاعتي كان ذلك منه منة علي، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يتقرب به إلى الله، وذلك أن على أبواب السماوات ملائكة، فعلى باب كل سماء ملك من الملائكة، فحين يصعد عمل العبد يقول الملك الأول: إن صاحب هذا العمل مغتاب، والله أمرني بألا يمر عمل من عندي صاحبه مغتاب، وعند باب السماء الثانية يقول الملك: أنا الملك الموكل بالنميمة، وصاحب هذا العمل نمام، وفي السماء الثالثة ملك، فيقول: أنا الملك الموكل بالحقد، وصاحب هذا العمل حقود، وفي السماء الرابعة يقول الملك: أنا الملك الموكل بالحسد، وصاحب هذا العمل حسود، وهكذا إلى السماء السابقة، فيقول حملة العرش: ردوا عليه عمله، فالله لا يقبل عمل مغتاب، ولا نمام، ولا حقود، ولا حسود، ولا آكل أموال اليتامى، ولا مقامر، ولا عاق والديه. وقد يكون في عمله جزء ليس لله، والله سبحانه أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن أشرك في عمل مع الله غيره تركه الله وشركه. ولذا يرى العبد نفسه مقصراً، فإن قبل الله عمله كان ذلك بمحض جوده وإحسانه، فلا يرى ربه إلا محسناً، ولا يرى نفسه إلا مسيئاً. نسأل الله سبحانه أن تكون جنة أبداً إن ربنا على ما يشاء قدير، فاللهم تقبلنا في عبادك الصالحين، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، اللهم تب علينا توبة صادقة نصوحاً، نقول جميعاً: تبنا إلى الله، تبنا إلى الله، تبنا إلى الله، تبنا إلى الله، ورجعنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا، وعزمنا عزماً أكيداً على أننا لا نعود لمثل هذا أبداً، وبرئنا من كل دين مخالف لدين الإسلام، والله على ما نقول وكيل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سلسلة شرح كتاب الفوائد [2]

سلسلة شرح كتاب الفوائد [2] العمر لا يقاس بطول السنين، بل العبرة أن توضع فيه البركة، وذلك بأن يستثمره العبد في الطاعة وما يبقى جارياً على المسلمين بعد موته فيستمر ثوابه كذلك، ولا يتهاون المرء في معصية الله فتجتمع عليه الصغائر فتهلكه.

استثمار الحياة لما بعد الموت

استثمار الحياة لما بعد الموت أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد. اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. أما بعد: فهذه هي الوقفة الثانية مع الإمام ابن قيم الجوزية رضوان الله عليه، وسمي ابن قيم الجوزية؛ لأن الجوزية مدرسة كان والده قيماً عليها، فهو ابن قيم الجوزية، وقد أجرى الله على يديه خيراً كثيراً. وإن العمر لا يقاس بالسنوات، فقد دخل غلام على عمر بن عبد العزيز فقال له: يا غلام! ليتكلم من هو أكبر منك سناً فقال: يا أمير المؤمنين! لو كان الأمر بالسن لكان هناك في المجلس من هو أحق منك بالخلافة. فليست القضية قضية سن، ولكن القضية في الإسلام هي البركة في العمر، ونحن ندعو دائماً فنقول: اللهم بارك لنا في أعمارنا. فالبركة في العمر مهمة، فليس المطلوب أن يعيش الإنسان حياة طويلة، ولكن المطلوب أن يعيش حياة عريضة يترك فيها خيراً، كما قال الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم: (عيشوا مع الناس بخير، حتى إن غبتم حنوا إليكم، وإن متم ترحموا عليكم). فحين يغيب المسلم العامل يحن الناس إليه، وحين يموت يترحم الناس عليه، ولكن الفاجر -والعياذ بالله- حين يغيب يحمد الناس الله، وحين يموت يفرح الناس بموته، وهذا دليل على سلب الرحمة منه. قال الله عز وجل: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5]، فما أخره الإنسان هو الذي يستمر ثوابه بعد موته إلى يوم القيامة، حتى إن الإنسان ليجد في كتاب حسناته حسنات لم يعملها، فيقول: يا رب! هذه حسنات ما فعلتها في الدنيا! فيقول الله عز وجل: هذه أعمال قد تركتها بعد موتك. وقد جاء في الحديث أن الإنسان المسلم قد يترك خلفه عشرة أمور يستمر ثوابه فيها بعد موته، فمن بنى مسجداً أو وضع فيه لبنة بقي له أجره إلى يوم القيامة، وكذلك إذا غرس نخلاً، أو شجراً، فأكل منه طائر، أو حيوان، أو إنسان، أو استظل به مخلوق، فيكون له ثواب غرسها إلى يوم القيامة. ثم إنه ما من شيء إلا يسبح بحمد الله، فالشجر وهو أخضر يسبح، فهذا التسبيح ثوابه لمن زرع. فالثواب يعود إليه إذا اتقى الله عز وجل، وإذا توكل على الله، وإذا رضي وقنع بما آتاه الله. وقد صار الفلاحون اليوم -مع الأسف الشديد- هم البعيدين كل البعد عن الطريق وعن الالتزام، وكثير منهم حاقد وحاسد وناقم وغير راض، ولا يتقي الله، فبعد أن كان يستيقظ ويبدأ يومه بصلاة الفجر صار من الساهرين أمام التلفزيون والفيديو وغيرهما، فلا يستيقظ إلا متأخراً، ولا يذهب إلى عمله إلا متأخراً. وقد كان الفلاح لا يرجع إلى البيت حتى يخرج حق الفقير قبل أن يعود إلى البيت، وهذا تفسير الحرفي لقول الله عز وجل: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، وربنا كان يبارك له في زرعه، فما كانت الأرض تصاب بالآفات، ولم نسمع عن الآفات إلا بعد انقلاب اثنين وخمسين، حيث انتشرت الآفات في مصر انتشاراً غريباً، حتى كثر أساتذة المبيدات، وكثرت شركات المبيدات، وكثرت أمامها الحشرات والآفات الضارة، وصار كل ذلك نقمة على الفلاح ونقمة على الدولة ونقمة على المسئولين، ونقمة على العصاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا). فربنا سبحانه وتعالى جعل الزكاة تطهيراً للمال، وجعلها تزكية للنفس، ووقاية من الشح، وليس المراد أن يقي الإنسان نفسه من الشح بالمال فقط، فهناك من له جاه يستطيع أن يخدم به غيره، وهناك من عنده صحة يستطيع أن يخدم بها الناس، وهناك من عنده علم يستطيع أن يعلمه الناس. فمن علم علماً من العلم المفيد فإن ثوابه يصل إليه بعد موته، ومن غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو كتب مصحفاً، أو تسبب في طباعة مصحف، أو علم القرآن كان له ثواب ما صنع يصل إليه بعد موته إلى يوم القيامة. وكذلك من ترك صدقة جارية، فعمل مستشفى خيرياً، أو مستوصفاً، أو شارك في بناء مدرسة، أو شارك في بناء مسجد، أو وضع لمسجد مراوح أو ماء، أو أسدى مشغلاً لليتامى ثم ملكهم إياه، فكل هذه صدقات جارية يجري للعبد ثوابها بفضل الله عز وجل. فمن وفق لإيجاد مشغل لليتامى يعملون فيه، ثم ملكهم إياه؛ كان عمله خيراً كبيراً، فبدل أن كان يتصدق عليهم صاروا يتصدقون على غيرهم. وكذلك لو أنشأ أحد معهداً لتحفيظ القرآن الكريم، فحفظ فيه عدد كبير، فكل حافظ للقرآن يأخذ الثواب، والذي علمه يأخذ نفس الثواب، والذي بنى المعهد يأخذ نفس الثواب، والله سبحانه وتعالى هو المتقبل. ومن الأعمال التي يصل ثوابها دعاء الولد الصالح، ونحن بحاجة إلى أن نربي الولد الصالح، فلابد من أن يكون هذا الولد قد أخذ مجهوداً من أبيه، ومجهوداً من أمه، في تربيته؛ وما الفائدة إذا كنت تبني وغيرك يهدمهم؟! فكثير من عوامل الهدم تحيط بأبنائنا، فأنت تتحدث مع الولد عن الصدق وعن الأمانة، وعن القول الطيب، فيذهب إلى المدرسة ويسمع كلمة السوء، فيسمع السب واللعن من أساتذته، فلا يرى قدوة صالحة فيمن يدرسه وفيمن يعلمه، ويعود إلى بيته فيرى أمه تخرج بالحجاب الشرعي، وفي المدرسة يرى حال المدرسات، ويفتح التلفزيون فيجد المذيعة على حالة من التبرج عظيمة، فيحكم على أمه بالجنون، ويحكم على سائر المجتمع بالاستقامة. فالذين تتصل أعمالهم بعد موتهم في قبورهم منهم من بنى مسجداً، ومنهم من كتب مصحفاً، ومنهم من أنجب ولداً صالحاً يدعو له، ومنهم من غرس نخلة أو شجر، ومنهم من حفر بئراً، أو حفر نهراً، فهذه الأمور تصل إلى العبد بعد موته، ولذا يترحم الناس عليه، ولذا لا يسمع مسلم ذكر الصحابة والتابعين إلا وقال: رضي الله عنهم، كما يقال عن كل صالح: رحمه الله، فقد كان رجلاً صالحاً. فالميت مستريح أو مستراح منه، فإذا مات الفاجر أو الكافر أو المنافق تقول الملائكة: الحمد لله الذي أراح منه البلاد والعباد، والعياذ بالله رب العالمين. وأسوأ الناس عند الله يوم القيامة رجل يكرم اتقاء شره، لأنه ذو منصب، أو ذو لسان طويل، فيكرم لدفع شره، فهذا هو أسوأ العباد عند الله. فيجب أن نعيش مع الناس كما قال صلى الله عليه وسلم: (عيشوا مع الناس بخير حتى إن غبتم حنوا إليكم، وإن متم ترحموا عليكم)، فاللهم اجعلنا منهم يا أكرم الأكرمين.

التحذير من صغائر الذنوب

التحذير من صغائر الذنوب يقول ابن القيم: (إياك والمعاصي). والمعاصي: جمع معصية، وتنقسم المعاصي إلى قسمين: كبائر وصغائر، والكبائر: ما ورد فيها نص بتحريمها، كأكل الحرام، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وعقوق الوالدين، والأدهى من هذا كله هو الشرك بالله عز وجل، نسأل الله أن يعصمنا وإياكم من كل شرك. وتكون الكبائر أحياناً بالإصرار على الصغائر، ولذا قيل في الصغائر ثلاث جمل، أولها: لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر إلى عظمة من تعصيه. قال أهل العلم: إن المؤمن يرى نفسه مع ذنبه كرجل قاعد في ظل جبل ضخم جداً يخاف أن يقع عليه، والمنافق والفاجر يرى ذنبه كذبابة وقعت على وجهه فهشها. فالمؤمن يخاف من الذنب، وقد قال الحسن البصري: المؤمن يزرع ويخشى الفساد، والمنافق يقلع ويرجو الحصاد، فالمؤمن يعمل الخير ويخاف ألا يتقبل رب العباد منه، فيصلي الصلاة ويحج ويخاف ألا يقبل ذلك منه؛ لأن الله لا يسأل عما يفعل. ولذلك روي أن إبليس قال لسيدنا عيسى: يا ابن مريم! أأنت تتوكل على الله حق التوكل؟ فقال له: نعم. فقال له: وعندما تنزل بك مصيبة ينجيك منها؟ قال له: نعم، فقال له: ارم نفسك من فوق هذا الجبل وانظر هل ينجيك الله أم لا! فقال سيدنا عيسى: يا لعين! إن الله هو الذي يمتحن عبده، وليس للعبد أن يمتحن ربه. فليس للعبد أن يمتحن الرب، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي يمتحن عبده. الجملة الثالثة: لا صغيرة مع إصرار؛ لأن الصغيرة مع الإصرار ستتحول إلى كبيرة، وتتمة هذه الجملة: ولا كبيرة مع استغفار. الجملة الثالثة: لا صغيرة إن واجهك عدله، ولا كبيرة إن واجهك فضله. فإياك والمعاصي؛ فإنها أذلت أعزة من الخلق، فربنا قال للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] فسجدوا إلا إبليس ما سجد، فخرج من العز إلى الذل؛ لأن للطاعة عزاً، وللمعصية ذلاً، ولذلك تجد المحتجبة بعد عشرين أو ثلاثين سنة فخورة أمام البنات، تقول: الحمد لله على أني بلغت الحلم وأنا محجبة. وكذلك الرجل الذي يصلي منذ بلوغه، فالإنسان يفرح بالطاعة.

سلسلة شرح كتاب الفوائد [3]

سلسلة شرح كتاب الفوائد [3] الدنيا سجن المؤمن، وهي حياة قصيرة لا تستحق أن يعيرها الإنسان اهتمامه، وطلابها كلاب تتهارش على جيفة سرعان ما تنفك عنها، ولذلك فالعاقل من التزم الكتاب والسنة وطرق أبواب الخير واستعان بالله على ذلك.

الدنيا سجن أهل الإيمان

الدنيا سجن أهل الإيمان أحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. أما بعد: فنسأل الله عز وجل أن يجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل بيننا شقياً ولا محروماً، وأن يفك برحمته كرب المكروبين، وأن يقضي دين المدينين، وأن يشرح كل صدر ضيق، وأن يفرج هم كل مهموم، وأن يذهب كرب كل مكروب، وأن يتوب على كل ضال، ويهدي كل عاص، ويتولانا وإياكم برحمته، وأن يغفر لنا ويرحمنا. كما نسأله عز وجل أن يلحقنا بالصالحين، وأن يجعلنا للمتقين إماماً، وأن يجعل هذه الجلسات خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل للشيطان فيها حظاً أو نصيباً، ونسأله أن يبعد عن أبنائنا وبناتنا وذرياتنا شياطين الإنس والجن، وأن يكرمنا بكرمه؛ إنه أكرم الأكرمين. كما نسأله عز وجل أن يعاملنا بما هو أهله، وألا يعاملنا بما نحن أهله، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة، وأن يغفر لنا وأن يسترنا في الدنيا والآخرة، وإذا سترنا في الدنيا فلا يفضحنا على رءوس الأشهاد يوم القيامة، آمين آمين. إن الإنسان في هذا الزمن قد لا يسلك الطريق السوي الصحيح إلا إذا جلس مع أهل الصلاح وأهل التقوى، فاللهم اجعلنا من أهل الصلاح والتقوى، وأذهب غيظ قلوبنا، واشف صدور قوم مؤمنين، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا. وإن الدنيا ليست دار تكريم، فربنا ما جاء بنا إليها من أجل أن يكرمنا، بل الدنيا دار ابتلاء، فهي -كما روي في الحديث الصحيح-: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر). فالمؤمن مسجون في الدنيا يشعر أن عليه قيوداً شتى تمنعه عن صنع أشياء معينة، فلا يستطيع أن يشفي غيظه بما يغضب الله عز وجل، كمؤمن تشتمه امرأته، أو تتطاول عليه، فهو يستطيع أن يرد اللطمة لطمتين، وأن يرد الصاع صاعين، وأن يدس لها السم في الطعام، أو أن يذبحها بسكين، ولكنه لا يستطيع أن يشفي غيظه بإغضاب الله عز وجل، بل يصبر على الأذى، وهي -كذلك- تصبر على الأذى، وفي هذا ثواب عظيم عند الله. فالمهم ألا نشكو لكل صغير وكبير، وألا نشكو لكل من هب ودب، وألا تصير حياتنا عبارة عن شكوى دائمة، فالذي يشكو دائماً إنما يشكو الذي يرحم إلى الذي لا يرحم، فلتكن شكوانا كلها لله رب العالمين، كما قال تعالى عن يعقوب عليه السلام: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]. فالدنيا دار ابتلاء، وليست دار تكريم؛ لأنها قنطرة ومعبر، وليست بدار إقامة. فالمرء في الدنيا يعيش سبعين أو ثمانين أو مائة سنة ولا ينعم، فالدنيا ليست بدار نعيم، ولذلك لما أعطى الله فرعون كل شيء نسي الله رب العالمين، فأعطاه الصحة والجاه والمال والملك، فاستخف قومه فأطاعوه، ومكثوا سنوات طويلة يبنون له قبره الذي يسمى بالهرم، ومع ذلك ما شكر الله عز وجل. فالإنسان منا قد يتمرد على نعم الله، ويذكر النعمة وينسى المنعم، وهذا سبب شقائنا في الحياة، أي أننا نذكر النعمة وننسى المنعم سبحانه. والله تعالى يجعل العبد الطيب أو الصالح كثير الابتلاءات، من أجل أن يرتبط بربه سبحانه وتعالى دائماً، فيرفع يديه إلى السماء وقلبه متوجه إلى السماء وجوارحه كلها متجهة إلى الله رب العالمين تدعو الله أن يخفف من وطأة البلاء، وأن يغفر الذنب، وأن ييسر الأمر، وأن يهب برحمته فضلاً كبيراً.

قاعدة الحياة والرزق والموت والقضاء

قاعدة الحياة والرزق والموت والقضاء هناك أربع ركائز هامة يجب أن تكون نصب عينيك، وهي: أنه لا راحة في الدنيا، ولا حيلة في الرزق، ولا شفاعة في الموت، ولا راد لقضاء الله. فإذا عرفت هذه الأمور الأربعة وأيقنت بها استرحت، وإذا غبت عنها بقيت مريضاً تحب الدنيا، كشارب البحر لا يزيده الشرب إلا ظمأ وعطشاً، فالذي يحب الدنيا يبقى نهماً مهموماً، حتى يقعده المرض، فإن تولى منصباً هابه الناس، لا لذاته، وإنما لأجل الكرسي الذي كان يجلس عليه، ولو اتقى الله عز وجل لأحبه الناس، سواء أكان فوق الكرسي أم تحته. فإن نحي عن منصبه أصيب بالاكتئاب، لأنه صار فرداً عادياً بعد أن كان هو الوكيل أو المدير، فإذا به يصير منزوياً في المجتمع؛ لأنه إنسان ما قدم لنفسه خيراً. فرب العباد سبحانه وتعالى قال: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] فهو لما نسي الله نسيه الله، ولذلك جاء أنه في آخر الزمن يغربل الله العباد غربلة، فلا يبقى منهم إلا حثالة كحثالة الشعير لا يبالي الله بهم، فإذا دعا صلحاؤهم لم يستجب لهم.

صبر السلف وأثره على الخلف

صبر السلف وأثره على الخلف إن من الجدير بنا أن نصلي على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علم الأجيال، وهو الذي علمه ربه سبحانه وتعالى، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته. وأن نترضى عن صحابته، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان الذين نشروا العلم، وحافظوا عليه مع ما لاقوا في سبيله، فلو أنهم حين حوربوا سكنوا واستكانوا وخافوا ما وصل العلم إلينا، وما انتشر العلم أبداً. الإمام مالك رضوان الله عليه من شدة تعذيبه خلعت ذراعه، فكان رضوان الله عليه لا يستطيع أن يضع في الصلاة يداً على يد، فكان يرسل يديه، حتى ظن أتباعه أن إرسال اليدين سنة من السنن في الصلاة. وأحمد بن حنبل رضوان الله عليه سجن ثلاثة عشر عاماً ليقول كلمة، وربنا سبحانه وتعالى يقول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]. لقد حوربوا في أقواتهم وفي أرزاقهم، وما زال أهل الحق يحاربون إلى يومنا وإلى أن تقوم الساعة، ولكن ستظل طائفة من الأمة قائمة على الحق لا يضرها من ضل إذا اهتدت. فـ أحمد بن حنبل إمام أهل السنة رضوان الله عليه كان يضرب فيغشى عليه، فيفيق فيجد تلاميذه من حوله يبكون بكاءً مراً، ويتعجبون فيقولون له: يا إمام! كنت تضرب وتضحك، ونحن كنا نراك ونبكي! فكان يقول لهم: أنتم كنتم ترون هذا الجلاد، أما أنا فكنت أرى يد رب العباد. فهذا هو الفرق بين المؤمن ومدعي الإيمان، وهو الفرق بين الإنسان الذي لا ينحني أبداً إلا لله عز وجل وبين غيره؛ لأن الأعمار مكتوبة، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (خير الشهداء حمزة -عمه- ورجل دخل على حاكم ظالم فوعظه، فإن قتله فبأجل الله عز وجل، وإن لم يقتله عاش على الأرض مكتوباً عند الله شهيداً). وهكذا كان أبو حنيفة رضي الله عنه عندما أراد أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور أن يوليه أمر القضاء، فدخل على أمير المؤمنين فقال له: والله إني لا أحسن القضاء. فقال: عجباً يا أبا حنيفة! أتكذب؟! فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت كاذباً فكيف تولي قضاء المسلمين كاذباً؟! وإن كنت صادقاً في أني لا أحسن القضاء فصدقني. وقد كان لي أستاذ يقول: كنت أدرس في الأزهر، فكان شيخ الأزهر يسأل: لِمَ لَمْ يعين فلان؟ فيقول: لأنه مخلص. فكأن الإخلاص ليس من مسوغات التعيين في زماننا. فـ أبو حنيفة رضوان الله عليه عذب وسجن، وهكذا الإمام الشافعي، وهكذا ابن تيمية، وهكذا ابن قيم الجوزية. وقد نقلت لنا كتب التاريخ أن أبا حازم دخل على هشام بن عبد الملك فخلع حذاءه ببابه وقال: السلام عليك، كيف أنت يا هشام؟ فقال: يا أبا حازم! أغضبتنا في أمور ثلاثة: خلعت حذاءك ببابنا، ولم تسلم علينا بإمرة المؤمنين، ولم تكنني، فلم تقل: يا أبا فلان ولكن ناديتني باسمي. فقال له: يا هذا! إني أخلع حذائي أمام ربي خمس مرات في اليوم والليلة فلا يغضب، فلم تغضب أنت؟! ولم أنادك بإمرة المؤمنين لأنه ليس كل المؤمنين قد وافقوا على أنك أمير لهم، أأحشر أمام الله منافقاً يوم القيامة؟! فلو كان ابن القيم وغيره على مثل حالنا ما انتشر العلم، ولكنهم تعبوا في تحصيل العلم، فهذا عبد الله بن مسعود جلس في الكعبة يقرأ سورة الرحمن، فضربه كفار قريش، حتى كان أبو جهل يحرف كعب حذائه على أنفه حتى استوى أنف عبد الله مع وجهه. فلو كانت أم عبد الله بن مسعود أو امرأته مثل أمهاتنا وزوجاتنا لضاع الدين، ومع ذلك لا تزال طائفة قائمة تقول الحق لا تخشى في الله لومة لائم مع ما يحدث لها من مآس.

أحوال المرء في الأنس بالله تعالى

أحوال المرء في الأنس بالله تعالى يقول ابن القيم: (من فقد أنسه بالله بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق). وصاحب هذه الحال أحد السبعة الذي يظلهم الله في ظلة يوم لا ظل إلا ظله ففي الحديث: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). فهذا الرجل قعد وحده فبكى، فذلك دليل على أن قلبه معمر بذكر الله، اللهم عمر قلوبنا بذكرك يا رب. قال: (ومن وجده بين الناس وفقده في الخلوة فهو معلول) أي: مريض. يقول: إن وجدت أنسك بالله مع الناس وفقدته وأنت منفرد فأنت مريض؛ لأنك في المسجد تصلي بهدوء، وفي البيت تنقر الصلاة، وأمام الناس أنت رجل طيب وصالح، ومع أهل البيت رجل آخر، إذاً: فهذا شخص نستطيع أن نقول عنه: منافق؛ لأنه يظهر للناس بوجه ويكون مع الله بوجه آخر. قال: (ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود، ومن وجده في الخلوة وفي الناس فهو المحب الصادق). فالمحب الصادق هو الذي يجد الأنس مع الله، سواء أكان في جماعة أم كان وحده في الليل والنهار، فالله عز وجل جعل هذا الإنسان محباً صادقاً، كما قالت رابعة: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني بين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

أشرف أحوال الاختيار

أشرف أحوال الاختيار أشرف الأحوال ألا تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك الله، فإذا كنت تريد أن تدخل في المكان الفلاني، أو تتزوج ابنتك فلاناً، أو يتزوج ابنك بنت فلان، أو تحصل على المسألة الفلانية؛ فدع ذلك كله لله {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]. فإن قلت: ماذا أختار؟ قال لك الإمام ابن القيم: اختر ألا تختار، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى ثانياً، ولو كان له اثنان لتمنى ثالثاً، ولن يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. فكن مع الله في حالة من الرضا، فاللهم اجعلنا من الراضين يا رب.

لا تغتر بمجالسة الصالحين

لا تغتر بمجالسة الصالحين إن مصابيح القلوب الطاهرة في أصل الفطرة منيرة فالقلوب التي لا تعرف غشاً ولا نفاقاً ولا حسداً ولا بغضاء، فأصل الفطرة منيرة قبل الشرائع، {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35]. يقال: إن قس بن ساعدة بليغ العرب كان من الموحدين، ولكنه لم ير الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك النجاشي، فقد كان موحداً ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه رسول الله صلاة الغائب، وترحم عليه. وكفر ابن أبي وقد صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو في النار يوم القيامة، وهو القائل: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]. يعني بالذليل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاشاه صلى الله عليه وسلم، وفي غزوة أحد خذل المسلمين حين أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي الشباب، وهو الذي تولى كبر الفرية في قضية اتهام السيدة عائشة أم المؤمنين ورميها بالزنا لما رجعت مع صفوان بن المعطل عقب غزوة بني المصطلق، فقال: هذه أمكم قد زنت مع فلان. وقد جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتله، فقال: لا، لكي لا يقال: إن محمداً يقتل أصحابه. فلما مات وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم موته قام ليصلي عليه، فوقف عمر فأخذ بثوبه وقال: أتصلي عليه وقد قال كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ فقال له: (إن ربي قد خيرني، وإني لو أعلم أنني لو استغفرت له أكثر من السبعين غفر له لاستغفرت). ولما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه نزل جبريل وهو عند المقبرة بقوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]. فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان أمين سر رسول صلى الله عليه وسلم بأسماء سبعة عشر منافقاً في المدينة، فلو أن واحداً منهم مات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن حذيفة يقول للمتولي مكان الرسول: لا تصل عليه؛ لأن هذا من السبعة عشر، ولم يكن أحد يعرف أحداً من السبعة عشر أبداً إلا حين يموت فيترك حذيفة الصلاة عليه. ولما تولى عمر بن الخطاب إمارة المؤمنين قال لـ حذيفة: أستحلفك بالله، أسماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فـ عمر بن الخطاب يخاف أن يكون من المنافقين، فهو يتهم نفسه بالنفاق، ونحن نسأل الله السلامة. فهذا عمر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان بعدي نبي لكان عمر)، وقال: (لولا أنت لهلكنا يا ابن الخطاب)، وقال: (كان فيمن قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي فهو عمر). وأخبر صلى الله عليه وسلم بأنه دخل الجنة فرأى قصراً وجارية تتوضأ على نهر، فقال: لمن القصر؟ فقيل: لـ عمر، فأراد دخول القصر فتذكر غيرة عمر فلم يدخل. فمصاحبة عبد الله بن أبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ منها ألا تغتر بصحبة الصالحين، فلقد صحب عبد الله بن أبي ابن سلول رسول الله صلى الله عليه وسلم وما انتفع بصحبته. ولا تغتر بكثرة العبادة، فما كان امرؤ أعبد من إبليس، ولا تغتر بالعلم، فما كان امرؤ أعلم من بلعام بن باعوراء الذي ذكر في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175 - 176]. فقد كان يعبد ربنا بصدق، فلما عصى الله عز وجل وأخلد إلى الأرض كان من الغاوين، فكن مع الله يخف الله المخلوقات منك.

العظة والعبرة في رعاية الله لموسى وغيرها من القواعد العظيمة

العظة والعبرة في رعاية الله لموسى وغيرها من القواعد العظيمة كم في قصص القرآن من عظات وعبر، ومن تلك القصص قصة موسى عليه السلام حين التقطه آل فرعون وهو رضيع، حيث جاء طفلاً خالياً عن أم إلى امرأة خالية عن ولد، ثم أتي بأمه لترضعه ولتأخذ على إرضاعه أجراً، وذلك لأنهم لما أخذوا موسى وعرضوا عليه المراضع، لم يقبل واحدة منهن، قال تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [القصص:12 - 13] لأن الله أوحى إليها: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص:7]، فقال تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:13]. فلما التقم ثدي أمه عرض عليها أن تقيم في بيت فرعون؛ فقالت: عندي أولاد. فانظر إلى التوكل على الله كيف يعمل! فكم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد؟! وذلك لأجل رؤيا فسرت بأن من بني إسرائيل من سيأخذ ملكه، فأمر بقتل كل مولود من بني إسرائيل، ولسان القدر يقول: لن نربيه إلا في حجرك. فكن متوكلاً على الله كما كانت أم موسى عليه السلام؛ إذ المراد من القصة أخذ العبرة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] أي: أصحاب العقول الناضجة المفكرة.

حقيقة الدنيا

حقيقة الدنيا إن الدنيا كامرأة بغي لا تثبت مع زوج، فلا ترض بالدياثة. والدنيا كجيفة، وطلابها كلاب، فمن أحب الدنيا فليجعل من نفسه كلباً، وكل رجل إما أن يكون من أهل الجنة أو من أهل النار، فإن كان من أهل الجنة فكيف تحسده على الدنيا؟! إذ كم تساوي الدنيا عند الله بالنسبة إلى الجنة؟! وإن كان من أهل النار فكيف تحسده على هذا المآل الذي سوف ينزع منه مهما كانت دنياه؟! فالسير في طلب الدنيا سير في أرض مسبعة، والسباحة فيها سباحة في غدير التمساح، فالمفروح به منها هو عين المحزون عليه، فآلامها متوالية من لذاتها وأحزانها. إن طائر الطبع يرى الحبة، وعين العقل ترى الشَّرَك، غير أن عين الهوى عمياء لا ترى. والذين يؤمنون بالغيب هم الذين غضوا أعينهم عن الشهوات: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] وهؤلاء يقال لهم: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46].

الهلاك في إعراض الله عن عبده

الهلاك في إعراض الله عن عبده كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه، وولد لا يعذره، وجار لا يحمله، وصاحب لا ينصحه، وشريك لا يوافقه، وعدو لا ينام عن معاداته، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا متزينة، وهوى مُرد في ضياع دنيا، وشهوة غالبة، وشيطان مزين، فكل هؤلاء أعداؤه، فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت له هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة. ولا تظن أن الشيطان غلب، ولكن الولي أعرض، فالشيطان ضعيف، وإنما غلب لأن الله قد أعرض عن العبد.

عاقبة الإعراض عن تحكيم الكتاب والسنة

عاقبة الإعراض عن تحكيم الكتاب والسنة لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربي عليها الصغير وهرم عليها الكبير، فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدعة مقام السنة، والعقل مقام النص، والهوى مقام الاتباع، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور وأهلها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك بأضدادها، وكان أهلهم هم المشار إليهم. فإذا رأيت دولة هذه الأمور قد أقبلت، وراياتها قد نصبت، وجيوشها قد ركبت؛ فبطن الأرض -والله- خير من ظهرها، وفي الحديث: (سوف يأتي زمان على أمتي يمر فيه الرجل بقبر أخيه فيقول: يا ليتني كنت مكانه). فحينئذٍ تكون شعف الجبال خيراً من السهول، ومخالطة الوحوش أسلم من مخالطة الناس. اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكى الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والخبائث، وهذا -والله- منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعدلوا عن طريقكم هذا بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوحاً، وكأنكم بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غلق، وبالجناح وقد علق، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. فاشتر نفسك اليوم، فالسوق قائمة والثمن موجود، والبضائع رخيصة، وذلك بصلة رحم، وبصدقة، وبزكاة، فأبواب الخير مفتوحة، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل أو كثير منها، ذلك يوم التغابن، يوم يعض الظالم على يديه، ويقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً.

حال العمل الخالي من الإخلاص

حال العمل الخالي من الإخلاص العمل بغير إخلاص كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه، فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب، فالذكر، والدعاء، ومجالس العلم، وقراءة القرآن، وقيام الليل، كل ذلك إذا لم يكن بإخلاص كان صاحبه كالمسافر الذي يحمل على دابته فوق طاقتها، ولا يوفيها علفها، فما أسرع ما تقف به!

لذة العافية بعد مر الصبر

لذة العافية بعد مر الصبر إن من لمح حلاوة العافية هانت عليه مرارة الصبر، ومثال ذلك في مريض أجرى له الطبيب عملية، فهو يصبر على ألم العملية من أجل عافية البدن. إن الفوز هو دخول الجنة، قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، وبينك وبين الفائزين جبل الهوى، فهواك نزل بين يديك ونزلت أنت خلفه، وأولئك تركوا الهوى وراءهم. ومن جعل الغراب له دليلاً يمر به على جيف الكلاب فالدنيا مضمار، وقد انعقد الغبار وخفي السابق بين راكب وراجل، وأصحاب حمر معقرة. سوف تعرف إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار

سلسلة شرح كتاب الفوائد [4]

سلسلة شرح كتاب الفوائد [4] لقد خلق الله الإنسان وجبله على الطمع والشره، وجعل فيه حب الشهوات، فهي تصطاده وتصده عن السير إلى الله إن ترك للنفس زمامها وحرص على الدنيا وأطماعها، وقد جعل الله علاج النفس بمحاربتها والانقطاع إليه سبحانه.

شراهة الطبع وفائدة الحمية

شراهة الطبع وفائدة الحمية يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (في الطبع شره). فالإنسان بطبعه طماع لا يقنع بالقليل، ولا يسمع كلام الحبيب صلى الله عليه وسلم عندما يقول: (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى) وقليل تشكره خير من كثير لا تطيقه، وقليل يكفيك خير من كثير يطغيك. أي: أن الوقاية خير من العلاج. وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (إياك وما يعتذر منه) يعني: ليس هناك داع إلى فعل عمل أحتاج إلى الاعتذار منه، وقد قال الإمام الشافعي: من واجب الناس أن يتوبوا، ولكن ترك الذنوب أوجب. فحين أذنب يجب علي أن أتوب، ولكن من أفضل العمل ألا أذنب، وفي الحديث: (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. والدهر في تقلبه عجيب، ولكن الأعجب منه غفلة الناس.

لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى

لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى إن لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى، والحريص هو الذي يمسك ما معه إلى درجة البخل، فالحرص مطلوب، ولكن لو زاد على حده أفسد. فالإنسان قد يبخل بوقته، فيخاف من أن ينفق من وقته، أو ينفق من ماله، أو ينفق من علمه، أو ينفق من جاهه، فهو بخيل بوقته على الله، وبخيل بماله على الله، وبخيل بجاهه على الله، فـ ابن القيم يقول: لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى. وفي المثل الجاري: الطيور الشريرة لا تطير إلا ليلاً، كالخفاش والبومة، وهكذا اللص لا يمشي إلا في الظلمات، فلص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى، والمراد به ظلمة القلب، فالقلب يتنور بالإيمان وبالتقوى، وبذكر الله ومجالس العلم.

فخ التلف في الاستلذاذ بالمشتهى

فخ التلف في الاستلذاذ بالمشتهى إن حبة المشتهي تحت فخ التلف، فتفكر في الذبح. كحال الطائر الذي يقصد الحبة فيقع في فخ الصياد. ومثال ذلك في المرشحين في الانتخابات، فكل واحد منهم يريد أن يأخذ كرسياً في البرلمان. وقد قيل: إني بليت بأربع ما سلطوا إلا لجلب مشقتي وعنائي إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي فحبة المشتهي تحت فخ التلف، فتفكر في الذبح، والناصح المؤمن يعلم هذا، فالنهاية والعاقبة مع الصبر هي حلاوة النجاة، ولذلك يروى أن إبراهيم بن أدهم قال: مررت بصومعة راهب في الشام، فقلت: أيها الراهب! منذ كم أنت هاهنا؟ فقال: يا إبراهيمي -أي: أنه على ملة إبراهيم- منذ سبعين سنة. فقلت: وما الذي يصبرك على هذا الشقاء؟! فقال: أتباعي لهم يوم في السنة يأتون فيه إلي هنا ليحتفلوا بي، فيزينوا المكان، ويذبحوا الذبائح، ويجمعوا الناس، فأنا أصبر السنة كلها من أجل هذا اليوم. فقلت: متى هو؟ قال: بعد أسبوع. فقعد إبراهيم بن أدهم أسبوعاً، فإذا بهم قد أتوا بالهدايا والذبائح، فأخذ الرجل بضع حبات من تمر فقال لرجل: ساومهم على شرائها. فقال: من يشتري من الراهب؟ فقالوا جميعاً: نشتري، فبكم الحبة؟ فقال أحدهم: أنا أشتريها بعشرة دنانير. وقال آخر: أنا أشتريها بمائة. فوزع على كل واحد حبة بمائة دينار. ثم قال الراهب لـ إبراهيم بن أدهم: يا إبراهيمي! أرأيت كيف أني أصبر العام كله لأجل يوم، وأنت لا تريد أن تصبر العمر من أجل نعيم لا نهاية له في جنة عرضها السموات والأرض؟! يا إبراهيمي! أرأيت كيف يعتز مخلوق بعطية مخلوق فيشتريها، والله سبحانه قد اشترى منك نفسك ومالك، فهل بعت لله يا إبراهيمي؟! وهناك مقالة قالها الحسن البصري، فقد قال: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان الخزف الذي يبقى خيراً من الذهب الذي يفنى، فكيف والآخرة ذهب يبقى والدنيا خزف يفنى؟! أي: فالكارثة أن الدنيا عبارة عن خزف فان، والآخرة عبارة عن ذهب باق، ونحن نفضل الخزف الفاني على الذهب الباقي.

البخل فقر غير مأجور عليه

البخل فقر غير مأجور عليه إن البخيل فقير لا يؤجر على فقره. قال علي بن أبي طالب: عجباً للبخيل يعيش عيشة الفقراء، ويحاسب حساب الأغنياء. وفي الحديث أن المرء يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه. ويضرب المثل في البخل بـ مادر، فيقال: أبخل من مادر، وقد قيل له: ممن تعلمت البخل؟ فقال: من قبيلتي كلها.

تقديم عطش الضر على شرب المنة

تقديم عطش الضر على شرب المنة يقول ابن القيم: الصبر على عطش الضر ولا الشرب من شرعة المن. والمراد الصبر على الأذى والابتعاد عن منة الآخرين عليك، كصبر المرء على قلة ذات اليد عن أن يمن عليه مان بعطيته. وأكبر المن أن نمن على الله تعالى، كما قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]. فلله المن، وليس لك أنت؛ لأن المنة أولاً وأخيراً لله رب العالمين لا شريك له.

لا تسل غير الله

لا تسل غير الله وقديماً قالوا: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. وهذا مثل عند العرب معروف، أي: لا تقتات بعرضها، واليوم تجدهم يحاولون جعلك تتعاطف مع الراقصة، فيقولون: بدلاً من أن تسأل الناس تعمل في الرقص بشرف. والمراد من هذا المثل -تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها- ألا تسأل سوى مولاك، فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه، فحين تذهب إلى جارك فتقول له: يا عم! أعطني جنيهاً يكون معنى ذلك أن أباك بخيل، فحين تطلب من غير الله تكون مثل العبد الذي يطلب من غير سيده، فلا تسأل غير سيدك، ولا تسأل سوى مولاك، فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه.

ثمار غرس الخلوة

ثمار غرس الخلوة قال ابن القيم: غرس الخلوة يثمر الأنس. فأنت عندما تخلو بالله وحدك تأنس به تعالى. ويقول: استوحش مما لا يدوم معك، واستأنس بمن لا يفارقك. فالذي لا يدوم معي هو الدنيا، فأحصلها بالوحشة منها؛ لأنها لا تدوم. واستأنس بمن لا يفارقك، وذلك بالعمل الصالح. وقد روي أن موسى عليه السلام قال: يا رب! ما أفضل الأعمال عندك؟ فقال: يا موسى! أن تذكرني ولا تنسى، فإنك إن ذكرتني شكرتني، وإن نسيتني كفرتني، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].

من ذاق عرف

من ذاق عرف لإخواننا الصوفية جملة لطيفة قوية، وهي: (من ذاق عرف). فالذي يذوق الشيء هو الذي يعرف قيمته، فحين تكلم عاصياً على حلاوة العبادة، أو تكلمه على لذة المناجاة في جوف الليل وهو لا يصلي أصلاً فإنه لا يدرك ما تعنيه بالضبط، فمن ذاق شيئاً عرفه، فالذي يذوق طاعة الله يعرفها. وأعجب الأشياء أن تعرفه تعالى ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر معاملته ثم تعامل غيره، وأن تذوق ألم الوحدة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه والإنابة إليه. والأعجب من هذا علمك أنك لابد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت عنه معرض. أي أنك عارف بأنك لن تجد غيره، وأنك محتاج إليه، فليس هناك إلا هو ومع ذلك تعرض عنه، فلو فكر الإنسان في هذا لسلك في حياته مسلكاً آخر، ولو جئنا بكل فقرة من كتاب الفوائد لكان فيه صحوة للغافلين؛ لأن كتب ابن القيم فيها الدواء الشافي لكل قلب بعيد عن الله عز وجل.

خطر الحرص وتتبع الشهوات

خطر الحرص وتتبع الشهوات يقول ابن القيم: [لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى]؛ لأن اللص لا يمشي إلا في الليل، المثل الإنجليزي يقول: الطيور الشريرة لا تطير إلا ليلاً، فالخفاش لا يطير إلا في الليل والبومة لا تطير إلا في الليل، وهكذا اللص لا يسير إلا خلسة، فهو دائماً يمشي في الظلمات، وكأن ابن القيم يريد أن يقول: إن الهوى يحدث في القلب ظلمة فالمطلوب أن ينور القلب بالإيمان وبالتقوى وبذكر الله وبمجالس العلم، فهذه إذاً العوامل التي تضيء القلب، فلا تجعله حريصاً، وطالما وجدت مدارس العلم ونحن نستمع إليها فإن النور يقهر الظلام ويحل مكانه. [وحبة المشتهي تحت فخ التلف] يريد بحبة المشتهي: ما يشتهي أن يأخذه أحد من حاجة معينة، وكأن المشتهي طائر يريد أن يلتقط حبة من شرك، ونضرب مثلاً بالمرشحين في الانتخابات، فكل واحد منهم يريد أن يأخذ كرسياً في البرلمان، يحصل له بسببه حصانة ومركز مرموق، وهذا وأمثاله ما عبر عنها ابن القيم بحبة المشتهي. أما كونها تحت فخ التلف، فهو فخ منصوب فالمرشح في مثل هذه الانتخابات يصرف أموالاً طائلة من أجل أن يصل إلى ما يريد. فـ ابن القيم -رحمه الله- بقوله: حبة المشتهي تحت فخ التلف، يناديك: يا مؤمن! تيقن أنك لو أخذت حبة المشتهي ونزلت في الفخ سيمسكك الصياد، وإذا أمسكك فسوف يذبحك، والصياد يتمثل في: إبليس والدنيا، قال سيدنا أبو بكر الصديق: إني بليت بأربع ما سلطوا إلا لجلب مشقتي وعنائي إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي فالمؤمن يضع في ذهنه النهاية والعاقبة، مثله كمثل الطالب المجد طوال السنة تراه يسهر طوال الليل، يبذل الجهد تلو الجهد وفي آخر السنة تطغى حلاوة التفوق على ألم الاستذكار، فالذي جعله صابراً على هذا حلاوة النجاح. قيل لـ إبراهيم بن أدهم: يا إبراهيم! من أين تعلمت العلم؟ قال: تعلمته من رجل أسير، قيل: أنت يا إمام المسلمين تعلمت من رجل أسير!! قال: بل قال لي جملة واحدة، ثم قال: مررت بصومعة راهب في الشام فقلت: أيها الراهب! منذ كم وأنت ههنا؟ قال له: يا إبراهيم! منذ سبعين سنة، فقلت له: سبعين سنة وأنت في هذه الصومعة، ما الذي يصبرك على هذا الشقاء؟ قال: أتباعي لهم يوم في السنة يأتون فيه إلي ليحتفلوا بي، فيزينوا المكان ويذبحوا الذبائح ويجمعوا الناس فأنا أصبر السنة كلها لأجل ما يحدث في هذا اليوم، فقلت له: ومتى سيكون ذلك؟ قال: هذا بعد أسبوع، فقلت: سأجلس معك إلى أن يأتي هذا اليوم. فقعد إبراهيم بن أدهم يرقب اليوم حتى أتى، فرأى الناس يفدون على الراهب ويزينون المكان ويذبحون الذبائح مبتهجين. فدنا الراهب من إبراهيم وأعطاه كيساً فيه بضع حبات من قمح وقال له: ساومهم على شرائها فقال إبراهيم: من يشتري حبات الراهب؟ فقالوا جميعاً: نشتري، بكم الحبة؟ قال أحدهم: أنا أشتري الحبة بعشرة دنانير، وقال آخر: أنا أشتريها بمائة، فوزع على كل واحد منهم حبة بمائة دينار. ولا عجب فنحن نرى اليوم البابا في الفاتيكان يخرج من الشرفة ثم يرش ماء البركة بزعمه فمن وقعت على وجهه قطرة منه فقد غفر له بزعمهم ورضي عنه الرب. ثم قال الراهب: يا إبراهيم! أرأيت كيف أني أصبر العام كله من أجل يوم وأنت لا تريد أن تصبر العمر من أجل جنة عرضها السموات والأرض، يا إبراهيم! أرأيت كيف يعتز مخلوق بعطية مخلوق فيشتريها والله سبحانه قد اشترى منك نفسك ومالك فهل بعت لله يا إبراهيم؟ وبذلك نكون قد أدركنا معنى قول ابن القيم: حبة المشتهي تحت فخ التلف فتفكر للذبح، المؤمن الناصح يرى الفخ، لكن المؤمن العاصي يرى الحبة، وقد هان الصبر، وقد تقدم قول الحسن البصري: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لفضل العاقل الخزف الباقي على الذهب الفاني، فما بالكم ونحن نفضل الخزف الفاني على الذهب الباقي!! يفرض جدلاً أن الدنيا ذهب، لكنه فاني، والآخرة عبارة عن قليل من الخزف لكنه باقي، نجد أن العاقل يفضل الباقي ويختاره على الفاني وإن كان ذهباً. لكن الحقيقة أن الدنيا عبارة عن خزف فان والآخرة عبارة عن ذهب باق، وللأسف أنا نفضل الخزف الفاني على الذهب الباقي. [البخيل فقير لا يؤجر على فقره] أي أنه سبب فقر نفسه، قال علي بن أبي طالب: عجباً للبخيل يعيش عيشة الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء. فهو في الدنيا من رآه ظن أنه مسكين، لكن الله يحاسبه على أنه غني، وحساب الغني في القيامة يطول، وفي الحديث أن المرء يسأل (عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)، فالبخيل فقير لا يؤجر على فقره. قيل لـ مادر -رجل يضرب به المثل في البخل فيقال: أبخل من مادر -: ممن تعلمت البخل؟ قال: من قبيلتي، قالوا: كيف ذلك؟ قال: كنت أخرج وإخواني للصيد، فإذا ما انتهينا وضع كل منا صيده في القدر فكان كل واحد منهم يربط قطعة اللحم التي يملكها فيظل ممسكاً بها حتى لا تختلط. قال ابن القيم: [الصبر على عطش الضر ولا الشرب من سلعة المن] قوله: عطش الضر: هو الإنسان يحرم من نعمة معينة، وإنما سماه ابن القيم: عطش الضر؛ لأنه يتضرر منه، كأن لا يوجد للإنسان ولد يرثه، أو كان عنده بنتان ويريد ذكراً، أو كان عنده ولد عاق وكان يتمنى ولداً طائعاً، أو كان لا يمتلك نقوداً ويتمنى أن يصبح عنده نقود، أو كان يرغب أن يصبح وزيراً ولم يحصل ذلك، وغيرها من النعم المسلوبة. أما سلعة المن، فالمراد العطية يعطيها ثم يمن على من أعطاه بها، فالصبر على عطش الضر خير من الشرب من سلعة المن، ومن العجيب ما يقع فيه البعض في لحظات الضعف الإيماني إذ يمنون على الله -والعياذ بالله- في الركيعات التي يؤدونها حتى يقول قائلهم: أنا أصلي من ثلاثين سنة ولا يوجد عيل إلا في منزلي!! وغيرها من المقولات التي لا ينبغي أن يكررها مسلم إذ المنة كلها لله وحده، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]. فالمنة أولاً وأخيراً لله رب العالمين لا شريك له. ثم يقول مؤكداً معنى قوله: الصبر على عطش الضر ولا الشرب من سلعة المن: [تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها] وهذا مثل عربي معروف، أي: أن الحرة تجوع ولا تتاجر بعرضها، لكن أصحاب الفن والسينما يجعلونك تتعاطف مع الراقصة، فتجد من يقول: هذه مسكينة غدرها زوجها وليس لها حظ، وتظل هي تبكي وتقول: فأنا بدلاً من أن أسرق أو أشحت أشتغل بشرف!! ولعمري عن أي شرف تتحدث هذه الراقصة. وقد فوجئت قبل أيام بخبر في الأخبار: أنه في يوم السبت الماضي قبضت شرطة الآداب على ثلاث رقاصات يرقصن من غير ترخيص، وهذه أول مرة أعرف في الحقيقة أن هناك تراخيص تمنح للراقصات، ولا أدري أي جهة تمنح التراخيص. ثم يحث ابن القيم على التوجه لله وحده فيقول: [لا تسأل سوى مولاك، فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه]، ومثل ذلك أن ابنك يذهب لجارك ويقول له: يا عم! أعطني جنيهاً فيقول الجار في نفسه: إن جاري بخيل، فأنت بدلاً من أن تقول: يا رب! تقول: يا عبد الله، إذاً أنت تشنع على الله. فمثلك حين تطلب من غير الله كمثل العبد الذي يطلب من غير سيده فيشنع على السيد بالبخل.

الأنس بالله

الأنس بالله يقول ابن القيم: [غرس الخلوة يثمر الأنس]. أي: أنك حين تخلو بالله وحدك تشعر بالأنس، فالثمرة التي تجنيها من الخلوة مع الله الأنس والطمأنينة، وإن وصفك الناس أنك منعزل، أو قالوا: هذا انعزالي: هذا طريقه من البيت إلى الجامع لا عمل له. والحقيقة أن ذلك ليس عيباً. ثم يؤكد هذا المعنى فيقول: [استوحش مما لا يدوم معك واستأنس بمن لا يفارقك] يريد بقوله: مما لا يدوم معك الدنيا وما فيها، فالدنيا وما فيها ستفارقك قطعاً، فحقها أن تلاقيها بالوحشة لا بالأنس، وقوله: واستأنس بمن لا يفارقك، يريد أن تستأنس بالله وبالعمل الصالح. ثم يبين العزلة المستحبة فيقول: [عزلة الجاهل فساد وأما عزلة العالم فمعها حذاؤها وسقاؤها] وذلك لأن الجاهل حين يعتزل من غير أن يتعلم يجهل كيفيات العبادة، وأوقاتها، وماهيات القربات، لكن العالم حين يعتزل الناس قد أخذ عدة عزلته، ثم يستطرد مع العزلة فيقول: [إذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة، استحضر الفقه وجرت بينهم مناجاة: أتاك حديث لا يمل سماعه. ]. أي: إذا اجتمع عقل المؤمن مع يقينه في الله عز وجل في بيت العزلة، حيث يبتعد فيه عن السوء والصحبة، إذ إن الأرواح تحن لأشكالها، فلو أن إحدى الأخوات خرجت من هنا فوجدت بنتاً في الأسفل ترتدي البنطلون وقد وضعت على وجهها مساحيق الزينة، وبجوارها أخرى عليها جلبابها فإنها قطعاً ستجلس إلى الثانية دون الأولى، فهي لا تتنسم نسيم الراحة إلا مع أختها، ولا تأنس وتطمئن إلا إليها، أما الأولى فإنها لا تأنس معها؛ لأن المؤمن إلف ألوف، كما أنه لو دخل مؤمن إلى مجلس فيه مائة منافق، وبينهم مؤمن واحد لجلس بجوار المؤمن وهو لا يعرفه؛ لأن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. والعزلة التي يريدها ابن القيم هي عن السوء والصحبة، وإعمال الفكر في خلق الله عز وجل. وقوله: (أتاك حديث لا يمل سماعه)، يريد به القرآن، فالقرآن هو الوحيد الذي لا يمل سماعه، فأنت لو شاهدت مسرحية ضاحكة لأول مرة ستضحك من مشاهدها، لكنك لو تشاهدها مرة ثانية لن تضحك كالأولى بل ربما تضجر، وهكذا القصائد والأفلام وغيرها تمل من كثرة التكرار، لكن القرآن لا يمل أبداً، فلو قرأت مثلاً سورة يوسف مائتين مرة فإنك في كل مرة تكتشف معنى جديداً، ولذلك كان من معجزات القرآن أنه لا يخلق على كثرة الرد، ومعنى: لا يخلق: لا يبلى، ومنه الثوب الخلق أي: الثوب القديم، فمعنى قولنا: لا يخلق القرآن على كثرة الرد، أي: لا يصبح القرآن قديماً بالياً من كثرة قراءته، بل يبقى غضاً طرياً كأني أسمعه لأول مرة. ثم يستطرد ابن القيم -رحمه الله- في وصف القرآن فيقول: [أتاك حديث لا يمل سماعه شهي إلينا نثره ونظامه]. فما من مؤمن صادق يحدث له ضيق صدر يقوم فيتوضأ ويقرأ أي صفحة من القرآن إلا ذهب عنه الضيق، أما لو كان لا يزال في أول الطريق فنقول له: اقرأ سورة يوسف؛ لأن سورة يوسف ما قرأها حزين إلا وفرحه الله. وينبه هنا على أنه لابد أن يكون عنده استعداد لتلقي كلمات الله، ولابد حين يقرأ أن يخلي ذهنه من الشواغل، بل يصب تركيزه على تدبر كلمات الله، فإنه إن فعلها تحصل له أثرها بإذن الله.

الخصام دليل الجهل

الخصام دليل الجهل قال ابن القيم رحمه الله: [إذا خرجت من عدوك لفظة سفه فلا تلحقها بمثلها]. قال الشافعي رحمه الله: يبارزني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيباً يزيد سفاهة فأزيد حلماً كعود زاده الإحراق طيباً أما نحن اليوم فقد أصبحنا نصنع كما يقال: يقول لي كلمة أرد عليه كلمتين، وإن قال كلمتين أرد عليه خمس كلمات، والأمل من مجالس العلم أن ترقى بنا وبأخلاقنا. ثم يبين ابن القيم رحمه الله قبح الخصام فيقول: وكأن الخصام له نسل، وإنما قال ذلك؛ لأن الرجل بذيء اللسان يكون ابنه مثله وحفيده كذلك، على العكس ممن يحرص أن يكون كلامه موافقاً للشرع، إما ذكر وإما فتيا، كما أن من يحرص على ذلك تجده دقيقاً بألفاظه، حذراً من مغبة المعارضة لنص من كتاب أو سنة، فهذا أبو هريرة أتاه فلم يفهم الرجل، فكرر قال له يا أبا هريرة! أأصلي بعد صلاة الصبح؟ يريد: أنا صليت الصبح أأصلي سنة أخرى بعدها، فأعاد عليه صل بعد شروق الشمس، ففهم الرجل، ولكنه تعجب من الجواب فسئل أبو هريرة: لم لم تقل له: لا تصل؟ قال: أخشى أن أدخل تحت دائرة قول الله تعالى {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9 - 10]. وأخذ ابن القيم رحمه الله يبين أن الخصام دليل الجهل فقال: [حميتك لنفسك أثر الجهل بها] والمعنى: حين تدافع عن نفسك، فدفاعك ثمرة من ثمرات الجهل الذي عندك ثم قال: [فلو عرفتها حق معرفتها أعنت الخصم عليها]، أي أنك لو عرفت حقيقة نفسك الأمارة بالسوء لتركت من ينقدك يزيد في نقده، فلو عرفت الحقيقة لأحجمت عن الانتصار لها، إذ النفس لا تنتصر إلا للشر. ثم يقول ذاماً الغضب: [إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب -أي: اشتعلت- ابتدأت بإحراق القادح]. فالانتقام حين يأتي نتيجة خلاف أو شجار يحدث بسببه عند الرجل غضب ومن ثم يثمر انتقاماً، فكأن نار الغضب أشعلت شعلة الانتقام، فإذا ما أشعلتها ابتدأت بإحراق القادح، ومثل ذلك كما تقدم كمثل الحسود فالحسود كرجل غضبان أخذ طوبة فضربها على حجر فانكسر جزء منها واتجه إلى الحائط ثم عاد إلى جوار الرجل، فأخذها ورمى الحائط فعادت إلى عينه، فازداد غيظه، فأخذ الحجر مرة أخرى ورمى الحائط وكل مرة يعود الحجر عليه بالأذى، فلا شفى غضبه، ولا سلم الضرر. يصدق فيه قول الشاعر: كالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله فالحسود غالباً معرض للأمراض من سكر وضغط وغيرها.

السعادة والتوفيق

السعادة والتوفيق قال ابن القيم رحمه الله: [من سبقت له سابقة السعادة -أي: كتب من السعداء عند الله- دل على الدليل قبل الطلب] تقدم أن من صفة الله أنه: حنان منان، والمنان هو الذي يعطي النوال قبل السؤال فالله يمتن على عباده بنعم قد لا يذكرونها من طول الألفة. فلم نسمع أن رجلاً طلب الله أن يرزقه الأكسجين، أو يهيئ له مخرجاً للفضلات، وكل ذلك وغيره أعطيه قبل أن يسأل. فالإنسان حين يعدد النعم يجد أن الله قد أعطاه قبل أن يسأل فعندما يحب الله عبداً، وهو معنى قوله: (سبقت له سابقة السعادة) وفق إلى مجالس العلم، واهتدى إلى العبادة والطاعة وهذا معنى قوله: دل على الدليل قبل الطلب، ثم يؤكد ابن القيم هذا المعنى فيقول: [إذا أراد القدر شخصاً بذر في أرض قلبه بذرة التوفيق] أي: عندما يحب الله عبداً يضع في قلبه بذرة التوفيق، [ثم سقاه بماء الرغبة والرهبة] أي: جعل عنده ترغيباً وترهيباً، [ثم أقام عليه بأطوار المراقبة] أي: جعل في قلبه رقيباً عليه من داخله، [واستخدم له حارس العلم]، فالعلم لابد أن يحرس العمل، فإن خلا العمل من العلم وقع العبد في الخطأ، يطوف حول قبر الحسين سبع مرات، والأصل أن لا يطاف إلا حول الكعبة ومن طاف حول قبر فقد أشرك بالله، وهذه مسألة لا نقاش فيها. ثم يقول: [فإذا الزرع قائم على سوقه] فالمعنى: إذا أراد القدر شخصاً بالخير، بذر في أرض قلبه بذرة توفيق فيكون موفقاً لكل خير. ثم قال: [من اتقى الله عاش سعيداً وسار في بلاد الله آمناً مطمئناً] حتى وإن كانت حوله الأهوال، فإن قلبه مليء بالطمأنينة. ولذلك المؤمن بطبيعته يستشري منه الخير لمن حوله، مثال ذلك: عندما يكون أحد راضياً في البيت وبالذات الزوجة فإنها توزع الرضا على بقية أفراد الأسرة؛ لأن الزوجة هي ميزان البيت، لو كانت الزوجة ليست راضية فالبيت كله يكون في حالة قلق؛ لأنها إذا كانت راضية وزوجها زعلان فإنها تهون عليه وتلاطفه وتقول له: ربنا يكرمك، وعكس ذلك لو كانت المرأة ساخطة. لذلك طلب سيدنا زكريا من ربنا أن يرزقه ابناً وطلب فيه صفة واحدة: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:6]، والرضي هو: الإنسان الراضي المرضي عنه من الله ومن الخلق؛ لشدة رضاه يوزع الرضا على من حوله، اللهم اجعلنا منهم يا رب. وفي الأثر: يا داود! أنت تريد وأنا أريد فإن رضيت بما أريد أعطيتك ما تريد، وإن لم ترض بما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد، فإني فعال لما أريد. كما أن معنى قولي: (أنا مسلم) أنني سلمت أمري لله، كما قال سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]. أي: صار مسلماً أمره لله، وإذا كان هذا الإسلام حقيقياً ينتقل إلى درجة الإيمان، وإذا كان الإيمان حقيقياً ينتقل إلى درجة الإحسان، التي نحسب أن الحسن البصري كان عليها عندما كان يقول: أدعو الله فأرى يد الله تكتب لي الإجابة. وفي زمننا هذا برغم كل المصائب التي نراها فإن الله بفضله وكرمه يعد للأمة أناساً عندهم حالة الالتصاق بأمر الآخرة، حتى أن الدنيا عند أحدهم لا تساوي شيئاً، وتراه في ظاهر الأمر إنساناً عادياً جداً، ولكن لديه قوة، ولا قوة إلا بالعلم وبالعمل وبالإخلاص وبالعبادة الحقة، فمثل هؤلاء هم الذين يمنعون الصواعق عن هذه الأرض، فاللهم أكثر منهم يا رب العباد واحشرنا في زمرتهم يا أرحم الراحمين يا رب العالمين. وقوله: ثم سقاه بماء الرغبة والرهبة، يؤكد على ضرورة أن أكون راغباً إلى الله وفي نفس الوقت خائفاً منه، قال تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، خوفاً من عذابه، وطمعاً في نعيمه، فيبقى بين حالتي: الرجاء والخوف، وقوله: (ثم أقام عليه بأطوار المراقبة)، يبين أن القلب لابد من مراقبة لخواطره والسعي لإزالة حجارته، قال سيدنا علي رضي الله عنه: غرس الزهد بقلبي شجره ثم نحى بعد جهد حجره أي أنه عمل مجهوداً إلى أن أزال من القلب حجره فصار القلب ليناً، فما تحجرت قلوبنا إلا من عدم التقوى والطاعة التي فيها. فالأبيات: غرس الزهد بقلبي شجرة ثم نحى بعد جهد حجره وسقاها إثر ما أودعها كذب الدمع بدمع أهدره وإذا ما رأى طيراً مفسداً حائماً حول حماها زجره أي أنه حين يرى طائر الطمع، أو طائر الدنيا يحوم حول الزهد زجره وأبعده، ثم يقول: نمت في ظل ظليل تحتها روع القلب ونحى ضجره ثم بايعت إلهي تحتها بيعة الرضوان تحت الشجره

أهمية العمل للآخرة

أهمية العمل للآخرة قال ابن القيم رحمه الله: [الجسد سبعة: الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج]، أي: أن الروح في الجسم مثل الطير في البرج أو في القفص. [وما أعد للاستفراخ ليس كمن هيئ للسباق] فالتي نحضرها من أجل أن تلد، غير التي نحضرها من أجل غرض آخر، فالحمام الزاجل الذي ينقل الرسائل يختلف عن الحمام الذي يبيض ويفقس البيض فقط، فهذا الصنف للتجارة وللبيض وللفرخ، لكن الأول مهيأ لشيء أفضل، ومثل ذلك أيضاً: الأولاد في الفصل، يصل عددهم إلى أربعين طالباً، ولا يؤخذ منهم لأوائل الطلبة إلا طالب واحد لنضعه في فصل المتفوقين مع أن هناك الكثير من الناجحين لكن ما أعد للتفوق غير ما أعد للنجاح، فمن يجهز للتدريس غير الذي يجهز ليمسك أزمة الأمور في الدولة، والحال [من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل وبأي شغل يشغله] فلو أن لك ولدين فأنت تدرك ميزات أحدهما عن الآخر، فلا يعد من الغريب أن تبعث أحدهما كل يوم ليأتي بالعيش من الفرن، فأنت تعلم أنه أجلد من أخيه، قادر على الوقوف في الطابور، مستعد لأي صراع أو شجار يحدث، وليس من الغريب أن تبعث الآخر إلى المناسبات العامة، فأنت تدرك لطفه في التعامل، وكياسته في ذلك. ومراد ابن القيم رحمه الله من هذا أن الله حين يستخدمك في أمر الدنيا تصبح عنده لا تساوي شيئاً؛ لأن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأنه حين يستخدمك في أمر الآخرة فأنت كريم عند الله يريد إكرامك بما فيها من النعيم. اللهم استخدمنا في أمر الآخرة. سأل أحدهم الحسن البصري: ما مكانتي عند الله؟ فقال له: اعرف مكانة الله عندك تعرف مكانتك عند الله. أي: إذا كان الله عندك كل شيء فأنت عند الله كل شيء، إذا كان الله عندك من الأشياء التي لا تتذكرها إلا نادراً فأنت عند الله لا شيء. ثم يؤكد ابن القيم رحمه الله على أهمية العمل للآخرة فيقول: [كن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا فإن الولد يتبع الأم] فالحال أنهما اثنتان لا ثالث لهما: الدنيا والآخرة فمن كان من أبناء الدنيا فهو تبع لها، ومن كان من أبناء الآخرة فهو تبع لها، ثم يبين حقارة الدنيا فيقول: [الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها، فكيف تعدو خلفها؟]، فالدنيا لحقارتها لا تستحق أن تأتي إليها، فكيف تلهث وتجري وراءها، [فالدنيا جيفة والأسد لا يقع على الجيف] وإنما يقع على الجيف الكلب، ويذكر أن سيدنا علياً كان يمشي مع بعض الصحابة، فوجد ستة كلاب قد اجتمعت على جيفة من الجيف، فقال: هذه هي الدنيا وطلابها كلاب فمن أراد أن يحب الدنيا فليكن كلباً من هذه الكلاب. والحق أنه وبسبب الدنيا أخوض في عرض أخي المسلم، وأخوض في ماله، وآخذ حقه، فالدنيا مبنية على الصفات الكلبية، لكن الأسد لا يأتي إلى الجيفة، بل إن الأسد حين يأتي ليشرب من البئر لو شم رائحة كلب شرب منه لرفض أن يشرب. إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه وتمتنع الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب ولغن فيه وابن القيم رحمه الله يقول لك: أنت أسد والدينا جيفة لا ترد عليها إلا الكلاب، فاربأ بنفسك عنها. ثم يقول: [الدنيا مجاز -أي: ممر أو مجاز غير حقيقة- والآخرة وطن، والأوطار إنما تطلب في الأوطان] الأوطار: جمع وطر، والوطر هو الحاجات، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} [الأحزاب:37]. فلو أنك سافرت مع ابنك فقال لك الابن: أنا أريد منزلاً، أو أريد قصراً، فأنت ستجيبه: إذا رجعنا من سفرنا اشترينا لك ما تريد فالأوطار تطلب في الأوطان، والذي يريد أن يتنعم، يتنعم في الوطن الأساسي له، وهو الجنة، أما سكنت في الدنيا في بيت واسع جداً، أو قصر منيف، فما يلبث أن يخرب القصر ولو بعد حين، ولابد أن يموت صاحبه ولو بعد حين، أما في الآخرة فينادي: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، فيزداد أهل الجنة سعادة، ويزداد والعياذ بالله أهل النار شقاء.

أصناف الاجتماع بالإخوان

أصناف الاجتماع بالإخوان قال ابن القيم رحمه الله: [الاجتماع بالإخوان قسمان: أحدهما اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت وهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت]، وإن كان لا يحض على الحرام أو لا يتكلم به فيه، فإنه يضيع أثمن ما يمتلك الإنسان وهو الوقت. [الثاني الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر، فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها]، اللهم اجعلنا منهم يا رب! فكلما جلس أصحابه تواصوا بالحق والصبر. قال: [ولكن فيه آفات ثلاث إحداها: تزين بعضهم لبعض، والثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة]، وهذا بالذات يلاحظ من شكاوي النساء في المسجد. فما أن تجلس امرأتان معاً، حتى تبدآن في نثر الأخبار، وما أن ينتهي الحديث عن موضوع حتى يفتح موضوع آخر، مستغلات ما أودع فيهن الله من ذاكرة عملاقة، إذ يصل عدد خلايا المخ البشري إلى ألف بليون خلية -كل خلية عبارة عن (ركوردر) يسجل الأحداث، فلو استعضنا عن كل خلية بمسجل من أصغر حجم لنقوم بدور المخ في تسجيل الأحداث لاحتجنا إلى مسجلات تشغل مساحتها القاهرة الكبرى والجيزة وأسيوط، كل هذه موضوعة في حيز سبعة سم!! فمن منا شكر هذه النعمة وقال: أحمدك يا رب! لما علمت ولما لم أعلم، وأستغفرك لما أعلم ولما لا أعلم؛ لأنني أعمل ذنوباً لا أعرفها، وإن عرفتها أنساها. فبينما كنت أزور أخاً لي مريضاً قال أحد الجالسين: يا أخي! بذمتك هذا كلام، فقلت له: قل لا إله إلا الله، فاستغرب مما قلته له، فقلت له: أليس المسلم لو قال لأخيه: في ذمتك جعله من أصحاب الذمة، فيكون حوله من مسلم إلى نصراني أو يهودي؟ قال: نعم، قلت: فكفارتها إذاً: لا إله إلا الله. يقول ابن القيم: [الثالثة: -من الآفات في المجالسة الطيبة- أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود] فيكون الاجتماع لمجرد أن يرى فلاناً ويجلس معه ولم يقصد مرضاة الله سبحانه. ثم يقول: [وبالجملة فالأرواح الطيبة لقاحها من الملك والخبيثة لقاحها من الشيطان، وقد جعل الله عز وجل بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين للطيبات وعكس ذلك أيضاً]. أي: أن الخبيثات للخبيثين، والمعنى أن النفس الطيبة يجعل لها الروح الطيبة أو الجسم الطيب يجعل له الروح الطيبة، والروح الخبيثة توضع في الجسم الخبيث، وتقدم أن قوله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] ليس خاصاً بالأزواج والزوجات، فهذه آسية امرأة فرعون من الطيبات ولم يكن فرعون طيباً، وهذه زوجة سيدنا نوح عليه السلام لم تكن من الطيبات وكان هو من الطيبين، بل المعنى: الطيبون من الناس للطيبات من الحسنات، والطيبات من الحسنات للطيبين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من السيئات والخبيثات من السيئات للخبيثين من الناس. يذكر أحدهم قصة عجيبة فيقول: رأيت امرأة كفلقة القمر تبتسم في وجه رجل أمام خيمة وهو يعبث بوجهها ويشيح بيده وهو دميم الخلقة، فلم أستطع الصبر فقلت لها: من هذا؟ قالت: زوجي، فقلت لها: وما الذي يصبرك عليه؟ فقالت: ربما فعل حسنة في حياته فجازاه الله عليها بي، وأنا فعلت سيئة فجازاني الله عليها به.

خطوات السير إلى الله

خطوات السير إلى الله قال ابن القيم رحمه الله: [بين العبد وبين الله والجنة قنطرة تقطع بخطوتين، خطوة عن نفسه وخطوة عن الخلق، فيسقط نفسه ويلغيها فيما بينه وبين الناس، ويسقط الناس ويلغيهم فيما بينه وبين الله، فلا يلتفت إلا إلى من دله على الله وعلى الطريق الموصلة إلى الله]. وممن جسد هذا المعنى العظيم في حياته: سيدنا عطاء بن أبي رباح، صديق الحسن البصري وأحد كبار التابعين، فقد كان يمشي ذات مرة تحت بيت وإذا بامرأة ترمي من سطحه رماداً، فلما رمته أتى على رأس الرجل وعلى ثوبه وهو ذاهب ليلقي الدرس للناس، فسجد لله سجدة شكر!! فلما سئل عن ذلك قال: من استحق النار وصولح على الرماد فيجب أن يشكر الله، لما كانت النار لها رماد، وهو أخف منها ضرراً، وقد استحق النار بعمل عمله فصولح بالرماد بدلاً منها أليس هذا جديراً أن يشكر الله عليه؟ فكان عطاء بهذا العمل يسقط نفسه ويلغيها فيما بينه وبين الناس، ويسقط الناس ويلغيهم فيما بينه وبين الله، وإلا لن يصل عن طريق الناس إلى الله إلا في حالة واحدة، وهي الدلالة على الله، فلا يلتفت إلا لمن دله على الله وعلى الطريق الواصلة إليه.

الصحابة والإقبال على الله

الصحابة والإقبال على الله قال ابن القيم رحمه الله: [صاح بالصحابة واعظ {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1]، فجزعت للخوف قلوبهم، فجرت من الحذر العيون، فسالت أودية بقدرها]. كناية عن كثرة الدموع، لا كما نحن اليوم لا نبكي إلا في رمضان، ومن أغرب ما حدث لي، أن رجلاً مسلم يعيش في أمريكا اتصل بي وقال: لي: أنت الشيخ عمر؟ قلت: نعم أنا الشيخ عمر! فقال: أنا الدكتور فلان أصبح لي 22 سنة عايش في أمريكا جئت بالصدفة وصليت معك الفجر اليوم، فوجدتك تبكي والناس أيضاً يبكون، ثم صليت الجمعة فوجدت الناس في الدعاء وفي الصلاة يبكون وأنت تبكي، وفي العشاء أيضاً كذلك، هلا أخبرتني لماذا كنتم تبكون؟ فقلت له: أنا عن نفسي كان أحدهم يضغط على رجلي، أما غيري من الناس فلا أعلم لماذا كانوا يبكون!! وإنما قلت له ذلك، لأني حقيقة احترت فيما أقوله له، فاستعنت بالمجاز!! ثم قال ابن القيم رحمه الله: [تزينت الدنيا لـ علي -سيدنا علي بن أبي طالب - فقال: أنت طالق ثلاثاً لا رجعة لي فيك، وكانت تكفيه واحدة -وإنما طلقها ثلاثاً من أجل ألا ترجع له مرة أخرى ولو بمحلل- لكنه جمع الثلاث لئلا يتصور الهوى جواز المراجعة، ودينه الصحيح وطبعه السليم يأنفان من المحلل كيف وهو أحد رواة حديث: (لعن الله المحلل والمحلل له). ما في هذه الدار موضع خلوة فاتخذه في نفسك -أي: اجعل الخلوة في داخلك- ولابد أن تجذبك الجواذب فاعرفها وكن منها على حذر، لا تضرك الشواغل إذا خلوت منها، وأنت فيها، نور الحق أضوأ من الشمس فيحق لخفافيش البصائر أن تعشو عنه] أي: كما أن الخفاش لا يرى الشمس فإن الظلمة والمنحرفين لا يرون شمس الحق وإن كانت طالعة قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم فالعين التي فيها رمد تقول: الشمس لم تطلع، والفم الذي فيه مرض يشرب الماء وليس له طعم. ثم يشرع ابن القيم رحمه الله يصف الطريق إلى الله فقال: [الطريق إلى الله خال من أهل الشك، ومن الذين يتبعون الشهوات، وهو معمور بأهل اليقين والصبر، وهم على الطريق كالأعلام: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]]، اللهم اجعلنا منهم يا رب العباد، ورضي الله عن ابن قيم الجوزية ورحمه.

سلسلة شرح كتاب الفوائد [5]

سلسلة شرح كتاب الفوائد [5] إن الذي يريد أن يفوز بنعيم الأبد وسعادة الآخرة لابد أن يطهر نفسه ظاهراً وباطناً ويتخلص من الأدواء والأخلاط والمعاصي وذل الشهوات، وذلك بأن يستعمل دواء الصبر على الاستقامة والمحافظة على الطاعة، ومعاودة التوبة كلما أذنب أو وقع في هفوة.

ركيزة كتاب الفوائد

ركيزة كتاب الفوائد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فنسأل الله عز وجل أن يجعل هذه الجلسة خالصة لوجهه الكريم، وأن يجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل بيننا شقياً ولا محروماً. اللهم تب على كل عاص، واهد كل ضال، واشف كل مريض، وارحم كل ميت، واشرح صدر كل ذي صدر ضيق. اللهم اغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، واجعل -اللهم- خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك. اللهم اطرد عن بيوتنا وذرياتنا شياطين الإنس والجن، واجعل بيوتنا ذاكرة لك آناء الليل وأطراف النهار، وأكرمنا بالإيمان يا أرحم الرحمين. اللهم كما رزقتنا الإسلام من غير أن نسألك ارزقنا الجنة ونحن نسألك، اللهم أدخلنا الجنة دون سابقة عذاب. ما زلنا مع ابن قيم الجوزية رضوان الله عليه تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم الذي كله فوائد، وهو كتاب الفوائد، ولعل هذا الكتاب بفضل الله عز وجل قد شرح الله به صدوراً كثيرة، وأضاء لنا علامات على طريق الهداية لعلها تكون معالم بداية في السير إلى الله عز وجل. ولعلنا نقول: إن كتاب الفوائد يتحدث -علاوة على مسألة العقيدة- عن صلاح القلوب، فالذي يلاحظ كلمات ابن قيم الجوزية رضوان الله عليه وجزاه الله عن الإسلام خيراً، يجد أنه يركز على مسألة صلاح القلوب؛ لأن القلب إذا صلح صلح الجسد، فهو كالسلطان الذي تصلح الرعية بصلاحه وتفسد بفساده: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

أنواع الطهارة

أنواع الطهارة وقد قلنا: إن الطهارة تنقسم إلى أقسام أربعة: طهارة الظاهر من النجاسات، وطهارة الجوارح من المعاصي، وطهارة المعدة من الحرام، ثم طهارة القلب من الأنجاس والأخباث والرذائل التي تعلق بالقلب، ولا يطهر القلب الذي اختلط حلاله بحرامه، وصار الذي يدعو إلى الله عز وجل ويأخذ بأيدي الناس إلى طريق قويم يتهم باتهامات شتى. ولكننا نحاول أن نسلك إلى الله عز وجل طريقاً مستقيماً وصراطاً قويماً، فقد قدر علينا أن نسبح ضد التيار، والسباحة ضد التيار ليست أمراً ميسوراً، وإنما هي أمر له تبعاته وله عقباته، والطريق ليس ممهداً بالورود، بل هو كما قال ابن قيم الجوزية: طريق تعب فيه آدم، وناح من أجله نوح، وقاسى فيه الضر أيوب، ولاقى أنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم. وإن الجنة حفت بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، فأصبح دخول النار سهلاً؛ لأنها محاطة بالشهوات، محاطة بما تحبه النفس وبما تشتهيه. وطريق الجنة محفوف بالمكاره، والمكاره أشياء تكون دائماً ضد النفس الإنسانية، والنفس الإنسانية دائماً تحب الراحة، ولذلك سئل ابن قيم الجوزية مرة عن قصة الطريق إلى الله، فذكر قصة حدثت أمامه بين أحد المرجئة وابن تيمية شيخ الإسلام، فقد قال لـ ابن تيمية: يا ابن تيمية! كم تتعب نفسك؟! يعني: ليست لك راحة، وليس لك ليل تنام فيه، وليس لك نهار ترتاح فيه، فكل حياتك للناس وللدعوة. قال: راحتها أريد. يعني: كل هذا التعب من أجل الراحة. فهذا إنسان فقه ما وراء الموت وما عند الله عز وجل {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] فدار الآخرة هي الدار الحقة، فالله عز وجل يقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28]، فهذه النفس يقول الله لها: ارجعي، وما قال لها: تعالي، أو: اجلسي، ولكن قال: ((ارْجِعِي))، والرجوع يكون إلى المكان الأساسي الذي هو البيت، فربنا عندما يقول للنفس المؤمنة: ((ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ)) يدل قوله على مكانها الأساسي، فالدنيا كلها دار ضيافة، والضيافة أيام قليلة، ثم نعود إلى رب العباد، فاللهم ارجعنا إليك مؤمنين مسلمين مخبتين منيبين يا رب العالمين.

الصبر بذرة أولي العزم من الرسل

الصبر بذرة أولي العزم من الرسل يقول ابن القيم رحمه الله: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصر العدو دخل في حصر النصر، فعبثت أيدي سراياه بالنصر في الأطراف، فطار ذكره في الآفاق، فصار الخلق معه ثلاثة أقسام: مؤمن به، ومسالم له، وخائف منه. يعني: إذا بحثت حول الرسول صلى الله عليه وسلم بعد انتصار الإسلام فستجد هذه الأقسام الثلاثة: قسم مؤمن به، وقسم مسالم له ومعاهد من أجل ألا يحاربه ولا يحارب ضده، وقسم خائف منه. يقول ابن القيم: ألقى بذر الصبر في مزرعة: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، وكأن الصبر له جذور، وجذور الصبر تنتج الإيمان، وتنتج رضاً، وتنتج يقيناً، وتنتج ثقة بالله عز وجل، كما قالت السيدة عائشة في أبي بكر: لقد كنت ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله كالجبل الأشم لا تزيلك العواصف ولا تزحزحك. وكأن الرسل لهم مزرعة، وكل رسول يبذر الصبر فيها، ووالله لا يصلح الإيمان بدون صبر أبداً، كما قال سيدنا علي: سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري سأصبر حتى يحكم الله في أمري سأصبر حتى يعلم الصبر أنني صبور على شيء أمر من الصبر يعني: أنه سيكون صابراً إلى درجة أن يصير الاسم صفة. فالرسل لهم مزرعة، وابن القيم يتكلم عن مزرعة الدعوة، فكل رسول يأتي بواجبه، والرسول بذر كما بذر أولو العزم. قال تعالى: ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ))، ولما بذر أولو العزم من الرسل الصبر حصدوا النصر، ففي الحديث: (إن النصر مع الصبر). فإذا كانت هناك امرأة أتعبها زوجها وأرادت أن تنتصر في الدنيا والآخرة فبالصبر، وقد قال سيدنا علي: من أصيب بمصيبة فصبر كان له الأجر وقد نفذ أمر الله، ومن أصيب بمصيبة فلم يصبر كان عليه الوزر وقد نفذ أمر الله. فالصبر مسألة مهمة جداً، وهو يعطي ثقة للإنسان، فبعدما تذهب الأزمة يكون الإنسان فخوراً أمام نفسه، فيقول: الحمد لله، ولكن عندما ينهزم يشعر بالإحباط.

عاقبة صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم

عاقبة صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول رحمه الله: ألقى بذر الصبر في مزرعة: ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ))، فإذا أغصان النبات تهتز بخزامى: والحرمات قصاص. والخزامى عبارة عن نباتات في جزيرة العرب لها رائحة طيبة. إذاً: والحرمات قصاص، فدخل مكة دخولاً ما دخله أحد قبله ولا بعده، دخلها وحوله المهاجرون والأنصار لا يبين منهم إلا الحدق، أي: أعينهم، وهذا دليل على أنهم كانوا متغطين بالأسلحة والدروع، فدخلوا مكة منتصرين بفضل الله بعد أن خرجوا منها مقهورين. وكان الصحابة على مراتبهم، والملائكة فوق رءوسهم، وجبريل يتردد بينه وبين ربه، وقد أباح له حرمه الذي لم يحله لأحد سواه. فربنا أباح مكة لسيدنا الحبيب ساعة، ولم يبحها لأحد من بعده فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن مكة بعد ذلك حرام، فلا أحد يستطيع أن يدخلها، فالبيت له رب يحميه، ولو أن المسلمين كلهم لم يستطيعوا أن يدافعوا عن البيت الحرام فإن ربنا سيدافع عنه؛ لأن هناك ملائكة تطوف ليل نهار تحرس البيت الحرام. يقول: فلما قايس بين هذا اليوم -الذي هو يوم فتح مكة- وبين يوم: ((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ)) يوم اجتمعوا ليروا ما يعملونه به، فأنزل تعالى قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. والمكر من العبد صفة غير جيدة، فمكر العبد لف ودوران؛ لأنك عندما تمكر تلف وتدور، ولكن المكر من الرب تدبير وإحاطة. ويعني بذلك قياس يوم خروجه من مكة بيوم دخولها، وشتان بين اليومين، فدائماً ينصر الله الرسل، وفي البدايات تكون القوى العامة هي الغالبة، والعبرة بالنهاية. فسيدنا موسى خرج من مصر كما قال تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21]، وعندما عاد دخل على فرعون وقال له: {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} [طه:46 - 47]، {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:47] وكل ذلك كلام قوي. وهكذا الحبيب المصطفى خرج من مكة؛ لأن الله أذن له بالهجرة؛ لأنها ليست مكاناً للدعوة، وذهب إلى المدينة ورجع بعد ثمان سنوات منتصراً فاتحاً ولحيته تمس قربوس سرجه خضوعاً وذلاً لمن ألبسه ثوب هذا العز الذي رفعت إليه فيه الخليقة رءوسها ومدت إليه الملوك أعناقها، فدخل مكة مالكاً مؤيداً منصوراً وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يجر في الرمضاء على جمر الفتنة.

إعزاز الله تعالى رسوله يوم الفتح

إعزاز الله تعالى رسوله يوم الفتح يقول رحمه الله تعالى: فأخرجوه ثاني اثنين، فدخل وذقنه تمس قربوس سرجه خضوعاً وذلاً لمن ألبسه ثوب هذا العز الذي رفعت إليه فيه الخليقة رءوسها ومدت إليه الملوك أعناقها، فدخل مكة مالكاً مؤيداً منصوراً، وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يجر في الرمضاء على جمر الفتنة، فنشر بزاً طوى الخوف من يوم قوله: أحد أحد، ورفع صوته بالأذان فأجابته القبائل من كل ناحية فأقبلوا يؤمون الصوب فدخلوا في دين الله أفواجاً، وكانوا قبل ذلك يأتون آحاداً، كما قال تعالى: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:2]. ويروى: أن الحجاج قال يوماً لمن معه: ائتوا بأعرابي يأكل معي فجاء الأعرابي، فقال له: تعال فاجلس لتأكل معي، فقال له: دعاني من هو خير منك، قال له: من؟ قال: دعاني ربي إلى الصيام فصمت، فأنا صائم اليوم. قال له: كل اليوم وصم غداً، قال: هل يضمن لي الأمير أن أعيش إلى الغد، فقال له: إنه طعام طيب، فقال: والله ما طيبه خبازك ولا عجانك ولا طباخك، ولكن طيبته العافية، فقال له: إن اليوم شديد الحرارة، فقال: لقد صمت ليوم هو أشد منه حراً، قال: أتحفظ شيئاً من القرآن يا أعرابي؟ قال له: نعم، قال له: اقرأ، قال له: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجاً. فقال له: ويحك، يدخلون في دين الله. فقال: كان ذلك في عهد النبي وعهد صحابته، أما في عهدكم أنتم فيخرجون من دين الله. وهذه كلمة حق عند سلطان جائر.

مقام رسول الله بعد الفتح

مقام رسول الله بعد الفتح يقول: فلما جلس الرسول صلى الله عليه وسلم على منبر العلم وما نزل عنه قط مدت الملوك أعناقها بالخضوع إليه، فمنهم من سلم إليه مفاتيح البلاد، ومنهم من سأله الموادعة والصلح، ومنهم من أقر بالجزية والصغار، ومنهم من أخذ في الجمع والتأهب للحرب، ولم يدر أنه لم يزد على جمع الغنائم وسوق الأسارى إليه. يعني أن الذي كان يجمع من أجل أن يحارب الرسول لم يدر أنه لا يجمع إلا الغنائم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والأسرى.

إلى الرفيق الأعلى

إلى الرفيق الأعلى قال: فلما تكامل نصره وبلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاءه منشور: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:1 - 3]. فهو منشور، والمنشور في آخره توقيع: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2] جاءه رسول ربه ليخيره بين المقام في الدنيا وبين لقائه، فاختار لقاء ربه شوقاً إليه، فتزينت الجنان ليوم قدوم روحه الكريمة لا كزينة المدينة يوم قدوم الملك. وإذا كان عرش الرحمن قد اهتز لموت بعض أتباعه واستبشاراً بقدوم روحه، فكيف بروح سيد الخلائق؟!

لا تستهن بمعصية

لا تستهن بمعصية قال: فيا منتسباً لغير هذا الجناب، ويا واقفاً بغير هذا الباب ستعلم يوم الحشر أي سريرة تكون عليها يوم تبلى السرائر يعني: أن يوم تمتحن ضمائر العباد، فانظر ما الذي أوقفك بغير بابه، وما الذي جعلك بعيداً عن جنابه، ولعل الجملة مأخوذة من كلام سيدنا عمر عندما كان يقول: يا رب! لائذ ببابك عائذ بجنابك، لا تطردني من رحابك. قال رحمه الله تعالى: يا مغروراً بالأماني! لعن إبليس وأهبط من منزل العز لترك سجدة واحدة أمر بها. يعني: أن إبليس امتنع عن سجدة، فأخذ بسببها بالغضب والعياذ بالله، يريد أن يوضح لنا أنه قد يحبط عمل العبد من غير أن يعرف، ولذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، فالعمل قد يحبط وأنا أرفع صوتي على صوت رسول الله، وهذا مثال، فالرسول يقول ويأمر، وقد قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، فتقول: لا، اترك هذا الكلام. فإبليس أهبط من منزل العز بترك سجدة أمر بها، ونحن كم أمرً ضيعناه؟! قال: وأخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها. حيث قال الله تعالى له: لا تأكل من الشجرة، فوضع في فمه أول لقمة فأخرج منها. قال: حجب القاتل عنها بعد أن رآها عياناً بملء كف من دم. يعني أن القاتل المسيل لدم بمقدار الكف لن يدخل الجنة والعياذ بالله رب العالمين، فكيف بمن يقتل الشعوب؟! وقد قيل: ربما الزاني يتوب ربما الماء يروب ربما يحمل زيت في ثقوب ربما يهدى العاصي فيعفو عنه غفار الذنوب لكن لن يبرأ الحكام في كل بلاد العرب من دم الشعوب يقول: حجب القاتل عنها بعد أن رآها عياناً بملء كف من دم، وأمر بقتل الزاني أشنع القتلات بإيلاج قدر الأنملة فيما لا يحل، وأمر بإيساع الظهر سياطاً بكلمة قذف أو بقطرة من سكر. فلو كنا نطبق الأحكام فسمعنا في الشارع شخصاً يقول لآخر: يا ابن كذا، فإنا نأتي به فنقول له: أمعك أربعة شهود على هذا الكلام الذي تقوله؟ فإن قال: لا، قلنا: اجلدوه ثمانين جلدة، فهذا حد القذف. ولو أن شخصاً شرب ملعقة خمر فإنا نجلده ثمانين جلدة. يقول: لا تستهن بالأعمال، القضية عسيرة. قال: وأبان عضواً من أعضائك بثلاثة دراهم. يعني: عندما تسرق ثلاثة دراهم تقطع يدك. قال: فلا تأمنه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيه ولا يخاف عقباها. فقد دخلت امرأة النار في هرة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، وإن الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة، فإذا كان عند الموت جار في الوصية فيختم له بسوء عمله فيدخل النار. وفي موسم حج قريب كان رجل يطوف، وبعد أن أكمل الطواف دخل في حجر إسماعيل وسجد سجدة تحت الميزاب، وأطال السجدة، وكان أمير مكة يصلي، فرأى هذا الرجل قد أطال كثيراً، فلمس الرجل فوقع ميتاً على الأرض وقد فاضت روحه، فاهتم الأمير بالمسألة، وقال: أريد أن أعرف اسم هذا الرجل، فعلم أن هذا الرجل جزائري، فبعث إلى اثنين من أهله ليأتيا على حسابه إلى مكة، فقال الأمير: احكوا لي حكاية هذا الرجل. فقالا: إن هذا الرجل له اثنتان وستون سنة، وقد أحيل على المعاش منذ سنتين، ولم يركع ركعة لله، وقبل موسم الحج قام في الليل فجأة وقال: أنا تبت إلى الله، وبدأ يصلي، فلما وقف يصلي دخلت النورانية قلبه، فقال: أريد أن أحج، فقالوا: كيف تحج، إنك في عمرك لم تصل؟! فقال: أنا أريد أن أحج، أريد أن يتوب الله علي، ولعل الله يكرمني فأموت هنالك في جانب الكعبة. فالأعمال بخواتيمها، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب. فالعمر بآخره والعمل بخاتمته، ومن أحدث قبل السلام بطل ما مضى من صلاته، ومن أفطر قبل غروب الشمس ذهب صيامه ضائعاً، ومن أساء في آخر عمره لقي ربه بذلك الوجه. كم جاء الثواب يسعى إليك، فوقف بالباب، فرده بواب (سوف) و (لعل) و (عسى). ومعنى هذا الكلام كحال شخص منكم مر على صاحبه، فقال: يا فلان! إن هنالك درساً في النادي الأهلي ليس له نظير، وهناك شيخ في المنطقة الفلانية، فقال له: سآتي في الأسبوع الآتي. فهذا هو بواب (سوف) و (لعل)، فضاع عليه الخير.

أحوال عجيبة في بعض طالبي الفلاح

أحوال عجيبة في بعض طالبي الفلاح قال رحمه الله تعالى: كيف الفلاح بين إيمان ناقص وأمل زائد ومرض لا طبيب له ولا عائد، وهوى مستيقظ وعقل راقد، ساهياً في غمرته، عاملاً في سكرته، سابحاً في لجة جهله، مستوحشاً من ربه، مستأنساً بخلقه، ذكر الناس فاكهته وقوته، وذكر الله حبسه وموته، لله منه جزء يسير من ظاهره وقلبه ويقينه لغيره. يقول: كيف يطلب الفلاح بين إيمان ناقص، وكيف تعرف أن الإيمان ناقص؟ انظر إلى كلمات الشكوى من الدنيا كم مقدارها، وكلمات الشكوى من الذنوب كم مقدارها، والإيمان الناقص تعرفه بشدة تحت الأزمات. وكيف يطلب الفلاح مع أمل زائد، فكله أمل، كما قال تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} [المعارج:38]، ومرض لا طبيب له ولا عائد، وهو مرض البعد عن الله، وهوى مستيقظ، وعقل راقد لا يفكر. إخواني! لو أن شخصاً مسافراً إلى الإسكندرية مدة يومين فإنه يحجز ويجهز التذكرة ويجهز أمتعته ويذهب إلى المحطة مبكراً؛ لأنه ذاهب إلى الإسكندرية يومين، فكيف بذاهب إلى مكان لن يرجع منه مرة أخرى؟! يقول: سابحاً في لجة جهله، فعنده جهل؛ لأن المعاصي تعمي وتصم، مستوحشاً من ربه مستأنساً بخلقه، فعندما يجلس في درس علم يقول: ما هذا؟! إن وراءنا شغلاً، ولو جلس أمام المباراة أو أمام المسرحية ثلاث ساعات لجلس وهو مرتاح؛ لأن هذه جامعة هوى النفس. وذكر الناس فاكهته وقوته، وذكر الله حبسه وموته، فإن قيل له: هناك درس علم، يقول: هناك فلانة بطلة المسلسل الأخير. يقول: لله منه جزء يسير من ظاهره، وليس له جزء يسير من قلبه، بل جزء يسير من ظاهره. ولذلك نجد أنفسنا كاذبين في الصلاة حين نقول: الله أكبر، فما معنى (الله أكبر)،؟! إنه تعالى أكبر من كل شيء. فعندما آتي إلى الصلاة وتأتيني المشكلة والأولاد والمال والمرأة والجار والبيت يكون قد صار هناك في الصلاة شيء أكبر من الله. يقول: لله منه جزء يسير من ظاهره، وقلبه ويقينه لغيره.

حكمة تأخير خلق آدم عليه السلام

حكمة تأخير خلق آدم عليه السلام قال ابن القيم رحمه الله تعالى: كان أول المخلوقات القلم ليكتب المقادير قبل كونها، وجعل آدم آخر المخلوقات، وفي ذلك حكم. فلماذا كان آدم آخر المخلوقات؟! فالله عز وجل خلق الأرض وما فيها، والسماء وما فيها، والبحار والمحيطات والجن والحيوانات والأشجار والهواء والماء، وبعد هذا كله خلق آدم عليه السلام؛ وذلك كله من باب تمهيد الدار قبل الساكن، فهذا أولاً. ثانياً: أن خلق السماوات والأرض والقمر والبر والبحر كان من أجل الإنسان، فلنا مكانة عند الله، ألسنا نحن الخلفاء؟! ولكن -يا ترى- هل نحن خلفاء بالحق أو بالباطل؟! نسأل الله أن يجعلنا خلفاء بالحق. ثالثاً: أن أحذق الصناع يختم عمله بأحسنه وغايته، كما يبدؤه بأساسه ومبادئه. فأنت تجهز لابنك الشقة بعمل الخرسانة ونحوها، وآخر شيء هو ما يعمله النقاش، فأجمل شيء في الشقة البياض والنقش الذي فيها. فـ ابن القيم يقول: أحذق الصناع يختم عمله بأحسنه. رابعاً: أن النفوس متطلعة إلى النهايات والأواخر دائماً، ولهذا قال موسى للسحرة: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس:80]، فلما رأى الناس فعلهم تطلعوا إلى ما يأتي بعده. ولذلك في الإعلام عندما يصعد الممثلون ليحيوا الجمهور يصعد بعدهم البطل، فالنفوس متطلعة للنهايات، فلما رأى الناس فعلهم تطلعوا إليه. خامساً: أن الله سبحانه أخر أفضل الكتب والأنبياء والأمم إلى آخر الزمان، وجعل الآخرة خيراً من الأولى، والنهايات أكمل من البدايات. فانظر إلى التوافق الغريب، وأكاد أقول: إن هذا إلهام من الله لـ ابن القيم. فكم بين قول الملك للرسول: اقرأ، فيقول: ما أنا بقارئ، وبين قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]. فانظر إلى البداية كيف كانت والنهاية كيف هي، ففي البداية يقال له: اقرأ، فيقول: ما أنا بقارئ. في سنة ثمانية وسبعين كان هناك إحصائية تقول: عندما نتحلل إلى عناصرنا الأساسية نعود إلى عناصر الصوديوم والكالسيوم والحديد والفسفور والكبريت والماء والدهون، فوجدوا ابن آدم فيه كمية من الكالسيوم أو الجير تكفي لتبييض عش دجاج صغير، وفيه كمية من الدهون تصنع أربع قطع صابون من القطع المتوسطة، وفيه كمية الفسفور تصنع ثلاثين رأس عود كبريت، وفيه كمية من الماء تبلع عشرة جالونات ماء، وكمية من الكبريت تكفي لتطهير جلد كلب من البراغيث، فقوموا هذه المواد بالفلوس فوجدوا أنها تساوي جنيهاً ونصفاً، فأنت كمادة لا تساوي كيلو من اللحم كمادة، ولكنك بالروح تساوي عند الله شيئاً عظيماً، وانظر إلى حديث رسول الله: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). وفي منطق الناس يقال: بطل كمال الأجسام! والله عز وجل يقول: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]، ولقد كان سيدنا ابن مسعود نحيفاً، ولما ضحك الصحابة من دقة ساقه قال الحبيب: (أتضحكون من دقة ساق ابن مسعود؟! والذي نفسي بيده إن ساق ابن مسعود في الميزان يوم القيامة أكبر عند الله من جبل أحد). سادساً: أنه سبحانه جمع ما فرقه في العالم في آدم، فهو العالم الصغير، وفيه ما في العالم الكبير. ولذلك قال الإمام علي: وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر فالعالم كله موجود في ابن آدم، فإذا ارتقى صار سماء، وإذا سفل صار أرضاً. سابعاً: أنه خلاصة الوجود وثمرته، فناسب أن يكون خلقه بعد المخلوقات. فهو ثمرة الموجودات كلها. ثامناً: إن من كرامته على خالقه أنه هيأ له مصالحه وحوائجه وآلات معيشته وأسباب حياته، فما رفع رأسه إلا وذلك كله حاضر. فربنا هيأ الأرض بالذي فيها من أجل آدم. تاسعاً: أنه سبحانه أراد أن يظهر شرفه وفضله على سائر المخلوقات، فقدمها عليه في الخلق، ولهذا قالت الملائكة: ليخلق ربنا ما شاء، فلن يخلق خلقاً أكرم عليه منا. فلما خلق آدم وأمرهم بالسجود له ظهر فضله وشرفه عليهم بالعلم والمعرفة، فلما وقع في الذنب ظنت الملائكة أن ذلك الفضل قد نسخ ولم تطلع على عبودية التوبة الكامنة، فلما تاب إلى ربه وأتى بتلك العبودية علمت الملائكة أن لله في خلقه سراً لا يعلمه إلا هو.

آدم وتكريم الله له

آدم وتكريم الله له قال ابن القيم رحمه الله: [العاشرة: أنه سبحانه لما افتتح خلق هذا العالم بالقلم من أحسن المناسبة أن يختمه بخلق الإنسان، فإن القلم آلة العلم، والإنسان هو العالم، ولهذا أظهر الله سبحانه فضل آدم على الملائكة بالعلم الذي خص به دونهم، وتأمل كيف كتب سبحانه عذر آدم قبل هبوطه إلى الأرض، ونبه الملائكة على فضله وشرفه، ونوه باسمه قبل إيجاده بقوله: (إني جاعل في الأرض خليفة)، وتأمل كيف وسمه بالخلافة وتلك ولاية له قبل وجوده، وأقام عذره قبل الهبوط بقوله: (في الأرض)، والمحب يقيم عذر المحبوب قبل جنايته. يقول: هذا لم يقصده، فالأم وهي من أشد الناس حباً لولدها، لو عصاها وأراد الأب تأديبه، تشفع له وتقول: هو لا يقصد معصيتي. ويذكر أن شاعراً عربياً أحب امرأة سوداء فسطر حبه شعراً فقال: أحب لحبها السودان حتى أحب لحبها سود الكلاب والسودان: جمع أسود. ومن ذلك ما ذكر أن كثير عزة دخل على عبد الملك بن مروان فقال له: أنت كثير عزة؟ قال له: نعم، قال له: ألم تر أحداً أكثر منك عشقاً وحباً؟ قال له: نعم رأيت يا أمير المؤمنين، قال له: من؟ قال له: ذات مرة مررت بالصحراء فوجدت رجلاً مختبئاً خلف صخرة، فسألته: ما لك؟ فقال: زوجتي وأبنائي منذ ثلاثة أيام ما دخل أجوافهم طعام، فقلت له: ما العمل إذاً؟ قال: ننصب شركاً لعل غزالة أو ظبياً يقع فيها، فما لبثنا إلا يسيراً حتى وقع في الشرك ظبي عينيه مثل المها -والمها بقر الوحش، وكم أعجب وأنا أسمع الآباء يسمون بناتهم مها- فذهب إليها الرجل وفك شركها وتركها تذهب، فقلت له منكراً: لماذا أطلقتها؟ قال: إن عينيها تشبه عيني ليلى، ثم قال: أيا مثل ليلى لا تراعي فإنني لمن مثل ليلى ما حييت طليقاً والتاريخ بمثل هذه اللطائف مليء، وأعجب كثيراً عندما أجد أن القائمين على أمر التربية والتعليم لا يدرسون كل هذا التاريخ، وإنما يقع اختيارهم على أصعب ما فيه، مما يجعل الطلاب يكرهون النصوص والأدب، مثلاً في الثالث الثانوي تدرس عوامل نهوض الأدب في العصر الحديث السينما المسرح وغيرها من الأشياء التي لا تساعد على بناء جيل متشبع ناضج. قال ابن القيم رحمه الله: [فالمحب يقيم عذر المحبوب قبل جنايته، فلما صوره ألقاه على باب الجنة أربعين سنة] ففي الحديث (أن الله لما صور آدم من طين وضعه على باب الجنة أربعين سنة، فكان إبليس يمر عليه ويقول: لابد أن هذا قد خلق لشيء ما) يعني: هناك علة لخلق هذا. ثم قال: [لأن دأب المحب الوقوف على باب الحبيب، رمي به في طريق ذل لم يكن شيئاً، لئلا يعجب -أي: يداخله العجب- وفي الحديث (كان إبليس يمر على جسده عليه السلام فيعجب منه، ويقول: لأمر قد خلقت، ثم يدخل من فيه ويخرج من دبره، ويقول: لئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علي لأعصينك) ولم يعلم أن هلاكه على يده، فقد رأى طيناً مجموعاً فاحتقره، فلما صور الطين صورة دب فيه داء الحسد، فلما نفخ فيه الروح مات الحاسد، فلما بسط له بساط العز عرضت عليه المخلوقات فاستحضر مدعي {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} [البقرة:30] يعني الملائكة في قولهم: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة:30] إلى حاكم {أَنْبِئُونِي} [البقرة:31]]. أي: أن هناك قاضياً يجلس في مجلس القضاء وهناك مدع أتى بدعواه وهي: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، إلى حاكم {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} [البقرة:31]، والمعنى: لماذا تخلق ونحن نعبدك؟ فكان الرد: قولوا لي هذه أسماء ماذا إذاً؟ [وقد أخفى الوكيل عنه بينة {وَعَلَّمَ} [البقرة:31]، أي: {آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، فالمدعي وهم الملائكة لم يروا أمر التعليم من الله لآدم. ولذلك ادعوا، ولو عرفوا أن الله علمه، ما كانوا سيدعون، ولذلك من رحمة الله بآدم أن لقنه الحجة وعلمه إياها [فنكسوا رءوس الدعاوى على صدور الإقرار، فقام منادي التفضيل في أندية الملائكة ينادي: اسجدوا، فتطهروا من حديث دعوى ((ونحن)) بماء العذر في آنية {لا عِلْمَ لَنَا} [البقرة:32]، فسجدوا على طهارة التسليم، وقام إبليس ناحية لم يسجد؛ لأنه خبث، وقد تلوث بنجاسة الاعتراض، وما كانت نجاسته تتلافى بالتطهير؛ لأنها عينية، فلما تم كمال آدم قيل: لابد من خال جمال على وجه {اسْجُدُوا} [البقرة:34]. فجرى القدر بالذنب؛ ليتبين أثر العبودية في الذل. يا آدم! لو عفا لك عن تلك اللقمة لقال الحاسدون: كيف فضل ذو شره لم يصبر على شجرة] أي: لو أن الله سامحك وعفا عنك لقيل: مخلوق لم يستطع أن يصبر حين قلت له: لا تأكل، فأكل، فالله يريد أن يبين العز في أن آدم يعصي ثم يرجع فيقبل الله توبته، وفي الحديث: (يا ابن آدم! لو جئتني بقراب الأرض ذنوباً وجئتني لا تشرك بي شيئاً جئتك بقرابها مغفرة). ثم يقول: [لولا نزولك ما تصاعدت صعداء الأنفاس ولا نزلت رسائل: (هل من سائل)]. يريد بالرسائل ما جاء في الحديث: (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يكون ثلث الليل الآخر فينادي: هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له) [ولا فاحت روائح (ولخلوف فم الصائم أحب إلى الله من ريح المسك)]، أي: لولا ما حصل من أبينا آدم، لم يكن هذا العز كله قد ظهر لنا، فتبين حينئذ أن ذلك التناول لم يكن عن شره، [يا آدم! ضحكك في الجنة لك وبكاؤك في دار التكليف لنا] أي: أنت عندما تضحك فالضحك لك، لكن عندما تبكي فبكاؤك لنا؛ لأنه يكون لك في ميزان الحسنات [ما ضر من كسره عزي إذا جبره فضلي] فمن كسره عز الله وجبره فضل الله ما ضره شيء. [إنما تليق خلعة العز ببدن الانكسار، أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي] فالله وهو الرب تعالى يقول: أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي [مازالت تلك الأكلة تعاوده حتى استولى داؤه على أولاده] أي أن كل واحد يريد أن يرتكب المحرم كما صنع أبوهم، [فأرسل إليهم اللطيف الخبير الدواء على أيدي أطباء الوجود: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123]] أي: لما حصل المرض بعث لهم الدواء على يد الخبير {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] [فحماهم الطبيب بالمناهي، وحفظ القوة بالأوامر، واستفرغ أخلاطهم الرديئة بالتوبة فجاءت العافية من كل ناحية]. اللهم عافنا فيمن عافيت يا رب. [فيا من ضيع القوة -الإيمانية- ولم يحفظها، وخلط في مرضه وما احتمى] أي: تناوشته الأمراض كمن أصيب بالفشل الكلوي، ومرض الكبد، والرئة والقلب وغيرها -والأمراض هي الذنوب، فالمعنى: لا ينظر للحرام فقط، بل يسمع الخبيث، ويقول الخبيث، ويذهب إلى أماكن الخباثة، بل هتك الأستار كلها. [وما احتمى ولا صبر على مرارة الاستفراغ، لا تنكر قرب الهلاك، فالداء مترام إلى الفساد، لو ساعد القدر فأعنت الطبيب على نفسك بالحمية من شهوة خسيسة ظفرت بأنواع اللذات وأصناف المشتهيات، ولكن بخار الشهوة غطى عين البصيرة، فظننت أن الحزم بيع الوعد بالنقد] أي فكرت أن النقد الذي هو الحاضر أنفع من الوعد الذي هو التأخير، فكأن النقد الدنيا والوعد الآخرة، فيا خسارة من باع الآخرة بالدنيا. [يا لها من بصيرة عمياء جزعت من صبر ساعة، واحتملت ذل الأبد، سافرت في طلب الدنيا وهي عنها زائلة، وقعدت عن السفر إلى الآخرة وهي إليها راحلة، إذا رأيت الرجل يشتري الخسيس بالنفيس، ويبيع العظيم بالحقير، فاعلم بأنه سفيه].

سلسلة شرح كتاب الفوائد [6]

سلسلة شرح كتاب الفوائد [6] القرآن كلام الله وحبله المتين، وقد تجلت فيه صفات الله وبانت فيه عظمته ومنته على خلقه بالهداية والتوفيق وما أعد لهم جزاء أعمالهم.

فضل العلماء على الأمة

فضل العلماء على الأمة أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. أما بعد: فأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في مستقر رحمته، وأن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم احشرنا في زمرة المحبين فيك يا رب العباد، واجعلنا من المتجالسين فيك ومن المتزاورين فيك، وتقبلنا في عبادك الصالحين، واشرح اللهم صدر كل ذي صدر ضيق، واشف كل مريض، وتب على كل عاص، واهد كل ضال، وارحم كل ميت، وانصر كل مظلوم، واستر كل عيب، واغفر كل ذنب، واجعل خير أعمالنا خواتيهما، وخير أيامنا يوم نلقاك، وخذ بيد أبنائنا وبناتنا إلى كل خير، اللهم وفقهم يا رب العباد إلى ما تحبه وترضاه، واجعلهم من المحسنين الطائعين المؤمنين وأبعد عنهم شياطين الإنس والجن وأكرمهم بكرمك يا أكرم الأكرمين، إنك يا مولانا على ما تشاء قدير. إن العلماء الذين أوصلوا لنا هذا العلم أو شرح الله قلوبهم بهذا الكلام الذي نقرؤه ونتعلم منه، إنما هم أناس رضي الله عنهم ورضوا عنه، وهم أناس كالشجرة الطيبة التي غرس أصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدث عنها القرآن، كما قال تعالى في سورة إبراهيم: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25]. وهم أناس أدركوا أهمية الإسلام وأهمية الإيمان وأهمية التقوى وأهمية الاستقامة، وأدركوا أنهم في الدنيا ضيوف وسوف يعود الضيف إلى بيته، وسوف تعود النفس إلى بارئها، وأدركوا أن الدنيا عارية مسترجعة، وأمانة مردودة، فأدوها كما استلموها، فكان الواحد منهم إذا استلم الدنيا لم يكثر فيها من الذنوب، وإنما يكثر فيها من الخير، فتحقق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عيشوا مع الناس معيشة حتى إذا غبتم حنوا إليكم، وإذا متم ترحموا عليكم). فكان حقيقاً بهم أن الناس حين يغيبون عنهم يحنون لهم، وإذا غاب الواحد منهم ترحموا عليهم، فها نحن نترحم على ابن قيم الجوزية، والأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وأصحاب الكتب الستة: البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبي داود، كما نترحم ونترضي ونستلهم سحائب الرضوان على صحابة الحبيب صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم جميعاً، وهذه كما قال عز وجل: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5]، وقد أخروا أعمالاً طيبة، وتركوا تاريخاً صالحاً يترحم عليهم بسببه. ثم هم أدركوا أيضاً مدى عداوة الشيطان، ونستطيع أن نضرب مثالاً نبين فيه مدى عداوة الشيطان لنا، وكيف يحاربنا في عقيدتنا وفي ديننا، وكيف أنه لا يستريح إلا إذا أغضب العبد ربه، أو انحرف المسلم عن طريق الصواب، فنقول: لو أن إنساناً جلس في بيته فنظر فوجد في الغرفة حية أو عقرباً أو شيئاً من هذا القبيل، فهل إذا جن عليه الليل سينام، أم أنه لن يستريح إلا إذا قتل هذه الحية؟ قطعاً أنه لن ينام، ولن يستطيع أن يغمض عينيه، فهو يخشى أن تدخل الحية غرفة الأولاد فتلدغ أحد أولاده، ولذا لا يستطيع أن ينام إلا إذا قتل هذه الحية، فإن قتلها اطمأن بعد ذلك. وهكذا الشيطان، فإنا لو أدركنا أن إبليس في بيت كل إنسان، وفي قلب كل إنسان، وأن خطره أعظم من هذه الحية لن يهدأ لنا بال إلا بعد أن نقتله، وقتله كثرة الذكر، وكثرة الطاعة، والإخلاص، والتقوى، والتوكل على الله، وصدق النية، والصبر عند المصيبة، وشرح الصدر، وتحمل أذى الناس، فكل هذه الأمور تزيد الإيمان؛ والإيمان كما هو معلوم يزيد وينقص تزيده الطاعات وتنقصه المعاصي، والمسلم دائماً يحب أن يرفع الرصيد عند الله عز وجل. فرضي الله عن ابن قيم الجوزية وعن علماء المسلمين وعن السلف الصالح، اللهم احشرنا في زمرتهم يوم القيامة يا أكرم الأكرمين.

لذ بالقرآن

لذ بالقرآن يقول ابن القيم عن كتاب الله عز وجل (القرآن): [القرآن كلام الله] قال صلى الله عليه وسلم: (فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه). قال الحسن البصري رضوان الله عليه: هنيئاً لك يا ابن آدم إن أردت أن تكلم الله فأحرم بالصلاة، وقد تقدم أن في الصلاة مدلولات غريبة! فنحن حين نعدد فرائض الصلاة نقول: النية، ثم: تكبيرة الإحرام، وقولنا تكبيرة الإحرام مشعر بفريضة الحج، فإني حين أعتمر أو أحج أحرم، فكأن المصلي يذهب بجسده وروحه إلى هذا المكان الذي يجب ألا يدخله إلا محرماً، وكأن العبد في دخوله إلى الصلاة لا يصح له الدخول على الله إلا بعد الإحرام، أما هيئتها وهي رفع اليدين إلى حذو المنكبين فهي مشعرة أن المؤمن قد ألقى الدنيا خلف ظهره واستقبل الله بقلبه، وغيرها من أسرار الصلاة. فأنا بعد أن ألقيت الدنيا خلف ظهري واستحضرت الله عز وجل بكياني ووجهي أدخل في الصلاة، فهنيئاً لك يا ابن آدم؛ إن أردت أن تكلم الله فأحرم بالصلاة. ثم قال الحسن: وإن أردت أن يكلمك الله فاقرأ القرآن، وفي الحديث: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، إذا قرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، يقول الله عز وجل: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، قال الله: مجدني عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، قال الله: هذه بيني وبين عبدي، فإذا أكمل إلى قوله تعالى: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، قال الله: هذه لعبدي ولعبدي ما سأل). إذاً: فأنا إذا أردت أن أكلم الله سبحانه وتعالى أحرم بالصلاة، فإذا أحرمت بالصلاة فأنا أكلم الله عز وجل، والكلام مع الله يستلزم طهارة أمور أربعة: طهارة الثوب والبدن من النجاسات، وطهارة الجوارح من المعاصي، طهارة القلب من الأحقاد والآثام والأمراض، طهارة السر عما سوى الله عز وجل. إذا أراد الأب أن يسجل ابنه في المدرسة، سيقال له: نريد شهادة الميلاد، ومهنة الأب وعنوان السكن، ورقم التلفون، والزي المدرسي والمصروفات وسيارة النقل، وغيرها من المطالب وكل هذه الأمور لابد أن تسجل وتوضع في الملف، كل ذلك لمجرد أن الابن يدخل المدرسة، فما بالنا بمن يلقى الله عز وجل؟ إذاً لابد أن يكون طاهر البدن طاهر الثوب. ولذلك ينبغي على العبد وهو داخل على الله في الصلاة ألا يضع في ذهنه أن الأمر دقيقتين ثم ينصرف، بل لابد أن يكون قد هيأ نفسه تهيئة كاملة، كان علي رضي الله عنه يصفر وجهه ويهتز جسده إذا جاء وقت الصلاة فيسأل: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: لقد جاء وقت الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملناها وأشفقن منها وحملتها أنا إني كنت ظلوماً جهولاً. وإذا أردت أن يكلمني الله، فإني اقرأ القرآن، فالقرآن يرفع مستوى العقيدة لدينا، ويرفع مستوانا نحن الضعفاء أن الله يكلمنا، ولذلك قال ابن مسعود: اقرأ القرآن وكأنه عليك قد نزل، وكان يقرأ القرآن كأنه أنزل عليه، وظل تلميذه الحسن البصري يترقى ويتعلم على يده -رضي الله عنه- حتى بلغ مبلغاً عظيماً، عبر عنه فقال: قرأت القرآن على يد عبد الله بن مسعود فلما حفظته وتدبرت بعض ما فيه من معان ترقى بي الحال فصرت كأني أسمعه من رسول الله، فلما ترقى بي الحال كنت كأني أسمع الله عز وجل يبلغ جبريل ليبلغ محمداً صلى الله عليه وسلم. وفي الدعاء وصل به إلى أن قال: والله إني لأدعو الله عز وجل وأرى يد الله تكتب لي الإجابة. فقد كان عنده يقين بإجابة ربه له، وفي الحديث (ادع الله وأنت موقن بالإجابة) ولا يحقرن الإنسان نفسه فإن رحمة الله عظيمة وخيره عميم. يذكر أن أحد العلماء الصالحين في مصر في عهد التابعين رضي الله عنهم مات جاره فدعوه ليصلي عليه، فأبى، وكان جاره هذا لا يترك موبقة ولا كبيرة ولا محظوراً إلا وارتكبه والعياذ بالله، وكان مجاهراً بالمعصية. فذهبوا وصلوا على الرجل ودفنوه، فرآه هذا العالم في المنام في أول ليلة مات فيها يرفع في الجنة، ففوجئ من ذلك وقال: ما الذي أوصلك إلى هذا المكان؟ فقال له: لو كنت من الذين يملكون خزائن رحمة الله إذاً لأمسكت خشية الإنفاق. فلما أتى الصبح ذهب إلى زوجته وقال لها: أستحلفك بالله ماذا كان يصنع زوجك، فقالت: والله ما كان يصنع خيراً قط إلا أنه في كل ليلة جمعة يجمع يتامى الحي ويجلس معهم على مائدة واحدة يطعمهم في أفواههم ويقول: ادعوا لعمكم عسى أن يغفر الله له. فرحمة الله واسعة، وفي الحديث: (لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً)، كما لا ينبغي للمسلم أن يرجئ العمل فيقول: أنتظر حتى يكون عندي قوة وأصلي عشر ركعات، بل لو عنده قوة يصلي بها ركعتين فليصل ولا يرجئ وهكذا في قراءة القرآن وغيرها من الأعمال. ولا يعني ذلك عدم الاهتمام بالمواظبة، وإنما التنبيه على أنه لو فتح باب خير دخل العبد فيه ولا ينتظر، فهي فرصة قد لا تعوض. ومن رحمة الله بعباده أنه جعل للعباد كفارات، وهم الذين لا يسلمون من المعاصي الكفارات، وفي الحديث قال: (من الحج إلى الحج كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر)، بل ومن العمرة إلى العمرة، ومن رمضان إلى رمضان، ومن الجمعة إلى الجمعة كفارة. وليس ذلك فحسب، بل من الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها. ولذلك كان عباد الله الصالحون يشعرون عندما يقرءون القرآن برحمة الله وبغضب الله، فكان الصحابة رضي الله عنهم يقولون: كنا والقرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى الجنة والنار، وليس المراد برؤيتها أنهم يروها رأي العين، ولكن المعنى أن قلوبهم تحس بريح الجنة، وعظمة نعيمها، وتحس بقبح النار وعذابها، حتى كأن تلك القلوب قد رأتها. ومما علمنا أهل العلم -جزاهم الله عنا خيراً- أن الرضا بما ابتلي العبد به صورة من صور الجنة في الدنيا أي: أن الذي عنده حالة من الرضا فقد أعطاه الله جزءاً من الجنة في الدنيا، قال الحسن رضي الله عنه: يا بئس أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا فيها أحلى ما فيها الرضا، عن الله وبالله عز وجل، فالذي ينبغي على الإنسان أن يكون راضياً؛ فإن من رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط. فاللهم اجعلنا من الراضين يا رب العالمين.

تجلي صفات الله عز وجل في كتابه

تجلي صفات الله عز وجل في كتابه قال ابن القيم رحمه الله: [القرآن كلام الله] ولذلك أهل العلم يقولون عن القرآن: كلام الله لفظ قائم، ومعنى في هذا اللفظ، ورضاك بينهما ماض، بين اللفظ وبين المعنى، أي: أن اللفظ يأتي مع المعنى، فنحن ندرك عند قراءة القرآن أن هذا أمر وهذا نهي، وهذا وعد وهذا وعيد، وهذا تبشير وهذا نذير وهكذا. ثم يقول: [القرآن كلام الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته] فنحن نجد صفات الله كلها في كتاب الله عز وجل. [يتجلى تارة في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء]، أي أن الله سبحانه وتعالى يتكلم عن بعض صفاته عن الهيبة، وعن العظمة، ومن ذلك قوله تعالى: {أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه:12] لفظ يجعل العبد يخاف! ثم يقول ابن القيم رحمه الله: [ما قرئ القرآن على جبار إلا وتصاغر]، بشرط أن الذي يقرأ القرآن يقرؤه من قلب صادق، ولعلنا نذكر الشيخ: محمد رفعت رحمة الله عليه، فقد منع من التسجيل في الإذاعة؛ لأنه استضيف ذات مرة في قصر عابدين ليقرأ إذا جاء الملك، فأول ما دخل الملك قرأ قوله تعالى من سورة النمل: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل:34]، فغضب الملك جداً، ومنع الشيخ أن يسجل القرآن بهذا الصوت الملائكي الجميل، رحمه الله ورحم الله كل من حفظ القرآن حياً وميتاً، اللهم احفظ علينا القرآن ونعمنا به في الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين. ثم يقول ابن القيم رحمه الله: [وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال]، أي: أن الله سبحانه وتعالى يعطينا دون أن نسأل، ولو أن الله أعطانا بحسب الدعاء فقط لانقطعت عنا النعم التي تغمرنا. فنعمة التنفس -الشهيق والزفير- بعدد 16 مرة في الدقيقة، ونبضات القلب من 70 إلى 80 مرة في الدقيقة! أعضاء آلية لا يتدخل العبد فيها ولا يدعو الله تعالى أن يمنحه إياها، ولا يشعر الإنسان بهذه النعمة إلا إذا أصيب بمرض يعيق عملها، كالأزمة الربوية، أو أمراض القلب. وهكذا غيرها من الأعضاء في بدن الإنسان، لا يعرف المرء أهميتها إلا إذا أصيب بمرض يعيق عملها، ومع أنه لا يسأل كل تلك النعم فإنه يعطاها بلا مسألة من الكريم سبحانه، وفي الحديث: (أن أعرابياً دخل على رسول الله فقال: يا رسول الله! من يحاسبنا يوم القيامة؟ قال: إن الذي يحاسبنا هو الله، قال: والله إذاً لا أبالي ما دام أن الله هو الذي يحاسبنا فهو الكريم وإن الكريم إذا رأى ستر وإذا قدر عفا). وفي الحديث القدسي: (يا عبدي لا تشكني إلى عوادك)، أي: عندما تمرض أو تحل بك أزمة فلا تشكني إلى الذي أتى يزورك (فكم من ذنب منك يصعد إلي بالليل والنهار ولم أشكك إلى ملائكتي)، بل إن الله ينسي الأرض وينسي الليل وينسي النهار وبقية الشهود العشرة التي ستشهد علينا بالحسنات أو بالسيئات يوم القيامة، اللهم اغفر لنا يا أرحم الراحمين كل ذنوبنا يا أكرم الأكرمين. ومعنى قوله: [وجمال الأفعال]، أي: أن كل الذي يأتي من عند الله خير، أما من أين يأتي الشر؟ فإنه منك أنت، لا ينسب الشر إلى الله إنما الخير كل الخير من الله عز وجل. ولذلك قد أرى أن صورة من الصور، أو حالة من الأحوال سيئة، كأن يحصل لك موقف مع زوجتك، أو أبيها أو ابنك، أو غيرهم، فالصورة الظاهرية أنه ابتلاء، لكن الصورة الحقيقية أنها نعمة يسوقها الله في صورة بلية! قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض الناس بالنعم فقد تأتي البلية بصورة نعمة وتأتي النعمة في صورة بلية، فتجد من رزقه كفاف قد أعطي صحة وعافية فإذا فتح عليه باب المال فتح عليه باب المرض، وهكذا. وللتقريب نضرب هذا المثال: لو أن الدكتور قال لك: لا ينفع مع أصبع ابنك هذا إلا أن يقطع، فهل أنت حين توافق الطبيب قاس على ابنك أم رحيم به؟ لا شك أنك رحيم، وترى أن صلاح الولد في كلام الطبيب وأن الأصبع لابد أن يقطع أو الذراع أو الرجل، أما الابن الصغير فإنه يرى أن أباه قاس عليه يوافق الدكتور أن يقطع له أصبعه! {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، فالله يعلم أن في هذه البلية صلاحك، وأن المرض في ميزان حسناتك، وأن المصيبة إن احتسبتها رفعت درجتك.

قيمة السلعة بقيمة مشتريها والثمن المبذول فيها

قيمة السلعة بقيمة مشتريها والثمن المبذول فيها وعن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111]، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: [تعرف قيمة السلعة بقيمة مشتريها]، فأنت حين ترى إنساناً يشتري بناء أو منزلاً فاخراً بمال كثير تدرك أن هذا الرجل ثري، ثم يقول: [والسلعة تعرف بقيمة مشتريها، وبالثمن المبذول فيها، وبالمنادي الذي ينادي عليها، فإذا كانت السلعة هي النفس، والمشتري هو الله، والثمن هو الجنة، والمنادي سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم]، وقطعاً فإن الله لن يشتري نفساً أمارة بالسوء، وإنما يشتري النفس المطمئنة، لأن الإنسان الذي باع إنما يبيع شيئاً ليس بكاسد، وما دام باع فسيسلم البيع أو السلعة قبل ما تفسد، فأنت سلم نفسك الآن لله رب العالمين؛ فقد تكون هذه الأيام أفضل من الأيام الآتية. نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن. إن قلب العبد بين أصبعين من أصابع الرحمن، فالعبد ما دام قد باع نفسه لله فليضمن أن المشتري هو الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، و (اشترى) فعل ماض، والأنفس والأموال هما في الأصل ملك لله، فلا يوجد كما يقال: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وإنما: دع ما لقيصر لله، وما لله لله؛ لأن كل شيء لله. ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يحرق البيوت على أناس تخلفوا عن صلاة الجماعة، ولذلك لا يتخلف عن صلاة العشاء وصلاة الصبح إلا المنافقون، وهذه من علامات النفاق؛ لأن الظهر يأتي علينا وكلنا في أعمالنا، فيصلي بعض الناس لكي يقول عنه زملاؤه أو مديره في العمل: إنه يصلي. فالكارثة أننا نصلي الظهر والعصر في الشغل لكي يقول الناس: إننا ملتزمون، لكن لا يخرج من بيته يصلي الفجر، وربما يخرج إلى المسجد ويوقظ حارس العمارة ويقول له: لماذا لا تفتح لي الباب وأنت تعرف أنني أخرج كل يوم لصلاة الفجر؟ حتى يسمع الجيران أنه يصلي الفجر. فالذي لا يصلي الفجر منافق، فمن لا يصلي صلاة الفجر والعشاء في المسجد فهذا دليل على النفاق، والعياذ بالله. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة)، فالذي يمشي إلى المسجد في الظلام في الدنيا، سيمشي بنور الله يوم القيامة، لأن الله لا بد أن يعوضه عن هذا يوم القيامة، وكذلك حرم عليه الخمر في الدنيا، وجعل في الجنة أنهاراً من خمر، وهذه الخمر ليس فيها سكر، {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:47]، أي: لا تغتال العقول ولا تذهبها. وكذلك الحرير حرمه الله على الرجال في الدنيا وأباحه لهم في الجنة، فإنهم يلبسون الحرير ويجلسون عليه، فإذا كانت المقاعد في الجنة بطائنها من إستبرق وهو الحرير، فكيف بظاهرها؟ فإذا حرمت على نفسك الحرير في الدنيا فالله يعوضك بالحرير في الجنة، وإذا حرمت على نفسك الخمر في الدنيا فالله لن يضيع عليك شيئاً، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143]. إذاً: إذا رأى العبد أن الناس قد فرحوا بالدنيا وما فيها فليفرح هو بالله، وبلقاء الله، أو يفرح بصدقة عملها، أو مصلحة لشخص قضاها، أو يفرح أن فلاناً تصالح مع زوجته ولا يفرح لخراب البيوت كما يحصل من بعض الناس، وبعض الناس يظل يسعى إلى خراب البيوت حتى يخربها بقصد أو بدون قصد. فالأم المفوهة عندما تأتي إليها ابنتها غاضبة من زوجها تقول لها: انتبهي! على زوجك، فإنك لو أطعته ستدخلين الجنة، ولو صبرت عليه سيكرمك الله، فتقول لها كلاماً يطيب نفسها، ولا تحرضها ضد زوجها، فالأم تكون ناصحة وحنونة، ولا تكون هي التي تصب الزيت على النار، وتقول لها: لا تعودي لزوجك حتى يأتي إلى هنا ويعتذر ويأتي معه أبوه وأمه. فلماذا نوسع المشكلة؟ ولماذا لا نضيق عليها؟ أعرف آباء إذا رجعت ابنته من عند زوجها غاضبة منه وقد طردها من بيته، يقول لها: ارجعي إلى بيت زوجك وسآتي وأصلح بينكما في بيت زوجك، فترجع إلى بيت زوجها. وقد حصل هذا الموقف لرجل فاضل عنده بنات متزوجات، وإحدى بناته أتت من بيت زوجها وهي غاضبة، فأمها أثارتها على زوجها، وهي تقول: لقد أغضبني وضربني وو وهو لم يعمل بها شيئاً، والزوجات أحياناً قد يكذبن على النفس، وليس معنى هذا أن الزوجات غير طيبات. ولكن الذي أريد أن أقوله أن الأب الناصح والأم الناصحة لا يوسعون القضية، فقال لها أبوها: ارجعي إلى بيتك. فقالت له: لقد قال لي اذهبي إلى بيت أهلك فقال لها: أنا لا أقبل أن ابنتي تأتي إلي وتقول مشكلتها وزوجها غير موجود، فاذهبي إلى بيت زوجك وسوف آتي وأرى ماذا حصل؟ فعادت إلى بيت زوجها، وبينما هي تطرق الباب فتح زوجها الباب وكان يظن أن أباها معها، فقال: تفضل يا عم! فقالت له: لقد أتيت بمفردي، فاستغرب وقال: لقد ذبحني عمي بهذا التصرف، وفي الليل أتى حموه إليه ومعه زوجته، فأتت البنت تشتكي فقال لها: أريد أن أسمع زوجك أولاً، فقال له: خيراً ماذا حصل؟ فقال له: أنا رجل قليل الأدب لأنني أخرجت زوجتي من البيت، وانتهى الموضوع، فلم يجد الأب رداً على كلامه. ونحن للأسف الشديد نريد جنازة يحصل فيها لطم، ويوجد ناس من الحزن وكثرة الاكتئاب يتابع صفحة الوفيات بالجرائد، ويتذكر ويبكي، ويبحث عن أي شيء يجلب له الحزن، فهذه أشياء غريبة. وبعض الناس لابد أن يشتكي، حتى من أي شيء.

سلسلة شرح كتاب الفوائد [7]

سلسلة شرح كتاب الفوائد [7] إذا لم يسلك العبد مسلك الطاعة وانخرط في المعصية فإن ذلك بسبب إعراض الله تعالى عنه، فليراجع حساباته، فإن الله لا يعرض عنه إلا بسبب من عنده، فعليه إذاً أن يستجيب لله وللرسول وأن يسلك أسباب القبول.

إعراض الله عن العبد

إعراض الله عن العبد قال المصنف رحمه الله تعالى: [حتى وإن لم تسلك مسلك الطاعة]. فمثلاً لو أن أحداً ذهب ليشتري خبزاً لأولاده، وبينما هو في الطريق قابله صديقه وقال له: يا أخي! أريد منك مساعدة لأطفال يتامى وأن نشتري لهم أحذية وملابس، ولقد جمعنا مبلغاً قدره أربعون جنيهاً وما زلنا بحاجة إلى عشرة جنيهات، وهو يثق فيه، فقام الرجل وأعطاه وشكره على أنه جعله يفعل الخير، فربنا وضع له الخير في طريقه دون أن يقصده، فـ (يثاب المرء رغم أنفه). والنوع الآخر -والعياذ بالله- يضع الله المعصية في طريقه وهو لم يسر إليها، حتى إنها لتأتي إليه في بيته، فتجد الرجل جالساً مع زوجته وأولاده فيتصل صديق له ويقول له: تعال الآن فلدينا جلسة ممتعة، وستخسر كثيراً إن لم تحضر وستفوتك المتعة، فيقول له الرجل: لقد وعدت زوجتي وأولادي أن أجلس معهم هذا اليوم، فتجد صديقه يرغبه في تلك الجلسة حتى يخرجه من بيته، وبعد أن يخرج من البيت تحزن زوجته وأولاده فينامون وهم مغمومون، ويقولون: أليس لنا حقاً في أبينا؟ ولماذا لا يهتم بنا؟ وتنتج المشاكل في هذا البيت؛ لأن الشيطان دخل عليهم من هذا الباب. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا تظن أبداً إذا عصى العبد ربه أن الشيطان غلب]. فالشيطان لا يغلب، قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، فليس عصيان العبد دليلاً على أن الشيطان غلب ولكن الولي أعرض عن العبد، فلو أن رجلاً قُتل أخوه ستجدونه يحزن حزناً شديداً، لأن أخاه كان ظهره الذي يستند عليه لكنه ضاع، فما بالك عندما يكون ظهره الله سبحانه وتعالى؟! فبعض الناس تجده مريضاً بأمراض كثيرة، فلو أن الله هو ظهره فلن يخسر شيئاً، وعندما يتخلى الله عن العبد فلن يكسب العبد شيئاً، نسأل الله أن يكون لنا ذخراً وسنداً في حياتنا؛ إن ربنا على كل شيء قدير.

من كانت الدنيا همه صار خادما لغيره

من كانت الدنيا همه صار خادماً لغيره [وإن أصبح العبد وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه]. تجد بعض الناس كما يقال: عنده قدرة على تصدير الهم إلى غيره، بل إني أعرف امرأة توفي ابنها وهو يشرب الشاي، فمن حزنها حرمت على نفسها شرب الشاي، وعندما تنسى ابنها قليلاً وتتسلى قليلاً تذهب وتقرأ في صفحة الوفيات، وتتذكر ابنها وتبكي، فهي تبحث عن الحزن أينما كان، لكن العبد لو وكل أمره إلى الله لما حزن هذا الحزن الذي لا داعي له. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإذا أصبح المسلم وأمسى والدنيا همه]. كلنا هذا الرجل المسلم، همه المال والمرتب والمكافأة والبيت وغير ذلك. قال: [حمله الله همومها وغمومها وأنكادها] كان سيدنا علي رضي الله عنه ماشياً مع الصحابة فوجد جيفة لحيوان ميت والكلاب حولها، فقال: الدنيا جيفة قذرة، فمن أراد أن يأخذ منها فلينهش مع هذه الكلاب. قال: [ووكله إلى نفسه فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق]. أي: فبدلاً من أن يحب الله يحب الخلق والعياذ بالله. قال: [ولسانه عن ذكره بذكرهم]. فينسى الله والعياذ بالله، ويقضي حياته وهو يذكر الناس. قال: [وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم] وأمثال هؤلاء: حمزة البسيوني أو حسن طلعت أو شمس بدران كانوا يُؤمرون بتعذيب الناس، حتى إن حسن طلعت مدير السجن كان يقول: كل أحد يخاف مني، ولو أن جبريل أتى ناحية السجن فإنه سوف يأتي إلي ويلقي لي التحية العسكرية أولاً! وبعد النكسة حُبس في نفس السجن الذي كان يديره في يوم من الأيام، والذي كان يعذب المسجونين فيه! قال الله تعالى: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان). وهذه آية من آيات الله عز وجل أراها كل يوم، وهي أن شاباً كان أبوه من مدراء السجون في الستينات، وكان يأمر المسجونين المسلمين عندما يمشون أمامه أن يضعوا أيديهم وراء ظهورهم، ويخفضوا رءوسهم؛ من باب الإذلال، وابنه الآن عمره ثلاثون عاماً، ولكنه من بداية حياته جاءه مرض، فلا يستطيع أن يحتفظ بتوازن جسمه إلا إذا وضع يديه وراء ظهره وخفض رأسه، وأنا أراه كل يوم يمر من أمام منزلي ويركب الحافلة. سبحان الله! {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:5]، ومثل هذه الحكم تعتبر أقوى درس في العقيدة، كما تدين تدان. وكتب في إحدى الصحف: أن رجلاً كان يصنع فخاراً فكبر في السن وأصبح ابنه يساعده، فقام هذا الرجل بحمل بعض الفخار على ظهره فتعثر لكبر سنه، فوقع الفخار من على ظهره وانكسر، فإذا بابنه ينهال عليه ضرباً وهو في الأرض، فاجتمع الناس وأرادوا أن يفتكوا بالولد، ولكن والده صاح وقال: اتركوه، لقد ضربت أبي في نفس هذا المكان! من يزرع خيراً يجن خيراً، ومن يزرع شراً فلن يحصد إلا من جنس ما زرع، والحياة كتاب مقروء ويجب على المؤمن أن يعتبر، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، فالحق ظاهر وواضح، فإن عملت خيراً ستلقى خيراً، وإن عملت شراً ستلقى شراً، والعياذ بالله، والعرق دساس. فالله سبحانه وتعالى عندما يصبح العبد ويمسي والدنيا أكبر همه يشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، ويؤتى يوم القيامة بالأتباع والمتبوعين، فيقولون: هؤلاء يا رب! هم الذين أضلونا وقالوا لنا: اعملوا كذا وكذا، يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]، فيقول رب العزة: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف:38]، أي: لكل واحد منكم ضعف من العذاب، والمخدوم تهرّب من الخادم، والخادم يريد أن يعلق المشكلة برقبة من يعلوه، والمسلم لا يعصي الله بطاعة مخلوق، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فإذا قال لي المخلوق شيئاً يخالف ما قال الله فلا طاعة له مهما كان، سواء كان أباً أو أماً أو ابناً أو زوجة أو قريباً أو قريبة أو رئيساً أو مرءوساً أو مديراً أو غفيراً أو وزيراً، لا طاعة لهم ما دام هذا يخالف أمر الله، فلو أن الوزير قال لمدير مكتبه: اذهب بهذه الهدايا (لفلان بيه) مثلاً وهو يعلم أنها رشوة وليست هدية وقام بتنفيذ الأمر فهو رائش، ولن ينفعه هذا الوزير يوم القيامة؛ لأن الله تعالى قال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167]. سبحان الله! وقال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، حتى إن الشيطان يقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] ويقول: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16]. فالعبد يجب أن يعمل ما يرضي الله؛ لأنه قد يأتيه الموت وقد تأتيه لحظة النهاية وقد يأتي الختام ولا يكون الختام حسناً والعياذ بالله. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وخذنا من الدنيا مسلمين يا رب العالمين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره]. إن كير الحداد عبارة عن منفاخ، فهو يظل ينفخ فيه طوال اليوم لكي ينفع غيره؟ وهذا مثله. فأي قيمة لرجل يقف وراء رجل مثله، ويقدم له الكرسي ويأخذ له النظارة في جيبه، وهكذا سبحان الله! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل أدلكم على رجل من أهل النار؟ قالوا: من يا رسول الله؟! قال: رجل جالس وبين يديه رجال قيام). ويقول عمر بن الخطاب: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه سعد بن أبي وقاص ولقيه يعجن العجين، فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين وأين الخادم؟! قال: أرسلناه ليشتري شيئاً من السوق، فكرهنا أن نحمله شيئين في وقت واحد. مع أنه خادم، وهذه مهنته، ولكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يرد أن يكلفه فوق طاقته، حتى لا يكلفه الله ما لا طاقة له به. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته، بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته]. إذاً: الخالق والمخلوق لا يشتركان في العبودية، وجمع المتضادات من المستحيل، فلا أحد يستطيع أن يجمع الليل مع النهار، ولا البارد مع الحار، ولا أن يجمع الأبيض مع الأسود، ولا يمكن أن يجتمع الطيب مع الرديء، كذلك إما أن تعبد الخالق أو أن تعبد المخلوق. فلا يجمع الإنسان في قلبه إلا الخالق، فيذلل الله له المخلوقات وييسرها. أتى إلي ذات مرة شخص وقال لي: المصلحة الفلانية لن يقوموا بعملهم لي إلا إذا أخذوا مبلغ كذا وحددوا المبلغ، فهل أدفع؟ قلت له: لا تدفع، فقال لي: سأتضرر من ذلك كثيراً، فقلت له: لا تخف لن يحصل لك شيء، فذهبت معه إلى ذلك الرجل الذي بيده المصلحة ولم أكن أعرفه أبداً، ولكنني استعنت عليه بالله عز وجل، وقلت له: أريد أن تنجز لي هذه المصلحة؟ فقال لي: القانون رقم 147 يقول، ولا يوجد قانون أصلاً، فقلت له: ما هو المطلوب بالضبط؟ قال لي: المطلوب ليس لي، فقلت له: لمن؟ قال: للعمال المساكين في هذا المكتب، فقلت له: هذه إما رشوة وإما صدقة، فقال لي: اعتبرها صدقة، فقلت له: لماذا أتصدق عليك وأنت ترتدي هذه البدلة الجديدة التي تقدر بـ200 جنيه؟ اذهب وبعها واشتر بدلة من وكالة البلح بـ30 جنيهاً، وبعد ذلك سأتصدق عليك عندما أرى بنطال بدلتك ممزقاً وتستحق الصدقة، فقال لي: هل أتيت هنا لكي تهيننا؟ قلت له: لن أخرج من هنا إلا بعد أن توقع على هذه الورقة، وإذا لم تمضها سوف أتصل الآن برئيس الوزراء وسأجعله يأتي إلى هنا، فأمضى الورقة وظن أني أعرف وساطات كبيرة، وأنا لا أعرف أحداً ولا أعرف رقم الوزير ولا أعرف حتى اسمه، ولا أعرف هل كان سيرد علي أو لا يرد؟ ولكنني وجدت نفسي أقول له هكذا، حتى أمضى على الورقة. سبحان الله! فاستعن بالله ولا تعجز، فهو مخلوق مثلك. كذلك أعرف رجلاً ظلمه أحد المسئولين الكبار، فجاء وقال لي: ماذا أفعل؟ هذا الرجل ظلمني ونقلني من مكتبي إلى مكتب أقل درجة، فقلت له: لا تيأس هكذا، فقال: ماذا أفعل؟ قلت له: ادخل عليه، وقل له: لو ظلمني أحد فإنني سآتي إليك وأشكوه، لكن أنت الذي ظلمتني فأنا سأشكوك إلى الله. فقال لي: يا أخي! هذا لا يصلي، ولا يعرف الله، فقلت له: أنت قل له هذا الكلام فقط، وأنت معتقد أنه لا يملك لنفسه ولا لك لا نفعاً ولا ضراً، فذهب الرجل وقال لهذا المسئول ذلك الكلام، فرد عليه المسئول وقال له: بيني وبينك حد الله، وأمر بأن يردوه إلى مكانه الذي كان فيه، وأمر له بترقية كذلك! إذاً: ما الذي يجعلني أخاف من أي إنسان، إذا أنا خفت من الله فإنني أشعر أن جميع الناس لا أخاف منهم، لكن إذا خفت من هذا وخفت من هذا، فأين الخوف من الله؟! والله لو خفنا من الله، لأخاف الله منا المخلوقات، ويسر لنا الأمور، وذلل لنا الطاعات، ووفر لنا الأوقات، وبارك لنا في الأولاد والعمر، وبارك لنا في الكلمة، وبارك لنا في كل شيء، فلا بد من الخوف من الله عز وجل؛ يقول الل

غاية الجهل في الشكوى

غاية الجهل في الشكوى قال المصنف رحمه الله تعالى: [الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه]. فكم جاهل بيننا بل كلنا جهلة؛ لأننا نشتكي من الزمن والأيام والدهر، والله يقول في الحديث القدسي: (لا تسبوا الدهر فأنا الدهر، وأنا الذي أصرفه بيدي)، وتجد الناس يقولون: الأيام هذه أيام صعبة، والأيام هذه ليس فيها خير، وهذا سب لله عز وجل والعياذ بالله؛ فالدهر وأيام الأسبوع وأشهر السنة منذ أن خلق الله السموات والأرض لم تتغير، والله تعالى يقول: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة:36]، فالأيام والسنون لم تتغير، ولكن الناس هم الذين تغيروا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإنه لو عرف ربه لما شكاه] فكيف نشكو من اسمه: الكريم؟! وكيف نشكو من اسمه: الرحيم، والغفور والودود والناصر والمعين والولي والقيوم؟! قال: [ولو عرف الناس لما شكا إليهم، ورأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقته وضرورته، فقال: يا هذا! والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك، وفي ذلك قيل: وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم والعارف إنما يشكو إلى الله وحده]. فسيدنا يعقوب قال: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]. قال: [وأعرف العارفين من جعل شكواه من نفسه لا من الناس] يعني: يشتكي نفسه لله، ويقول: يا رب! أنا لست صالحاً ولست مطيعاً، أصلح لي نفسي يا رب! اجعلني راضياً وقنوعاً، وانزع من قلبي الحسد، واجعلني صابراً، واجعلني تقياً، واجعلني زاهداً، واجعلني مصلياً، واجعلني قارئاً للقرآن، وارزقني العلم، وحفظني القرآن، وفهمني تلاوته. وتجده يدعو الله ويشكو نفسه إليه سبحانه وتعالى، ولكن تجد أكثر الناس هذه الأيام يسأل الله الدنيا ويقول: يا رب! أعطني مالاً ووفر لي كذا، وسخر لي كذا وهذه كل طلباته، سبحان الله! قال: [فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه، فهو ناظر إلى قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، وقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، وقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]]. وهذه الآية نزلت في غزوة أحد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالمراتب ثلاث: أخسها أن تشكو الله إلى خلقه، وأعلاها أن تشكو نفسك إليه، وأوسطها أن تشكو خلقه إليه].

الرغبة في الآخرة مرهونة بالزهد في الدنيا

الرغبة في الآخرة مرهونة بالزهد في الدنيا قال المصنف رحمه الله تعالى: [لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا] وهذا صحيح، قيل لـ أبو حازم: لماذا نكره الآخرة ونحب الدنيا؟! كأن يحدث أحدنا نفسه ويقول: لو مت فسوف أترك المال والثروة والبيت والسيارة والمنصب، والمركز الاجتماعي، والأموال في البنوك، والترشيح للوزارة، والترشيح للإدارة، فتجده يكره الموت. فقال أبو حازم: تكرهون آخرتكم وتحبون دنياكم؛ لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، والإنسان لا يتمنى أن ينتقل من العمران إلى الخراب. فلو عَمَّر الإنسان الآخرة فإنه سوف ينتقل إلى العمران وسوف يفرح بذلك، ومثل ذلك: الأم التي تظل تربي ابنتها وبعد ذلك تزوجها، فتنتقل إما إلى زوج صالح أو إلى زوج غير صالح والعياذ بالله رب العالمين. إذاً: مجرد أنها ترى أن زواجها أفضل لها، فما بعد الزواج أفضل لها، والبنت تجدها فرحة لأنها ستتزوج؛ ولأنها ذاهبة إلى مكان هي مقتنعة أنه مكان أفضل. فكذلك المسلم لو اقتنع أن الآخرة عنده أفضل فسوف يعمل لها. قال: [ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها وألم المزاحمة عليها]. إننا نجد أنفسنا عندما نكون واقفين في طابور نشتري شيئاً أو نحجز شيئاً، فكل واحد يريد أن يذهب الأول، فيقول: لو أعرف أحداً في هذه المصلحة لكنت دفعت المبلغ وذهبت، ولو أعرف فلاناً لكنت أنهيت هذه المسألة اليوم، وهكذا نزاحم على الدنيا ونتعب كثيراً. قال: [وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها، فهذا أحد النظرين]. أي: أن الإنسان لكي يحب الآخرة ويزهد في الدنيا، لا بد أن ينظر لحقيقة الدنيا، مثلما نظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى امرأة عجوزاً وعليها أساور ومجوهرات وحلياً وزينة، وكانت تناديه: يا محمد! يا محمد!، ولم يرد عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينظر إليها، فقالت: إن نجوت مني فلن ينجو مني أصحابك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: من هذه يا جبريل؟! قال: هذه هي الدنيا. يقول الشاعر: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق فالدنيا ترفع أناساً وتخفض آخرين، وكم من أولاد أعزاء ذهب عليهم العز، والذي كان لديه مال ذهب ماله، والذي كان في مركز اجتماعي ذهب مركزه. والله يبتلي العبد في الدنيا لكي يضرع إلى الله، ويعلم أن الدنيا ليست دار مقر بل دار ممر، فنحن نفرح في السفر؛ لأننا قربنا أن نصل، وعندما نتعب في الدنيا، فمن الواجب ألا نحزن؛ لأننا نعلم أننا أوشكنا على الوصول إلى الله رب العالمين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينها وبين ما هاهنا، فهي كما قال الله سبحانه: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17]، فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة، فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره وزهد فيما يقتضي الزهد فيه]. أي: أن العاقل يعلم أن الباقية وما فيها من المسرات أحسن من الفانية التي فيها المكدرات، ومن فينا لم يمر عليه يوم إلا وهو في هم جديد؟ والدنيا هكذا دار عمل واختبار، والجاهل من يلعب ويلهو ويتفاخر، يقول تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:20]، فالدنيا مثل ذهاب السكرة وحضور الفكرة، والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، فإذا ما انتبهوا ندموا ولن ينفع الندم بعد ذلك، إذ تأتي الإنسان حالة من النوم في الدنيا، وينتبه للأسف عندما يموت، وبمجرد أن ينتبه يقول: وا حسرتاه، لم أصل، ولم أزك، ولم أذهب لدروس العلم، ولم أعمر المساجد، ولم أتصدق، ولم أؤد حق الله في المال، فيحزن ويندم، لكنه ندم لا محل له.

كيفية الاستجابة للرسول

كيفية الاستجابة للرسول قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]]. أي: أن الله ورسوله يدعواننا لما يحيينا، والدنيا وأهلها يدعونا لما يميتنا ويميت قلوبنا، والله يحول بين المرء وقلبه، ويمنعه من قلبه، بدليل أن القلب الذي يرضى تجده يسخط في نفس اللحظة، فمثلاً تجد أصهار العريس يكونون فرحين به ويرحبون به، ويقولون له: لا تحمل هماً، الكثير علينا والقليل عليك، فيواسونه بكلام طيب وجميل، فيخرج من عندهم فرحاً ووالدته تقول له: لم أرَ مثل هؤلاء الناس في الطيبة وحسن الخلق، وبعد ذلك يحصل بعض الإشكالات عند تجهيز العروس، فتجد أهل العروس يسخطون ويقولون: مالنا ولهذا الزواج، فالعريس عقله غير مكتمل، وأمه بذيئة الكلام، فتجدهم يسخطون بعدما كانوا راضين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فتضمنت هذه الآية أموراً: أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله]. يعني: لكي تكون حياة المسلم نافعة فعليه أن يقول: سمعاً وطاعة لله ولرسوله، كما قال تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285]. وقوله: (لِمَا يُحْيِيكُمْ) أي: يحييكم للحق، وأحييت نفسه للحق فصار مستقيماً. وقال قتادة: هو القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الجهاد من أعظم ما يحييهم الله به في الدنيا، وفي البرزخ وفي الآخرة، ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا. والعياذ بالله. قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]. وهذا يفسر كلام ابن القيم في قوله تعالى: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، أي: دعاكم للجهاد فجاهدوا، فأنت عندما تموت في سبيل الله تحيا عند الله وفي الآخرة حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم، وفي الحديث: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)، وأنا أحث أولادنا الذين يدخلون الجيش على أن يضعوا في أذهانهم أن الأيام التي ستقضونها في المعسكر هي رباط في سبيل الله، ولا تظنوا أنها صعوبة وأوامر، بل هي لحظات وأنت ترابط في سبيل الله عز وجل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122]]. يمشي في الناس بالنور وهم في الظلمة، فالناس الذين يرتكبون المعاصي في ظلام، وأهل الإيمان في نور، قال تعالى: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف:101]، فالآية تحذير عن ترك الاستجابة لله ولرسوله. إذاً: ميزان العمل هو الاستجابة لما قاله الله وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم، أي: سمعنا وأطعنا.

حث ذوات الحجاب على الصبر والثبات

حث ذوات الحجاب على الصبر والثبات هناك أختان من الأخوات شكتا إلي أمرهما وقالتا: إنهما سمعا محاضرتي، فذهبتا وحجبتا بناتهما عندما بلغن الحلم، ولكن العائلة بأكملها هاجت على هاتين الأختين، وقالت: كل هذا بسبب الأختين اللتين تذهبان لتسمعا الدرس في المسجد عند الشيخ. وأنا أقول تقوية للعقيدة: هاتان الأختان الفاضلتان على حق، وفي نور والباقي في ظلمة، وهما على صواب والباقي على خطأ، وقد كتب الله عليهما كما كتب علينا جميعاً أن نسبح ضد التيار، إذ التيار كله يمشي في الاتجاه الخاطئ، فالتيار كله منحرف وبعيد عن رحمة الله، فنحن لا نخاف ولكن نتوكل على الله، ونطبق ما يريده الله عز وجل منا، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس)، وهناك هجوم شرس وغريب هذه الأيام على الأخوات المحجبات والمنقبات ولا أعرف لماذا؟ ماذا أغضب اللاتي يمشين عاريات في الشوارع من أمر المحجبات والمنقبات؟ قد نقول: إن الشباب غير المؤدب يغضبون عندما يرون الفتاة تمشي بالحجاب والنقاب؛ لأنهم لا يرون وجهها. ولكن عندما تغضب النساء اللاتي يمشين عاريات في الشوارع من أمر النساء المحجبات، فما هو السبب؟ أعتقد أن هذا حقد داخلي؛ ولكن لم يعرف النساء كيف يعبرن عنه؛ لأنهن يرين تلك الفتاة أن ربنا هداها للحجاب، فهن يحقدن عليها ولكن لا يعرفن كيف يعبرن عن حقدهن، وفطرتهن تجعلهن يحقدن عليها، فهن يردن أن يصلن إلى هذا المستوى الرفيع من الحجاب، ولكنهن لا يعرفن كيف يصلن إليه، فتجد الواحدة منهن تبرر لنفسها وتقول: أهم شيء النية، وهذا بيني وبين ربي، وأنا متحشمة في اللبس، ولا يظهر مني سوى الذارع والرجلين والرقبة والشعر والوجه، وتجد جسمها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كاسيات عاريات)، فتجدهن كاسيات في عرفهن، عاريات في الحقيقة. يقول رسول الله صلى الله عليه سلم: (سوف يأتي زمان على أمتي يقف على أبواب المساجد رجال كأشباه الرجال، لهم نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات شعورهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات). فهي مطرودة من رحمة الله أساساً، فلماذا تحقد على التي تتحجب؟! فاسكتي، وابحثي عن عيوبك. وإذا سألتها: وما أدراك أن هذه المحجبة أو المنقبة امرأة غير صالحة؟! هل تعاملت معها؟! فتجدها تقول لك: الأمر هكذا، أي محجبة فهي غير صالحة! حصل نقاش سيئ جداً للأسف الشديد في إحدى المحاضرات السابقة، وكان هناك بعض الأخوات جالسات، وتجد المرأة التي تعارض مثل (الحيزبون) كما يقولون، أي: المرأة التي وصل عمرها إلى السبعين، وتريد أن تصغر نفسها إلى عشرين عاماً، كما قال الشاعر: عجوز ترجّى أن تكون فتية وقد لحب الجنبان واحدودب الظهر تدس إلى العطار ميرة أهلها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر فالمفترض أن الإنسان مادام أنه كبر في السن فليتق الله؛ لأن الله يكره العاصين، وكرهه للشيخ العاصي أشد، ونحن لا نعيب على هؤلاء ولم ندخل في قلوب الناس، فإن سيدنا أسامة عندما قتل الرجل، سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لماذا قتلته؟ فقال: يا رسول الله! إنه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله خوفاً من السيف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشققت عن قلبه يا أسامة؟! وماذا تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟!). أي: ماذا ستفعل أمام كلمة لا إله إلا الله؟

برنامج لمحاسبة النفس

برنامج لمحاسبة النفس نحن لسنا مكلفين بالدخول إلى قلوب الناس، فلا نجلس في بيوتنا ونتهم الناس: هذا كذا، وهذا يفعل كذا، وهذا أظنه كذا، بل أتهم نفسي أفضل من أن أتهم غيري، وأبحث عن جروحي وأعدد عيوبي، وأنا أريد منكم عندما ترجعون إلى بيوتكم أن تأتوا بورقتين وهما رمزان للعدد الكبير، وكل واحد منكم يكتب عيوبه التي لا يراها، فمثلاً لا يقول أحد في نفسه: أنا أصلي وأصوم وأزكي. لا أقصد هذا، ولكن نأتي بالتدرج حتى نستفيد جميعاً: أولاً: الرأس وما وعى، وأول شيء في الرأس العقل، هل هذا العقل ينشغل بإساءة الظن بالناس؟! أو أنه موقر للناس وثقة ولا يتدخل بأحد، كما قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، فأرى هل هذه موجودة أم لا؟ هل أقتفي آثار الناس، وأقول: فلانة أين ذهبت، وفلان أين ذهب؟ وفلانة عندما طلقت حصل لها كذا. ثاني شيء في الرأس: العينان، هل أرى بهما الحرام، هل أنظر بهما إلى الناس باستهزاء وسخرية، هل أستخدم هاتين العينين فيما يغضب الله عز وجل؟ ثالث شيء في الرأس: الأذنان، هل أسمع بهما غيبة ونميمة وأغاني وفوضى، وكلاماً من كلام الدنيا ولهواً، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، والمستمع شريك للمتكلم. رابع شيء في الرأس: اللسان، هل أشهد الزور؟ هل أقول الحق؟ هل أقرأ بلساني القرآن دائماً؟ هل لساني هذا لا يخطئ وليس كثير الحلف، هل لساني لا يكذب؟ هل لساني لا يغتاب ولا ينم؟ فإنك ستجد غيبة ونميمة وشهادة زور وغير ذلك. واليدان، هل تمسك المصحف؟ هل تتصدق؟ هل تعمل؟ أم أنك تستخدم هذه اليدين فيما لا يرضي الله عز وجل؟ هل ضربت شخصاً بها ذات مرة؟ وبعد ذلك المعدة، هل هذه البطن تأكل حلالاً أم تأكل حراماً، وأكل الحلال هذا كيف يكون وأين ومتى وبقدر ماذا؟ ونفس القضية في الفرج. وبعد ذلك القدمان، هل أذهب بهما إلى مكان جيد أو إلى مكان غير جيد؟ هل أذهب بها لأعمر بيوت الله، أم أذهب إلى أماكن أخرى لا ترضي الله سبحانه وتعالى؟ وبعد ذلك الجسد كله، هل أنا عاق لوالدي، إلخ. هذا جانب الجوارح، وبعد ذلك جانب المعاملات: يصارح نفسه، زوجتي يوم القيامة هل سأكون ظالماً لها أم لا؟ أنظر هل أنا أعاملها كما كان يعامل الرسول صلى الله عليه سلم زوجاته، هل يتبسم في وجهها؟ هل يربت على يديها؟ هل يساعدها في عمل البيت أم يحملها فوق طاقتها؟ هل يلاحظ أنها في بعض أيام الشهر تكون نفسيتها متعبة، نتيجة التغيرات التي تحدث في جسمها وتكون عصبية؟ وهل تحملها أو لا؟ فأسال نفسي هل أنا ظالم أم غير ظالم؟ ثم بعد ذلك أبي وأمي هل أزورهما؟ أهل الخصومات والأقارب مثل الخالة والعمة هل أصلهم أم لا؟ أصدقائي الذين أجلس معهم، هل أنصحهم أم أتركهم؟ ثم بعد ذلك جانب الله عز وجل، هل يا ترى أنا أخاف من الله كثيراً؟ كم مقدار خوفي من الله سبحانه وتعالى؟ هل عندي أمل في رحمة الله أم عندي قنوط؟ ثم بعد ذلك القرآن، كم أقرأ من القرآن؟ هل أنا أتفكر في آيات القرآن أم مجرد قراءة؟ صلاتي كيف شكلها؟ هل أؤديها بركوع وخشوع وسجود وتواضع وعلى مهل؟ هل فيها صلة بالله؟ ثم بعد ذلك مالي، من أين اكتسبته، وهل أنفقته في الزكاة وفي الصدقة وفي الإكثار من الحسنات؟ تربية الأولاد، هل أربيهم على ما يرضي الله أم لا؟ البنت التي كبرت ماذا عملت بها؟ هل جئت لأولادي بمن يحفظهم القرآن؟ كل هذه العيوب تكتب في ورقة، واعمل لها منهاج عمل في جدول، وبعد ذلك ابدأ في الإصلاح، والعيب الذي تصلحه فألغه من الورقة، وإذا عاد العيب فاكتب العيب مرة أخرى. فهذا لو جاء يوم القيامة قال الله عز وجل لمن يريد أن يحاسبه من الملائكة: يا ملائكتي! اتركوه لقد حاسب نفسه قبل أن نحاسبه، ووزن أعماله قبل أن توزن عليه، ادخلوه الجنة برحمتي. فطالما أنت تعالج عيوبك أولاً بأول، فهذا هو الدين العملي، ولا بد أن تحول الدين إلى عمل، فالدين ليس كلاماً ولا دردشة.

سلسلة شرح كتاب الفوائد [8]

سلسلة شرح كتاب الفوائد [8] الإيمان له ظاهر وباطن، فباطنه تصديق القلب وظاهره تصديق اللسان وعمل الجوراح، ولابد من الإتيان بكل ذلك، ومن أعمال القلب التوكل على الله والاعتماد عليه، لكن مع الأخذ بالأسباب المشروعة.

الإيمان ظاهر وباطن

الإيمان ظاهر وباطن أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاةً وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وبارك عليه صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. أما بعد: ندعو الله سبحانه وتعالى في بداية هذه الجلسة الطيبة أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، اللهم اجعلها خالصة لوجهك الكريم، اللهم لا تجعل للشيطان فيها حظاً أو نصيباً، اللهم ثقل بها موازيننا يوم القيامة، وأضئ لنا بها طريقنا على الصراط يوم القيامة، وثبت بهذا العلم يوم القيامة أقدامنا على الصراط يوم تزل الأقدام، اللهم أظلنا بظلك يوم لا ظل إلا ظلك، اللهم أظلنا بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك معافين، غير فاتنين ولا مفتونين، وغير خزايا ولا ندامى ولا مبدلين، وإن أردت بعبادك فتنة يا أرحم الراحمين! فأبعدنا عن الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اختم لنا بالإسلام جميعاً يا أرحم الراحمين! اجعل اللهم جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل بيننا يا مولانا! شقياً ولا محروماً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. ما زلنا مع كتاب الفوائد لـ ابن قيم الجوزية رضي الله عنه، واليوم سنتحدث في الفقرة الأولى عن الإيمان: فالإيمان هو الرتبة الأعلى للمسلم، وذلك عندما يسلم الإنسان قلبه لله عز وجل يصير مؤمناً، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، كما قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]. إذاً: عندما يمحص الله العبد ويختبره عندئذ يكون الإيمان، وفي الحديث: (قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره) حلوه ومره، والمؤمن من أمنه الناس على دينهم وأعراضهم وأموالهم، والمؤمن هو الإنسان الذي يقدم ذكر الآخرة -أي: معاده- على معاشه، أو يهتم بأمر المعاد على أمر المعاش، اللهم اجعلنا من أهل الآخرة ونحن نعيش في الدنيا يا أرحم الراحمين! قال المصنف رحمه الله تعالى: [الإيمان له ظاهر وباطن]. إذاً: الإيمان ليس له قسمان، وإنما له صورتان، والصورتان متكاملتان وليس بصورتين مختلفتين، فالإيمان له ظاهر وله باطن. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وظاهره: قول اللسان وعمل الجوارح]. قال الأصوليون: الإيمان له أركان ثلاثة: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان، ونحن سنأخذ القول باللسان والعمل بالجوارح، فلو أن شخصاً قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأكل ذبيحتنا، واستقبل قبلتنا، فلا أستطيع أن أقاتله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني أنفسهم ودماءهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل) ولعلنا نذكر أسامة رضي الله عنه لما رفع السيف على مشرك، فنطق المشرك بالشهادة فقتله أسامة، فلما عاتبه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قال: يا رسول الله! ما قال: لا إله إلا الله إلا خوفاً من السيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشققت قلبه لتعرف ما فيه؟ ماذا تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة). إذاً: نقطة دم تراق من مسلم قضية خطيرة وخطيرة، نسأل الله العصمة والرحمة، ونسأل الله أن يزيل هذه الغمة عن المسلمين جميعاً؛ إن مولانا على ما يشاء قدير. إذاً: الإيمان ظاهر وباطن، فالظاهر بالقول: من قال: لا إله إلا الله باللسان، وبعد ذلك عمل بالجوارح فصلى مع الناس، وحج مع الناس، وصام مع الناس، فعند ذلك نقول عن هذا الإنسان: عنده إيمان، أما أن نقول: هذا منافق، وهذا فاسق، وهذا فاجر، فلسنا حكاماً على الناس، وإنما الذي يحكم على الناس هو رب الناس، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول قولاً لطيفاً: كنا نحكم عليكم والوحي ينزل، أما ولا وحي فمن فعل خيراً أو قال خيراً ظننا به خيراً، فمن فعل شراً أو قال شراً ظننا به ما فعل وما قال. إذاً: نحن لنا ظاهر الأمور، ولا يجب أن نبحث عن بواطن الأمور حتى في الفقه، فمثلاً: قال العلماء: إذا ذهب الرجل ليصلي في المسجد، وبينما هو في الطريق ونزل عليه ماء من حائط أو نحوه، فمن الواجب أن لا يسأل عن هذا الماء هل هو طاهر أم غير طاهر، والحكم عليه أنه ماء طاهر. هذا هو الإسلام، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، فعندما نتقصى الأثر، ونقول: هذا سبق صحفي، وخبر غريب في العائلة، وفلان أول من نشر هذا الخبر،، وهكذا، فإنه ليس بمؤمن أبداً من صنع هذا الصنيع. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وباطنه: تصديق القلب، وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له، وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذرية]. أي: لا ينفع عند الله، فلسنا حكاماً على قلوب الناس، فلا يأتي شخص ويقول: أنا أعلم أن هذا الشخص كذاب. كيف علمت هذا؟ وكيف عرفت هذا؟ إذا ثبت لك عملياً بحواسك الظاهرية بالعين وبالأذن وباللمس وبالإثباتات وبالورق وبالشواهد وبالقرائن وبالأدلة، فساعتئذ أقول: هذا كاذب، فليس هناك ضرورة أبداً إلى أن أذهب وراء السطور وأبدأ بتقصي حقائق الأمور على طريقة المخابرات. سيدنا عمر رضي الله عنه لما سمع أصواتاً غريبة، وتسور الجدار، وجد ثلاثة يحتسون الخمر، فإنه من الممكن أن يقال الآن: من حق الإمام أن يتجسس لصالح الرعية، ولكن لنرى موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: يا أعداء الله! ظننتم أن الله لا يراكم، وإن الله قد فضحكم، فقالوا: يا عمر! يا أمير المؤمنين! إن كنا قد عصينا الله في واحدة فأنت قد عصيته في ثلاث، قال: وما هي؟ قالوا: يقول الله: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189]، وأنت لم تأت البيوت من أبوابها. والله تعالى يقول: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]، وأنت تجسست. والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، وأنت لم تستأذن ولم تسلم. فقال لهم: أتعاهدونني على عدم شرب الخمر؟ قالوا: نعاهدك يا أمير المؤمنين! وقد تابوا إلى الله عز وجل. إذاً: سيدنا عمر رضي الله عنه لم يبح له وهو الحاكم العام أن يتجسس على بيوت الناس، ومن تطلع على عورات المسلمين ليفضحهم تتبع الله عورته وفضحه ولو في جوف بيته. وكذلك التلصص على التلفونات وعلى الحيطان بطريقة أو بأخرى، ويجعل الناس يعيشون في حالة رعب، فإن هذا إنسان نزعت منه الرحمة ونزعت منه الشفقة والإيمان، ويعد مجاهراً بالمعصية؛ لأنه يدخل عينيه وأذنيه في أعراض الناس. إلا في حالة الحروب للأمن العام، فقد قال عمر بن الخطاب لـ سعد بن أبي وقاص: تحسس جيشك ليلاً ولا تتجسس عليهم، والتحسس هو الدخول بإذن، ويعلم الجيش أن القائد يفتش وأنه مستيقظ، أما التجسس هو الدخول بين الناس بدون أن يشعر به أحد، وهذا حرام. إذاً: أتحسس الأخبار، وأدخل بين الجيش وأعلمهم أنني مهتم بهم، وأفاجئهم في أي وقت، لكن لا أتجسس عليهم. قال عمر: إن تجسست عليهم فضحتهم، وإن فضحتهم فضحك الله يوم القيامة. وهذا هو القائد العام لجيش المسلمين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجزئ باطن لا ظاهر له]. أحياناً نجد أبناءنا في البيت عندما نقول لأحدهم: اقرأ القرآن، فيقول لك عناداً: لن أقرأ، وبعد ذلك يدخل إلى غرفته، وعندما تأتي أمه أو يأتي أبوه يقفل المصحف؛ لأنه لا يريد أن يأمره أحد وهو عدو الأمر، وبالذات من الأب والأم، فهو يقرأ القرآن ويصلي، لكن لا يريد أن يحس أبوه وأمه أنه ما قرأ إلا لأنهم أمروه، وبعض الناس عندما تأمره بالصلاة وبالصيام يقول لك: دعنا من الصلاة والصيام، بيني وبين ربي عمار، فهذا هو الباطن الذي لا ظاهر له، فلا بد أن أحس أنك مسلم، فعندما أجدك بين أناس يشربون الخمر، هل تعتقد أني سأظن أنك تدعوهم إلى الله؟! ولذلك قيل: لا يضع الواحد منكم نفسه موضع الشبهة، إياكم ومواطن الشبهات، فالمكان الذي فيه شبهة لا داعي للتواجد فيه. إذاً: أنت كمسلم لا تضع نفسك في مكان معصية وتقول: ليس لي شأن بهذا، فمثلاً لو ذهبت إلى عرس وكان فيه راقصة، وتبرر لنفسك وقلت: أنا لم أكن أنظر إلى الراقصة، وكنت أعطيها ظهري! لماذا تذهب أصلاً؟ ولماذا لم تعد إلى بيتك عندما وجدت الراقصة؟ فيقول لك: هذا ابن أخي؟ فأقول له: حتى لو كان ابن أخيك، هل لا يتزوج إلا بوجودك؟ اذهب وسيستمر العرس ولن يتوقف. وأحياناً يقول لك: أنا أستقبل الناس والضيوف، فأقول له: عد إلى بيتك وأخوك سيقوم بالواجب، سيقول لك: أخي سيغضب، فأقول له: فليغضب، قاطعه في الله، واغضب منه في الله، وهكذا يكون المسلم. فأنا أريد أن أقول: إن المسلم لا بد أن يظهر للناس الخير؛ لأنك عندما تظهر للناس الخير على قدر المستطاع، فالناس يذكرونك بخير، فتجدهم يقولون: بارك الله في فلان، بارك الله في فلانة، ما شاء الله عليها! لكن عندما ترى امرأة تلبس بنطالاً بطريقة غريبة، وشعرها مسترسل ومتلون، ووجهها كأنه لوحة فنية، وتمشي في الشوارع، وبعد ذلك تقول: بيني وبين ربي عمار! فكيف يكون ذلك؟! وقد يكون، لكن ظاهر الأمر أنه لن يكون. إذاً: الإيمان له جانبان: ظاهر وباطن، فالظاهر لا ينفع من غير باطن، والباطن لا ينفع من غير ظاهر، إلا في حالات: أن إنساناً لو أظهر إيمانه في مكان ما وفي وقت ما، قد يستهزأ بالدين، وقد يسخرون منه، وقد يسبون الله عدواً بغير علم، وقد يخاف على نفسه، وقد يكون في دولة كافرة فيها أناس ملحدون، فهذه استثناءات، ولكل

التوكل نوعان

التوكل نوعان قال المصنف رحمه الله تعالى: [التوكل على الله نوعان: أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية، أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية]. يعني أنت تتوكل على الله لكي يعطيك من عنده ما تبغي من حوائج الدنيا وما فيها، فتدعو الله وتقول: أنا متوكل عليك يا رب! أن تأخذ بيد أولادي، وأن تهدي زوجتي، وأن تهدي جاري، وأن تجعل زوجة ولدي تحب ولدي وترعاه، وتهدي ابنتي مع زوجها، وأن تجعل زوجها حنوناً عليها، كل هذا توكل على الله. وعندما يزوج الرجل ابنته يوصي زوجها وحماها، ويقول له: لقد أعطيتك فلذة كبدي فاهتم بها، إنها طيبة وحنونة، ولا تغضبها حتى لا نغضب منك، وكذلك يوصي ابنته ويقول لها: انتبهي لزوجك وأهل زوجك وبيتك. فهذا نوع من التوكل لكي يقضي لنا الله حوائجنا الدنيوية، والإنسان يعمل الذي يقدر عليه والله هو الذي يتولى الأمور. قال المصنف رحمه الله تعالى: [والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين، والجهاد والدعوة إليه]. وللأسف أنا لي عشرون سنة في الدعوة، ولم أجد أحداً من الذين عرفتهم متوكلاً على الله في هذه الناحية. ولكي أوضحها أكثر لا بد أن أوضح معنى التوكل، وسأضرب لكم مثالاً، لو أنك تعرف شخصاً وتثق به ثقة تامة، وهذا الشخص عندما تطلب منه أن يعمل لك مصلحة أو ينفعك بمنفعة فإنه ينجزها، فعندما نطلب منه قضاء مصلحة أو توصيل أمانة، فنحن ننسى أن نسأله ما إذا كان قد قضى هذه المصلحة أو وصل هذه الأمانة أم لا، لأننا واثقون ومتأكدون أنه سيقضيها، فهذا هو التوكل، لكن عندما أطلب منه عمل مصلحة ما، ثم أظل أسأله كل وقت عما إذا كان قضاها أم لا، فهذا لا يسمى توكلاً. ولله المثل الأعلى. فمعنى: أن أتوكل على الله: أن أترك أمري لله وأنساه، لأنني تركته عند من لا ينسى، ولذلك قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]؛ لأننا لو توكلنا على بشر فقد يموت، وقد ينسى، وكلاهما موت، فموت الشخص يعني أني فقدت من أثق فيه، ونسيانه موت لموضوعي عنده، فتجد شخصاً يكون له قريب في منصب كبير، فتجده يحتمي بهذا القريب ولا يخشى أحداً، لكن عندما ينزل هذا القريب من منصبه، فلن يكون له ظهر كما كان من قبل. فالواجب أن نتوكل على من لا يذهب ولا يموت ولا ينسى، فإذا توكل المسلم على الله كفاه. كان هناك رجل يسرق الأحذية من المساجد، فعندما يختار الحذاء النظيف ليسرقه ويخفيه وراء عباءته، يقول: من توكل على الله كفاه ويذهب، فعندما يسمعه الناس يقول هذه الكلمة لا يشكون فيه أبداً، فعندما أراد أن يخرج من المسجد تعثر في عباءته، فكان الجزاء من جنس القول. والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، أي: يكفيني ربي، فعندما نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، أي: أملنا وكفايتنا هو الله عز وجل، يقول تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:173 - 174]؛ ولذلك عجبت لمن ابتلي بالخوف من الناس، كيف يغفل عن قول الله عز وجل: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، ألم يقل الله بعدها: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174]. وللأسف أن أغلب الناس يفهم أن كلمة: (حسبنا الله) نقولها في وجه الشخص عندما نكون مقهورين منه، وهذا خطأ، ولكن عندما تكون خائفاً من شخص أو خائفاً من حدث معين فقل: حسبي الله ونعم الوكيل، أي: الله حسبي، الله معي، ليس لي إلا الله، الله ظهري، الله سندي، الله متولي أمري، وهو الولي سبحانه وتعالى، وهذا من الإسلام، فعندما أقول: أنا مسلم، أي: مسلم أمري لله عز وجل. فالتوكل الأول خاص بالحوئج الدنيوية، كأن يقول الأطباء عندما يقومون بعملية لشخص: نحن عملنا الذي نقدر عليه، والباقي على الله، وهو كله على الله أولاً وأخيراً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان، واليقين، والجهاد، والدعوة إليه]. فمثلاً: فلان يصلي ويصوم ويزكي ويعمل الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكنه ينسى أن يتوكل على الله في أن يعينه على الصلاة، ويعينه على قيام الليل، ويعينه على الجهاد في سبيل الله، ويعينه على الحق، ويعينه على الدعوة إلى الله، ويعينه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعينه على الصدقة، ويعينه على الطاعة، ويعينه على الخصال، ويعينه على الدنيا، ويعينه على العيال، وهذا هو التوكل الأهم. قال: [وبين النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله، فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية]. يعني: أنني لو توكلت على الله في أمر الآخرة، فالله يعطيني الدنيا والآخرة. قال: [ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضاً]. أي: أن الله سيعطيني الدنيا وما فيها، لأنه يملك الدنيا والآخرة. قال: [لكن لا يكون له عاقبة المتوكل فيما يحبه ويرضاه، فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول]. أي: تجريد التوحيد لله عز وجل ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. قال: [وجهاد أهل الباطل]. وهذا أصعب شيء، وكما نقول دائماً: أصعب شيء هو السباحة ضد التيار، فتجد المجتمع يمشي من الألف إلى الياء، وتجد رجلاً مسلماً على الطريقة الصحيحة يمشي من الياء إلى الألف، فلو كان عندكم من الشفافية أو من مكبرات الصوت الإلهية وتضعونها على قلوب من يرانا ونحن داخلون إلى هذه القاعة، لسمعتم عجباً، وهذا ليس شفافية ولا فراسة ولكن من الواقع واليقين، ومن الرسائل التي تصلني من الناس، إذ يبعثون جوابات يقولون فيها: لقد أفسدت علينا أولادنا، أولادنا أصبحوا يقومون يصلون الفجر في المسجد، ونحن نخاف عليهم أن يحتجزهم رجال الأمن؟!، وبناتنا بعد أن كان شعرها أصفر وأخضر تحجبت، ما هذا الفساد الذي صنعته في أولادنا؟! سبحان الله! أفسدنا أولادهم، اللهم إن كان هذا هو الفساد فاجعلنا من هؤلاء المفسدين، واحشرنا في زمرة هؤلاء المفسدين. فغير المؤمن عندما يرى المؤمن فإنه يكون حاقداً عليه، لأنه يتمنى أن يكون مثله لكنه لا يعرف كيف يفعل ذلك، فتجد المرأة المؤمنة يتعبها زوجها، وأولادها متعبون، وتجدها باسمة الوجه، لأنها عندها يقين في الله عز وجل، ولذلك آسية امرأة فرعون، عذبها فرعون وشد شعرها شعرة شعرة، وهي تقول: الله! وهو يقول لها: أين الله؟! وبعد ذلك قطع من جسمها أصابعها ويديها ورجليها، وهي لا تمتنع عن قول: لا إله إلا الله، فلما اغتاظ منها قال: اقطعوا لسانها، فقالت: يا رب! لم يبق لي ما يؤنسي مع قلبي في ذكرك إلا لساني، اللهم خذني عندك وابن لي بيتاً في الجنة، ونجني من فرعون وعمله. فقال العلماء: بينما هم يقطعون لسانها، كان جسمها في الفرش، وروحها في العرش. فعندما يصل الإنسان إلى هذا المنطلق، يكون كما قال الإمام أحمد بن حنبل: أنتم ترون يد الجلاد، وأنا أرى يد رب العباد. قال: (وجهاد أهل الباطل) ونحن الآن في زمن كثير فيه أهل الباطل، وقد وصل الأمر إلى هذا. قال: [فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم، والتوكل تارة يكون توكل اضطرار وإلجاء، بحيث لا يجد العبد ملجأً ولا وزراً إلا التوكل]. يعني: ليس له إلا باب التوكل، وسأضرب لكم مثالاً قريباً: لو أن شخصاً أرغم شخصاً عل عمل الخير، فقال له: ما رأيك في أن نزور رجلاً مسكيناً، فيقول له: ولم لا؟ ويخجل أن يقول له: لا، وبعد أن يذهب، يقول له: هذا المريض يريد نقل دم، وهو لا يملك النقود، فالرجل لا يريد أن يدفع شيئاً، فيقول: انظروا إلى فصيلتي، قد تكون مطابقة واسحبوا مني دماً، وهو واثق أن الفصيلة مختلفة، ويفاجأ بأن الفصيلة نفس فصيلة المريض، وهذا من حظه، وهذا كما يقول المثل العامي: (إن جالك الغصب عِدُّه جَمَايل)، فلو أن أحداً أوقعك في خير، فافعله، ولا تعاتبه ولا تتهرب منه، ولكن اعمل الخير وأنت مثاب على ذلك. فحينما تفعل الخير وأنت مضطر كما يقال: يثاب المرء رغم أنفه، فيأتي إليك الثواب رغم أنفك، تخيل عندما يأخذ الرجل الثواب غصباً عنه، كموظف يجمع مبالغ من الموظفين لموظف مسكين؛ لكي يعمل عملية لزوجته، فيجد بعض الموظفين لا يريدون أن يدفعوا شيئاً، فيقول له: ادفع أي شيء، ويظل يلح عليه حتى يجعله يدفع ربع جنيه، فربما هذا الربع الجنيه يثقل موازينه يوم القيامة، فالمرء يثاب رغم أنفه. والعبد يجب عليه أن يفرح عندما يضع الله أمامه باباً من أبواب الطاعة دون أن يسير إليها، ولو خير لاختار أن يبتعد، لأن الإنسان شحيح في وقته وماله وصحته وأولاده، لكن عندما يوقعه أحد في الخير رغم أنفه يفرح، ويقول: ليتنا نجد من يرغمنا على الخير. يقول: (التوكل تارة يكون توكل اضطرار) يعني: قد طرقت جميع الأبواب، فتجد مثلاً الأب يقول: عرضت ابنتي على ثلاثين طبيباً وكلهم عجزوا عن علاجها، وبعد كل ذلك يقول: ربنا يتولاها برحمته، لكن بعد أن يئس من كل الأبواب المفتحة، ويذكر أنه احتضر أبو بكر فقالوا له: أنطلب لك الطبيب يا أبا بكر؟! قال: لا، إنما الطبيب قد جاء، وقال: سوف تحل عند رسولي الليلة، فالطبيب الأساسي هو الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك شعر أبو بكر أنه قد حانت وفاته، يقول الإمام الشافعي: طلبوا إلي طبيب الورى وروحي تناجي طبيب السماء طبيبان ذاك ليعطي الدوا وذاك ليجعل فيه الشفاء فترى الناس يأتونه بطبيب الأمراض، وروحه تنادي الطبيب الأول الأوحد الشافي المعافي لا إله إلا هو، فالطبيب يضع الدواء والله عز وجل يضع الشفاء في الدواء. قال المصنف رحمه الله تعالى: [كما إذا ضاقت عليه الأسباب، وضاقت عليه نفسه، وظن ألا ملجأ من الله إلا إليه، وهذا لا يتخلف عنه

سر التوكل وحقيقته

سر التوكل وحقيقته قال المصنف رحمه الله تعالى: [وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله: توكلت على الله، مع اعتماده على غيره]. أي: لا ينفعني أن أتوكل على الله، وأنا أفكر في أحد آخر ينفعني. قال: [فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء آخر، كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء، وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء آخر، فقول العبد: توكلت على الله، مع اعتماد قلبه على غيره، مثل قوله: تبت إلى الله، وهو مصر على معصيته مرتكب لها]. فلا تنفع التوبة مع الإصرار على المعصية وارتكابها، فالعبد يقول: أنا متوكل على الله، لكن قلبي في حالة من الأرق والتعب والتفكير والخوف.

سلسلة شرح كتاب الفوائد [9]

سلسلة شرح كتاب الفوائد [9] أساس الخير كله أن يعلم المرء أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فيتوكل عليه ويتجه بالدعاء إليه عند كل حاجة تنزل به، مع التحلي بالصبر على البلاء والصبر على الطاعة، ويحذر من الغفلة حتى لا يخرب قلبه.

أساس الخير

أساس الخير قال المصنف رحمه الله تعالى: [أساس كل خير: أن تعلم أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن]. فما شاء الله سيكون، والذي لا يشاؤه ربنا لن يحصل. قال: [فتتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه فتشكره عليها]. فالحسنات من نعم الله على العبد، وليس لأنه يعمل الخير، وإنما لأن الله يتفضل عليه بها، وهو الذي ساقه إلى الخير أصلاً، وهو الذي يثيبه عليها. قال: [وتتضرع إليه ألا يقطعها عنك]. ما أجمل أن تتوالى الحسنات والرصيد يكثر. فالأمة ما زال فيها خير رغم ما أرى من صور سيئة، وما زال عندي تفاؤل أن المسلمين فيهم خير، وهذا مصداق حديث الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما قال: (أمتي كالغيث لا يدرى الخير في أولها أم في آخرها). جاءني رجل بعد عصر الجمعة الماضية، وأخبرني أنه رأى في نومه كأنه عندي في المسجد، وبعد ذلك رأى أنه واقف على المنبر ويتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد أن نزل من المنبر، إذا بالرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، فاعتدل بعد أن انتهت الصلاة وسلم على هذا الرائي، وقال له: لحضورك مجالس العلم وصدقك فيها ستحل عندنا الليلة، فالرجل خاف، وأتى إلي مرعوباً وقال: ماذا يعني بقوله صلى الله عليه وسلم: ستحل عندنا الليلة؟ قلت له: إنك بفضل الله عز وجل أصبحت مطالباً بأن تكون الآخرة هي أكبر همك؛ لأن المسلم عندما يترقى في درجات الإيمان والتقوى يكون بهذا المنطق، وبعد ذلك قال لي: هل سأموت؟ قلت له: لا إله إلا الله، أنا سأموت وأنت ستموت وكلنا سنموت يوماً من الأيام، ولكن لا أحد يدري متى يموت! وأنت يجب عليك أن تنوي الخير. فقال لي: يوجد شيء ينغص علي حياتي، فقلت له: ما هذا الشيء؟ قال: وصية أريد أن أعرضها عليك، فعرضها علي، فقلت له: لا، عدل هذه الوصية وأخبرني أنك أنهيتها، فاتصل لي وقال: لقد عملت مثلما قلت لي وأنهيت هذه الوصية، وبينما أنا آتٍ لصلاة العشاء بلغت أن الرجل مات قبل أمس. فهذا إنسان يعطيه الله إشارات أنه قادم على الله؛ لأن الله عندما يريد بابن آدم خيراً يبعث له في آخر أيامه ملكاً يأخذ بيده. قال: [وتتضرع إليه ألا يقطعها عنك]. يعني: مجلس مثل هذا المجلس، لا بد أن ندعو الله سبحانه وتعالى طالما نحن على قيد الحياة ألا يقطعه عنا؛ لأنه نبع خير. قال: [وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فتبتهل إليه أن يحول بينك وبينها]. فالحسنات من نعمه، والسيئات من خذلان الله للعبد، فالله عندما يخذل عبده يسلط عليه الشيطان ونفسه، قال أبو بكر الصديق: إني بليت بأربع ما سلطوا إلا لجلب مشقتي وعنائي إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي إذا كان أبو بكر الصديق يقول: إبليس والدنيا ونفسي والهوى! فكيف بنا نحن؟! فعندما يوفق الله العبد يجعله ينتصر على هؤلاء الأربعة يخذلهم له، وعندما يخذل الله العبد بعمله السيئ -والعياذ بالله- يسلط عليه الدنيا والنفس والشيطان والهوى، فينتصرون عليه. إذاً: الحسنات من نعم الله والسيئات من خذلان الله، فالواجب على العبد أن يدعو ربه أن يباعد بينه وبين الخذلان والعياذ بالله. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يكلك في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسك]. بعضهم يقول: أنا أسبح سبعمائة ألف مرة، وأعمل كذا وكذا، وليست القضية هكذا، ولكن القضية أنك تسأل الله أن يتقبل، ولذلك سيدنا سليمان كان طائراً يوماً ببساط الريح، وكان هناك فلاح يفلح في الأرض، وسمي الفلاح فلاحاً؛ لأنه يفلح الأرض، وللأسف الشديد عندما يكون هناك جاهل يريد أن يشتم شخصاً يقول له: أنت فلاح!، يا ليتنا كنا فلاحين، نزرع أرضنا لكن حكومة الثورة المباركة والانقلاب المبارك سنة 1952م، قالت: نحن دولة صناعية لا زراعية، اجلس أنت مع الصناعة، فمصر ليست للصناعة ولا للزراعة، ولكن نحن ساءت حالتنا منذ أن اضطهدنا الزراعيين، وحتى الآن لا يستطيعون أن يعرفوا من هو الفلاح ومن هو العامي، وربما لن نعرفه حتى نموت، وربما نعرفه في الآخرة إن شاء الله. فبينما الفلاح كان يحرث الأرض فوجد شيئاً يظلله فرفع رأسه، فإذا به بساط سيدنا سليمان، وذلك في وقت لم تكن فيه طائرات ولا صواريخ، ولم يكن هناك شيء يطير إلا الطيور، فالهواء سخره الله لسيدنا سليمان، والريح غدوها شهر ورواحها شهر، فتخيل لو أن سيدنا سليمان الآن موجود في القاهرة، ودرجة الحرارة تنخفض لعشر درجات، فنقول له: يا نبي الله سليمان! القاهرة باردة في الليل، فيقول: أيتها الريح التي في أسوان ادخلي على القاهرة، فتدخل الريح إلى القاهرة ويصبح الجو دافئاً، ويأتي إلى منطقة أخرى حارة فيقول: أيتها الريح التي في شمال سويسرا أدخلي على هذه المنطقة الحارة، فهذا ملك عظيم أعطاه الله سيدنا سليمان، ريح غدوها شهر ورواحها شهر. قال سليمان عليه السلام: أيها الفلاح الفقير؛ لتسبيحة واحدة أو تحميدة واحدة أو تكبيرة واحدة أو تهليلة واحدة، خلف هذا المحراث خير لك من ملك آل داود؛ لأن ملك داود سيزول، لكن التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل سيبقى معك في كتاب الحسنات إلى يوم القيامة. يا إخواني! يوم القيامة يبحث المرء عن الحسنة بكل الطرق، وأفضل ما يوضع في الميزان يوم القيامة خلق حسن، فعامل الناس بخلق حسن، اللهم حسن أخلاقنا يا رب! كما حسنت خلقتنا يا أكرم الأكرمين! إذاً: يجب أن تدعو الله أن يحول بينك وبين المعاصي، وألا يكلك في فعل الحسنات وترك السيئات إلى النفس. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد أجمع العارفون على أن كل خير فأصله بتوفيق الله للعبد] أي: أن الله إذا وفق العبد فسوف يعمل خيراً. قال: [وكل شر فأصله خذلانه لعبده، وأجمعوا أن التوفيق ألا يكلك الله إلى نفسك، والخذلان أن يخلي بينك وبين نفسك]. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك، وأصلح لي شأني كله، فإن وكلتني إليك وكلتني إلى عزة وقوة، وإن وكلتني إلى نفسي وكلتني إلى ضعف وشهوة، ولكن لا إله إلا أنت). إذاً: عندما يكل الله العبد له يكله إلى عزة وقوة، وعندما يكله إلى نفسه يوكله إلى نفس ضعيفة وأمارة بالسوء، ودائماً تحض الإنسان على الشر، والعياذ بالله رب العالمين. قال: [فإذا كان كل خير فأصله التوفيق، وهو بيد الله لا بيد العبد، ومفتاحه الدعاء والافتقار وصدق اللجأ والرغبة والرهبة إليه، فمتى أعطي العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له، ومتى أضله عن المفتاح بقي باب الخير مرتجاً دونه]. إذاً: لو أعطاك الله مفتاح الدعاء والافتقار وصدق اللجوء إليه والرغبة إليه والرهبة منه، فلقد أعطاك مفتاح التوفيق، فابحث أنت عن المفتاح الذي يحمل الرءوس الخمسة: الدعاء والافتقار، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123] أي: أذلة لله، ولذلك قبض الحجاج على ابن أخ لأحد الصالحين، فبحث فوجد ملابس قديمة لعبده فلبسها، فقيل له: ما هذا الذي تلبسه؟ قال: أقوم أصلي لله وأدعوه. فما دعا العبد ربه بصدق إلا استجاب الله له.

مفاتيح الدعاء

مفاتيح الدعاء مفاتيح الدعاء هي الافتقار إلى الله، وصدق اللجوء إليه، والرغبة فيه عز وجل، والرهبة منه، فهذه الخمسة لا بد من حفظها، واصطحابها عند دعاء الله عز وجل. فمتى أعطي هذه فقد أعطي المفتاح، ويوشك أن يفتح له، ومتى أضله ربه عن المفاتح بقي باب الخير دونه مقفلاً، قال أمير المؤمنين عمر: إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه، يعني: هو لا يهم الإجابة؛ لأن الإجابة مضمونة بشروط الدعاء المعروفة. فعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيق الله سبحانه له وإعانته إياه، فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على عكس ذلك. احتاج إبراهيم بن أدهم يوماً إلى دينار وهو قاعد على شاطئ البحر، فقال: يا رب! يا من تقول للشيء: كن فيكون أريد ديناراً، قال: فخرجت الأسماك من البحر في كل فم سمكة دينار، فهذا يعني أن تكون الأسماك خادمة لـ إبراهيم بن أدهم. وأستاذه سهل بن عبد الله عند أن أخذت الحدأة اللحمة من يده، ذهب إلى المسجد، فلما رجع إذا بالحدأة والغراب كانا يتصارعان، فوقعت قطعة اللحم وأخذتها امرأته وطبختها، فقال: الحمد لله الذي حمل عني هم حمله! وكأنه أرسل له شغالاً سيرلنكياً بدون أجرة، وأنت اليوم تذهب لتدفع تأميناً للسفارة وتأتي فتجد بنتاً ملحدة، تبقى مكشوفة عند امرأتك وامرأتك مكشوفة عندها، فهذا حرام، فعلى المرأة المحجبة أن تستحي فلا تتكشف أمام المسيحية واليهودية. وعندما تأتي المرأة المسلمة لصاحبتها المسيحية فعليها أن تحتجب، كأنها داخلة على رجل، والخذلان -والعياذ بالله- ينزل عليهم على حسب تضييعهم، فالله سبحانه أحكم الحاكمين، يقول الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8]؟ بلى، وهو أعلم العالمين، يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به. قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14]؟ وهو الذي يضع الخذلان في مواضعه اللائقة به، فمثلاً: واحد دائماً يجهز المجلس والطاولة والبيرة والفلم، ونحو ذلك، ويخطط للمعصية ويرتب وينظم فهذا وضع له الخذلان، والثاني يبتعد عن المعصية، فهذا يوضع له التوفيق فالله هو العليم الحكيم، وما أتي من أتي إلا من قبل إضاعة الشكر، وإهمال الافتقار والدعاء، ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر وصدق الافتقار والدعاء، وملاك ذلك كله -يعني: الجامع لهذا كله- الصبر، فانظر الدين كيف يتكامل مع بعضه: العقيدة واليقين والصبر، وأصعب شيء على الناس الصبر على الطاعة، فهو أقسى أنواع الصبر على النفس؛ لأنه صبر على شيء هي تكرهه، ولذلك قال أحد الصالحين: جبلت نفسي على الطاعة فاستعصت علي يوماً، قال: فقهرتها بصلاة مائة ركعة، يعني: أدبها بالتي هي ضدها. إذاً: فملاك ذلك الصبر، فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس فلا بقاء للجسد.

قسوة القلب

قسوة القلب ما ضرب عبد بعقوبة - والعياذ بالله - أعظم من قسوة القلب، والبعد عن الله، وهناك من يقول: ما هو ربنا موسع علي، فالأولاد في نجاح في المدارس والجامعات، وعندي السيارات والأموال، وعندي الجاه والسلطان، وعندي شركات عديدة باسمي، وما إلى ذلك، أما حالته الإيمانية فحدث ولا حرج، وهذا لا يهتم له ويغتم، لأنه ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله، ولذلك قالوا لأحد الصالحين: أحقاً ما سمعنا أنك ترى الرسول كل ليلة؟ فتبسم وقال: لو حجب عني رسول الله ليلة لما عددت نفسي من الموحدين! خلقت النار لإذابة القلوب القاسية، وفي الحديث: (من أراد جليساً فالله يكفيه، ومن أراد أنيساً فالقرآن يكفيه، ومن أراد الغنى فالقناعة تكفيه، ومن أراد وعظاً فالموت يكفيه، ومن لا يكفيه هذا ولا هذا فالنار تكفيه). إذاً: فالنار عملها إذابة القلوب القاسية، يقول الشاعر - وأظنه المجنون قيس بن الملوح -: أمر بالحجر القاسي فألثمه لأن قلبك قاسٍ يشبه الحجرا يعني: كلما يمر على حجر يتخيله قلب ليلى فيقبله؛ لأن كليهما في القسوة سواء. والقلب القاسي هل يدخل الجنة؟ يقول الله عن قلوب أهل الجنة: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فقلوبهم قلوب توجل منه سبحانه وتعالى، أما القلوب التي فيها قسوة فتذوب وتصهر في الآخرة بالنار، إذاً: فأبعد القلوب من الله القلوب القاسية هذا كلام العارفين. فإذا قسا القلب قحطت العين، يعني: أنها لا تدمع، وانقطاع دمع العين عبارة عن علامة من علامات قسوة القلب.

أسباب قسوة القلب

أسباب قسوة القلب وقسوة القلب من أربعة أشياء، إذا جاوزت قدر الحاجة، أي: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة. فالأكل إن زاد عن حده وكذلك النوم والكلام والمخالطة للناس قسا القلب، وكما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب، فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنفع فيه المواعظ. فمن أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته، لأن الشهوة حظ النفس، والطاعة رضا الله، والقلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها، والقلوب آنية الله في أرضه، يعني: كما أن المرأة لها أوانٍ في البيت فالقلوب أيضاً في الأجساد هي عبارة عن آنية الله في الأرض، فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها، وأحب الأواني الإناء العريض الخفيف الحمل، الرقيق الصلب، فلا يكون رقيقاً ينكسر بسهولة، ولذلك قال الله عن آنية أهل الجنة: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:16]، والقوارير هي من الزجاج، لكنه قال: (من فضة) فهي قوارير من فضة، هذه هي الأكواب التي يشرب فيها أهل الجنة، اللهم اسقنا شربة هنيئة في الجنة بدون سابقة عذاب. إذاً فالأواني التي يشرب فيها المؤمنون في الجنة في نقاء الزجاج، وفي صفاء الفضة. وكثير من الناس شغلوا قلوبهم بالدنيا، ولو شغلوها بالله والدار الآخرة لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة، ولرجعت إلى أصحابها بفرائد الحكم، وطرف الفوائد، وكأن ابن القيم يتكلم عن نفسه، فيقول: الناس شغلوا قلوبهم بالدنيا، ولو شغلوها بالله لكانت القلوب مليئة بالحكم، يكون حينها كلام الله أحسن ما يجده، إذاً: فإذا غذي القلب بالتذكر، وسقي بالتفكر، ونقي من الدغل، رأى العجائب وألهم الحكمة، حتى أن الصالحين كانوا يشمون رائحة الذنوب، فلما يجلس أحدهم مع آخر يعرف صوابه من خطئه، ويشم رائحة طيبة من العارفين، ورائحة سيئة من العاصين المخالفين، وليس كل من تحلى بالمعرفة والحكمة وانتحلها كان من أهلها، بل أهل المعرفة والحكمة هم الذين أحيوا قلوبهم بقتل الهوى، وأما من قتل قلبه وأحيا الهوى، فالمعرفة والحكمة عارية على لسانه، فخراب القلب من الأمن، والغفلة وعمارته من الخشية والذكر.

خراب القلب

خراب القلب خراب القلب من الأمن والغفلة، كأن يقول لك: لقد أكرمنا ربنا فنحن نصلي على النبي وكلنا من أهل الجنة، فهذا هو الأمن. إذا زهدت القلوب في موائد الدنيا قعدت على موائد الآخرة بين أهل تلك الدعوة، وإذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد. وقد قلنا: إن سيدنا إبراهيم بن أدهم لما ذهب يحج وانتهى الأكل الذي معه، وقد كان في الصحراء ما بين الشام وأرض الحجاز، في مكان لا تمر فيه ولا غيره، فقال: اللهم ارزقنا بالرطب، قال أحد رفقائه: فما سرنا بضع خطوات إلا ووجدنا إناء مليئاً بالرطب الجني، فطمع رفقاؤه وقالوا: لو كان عسلاً فتبسم وقال: من رزقكم بالرطب الجني في غير موعده قادر على أن يرزقكم بالعسل في غير موضعه أيضاً، قال: فما سرنا بعض خطوات إلا ووجدنا زقاً من عسل مصفى. اللهم ألحقنا بالصالحين، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين. اللهم فك عنا أسرنا، أحسن خلاصنا، ثبت يقيننا، قو حجتنا، ألهمنا صوابنا. اللهم فك الكرب عن المكروبين، اللهم اهد كل عاص وضال، اشف كل مريض، وارحم كل ميت، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، نعوذ بك يا مولانا من الفتن ما ظهر منها وما بطن. وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سلسلة شرح كتاب الفوائد [10]

سلسلة شرح كتاب الفوائد [10] هناك أمور يقضي فيها الإنسان حياته ويضيع فيها عمره وهي ضائعة عليه لا تحسب له في رصيد الآخرة، وقد ذكرها الإمام ابن القيم ليحذر منها الإنسان وينتبه لها.

من الأمور الضائعة علم لا يعمل به

من الأمور الضائعة علم لا يعمل به أحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، أما بعد: فاللهم في هذا الجمع الطيب انظر إلينا نظرة رضا والمسلمين، واحقن دماء المسلمين، فلا تسيل قطرة دم إسلامية إلا في سبيلك يا أكرم الأكرمين! اللهم ول أمورنا خيارنا، ولا تول أمورنا شرارنا، وأصلح أحوالنا، اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل يا مولانا بيننا شقياً ولا محروماً، لا تدع لنا في هذه الليلة العظيمة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا قصمته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا رددته غانماً سالماً. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، اللهم اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وبعد: فما زلنا مع ابن قيم الجوزية رضي الله عنه في كتابه العظيم الفوائد، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه يا أكرم الأكرمين. يقول ابن القيم الجوزية في فقرتنا تلك: (عشرة أشياء ضائعة) أي: عشرة أمور تضيع علينا، وكلنا للأسف لا ننتفع بها. أولها: (علم لا يعمل به) يعني: مشكلتنا كلنا العلم الذي لا يعمل به، يعني: كثير من الناس يأخذون العلم بكثرته، وليس العلم كثرة الرواية، وإنما العلم الخشية، يعني: فعندما أرى إنساناً يتكلم بالعلم كثيراً ولا يطبق، أو يسمع العلم كثيراً ولا يطبق، فإن العلم حجة عليه لا له، وسأل رجل أبا هريرة: فقال له: يا أبا هريرة! إني لا أتعلم العلم مخافة أن يضيع أي: أخاف أن أتعلم ثم أضيع ولذا فلا أتعلم، فقال له أبو هريرة: كفى بعدم تعلمك إضاعة للعلم. يعني: أنت ضيعت العلم بعدم تحصيلك له، ولكن الأكمل أن يستمع الإنسان ويطبق، أو أن يقول وأن ينفذ. وكان صحابة الحبيب صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عليهم جميعاً، الواحد منهم يسمع الكلمة ويطبقها، حتى قيل: إن عمر بن الخطاب سمع أو حفظ سورة البقرة في ثمان سنوات، يعني: الإنسان الصادق عندما يسمع آيات الله عز وجل فآية واحدة تكفيه. جاء أعرابي يريد أن يعرف الإسلام فقال: يا أبا ذر! علم أخاك الإسلام، فعلمه أبو ذر الإسلام والرجل ما عنده أي فكرة عن الدين، فبدأ وقرأ عليه أبو ذر سورة الزلزلة إلى أن بلغ آخرها: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، فترقرقت الدموع في عيني الأعرابي، وقال: يا أبا ذر! أيحاسبنا رب العباد بالذرة يوم القيامة؟ قال: نعم، قال: كفاني من الإسلام هذا وكأنه يقول: ما فائدة العلم إذا لم أطبق؟ فالرجل مجرد ما سمع: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة:7]، كفته الآية، فالخير الذي أعمله سأجده في كتاب الحسنات، والشر الذي أعمله قد أجده في كتاب السيئات! ولذلك في حديث آخر يقول سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم: (التمس لأخيك من عذر إلى سبعين عذراً). يعني: لو غلط أخوك في حقك فالتمس له من عذر إلى سبعين، وليس بلازم أن آتيك بعذر، ولذلك قال: (فإن لم تجد له عذراً قل: عسى أن يكون له عذر لا أعرفه) لو طبقنا هذا الحديث فهل سأغضب منك وتغضب مني؟

العمل لله بقدر الحاجة إليه

العمل لله بقدر الحاجة إليه إذاً: فالعلم بالتطبيق، يقول سهل بن عبد الله: حفظت القرآن وعمري ثمان سنوات، وحفظت أربعين ألف حديث من أحاديث الحبيب المصطفى، وقرأت وعملت كذا وكذا، تتلمذت على يد فلان وفلان إلى آخره، قال: ونظرت إلى هذا كله وعملت بحديث واحد، وهو ما سمعت من فلان! عن فلان! إلى أن وصلت العنعنة إلى سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اعمل لله بقدر حاجتك له، واعمل للدنيا بقدر مقامك فيها، واعمل للآخرة بقدر بقائك فيها، واعمل للنار بقدر صبرك عليها). فقوله صلى الله عليه وسلم: (اعمل لله بقدر حاجتك له) أنت تحتاج لربنا دائماً وأبداً، والدنيا ما سميت كذلك إلا من الدناءة، أو من الدنو، لكن الله يحب من الأمور أعاليها ويكره أسافلها. فالعبد في الدنيا قد ينسى وما سمي الإنسان إنساناً إلا لتناسيه، وما سمي القلب إلا لتقلبه، ولذلك يحتاج العبد من يذكره، وقالوا: إن القلب الذي للمسلم لو لم يتداركه بدرس علم كل ثلاثة أيام يمرض ثم يموت، نسأل الله أن يحيي نواة قلوبنا؛ لأن الغذاء الوحيد النافع حقيقة هو غذاء القلب، والمادة الواحدة النافعة هي العلم، وذكر الله، وإن القلوب لتصدأ لو قعدت مع أي أحد؛ لأنها لا تجد إلا فلاناً يشكو من فلان! ويعمل مع فلان! فالشحنة الإيمانية تتسرب؛ لكن الإيمان يريد طاقة متجددة، والإنسان يحتاج من يجدد له إيمانه، ولا يتجدد الإيمان إلا في مجالس العلم؛ لأن مجلس العلم إذا لم يكن رياء ولا سمعة ولا بطراً ولا نحو ذلك، فربنا سيبارك فيه وينفع به. أما حين أن يدخل درس العلم في جدل، أو بعض النفوس حاضرة لأجل انتقاد فلان فقط، والتكلم عن فلان! فتكون هذه دروساً لا بركة فيها، ولذلك نغضب جداً من بعض الدروس وبالذات التي لكثير من الأخوات، وذلك أنهن بعد أن يقعدن للطلب، إذا ببعضهن يقلن: لا تذهبن عند فلان! ولا فلان! أما يتركن الناس تتعلم، وتتنقل بين العلماء والدعاة، لكن يبدو أن في النفوس أمراضاً لم تشف بعد، فنسأل الله شفاء القلوب والصدور، وصدق اليقين إن ربنا على ما يشاء قدير. (اعمل لله بقدر حاجتك له) أنا لا أستغني عن الله لحظة، إذاً: فاعمل لله في اليوم أربعاً وعشرين ساعة، وطبعاً لا يحصل هذا، فاعمل للدنيا بقدر مقامك فيها، (وما الإنسان في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها) إذاً: فأنت زائر (فكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) هكذا يقول الحبيب، ويقول: (مالي وللدنيا). وسيدنا علي يقول لها: طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيها. وابن القيم كان يعلق في حلقة سابقة ويقول: كانت تكفيه واحدة، يعني: سيدنا علي طلق الدنيا ثلاثاً، وهو راوي حديث: (لعن الله المحلل والمحلل له)، أي: حتى لا يرجعها ثانية. إذاً: فالدنيا عند سيدنا علي ليس لها محلل يرجعها له؛ لأنه راوي الحديث الحاظر للتحليل، ثم يقول رضي الله عنه: آه من قلة الزاد، وطول السفر، ووحشة الطريق. واعجباه! سيدنا علي معه زاد قليل، ونحن يظن أحدنا أنه عابد زمانه وإمام أوانه، نسأل الله السلامة. زار الإمام الشافعي الإمام أحمد، والإمام أحمد بن حنبل بنته صالحة، وهي السيدة عائشة بنت الإمام أحمد، فتقول له: يا أبي! أريد أن أسأل الشافعي سؤالاً، فقال لها: اسألي يا بنت! قالت: يا إمام! يقف الشرط على ناصية بيتنا بالمصابيح قبل الفجر، فأخيط أثوابي على ضوء أنوارهم، أهذا حلال أم حرام؟ فبكى الشافعي وقال: لقد ضاع الدين من بعدكم يا آل أحمد بن حنبل! هذه هي التي كان أبوها أحمد بن حنبل لما ذهب لصلاة العصر فوقعت عينه على كعب امرأة، فذهب ووضع العباءة على وجهه وقال: هذا زمن الفتن هذه الدنيا خربت.

العمل للدنيا بقدر البقاء فيها

العمل للدنيا بقدر البقاء فيها وقوله: (اعمل للدنيا بقدر المقام فيها) مقامنا في الدنيا قليل؛ لأن سيدنا نوحاً لما سئل: كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها داراً لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. ولذلك قلنا: إن الرياضيين يقولون: أي رقم على ما لا نهاية يساوي صفر، فحياتنا في الدنيا لها نهاية تصلها، أما الآخرة فلا نهاية لها، بل يا أهل الجنة! خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت. إذاً: فالدنيا بالنسبة للآخرة رياضياً لا تساوي شيئاً، وفي الحديث: (لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة)، إذاً: فهي أقل وأحقر من جناح البعوضة، أول ما ينزل العبد في القبر: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] فأنا أريد أن يبقى المسلم حديد البصر وهو في الدنيا، ولا يحد البصر في الدنيا إلا في مجالس العلم والذكر، وعندها نريد أن نجد من إذا رأيناه ذكرنا بالله، ورؤيته تدلنا على الله، ويزيد في علمنا منطقه، وقلنا: عيشوا مع الناس معيشة حتى إن غبتم حنوا إليكم، وإذا متم ترحموا عليكم، اللهم اجعلنا وإياكم من هؤلاء. إذاً: فاعمل لله بقدر حاجتك له، وللدنيا بقدر مقامك فيها، وللآخرة بقدر بقائك فيها، ومثل ذلك كمثل رجل مسافر مدة معينة كأسبوع مثلاً، فإنه سيأخذ مؤنة أسبوع، وإن كان السفر شهراً أو سنة فالمؤنة بحسبه، وإن كنت مهاجراً فستبيع الشقة والسيارة، وتأخذ أموالك من البنك، ثم تتكل على الله، وإن كان سيرجع إلى وطنه، فسيبقى له بعض المصالح فيه. لكن الذي هو ذاهب إلى الآخرة فلن يرجع إلى الدنيا، فاعمل زاداً تأخذه معك؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! أكثر الزاد فإن السفر طويل) لأن الذي مات قاطع تذكرة للإياب فقط؛ لأنه آب إلى ربه، قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي} [الفجر:28] فرجع للمكان الأساسي، وحينها تحيا في جنات عدن، فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم، يعني: هي المنزل الأساسي، ولو أنك في الدنيا في حالة الرضا، فأنت في جنة في الدنيا. وضربت لكم مثلاً عملياً، وهو أن الأطباء أخذوا عينة من المتدينين الملتزمين والملتزمات، ثم أخذوا عينة أخرى من الذين يعيشون ولا هم لهم في الدين ولا في دروس العلم، ولا في الصلاة ولا في غيرها، ونظروا نسبة الأمراض النفسية والسكر والضغط، ونحوها، فوجدوها مرتفعة عند غير الملتزمين، وأما الملتزم دينياً فهو أهدأ حالة، وليس عنده من الأمراض المستعصية التي تأتي من أثر الشد العصبي، الذي هو عدم الرضا عن القدر، إلا المبتلى من المؤمنين، ودرجته عند الله عظيمة. لكن نحن نتكلم على الحالات النفسية التي للإنسان العادي منا، فيكون مكتئباً في الحياة متضايقاً من وضعه، ولذلك في الدول الاسكندنافية أعلى دخل في العالم هم، وأعلى نسبة في الانتحار في العالم عندهم، وهذا نتيجة عدم الرضا بقضاء الله وبالله، لكن الرجل المسكين قد يكون عنده حالة من الرضا أحسن من ملك السويد، وآخر يقول لي: أنا تعلمت العقيدة من عامل في القصر الجمهوري، وهو مسئول كبير يقول: تعلمت العقيدة من هذا الرجل، ذات مرة أتم عمله ونام، فرأيته وقلت له: قم يا عم فلان! لو جاء أحد المسئولين ووجدك نائماً فأنت تدري ماذا سيفعل، أي: سوف يفصلك، وإذا بالرجل ينام مرة ثانية، لماذا؟ لأنه لا يخاف إلا من الله، فليس خائفاً على الكرسي، فقد أخذوه، فهو نائم على الأرض. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرضينا بما آتانا، وأن يقنعنا بما آتانا، وأن يشفي أمراض قلوبنا، وأن يشرح صدورنا، وأن يتولانا وإياكم. إذاً: فاعمل لله بقدر حاجتك له، وللدنيا بقدر مقامك فيها، وللآخرة بقدر بقائك فيها، وللنار بقدر صبرك عليها، كان عمر بن الخطاب يشعل النار في البيت ويقرب أصبعه ويقول: يا ابن الخطاب! ألك صبر على مثل هذا؟ فهو يربي نفسه، أما من في زماننا فأحدهم كما قال الله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ} [البقرة:206]، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الذين إذا سمعوا عملوا بما سمعوا. إذاً: فعشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها، علم لا يعمل به، وهذه كارثة، يعني: الإنسان الذي يعلم ولا يعمل.

عمل بلا إخلاص ولا اقتداء ضائع على صاحبه

عمل بلا إخلاص ولا اقتداء ضائع على صاحبه الثانية: عمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء، وقد كان سيدنا عمر دائماً يدعو ربنا ويقول: اللهم! إني أسألك من العمل أخلصه وأصوبه، فكانوا يقولون له: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: العمل الخالص: هو ما كان لله عز وجل، والصواب: هو ما كان على الكتاب والسنة.

أهمية الإخلاص في العمل

أهمية الإخلاص في العمل فلا بد في العمل من الإخلاص، والإخلاص يعني: أن يكون العمل لله ليس لأحد فيه شيئاً. وقلنا في دروس الفقه: أن الإمام لو ركع وتأخر ركوعه قليلاً من أجل أن يدرك الركوع رجل متأخر، قال الإمام أحمد في ذلك: بطلت صلاة الإمام والمأمومين؛ لأنه لو أخر الإمام ركوعه من أجل هذا لخرج من الصلاة لله إلى الصلاة لغير الله، فتبطل، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. ويعيش في الدنيا كأنه مسافر، أو راحل إلى الله، فعقله وقلبه في الآخرة، ولو كان من أصحاب الملايين، لكن المهم ألا تكون الدنيا في قلبه، مثلما قال أحمد بن حنبل: والله جعلتموها أنتم في قلوبكم وأخرجها الله من أيديكم، ونحن نزعناها من قلوبنا فوضعها الله في أيدينا فليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس. إذاً: فالعمل لا بد أن يكون خالصاً لله وحده، وأيضاً يكون باقتداء، وهناك صفات للعمل المخلص لله فيه: أولها: مهما عملت من عمل فلا تكلم عنه القريب ولا الغريب، لماذا؟ لأن النفس الإنسانية تريد أن تذكر بالخير، وأن يقول الناس عنها مثلاً: هذه امرأة صالحة، وهذا رجل صالح، وهذه البنت ما شاء الله عليها، والولد ما شاء الله عليه، ونحن لا نريد هذا، وإنما نريد أن يكون العمل لله، سواء قال الناس مدحاً أو ذماً، وهذا على غرار الصدقة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبها: (تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه)، فهذا دليل استحباب عدم الإظهار لأعمال الخير إلا لمصلحة، والآن هناك من يكتب في الجرائد: فلان الفلاني! يتبرع بمبلغ كذا وكذا! وهناك من يقول: إن الله يقول: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [البقرة:274] فالسر هي الصدقة، والعلانية أجازها الفقهاء لمصلحة، كأن أنبه فلاناً وفلاناً أنه قد حال الحول على ما في أيديهم، ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271]. إذاً: فالخيرية هي في الإخفاء؛ لأن ربنا يحمينا من حظوظ أنفسنا، ولذلك أول من تسعر بهم النار يوم القيامة العالم والشهيد والكريم المنفق، فهذه المسألة خطيرة جداً؛ لأنه يريد أن يقال عنه كذا وكذا، ولا يقول أحد: أنا أشجع أخي المسلم أو أختي المسلمة، والأعمال بالنيات، لكن لو كشفنا عن النوايا فسنجدها مسوسة، وقد قلت: لو قمنا بامتحان لقلوبنا، وأخرجنا ما فيها، بكل صراحة ووضوح، فسنرى بالضبط من في قلبه ديناراً أو أكثر أو أقل، وكل ذلك قدر عملك، وتصور لو كانت هذه الأعمال تؤجر أموالاً، وكل إنسان يعطى على قدر عمله. يقول تعالى: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37]، وكأن ربنا يقول: احمدوا ربكم أنه ما طلب منكم المال كله، ولكن قال: إذا كان معك ألف جنيه فنحن نريد منها خمسة وعشرين جنيهاً فالعبد حينها سيبخل، ولذا قال ربنا: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [البقرة:155]، أي: لنمتحننكم ونختبرنكم، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، يقرأ الحسن البصري هذه الآية ويبكي، ويقول: يا رب! إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا. فالمسلم الواجب في حقه، أن يكون عمله خالصاً لله عز وجل، يذكر أن علياً كرم الله وجهه في الخندق لما أوقع عدوه على الأرض فبصق العدو في وجه علي، فغمد علي سيفه، فلما سألوه: لمَ لم تقتله؟ قال: رفعت سيفي لأقتله أول مرة انتصاراً لله عز وجل، فلما بصق خفت أن أقتله انتقاماً لنفسي، فلا يكون القتل في سبيل الله إلا إن كانت النية مجردة عن الحظوظ النفسية. أتذكرون الرجل الذي لقي جماعة يعبدون شجرة كان أحد الصالحين يقعد عندها، فكان الناس يعبدونها ويتبركون بها ويطوفون حولها، فأراد هذا الرجل أن يقتلعها، فقابله إبليس في صورة رجل، وقال له: إلى أين؟ قال: أنا ذاهب أقطع الشجرة التي يشرك الناس عندها، فقال له: مالك ومال الناس؟ وهذا خطأ؛ لأن من رأى منكراً فليغيره على قدر استطاعته، فلبس الشيطان على الرجل، وقال له: ارجع إلى بيتك، وسأعطيك كل يوم عشرة دنانير تجدها تحت مخدتك، فاهتز من تلبيس الشيطان وقال لنفسه: ما لي ولمن يعبد شجرة، ورجع إلى بيته ورفع المخدة أول يوم فما لقي شيئاً، وكذلك لم يجد تحتها شيئاً في اليوم الثاني والثالث، فقال: هذا الرجل يضحك علي، فأخذ الفأس وخرج، وفي الطريق لقيه فقال له: إلى أين؟ قال: أنت رجل كذاب، وأنا ذاهب لأقطع الشجرة، فقال له: لن تقدر عليها قال: لماذا؟ قال: خرجت أول مرة في سبيل الله مخلصاً، فما كانت قوة تستطيع أن تقف أمامك، أما اليوم فقد خرجت انتصاراً لنفسك فلا تستطيع، فلو مددت يدك لقطعتها لك. فلا بد أن يكون العمل خالصاً لله، حتى ينتفع به دنيا وأخرى. ولذلك أجمل الصلاة صلاة الليل؛ لأن أنظار الناس منصرفة عنها، لكن المصيبة أنه بعد ما تعب وصلى واستقام سمع صوتاً يثني عليه في ذلك، فاغتر بذلك، أما إن لم يتأثر وكانت نيته لوجه الله فلا يضر، أو يتكلم ليشجع غيره على الخير فلا حرج مع الحذر، ولذلك قال الحسن البصري لما سئل: يا بصري! علمناك آدم البشرة، أسمر اللون، يعني: فما لنا نرى عليك نوراً كل يوم يزداد؟ قال: نحن قوم خلونا بالله في ظلمات الليل، فكسانا الله من جماله وجلاله. ولكن الحسن البصري لا يمكن أن يلعب عليه الشيطان ويفتنه إلا بقدر.

أثر الاقتداء في قبول العمل

أثر الاقتداء في قبول العمل فعمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء ضعيف مردود، والعمل الذي فيه إخلاص ومتابعة قوي مقبول، ذهب رجل لزيارة قبر الحسين وكان مخلصاً، ذهب عند المقام وطاف، وفي الحديث: (يا علي! إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا ترين صنماً إلا كسرته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) أي: قبراً حال كونه مشرفاً، وفي الحديث الآخر: (إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليكم) وفي الحديث الآخر: (إنما لعن اليهود من قبلكم، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا إن فعلتم كما فعلوا لعنكم الله كما لعنهم). وأيضاً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارت القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)، اتخاذ السرج يكون بأن يوقد شمعتين عند قبر السيدة، ونحو ذلك، وإن غضب الدرويش بسبب ربحه من بعد هذه الشركيات، ولا تقل مش حالك، فلا يوجد في الدين تمشية حال، بل إما حلال وإما حرام، حلال يدخلني الجنة وحرام يدخل النار، ولا مكان بين الجنة والنار أبداً، اللهم اجعلها جنة أبداً يا رب العالمين. نريد أن نهتز هزة جامدة، نعود بها إلى الدين الصافي، وحذار من اللف والدوران حول النصوص، وكل الناس يؤخذ منهم ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم من قال بقول الرسول صلى الله عليه وسلم بدون تأويل، فأنا لا أنظر إلى من قال، ولكن أنظر إلى ما قيل، فلا يهمني الأشخاص، فمثلاً: قد تقول: إن العالم المشهود له بالكفاءة يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعان بمشرك، نقول: نعم، لكن أنت تأخذ أول الجملة وتنسى آخرها، فهل استعان بمشرك على مشرك أم على مسلم؟ فإن كان استعان به على مسلم فأخبرنا، فقد لا نعرف التاريخ، والذي نعرفه أنه استعان بمشرك على مشرك، فلما خرج من الطائف ومنعوه من دخول مكة، دخل في جوار مطعم بن عدي وكان مشركاً، فاستعان بـ مطعم المشرك على أبي جهل وأبي سفيان، وعقبة، وأمية ومن كان على شاكلتهم. أما عبد الله بن أريقط الذي هو الدليل للنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة هو وأبي بكر، فكأن النبي يقول: أستعين به لقضاء مصلحتي، ولا أستعين به على مسلم كما استعنت بالكمبيوتر والتلفزيون، والجزمة، والشراب، وكله صنعه مشرك، فأنا أستعين بهذا المشرك لقضاء حاجتي، لا لقتل مسلم. ولم يأت من أجاز ذلك بنص، فحتى لا يدخل الحلال في الحرام في هذه الفتاوى، يجب أن تكون خالصة لله ما فيها شك، والنصوص واضحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعان بمشرك على مشرك وليس على مسلم، وقال في حديث رواه البخاري: (لا أستعين بمشرك على مشرك)، يعني: ما يقاتل مشركاً بمشرك. ولما سئل في إحدى الغزوات أن جماعة مشركين يريدون أن يحاربوا معه قال: (لا أستعين بمشرك على مشرك)، فمن باب أولى هذا أي: حرمة الاستعانة بكافر على مسلم، نسأل الله أن يكشف غمتنا، وأن يذهب حربنا، وأن يوصلنا إلى بر السلامة. فعمل لا اقتداء فيه لا ينفع صاحبه، فلو خرج مخلصاً من بيته وذهب لزيارة الحسين، والتبرك بقبره، فالإخلاص موجود والاقتداء معدوم، فالعمل مردود؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان موجوداً ما عمل ما يعملونه، واتفقنا من قبل أن أي حركة أو كلمة أو خطوة أو فعل نضع الرسول صلى الله عليه وسلم مكانه، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله فبها ونعمت، ولو كان لا يليق به ولا يمكن أن يقوله أو يفعله فهو مردود.

مال لا ينفق منه ضائع على صاحبه

مال لا ينفق منه ضائع على صاحبه إذاً: فأول شيء من العشرة الأشياء الضائعة: علم لا يعمل به، والثاني: عمل لا إخلاص فيه، ولا اقتداء. والثالث: مال لا ينفق منه، فلا يستمتع به جامعه في الدنيا، ولا يقدمه أمامه إلى الآخرة. أنا والله حزين على الذين لهم ودائع في البنوك ويعيشون عيشة الكفاف، أعرف أناساً كلما تتحصل له وديعة يضعها ولا يأخذها أبداً؛ لأن فك الودائع حرام عنده، لكن الذي يصلي الصلاة بعد الوقت هذا ليس حراماً عنده في مذهبه! ويأخذ الوديعة ويظل يشتري الحاجة بالقرش ويدفع أقساطاً ويقول: أنا مديون! ومن ادعى الفقر أفقره الله، ومن ادعى المرض أمرضه الله، ومن يظل كالميت يميته الله، لكنه يبقى حياً وهو ميت، كما قال الأول: ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء إنما الميت من عاش كئيباً كاسفاً باله قليل الرجاء إنسان مكتئب وعاش كذلك، فليس للحياة وجود عنده حقيقة، لتبخر الإيمان من قلبه، وسيدنا عمر يقول: اللهم إني أعوذ بك من أربع: من ولد يصير علي سيداً، بمعنى: أنه يأمره وينهاه، قال: ومن زوجة تشيبني قبل المشيب، ثم قال: ومن جار السوء تراني أو ترعاني عيناه، وتسمعني أذناه، إن رأى حسنة كتمها، وإن رأى سيئة أذاعها، وعلى هذا كثير والعياذ بالله. ثم قال: وأعوذ بك من مال يستنفع به ورثتي من بعدي، وأحاسب أنا عليه في القبر. كان سيدنا علي يقول جملة لطيفة وهي: يا بؤس البخيل الغني! يعيش عيشة الفقراء، ويحاسب في القبر حساب الأغنياء، فهو عايش فقير والعياذ بالله، وفي القبر يحاسبه الله حساب الأغنياء لأنه غني، مع أنه ما عاش مثل الأغنياء، هذا البخيل يقول للجنيه عندما يأتي له: ادخل كم تعبت؟ وتداولت من يد إلى يد سوف تدخل في قرار لن تخرج منه أبداً، لن ترى النور مرة أخرى، ودخل وصلى أربع تكبيرات، نسأل الله السلامة. ويقال: إن مادراً الذي يضرب به المثل في البخل فيقال: أبخل من مادر، وأكرم من حاتم، قيل له: ممن تعلمت البخل؟ فقال: تعلمته من قبيلتي، وذلك أنهم كانوا عند أن يخرجوا في رحلة ويطبخوا اللحم، يضع كل واحد قطعة لحمه في القدر، ويربطها بخيط، ويمسكها حتى تستوي، حتى لا تضيع في القدر! ويقال: إن مادراً جمع أولاده الثلاثة، فقال: أريد أن أعرف من الذي يرفع علم البخل من بعدي، فأتى بعظم فقال: من يحسن استخدام هذا العظم؟ فالولد الكبير قال: أمصها حتى لا يبقى منها رمق، فلا يمصها أحد بعدي، فقال له: لست بصاحبي، فقال الولد الثاني: أمصها مصاً حتى لا يعرف رائيها ألسنة ألقيت أم لسنتين؟ قال له: لست بصاحبي، إنك لمسرف. وقال الثالث: أمصها ثم أدقها وأسفها، قال له: أنت صاحبي. فالبخل ابتلاء، وهو يأتي من قلة اليقين بالله، فهو يبخل على نفسه؛ لأنه خائف من غد. أتى علماء الاقتصاد سنة خمسة وستين إلى مصر، قبل إعدام سيد قطب بشهر، فأتوا بالخبراء الألمان من أجل ميزانية مصر يريدون انضباط ميزان المدفوعات، فلم يصنعوا شيئاً، وقالوا لهم: امشوا على ما أنتم عليه، فأصبحت الميزانية ليس لها قانون ينظمها لكن لا شك أن في مصر عباداً صالحين، لا يعرفهم أحد، وهناك مسلمات قانتات عابدات، وأناس ظلموا كثيراً، وأطفال وبهائم، فربنا ينزل علينا الخير بسببهم، وبسبب أناس بينهم وبين الله أسرار، لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى، فربنا يرحم العباد بسبب واحد منهم، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم شفع من يبكي فيمن لا يبكي)، ولذلك أرحم الناس بالناس العلماء والأتقياء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يحن عليكم بعدي إلا العلماء والأتقياء)، أهل العلم والتقوى هم الذين يحنون على الأمة، أما الباقي والعياذ بالله فلا يهمهم أمر الأمة لا من قريب ولا من بعيد. إذاً: فالمال الذي لا يستمتع به في الدنيا، ولا يقدم شيئاً منه للآخرة، من الأشياء الضائعة، ورأينا عائشة وهي تعطر الدرهم الذي تنفقه في سبيل الله وتقول: أنا أوقن أنه يقع في كف الله لا في كف الفقير.

قلب فارغ من محبة ربه صاحبه ضائع

قلب فارغ من محبة ربه صاحبه ضائع الشيء الرابع من الأشياء الضائعة التي ما ننتفع بها: قلب فارغ من المحبة لله والشوق إليه والأنس به، وهذه هي قلوب قال الله فيها: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:43]، هواء يعني: فارغة. ولذلك قالوا: إن النفس كالزجاجة، إذا ما امتلأت بالماء تمتلئ بالهواء، وهكذا النفس إن لم تشغلها بالحق تشغلك بالباطل، والنفس مثل الدابة أو السيارة، لا بد أن تكبح جماحها حتى تنقاد لك وتمشي كما تريد. والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم. أي: هي على ما عودتها وربيتها عليه، فإن عودتها على القناعة تقنع، وإن عودتها على قلة الأكل تعودت، وإن عودتها على قيام الليل تعودت، وإن عودتها على الصبر تتعود، وإن عودتها على الجشع والطمع والنظر إلى ما في أيدي الناس، والحقد والضغينة وشغلتها به تعودت، وهذا هو تخصصها والواجب أن تسلب منها تخصصها، واعلم أن كل شيء تكرهه النفس يقربك إلى الله غالباً، وكل ما تحبه النفس يقربك إلى النار غالباً. من منا تحب نفسه الصيام وقيام الليل؟ وهكذا فالنفس الراضية تملأ قلب العبد محبة لله، ولهذه المحبة التي لله تعالى دلائل وروافد، فروافد المحبة هي مصادرها وينابيعها، ونحن نريد أن نعرف منابع المحبة. أول منبع من منابع المحبة: التدبر للقرآن، ثم تحري أكل الحلال، ثم الثقة بما عند الله، أي: أن تكون بما في يد الله أوثق مما في يدك أنت، مثل أبي بكر الذي كان يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (والله يا رسول الله! إنما نعطي لك لتنفقه في سبيل الله، أحب إلينا مما يبقى في بيوتنا). أي: المال الذي أخرجناه أحسن عندنا من المال الذي بقي عندنا؛ لأن المال الذي بقي في أيدينا سيضيع، لكن الذي ذهب في سبيل الله فهو عند الله باق، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (أما بقي من الذراع شيء؟ قالت: ذهبت كلها وبقي الذراع، قال: كلا، بل بقيت كلها وذهب الذراع)، فانظر الفقه، يعني: الشاة التي ذبحناها أبقي منها شيء؟ قالت: كلها ذهبت أي: أنفقت لله وبقي الذراع، فقال لها: لا، بل بقيت كلها عند الله وذهب الذراع؛ لأنا أكلناه. ولذلك نذكر خبر الصحابي الذي مات وهو يقول: يا ليته كان طويلاً، يا ليته كان جديداً، يا ليته كان كاملاً، وفاضت روحه، وقصته أنه وهو يموت شعر بالجوع، فالملائكة أتت له بطعام فأكل، فتذكر أنه ذات مرة تصدق بنصف رغيف، فكان إطعام الملائكة له على قدر صدقته، فتمنى لو كان تصدق بالرغيف كله، فقال: يا ليته كان كاملاً، وشعر بعطش شديد فلما روي قال: ما الخبر؟ فقيل له: إنك مرة كنت لابساً ثوبين، ثوباً قديماً، وثوباً جديداً، وواحد يقول لك: لله، فذهبت وخلعت له الثوب القديم، فقال: ليته كان جديداً، وشعر بضيق تنفس في صدره فصرف عنه ما هو فيه، فقال: ما هي الحكاية؟ قال: ذات مرة كنت ذاهباً إلى الجامع، فلقيت شيخاً كبيراً يقول: خذ بيدي، فأخذت بيده، فقال: يا ليته كان بعيداً، فليس هناك شيء يضيع عند الله، قال تعالى في آخر سورة الزلزلة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. فكل ذلك محفوظ عند الله تعالى، ولن يضيع. فمنابع المحبة: تلاوة القرآن، والتدبر لما فيه، وحضور مجالس العلم، وأن يكون أمر الآخرة أهم عندي من أمر الدنيا؛ لأنه في الحديث: (المؤمن في الدنيا غريب، لا يأنس بعزها ولا يجزع من ذلها). لا يأنس بعزها لأنها غدارة لا تبقى على حال، وكلنا نحفظ هذا الكلام، لكن أين اليقين؟ أنا أريد أن يتحول علم اليقين إلى عين اليقين، أريد أن أرى الدنيا أمامي وهي تضحك على أهلها، والحال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يأنس من عزها، ولا يجزع من ذلها). إذاً: فهذه منابع المحبة.

علامات المحبة

علامات المحبة ومؤشرات المحبة التي في القلب ما يلي:

عمل المعروف ابتغاء وجه الله

عمل المعروف ابتغاء وجه الله أولاً: أن المعروف الذي أعمله في الناس ويرد علي بخير أو شر كله عندي سواء؛ لأنا قلنا: لو عملت المعروف ورددت عليَّ بشرٍّ فغضبت منك، فالمعروف إذاً ليس لوجه الله، وإنما للناس، لكن لو كان لله فأنا لا أفكر في أن يرد علي بخير أو شر؛ لأنني عملته أصلاً لله. وبعض النساء تقول: هذه الشغالة قد عملتُ لها وعملتُ، فنقول: سبحان الله! إذا كنت عملت لها أمراًَ ما فهل هذا العمل لله أم لغيره؟ الظاهر: أن عملها ليس لله، بدليل: أن الشغالة لو مشت فتلك الزيادة التي كنت تعطينها سوف تقطعينها عنها، لأنها لم تكن لله أولاً، ومن الأفضل ألا أعطي مال الزكاة للسواق الذي معي أو الموظف الذي عندي، حتى لا آخذ مقابل الزكاة منفعة، فمثلاً: الموظف مرتبه مائة جنيه، ومال الزكاة خمسون جنيهاً أعطيتها له فوق مرتبه، فبعدما كان يعمل لي كذا سيعمل كذا وكذا! فبدل ما كان يحمل الشنطة من على الباب سوف يجري ويأتي بها من فوق. إذاً: فالمسلم يراعي هذه المسائل، وهذا من دلائل المحبة، فلا يغضب أحد إذا رد عليه بسوء. وهناك من يقول لك: نعمل الخير ونلاقي الشر، وكل الناس تقول لك: الأقارب مثل العقارب، وتدري أن المصائب إنما تأتي من قبل الأقارب، ونحن كلنا لنا أقارب، فهل كلنا نأتي بالسوء لبعض؟ وإذا أشرت إليك وقلت: إنك مخطئ، فإن أصابعي الثلاث تشير إلي وتقول: إنك أكثر خطأ. إذاً: فمن مؤشرات المحبة: ألا يغضب المكلف عندما يفعل معروفاً مع أحد، ويرد عليه بالسوء.

الفرح بالطاعة

الفرح بالطاعة ومن مؤشرات المحبة: أني حين ألقي درس علم أكون فرحاً جداً، وكذا إن جلست في مجلس ذكر، أو صلة رحم، أو زيارة مريض، أو تشييع جنازة، أو تعزية أو تهنئة، فأنا أفرح بهذا كله، وأخرج إن أدخلت السرور على مسلم، وأفرح لفرحه، وعندما يأتي له خير أقول: الحمد لله، ربنا يوسع عليك، ويكرمك، ويبارك لك. فيدعو المسلم لإخوانه رجالاً ونساء في ظهر الغيب، والملك يقول: ولك مثل ذلك، ومن لا يرحم لا يرحم، اطلبوا المعروف عند الرحماء من الأمة، ولا تطلبوه عند القاسية قلوبهم والعياذ بالله.

خشوع القلب للقرآن

خشوع القلب للقرآن ومن مؤشرات المحبة أيضاً: أن القرآن إذا قرئ فالقلب يقشعر. أخ يسألني بالتلفون: يا سيدنا الشيخ! ما هو صفاء القلب؟ فقلت له - مع فارق القياس -: عندما تكون بارداً ويحصل لك قشعريرة وهزة، وسيحصل كذلك لقلبك، مثلاً عن صلاة القيام، فستشعر بهزة فتفرح بالجنة، وتخاف من النار. مثل المؤشر عند الحيوانات العجماء، انظر الثور في المزرعة لو وخزوه بإبرة فسيذهب المؤشر ناحية الشمال، ولو جوعوه وأتوا له بالأكل فالمؤشر سيتحرك ناحية اليمين، فالثور فرح للأكل فهذا دليل أن القلب كذلك، أي: عند ذكر الجنة يذوب شوقاً وعند ذكر النار يموت خوفاً، وحاله بين الخوف والرجاء، قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]. أما فارغ القلب من محبة الله والشوق إليه والأنس به فلا خير فيه؛ لأن ربنا يدعونا إلى الخير، وإلى أن نستعين به سبحانه، قال في الحديث القدسي: (ألا من تائب فأتوب عليه، ألا من سائل فأعطيه، ألا من مستغفر فأغفر له؟)، حتى يطلع الفجر. ولذلك قلنا: ليس العجب من فقير يتقرب إلى غني، ولكن الأعجب من ذلك غني يتودد إلى فقير، وليس العجب أن يتقرب الضعيف إلى قوي، ولكن الأعجب أن يتقرب القوي إلى الضعيف، وليس العجب أن يتقرب الذليل إلى العزيز، ولكن الأعجب أن يتودد العزيز إلى الذليل! فالفقير يتقرب من الغني لكي يأخذ منه، والغني يتقرب للفقير لماذا؟! وفي الحديث القدسي: (إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، أرزق ويشكر غيري، خيري إلى العباد نازل، وشر العباد إلي صاعد، أتودد إليهم بالمغفرة وأنا أغنى الأغنياء عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أشد ما يكونون حاجة لي، أهل ذكري أهل شكري، أهل طاعتي أهل محبتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، من تاب إلي منهم فأنا حبيبه، ومن لم يتب فإني غني عنه، الحسنة عندي بعشر أمثالها قد أزيد، والسيئة عندي بواحدة وقد أعفو، وأنا إليهم أرحم من الأم بأولادها). تأمل معي قوله تعالى: (هل أتودد إليهم بالمغفرة وأنا أغنى الأغنياء عنهم)، فالله يتودد كما قال: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]، وقال: من جاءني منهم تائباً تلقيته من بعيد: مرحباً بالتائبين، ومن ظهر منهم عاصياً ناديته من قريب: إلى أين تذهب؟ أوجدت رباً غيري أم وجدت رحيماً سواي؟ هل تاجرت مع الله وخسرت؟ والله إن الخسارة كل الخسارة أن تتاجر مع غير الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [الصف:10 - 11]، هذا أول شرط، وهو الإيمان العملي، لا الإيمان النظري. فنطلب القرب من خط رسول الله صلى الله عليه وسلم.

البدن المعطل من طاعة سيده بدن ضائع

البدن المعطل من طاعة سيده بدن ضائع قلب فارغ من محبة الله والشوق إليه والأنس به، وبدن معطل من طاعة سيده وخدمته، فهو بدن ضائع، وربنا أعطانا نعمة البدن الصحيح، وكل جارحة من هذه الجوارح عليها زكاة، فالعين عليها زكاة، بالنظر إلى المصحف، ونحوه من عمل الخير، واليد عليها زكاة، والمال عليه زكاة، والصحة عليها زكاة، والرجلان عليهما زكاة، والعقل عليه زكاة والعلم عليه زكاة، كل هذه فيها زكاة مطلوبة منك لله. لكن أنت تعطل هذا البدن مما خلق له وتضيعه بأكل كثير، ونوم كثير. يا كثير النوم والرقدات كثرة النوم تورث الحسرات إن في القبر إن نزلت إليه لمنام يطول بعد الممات ومهد ممهد لك فيه بذنوب عملت أو حسنات إذاً: فلا تضيع وقتك في النوم، وهو عيب أن يعيش الواحد منا سبعين أو ثمانين سنة ينام منها ثلاثين سنة، فهذا ظلم، فأنت تنام ثمان ساعات في اليوم، أي: الثلث، ولو تعيش ستين سنة فتكون قد نمت عشرين سنة، أما يستحي أحدنا على نفسه؟ والثلثان من الستين السنة تكون عشرة أعوام أو اثنا عشر أو ثلاثة عشر أو خمسة عشر عاماً، قبل التكليف، فكم بقي لك من العمر؟!

المحبة التي لا تتقيد برضا المحبوب ضائعة

المحبة التي لا تتقيد برضا المحبوب ضائعة الأمر الخامس: محبة لا تتقيد برضا المحبوب، وامتثال أوامره. يعني: أن المحبة تقتضي أن تمتثل أوامر الله، وتجتنب نواهيه، أما من يقول: أولادي وأهلي يعطلونني عن ذكر الله وعن الاستقامة على طريق الله، ويجعلونني أكدح طوال اليوم من شبهة أو من حرام، تقول له: قل أيضاً: هل هم سيدخلونني النار أم الجنة؟! إذاً: فلا ينبغي أن يحب أحد ابنه أو بنته إلى حد يفوق حبه لربه، وكيف بمن يحب ابنته ثم يعمل لها حفل زفاف لا يرضي الله؟ فهو أول مبغضيها، وإن قال أحد: نحن نخطئ في حفل زفاف البنت، لكننا ندخل الفرح عليها، وفي الحديث: (من فرح أنثى كان كمن بكى من خشية الله)، فنقول: هذا فرح الأنثى وأغضب الله! فقدم فرحها على محبة الله؛ لأنه خالف أمره، ولذلك قال: ومحبة لا تتقيد برضا المحبوب وامتثال أوامره، فلا نريد محبة نظرية، وإنما الواجب المحبة العملية، وكلنا نقول: نحن نحب الله ونحب الرسول، فالمذيعة عند ظهورها ووجه ملطخ أحمر وأصفر، وتقول: وقال صلى الله عليه وسلم كذا، والأخلاق كذا فأين محبة الله ورسوله مع عدم امتثال أوامرهما؟! وقد يأتون بعالم لكن الكلام كله للمذيع أو للمذيعة. فالواجب كما أن هناك استقلالاً للقضاء في الإسلام، فيجب أن يكون هناك استقلال لعلماء الإسلام. لا يشتغل العالم في الأوقاف ولا في الأزهر ولا في الحكومة، بل يشتغل عند الله ومعه فقط؛ لأنه لا ينفعنا حقيقة إلا الله.

الوقت المعطل عن الطاعة وقت ضائع

الوقت المعطل عن الطاعة وقت ضائع ووقت معطل عن استدراك فارط، أو اغتنام بر وقربة وقت مضيع. كلنا سنسأل عن الوقت لماذا ضيعناه؟ أريد كل ليلة أن نقعد ونحاسب أنفسنا عن اليوم وكيف ضاع وفي ماذا؟ كفى إضاعة للوقت ألا أعمل فيه لا خيراً ولا شراً، وفكر يجول فيما لا ينفع، وصل ابن القيم إلى أن الفكر ينبغي أن يجول فيما ينفع، وهو يقول: الفكر لما يجول فيما لا ينفع فهذا من العشرة التي لا ينتفع بها.

خدمة من لا ينتفع به دنيا وأخرى خدمة ضائعة

خدمة من لا ينتفع به دنيا وأخرى خدمة ضائعة ثم قال: وخدمة من لا تقربك خدمته إلى الله، ولا تعود عليك بصلاح دنياك. أتينا للكلام الهام، خدمة من لا تقربك خدمته إلى الله، ولا تعود عليك بصلاح دنياك، كأن يخدم رجلاً يبعده عن الله سبحانه، أو يخدم واحداً يعمل عملاً لا يفيد، ولا تقل: دعه يعمل واتركه، أو تقول: هذه أوامر يا شيخنا، وأنا عبد مأمور، لكن من الآمر؟ ومن الذي ينبغي أن يطاع ولا يعصى حقيقة؟ فكلنا عبيد لله، ولا طاعة لغيره في معصيته. أما إن كان الأمر هكذا أي: يطاع غير الله في معصيته، فالحال كما قال بعضهم على لسان حمار الحكيم: قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب أي: لو أن الدهر عادل فليس من الصواب أن الحكيم يركب علي دوماً وهو غير أهل لذلك. ثم قال الحمار: فإنني جاهل بسيط وصاحبي جهله مركب فالمصيبة أن يخدم أحد من لا يقربه إلى الله، ولا يدل الخادم في الدنيا على خير، فحينها يصير الحال كما أخبر الله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فخوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله، وهو أسير قبضته، ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فناصيته بيد من يقول للشيء: كن فيكون، فلا تخف إلا من الله. إذاً: فهذه عشرة أشياء يتحدث ابن القيم الجوزية عنها أنها ضائعة، ولا ينتفع المسلم بها، ثم يعلق ويقول: [وأعظم هذه الإضاعة إضاعتان، هما أصل كل إضاعة: إضاعة القلب، وإضاعة الوقت]، وهما أهم ما في الدرس. أما إضاعة القلب فبإيثار الدنيا على الآخرة، وهذا سبب الهلاك، أي: تفضيل الدنيا على الآخرة وأما إضاعة الوقت فمن طول الأمل، يعني: يضيع الوقت على أساس أنه ما زال موجوداً غداً، وما دام كذلك فالتوبة آتية، لكن عبد الله الصالح لا يضمن أن غداً سيأتي. ولذلك يقول الإمام في الصلاة: صل صلاة مودع، أي: قدر أن هذه آخر صلاة لك، فإن كنت كذلك فلن يأتي الصبح أو العشاء أو المغرب إلا وقد عملت طاقتي من الطاعات، أما من ليس كذلك فيضيع الوقت بسبب طول الأمل، والفساد كله في اتباع الهوى وطول الأمل، فاتباع الهوى يصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة، والصلاح كله في اتباع الهدى، والاستعداد للقاء الله. ثم يقول ابن القيم: [العجب ممن تعرض له حاجة ويصرف رغبته وهمته فيها إلى الله ليقضيها له، ولا يتصدى للسؤال لحياة قلبه من موت الجهل والأعراض، وشفائه من داء الشهوات والشبهات، ولكن إذا مات القلب، لم يشعر بالمعصية]. رأى ابن القيم مصيبة أكبر مما سواها وهي موت القلب، وكأنه يقول: لماذا لا تجأر إلى الله بأن يشفي قلبك المليء بالجهل، والمرض أو الموت، لكي يشفيك من هذا الداء، فإذا جأرت إلى الله بالدعاء فسوف يعطيك حاجتك، فيشفي لك المريض، وييسر عليك الأمر، ويذلل لك العقبة، ويفرج عنك الكربة، وسيشحن قلبك بالإيمان، ويجعله من القلوب الأواهة المثبتة المنيبة.

سلسلة شرح كتاب الفوائد [11]

سلسلة شرح كتاب الفوائد [11] من كمال الإيمان الاستغناء بالله عمن سواه، والفرح بالله تعالى وطاعته من غير التفات للدنيا وشهواتها مع الانكسار بين يدي الله اعترافاً بالخطأ وإقراراً بالتقصير، وإن هذا الدين لينبني على قاعدتين هما الذكر والشكر، وهما متلازمان فمتى قام العبد بهما فقد أدى حق الله.

الاستغناء بالله أهميته وعلاماته

الاستغناء بالله أهميته وعلاماته ثم يقول ابن القيم رحمه الله: [إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله]، يعني: إن كان توكل الناس أو استغناؤهم في الدنيا بمال، أو جاه، أو مركز اجتماعي، أو نحوه، فاجعل استغنائك بالله عز وجل، يعني: أن تستغني بالله لا بغيره، فإذا استغنى الناس بالدنيا عن الدين فاستغن أنت بالدين عن الدنيا، وذلك لأن هناك فرقاً بين من يستغني به ويستغني عنه، فأن يستغنى الإنسان بالله فهذا هو الغنى الحقيقي. أما أن يستغني الإنسان عن الشيء فهذا إنسان زاهد في هذا الشيء، يعني: أن هذا الاستغناء إن كان عن الله فهو استغناء مذموم بغيض، أما أن يستغني الإنسان بالله سبحانه وتعالى، فهذا يكون عندما يرى الناس قد استغنوا بالدنيا واعتمدوا على ما أعطوا من حطامها. فحينها يكون استغناؤك بالله سبحانه وتعالى، فإذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله.

الخوف من الله وحده

الخوف من الله وحده وما هي علامات الاستغناء بالله تعالى؟ هناك نقاط معينة محددة إن توفرت فصاحبها مستغن بالله، وهي على النحو التالي: أولاً: ألا يخاف إلا من الله عز وجل. هذه أول علامة تثبت أن الإنسان قد استغنى بالله، وما دام أنه ما خاف إلا من الله عز وجل فعنده توحيد خالص؛ لأن الناس يدخل فيهم الشرك في مسألة الخوف، أي: بأن يخاف أحدهم أن يتكلم كلمة الحق فيذهب في داهية، أو يخاف على أولاده فلا يشهد شهادة الحق حتى لا يسجن، وهكذا خوف الناس من غير الله أي: من المخلوق، قد يوقعهم في الشرك. والمراد: الخوف الذي يوقع في المخالفة الشرعية، أما أن تخاف المرأة زوجها إن رآها متبرجة، لأنه يأمرها بالحجاب، فهذا محمود، أما إن كان العكس كأن يقول من ليس ملتزماً: أنا أريد امرأة متبرجة، يظهر شعرها وجسمها فتخاف امرأته منه، لئلا يتزوج غيرها فهذا خوف ليس في مكانه؛ لأنه خوف من المخلوق في مخالفة الخالق، وهذه لم تستغن بالله، وإنما استغنت بالدنيا، فدليل استغنائك بالله عز وجل وصدق توكلك واعتمادك عليه ألا تخاف إلا منه، وما دام أنك لا تخاف إلا منه فأنت موحد توحيداً خالصاً. فهذه أول علامة من علامات الاستغناء بالله.

الثقة بما عند الله

الثقة بما عند الله ثانياً: الاستغناء بما في يد الله، ثق بما في يده سبحانه، مثل: أن تملك عشرة جنيهات فتخرج واحداً منها، فإذا كان الجنيه الذي أخرجته أحسن من التسعة التي بقيت عندك، فلست مستغنياً بالله، وكثير من الناس يشعر أن هذا الذي أخرجه يعد ضائعاً، فيخرجه رياء وسمعة. إذاً: المستغني بالله يعرف أن هذا الجنيه المخرج في ميزان حسناته يوم القيامة، والتسعة التي فضلت عنده قد يصرفها في شيء لا يرضي الله، أو حطام الدنيا الزائل، وفي الحديث: (يقول ابن آدم: مالي مالي وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو تصدقت فأبقيت؟). فهذا هو الذي يبقى، إذاً: فلنستح من الله حق الحياء، وحق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، وأن تعد نفسك مع الموتى، وأن تؤثر ما يبقى على ما يفنى، فهذا هو الذي عنده حياء من الله، ويبقى مستغنياً به عز وجل. إذاً: فالعلامة الثانية: أن أكون واثقاً بما في يد الله، وقد وقعت هذه العلامة لسيدنا أبي بكر فقال: (يا رسول الله! والذي بعثك بالحق نبياً، إن الذي نعطيه لك لتنفقه في سبيل الله أحب إلينا مما بقي معنا)، إذاً: فـ أبو بكر مستغن بالله عز وجل؛ لأنه آخذ نص الحديث: (ثلاث أقسم عليهن)، أول هذه الأشياء: (ما نقص مال عبد من صدقة)، فهو ينقص ظاهراً، لكن حقيقة الأمر زيادته. إذاً: نظرة المؤمن غير نظرة مدعي الإيمان، فنظرة المؤمن أنه يرى أن هذه النفقات ليست نقصاً، ومثل ذلك الصيام، أي: في ظاهره أنه تعذيب وحرمان من الطعام والشراب، لكن هذا حرمان في الظاهر، أما في باطنه فهو الرحمة، والقرب من الله عز وجل.

الأمل الكبير في الله عند المصائب

الأمل الكبير في الله عند المصائب ثالثاً: إذا أدلهمت عليك الخطوب، ونزلت بك الابتلاءات والمصائب، فكن دائماً كبير الأمل في الله؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى سيقول للمشكلة: كوني كذا، فلا تكون مشكلة، أو يقول لها: كوني أيتها المشكلة! سبب سعادة هذا الإنسان، فتكون كذلك، يعني: المرض والفقر وكثرة الابتلاءات والجار السيئ، كل هذه ظواهرها شر، مثلما قال سيدنا أبو ذر: إني أحب ثلاثة يا رسول الله! أحب المرض وأحب الموت، فهذه ظواهرها أنها سيئة، لكن ليست كذلك، فالمؤمن يقول: إن جعت رق قلبي، وإذا مرضت خف ذنبي، وإذا مت لقيت ربي، يعني: ترجم هذه الصور السيئة بالنسبة لنا إلى ترجمة إيمانية، مثل أحد الصحابة لما قطعوا له رجله قال: إن كنت قد أخذت فكم أبقيت؟ ولئن كنت ابتليت فكم عافيت؟ يعني: يا رب! إذا كنت أخذت قطعة فقد تركت قطعاً، وإن كنت يا رب! ابتليت فقد عافيت كثيراً. إذاً: فالمسلم يرى ما بقي عنده من نعم، وعندما يزن الأمور يجد عنده نعماً كثيرة جداً، فهذه بعض الدلائل التي تشير أن العبد قد استغنى بالله عز وجل. فإذا استغنى الناس بالدنيا استغنى بالله، وإذا فرحوا بها فرح بالله، الناس تفرح بنجاح الولد أو البنت أو أن يجد شقة أو البنت تجد لها عملاً فهذه المسائل إنما هي زائلة، والمسلم الحقيقي أو الصادق، فرحه بقربه من الله، فرحه بدرس علم، فرحه بصلاة جماعة، قيل: يا عمر بن الخطاب! ما أفضل الأعمال إليك؟ قال: صلاة جماعة، أكفى سهوها وأضمن أجرها، يعني: صلاة الجماعة فهي إن شاء الله مقبولة، وأضمن أجرها، لكن لو صليت وحدي فلا أضمن أجرها ولا آمن سهوها.

الفرح والأنس بالله تعالى

الفرح والأنس بالله تعالى قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله]. لا بد أن تفرح بالله عز وجل؛ لأنه رزقك الإسلام؛ ولأنه لا توجد نعمة أكبر من نعمة الإسلام، وهذه نعمة لم نحافظ عليها حق الحفاظ، فهي نعمة لا تساويها نعمة، فالمال يأتي ويذهب، والجاه يأتي ويذهب، وأي شيء في الدنيا يضيع إلا الإيمان، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من أحب) فالله لا يعطي الدين إلا للذي يحبه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وليس معنى (يفقهه في الدين) أن يجعله عالماً وشيخاً كبيراً، ولكن التفقه في الدين هو أن يعرف المسلم ما الذي ينجيه والذي لا ينجيه؟ وأن يعرف المسلك الذي يوصله إلى الجنة، والمسلك الذي يهبط به إلى قعر النار والعياذ بالله. فالمسلم لا بد أن يضع نصب عينيه ما الذي ينجيه وما الذي يضيعه، فإذا عرف هذا، فإن الله اختار له الخير. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا أنسوا بأحبابهم، فاجعل أنسك بالله]. مثلما تفرح بالجلسة مع الأحباب وتأنس بالجلوس معهم، فليكن أنسك بالله عز وجل، قال أهل العلم: إن الله اطلع على قلوب العباد، فوجد أشوق القلوب إليه قلب رسول الله صلى الله عليه سلم، فلم ينتظر إلى يوم القيامة لكي يريه وجهه، وإنما عجل له برحلة المعراج لكي يتشرف الحبيب برؤية الله عز وجل، لأنه اطلع على قلبه فوجده قلباً تواقاً، فجعله يرى المعبود الذي يعبده، فأكرمه الله. وسيدنا موسى عليه السلام طلب رؤية الله عز وجل، ولكن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يطلب رؤية الله عز وجل، قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، والله تعالى يقول: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يطلب أن يرى وجه ربه، ومؤكد أنه كان يتمنى ذلك، ولذلك قالوا: سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار، أي: أن الذي يخطط ويفكر ويتوقع ويعمل دراسة جدوى لمشروع يريد أن يقوم به، ولكن الله يريد شيئاً آخر، فلا يحصل إلا ما أراده الله وليس ما خططه هذا العبد؛ لأن القدر له أسوار عالية لا يستطيع أحد أن يخترقها إلا بإذن الله وبقضائه وقدره. ولذلك سألوا سيدنا عمر عندما حصل الطاعون في الشام، قالوا: هل ندخل أم لا ندخل؟ فلم يجبهم عمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان الطاعون في بلد وأنتم خارجها فلا تدخلوها، وإن كنتم داخلها فلا تخرجوا منها)، فاتضحت الصورة لسيدنا عمر، فقال: فلنرجع، فقال له بعضهم: أتفر من قدر الله يا أمير المؤمنين؟! فقال: نفر من قدر الله إلى قدر الله. فلا منجى من الله إلا إليه. ويجب أن يكون إيماننا في حالة من الازدياد، ولا يزداد الإيمان إلا بالتسليم الكامل لله عز وجل. وأضرب لكم مثالاً: لو أن شخصاً جلس في بيته لمدة ساعة، وسمع عشر مكالمات تلفونية، وفي كل مكالمة مشكلة مختلفة عن الأخرى تماماً، فهذه مشكلة كبيرة وهذه مشكلة صغيرة وهكذا ولله في خلقه شئون، كيف يوزع كل هذه الأشياء؟ ورجل يقول لي: هل أنت ربنا؟ فأقول له: استغفر الله! أنا لست رباً، فيقول: أنت لن تحاسبني، فأقول له: ولماذا أحاسبك؟ فيقول: زوجتي للأسف تحضر محاضراتك في المسجد، فقلت له: ولماذا تقول للأسف؟ فقال: لقد ضيقت علي حياتي، فكلما تسمع كلمات منك تأتي وتريد أن تطبقها علي، وأنا لا أعرف الصلاة والصوم، فقلت له: وأنت أتيت إلي لكي تتشاجر معي أو تستوضح مني أو ماذا؟ وقال لي: وأنا أيضاً أحب الجلسات اللطيفة وأريد أن أشرب كأساً من الخمر أو كأسين كل يوم، فقلت له: يكفي أنك رجل تحب الله ورسوله، فقال لي: من أين عرفت هذا؟ فقلت له: الذي يقول هذا الكلام الصريح لا يخاف من أحد ولا يخاف إلا من الله، وطالما أنك غير خائف مني فهذا دليل على أنك خائف من الله، فأخرج ورقة وقلماً من جيبه وسألني عن مواعيد محاضراتي في المسجد. وأقسم بالله أن هذا الرجل في كل جمعة أراه في أول عمود في المسجد، ولا أحد يصل إلى أول العمود يوم الجمعة إلا الذي يأتي مبكراً في الساعة التاسعة صباحاً، لأنه في الساعة العاشرة لا تجد مكاناً داخل المسجد. فلو قلت له: دع زوجتك وشأنها، وتشاجرت معه، ربما نفر أكثر. أنت أحياناً تضطرك الظروف ليس لدرجة أنك تنافق الناس، ولكن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت لطيفة وعظيمة، والله لو كانت دعوة سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم مثل بعض الأخوات المنقبات اللاتي يهاجمن النساء في كل مكان، لتوقفت الدعوة، تجد الواحدة من هؤلاء بمجرد أن ترى فتاة في الشارع وهي غير محجبة، فتسحبها من شعرها، وتقول: لابد أن تحتجب، وإن كانت هذه الفتاة تلبس قصيراً، ولكن هؤلاء لا يركزن إلا على النقاب، فلا بد من أسلوب في هذه المسائل. فالدعوة تحتاج إلى صبر وانشراح صدر، وتحمل في الله عز وجل. ولكن للأسف تجد بعض الشباب والشابات يأخذون بنصوص الأحاديث أو بمجرد أن يسمعوا محاضرة في مسجد أو من أي شيخ، فيعودون إلى بيوتهم ويخاطبون آباءهم بطريقة غير مؤدبة، فيقولون لهم: لقد سمعنا اليوم شيخاً يتكلم عن النار وعذاب النار والمنافقين وصفات المنافقين، وأنتم لا تصلون الفجر ولا العشاء، فأنتم منافقون وستدخلون النار ولن تدخلوا الجنة. ولكن لماذا لا نتعلم من سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عندما قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:43 - 44]، وأبوه يقول له: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46]، ولو أن أحداً في زماننا يقول لولده هكذا، لرد عليه ابنه وقال: والله لن تقدر! ولكن سيدنا إبراهيم لم يقل له هكذا، وإنما قال له: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]، وهذا كما في قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، فإذا كان المريض ليس عليه حرج، والذي غاب عنه عقله ليس عليه حرج، فما بالك بشخص غائب عنه الإيمان! فإن مشكلته كبيرة، فهو مثل الذي عندهم أمراض عقلية -ربنا يشفي كل مريض- ويقولون لبعضهم: نحن محتجزون هنا بعيداً عن الناس لكي لا نصاب بالجنون، والناس ينظرون إليهم أنهم مجانين، وهذا بالضبط ما يحصل -مع فارق القياس- فعندما يراكم بعض الناس تدخلون المساجد، فإنهم ينظرون إليكم نفس النظرة، ويقولون: الدين ذهب بعقلهم، وهناك رجل يضحك عليهم يذهبون إليه كل يوم أربعاء، والأغرب من هذا أن بعضهم يقول: هذا هو الذي خرب علينا بلادنا. سبحان الله!! فالمسلم ينظر إلى هذه الفئات من الناس ولا يتهمها، لأنهم مرضى، وهناك مثل يقول: من ذاق عرف، فلو ذاق أحد طعم الإيمان سيعرفه، فإنه شيء يحس ولا يقال، فمثلاً لو سألك رجل: كم تحب ولدك؟ فهذا ليس سؤالاً؛ لأن كل شخص يحب ابنه، ولا يستطيع أن يصف حبه لابنه، فهذا شيء يحس ولا يقال، وهكذا الإيمان عندما يتشرب في القلوب فتجد صاحبه ينظر للناس نظرة رحمة، حتى العاصي فإنه ينظر له نظرة رحمة، لأنه لو تاب سيكون أحسن مني ومنك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيه: (عاشروا التوابين فإنهم أرق أفئدة). ورجل آخر قبل سنوات أتى ودق باب بيتي وهو كبير في السن، فقلت له: تفضل ادخل، فقال لي: أنا أتيت لأسأل سؤالاً من الباب، فقلت له: تفضل واسأل بالداخل، فلم يقبل، فقلت له: تفضل واسأل، فقال: هل يغفر ربنا جميع الذنوب؟! قلت له: نعم، الله يغفر الذنوب جميعاً بفضله ورحمته، وربما أن الله سيرحم محافظة الجيزة لأجلك، فقال لي: لماذا؟! وفاضت عيناه بالدموع، فقلت له: عندما يبلغ عمر العبد ستين سنة يقول الله: خففوا عن عبدي الحساب، وعندما يبلغ سبعين سنة يقول: هذا أسيري في الأرض، وعندما يبلغ ثمانين سنة يقول: لا تكتبوا على عبدي سيئة حتى آخذه عندي. فكلما تقدم العبد في السن كلما خفف الله عنه، لأن الله يسلب منه الصحة والذاكرة، وتجده يذكر شيئاً وينسى شيئاً، وبعدما كان يذهب هنا وهناك، بدأ يجلس في بيته وأصبحت حياته محدودة، فهذه تشمله رحمة الله عز وجل، وهذا من فضل الله على الإنسان. وأبو ذر رضي الله عنه كان قاطع طريق، لأنه كان من قبيلة غفار، وقبيلة غفار أكبر قطاع طرق في جزيرة العرب، فلما أسلم ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه تبسم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول أبو ذر: إن الله يهدي من يشاء، فعندما يشاء الله أن يهدي إنساناً فهو يهديه فيمن هدى. والأنس بالله من جربه عرفه، فالذي دنياه لله عز وجل، وكل حركة لله، من صلاة ودرس العلم، وقراءة وصلة الرحم، وبرنامج حياته كله لا يتحرك إلا لله، فيصبح عنده أنس بالله عز وجل، وما دام عنده أنس، فعنده طمأنينة، وما دام عنده طمأنينة فيكون عنده رضا، ومادام عنده رضا فهو في الجنة قبل أن يدخل الجنة.

التعرف والتودد إلى الله

التعرف والتودد إلى الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة، فتعرف أنت إلى الله وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة]. فالناس يتعرفون إلى الملوك والكبراء حتى ينالوا منهم حظاً أو كرسياً أو درجة أو علاوة أو غيرها، والمؤمن عندما يتعرف إلى الله يشعر أنه عزيز بالله، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]. قال الشاعر العربي مع تحفظنا على ما قال: لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل ماء الحياة بذلة كجهنم وجهنم بالعز أعظم منزل فالله سبحانه وتعالى يعز الذليل بطاعته، ويذل العزيز بمعصيته. وأبو سفيان ظلم جاره، فذهب الجار واشتكى إلى أمير المؤمنين عمر، وأبو سفيان من أكابر قريش، فقال أمير المؤمنين عمر: يا أبا سفيان! أرجع الحق إلى صاحبه وإلا ضربتك بالسوط فأرجعه إلى صاحبه، فسجد سيدنا عمر وقال: الحمد لله الذي أعز الذليل بطاعته، فجعل عمر يرفع السوط على أبي سفيان فينصاع أبو سفيان له. فسجد أبو سفيان وقال: الحمد لله الذي صبّر واحداً مثلي على واحد من أمثال عمر. وكان جبلة بن الأيهم أميراً نصرانياً ثم أسلم، فبينما كان يطوف حول الكعبة وكان لابساً رداء، فمر به أعرابي فداس على ردائه، فلطمه جبلة في وجهه وقال له: أتدوس يا أعرابي رداء جبلة؟ فذهب الأعرابي واشتكى لسيدنا عمر، فأتى بـ جبلة وقال للأعرابي: ماذا صنع بك جبلة؟ قال: لطمني أمام الناس قال: الطمه. فلطمه أمام الناس، فارتد جبلة عن الإسلام. فإذا تعرف الناس إلى الملوك والكبراء لكي ينالوا عزة أو رفعة أو درجة أو منزلة، فتعرف أنت إلى الله عز وجل يعطك رب العباد من عزته ورحمته والمكانة العليا، ولذا قال العلماء: تقرب النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج إلى الله قرب مكانة لا قرب مكان، لأن الله خالق الزمان والمكان؛ فلا يحده زمان ولا مكان.

حكم من من على الله بعمله

حكم من منّ على الله بعمله قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال بعض الزهاد: ما علمت أن أحداً سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها بذكر أو صلاة أو قراءة أو إحسان. فقال له رجل: إني أكثر البكاء. فقال: إنك إن تضحك وأنت مقر بخطيئتك، خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك]. أي: لئن تصبح ضاحكاً وأنت نادم، خير لك من أن تصبح باكياً وأنت مدل على الله بعملك، أو تمن على الله بعملك وتقول في نفسك: أنا عملت كذا وكذا وكذا، فلا يوجد أفضل مني، فهذا خطأ، فلابد للمسلم أن يظل مستشعراً تقصيره مهما كانت عبادته. [فإن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه، فقال: أوصني! فقال: دع الدنيا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها]. عندما تدعو شخصاً وهو ليس متعوداً على المحاضرات ولا يريد المحاضرات أصلاً، فتقول له: هلا أتيت معنا يوم كذا، لدرس أو لخطبة أو لمحاضرة، فتجده يرد عليك بسخرية، ويقول: اجعل لنا من بركاتك. فمثلما هو قد ترك لك الآخرة، كافئه واترك له الدنيا، ولن تخسر شيئاً، ولو أخذ الدنيا سيكتشف عندما يموت أنها هباء منثور، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكن في الدنيا كالنحلة إن أكلت، أكلت طيباً، وأن أطعمت أطعمت طيباً، وإن سقطت على شيء لم تكسره ولم تخدشه]. فالنحلة تأكل رحيق الأزهار، وتؤكلنا الشهد، وعندما تقف على العود لا تخدشه ولا تكسره، فالمسلم يجب أن يكون خفيفاً كالظل، لا يكون فضولياً ولا مزعجاً ولا يعيد كلامه أكثر من مرة.

مبنى الدين على الذكر والشكر

مبنى الدين على الذكر والشكر قال المصنف رحمه الله تعالى: [مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]]. أي: من ذكر الله ذكره الله، وعكس الشكر الكفران، والعياذ بالله. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (والله! إني لأحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم! أعني علي ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك)]. أي: اطلب الإعانة من الله، فالإنسان إذا لم يستعن بالله، فإنه سيذكر الله وحالته النفسية جيدة، أما إذا تضايقت حالته أو مرض فلن يستطيع أن يذكر الله، فعندما تكون الاستعانة بالله، ففي كل وقت يعينك على ذكره، ولذلك يجب علينا نقول في كل صلاة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فالإعانة من الله دائماً، مثل محطة توليد الكهرباء التي لا تنقطع. فعلى المسلم أن يقول عقب كل صلاة ثلاث مرات: اللهم أعني على طاعتك وذكرك وحسن عبادتك.

المراد بالذكر

المراد بالذكر قال المصنف رحمه الله تعالى: [وليس المراد بالذكر مجرد ذكر اللسان]. ترى بعض النساء في البيوت تمسك السبحة بيدها وهي تشاهد التلفاز وترى المسلسل وتتخذها عادة، فهذا لا يصح، فإما أن ترى التلفاز وإما أن تذكر الله، فإما الله وإما عباد الله، إما الخالق وإما المخلوق، إما دنيا وإما آخرة، فلا يجتمع الاثنان؛ لأن المتضادات لا تجتمع، فالليل والنهار لا يجتمعان، والكفر والإيمان لا يجتمعان، فإن هذا مستحيل. فالذكر ليس تسلية، ولكن الذكر استحضار قلب. قال المصنف رحمه الله تعالى: [بل الذكر القلبي واللساني، وذكره يتضمن ذكر أسمائه وصفاته]. يعني: عندما تقول: اللهم! أعني على ذكرك، فذكره يتضمن أسماءه وصفاته، مثل: الرحيم، الغفور، الودود. وإن كان قلبك مظلماً فمن أسماء الله عز وجل النور، وعندما تشعر أنك في ظلمة من المعصية، فالذي ينور هذه الظلمة هو الله بطاعتك له. وإن كان في داخل الإنسان ضلالة، فمن أسماء الله: الهادي، فكم هو جميل أن يناديك الناس باسم: عبد الهادي؟ ولكننا من كثر التكرار ننسى حلاوة الاسم، فهو يعبد الهادي الذي يهدي، كما قال تعالى: {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33]. وإن كان العبد فقيراً فمن أسماء الله: الغني، ومن ذنوب العبد كثرة العصيان، فالله هو الغفار التواب، فعلى المسلم أن يستحضر القلب وهو يذكر هذه المعاني. فليست الذكر مجرد ذكر لساني، ولكن لا بد من الذكر اللساني والقلبي، لكي يذكر بهما الأسماء والصفات. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وذكر أمره ونهيه، وذكره بكلامه، وذلك يستلزم معرفته والإيمان به وبصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح، وذلك لا يتم إلا بتوحيده، فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلى خلقه]. سألت أحد الإخوة، وكان قد سافر عن طريق البحر: هل هذه أول مرة تسافر عن طريق البحر؟ قال: نعم، فقلت له: بماذا كنت تشعر وأنت في الباخرة؟ فأجابني إجابة لطيفة جداً، قال: أشعر بالليل أنه القهار، وأشعر بالنهار بأنه ذو الجمال والرحمة، فبالليل ظلام دامس والباخرة في البحر مثل الريشة، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى:32]، فبالليل رهبة وقهر، وفي النهار جمال ورحمة. وكما تذهب لزيارة قبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإنك تلقى الجمال والود والرحمة، وعندما تذهب إلى الكعبة تشعر بالرهبة والجلال والعظمة والقهر والجبروت، فتشعر في المدينة بالحنان، وتشعر في مكة بالخوف وبالذلة لله عز وجل، فتلك لها مذاق وتلك لها مذاق، ونحن لا نقارن هنا، وإنما هذه مثلها مثل الزاويتان المتكاملتان كل زاوية تكمل الأخرى، فهو القهار وفي نفس الوقت هو الرحيم، وهو القوي الغفور، والجبار الودود.

تعريف الشكر

تعريف الشكر قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الشكر فهو القيام بطاعته والتقرب إليه بأنواع محابه ظاهراً وباطناً]. فالحمد ليس كلاماً، وإنما فعل وعمل وصدق يقين بأن الله عز وجل هو صاحب النعم، فالشكر هو القيام لله بطاعته والتقرب إليه بأنواع محابه ظاهراً وباطناً.

تلازم الذكر والشكر

تلازم الذكر والشكر قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذان الأمران هما جماع الدين]. والأمران هما: الشكر والذكر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فذكره مستلزم لمعرفته، وشكره متضمن لطاعته]. أي: فما دمت قد ذكرت الله فقد عرفت الله أنه ستار وغفار وحليم وشكور والخ، وإذا شكرت الله فقد تضمنت طاعة الله عز وجل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذان هما الغاية التي خلق لأجلها الجن والإنس والسموات والأرض، ووضع لأجلها الثواب والعقاب، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل]. فإذا لم يكن الإنسان من الذاكرين، سيكتب من الغافلين، وإذا لم يكن من الشاكرين سيكتب من الذين لم يشكروا الله على نعمه، قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، اللهم اجعلنا من الشاكرين. 0 وأحد تلاميذ الحسن البصري عندما أتى له بحلوى الفالوذج لم يأكل، فقال له الحسن: لماذا لا تأكل؟ قال: أخاف ألا أؤدي شكرها، فقال له: يا لكع! أأديت شكر الماء البارد لله حتى تخاف ألا تؤدي شكر الحلوى؟! وأبو حنيفة كان له جار يهودي، فقال له يوماً: عندما كنت في طريقي إلى المسجد استندت إلى حائط بيتك، قال: وما في هذا شيء يا أبا حنيفة؟! فقال: أخاف أن تطلبني بحقها يوم القيامة. فكان هذا سبباً في هداية الرجل، فالإسلام قدوة وليس كلاماً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهى الحق الذي به خلقت السماوات والأرض وما بينهما، وضدها هو الباطل والعبث الذي يتعالى ويتقدس عنه، وهو ظن أعدائه به، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص:27]]. فالكفار يظنون أن الله خلق السموات والأرض للعب، وكما قلنا: إن الكرة لها قانون، وأي رياضة لها قانون، وأي شيء في الحياة له قانون، والصلاة لها قانون وفرائض وسنن، وبعض الناس يقولون: لا تشددوا علينا، فإن ربنا غفور رحيم وسيتقبل منا! ولا يعلمون أن تقبل الأعمال له قانون أيضاً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:38 - 39]. وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} [الحجر:85]. وقال بعد ذكر آياته في أول سورة يونس: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس:5]. وقال: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36]. وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]. وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]. وقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة:97]. فثبت بما ذكر أن غاية الخلق والأمر: أن يذكر وأن يشكر، يذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. وهو سبحانه ذاكر لمن ذكره، شاكر لمن شكره، فذكره سبب لذكره، وشكره سبب لزيادته من فضله؛ فالذكر للقلب واللسان، والشكر للقلب محبة وإنابة، وللسان ثناء وحمد، وللجوارح طاعة وخدمة]. قوله: [والشكر للقلب محبة وإنابة]، فإذا كنت شاكراً لله بالقلب، فثمرته محبة وإنابة، والإنابة هي رجوع العبد إلى المولى عز وجل. وقوله: [وللسان ثناء وحمد] أي: أثني على الله بما هو أهله. وقوله: [وللجوارح طاعة وخدمة] وهذا الكلام لم يأت به ابن القيم من عنده، وإنما استنبطه من الأثر وهو: الإيمان تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان. اللهم اجعل قلوبنا أوابة منيبة محبة لك يا رب العباد! واجعل ألسنتنا مثنية عليك حامدة لك، واجعل جوارحنا مطيعة لك وخادمة، يا أرحم الراحمين!

ثمرات الشهوة

ثمرات الشهوة قال المصنف رحمه الله تعالى: [الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة]. الشهوات نوعان: شهوة حيوانية، وشهوة غريزية. فالشهوات الحيوانية مثل: الشره في الأكل وغيره، والإنسان عندما يتبع شهواته فإنها تورده موارد الهلكة، وإن كان من الممكن الامتناع عن الأكل. أما الشهوات الغريزية فهي مثل: ظلم الناس، وهي من الصفات السبعية، كالهجوم على الناس والنهش في أعراضهم، فالذي يغتاب شخصاً ويحاول الآخرون أن يسكتوه وهو لا يسكت، فهو كالكلب أمامه جثة وينهش فيها، لأنه يأكل من عرض أخيه، بل إن الكلب لا يمكن أن ينهش لحم الكلب الحي أو الميت، وإنما ينهش لحماً آخر من غير بني جنسه. فالمؤمن يستطيع أن يمتنع عن شهوة الكلام والتحدث، وبعض الناس يريد أن يعرض عليك مشكلة ويكفيه دقيقة أو دقيقتان لكي يعرضها عليك، ولكنه يظل يعرضها ويستغرق ساعة في عرضها، حتى يقنعك بالموضوع، والموضوع غلط من أوله إلى آخره. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة]. فمثلاً: لو أن أحد الناس عنده شهوة شرب الخمر، فسوف تحصل له أمراض وبلايا، فهذا هو الألم، وفوق الألم عقوبة شرب الخمر، وكذلك بالنسبة للتدخين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإما أن تقطع لذة أكمل منها]. يعني: لو امتنعت عن هذه الشهوة، فإن الله سيعطيني لذة أكمل منها، فمثلاً: لو أن أحداً دعاك إلى عرس في يوم الخميس، فتقول له: عندي درس في يوم الخميس في المسجد، فذلك ذهب إلى المشوار الفوضوي، وأنت بحثت عن شيء أكمل منه وهو ذكر الله عز وجل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة]. وذلك عندما تنكشف الأوراق، فالوقت من الأشياء التي سيحاسبنا عليها الله. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه]. فمثلاً: لو أن شخصاً يحب أن ينظر للنساء في الطرقات، وفجأة يراه أبوها أو أخوها فيقول له: عيب يا أستاذ! ويشتمه أو يقول له كلمة غير لطيفة، أو يكلمه في التلفون ويهزئه، ويقول له: بالله عليك! ألم يكن من باب أولى أن توفر العرض؟ إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل إذا كان العرض لا يدنس الشرف فأي رداء سيلبسه جميل؛ لأنه يخاف على عرضه، مثل الذي يخاف على ثوبه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خير له من ذهابه]. فمثلاً: الذي يصرف كل شهر خمسين جنيهاً في السجائر، فلو أخرج منها عشرة جنيهات صدقة، وعشرة جنيهات لأقاربه، وثلاثين جنيهاً يشتري بها حلوى للأولاد لكان خيراً له وأفضل، فإن كان غنياً وأنفق ماله في غير محله فهو مسرف، لأن هذا المال ليس ماله وإنما المال مال الله، قال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27]، فالمبذر أخو الشيطان، وإن كان فقيراً فهو سفيه، والسفيه يقول الله تعالى فيه: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]. وما هو ذنب زوجته وأولاده عندما لا ينفق عليهم ولا يكسوهم؟ وتراه يقول: لقد حصلنا على قيمة السجائر من باب الله، والأفضل أن يشتري لأولاده أشياء عينية كبذلة أو حذاء أو بنطلون أو قطعة قماش لزوجته، أو يدفع لأولاده مصاريف المدرسة، ولو أعطاه مالاً فيمكن أن يستخدمه في معصية الله. فالنصيحة لمن يخرج زكاة المال، أن يراعي هذه المسألة جيداً، فإذا كان الفقير مدخناً لا يعطى نقوداً، وإنما يعطى أشياء عينية: كملابس، ولحم، ودجاج، وسمك، وبعض الفاكهة، وثياب، ومصاريف المدرسة، وإيجار درس خصوصي، فلو أعطي نقوداً فإنه سوف يصرفها فيما يغضب الله فيدخن، ويترك زوجته وأولاده ولا يعطيهم شيئاً. ومن بلاء التدخين أن الشخص قبل أن يدخن لا يقول: باسم الله. فالمسلم لا يضع ماله إلا فيما ينفعه، لأن الشهوة تضيع على الإنسان مالاً بقاؤه خير من إنفاقه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه]. أي: لو كان هناك شخص يحترمه جميع الناس ويذكرونه بكل خير، ثم يكتشفون في نهاية المطاف أنه يرتشي -مثلاً- فيصبح شكله أمامهم مخزياً جداً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة]. أي: أن يكون هناك شخص يعيش مع زوجته وأولاده بأمان، وذات مرة وجدته زوجته يعمل أشياء غير أخلاقية، فأصبحت تتشاجر معه، وتبعد أولاده عنه، وأصبح الأولاد يكرهونه، فتجده يحدث نفسه ويقول: لقد كانت حياتي آمنة مستقرة، لكن هذه المعصية نغصت علي حياتي وأولادي وزوجتي وأضعت فيها مالي. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة]. أي: فرب شهوة ساعة تورث صاحبها حزناً وغماً طويلاً، فالناس الذين يعصون الله متضايقين، ويحسون دائماً باختناق ويريدون أن يخرجوا ويغيروا المكان الذي هم فيه، ويحسون بأنهم يريدون أن يستنشقوا هواءً نقياً؛ وكل ذلك لأنهم لا يعلمون أن المعصية تضيق الصدور، والطاعة تشرح الصدور، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإما أن تنسى علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة]. فالمعاصي تنسي العلم، وتزيل النعم، ومن أكبر النعم العلم، يقول الشاعر: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدي لعاصي قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما أن تشمت عدواً وتحزن ولياً]. فالعدو يشمت في العاصي، ويقول مثلاً: اختلس الأموال فدخل السجن، أما الولي أو الصديق فإنه يقول: يا خسارة! فلقد ضيع حياته لأجل شيء كهذا، اللهم اختم لنا بخير يا رب العباد! قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة]. فالنعم قد تكون آتية، ولكن المعاصي تزيلها، وتزيل بركتها، فالمعاصي تزيل بركة الأولاد والزوجة والزوج والذرية والمال والعمر، فكل بركة من البركات فإنها تزول بمعصية العبد لله رب العالمين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول، فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق]. فالإنسان عندما يرتكب المعاصي، فالعيوب تلصق فيه، وكفى بالكذاب أن أي كذبة في البلد تنسب له، حتى وإن لم يكن قالها، وتجد الناس يؤكدون بأنه هو الذي قالها، لأن الناس تعودوا أنه يكذب. وأحياناً تجد رجلاً من صفاته قضاء مصالح الناس، فمن قصدهم بمصلحة نسبت إليه، وشكره الناس ودعوا له، مع أنه لم يقدم لهم شيئاً، لكن الله يجري النعم على أيادي أناس، ويجري النقم على أيادي آخرين. اللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر يا رب العالمين! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من الناس مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس مغاليق للخير، مفاتيح للشر، فيا سعادة! من كان مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، ويا بؤس وشقاوة! من كان مغلاقاً للخير مفتاحاً للشر).

الأخلاق المحمودة والمذمومة

الأخلاق المحمودة والمذمومة

حد الغضب المحمود

حد الغضب المحمود قال المصنف رحمه الله تعالى: [للأخلاق حد متى جاوزته صارت عدواناً، ومتى قصرت عنه كان نقصاً ومهانة. فللغضب حد وهو الشجاعة المحمودة]. الغضب المحمود هو أن يغضب الشخص عندما تنتهك حرمة من حرمات الله، كأن يرى مسلماً يؤذى ويظلم ولا أحد يستطيع أن ينصره. قال المصنف رحمه الله تعالى: [والأنفة من الرذائل والنقائص وهذا كماله، فإذا جاوز حده تعدى صاحبه وجار وإن نقص عنه جبن ولم يأنف من الرذائل]. فالشجاعة عندما تزيد عن حدها تكون تهوراً، وعندما تنقص عن حدها تكون جبناً، وخير الأمور الوسط، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143].

حد الحرص المحمود

حد الحرص المحمود قال المصنف رحمه الله تعالى: [وللحرص حد]. الحرص أن يكون الإنسان حريصاً دائماً على المال وعلى الصحة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهو الكفاية في أمور الدنيا وحصول البلاغ منها، فمتى نقص من ذلك كان مهانة وإضاعة، ومتى زاد عليه كان شرهاً ورغبة فيما لا تحمد عقباه]. إذا كان الإنسان طماعاً ومسرفاً فهو مذموم، فإن الله لا يحب المسرفين.

حد الحسد المحمود

حد الحسد المحمود قال المصنف رحمه الله تعالى: [وللحسد حد وهو المنافسة في طلب الكمال، والأنفة أن يتقدم عليه نظيره]. المنافسة هي الحسد المحمود، كمن يحسد عالماً -أي: يغبطه- ويتمنى أن يكون مثله، أو يحسد رجلاً غنياً ويتمنى أن يكون لديه أموال مثله. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فمتى تعدى ذلك صار بغياً وظلماً يتمنى معه زوال النعمة عن المحسود، ويحرص على إيذائه، ومتى نقص عن ذلك كان دناءة وضعف همة وصغر نفس]. الحسد المذموم كمن يحسد عالماً ويتمنى زوال النعمة عنه، ولا يحب أن يشارك العلماء في دروس العلم وفي الصلاة، ويبتعد عنهم. فالأفضل أن يكون وسطاً بين الحسد الزائد الذي إذا زاد صار بغياً وظلماً؛ لأنه يتمنى معه زوال النعمة، وحسد المنافسة وهو ألا يكون عنده روح المنافسة، فتجده لا يحب أن يشارك في دروس العلم، ولا في صلاة الجماعة، ولا في طلب العلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة -يعني: العلم- فهو يقضي بها ويعلمها الناس). فهذا حسد منافسة يطالب الحاسد به نفسه أن يكون مثل المحسود، لا حسد مهانة يتمنى به زوال النعمة عن المحسود]. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل يا مولانا بيننا شقياً ولا محروما، فك الكرب عن المكروبين، سد الدين عن المدينين، اقض حوائجنا وحوائج المحتاجين، اللهم لا تجعل لنا في هذه الليلة العظيمة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ابناً عاقاً إلا جعلته باراً بوالديه، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا رددته لأهله غانماً سالماً، اللهم اكشف الكرب عن المسلمين، وأوقع الكافرين في الكافرين، وأخرجنا من بينهم سالمين، اللهم لا تسل قطرة دم إسلامية إلا في سبيلك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك.

سلسلة شرح كتاب الفوائد [12]

سلسلة شرح كتاب الفوائد [12] إذا أراد العبد أن يعرف قيمته عند الله فلينظر فيما أقامه الله فيه، ولا ينظر إلى ما آتاه من الدنيا أو أنعم عليه من الجسد، فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الأمة فضلاً لما أقامهم الله فيه من صحبة نبيه ونصرة دينه.

قيمة العبد عند مولاه

قيمة العبد عند مولاه قال المصنف رحمه الله تعالى: [إذا كنت تريد أن تعرف قيمتك عند مولاك، فانظر فيما أقامك]. يعني: الإنسان إذا أراد أن يعرف مكانته عند رئيسه أو مسئوله أو مديره أو صاحب العمل الذي يعمل معه، ويرى هل يضعه في أخطر القضايا وأعظمها؟ أو يضعه في القضايا البسيطة العادية التي يقدر عليها كل أحد؟ ومثل ذلك مثل رجل عنده ولدان، ولد محب للعلم والمعرفة، وولد لا يحب العلم والمعرفة، فالولد المحب للعلم والمعرفة يتوسم أبوه فيه النبوغ والصلاح وحبه للثقافة، فإذا كان هناك ندوات أو مؤتمرات أو مناقشات علمية، فإنه يدعو ولده المحب للمعرفة للاستماع إليها، بينما ابنه الآخر يدعوه إذا كان هناك مبارات كرة قدم أو رياضة معينة، فكل واحد من الأبناء ينظر إلى الدعوة التي دعاها أبوه فيعرف قيمته عند والده. ولله المثل الأعلى، فإذا كنت تعرف مقامك عند مولاك فانظر فيما أقامك، هل أقامك في طاعة الله عز وجل، في مجالس العلم، أو في تفريج كربات المسلمين؟ أم أقامك بعيداً عن هذا الخط؟ فلينظر الإنسان أين أقامه مولاه عز وجل، فكلما أقمت في مكان طيب وفي مكانة طيبة وفي منزلة طيبة، فمنزلتك عند الله طيبة، كما قيل للحسن رضي الله عنه: يا بصري! كم أنا عند الله؟ فأجابه الحسن: كم الله عندك؟ أي: إذا كان ربك عندك كل شيء فأنت عند ربك كل شيء، وإن كان الله آخر شيء، فأنت عند الله -والعياذ بالله- آخر شيء. والمسلم الذي لا يخشع في صلاته، مثله كمثل الشاعر الذي يجلس تحت شجرة لكي يكتب قصيدة ما أو يؤلف مقطوعة ما، أو عالم يبحث قضية مهمة، وعلى هذه الشجرة عصافير تزقزق وتغرد، فتشوش على تفكير هذا الإنسان الذي هو جالس تحت الشجرة، فكلما يصل لحل قضية أو إلى نتيجة معينة، أو يصل إلى البحر والروي الذي يؤلفه، فيجد العصافير تشغله بأصواتها، فيعود يؤلف من جديد، فإذا أراد أن يتخلص من العصافير الواقفة فوق الشجرة فليقطع الشجرة. قال أهل العلم: الشجرة شجرة الهوى، والعصافير عصافير الشهوات، فعندما تستنبت شجرة الهوى في قلب العبد، وعصافير الشهوات تعشعش في قلبه، فإن صلاته مشوشة، وعبادته مشوشة، وقيام الليل مشوش، والعمل كله مشوش، فإذا أراد أن تخلص نيته لله، فليقطع شجرة الهوى من قلبه لتطير عصافير الشهوات من فوق فروعها وأغصانها. فالمسلم دائماً يخلص العلائق أو الحواجز أو القناطر التي بينه وبين الله لكي يكون مع الله تعالى فيكون الله معه. اللهم اكشف عنا الحجب التي بيننا وبينك يا أكرم الأكرمين!

فضائل بعض الصحابة

فضائل بعض الصحابة قال المصنف رحمه الله تعالى: [من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه]. كانت أعظم صفة يوصف بها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول فيه: (من أراد أن يسمع القرآن غضاً كما أنزله جبريل، فليسمعه من عبد الله بن مسعود). وكما قلنا سابقاً أن العشرة المبشرين بالجنة الذين ذكروا في الحديث هم: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأشدهم حياءً عثمان، وأعلمهم بالدين علي، والحق أين ما كان عند سعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير بن العوام حواريا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الرحمن بن عوف تاجر من تجار الرحمن، وسعيد بن زيد حبيب من أحباء الرحمن، وأبو عبيدة بن الجراح أمين الله وأمين رسوله). فهؤلاء هم العشرة المبشرون بالجنة، ولكن ليس معنى ذلك أنهم فقط هم الذين بشروا بالجنة؛ فالجنة اشتاقت إلى عمار بن ياسر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، فهذا تبشير بالجنة. وكذلك عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ بلال بن رباح: (يا بلال! كنت أسمع قرع نعليك في الجنة، فماذا كنت تفعل؟) فمعنى هذا أن بلال بن رباح في الجنة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعون ألفاً من أمتي يدخلون الجنة بدون حساب، فقام عكاشة فقال: ادع الله لي أن أكون منهم، قال: أنت منهم يا عكاشة)، فـ عكاشة من أهل الجنة. وسيدنا عبد الله بن مسعود وإن لم يكن ذكر في حديث العشرة المبشرين بالجنة، لكنه كما نعلم كان نحيف الساقين، فلما صعد إلى الشجرة انكشفت ساقاه، فضحك الصحابة من نحافتهما ودقتهما، فتنبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (أتضحكون من دقة ساقي ابن مسعود! والذي نفسي بيده! إنها في الميزان يوم القيامة أثقل عند الله من جبل أحد). فسيدنا عبد الله بن مسعود هو الصحابي الوحيد المأذون له بالدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي وقت، بينما كان أبو بكر وعمر يطرقان الباب أولاً، وينتظران حتى يأذن لهما النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق أنس، أما عبد الله بن مسعود فكان يدق الباب فيفتح له أنس ويدخل من غير أن يؤذن له؛ لأنه مأذون له في الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقت، ولذلك سمي ابن مسعود صاحب سر رسول الله. يقول عبد الله بن مسعود: سبعون سورة من كتاب الله عز وجل أعلم أين نزلت، في سهل أم في جبل، في مكة أم في المدينة، في ليل أم في نهار؟ وكان عندما يقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم السورة يحفظها من أول مرة، فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم مرة سورة الأنعام، وهي السورة الوحيدة في القرآن من كبار السور التي نزلت دفعة واحدة، فلما قرأها الرسول على ابن مسعود قال: أتستطيع أن تعيدها علي يا ابن مسعود؟ فأعادها كما سمعها. والحسن البصري من تلاميذ عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن مسعود وسيدنا علي من تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الشاعر: وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم وعندما نقرأ في كتب الحديث: رواه العبادلة الأربعة، فـ عبد الله بن مسعود أول راو فيهم، وهم: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، فهؤلاء أعلم العبادلة أو أعلم الصحابة بعد عمر وعلي في الفقه رضي الله عنهم جميعاً. وعندما تولى سيدنا عمر الإمارة قال: من أراد أن يسأل عن القرآن، فليسأل عبد الله بن مسعود، ومن أراد أن يسأل عن المواريث فليسأل علي بن أبي طالب، ومن أراد أن يسأل عن العلم فليسأل معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليسألني أنا، فإن الله قد جعلني له خازناً وخاتماً. وكان عبد الله بن مسعود له زوجة اسمها زينب، فعندما كانت تحب أن تستفتي في مسألة، لا تستفتي عبد الله بن مسعود، بل كانت تذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما تصل يدخل أنس إلى رسول الله، فيقول له: يا رسول الله! زينب بالباب؟ فيبتسم الرسول ويقول: يا أنس! أي الزيانب؟ لأنه كان يوجد أكثر من امرأة اسمها زينب، فمن ذلك ابنته زينب، وزينب خالة عبد الرحمن بن عوف.

زهد عبد الله بن مسعود

زهد عبد الله بن مسعود قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال رجل عنده: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أحب أن أكون من المقربين]. الرجل الذي كان في مجلس عبد الله بن مسعود يقول: أنا لا أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أحب أن أكون من المقربين، مثل الذي يقول: أنا لا أريد أن أنجح فقط، ولكن أريد أن أكون من الأوائل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال عبد الله: لكن ههنا رجلاً ود أنه إذا مات لم يبعث، يعني نفسه]. التابعي هو الذي عاصر جيل الصحابة، والصحابي هو الذي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات على ذلك، فكل من لحق أحداً من الصحابة يسمى: تابعياً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). فالرجل الذي جلس عند عبد الله بن مسعود كان يقول: أنا لا أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أحب أن أكون من المقربين، فأجابه عبد الله بن مسعود بأنه يوجد هاهنا رجل يود أن لا يبعث، فهذا يدل على شدة خوفه من الله عز وجل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وخرج ذات يوم فاتبعه ناس، فقال لهم: ألكم حاجة؟ قالوا: لا، ولكن أردنا أن نمشي معك. قال: ارجعوا فإنه ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع]. كان عبد الله بن مسعود يخاف على نفسه من الفتنة، فقفل الباب عليهم عندما سألهم: ألكم حاجة؟! فعندما لم تكن لهم حاجة، أمرهم بألا يتبعوه، لأنه ذل لهم وفتنة له. ولذلك عندما كان أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان في الحج، وكان يريد أن يصل إلى الحجر الأسود، فمن الزحمة لم يستطع أن يصل، فلما أتى علي زين العابدين أمر الناس بأن يوسعوا لأمير المؤمنين، ثم انصرف، فعندما سأل أمير المؤمنين: من هذا الذي فعل هذا؟ فقالوا له: هذا زين العابدين علي بن الحسين، قال: والله! هذا هو العز كله. والمقصود بالعز هنا أن الناس تحبك لله، لكن عندما تحبك الناس لمالك، فلو ضاع المال ضاعت المحبة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال: لو تعلمون مني ما أعلم من نفسي، لحثوتم على رأسي التراب]. وهنا تساؤل: إذا كان هذا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول يضمن له الجنة، ومات وهو راض عنه، وعنده من العلم ما عنده، ورغم ذلك يقول: لو تعلمون مني ما أعلم من نفسي، لحثوتم على رأسي التراب؟ قال أهل العلم: إن الله عز وجل من رحمته أنه إذا أحب عبداً رفع من أمامه كل عمل صالح، فلا يرى نفسه عمل صالحاً قط. ولكن بعض الناس يحضر مجلس علم أو محاضرة كل أربع سنين، فيجد نفسه يرى أنه فعل شيئاً كبيراً، وذلك الآخر الذي يصلي بخشوع مرة في اليوم، وتجده يقول: لقد صليت بخشوع هذا اليوم، ويرى أنه أفضل الناس. لكن هذا عندما أحبه الله رفع من أمامه العمل الصالح، فيجد نفسه لم يعمل شيئاً، ولذلك يقول: أنا إنسان سيئ، ويقولها بصدق، لا يقولها نفاقاً ولا رياءً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال: حبذا المكروهان: الموت والفقر]. أي: أنه كان يحب شيئين يكرههما الناس: الموت والفقر. وقال أبو ذر: أحب الجوع والمرض والموت، فقالوا له: لماذا؟ فقال: أنا إن جعت رق قلبي، وإن مرضت خف ذنبي، وإذا مت لقيت ربي. لكن إذا كان عند الإنسان المال والصحة فإنه ينسى هذا كله، نسأل الله السلامة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال: إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة؛ فمن زرع خيراً فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شراً فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع لا يسبق بطيء بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له]. وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: (اعلم أن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص، ولا يمنعه عنك كراهة كاره). فمثلاً: لو كان هناك رجل يعيش في ظلام وقفلت عليه الأبواب، وأراد أن يرى نور الشمس، فإن عليه أن يطرق باب الله والوقوف على باب الله، مثلما تكون عندك مشكلة مصيرية، وحل هذه المشكلة عند مسئول أو وزير مثلاً، فأنت تجلس عند بيته ليلاً ونهاراً، وحتى لو سافر فإنك ستنتظره إلى أن يأتي حتى يحل لك مشكلتك؛ فلن تفارق بابه حتى يحل لك مشكلتك، ولله المثل الأعلى، فإذا أردت أن يقضي الله حاجتك فأنخ راحلتك بباب الله، واطرق الباب ولابد أن يفتح لك باباً، ولكن ادع الله دعاء مستنجد لا دعاء ناج، ادع الله كالمضطر، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123]، فلا بد من الذل لله.

التحقق بأوصاف الله

التحقق بأوصاف الله يقول ابن عطاء الله: تحقق بأوصافك يمنحك أوصافه. يعني: تحقق بذلَّك يمنحك من عزه، تحقق بفقرك يعطك من غناه، تحقق بضعفك يعطك من قوته، تحقق بأنك تائه يعطك من هداه، فإن الله يرشد الحائرين الضالين. فإذا أقنعت نفسك أنك ضعيف فهو يقويك، أو فقير فهو يغنيك، أو تائه فهو سيرشدك وهكذا. وكان ابن عطاء الله دائماً يقول: يا رب! أنا الجهول في علمي فكيف لا أكون جهولاً في جهلي، أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيراً في فقري. يعني: برغم العلم الذي عندي فأنا جاهل، فإذا كنت جاهلاً أصلاً فماذا سأكون؟ وأنا رغم غناي فأنا فقير، كما قال موسى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]. قال أهل العلم: إن لله صفات جلال وصفات جمال. فعلى المسلم أن يتصف بصفات الجمال مثل: الشكر: شكور، والرحمة: رحيم، والمغفرة: غفور، والود: ودود، والصبر: صبور. أما صفات الجلال فلا يتصف بها أبداً، مثل: القهار، المتكبر، المعز، المذل، المانع، فلا بد للإنسان أن ينقهر ويخضع لهذا الصفات ولا يتصف بها، لأن الله هو القهار والمخلوق ليس قهاراً، وهو الجبار والمخلوق ليس جباراً. ولذلك فإن المسلم يتصف بصفات الله الجمالية لا بصفاته الجلالية. وإذا زرت المدينة المنورة فإنك تجد حلاوة المدينة وحلاوة المسجد النبوي الشريف، وتشعر بصفات الله الجمالية: الرءوف الرحيم، وعندما تذهب إلى الكعبة تجد رهبة، لأن هذا بيت الله القهار، بيت الجبار، وهذه من صفات الجلال. فإذا تحققت بصفات الجمال، نصرك الله بصفات الجلال. فإذا كنت رحيماً وودوداً وشكوراً وصبوراً، فالله يعطيك من أوصافه الجلالية، ويجعلك تقهر العدو وتنتصر عليه وتغلبه. هكذا العبد يتخلق بأخلاق الله في صفات الجمال، يمنحه الله عز وجل برحمته من صفات الجلال. قال المصنف رحمه الله تعالى: [إنما هما اثنتان: الهدي والكلام، فأفضل الكلام كلام الله، وأفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة]. والبدعة تكون في العبادة لا في العادة، مثل اللباس الذي نلبسه يعتبر عادة، والأكل عادة، لكن بإمكانك أن تقلب الأكل أو اللبس إلى عبادة. فمثلاً: الذي يلبس البنطال أو الثوب أو الجبة أو القميص فهذه الأشياء اعتيادية، وأهم شيء أن يستر عورته، وعورة المرأة كل جسدها ما عدا الوجه والكفين، وفي بعض الآراء: جميع جسدها، وعورة الرجل: من السرة إلى الركبة. ولكن إذا أردت أن تجعل هذه العادة عبادة، فعندما ترتدي لباساً فقل: الحمد الله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به أمام الناس. وتستشعر نعمة الله، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما كسي عبد ثوباً جديداً ولبسه، فما أن يبلغ إلى ركبتيه وهو يعلم أن الذي كساه إنما هو الله رب العالمين، إلا وغفر الله له). فعندما يلبس العبد ثوباً جديداً يستر به نفسه، واستشعر أن الذي كساه هو الله غفر الله له. وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا وضع أحدكم يده في جيبه، ليخرج كيس نقوده، فيخطئه -أي: أراد أن يخرجه من جيبه اليمين، فإذا هو في جيبه الشمال- فإذا ارتجف قلبه، تساقطت ذنوبه كما يتساقط ورق الشجر في اليوم الشاتي). فالله يسوق إليك المغفرة، ويريد أن تستغفره. إذاً: البدعة تكون في العبادة، وهي: إضافة شيء في الدين ليس فيه. فمن ذلك: ما يقوله بعض المؤذنين بعد أن يكملوا الآذن، فيقولون: الصلاة والسلام عليك يا كحيل العينين، ويا أسود الشعر ويا أبيض الوجه، ويا أول خلق الله وآخر خلق الله. فهذه بدعة في الدين؛ لأنه أضاف في الدين ما ليس منه. فهل نحن أشد حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم من سيدنا بلال؟! فلماذا سيدنا بلال لم يقل هذا الكلام؟! فهل سنكون أفضل منه؟ وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا بلال! إني أسمع دف نعليك في الجنة، فقل لي يا بلال ماذا تصنع؟!). والمبتدع يقول: أنا عملت أفضل من بلال. وعندما تدخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فإما أن تجد رجلاً يذكر الله، أو يقرأ في المصحف، أو يصلي، وتجد المذيع يقول: ونبدأ شعائر يوم الجمعة بقراءة القرآن، كأنها شعيرة من الشعائر، فهذا يزيد من عنده، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)؛ لأنه يؤلف من عنده، فالزيادة في الدين كالنقص فيه، وهذه قاعدة أصولية؛ فأنت عندما تزيد في الدين فأنت تنقص فيه؛ لأن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. فالدين مكتمل، فلا يحق لأحد أن يزيد إلا الله، ولا يحق لأحد أن ينسخ إلا الله. فما دام الدين قد اكتمل، فلا زيادة فيه، والرسول صلى الله عليه وسلم تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، أما أن تبتدع وتؤلف فهذا ليس من الإسلام في شيء.

حكم ذهاب النساء إلى الكوافير

حكم ذهاب النساء إلى الكوافير ذهبت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وابنتها عروس، -والمرأة عندما تكون ابنتها عروساً تتصرف بطريقة غريبة وتفكر تفكيراً غير منطقي- فقالت المرأة لرسول الله: إن ابنتي عروس وأصابتها الحصباء -مرض جلدي- فتساقط شعرها -أي: أصبحت صلعاء- أفأصل شعرها؟! فلو سألت هذا السؤال امرأة من هذا العصر وهي لا تعرف بقية الحديث، ستجيبك على الفور: نعم، كيف ستذهب إلى زوجها وهي صلعاء؟! ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله الواصلة والمستوصلة)، والواصلة: هي التي تسمى في عصرنا الحاضر (كوافيرة)، والمستوصلة: هي المرأة التي تذهب إليها لتصل شعرها. وإذا كان رسول الله قد لعن المرأة التي تصل شعر المرأة الأخرى بشعر آخر، فكيف إذا كان الذي يفعل ذلك رجلاً، كيف سيكون حاله؟ والمصيبة الكبرى أن العريس قبل أن يزفوا إليه عروسه يذهب بها إلى (الكوافيرة) وقد تكون رجلاً، وهذه قلة أدب من وجهة نظري، ولا أرها إلا دياثة، فليس من المعقول أن يذهب أحدنا بعروسه قبل أن يلمسها إلى رجل آخر بحجة أنه ماهر في فنون التجميل؟!!! سبحان الله. وتجد بعض الناس يظنون أننا نعقد المسألة، ونحن لا نعقدها؛ لأن هناك حلالاً وحراماً، وهذه كلها زيادات في الدين. وتجد بعض الآباء يتحججون بأنهم لا يريدون أن يكدروا على ابنتهم ليلة عرسها، فتفعل ما تشاء. ولكن لتعلم أيها المؤمن! أنه في أيام رسول الله قامت حرب بسبب أن عورة امرأة مسلمة انكشفت أمام اليهود، وذلك عندما أراد أحد اليهود منها أن تخلع خمارها لكي يروا وجهها فلم ترض، فأراد أن يسخر منها فأمر أحد الصبيان أن يربط طرف ثوبها برأس ثوبها، فعندما أرادت أن تنهض بانت عورتها وأرجلها، فجلست على الفور وسترت نفسها، وعندما رأى أحد المسلمين هذا المنظر، لم تتحمل الدماء العربية الإسلامية، فقتل اليهودي، فاجتمع اليهود على المسلم فقتلوه، فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فحاصر بني قينقاع سبعة عشر يوماً، وأجلاهم عن المدينة؛ لأنهم كشفوا عورة امرأة مسلمة. وفي زماننا هذا نحن الذين نعري زوجاتنا بأيدينا، فتجد الرجل يقول لزوجته: غيري ملابسك هذه لكي نخرج، وقد تكون لابسة في بيتها ومحتشمة، ولا يرى شيئاً منها، ولكن عندما تغير ملابسها لكي يخرجوا للنزهة، فإنها تلبس أجمل ما لديها من ملابس، ولو رآها زوجها في الطريق لما عرفها. فلا شهامة ولا أخلاق إسلامية ولا دماء عربية، ولا غيرة على محارم الله عز وجل. والمصيبة الكبرى عندما تجد المرأة أمام المرآة تجمل نفسها لكي يذهبوا بها للسهرة، فتسأل زوجها عن رأيه في شكل شعرها وفي تجميل وجهها، وفي أحمر شفاهها، أشياء غريبة جداً، فتجد الرجل هو الذي يجهز زوجته لكي تخرج ويراها الناس وهي في كامل زينتها. سيدنا عثمان رضي الله عنه عندما شعر بأنهم سيقتلونه، قال لامرأته نائلة: ادخلي فاحتجبي، إن قتلي أهون عندي من أن يرى شعرك أجنبي. فالعرض غال جداً، ولكن لا حياة لمن تنادي، وما علينا إذا لم تفهم البقر. نسأل الله السلامة، فربما هؤلاء الناس يأكلون لحم خنزير. إذاً: فالمسلم تنقسم معاملاته إلى عبادات وعادات، فالبدعة تكون في العبادة وليست في العادة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ينه عن الأكل على طاولة قط، لأنها عادة. وكذلك عندما كان يأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يفرد رجله اليمين ويجلس عليها، وأحياناً يفرد رجله الشمال ويجلس عليها، ويأكل بثلاثة أصابع، ولكن أنت إذا أكلت بهذه الطريقة أو بطريقة أخرى فهذا جائز؛ لأن هذه عادة وليست عبادة. وإذا أردت الوصول إلى درجة عليا وطبقت أفعال الرسول في كل شيء فسمعاً وطاعة، لكن هذه أمور عادات وليست أمور عبادات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (خذوا عني مناسككم). قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلا يطولن عليكم الأمد، ولا يلهينكم الأمل، فإن كل ما هو آتٍ قريب، ألا وإن البعيد ما ليس آتياً]. البعيد الحقيقي هو الذي لن يعود، والقريب هو كل ما سيأتي أو سيعود يوماً ما وإن طال الأمد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ألا وإن الشقي من شقي في بطن أمه، وإن السعيد من وعظ بغيره]. يعني: أحياناً نسمع أن ولداً شتم أمه أو ضرب أباه، فتفسير هذه الحادثة أن الأب طلق زوجته ثلاث تطليقات، وهو رجل كثير الحلف بالطلاق، فبعد أن طلقها ثلاث تطليقات أو أكثر من ذلك أنجب هذا الابن، فهو ابنه وابنها، لكنه ابن حرام والعياذ بالله؛ لأن الواجب على الزوج ألا يطأ زوجته ولا يقربها لأنها أجنبية، فبعد أن تنقضي شهور عدتها يتقدم لها شاب عادي ويتزوجها، وبعد أن يعاشرها سنة أو سنتين أو عشراً أو عشرين سنة، أو أقل أو أكثر، وبعد ذلك طلقها أو توفي، فيجوز أن يتزوجها زوجها الأول، أما أن يأتي المحلل ويتزوج ويطلق في يوم واحد، ولا يكون هناك شهور عدة، ولم يدخل بها، فهذا هو الديوث الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على التيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: المحلل والمحلل له، لعن الله المحلل والمحلل له). فالابن الذي يشتم أباه أو يضرب أمه فهو قد شقي في بطن أمه؛ لأنه ليس ولد حلال، والعياذ بالله. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ألا وإن قتال المسلم كفر وسبابه فسوق]. قتال المسلم كفر، ومن سب أخاه المسلم فهو فاسق. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، حتى يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويعوده إذا مرض، ألا وإن شر الروايا روايا الكذب، ألا وإن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل]. فلا يكون المؤمن كذاباً، والكذب لا ينفع أن يكون في مزاح ولا في غيره. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا أن يعد الرجل صبيه شيئاً ثم لا ينجزه]. مثل أن يعد الأب ابنه بقوله: إذا نجحت فسوف أعطيك كذا، وإن سكت فسوف أعطيك كذا، ولا يفي بوعده. اللهم اجعل كتاب الفوائد فائدة لنا في الدنيا والآخرة، واجعلنا يا ربنا! جميعاً من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ووفقنا يا أرحم الراحمين! إلى ما تحبه وترضاه، وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك معافين، غير فاتنين ولا مفتونين، اجعل اللهم جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوما، ولا تجعل يا ربنا بيننا شقياً ولا محروما، لا تدع لنا في هذه الليلة العظيمة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أزلته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا رددته لأهله غانماً سالماً، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا شيطاناً إلا أبعدته عنا وطردته، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، اجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك؛ إنك يا ربنا على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على البشير النذير، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سلسلة شرح كتاب الفوائد [13]

سلسلة شرح كتاب الفوائد [13] أحسن الكلام كلام الله، وأحسن القصص قصص القرآن، ففيه شفاء القلوب وعلاج الأبدان، ولذلك فحامل القرآن يعيش مع الله متأدباً بآداب كتاب الله، ليله قيام ونهاره صيام.

من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر:23]، وقد ذكر فيه الكثير من القصص التي تحمل العظات والعبر، وتنطوي على الدروس التربوية والدعوية، وهي قصص صادقة وردت بأبلغ عبارة وأحسن كلام، ومن أعظمها قصة سيدنا يوسف عليه السلام، وقد أفرد الله تعالى لها سورة كاملة في كتابه الكريم، وقال في مقدمة هذه السورة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3]. ونقف في هذا اليوم مع ابن القيم رحمه الله في كتابه الفوائد وهو يتحدث عن هذه العظمة فيقول رحمه الله تعالى: [لو أن شخصاً أقسم بالطلاق أن يحكي لشخص أحسن قصة ولم يحك له قصة يوسف عليه الصلاة والسلام فإن امرأته تكون طالقاً؛ لأن الله يقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3]]، فعندما يحكي الرجل قصة ويقول: هذه أحسن قصة ويقسم بالطلاق، فإن الطلاق يكون واقعاً. وأحسن القصص عند الله القرآن الكريم، فلو أن شخصاً حكى لك حكاية وقال: أقسم بالله العظيم سأحكي لك حكاية لم تسمع أعظم منها، ويحكي حكاية من غير القرآن ومن غير قصة سيدنا يوسف، فلابد أن يكفر عن يمينه، وإن حلف بالطلاق فتكون امرأته طالقاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأشرف الحديث ذكر الله، وخير القصص القرآن، وخير الأمور عواقبها]. ولذلك يقال: والعاقبة عندكم في المسرات. قال: [وشر الأمور محدثاتها، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى]. أي: الذي يقل ويكفيك أحسن من الذي يكثر ويطغيك، وقليل تشكره خير من كثير لا تطيقه، فأنت تأخذ قليلاً من القمح وتستطيع أن تأخذه، أما إذا أخذت كمية كبيرة وتريد أن تحمله فإنك لا تستطيع أن تحمله، إذاً: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى. قال: [ونفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها]. أي: عندما تنجي نفسك خير من أن تأخذ كرسي الوزارة. قال: [وشر المعذرة حين يحضر الموت]. أي: أسوأ الاعتذارات عندما يأتي الموت، فلا ينفع هذا الاعتذار. قال: [وشر الضلالة الضلالة بعد الهدى]. ولذلك لابد أن تدعو الله وتقول: اللهم إني أعوذ بك من السلب بعد العطاء؛ لأن الله عندما يعطي شخصاً شيئاً ثم يسلبه منه فهذه مصيبة، وليس لها عوض، اللهم ثبت تقوانا وإيماننا يا رب العباد. قال: [وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، وخير ما ألقي في القلب اليقين، والريب من الكفر] فالريب -أي: الشك- درجة من درجات الكفر والعياذ بالله. قال: [وشر العمى عمى القلوب] وقال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. قال: [والخمر جماع الإثم] أي: أم الكبائر. قال: [والنساء حبائل الشيطان]. قال الله في السارق: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، وقال في الزنا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]، ففي السارق بدأ بالرجل أولاً؛ لأنه في الغالب هو الذي يسرق، وفي الزنا بدأ بالمرأة؛ لأنها هي التي تفتن في الغالب. قال: [والشباب شعبة من الجنون، والنوح من عمل الجاهلية]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ناحت على ميت ولم تتب كأنما أخذت حربة تحارب بها رب العباد، أو كمن هدمت الكعبة بيديها، ومن ناحت على ميت ولم تتب بعثت يوم القيامة ناشرة شعر رأسها، عليها سرابيل من قطران، تأخذها الملائكة إلى النار، ويتولون لها: ادخلي النار ونوحي على أهلها كما تنوحين في الدنيا)، فهل هناك أسوأ من هذه الجنازة، وهل هناك أسوأ من هذه المندبة؟! وعندما يموت الميت تحضر الملائكة مباشرة وتؤمن على أي قول يقال، فإن قيل: اللهم صبرني، تقول: اللهم صبره يا رب! وإن قيل: اللهم أنزل علي السكينة، تقول: اللهم أنزل عليه السكينة فتنزل، وإن قيل: وامصيبتاه! تقول الملائكة: مصيبة دائمة إن شاء الله، وإن قيل: يا ذا الحزن! تقول: حزن دائم إن شاء الله، وإن قيل: أين نذهب؟ ليس لنا أحد، تقول: اللهم لا تجعل له أحداً يا رب العباد، وهكذا تؤمن الملائكة على الدعاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حضرتم الميت فلا تقولوا إلا خيراً؛ فإن الملائكة تؤمن على دعائكم). فالمصيبة أن هذا الكلام يسمع فإذا حصل الموت فإنهم يقولون هذا الكلام، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مروا على امرأة جالسة بجانب القبر تبكي وتنتحب، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصبري يا أمة الله ولك الجنة، قالت له: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، فقيل لها: أتدرين من هذا؟ قالت: لا، قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجرت وراءه، وقالت: أصبر يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى). قال: [ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبراً، ولا يذكر الله إلا هجراً]. دبراً: أي: متأخراً، ومعلوم أن الإمام إذا صعد على المنبر انتهى الموضوع بالنسبة للمتأخر وضاع ثواب الجمعة، لكن الصحابة كانوا يجعلون يوم الجمعة عيداً، فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر ويمكث في المسجد حتى الضحى، ثم يخرج فيغتسل، وينظر ماذا يريد أهل بيته، ثم يعود إلى المسجد؛ ففي يوم الجمعة يجمع المسلمون في بيت الله. قال: [ومن أعظم الخطايا اللسان الكذاب، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يغفر يُغفر له، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله]. يعني: يبدله خيراً. قال: [وشر المكاسب كسب الربا، وشر المأكل مال اليتم، وإنما يكفي أحدكم ما قنعت به نفسه، وإنما يصير إلى أربعة أذرع]. أربعة أذرع يعني: ثلاثة متر، والمقصود: القبر، فكل الأتعاب والراحة في الدنيا تنتهي، ولا يأخذ أحد في القبر أكثر من ثلاثة أمتار: متران طولاً ومتر عرضاً، ففي هذه المنطقة المظلمة يضعون الميت ويقفلون عائدين، فهم مسافرون يبكون على مسافر قد وصل. وقد قيل لبعضهم: لم خلق الله الذباب؟ قال له: ليذل به المتكبرين.

آداب حامل القرآن

آداب حامل القرآن قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون]. فالذي يحفظ القرآن هل ينام؟! سئل الإمام أبو حنيفة: في كم تختم القرآن؟ فتبسم وقال: في الصلاة أم في غير الصلاة؟ قالوا: في الصلاة، قال: في صلاة الليل أم في صلاة النهار؟! قال: [أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون]. ولماذا يفرح؟ أليس قارئ القرآن يعرف ما حل بقوم نوح وقوم لوط وعاد وثمود وغيرهم؟ ويعرف ماذا يحدث للناس في النار ودركات جهنم وما فيها من العذاب؟ قال: [وببكائه إذا الناس يضحكون]. أي: دائماً تجد على عينيه آثار الدموع من أثر الخشية. قال: [وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حكيماً حليماً سكيناً، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً، ولا غافلاً ولا صخاباً ولا صياحاً، ولا حديداً]. يعني: لا يكون كثير الصياح ولا يكون قاسياً في المعاملة وإنما يكون ليناً.

التواضع وأثره وتأثير الملك والشيطان في سلوك الناس

التواضع وأثره وتأثير الملك والشيطان في سلوك الناس قال المؤلف رحمه الله تعالى: [من تطاول تعظماً حطه الله، ومن تواضع تخشعاً رفعه الله]. فـ قارون تعالى على قومه وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، فقال الله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]. قال: [وإن للملك لمة، وللشيطان لمة]، يعني: الملك له معك جولة، والشيطان كذلك له جولة. قال: [فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، فإذا رأيتم ذلك فاحمدوا الله]. يعني: عندما تلقى الطمأنينة في نفسك، وحضورك لمجلس العلم، وتريد أن تفتح المصحف لا تغلقه، وتريد أن تصلي باستمرار، وتريد أن تعمل خيراً وتريد أن تصل الرحم، فكل هذه ساعة لمة الملك. قال: [ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فإذا رأيتم ذلك فتعوذوا بالله. إن الناس قد أحسنوا القول، فمن وافق قوله فعله فذاك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فذاك إنما يوبخ نفسه. لا ألفين -يعني: لا أجدن- أحدكم جيفة ليل قطرب نهار]. يعني: نائماً مثل الجيفة المنتنة، والقطرب: ذكر النحل، يعني: في النهار مثل النحلة ذاهباً للعمل وآتياً منه، لكن يأتي في الليل فيقوم بين يدي الله سبحانه ولا ينام، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} [المزمل:20] وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أغلب أوقاته صلاة، فجربوا ركعتين في جوف الليل والناس نائمون ولا أريد إيحاءات ولا كلمات تشير إلى أن بعضاً منكم يقوم الليل؛ لأن هذا سر بين العبد وربه. وكل واحد منا له باب يدخل به على الله، فمنا من بابه في الصيام مثلاً، والآخر بابه كثرة قراءة القرآن، والآخر بابه الصدقات، وذاك بابه صلة الرحم، وهذا بابه حضور مجالس العلم، وهذا بابه المذلة لله، وهذا بابه كثرة الذكر، وهذا بابه قيام الليل، وهذا بابه العطف على الأرملة واليتامى، فكل واحد له باب. قال: [من لم تأمره الصلاة بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بها من الله إلا بعداً]. إن الصلاة قد تقرب صاحبها إلى الله وقد تبعده من الله، والصلاة التي تقرب إلى الله هي التي تخلو من الكذب والغيبة والنميمة وقلة اليقين، فالصلاة عبارة عن يقين بالله عز وجل بأن أكون بما في يد الله أكثر ثقة مني بما في يدي، إذاً: يكون عند العبد توكل على الله وصدق ويقين، ويعرف أن الله سبحانه وتعالى سوف يرزقه في الوقت الذي يريد وفي المكان الذي يريد. قال: [ومن أنزل همه بالله زال، ومن أنزل همه بالناس زاد]. أي: من أنزل همه بالله زال باللام، ومن أنزل همه بالناس زاد بالدال. قال: [من اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله]. أي: لا ترض الناس وتغضب الله، والذي يعد فرحاً لابنه في الفندق فإنه يغضب الله سبحانه. قال: [ولا تحمد أحداً على رزق الله] أي: عندما يرزقك الله لا تفكر أن هذا شخص أتى به إليك. قال شقيق البلخي لحاكم أسوان: أين كنت؟ قال: كنت عند عالم في الشام يقول كلاماً جيداً، قال: أخبرني ماذا قال؟ قال: لو كانت السماء من فضة والأرض من حديد، لا السماء تمطر قطرة من مطر ولا الأرض تنبت نبتة من زرع، وفيما بين المشرق والمغرب عيال ما حملت هم رزقهم، لعلمي أن الله سوف يرزقهم، فماذا قال له شقيق: لا تجلس معه مرة أخرى إن هذا عالم سوء، قال له: كيف ذلك؟ قال له: كيف يجري ذكر الرزق على لسانه أولم يقرأ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، يعني: مسألة ذكر الرزق ليست جيدة، لأنها قاعدة أننا مادمنا موجودين فرزقنا جار، فهو قانون بديهي مثل ألف وباء، ولو فر ابن آدم من الرزق كما يفر من الموت لأدركه الرزق كما يدركه الموت، ولو ركب ابن آدم الريح ليلحق برزقه لركب الرزق البرق فسبقه ثم دخل في فمه، ولو رجا الإنسان الجنة كما يرجو الغنى لفاز بهما جميعاً، ولو خاف من النار مخافته من الفقر لنجا منهما جميعاً، ولو خاف من الخالق كما يخاف من المخلوق لسعد في الدنيا والآخرة. ولا يعرف المؤمن إلا بالعقيدة، فما حالة المسلمين في هذا الزمان إلا لأن العقيدة ضعيفة، فتسمع الشخص يقول: نخاف من الناس ومن كلامهم فإنهم يستهزئون منا. إن الذي يريد أن يستهزئ فليستهزئ، فإن هذا كله بثوابه إن شاء الله طالما أنك ترضي الله عز وجل، اللهم اجعلنا من الذين يحاولون أن يرضوك يا رب العباد وترضى عنهم يا أكرم الأكرمين! قال: [ولا تلم أحداً على ما لم يؤتك الله]. لو أنه جيء لك ببعثة، فإذا بالمدير الذي أنت تتبعه كان سبباً في أنك لم تسافر، فهل تقول: هو الذي لم يجعلني أسافر، أو أن الله هو الذي لم يأذن؟ فإذا أخذت في نفسك عليه؛ فإن ذلك لضعف يقينك، ولو كان عندك قوة يقين لرضيت بأن قدر الله يجري مجراه، كذلك لو أن صبياً يريد أن يقطع الشارع فصدمته سيارة، وانكسرت رجله، وإذا لم تصدمه السيارة، هل كانت رجله ستنكسر؟ نعم كانت ستنكسر بإرادة الله وفي نفس الوقت. كذلك لو أن الولد مات في حادث سيارة لو أن السيارة لم تصدمه هل كان سيموت أم لا؟ نعم، كان سيموت بقدر الله. وعلى سبيل المثال: لو أن هناك رجلاً جالساً في المطار ومنتظراً ميعاد الطائرة، وهو رجل أعمال، وأخرج الشنطة ليتفقد بعض الأشياء، فاندمج في حساباته وإذا بالطائرة تطير فغضب وحزن؛ لأنه كان عنده اجتماع في روما أو في أي مكان، فمكث قليلاً مشغولاً، حتى دخل المطار وجلس بداخله وأكمل إجراءاته والطائرة فاتته، وقدر الله لهذه الطائرة أن سقطت عندما فارقت المطار بقليل ومات من فيها، وذلك الرجل مازال جالساً، فأتى شخص آخر يهزه فإذا به وجده قد مات، فقد قدر أن يموت معهم في نفس الوقت ولكن ليس في الطائرة، فعندما يأخذونه وهو ميت يقولون: الحمد لله أننا وجدنا جثته، اللهم الطف بنا فيما جرت به المقادير. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن رزق الله لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهة كاره] عندما يريد شخص أن يجلب لك مصلحة أو مناقصة، وأنت تكره ذلك ولا تريده، فوالله لو كان ذلك من نصيبك فإن الدنيا كلها لو وقفت ضدك لا تستطيع أبداً أن تمنع شيئاً قد كتبه الله لك. قال: [وإن الله بقسطه] يعني: بعدله، وحلمه. [جعل الروح والفرح في اليقين والرضا]. والروح: الراحة. [وجعل الهم والحزن في الشك والسخط]. قال: [ما دمت في صلاة فأنت تقرع باب الملك، ومن يقرع باب الملك يفتح له]. قال: [إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها]؛ لأن الذنوب تنسي العلم وتضيع النعم. قال: [كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى أحلاس البيوت سرج الليل جدد القلوب] يعني: قلوبكم جديدة بالإيمان باستمرار. قال: [خلقان الثياب، تعرفون في السماء وتخفون على أهل الأرض. إن للقلوب شهوة وإدباراً فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها ودعوها عند فترتها وإدبارها]. عندما تلقى قلبك مقبلاً على الطاعة فأكثر من الطاعات، وعندما تلقى القلوب كلت وملت وتعبت ولا تريد فاتركها. قال: [إنكم ترون الكافر من أصح الناس جسماً وأمرضه قلباً، وتلقون المؤمن من أصح الناس قلباً وأمرضه جسماً، وأيم الله -يعني: والله- لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان] والجعلان: جمع جعل، أي: دويبة.

حقيقة الإيمان

حقيقة الإيمان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته ولا يحل بذروته -يعني: أعلى شيء في الإيمان- حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والتواضع أحب إليه من الشرف، وحتى يكون حامده وذامه عنده سواء] يعني: الذي يشكرك والذي يشتمك يستويان عندك، إذاً: أنت بلغت ذروة الإيمان، ونحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، إن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها وكراهية من أساء إليها. قال ابن مسعود: لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً. قال عطاء بن أبي رباح: انظر إلى المرآة كل يوم وأخشى أن يسود وجهي من ذنوبي. وقد عاش عطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب خمسين سنة من البيت إلى المسجد، ولم يريا قفا مصلٍ طوال خمسين سنة. قال: [وما منكم إلا ضيف وماله عارية -عارية يعني: أمانة- والضيف مرتحل والعارية مؤداة إلى أهلها، يكون في آخر الزمان أقوام أفضل أعمالهم التلاوم]. أي: أحسن شيء عندهم أنهم يلوم بعضهم بعضاً. وقد سماهم ابن مسعود الأنتان. قال: [إذا أحب الرجل أن ينصف من نفسه، فليؤت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه]. أي: أريد أن آخذ من معاملة الناس لي المعاملة التي أحب أن يعاملوني بها. قال: [من استطاع منكم أن يجعل كنزه في السماء حيث لا يأكله السوس ولا يناله السراق فليفعل، فإن قلب الرجل مع كنزه]. قال: [لا يكن أحدكم إمعة، قيل: وما الإمعة؟ قال: يقول: أنا مع الناس إذا اهتدوا اهتديت وإن ضلوا ضللت، ألا ليوطنن أحدكم نفسه على أنه إن كفر الناس لا يكفر. اعبد الله لا تشرك به شيئاً وزل مع القرآن حيث زال، ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيداً بغيضاً، ومن جاءك بالباطل فاردد عليه وإن كان حبيباً قريباً]. يعني: لو جاءني الحق من عدو أقبله، والباطل إن جاءني من حبيبي أرده؛ لأنه لا داعي له انتهى كلام ابن مسعود رضي الله عنه.

ذكر ما جاء في التوبة

ذكر ما جاء في التوبة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الجنيد: دخلت على شاب فسألني عن التوبة فأجبته، فسألني عن حقيقتها، فقلت: أن تنصب ذنبك بين عينيك حتى يأتيك الموت فقال لي: مه -أي: اسكت- ما هكذا حقيقة التوبة، قلت: فما حقيقة التوبة عندك يا فتى؟! قال: أن تنسى ذنبك، وتركني ومضى، فقلت: القول ما قال الفتى، قال: كيف؟ قلت: إذا كنت معه في حال، ثم نقلني من حال الجفاء إلى حال الوفاء، فذكري للجفاء في حال الوفاء جفاء]. فأنا عندما أكون مع الله في حالة من المعصية فهي حالة جفاء، أي: بيني وبين الله جفاء وبعد، فلما أتوب وأطيع فإن هذه حالة من حالات الوفاء، فهو يخبر أنه لما كان في حالة الجفاء نقله إلى حالة الوفاء، فذكر الجفاء في حالة الوفاء جفاء، يعني: ما دام تائباً فلا يذكر الذنب؛ لأنه عندما يتوب توبة صادقة يمحو الله الذنب فلا تشهد عليك الأرض ولا الجوارح ولا السماء ولا الليل ولا النهار ولا الشمس ولا القمر؛ لأنه لا يوجد ذنب، اللهم تب علينا توبة خالصة نصوحاً يا أكرم الأكرمين! واجعلنا من التائبين، إن ربنا على ما يشاء قدير. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سلسلة شرح كتاب الفوائد [14]

سلسلة شرح كتاب الفوائد [14] لا قبول للعمل إلا بالإخلاص، وعلامة الإخلاص أن يستوي عندك المدح والذم، وإذا انتفى الإخلاص حبط الأجر، وجاء الشرك الذي يبنى على أربعة أركان، وهي الكبر والحسد والشهوة والغضب، والتي منشؤها من الجهل بالله وبحقيقة النفس.

ذكر ما جاء في الإخلاص ومحبة المدح والطمع فيما عند الناس

ذكر ما جاء في الإخلاص ومحبة المدح والطمع فيما عند الناس الحمد لله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. أما بعد: ندعو الله عز وجل أن يجعل جمعنا هذا برحمته جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً. اللهم لا تجعل بيننا شقياً ولا محروماً، فك اللهم الكرب عن المكروبين، اللهم فك الكرب عن المكروبين، اللهم فك الكرب عن المكروبين. واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم أمواتنا وأموات المسلمين، وإن أردت بعبادتك فتنة فاقبضنا إليك معافين غير فاتنين ولا مفتونين، وغير خزايا ولا ندامى ولا مبدلين. اللهم لا تدع لنا في هذه الليلة العظيمة وفي هذا الشهر العظيم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا قصمته، ولا صاحب حاجة إلا قضيتها له، ولا ضالاً إلا هديته ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا غانماً سالماً لأهله رددته. اللهم اطرد عن بيوتنا شياطين الإنس والجن، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، كن لنا ولا تكن علينا، ثقل بهذه المجالس موازيننا يوم القيامة. اللهم ثقل بها موازيننا يوم القيامة، اللهم اجعلها خالصةً لوجهك الكريم، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، اجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: ما زلنا مع ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه العظيم الفوائد، فاللهم اجعله لنا فوائد في الدنيا والآخرة يا أكرم الأكرمين! يقول ابن القيم رحمه الله: [لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة النفس والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت]. إن ابن القيم يجمع بين المتضادات، والمتضادات لا تجتمع أبداً، فهو يريد أن يقول: إنك لا تجمع الماء مع النار، ولا تجمع الضب مع الحوت، ولا تجمع الأسود مع الأبيض، كذلك لا تستطيع أن تجمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء، يعني: إن أحببت أن يمدحك الناس ويثنوا عليك فأنت لست مؤمناً. إذاً: هذه علامة جديدة من علامات المخلص، فالإنسان المخلص سواء مدحه الناس أو لم يمدحوه فإنه لا يتغير، وإنما هو مجبول على الإخلاص لله عز وجل. وإخلاص العبد فيه ثلاث صفات: أن العبد لا يطلع عليه فيعجب به، ولا الشيطان يطلع على إخلاص العبد فيفسده ولا الملك المقرب يكتبه، إنما المطلع الوحيد على إخلاص العبد هو الله. فـ ابن قيم الجوزية يضيف علامة جديدة من علامات إخلاص القلب لله عز وجل، أن الإنسان وهو يعمل لله لا يريد ثناءٍ من العبد ولا مدحاً، بل بالعكس يحب عدم المدح أكثر من المدح؛ ولذلك قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)، وكان سيدنا أبو بكر إذا مدحه أحدهم يقول: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون واجعلني خيراً مما يظنون، يعني: هناك أشياء لا يعرفها الناس عنه، ولذلك من كرم الله سبحانه وتعالى أن جعل الستر، ومن كرمه سبحانه أن العبد الذي يستره الله في الدنيا لم يفضحه يوم القيامة وهذا من ستر الله أيضاً، وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى سيكرم العبد؛ لأنه إن ستره في الدنيا فلن يفضحه على رءوس الأشهاد يوم القيامة، اللهم يا من سترت في الدنيا! لا تفضحنا على رءوس الأشهاد يوم القيامة آمين يا رب العالمين! هكذا كان يدعو أبو بكر في صلاته، فإن فضيحة الآخرة مسألة لا علاج لها، نسأل الله السلامة، ونسأل الله أن يسترنا وإياكم دنيا وأخرى، وأن يجعل كل أعمالنا مستورة عنده عيبها وشرها وانحرافها، إنه سبحانه على ما يشاء قدير. وقد صلى الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات زرافات ووحداناً، يعني: جماعات وفرادى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني)، يعني: لا تمدحوني، وقد كان بعض الصالحين إذا مُدح يقول: اللهم أنت أعلم مني بنفسي فاغفر لي ما لا يعلمون واجعلني خيراً مما يظنون، وأخذوا هذا الدعاء من أبي بكر رضوان الله عليه. ولذلك يقول الله عز وجل: يا ابن آدم إذا أصبتك بمصيبة شكوتني إلى عوادك وزوارك، وكم من عمل قبيح منك يصعد إلي في الليل والنهار فلا أشكوك إلى ملائكتي. فالله سبحانه وتعالى يعاملنا بهذا اللطف ونحن نتعامل معه بهذا الأسلوب، هو لا يشكونا إلى ملائكته، قال أحد الصالحين: ابن آدم لو سمعت وصفك من غيرك لاحتقرت الموصوف وأنت لا تعرف أنه أنت، أي: لو أن شخصاً وصف لك نفسك لقلت: إن هذا سيئ، قال سبحانه: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} [المعارج:38]، وطلب الجنة بلا عمل إثم من الآثام، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فالإيمان تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان. إذاً: لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة النفس والثناء والطمع فيما عند الناس، فالإنسان إذا كان يطمع فيما عند الناس، فليس عنده إخلاص، فإنه لو كان عنده إخلاص لا يطمع إلا فيما عند الله، فإذا طمع الإنسان فيما عند الله، فقد طمع في الخير كله، ومادام ربنا سبحانه وتعالى بيده خزائن ومفاتيح السماوات والأرض، فاللهم افتح لنا أبواب رحمتك يا أكرم الأكرمين! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس]. بدأ ابن القيم أسلوبه بهذه الطريقة، يقول: أتريد أن تكون مخلصاً مقدماً على الإخلاص؟ اذبح الطمع الذي يعتريك بسكين اليأس من الناس والأمل في الله. ومادام أنني يئست من الناس فإن أملي يكون في الله فقط. قال: [فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة]. دخل رجل على هارون الرشيد رحمه الله، فرأى القصور والجواري، وكانت ثياب هذا الرجل ليست مناسبة للمقام، فقال هارون الرشيد: إنك لرجل زاهد، قال الرجل: يا أمير المؤمنين! أنت أزهد مني، قال: كيف ذلك؟ قال: أنا زهدت في دنيا فانية، وأنت زهدت في آخرة باقية! وللأسف الشديد نجد أن تاريخ المسلمين كتبه علماء الغرب المستشرقون الذين يكنون للإسلام كل شر، فصوروا لنا هارون الرشيد أنه لا يسمع إلى العلماء، مع أنه كان مجلسه مجلس علم وفقه وأدب وقد دخل عليه هذا وقال له أمير المؤمنين ما قال، ورد الرجل على أمير المؤمنين ولم يغضب أمير المؤمنين، لكن لو أن واحداً من زماننا هذا قال لرئيس دولة ذلك فلا ندري ما الذي سيحصل لهذا المسكين؟! فذاك يقول: أنا ابن رجل من القريتين عظيم، والثاني: يقول: أنا ابن أمير المؤمنين، لكن لسان حال هذا المسكين يقول: أما أنا فابن من أمر الله الملائكة أن تسجد له. قال الشاعر: ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبياً يعني: يا رب أنا من ضمن عبادك، وأرسلت أحمد لي نبياً، وأنا أتبعه صلى الله عليه وسلم.

الأشياء التي تجعل عاشق الدنيا يزهد في الآخرة

الأشياء التي تجعل عاشق الدنيا يزهد في الآخرة فإن قيل: ما الذي يجعل عاشق الدنيا يزهد في الآخرة؟ A عاشق الدنيا والعياذ بالله يشرب خمراً، فأنت أيها المسلم! إن حرمت على نفسك الخمر فإن الله يرزقك في الآخرة بخمر لا يسكر العقول، لكن عاشق الدنيا يقول: يا فلان! عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة، واليوم هو اليوم وغداً يموت. فإن قلت له: إنك يا أخي! إن لم تصل الآن فستصلي في جهنم؟ فإنه يقول: يا فلان! لا تشددوا علينا، وهكذا. فإذا كنت تريد أيها المؤمن أن تكون مخلصاً فازهد في المدح والثناء زهد عشاق الدنيا في الآخرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص، فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقيناً أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئاً سواه]. يعني: الشيء الذي أزهد فيه يؤثر عند الناس، أي: أطمع فيما في يد الله عز وجل؛ لأن الذي في يد الناس قد يزول، ولكن ما عند الله لا يزول. فقد تقول: عنده أولاد وليس عندي أولاد، وعنده أموال وليس عندي شيء، وعنده خير وليس عندي خير، وهذا لا ينبغي، إذ إن الحسد لا يكون إلا في اثنتين: مسألة العلم وهو يعلم في ابتغاء وجه الله، ومسألة المال ينفقه في سبيل الله، فتقول: أريد أن أكون مثل فلان كي أنفق مثله، وبذلك لا يحسد مسلم مسلماً أبداً، وإنما يغبطه أي: يتمنى أن يكون عنده ما عند صاحبه ولا يتمنى زواله منه. والذي يسهل عليك الذبح علمك يقيناً أنه ليس من شيء يطمع فيه، إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره ولا يؤتي العبد منها شيئاً سواه. قال: [أما الزهد في الثناء والمدح فيسهله علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين، ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده]. يعني: أنا حريص على ثناء الناس وأفرح إذا أثنوا علي، وأغضب عندما يشتمني الناس ويذمونني وأحزن، وهذا خطأ، إذ الذي يفرحك مدح الله لك وثناؤه عليك، والذي يحزنك ذم الله لك، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]، فعندما يثني الله على العبد فهذا هو حرصه عليه، وعندما يذم الله عز وجل العبد والعياذ بالله فهذه هي المسألة التي لابد أن نكون منها في خوف ووجل، ويريد ابن القيم أن يقول: إن المسلم بمدح الله له وذم الله له، فإن عمل خيراً يمدحه الله عز وجل ويقول: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، وإن عمل شراً يقول: يا جبريل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم توضع له البغضاء في الأرض. مثلاً ليس كل مصل بمصل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رءوسهم شبراً: عاق لوالديه، ومدمن الخمر، والديوث)، فهذه المسائل كلها في ذم الله، فالله عز وجل يمدح المؤمن المستقيم على الطريق ويذم الفاسق المنحرف عن الطريق. وقد يمدح الناس إنساناً يكون من أهل النار، صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ألسنة الخلق أعلام الحق)، ويقول: (أنتم شهداء الله في الأرض)، لكن الذي يشهد له بشهادة الله عز وجل ظاهره قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربما يعمل أحدكم بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ستين سنة، ثم لا يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيكون من أهلها فيدخلها، وربما يعمل أحدكم بعمل أهل النار ستين سنة فيما يبدو للناس، ثم لا يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيكون من أهلها فيدخلها). إذاً: نحن لنا ظواهر الأمور فقط. قال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن مدحي زين وذمي شين)، أي: لو مدحتك سأزينك، ولو ذموتك سأشينك -يعني: أقلل من مقامك- فقال: (ذاك هو الله عز وجل) يعني: المدح الذي يزينني والذم الذي يشينني هو الله، فالناس لا يهم مدحهم ولا ذمهم، إذ إن المهم هو النصر للمؤمن في الأخير في دار الحق إن شاء الله رب العالمين. إذاً: فازهد في الدنيا، وازهد عندما يقول الناس جميعاً شعوباً وحكاماً: المحجبات والمنقبات وأصحاب اللحى والمساجد هم الذين أودوا بالبلاد في الدواهي، أليس هكذا يقولون؟ بلى، هم يقولون ذلك، حتى أوقعوا في عرف الناس أنهم إذا رأوا في الطريق ملتحياً أو منقبة أو مخمرة أو امرأة محجبة ذاهبة إلى المسجد مباشرة يقولون: هذا تطرف، متطرفة متشددة، ليس هكذا الدين، الدين يسر وليس عسراً. فإذاًَ: ذم الناس لك على حضورك مجلس العلم أو الاستهزاء بالمحجبة لا يشين بالمسلم ولا بالمسلمة، إنما الذي يشينك ذم الله لك، قال الشاعر: إذا رضيت عني كرام عشيرتي فلا زال غضباناً علي لئامها وإن رضيت عني لئام عشيرتي فلا زال غضباناً علي كرامها يذكر أن صحفياً نصرانياً مشهوراً بنصرته للنصارى كان يذم أحد العلماء قبل أسبوعين في الجرائد، وهذا يدل على أن الرجل سيئ والعياذ بالله، فالمسلم يهمه مدح الله أو ذمه، اللهم اجعلنا من الذين مدحتهم بأعمالهم يا رب العالمين! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه، ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60]]. أي: في نصره ومؤازرته؛ لأنه يدافع عن الذين آمنوا. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، فهؤلاء لديهم صبر ويقين، إذاً: الذي ليس عنده يقين ليس عنده صبر، والذي عنده صبر عنده يقين. يقول أبو بكر رضي الله عنه: الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله. ويقول الإمام علي رضي الله عنه: لو كشف عني الحجاب لما ازددت من الله قرباً. وقيل لـ أبي بكر رضي الله عنه: إن صاحبك يزعم أنه ذهب إلى المسجد الأقصى وصعد إلى السماء السابعة، فقال لهم: إن قال ذلك فقد صدق، فقال أبو جهل: إن كنت صادقاً فصفه لنا يا محمد! ولو أن شخصاً ذهب بالليل عشر دقائق ودخل جامعاً كبيراً مثل هذا وليس فيه أنوار ماذا سيصف؟! فنقل جبريل المسجد الأقصى على كتفه أمامه، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يصف المسجد الأقصى، فسمي أبو بكر يومها بـ الصديق؛ لأنه يصدقه في مسألة غيبية. يروى أن خزيمة بن ثابت الأنصاري وجد يهودياً واقفاً يقول: يا محمد! أعطني ديني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لقد قضيتك دينك، فقال اليهودي: لم تقضني ديني، فقال خزيمة رضي الله عنه: لقد أخذت دينك أيها اليهودي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتني وأنا أعطيه يا خزيمة! دينه البارحة؟ قال: لا، لقد كنت مسافراً منذ ثلاثة أيام يا رسول الله! ما حللت المدينة إلا الساعة، قال: فلم تشهد على شيء لم تره؟! قال: عجباً يا رسول الله! أأصدقك في خبر السماء وأكذبك في دين يهودي؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من شهد له خزيمة فهو حسبه.

أركان الكفر

أركان الكفر إن أركان الكفر -والعياذ بالله- أربعة، لكن الناس يظنون أن ما بينهم وبين الكفر مثلما بين الشرق الأقصى والمغرب العربي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أركان الكفر أربعة: الكبر والحسد والغضب والشهوة].

مفاسد الكبر

مفاسد الكبر قال: [فالكبر يمنعه الانقياد] أي: الانقياد للحق وللكتاب والسنة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل يأكل بشماله: (كل بيمينك، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت ما منعه إلا الكبر، قال: فما استطاع أن يرفعها بعد ذلك)، وسبب امتناعه وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما منعه إلا الكبر)، يعني: الكبر هو الذي جعله يمتنع أو يرفض أن يأكل بيمينه، فالكبر يمنعه من الانقياد. جاء شخص إلى أناس يحضرون محاضرتي لهم يوم الأربعاء فقال: من الذي يحاضركم كل يوم أربعاء؟ فقالوا له: شيخ اسمه فلان. فلما دخلت نظر إلي هذا الشخص، واستمع للمحاضرة، وإذا به بفضل الله أصبح صديقاً لي والحمد لله، وأصبح يزورني، فحكا لي كيف أحبني فقال: في الحقيقة أنا جلست أولاً هكذا -يعني: لا تغضب مني- وضعت رجلاً على رجل، فلما وجدت الكلام جيداً ابتدأت أنزل رجلي، ثم بدأت أجتمع معك، ثم بدأت أعدل ظهري، ثم بدأت أجري وراءك في كل منطقة. قلت: وذلك بسبب التواضع، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعاً، ومن تواضعه أنه كان يجعل الصحابة يمشون أمامه ويقول: (خلوا ظهري لملائكة ربي)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبقوني في ركوع ولا سجود، قالوا: أوترانا يا رسول الله؟! قال: أتظنون أن قبلتي بين عيني، إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من أمامي). وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نبأ السيدة عائشة رضي الله عنها بما قالت، فقالت عائشة رضي الله عنها: {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} [التحريم:3]. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدير غزوة مؤتة وهو جالس في المدينة ويقول: قتل زيد رفع الراية جعفر قتل جعفر، رفع الراية عبد الله بن رواحة، وقد وقعت هذه الغزوة في شمال فلسطين، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المدينة يترجم الأحداث. إذاً: الكبر يمنع العبد من الانقياد، فـ أبو جهل -والعياذ بالله- قال: تسابقنا نحن وبنو عبد مناف، فقالوا: لنا السقاية ولنا السدانة، وقلنا: لنا الراية والجيش في الحرب، فقالوا: منا نبي فأنى ندرك هذا الشرف؟ والله لا نؤمن به أبداً، فما منعه من الإيمان إلا الكبر، قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57]، فهم يعرفون أن الرسول على هدى، لكن الذي منعهم من الإيمان به هو الكبر. كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً بجانب عمه أبي طالب وهو يموت، وكان يقول له: (قل يا عماه! لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)، وكان عمه أبو طالب إذا نظر إلى أخيه أبي لهب قال له أبو لهب: يا رجل لا تفتضح أمام العرب بعد أن تموت، فإنهم سيقولون: الرجل غير دينه عند موته، وكان إذا نظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عماه! قلها). ويروى أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي! ألم تشفع لعمك عند ربك؟ قال: (لقد شفعت يا عماه! قال: وماذا أعطاه؟ قال: يوضع في ضحضاح من النار يلبس أبو طالب نعلين من نار يغلي منهما دماغه) وهذا أخف عذاب في النار والعياذ بالله.

مفاسد الحسد والغضب

مفاسد الحسد والغضب قال المؤلف رحمه الله: [والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها]. أي: أن الإنسان الحسود لا يقبل نصيحة؛ لأنه حسود يكره أن يأخذ نصيحة من غيره، ومن الحسد أن تكون عنده معلومة ولا يريد أن يقولها، وهذا ألعن أنواع الحسد. قال: [والغضب يمنعه العدل]. جاء رجل متهم أمام شريح القاضي أتى بدليل البراءة يقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19]، قال: هذا في الآخرة، قال له: نعم، في الآخرة سوف يؤتى بحسناتي وسيئاتي، أما أنتم فلن تأتوا إلا بسيئاتي فقط! يعني: أنتم في الجلسة لا تذكرون إلا عيوبي. كذلك البنت عندما تحكي لأمها عيوب زوجها فإنها لا تأتي بمحاسنه، بل تقول عنه: كل يوم يأتي بأصحابه إلى البيت فقط، فإن سألتها أمها: هل يصلي؟ أليس له حسنات أخرى؟ تقول: لا، فهي لا تذكر حسنات زوجها؛ لأنها في حالة غضب، أما لو كانت الزوجة في حالة من حالات الرضا، أو الزوج في حالة من حالات الرضا، أيعدل أم لا؟ فالعدل يأتي من السكن النفسي والسلام الداخلي، والغضب يمنع الإنسان من العدل، وأسوأ شيء يصاب به ابن آدم أن يكون سريع الغضب؛ لأنه عندما يغضب ابن آدم فإنه يكون في يد الشيطان مثل الكرة في يد الصبي يقلبها كيف يشاء. ويعطينا النبي صلى الله عليه وسلم العلاج لذلك، فيقول: (اذهب وتوضأ؛ لأن الغضب من الشيطان والشيطان من النار ولا تطفأ النار إلا بالماء) ومن غضب وهو واقف يجلس، فالغضبان لابد أن يغير حاله كما أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم وهي مسألة طبية بحتة، والشيطان له مداخله، ويحب دائماً أن يفرق بين أهل الحق. دخل رجل على أبي بكر رضي الله عنه وشتمه، فسكت أبو بكر، فشتمه الرجل ثانية فسكت أبو بكر، وفي الثالثة رد أبو بكر رضي الله عنه وشتمه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! وكل الله ملكاً يرد عليه بدلاً منك، فلما بدأت أن ترد ذهب الملك وجاء شيطان وأنا لا أجلس في مجلس فيه شيطان). فالشيطان يدخل في كل بيت، فقد دخل بيت النبي يعقوب عليه السلام، وجعل إخوة يوسف يأخذون أخاهم ويرمونه في البئر، ومستحيل أن ولداً صغيراً عمره اثنتا عشرة سنة يخرج من البئر لكن الله أخرجه. يحكى أن امرأة رفعت شكوى إلى شريح القاضي، وأخذت تبكي وتقول: زوجي ظالم يظلمني، فقال رجل لـ شريح: يا أيها القاضي! أجبها، إنها تبكي، قال: اسكت لقد جاء إخوة يوسف أباهم عشاءً يبكون. ويحكى أن رجلاً قصيراً دخل على كسرى فقال: أيها الملك! ظلمني أخي، فسكت كسرى، فأعاد الرجل قوله فسكت كسرى، فقال وزير كسرى: أيها الملك! إنه مظلوم، قال: لا، هذا قصير لا يُظلم، فتبسم الرجل وقال: ظلمني من هو أقصر مني، فالغضب يمنع العدل، ومادام الإنسان غاضباً لا يعدل.

مفاسد الشهوة

مفاسد الشهوة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والشهوة تمنع التفرغ للعبادة]. عنده شهوة ويشاهد التلفاز باستمرار حتى يأتي الليل وهو على ذلك، ومن الناس من عنده شهوة الجلوس مع الأصحاب فتراه لا يجلس في بيته، ومنهم من عنده شهوة لجمع المال ولا يفرغ للصلاة ودروس العلم، ومنهم من عنده شهوة اللعب والمباريات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يكمل إيمان أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) فلابد أن يكون هوى الإنسان مع هوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هدم الكبر والحسد والغضب والشهوة

هدم الكبر والحسد والغضب والشهوة فهدم الكبر يسهل الانقياد، فلو انهدم ركن الكبر يحصل الانقياد، فعندما ينصحه ناصح ينتصح ويسمع له، وهدم ركن الحسد يسهل عليه قبول النصح، والحسد له علاج، وقد قسمنا الحاسد إلى نوعين: حاسد يحسد وهو لا يعرف أنه يحسد، وحاسد يحسد وهو يعرف أنه يحسد، وكلا الصفتين شؤم، فهناك أناس يحسدون وهم لا يعلمون أنهم يحسدون، فالحاسد الذي يحسد وهو لا يعرف أنه يحسد، علاجه: أن المحسود إذا قرأ المعوذتين وقاه الله من شر الحسود. أما الثاني: الذي يحسد وهو يعلم أنه حسود فخطره أعظم؛ ولذلك قالوا: ما يحسد المال إلا أصحابه. يحكى أن رجلاً زار أمه فوجد المربية في السطح لديها قطيع من الأرانب البيضاء الضخمة، فقال: يا أولاد كل هذه الأرانب عندكم! وهو يأكل منها، وتحلف المرأة أنه مجرد ما أن نزل من السطح إذا بالأرانب تقفز في الهواء وتسقط ميتة. وجاءني رجل فقال: لقد وصل بي الأمر إلى أن أحسد أولادي، فقلت له: وكيف ذلك؟! قال: جاء الولد بالشهادة وكان الأول، فقلت له: هل تستحق أن تكون الأول؟ قال: والله يا أبتي! أنني ذاكرت واجتهدت، قال: فأحسست أنني حسدت الولد، فجاء الولد بعد شهرين راسباً، فقلت: ما الذي حصل يا بني! قال: والله يا أبتي! هناك شخص قد حسدني، وهكذا أنطقه الله سبحانه. وكان هناك من العرب من يؤتى به من أجل أن يحسد والعياذ بالله، فثبت في كتب العرب أن هناك شخصاً مهنته الحسد، فقال له شخص: أعطيك عشرة دنانير وتحسد لي ناقة فلان، فقال: نعم، فقط أشر إليها، فقال له: ها هي مع صاحبها، قال له: أين؟ قال: هناك تحت تلك الشجرة، فقال الحاسد: أتستطيع أن تنظر إلى الشجرة؟ ففقد الرجل بصره مباشرة. فعلاج هذا النوع من الحسد: أن الحاسد إذا نظر إلى شيء يقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله. إذاً: الحسد إذا انهدم ركنه سهل عليه قبول النصح وبذله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع]. ولا يبقى ظالم؛ لأن ركن الغضب ليس موجوداً. قال: [وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف والعبادة]؛ لأن الذي يضيع الناس هي الشهوات، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14]. قال: [وزوال الجبال عن أماكنها أيسر من زوال هذه الأربعة] يعني: ليست سهلة، فالمتكبر كيف يكون متواضعاً؟ وسريع الغضب كيف يكون هادئاً؟ والحسود كيف يكون مؤمناً وقانعاً؟ والذي عنده شهوات كيف يزيل الشهوات؟ قال: [ولاسيما إذا صارت هيئات راسخة وملكات وصفات ثابتة]. أي: صفة هذا الرجل الكبر وصفة هذا الحسد، وصفة هذا الغضب وصفة هذا الشهوة والعياذ بالله. قال: [فلا تزكو نفسه مع قيامه بها، وكلما اجتهد في العمل أفسدته عليه هذه الأربعة، طبعاً، وكل الآفات متولدة منها].

منشأ الكبر والحسد والغضب والشهوة وعلاجها

منشأ الكبر والحسد والغضب والشهوة وعلاجها قال المؤلف رحمه الله: [ومنشأ هذه الأربعة] أي: من أين أتت هذه الأربعة وما هو المنبع؟ قال: [من جهله بربه وجهله بنفسه. فإنه لو عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال وعرف نفسه بالنقائص والآفات لم يتكبر]؛ فهذه صفة من صفات الله، فلا يحق للمخلوق أن يتمثل هذه الصفة. قال: [فإنه إن عرف ربه بصفات الكمال لم يتكبر ولم يغضب لها، ولم يحسد أحداً على ما آتاه الله، فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله، فإنه يكره نعمة الله على عباده وقد أحبها الله]. وكأن هذا الحاسد يقول: يا رب! إنك لا تقسم بالعدل!! وقد يقول شخص: فلان هذا عورة، وفلانة هذه أنفها كبيرة وكأنه يريد أن يقول: يا رب! إنك لا تستطيع أن تخلق والعياذ بالله، فالمسلم يجب أن يعلم أن الحسد نوع من معاداة الله عز وجل. قال: [فإنه يكره نعمة الله على عبده، وقد أحبها الله ويحب هو زوالها عنه، والله يكره ذلك]. أي: أن الله يريد أن يتم نعمته على هذا المسلم، وأنت تريد أن تزول هذه النعمة. إذاً: أنت تكره ما يحبه الله وتحب ما يكره الله. يحكى أن امرأة كانت مسيحية متزوجة بمسلم، فطلقها المسلم وقد أنجبت له ولداً، ثم تزوجت برجل مسيحي، فصمم المسيحي ألا ينجب منها حتى لا يكون ابنه أخاً لمسلم من أم. فانظر إلى أي مدىً وصل هذا الحسد؟! وانظر إلى التفكير الخبيث الجهنمي، يخاف أن يكون المسلم أخاً لابنه. قال: [والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته، ولذلك كان إبليس عدوه حقيقة؛ لأن ذنبه كان عن كبر وحسد]. تكبر ولم يرض أن يسجد، وحسد آدم وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61] أي: أأسجد لمن هو أقل مني؟ قال: [فقلع هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده، والرضا به وعنه والإنابة إليه، وقلع الغضب بمعرفة النفس وأنها لا تستحق أن يغضب لها وينتقم لها]. فالشخص الذي يعرف نفسه يقول: إن هذه النفس لا تستحق أن يغضب لها. يحكى أن شخصاً من الصالحين كان يمشي، فرمى عليه مجموعة من الناس رماداً حاراً، فنفض هكذا وتلثم، وقال: من استحق النار وصولح على الرماد فلابد أن يحمد الله على ذلك، أي: أن ابن آدم يستحق أن يحرق في النار، فلما أن أصيب بالرماد فقط، حمد الله على ذلك. قال: [فإن ذلك إيثار لها بالرضا والغضب على خالقها وفاطرها، وأعظم ما تدفع به هذه الآفة أن يعودها أن تغضب لله وترضى لله]. عندما يسمع المسلم شخصاً يسب الدين فإنه يغضب لأنه يجد حرمة من حرمات الله تنتهك، ويغضب عندما يجد طالبة جامعية خارجة وهي تلبس البنطال، ويغضب عندما يرى شيئاً خطأً، ويغضب عندما يجد انحرافاً، ويغضب عندما يجد الناس يتعاملون بالربا، ويغضب عندما يجد الناس لا يتقون الله عز وجل، فكل هذا غضب لله عز وجل، فهذا الغضب لو تعودت عليه فإنه الغضب الذي يؤجر الإنسان عليه أجراً عظيماً. قال: [فكلما دخل النفس شيء من الغضب والرضا له خرج منه مقابلها من الغضب والرضا لها]. يعني: كلما ملأ العبد نفسه بالرضا والغضب لله خرج منها الرضا والغضب للناس، وهكذا تستقيم الأمور. قال: [أما الشهوة فدواؤها صحة العلم والمعرفة]. تنقهر الشهوات من كثرة العلم ومجالس العلم، فالعبد بالعلم يعود نفسه على الاستقامة والطاعة والتوكل، ويعود نفسه على الثقة واليقين بالله سبحانه وتعالى. قال: [بأن إعطاءها شهواتها أعظم أسباب حرمانها إياها ومنعها منها، وحميتها أعظم أسباب اتصالها إليها، فكلما فتحت عليها باب الشهوات كنت ساعياً في حرمانها إياها، وكلما أغلقت عنها ذلك الباب كنت ساعياً في إيصالها إلى الله عز وجل على أكمل الوجوه]. إن الشهوات مع العبد كالشارب من البحر لا يزيده الشرب إلا عطشاً. قال: [فالغضب مثل السبع، إذا أفلته صاحبه بدأ بأكله]. عندما يغضب الإنسان ولا يمسك غضبه تضيع روحه فيسيطر عليه الغضب ولا يستطيع أن يتحكم في نفسه. قال: [والشهوة مثل النار، إذا أضرمها صاحبها بدأت بإحراقه، والكبر بمنزلة منازعة الملك ملكه، فإن لم يهلكك طردك عنه]. كأن يقول شخص لرئيس الوزراء أنت لست جديراً بهذا المنصب، أنا أريد أن أكون مكانك، فإما أن يقتله حرسه، وإما أن يطرده، كذلك عندما تكون متكبراً فإنك تنازع الله في ملكه، والعياذ بالله. قال: [والحسد بمنزلة معاداة من هو أقدر منك، والذي يغلب شهوته وغضبه يفرق الشيطان من ظله، ومن تغلبه شهوته وغضبه يفرق من خياله]. إن عمر بن الخطاب ممن يغلب شهوته وغضبه فيفرق الشيطان من ظله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عمر! ما رآك الشيطان سالكاً طريقاً إلا وسلك طريقاً آخر)، فالشيطان إذا رأى عمر سلك طريقاً آخر؛ لأن عمر رضي الله عنه قهر النفس، فقد كان عمر رضي الله عنه يمشي فأخذ حزمة من حطب ووضعها على كتفه، فقال له ابنه: ما هذا يا أمير المؤمنين؟! قال: أرادت نفس أبيك أن تستشرف فأراد أبوك أن يذلها ويضعها لله. يفعل ذلك حتى لا يدخل فيها العجب.

بيان شجرتي التوحيد والإشراك

بيان شجرتي التوحيد والإشراك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها]. إن السنة عبارة عن شجرة، والشهور فروع هذه الشجرة، والأيام عبارة عن الأغصان الخارجة من الفروع، والساعات عبارة عن الأوراق المتصلة بالأغصان، والأنفاس عبارة عن الثمر. قال: [فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة]. من يزرع خيراً فلابد أن يحصد خيراً. قال: [ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجذاذ يوم المعاد] أي: الحصاد. [فعند الجذاذ يتبين حلو الثمار من مرها] وكما قيل: ستعلمي إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار وعند السفر ستظهر السيارة التي معك جيدة أو سيئة. قال: [والإخلاص والتوحيد شجرة في القلب فروعها الأعمال، وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا لا مقطوعة ولا ممنوعة كذلك]. عندما تقطع الثمرة في الجنة تطلع مكانها أخرى، وليس هناك شيء اسمه فاكهة الصيف ولا فاكهة الشتاء، وإنما كل الفواكه في الجنة موجودة، هذا معنى لا مقطوعة ولا ممنوعة، كذلك ثمرة التوحيد والإخلاص، فإن ثمرته مستمرة دائماً لا مقطوعة ولا ممنوعة. [والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب، ثمرها في الدنيا الخوف والهم والغم وضيق الصدر وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم، وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم]. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25]. وضرب مثلاً للكلمة الخبيثة، فقال: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26]، ثم بعد ذلك يقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. اللهم اجعلنا من أهل الشجرة الطيبة يا أكرم الأكرمين!

اكتساب العبد المال وضرر ذلك ونفعه

اكتساب العبد المال وضرر ذلك ونفعه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الدراهم أربعة: درهم اكتسب بطاعة الله، وأخرج في حق الله فذاك خير الدراهم]. أي: أصله آت من حلال وصرف في حلال، فهذا أحسن المال. قال: [ودرهم اكتسب بمعصية الله وأخرج في معصية الله فذاك شر الدراهم] وشتان بين الصورتين. قال: [ودرهم اكتسب بأذى مسلم وأخرج في أذى مسلم فهو كذلك] أي: جاء له من رشوة وضيعه على رقاصة، والعياذ بالله، فكم من أناس يصرفون الآلاف في الكازينوهات بالليل، من أين أتوا بها؟ اختلسوا هذه الأموال بالرشاوي التي أخذوها من بيت المال وضيعوها، فهم يصرفونها هكذا. قال: [ودرهم اكتسب بمباح وأنفق في شهوة مباحة]. أي: أتى من شيء مباح ولم ينفقه لا في حلال ولا في حرام، ولكن أنفقه في شهوة أكل وشرب ومن هذا القبيل. قال: [فذاك لا له ولا عليه، هذه أصول الدراهم. ويتفرع عليها دراهم أخر: منها درهم اكتسب بحق وأنفق في باطل]. أي: اكتسبها بعرق جبينه ويتعاطى بها سجائر. قال: [ودرهم اكتسب لباطل وأنفق في حق فإنفاقه كفارته]. كشخص أعطاك أموالاً رابحة من بنوك ربوية فأخذتها وأنفقتها في أعمال الخير، فإنفاقك هذا كفارة لما أخذته. قال: [ودرهم اكتسب من شبهة فكفارته أن ينفق في طاعة، وكما يتعلق الثواب والعقاب والمدح والذم بإخراج الدرهم، فكذلك يتعلق باكتسابه، وكذلك يسأل عن مستخرجه ومصروفه من أين اكتسبه وفيما أنفقه]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به).

مواساة المؤمنين أنواع

مواساة المؤمنين أنواع قال المؤلف رحمه الله تعالى: [المواساة للمؤمنين أنواع: مواساة بالمال ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن، ومواساة بالنصيحة والإرشاد، مواساة بالدعاء والاستغفار، ومواساة بالتوجع لهم]. المواساة بالمال معروفة، لكنها صعبة في نفس الوقت وأشد نفعاً. والمواساة بالجاه، أي: بكرسي وضعه الله عز وجل من كراسي الحكم يخدم الناس. ومواساة بالبدن والخدمة مادام أن الله أعطاني صحة. ومواساة بالنصيحة والإرشاد وهذه من أهم أنواع المواساة. ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساة بالتوجع لهم. قال: [وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة، فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة، وكلما قوي قويت، وكان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس مواساة لأصحابه بذلك كله، فلأتباعه من المواساة بحسب اتباعهم له، ودخلوا على بشر الحافي في يوم شديد البرد، وقد تجرد وهو ينتفض] أي: خلع ملابسه وهو ينتفض. [فقالوا: ما هذا يا أبا نصر؟! فقال: ذكرت الفقراء وبردهم، وليس لي ما أواسيهم به، فأحببت أن أواسيهم في بردهم]. فـ بشر الحافي لم يستطع أن يعطيهم، فخلع ملابسه وقال: أريد أن أحس بالبرد مثلما يحسون به، وأدعو الله لهم أن يغنيهم من فضله.

مضيعة السالكين إلى الله في الجهل بالطريق وآفاتها

مضيعة السالكين إلى الله في الجهل بالطريق وآفاتها [إذا عزم العبد على السفر إلى الله تعالى عرضت له الخوادع والقواطع، فينخدع أولاً بالشهوات والرئاسات والملاذ والمناكح والملابس فإن وقف معها انقطع]. فرجل الأعمال وصاحب الأموال منخدع بمثل هذه الأشياء، ونحن مثل النحلة من الصباح حتى المساء وعندما يموت أحدنا إلى أين يذهب؟ ومن أين يحضر حسنات: من مال جمعه، أو من درس حضره؟ فلو أنه كان يحضر المال وينفقه في سبيل الله لكان أفضل له، إذ إن المال له طغيان ويميل بالناس عن الحق، ولا يوجد مال يسعد أصحابه، ولو كان المال يسعد أصحابه لكان مال الخليج قد أسعد أهل الخليج أولاً. قال الشاعر: ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد نعم، السعيد الذي هو راضٍ عن الله والله راض عنه، اللهم اجعلنا من هؤلاء السعداء يا رب العالمين! قال: [وإن رفض هذه القواطع والموانع ولم يقف معها وصدق في طلبه، ابتلي بوطء عقبه، وتقبيل يده والتوسعة له في المجلس والإشارة إليه بالدعاء، ورجاء بركته ونحو ذلك]. عندما يترك القواطع وتمشي في طريق الله يبتلي بالاحترام والتقدير والشهرة والتبرك به، فإن وقف مع هذه الأشياء كلها انقطع عن الله والعياذ بالله، فلابد أن يكون كل شيء يريده مبتغاه الله عز وجل.

أنواع نعم الله تعالى على عبده

أنواع نعم الله تعالى على عبده قال المؤلف رحمه الله تعالى: [النعم ثلاث: نعمة حاصلة يعلم بها العبد، ونعمة منتظرة يرجوها، ونعمة هو فيها ولا يشعر بها]. من النعم التي نحن فيها ولا نشعر بها: هذه الجلسة، فهي نعمة من الله، والسكن في البيت نعمة، والنوم نعمة، والمياه نعمة، وكل شيء في الحياة نعمة، لكن لابد أن نحمد الله عليها، ومن زاد في الحمد زاده الله من فضله. قال: [فإذا أراد الله إتمام نعمته على عبده عرفه نعمته الحاضرة، وأعطاه من شكره قيداً يقيدها به حتى لا تشرد؛ فإنها تشرد بالمعصية، وتقيد بالشكر، ووفقه لعمل كي يستجلب به النعمة المنتظرة، وبصره بالطرق التي تسدها وتقطع طريقها، ووفقه لاجتنابها، وإذا بها قد وافت إليه على أتم الوجوه، وعرفه النعم التي هو فيها ولا يشعر بها. ويحكى أن أعرابياً دخل على الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين! ثبت الله عليك النعم التي أنت فيها بإدامة شكرها، وحقق لك النعم التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته، وعرفك النعم التي أنت فيها ولا تعرفها لتشكرها، فأعجبه ذلك منه وقال: ما أحسن تقسيمه]. جمع له النعم الثلاث، النعمة الحاصلة والنعمة المنتظرة والنعمة التي لا يراها، فاللهم عرفنا بالنعم عند وجودها وعند زوالها يا أكرم الأكرمين! ووفقنا الله وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه إن ربنا على ما يشاء قدير.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تلاوة القرآن بغير وضوء

حكم تلاوة القرآن بغير وضوء Q هل يجوز تلاوة القرآن بغير وضوء؟ A لابد أن نتوضأ ونحن نقرأ القرآن.

حكم صلاة الرجل في بيته

حكم صلاة الرجل في بيته Q والدتي سيدة كبيرة وأنا أصلي بها المغرب جماعة، فما حكم الدين في ذلك، هل أصلي معها أم بالمسجد؟ A لا بأس صل بها مرة، ولكن في المسجد أفضل، وهي تصلي في البيت، والله سبحانه وتعالى يكتب لها الثواب إن شاء الله.

حكم وضع اليدين قبل القدمين عند النزول للسجود

حكم وضع اليدين قبل القدمين عند النزول للسجود Q هل يجوز وضع اليدين قبل القدمين عند النزول للسجود؟ A الأفضل وضع القدمين قبل اليدين للقادر، أما الذي لا يقدر فلا داعي لذلك؛ لأن هذه ليست هيئة صلاة وليست ركناً من أركان الصلاة.

تكوين الإنسان يتغير يوم القيامة

تكوين الإنسان يتغير يوم القيامة Q هل تكوين الإنسان يتغير يوم الدين؟ A نعم يتغير، فالله سبحانه وتعالى قال: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} [النجم:47]، وسوف نبعث يوم القيامة، ونرجع مرة أخرى على هيئة أبينا آدم، طولنا ستون ذراعاً في السماء.

التكليف في الدنيا فقط

التكليف في الدنيا فقط Q هل أهل الجنة يعيشون لأنفسهم وللأكل فقط، أم يكونون مكلفين؟ A لا يوجد تكليف في الجنة أبداً، التكليف في الدنيا فقط.

سلسلة شرح كتاب الفوائد [15]

سلسلة شرح كتاب الفوائد [15] إن أقرب الأبواب للوصول إلى الله عز وجل هو باب الذل الذي يؤدي إلى أن ينظر الله إلى العبد بعين الرحمة فيجعله من المفلحين، ويجعل روحه في خفة ونشاط للعبادة تسمو إلى الملأ الأعلى، بخلاف المعرض على الله الذي ليس له هم إلا كثرة الأكل والشرب والنوم فتقل عبادته وتثقل روحه.

أقرب الأبواب إلى الله عز وجل

أقرب الأبواب إلى الله عز وجل أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. أما بعد: فمرحباً بكم، كما كان يرحب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحابته، ولنا فيه قدوة حسنة، وكان كلما التقى بالصحابة يقول: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى ولا آثمين، فكان مبشراً صلى الله عليه وسلم وما كان منفراً، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وكان عليه الصلاة والسلام دواءً وشفاءً للعليل، وكان الطبيب والحبيب صلى الله عليه وسلم، وكان دائماً يقول: (ما يشاك أحدكم بشوكة إلا وأجد ألم ذلك في قلبي). وعندما نزل قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، كان يقول: (يا رب! وأنا لا أرضى وواحد من أمتي في النار)، وكان الله عز وجل يقول له ولجبريل: (يا جبريل نبئ محمداً أننا لن نسوءه في أمته، وسوف نرضيه فيهم)، وكان يقول: (ماذا أعطاني ربي يا جبريل؟ قال: إن الله حرم النار على كل من قال لا إله إلا الله). فهذه كلها مبشرات، ولقد كان صلى الله عليه وسلم كما قال فيه ربه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن معشر الأنبياء ما ورثوا درهماً ولا ديناراً، ولكن ورثوا علماً يتعلمه الناس) فنحن مع واحد من هؤلاء الذين ورثوا ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية، وإذا كان التلميذ هكذا، فما بالنا بأستاذه. مرة من المرات كان ابن القيم يمشي على النهر، فسأله أحد تلاميذه: ماذا أعمل بذنوبي، فأنا أذنب وأتوب، ثم أعود فأذنب وأتوب، فماذا أفعل؟ فكانت إجابته كتاباً بأكمله وسماه كتاب (الفوائد). وكان ابن قيم الجوزية رضي الله عنه تلميذ شيخ الإسلام، وكان له جملة طيبة يقولها وهي: أردت أن أدخل على الله، فطرقت الأبواب، فوجدت على كل باب كظيظاً من الناس. ومعنى: كظيظاً أي: أن الأبواب مزدحمة، فكانت نظرة الصالحين أن هناك ازدحاماً على فعل الخير، وهذه كانت وجهة نظره، لكن لو كان منحرفاً لقال: لا يوجد من يعمل خيراً في هذا الزمان؟ لكن ابن القيم كان يرى الصورة الطيبة في المجتمع. قال: فطرقت باب الذل فوجدت عليه قليلاً من الناس، فوجدته أقرب الأبواب إلى الله عز وجل، ثم ذكر الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123]، فإجابة الدعاء تأتي للعبد كلما ذل. ولذلك: رب معصية أورثتك ذلاً وانكسارا، خير لك من طاعة أورثتك عزاً واستكباراً. أي: كلما أذنبت واستحيت من الله أكون ذليلاً وخاضعاً، وأتوب وأبكي، وأحشر نفسي مع الصالحين، ومع أهل العلم، وفي مجالس الذكر، وهو أفضل من أن أعمل طاعة، وإن عملت فربما يأتي أحد لينصحك وترد عليه بقولك: أنا أصلي الصلاة في وقتها، وأزكي الزكاة في وقتها، وأقوم الليل، وبيني وبين الله أعمال وأسرار، فلا داعي لأن تنصحني. ومن يقول هذا فلا أظن أن بينه وبين الله عماراً، وإلا لما خرب على المدى الخاص والعام، نسأل الله أن يعمر قلوبنا بذكره، وأن يتولانا وإياكم برحمته. وسوف نقرأ اليوم ثلاث فقرات من كتاب الفوائد لـ ابن قيم الجوزية، فنقول:

ما خلق منه آدم

ما خلق منه آدم قال المصنف رحمه الله تعالى: [خلق بدن ابن آدم من الأرض، وروحه من ملكوت السماء، وقرن بينهما]. نحن نعلم أن الله عندما خلق أبانا آدم أمر جبريل أن يأتي له بقبضة من بقاع الأرض، فجاء جبريل بقبضة من بقاع الأرض كلها، فإذا اعتبرنا الأرض مثلاً قارات: فهو أخذ من أفريقيا قبضة ومن آسيا قبضة ومن أوروبا قبضة ومن الأمريكتين قبضة، ومن أستراليا قبضة، والقبضة كما يفعل المهندسون الزراعيون، حين يأخذون عينات من الأرض ليعرفوا هل تنفع للبناء أم لا. فجاء بنو آدم على قدر الأرض التي أتوا منها، مثلاً: هناك أخ يحسن إلى أخيه دائماً، أخوه لا يزوره ولا يحسن إليه، ولا يقف معه في أي موقف، فيقول الناس: ما هي طينة هذا الرجل؟ فالأصل هو الطين، ولكن هذا الطين قد يوجد فيه ذهب، وقد يوجد فيه قطران، وفيه أشكال كثيرة، فمن الممكن أن واحداً منا طينته من ذهب، أو جاء من أرقى أنواع الأحجار الكريمة، فتجد الناس يقولون: فلان هذا مثل الذهب، أو فلانة مثل الزمرد في الأخلاقيات، فإذا أريد الرقي به يقال: ملاك؛ لأنه لا يخطئ، أي: أنه من عالم النور.

تباين طباع الناس لتباين معادنهم

تباين طباع الناس لتباين معادنهم ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فجاء بنو آدم على قدر الأرض التي أتوا منها، فمنهم سريع الغضب بطيء الفيء) يعني: أنه يغضب بسرعة، وعندما نأتي نصالحه فلا يلين إلا بصعوبة بالغة، فهذا من صخر ناري، لأن الصخر الناري بطبيعته سائح وغاضب وهائج، وعندما تريد أن تحوله إلى طين هادئ وتجعله يبرد، يحتاج إلى وقت كبير. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ومنهم بطيء الغضب سريع الفيء). وهذا هو الحليم، وكاد الحليم أن يكون نبياً، ولذلك عندما أراد الأعرابي أن يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد غزوة بني المصطلق، والمنافقون تكلموا في حادثة الإفك، التي اتهموا فيها السيدة عائشة -والعياذ بالله- بالفاحشة ورموها بالزنا، فكانت نفسية الرسول صلى الله عليه وسلم متعبة، والأعرابي يقول: لا بد أن أكلمه، والصحابة ومنهم عمر بن الخطاب فكان يرده ويقول: لن تدخل الآن، والأعرابي يقول: لا بد أن أكلمه، وعمر بن الخطاب يصر على أنه لن يدخل، والأعرابي واثق من حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والذي بعثه بالحق نبياً! لن أدعه حتى يبتسم، أي: لن أكلمه فقط، ولكن سأضحكه كذلك، فكان واثقاً من سعة صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الرسول إذا تحدث مع أحد أعطاه كل وجهه، وإذا تحدث مع قوم -يعني: الصحابة- أعطى كل واحد حظه من النظر، حتى يظن كل حاضر أنه لا يهتم إلا به في الجلسة، أي: أنه كان يعدل في نظراته للصحابة، حتى يظن كل صحابي أنه كان ينظر إليه طوال الجلسة، حتى أن عمرو بن العاص يقول: منذ أن أسلمت ما رفعت عيني في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم هيبة. ويقال: إن الصحابي الوحيد الذي كانت عينه موجهة دائماً إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيدنا أبو بكر، وكان أول ما يصعد الرسول صلى الله عليه وسلم المنبر يوم الجمعة، يأتي سيدنا أبو بكر ويجلس تجاه أول درجة. وكان أبو بكر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحب ثلاثة: أحب الجلوس بين يديك، وأحب النظر إليك، وإنفاق مالي عليك. أما عمر بن الخطاب فيقول: أحب الحق، وقول الحق، والنهي عن المنكر. فكل واحد منهم يعبر عن الملكة التي فيه، والفضل الذي آتاه الله لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون فيه. فـ عثمان بن عفان يقول: أنا يا رسول الله! أحب إطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام، فحمل صفة الكرم والتواضع وقيام الليل. وأما علي بن أبي طالب فيقول: أنا أحب الصوم في الصيف، وإكرام الضيف، وقتل العدو بالسيف. أما أبا ذر الذي جاء يوماً يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوليه ولاية، فقال له رسول الله: أنت ضعيف يا أبا ذر!، وإنها في الدنيا ولاية، وفي الآخر ندامة، إلا من أخذها بحقها، وحقها عند الله عظيم، يا أبا ذر! يؤتى بالحاكم العادل يوم القيامة يقف على الصراط، ينتفض الجسر به انتقاضة، يتفرق كل عضو من أعضائه في مكان لا تعاد إليه إلا بعدله. ويقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أقلت الغبراء، وما أظلت الخضراء، أصدق لهجة من أبي ذر).

حب أبي ذر ما يكرهه الناس

حب أبي ذر ما يكرهه الناس وأبو ذر يقول: أنا أحب ثلاثة أشياء: أحب الجوع، وأحب المرض، وأحب الموت. فالشخص يستغرب كيف يحب هذه الأشياء التي يكرهها الناس، حتى عندما يجوع أحدنا كما يقول المصريون: (عصافير بطني صوصو) وأنا أشك أن المصري عنده عصافير في بطنه، وإلا فكان عليه أن يقول: بقر بطني، أو جاموس بطني، أما العصفور فيكتفي بربع رغيف. ولذلك فهناك نصيحة قبل رمضان، أي: أن توزنوا أنفسكم قبل رمضان، وأريد أن تأتي ليلة العيد وقد نقصتم من الوزن عشرة كيلو. إن شاء الله، فعليكم أن تخففوا من الأكل والعزائم؛ لتذهبوا إلى صلاة التراويح والجسم خفيف. وهذا امتحان عملي إن دخلنا في رمضان، وأنا أظن أن أغلب المصريين الذين أعرفهم على الأقل، يزيد وزنهم بعد رمضان، ونحن نريد في رمضان ريجيم طبيعي، ونريد أن يخف وزننا، ولو حتى وجبة واحدة. وبالنسبة للسحور، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تسحروا فإن في السحور بركة)، وقال: (ولو تمرات ثلاث، ولو حسوات من ماء) وهكذا السحور. وقد يتوهم الصائم أنه كلما تسحر أكثر كلما استمر شبعه حتى الفطور، ولكن الحقيقة أن أي أكل يؤكل مهما كان ومهما كثر تهضمه في المعدة فأثره خلال أربع ساعات، أما بعدها فلا يكون له أثر، حتى أصعب أنواع الأكل وهو الفول، والذي يسمى عند المصريين (مسمار البطن) لا يأخذ أكثر من أربع ساعات ونصف في الهضم، يعني: إذا تسحر الصائم الساعة الثانية بعد نصف الليل، تأتي الساعة السادسة والنصف صباحاً ولا يوجد أثر للفول. وبعض الناس تجده قبل أذان الفجر يشرب ماء كثيراً، وكلما علم أن الفجر لم يؤذن له بعد يشرب ماءً، وبعد ذلك يصلي الفجر وينام في الصلاة؛ لأنه شرب كثيراً وأكل كثيراً. إذاً: فالامتحان العملي للمسلم أن يزن نفسه في أول رمضان، ولا بد أن ينقص وزنه خلال شهر رمضان من خمسة إلى عشرة كيلوهات. فسيدنا أبو ذر كان يحب الجوع، ويحب المرض، ويحب الموت، فلما سئل عن السبب، قال: أنا إن جعت رق قلبي، وإذا مرضت خف ذنبي، وإذا مت لقيت ربي. فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (جاء الناس على قدر الأرض التي جاءوا منها، فمنهم: سريع الغضب بطيء الفيء، ومنهم بطيء الغضب بطيء الفيء، ومنهم سريع الغضب سريع الفيء).

ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن

ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومنهم سريع الغضب سريع الفيء) وهذا الذي يغصب سريعاً ويهدأ بسرعة، وكما يقول المصريون: (كلمة توديه وكلمة تجيبه). وعلى المؤمن أن لا يكون سريع الغضب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا تحكم وأنت عضبان). ويذكر أن أعرابياً ثار على زوجته وهي واقفة على الدرج، فقال لها: إذا صعدت درجة فأنت طالق، وإن نزلت درجة فأنت طالق، وإن وقفت مكانك فأنت طالق، فرمت بنفسها من على الدرج، فتبسم الرجل وقال: لو مات الإمام مالك لاحتاج الناس إليك في الفقه. ولذلك المسلم بطبيعته حليم، وكما روي عن رسول الله: (كاد الحليم أن يكون نبيا). وعندما دخل الرجل الأعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عازم على أنه سيجعله يبتسم، قال له: يا رسول الله! تقول: إن المسيخ الدجال إذا جاء أجدبت الأرض، وتقلصت ضروع البهائم، وامتنعت السماء عن المطر، ولا طعام إلا معه، يا رسول الله! هل ترى أن أدعي أنني آمنت به، فأضرب في ثريده حتى أشبع، ثم أعود فأكفر به مرة أخرى، فتبسم الحبيب حتى بدت نواجذه، وقال: (بل يغنيك الله بما يغني عباده المؤمنين)، فقال: أين أذهب يومئذ يا رسول الله؟ فقال: (طعام المؤمنين يومئذ التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، يلهمهم الله به كما يلهمون النفس). فالإنسان عبارة عن تركيبة من شيئين: من طينة الأرض؛ لكي يستطيع العيش عليها من عناصر الأرض جميعها؛ لأنه مركب منها، والشيء الثاني: نفخة من روح الله؛ لأن الله لم يأمر الملائكة أن تسجد لآدم إلا بعد أن نفخ فيه الروح، قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29]. ونفخة الله معناها أن الله سبحانه وتعالى يضع سره في هذا المخلوق.

ما خلق الله عليه المخلوقات

ما خلق الله عليه المخلوقات والله خلق ثلاثة أنواع من المخلوقات: النوع الأول: خير محض لا يعرف الشر. والنوع الثاني: وشر محض لا يعرف الخير. والنوع الثالث: مركب من الخير والشر.

الخير المحض والشر المحض

الخير المحض والشر المحض أما النوع الأول: فالخير المحض الذي لا يعرف الشر هم الملائكة؛ لأنهم لا يخطئون، حتى ولو حاولوا؛ لأنهم ليس لديهم نوازع الشر، ولذلك طلب الكفار من الرسول أن يأتي بملك من الملائكة يؤيده أو يمشي معه؛ لكي يصدقوه، فقال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء:95]. فلو نزل ملك من السماء على سبيل المثال إلى الأرض، وكان رسولاً، لقال مثلاً: لماذا تنامون ست ساعات في اليوم، يكفيكم ساعتان من النوم، وهو يقول هذا لأنه لا ينام أصلاً، ولا يعرف معنى النوم، ولا يعرف معنى الأكل والشرب، ولا حتى النوازع الغريزية، مثل: الغضب، والانتقام، والتعدي على الغير، فتجده يستغرب كل هذه الأشياء. إذاً: لو أرسل الله عز وجل ملكاً إلى الناس لكانت للناس حجة على الله، ولكن الله تعالى يقول على لسان سيدنا إبراهيم: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة:129]، وكان الكفار يقولون: ما جربنا عليك كذباً قط يا محمد! فقال: لو قلت لكم: إن خيلاً خلف هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، فقال: أنا رسول الله إليكم جميعاً، قالوا: كذبت. فالمسألة كما قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]؛ يجحدونه لأنهم لم يجربوا عليه الكذب. وكذلك في مسألة الحجر عندما هدمت السيول الكعبة، وكان عمره صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين عاماً، فاختلفوا أيهم يضع الحجر الأسود، وكادوا أن يتقاتلوا في المسجد الحرام، فقال أحدهم: لماذا نتقاتل؟ نحتكم إلى أول شخص يدخل من باب المسجد، فإذا بالحبيب صلى الله عليه وسلم يدخل فقالوا: هذا هو الأمين محمد قد رضينا بالأمين محمد وعندما وضحوا له المشكلة، قام ووضع عباءته ووضع الحجر في وسطها، ثم قال: أين القبائل؟ كل قبيلة تبعث مندوبها، ويمسك بطرف العباءة، فحملوه جميعاً، وبعد أن اقتربوا من مكانه أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه الشريفتين ووضعه مكانه. وأما النوع الثاني: فالشر المحض، الذي لا يعرف الخير، وهم الشياطين.

ما فيه خير وشر

ما فيه خير وشر وأما النوع الثالث: فالنوع المركب من الخير والشر، وهو نحن بني آدم، فإذا تغلبت نوازع الخير على نوازع الشر، صرت عند الله أفضل من الملائكة، ولذلك قال الله في الحديث القدسي: (يا عبدي! أنت عندي كبعض ملائكتي) يعني: ليس ملكاً واحداً بل مجموعة ملائكة. ولذلك عندما قال الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، فأتى ملك من الملائكة فيما رواه الترمذي وقال: يا رب! أدعوك أن ترزقني عمراً مائة ألف عام، ومائة ألف جناح، وقوة مائة ألف ملك، فقال له: لماذا؟ قال: أريد أن أطوف حول العرش مسبحاً بحمدك، فأعطاه الله ما يريد، وبعد أن انتهت المائة ألف عام، واكتشف هذا الملك أنه لم ينه لوناً واحداً من ألوان العرش؛ فالأرض والسموات بجانب الكرسي مثل الحلقة في الصحراء، والكرسي بجانب العرش مثل الحلقة في الصحراء، ففي ذلك الوقت وقف الملك أمام جنة من الجنات يبكي، فخرجت واحدة من الحور العين، وقالت: مالك تبكي عبد الله في مكان لا يحل فيه البكاء؟ فقال: سألت ربي كذا وكذا، وأعطاني، ولم أكمل شيئاً، فقالت له: بفعلك الذي صنعت، ما بلغت جزءاً من مائة ألف جزء من ملك أبي بكر الصديق في الجنة. فالعبد منا إذا تغلبت فيه نوازع الخير على نوازع الشر، صار عند الله أفضل من الملائكة، وإذا تغلب جانب الشر -كما نرى في الغالبية- على جانب الخير، كأن أسوأ عند الله من الشياطين؛ لأن الشيطان بطبيعته لا يفعل خيراً؛ لأنه ليس الخير مركباً فيه، لكن الإنسان فيه جانب الخير والشر، فإذا تغلب عليه جانب الشر، فهنا المصيبة. فالإنسان قبضة من تراب الأرض ونفخة من روح الله عز وجل. ولذلك نرى الرؤى في المنام، وما يراه الناس ثلاثة: الرؤى: جمع رؤيا، وهناك رؤيا، ورؤية. الرؤية تكون بالعين الباصرة، لكن رأى رؤيا أي في المنام، فهناك رؤيا وحلم وكابوس. فالرؤيا: هي أن تكون خالي الذهن من أي موضوع، وترى شيئاً مبشراً بأمر من أمور الآخرة، أو أمر فيه سعادة الدنيا، يقدمني خطوة نحو الله عز وجل، فهذه هي الرؤيا، فمثلاً: إذا رأى أحد الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه رؤيا، والآخر رأى أبا بكر الصديق فهذه رؤيا أيضاً. أتاني رجل وقال لي: ابنتي عمرها إحدى عشرة سنة، رأت أنها جالسة في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة كلهم، حتى عرفت الصحابة واحداً واحداً، وكأنها كانت تشير بيدها: هذا أبو بكر وهذا عمر وهذا عثمان وهذا علي. فقلت له: إما أن ابنتك حافظة للقرآن، أو أنها ستتم حفظ القرآن. فقال لي: بقي لها جزء. فهي قد دخلت في الصحبة، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتم حفظ القرآن وعمل به، ما بينه وبين النبوة إلا أن يوحى إليه) وفي الآخرة يقال له في الجنة: اقرأ وترق، اقرأ وترق، حتى يصل إلى آخر سورة يحفظها، ويجد نفسه في الفردوس بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأهم شيء العمل، والله ولو حفظ آية وعمل بها لنفعته كثيراً. قال سهل بن عبد الله: حفظت القرآن وعمري سبع سنين، وحفظت من الأحاديث أربعمائة ألف حديث، وتتلمذت على يد أربعمائة أستاذ، واخترت من ذلك كله حديثاً واحداً عملت به وهو: (اعمل لله بقدر حاجتك له، وللدنيا بقدر مقامك فيها، وللآخرة بقدر بقائك فيها، وللنار بقدر صبرك عليها). إذاً: فالإنسان يعرف أن هذه رؤيا إذا كانت صالحة، الرؤيا من الرحمن. أما الحلم فهو من الشيطان، والحلم مثاله أن أفكر بموضوع معين، مثلاً: ابني مسافر أو مريض، أو حالتي متعبة في العمل، أو عندي مشكلة مع صاحب البيت، أو مع ورثة أو نحو ذلك، فأرى في منامي شيئاً مطابقاً للواقع الذي أعيشه، مثل الذي يأكل قبل أن ينام أكلاً مالحاً، ثم يرى أنه يشرب ماءً كثيراً، أو يغرق في ماء، فهذا بسبب أنه نام وهو عطشان، فهذه الأحلام من انعكاس الحالة النفسية. والكابوس: يكون عندما ينام الشخص على غير وضوء، أو نام على معصية، أو وهو لم يصل العشاء، فيرى في المنام أن بيته احترق، أو أن زوجته كشرت في وجهه في الرؤيا، أو شيئاً غير طبيعي، وتكون زوجته راضية عنه، وهو راض عنها. فعندما يقوم أحد من رؤيا منقبض الصدر من النوم، فلا يحكيها لأحد؛ لأنك لو حكيتها وفسرت فسوف تقع. فالرؤيا طائر أينما فسر وقع، فلا تفسره ودعه يطير بعيداً عنك، لكن لو فسره لك عالم سيقع على الفور. ويفعل كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (يتفل على يساره ثلاثاً، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم) ومعنى: (يتفل) أي: ينفخ وليس يبصق. ولكن ما الذي يجعل الإنسان يرى الرؤيا وهو نائم؟ قال العلماء: إن جسم الإنسان معتم؛ لأنه من الطين، فهو حاجز الروح، ولذلك عندما يموت العبد يقول له الله: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، ومعنى: (حَدِيدٌ) أي: أكثر حدة، وذلك عندما رأى الحقيقة، ورأى عين اليقين.

أنواع الفرار إلى الله عز وجل

أنواع الفرار إلى الله عز وجل تكلمنا سابقاً عن أنواع الفرار إلى الله عز وجل، وقلنا: هناك فرار السعداء وفرار الأشقياء، وفرار السعداء هو فرارهم من أنفسهم إلى الله، مثلما فعل الصحابة، ومثلما حصل في قصة أصحاب الكهف، فهذا هو فرار السعداء. اللهم اجعلنا من الفارين السعداء إليك يا رب. وفرار الأشقياء فرار من الله والعياذ بالله، فتكون دروس العلم ثقيلة على قلبه، وكذا فعل الخير وصلة الرحم، ونحو هذه الأشياء، فيستثقلها. وفرار السعداء أنواع: فرار العامة، وفرار الخاصة، وفرار خاصة الخاصة. أما فرار العامة: فهو فرارنا كلنا، وهو فرارنا من المعصية إلى الطاعة، ومن الذنب إلى التوبة، ومن الكذب إلى الصدق، ومن الانحراف إلى الاستقامة، ومن الجهل إلى العلم، وهذا الفرار فرض عين، ويجب على كل إنسان أن يفر من حالة الجهل إلى حالة العلم. وأما فرار الخاصة: فهو فرارهم من علم اليقين إلى عين اليقين، فمثلاً: كلنا يعلم أن الله كريم، ولكن نريد أن يتحول هذا العلم إلى حقيقة كائنة أمام عيني، أرى كرمه علي في الإسلام وفي الصحة وفي الأولاد وفي كل النعم، فأرى كرم الله في كل لحظة بعيني، فأتحول من التطبيق النظري إلى التطبيق العملي، كما كان الصحابة رضي الله عنهم، مثلاً: أنس بن النضر رضي الله عنه كان يقول: أشم رائحة الجنة دون أحد. فهذا عين يقين؛ لأنه شم رائحة الجنة في الدنيا. وكلنا يعلم أن للجنة رائحة، وأنها لتشم من مسيرة كذا وكذا، فهذا علم، ولكن نريد أن نحول العلم إلى يقين تام، مثل حال أنس بن النضر عندما شم رائحة الجنة. وكان بعض الصالحين يشمون رائحة الذنوب، فيقول الحسن البصري: احمدوا ربكم أن ليست للذنوب رائحة، وإلا لما جلس مسلم بجوار مسلم. فقد ترى رجلاً محترماً يجلس بين الناس، ثم تصعد رائحة ذنوبه مثلاً، وهو يظن أن ليست له رائحة، وقد وضع عليه رائحة عطر ونحوه، ولكن لو كشف عنه غطاؤه لافتضح، نسأل الله السلامة، ونسأله أن يحسن رائحتنا ظاهراً وباطناً آمين. وأما فرار خاصة الخاصة: فهو الفرار مما سوى الله، أي: من كل شيء إلا الله، ولذلك عندما ينام الإنسان تبدأ الروح تغادر البدن، فتتجول في عالم الملكوت، ويذهب هنا وهنا، ويتجول ويجتمع مع أحبابه وأهله، والذي يأتي ويذهب، والحوادث ونحو ذلك، ثم بعد ذلك يجد أن الحلم الذي رآه، أو الرؤيا التي رآها قد تحققت؛ لأنها بدأت الروح هكذا، والصحابة والصالحون كانوا في حالة يقظتهم كحالتنا في منامنا، مثل سيدنا عمر بن الخطاب عندما وقف على المنبر وقال: يا سارية! الجبل، فسمعه سارية وهو على بعد مسيرة شهر منه. كذلك ما جاء عن سيدنا علي أنه قال لمن سأله عطاء: لو زادك الرسول لزدناك. وكذا أنس بن مالك مر بالسوق فنظر إلى امرأة ثم دخل على عثمان فقال له: أيدخل علي أحدكم وفي عينيه آثار من الزنا؟ وهو لم يكن معه. ويقال: إن أحد الصالحين كان يصلي وراء أستاذه، فقرأ الأستاذ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:49 - 50]، قال: فخطر ببالي أن معنى (يهب لمن يشاء إناثاً) أي: لمن يشاء حسنات، (ويهب لمن يشاء الذكور) أي: ييسره للأعمال. (أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً) أي: أعمالاً وحسنات. (ويجعل من يشاء عقيماً) أي: لا أعمال ولا حسنات. فعندما فرغت الصلاة نظر الإمام إلي وقال: يا أبو العباس ما أجمل تفسيرك لكتاب الله في الصلاة. فالمسألة بالنسبة للصالحين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، ما تقارب منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف). فاللهم اجعل أرواحنا متقاربة، متآلفة، مجموعة في الجنة مع أبداننا يا أرحم الراحمين. إذاً: فابن آدم خلق من الأرض، وروحه من ملكوت السماء، وقرن بينهما.

اشتياق الروح إلى العالم العلوي

اشتياق الروح إلى العالم العلوي ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإذا أجاع بدنه وأسهره وأقامه في الخدمة، وجدت روحه خفة وراحة، فتاقت إلى الموضع الذي خلقت منه، واشتاقت إلى عالمها العلوي]. أي: عندما يجيع بدنه، ويسهره في عبادة الله، ويصبح مقترباً من الله، ومقيماً لهذا البدن في الخدمة، فالروح تجد خفة، فتبتدئ تتوق وتتشوق إلى المكان الذي أتت منه؛ لأن هذا هو موطنها، والموطن غال. سيدنا سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال: من يرتاد لي مكاناً أتنسم فيه هواء، وليكن أجمل مكان، فذهب النسر وعاد وقال له: تفضل يا نبي الله! ارتدت لك أجمل مكان، فذهب سيدنا سليمان وراء النسر، حتى وصل إلى مكان فيه شجرة يابسة وتحتها ماء راكد آسن لا يتحرك، وليس فيه هواء ولا شيء، فقال نبي الله سليمان: أهذا أجمل مكان؟ قال: نعم يا نبي الله! هذا هو المكان الذي ولدت فيه. فكل إنسان يحن إلى المكان الذي ولد فيه، فتجد إنساناً: يقول أنا مصري، والآخر: أنا عراقي، والخ. بل سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم عندما هاجر يقول أبو بكر: رأيته قد اعتدل بالناقة واغرورقت عيناه بالدموع حتى ابتلت لحيته الشريفة، وقال: (يا مكة! والله إنك لتعلمين أنك أحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت) فكانت عزيزة عليه. وهكذا يزداد ثواب من فارق ما يحب طاعة لله سبحانه، والله وصف المزكين المؤتين، فقال: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة:177]، فالمسألة صحيحة، لكن رغم حبه للمال ينفقه، مثل ابن عمر فقد كان يوزع على الأطفال والناس السكر، فقالوا: ما هذا يا ابن عمر؟ قال: إني أحب السكر، والله يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]. ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أطعم أخاه حلياء صرف الله عنه مرارة يوم القيامة). فالمسلم ما دام أجاع البدن، وأسهره، وأقامه للخدمة، فتبتدئ الروح تحن للموطن الذي جاء منه، هو أتى من عالم الملكوت، فتبتدئ الروح تتنسم عبير الطاعة وتخف وترقى، فزادها ذكر الله.

سجن الروح

سجن الروح قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا أشبعه ونعمه ونومه واشتغل بخدمته وراحته أخلد البدن إلى الموضع الذي خلق منه فانجذبت الروح معه فصارت في السجن]. أي إذا أشبع البدن وأكرمه ونومه، واشتغل بخدمته؛ انسجنت الروح داخل البدن، والعياذ بالله رب العالمين، اللهم فك أسر كل أسير يا رب العالمين. إذاً: فالروح تكون محبوسة داخل البدن؛ لأن البدن صارت له قوة وسطوة. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلولا أنها ألفت السجن لاستغاثت من ألم مفارقتها وانقطاعها عن عالمها الذي خلقت منه، كما يستغيث المعذب]. أي: المسجون من شدة الألم يصرخ ويقول: يا ناس! ائتوني بالنيابة، ائتوني بالمأمور، ائتوني بالمحكمة، يصرخ؛ لأنه محبوس، فالروح كذلك، فإذا لم تحدثها بشكل دائم، لاستغاثت، لكن قد استمرأت السجن وهي غير قادرة على الفكاك منه. مثل الذي يقول لك: يا شيخ! أنا لا أشعر بأي تغير بعد الصلاة، فقبل الصلاة وبعدها عندي سواء. فهذا دليل على أن هناك عتمة، بل لابد أن يكون هناك نور للإنسان بعد الصلاة، ولابد أن يختلف حاله بعد درس العلم عن حاله قبله، ولا بد أن يكون بعد صلاة الجمعة مختلفاً عن حاله قبلها، ولا بد أن يكون حاله بعد الحج مغايراً لحاله قبله، وكذا لا بد أن يكون بعد رمضان مختلفاً عن حاله قبله. فالحالة الإيمانية إذا لم تكن في ازدياد فهي في نقصان، فقيل لـ ابن القيم رضوان الله عليه: متى العيد؟! فقال: يوم العيد يوم هو الذي لا نعصي فيه رب العبيد. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وبالجملة فكلما خف البدن لطفت الروح وخفت]. إذاً: فهي مرتبطة بالبدن، والذي يعطل الأمور هو البدن، فإذا خففت البدن، فستأكل قليلاً، وستنام قليلاً، وستعبد كثيراً، وستفرح كثيراً، وإذا أكلت كثيراً، فستنام كثيراً، وستعبد قليلاً، وستندم طويلاً. أبو حنيفة عندما قيل له: يا أبا حنيفة! في كم تختم القرآن؟ فقال لهم: أتقصدون في الصلاة أم في غير الصلاة؟ فقالوا: في الصلاة؟ فقال: في صلاة الليل أم في صلاة النهار؟!

أسباب عدم التوفيق في العبادة

أسباب عدم التوفيق في العبادة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأخلد إلى الشهوات والراحة ثقلت الروح وهبطت من عالمها، وصارت أرضية سفلية؛ فترى الرجل روحه في الرفيق الأعلى وبدنه عنده، فيكون نائماً على فراشه وروحه عند سدرة المنتهى]. ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (إن من عبادي عبداً لو جاء إلى باب أحدكم يطلب منه فلساً لما أعطاه، ولو طلب مني الجنة لأعطيتها له). قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإذا فارقت الروح البدن، التحقت برفيقها الأعلى أو الأدنى]. أي: تبعاً للحالة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فعند الرفيق الأعلى كل قرة عين، وكل نعيم وسرور وبهجة ولذة]. هناك ستة أسباب جعلتنا غير موفقين في العبادة مع الله عز وجل. وأريد أن يراجع كل واحد منا نفسه عند كل سبب من هذه الأسباب فيسألها: هل هذا السبب فيها أم لا؟ والمصيبة إن كانت جميع الأسباب موجودة. وهذه الأسباب هي المقياس الذي نقيس به أحوالنا مع ربنا.

الاشتغال بالنعمة عن شكرها

الاشتغال بالنعمة عن شكرها ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [اشتغالهم بالنعمة عن شكرها]. أي: لو أنعم الله عليك بنعمة فإنك تنسى شكر هذه النعمة وتهتم بها، مثلاً: نعمة الولد؛ فتجد أنك تنشغل بتربيته وتدريسه، وبنجاحه ورسوبه، وبمؤهلاته وزواجه، وكيف تختار له البنت التي سيتزوجها، وهكذا تهتم بالبنت، أي: كيف ستربيها وتزوجها. التقيت مرة من المرات بشخص وسألته: أين كنت؟ فقال لي: كنت مسافراً أجهز بنتي، فقلت له: ألف مبروك، أهم شيء أنك اخترت لها العريس المناسب، فقال لي: البنت ما زال عمرها سنتين، فقلت له: وماذا تجهز إذاً؟! فقال لي: لا أحد يأمن الظروف! وهذا شيء عجيب جداً، أي: أن يحمل همها بعد ثلاثين عاماً وما زال عمرها سنتين؟! وتجده بعد ذلك إذا تقدم لها خاطب وعمرها ثمانية عشر عاماً، يخبره أن البنت ما زالت صغيرة على الزواج، ولم تكمل دراستها بعد، وتظل تدرس حتى يصل عمرها ثلاثين سنة، وتصبح أستاذة، وربما بعد أن تكون مدرسة لا يقبل أحد أن يتزوجها، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). فكلما سهلنا أمر الحلال صعب أمر الحرام، وكلما صعبنا أمر الحلال سهل أمر الحرام. ولقد وصلتني رسائل واتصالات من مئات الفتيات اللواتي يستغثن بالله، وطلبن مني أن أكلم آباءهن بأن يقبلوا زواجهن من أي رجل يعرف الله، وليس من الضروري أن يكون عنده أملاك وأموال وكذا وكذا. وهذا الأمر في رقبة الأب والأم، فليتقوا الله ولييسروا، فمن يسر يسر الله عليه، فربنا سيسهل أمر الزواج ويذلل العقبات، وسيبارك في هذا الزواج، فالواحد منا يفضل أن تعيش ابنته في بيت متواضع وهي سعيدة، على أن تعيش في قصر وهي مهانة، ولا أقصد أن تعيش عيشة مهينة، ولكن عيشة متوسطة، وأقصد الكفاءة أو ما يقترب منها، وطالما أن زوجها سيحرسها ويعزها ويضعها فوق رأسه، فالحمد لله. وبعض الآباء تجده يصعب المسألة على الشاب المتقدم لابنته بكثرة الطلبات، فتجده يطلب منه أشياء غير موجودة، وبعض الآباء لا يستأمن زوج ابنته على الأثاث والجهاز الذي اشتراه لابنته، ويأخذ منه تعهداً ووصلاً بها. إذاً: فاشتغال الناس بالنعمة عن شكرها من أسباب عدم التوفيق، فعلى كل واحد منا أن يبحث في نفسه هل هو يشكر النعمة أم ينشغل بها عن شكرها؟ فالإسلام نعمة، والإيمان نعمة، ومجلس العلم نعمة، والصحة نعمة، وكل نعمة تستوجب الشكر، يقول تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]. مر أبو نواس يوماً برجل يضرب، فكان الرجل كلما ضرب ضربة يقول: الحمد لله، فقال له أبو نواس: استزدت.

الرغبة في العلم والعزوف عن العمل

الرغبة في العلم والعزوف عن العمل ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [رغبتهم في العلم وتركهم العمل]. تجد بعض الناس عندما يكون في مجلس العلم لمدة ساعة، يستنكر ويريد أن يستمر أكثر من ذلك، ولكن العلم حجة على صاحبه إذا ترك العمل. مثل ذلك الرجل الذي جاء من أرض العراق يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم: (متى الساعة؟ فقال له: ماذا أعددت لها؟! فقال له: ما أعددت لها كثير صلاة ولا كثير صيام، ولكني أحب الله ورسوله، فقال له: أنت مع من أحببت). ويقول تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، فالمسألة تريد ترجمة عملية. ولو أن رجلاً صعد إلى المنبر وقال: اتقوا الله! ونزل من المنبر، لعدت خطبة، وكان سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يصعد المنبر ويقرأ سورة (ق)، ويبكي الصحابة جميعاً، ولكن لو أن خطيباً في زماننا هذا قرأ سورة (ق) في الخطبة، لانتظر الناس ماذا سيقول بعدها. خطب الحسن البصري ذات مرة في يوم جمعة، ثم أتت الجمعة الثانية فخطب نفس الخطبة، وفي الجمعة الثالثة خطب الخطبة نفسها، فقالوا: يا إمام! حفظناها، فقل لنا غيرها، فقال: إذا عملتم بها قلنا لكم غيرها. وجاء رجل من أهل مكة، وكان مغتاظاً من الحسن، وقال: لماذا هذا الرجل الذي من البصرة يحبه الناس؟! فجلس في مجلسه -أي: في مجلس العلم- وأراد أن يغيظه، فقال له: أنا من مكة، من عندنا خرج العلم، فقال له الحسن: ولم يعد! مثلما يحصل هذه الأيام، كنا واقفين في صف، فجاء رجل وتقدم قبلنا، فقلت له: لماذا تتقدم؟ هل أنت حافظ للقرآن؟ فقال: لا، أنا سعودي! فقلت له: وماذا يعني أنك سعودي، ما دام أنك سعودي فيشك في أمرك. وذات مرة حضرت درساً في المسجد الحرام، وكان هناك عالم يستفتونه، وأقسم بالله أنه كان يبحث على أصعب فتوى في كل منهج ويقولها، وهو على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فإذا وجد أحمد بن حنبل أفتى بالتخفيف في مسألة، فتجده يقول: وقال أبو حنيفة! لأن مذهب أبي حنيفة صعب في هذه المسألة، فلماذا هذا؟! وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ما يخير بين أمرين، إلا اختار الأسهل؛ تخفيفاً للناس. ولكن هذا المفتي إذا وجد مسألة فيها التخفيف عند أحمد بن حنبل وأبي حنيفة، والشافعي شدد في هذه المسألة، فتجده يفتي بقول الشافعي! إذاً: فالعلم التطبيق، وليس مجرد العلم النظري.

المسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة

المسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [المسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة]. كلنا نزاعون بطبيعة النفس الأمارة بالسوء إلى أن نذنب بسرعة، ونؤجل التوبة، حتى الذي لا يصلي، إذا قلت له: لماذا لا تصلي؟ يقول لك: من الجمعة القادمة سأصلي، أو من أول الشهر!! فما الذي يمنعك أن تصلي الآن، ولماذا التأجيل، صل حتى ولو كنت مذنباً، وبعضهم تجده لا يصلي إلا من أول رمضان، وبعضهم لا يصلي إلا من بعد أن يحج، ولا يعلمون أن ملك الموت لا ينتظر!

الاغترار بصحبة الصالحين مع مخالفتهم

الاغترار بصحبة الصالحين مع مخالفتهم ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [الاغترار بصحبة الصالحين، وترك الاقتداء بفعالهم]. أي: تجد بعض الناس يفرح بأن بيته قريب من بيت شيخ أو عالم، فيغتر بهذا الشيء، ولكنه لا يقتدي بهم. بل لا بد للعلماء أن يكونوا قدوات.

الإقبال على الدنيا وإدبارها عنهم

الإقبال على الدنيا وإدبارها عنهم ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها]. أي: تمشي الدنيا وهم يتبعونها، وهي ستمضي مولية عنهم.

الإدبار عن الآخرة وإقبالها عليهم

الإدبار عن الآخرة وإقبالها عليهم ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها]. أي: الآخرة ستأتي وكلنا سنموت، وتجد الناس يتشاءمون من هذا الكلام، ويبحثون عن أشياء في الدنيا.

أصل الخذلان

أصل الخذلان ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأصل ذلك عدم الرغبة والرهبة]. أي: كأن الستة الأمور التي ذكرناها هي الفروع، وهنا الأصل، فالأصل في العبادة أن يكون عند المؤمن رغبة ورهبة، أي: خوف ورجاء، ويكونان له كالجناحين للطائر، مثل سيدنا عمر عندما قال: لو نادى مناد: كل الناس في الجنة إلا واحداً، لخشيت أن أكون هذا الواحد، ولو نادى مناد: كل الناس في النار إلا واحداً، لرجوت من الله أن أكون هذا الواحد. إذاً: مسألة الخوف والرجاء مهمة جداً، لكن بلا خوف يوصل إلى القنوط، ولا رجاء يوصل إلى الأمن والأمان، ولكن نخاف أحياناً ونرجو أحياناً. ولذلك الحديث عن الرجاء يكون للمذنبين، والحديث عن الخوف يكون للمؤمنين الذين سلكوا الطريق؛ لأن الذي سلك الطريق الصحيح مضمون، فنحدثه عن الخوف من الله، مثل الذي يحب ابنه والابن مطيع، فيبدأ يبعثه إلى مهمات حتى يعلمه، وأما الابن صاحب اللسان البذيء، فلا يهتم به، وسيحرجه أمام إخوانه. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأصله ضعف اليقين]. واليقين هو القرب من الله عز وجل. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأصله ضعف البصيرة]. أي: أصل اليقين ضعف البصيرة، وهذا من قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأصله مهانة النفس ودناءتها]. أي: النفس التي تتمسك بالدنيا. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير]. أي: أنها راضية بالدنيا مع أن الآخرة كما قال تعالى: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17].

تزكية النفس وتدسيتها

تزكية النفس وتدسيتها ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]، أي: قد أفلح من كبرها وكثرها ونماها في طاعة الله، وخاب من صغرها وحقرها بمعاصي الله]. أي: هذه النفس الصغيرة، عندما تطيع الله تكبر وتنمو، وتكون عظيمة، ومطمئنة وراضية ومرضية وملهمة، وتقترب من النفس الكاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول الله عز وجل: (عبدي ابتليتك فشكوتني إلى عوادك، وأنت يصعد منك في كل لحظة عمل سيئ وأنا لم أشكك إلى ملائكتي). فانظروا إلى الفرق في المعاملة بين الرب والعبد، فتجد العبد عندما يصاب بمرض يشكو الله إلى الذين يأتون لزيارته، وعندما يذنب العبد وتصعد الملائكة بصفحاته سوداء إلى السماء، لا يشكوه الله تبارك وتعالى إلى ملائكته. ولذلك نؤكد أن المسلم كما قال الله عز وجل: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:84]، أي: على طبيعة النفس التي عنده، فإن زكاها سيعمل خيراً، وإن دساها فسيعمل شراً. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [من لم يعرف نفسه لم يعرف خالقه]. كيف ذلك؟ جعل الله لنا في أبداننا بيتاً وهو القلب، وهو محط نظر الله، فالله لا ينظر إلى شكلك ولا إلى لبسك، ولا إلى حجمك، ولا إلى عزك، ولا إلى مالك، ولكن ينظر إلى قلبك، وهذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). فالقلب محط نظر الله. فكما أن الواحد منا يلبس اللباس الطيب لكي يراه الناس، فتقع أعينهم على شيء طيب، فكذلك يلبس قلبه لباس التقوى؛ لأنه محط نظر الله. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: يا أبا ذر! أخلص النية فإن الناقد بصير، أي أنه يراك، وما دام أنه يراك، فأخلص نيتك.

مثال قلب المؤمن

مثال قلب المؤمن ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [فاعلم أن الله تعالى خلق في صدرك بيتاً وهو: القلب، ووضع في صدره عرشاً لمعرفته، يستوي عليه المثل الأعلى، فهو مستو على عرشه بذاته بائن من خلقه، والمثل الأعلى من معرفته ومحبته وتوحيده مستوٍ على سرير القلب، وعلى السرير بساط من الرضا، ووضع عن يمينه وشماله مرافق شرائعه وأوامره، وفتح إليه باباً من جنة رحمته والأنس به والشوق إلى لقائه، وأمطره من وابل كلامه ما أنبت فيه أصناف الرياحين والأشجار المثمرة، من أنواع الطاعات والتهليل والتسبيح والتحميد والتقديس، وجعل في وسط البستان شجرة معرفة؛ فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من المحبة والإنابة والخشية والفرح به والابتهاج بقربه، وأجرى إلى تلك الشجرة ما يسقيها من تدبر كلامه وقرآنه وفهمه والعمل بوصاياه، وعلق في ذلك البيت قنديلاً أسرجه بضياء معرفته والإيمان به وتوحيده؛ فهو يستمد من شجرة مباركة زيتونه لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار]. قوله: (ووضع في صدره عرشاً) أي: صدر العبد، والصدر معناه الواجهة، مثل واجهة البيت، والعرب تسمي (الغرفة) التي لا يدخلها إلا الضيوف، وهذه الغرفة هي أجمل ما في البيت، ولذا يقول تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، وهذه الغرفة يمشي فيها المؤمن ألفي سنة. وقوله: (يستوي عليه المثل الأعلى) معنى: (المثل الأعلى) أي: المثل والمبادئ العليا، أي: الدين والإسلام، وليس هناك ما هو أعلى منها. وقوله: (وعلى السرير بساط من الرضا) أي: فراش السرير هو الرضا، فيكون الإنسان راضياً، وعندما يكون قلبك ممتلئاً بالرضا، فأنت تعيش في الجنة لكن في الدنيا. وقوله: (ووضع عن يمينه وشماله مرافق). فليس من المعقول أن يكون البيت والعرش من غير مرافق. وقوله: (مرافق شرائعه وأوامره) أي: لكي يكون على الطريق الصحيح، بهذه الأوامر والنواهي. وقوله: (وفتح إليه باباً من جنة رحمته). أي: جعله رحيماً بالناس، وشفوقاً وحنوناً بهم. وقوله: (وأمطره من وابل كلامه ما أنبت فيه أصناف الرياحين، والأشجار المثمرة من أنواع الطاعات والتهليل والتسبيح والتحميد والتقديس). أي: لابد عند نزول مطر من كلامه عز وجل، أن تثمر الشجرة خيراً. وقوله: (وجعل في وسط البستان شجرة معرفة). مثلما قال سيدنا علي: غرس الزهد بقلبي شجره ثم نقى بعد جهد حجره وسقاها إثر ما أودعها كبد الأرض بدمع فجره وإذا ما أبصر طيراً مفسداً حائماً حول حماها زجره نمت في ظل ظليل تحتها روح القلب ونحى ضجره ثم بايعت إلهي تحتها بيعة الرضوان تحت الشجره فإذا كانت هذه بلاغة سيدنا علي، فكيف ببلاغة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقوله: (وعلق في ذلك البيت قنديلاً). وهو القلب الجميل، اللهم اجعل قلوبنا من هذه القلوب يا رب. وقوله: (أسرجه) يعني: أضاءه. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم أحاط عليه حائطاً، يمنعه من دخول الآفات والمفسدين]. أي: سوراً لهذا العرش، يمنع الشيطان من أن يدخل. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن يؤذي البستان فلا يلحقه أذاهم، وأقام عليه حرساً من الملائكة يحفظونه من أمر الله في يقظته ومنامه]. وهذا من كرم الله سبحانه، أي: أن يبعث له ملائكة يخدمونه. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم أعلم صاحب البيت والبستان بالساكن فيه]. فإذا كان الساكن داخل هذا البيت هو الله بأوامره ونواهيه، فالعبد يكون كأن الله في قلبه. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [فهو دائماً همه إصلاح السكن]. عندما يزورنا مسئول في البيت، فسنمنع الإزعاج في البيت، وضجة الأولاد، ولابد أن يكون كل شيء جاهزاً ومرتباً، فتقوم معه بواجب الضيافة كما ينبغي، فكذلك عندما يكون الله في قلب العبد ينبغي أن يجعله لائقاً بساكنه، ويعرف دائماً أن الله في قلبه. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولم شعثه ليرضاه الساكن منزلاً]. مثل المسؤول إذا أتى إلى منزل أحدنا ووجده غير مرتب ونظيف، فسيخرج على الفور. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا أحس بأدنى شعث في السكن بادر إلى إصلاحه ولمه خشية انتقال الساكن منه]. أي: صاحب البيت الذي هو العبد، يبادر إلى إصلاح قلبه. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [فنعم الساكن، ونعم المسكن فسبحان الله رب العالمين].

مثال قلب الكافر والمنافق

مثال قلب الكافر والمنافق ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [كم بين هذا البيت وبيت قد استولى عليه الخراب، وصار مأوى للحشرات والهوام، ومحلاً لإلقاء الأنتان والقاذورات فيه، فمن أراد التخلي وقضاء الحاجة وجد خربة لا ساكن فيها ولا حافظ لها]. أي: يدخل في القلب الشيطان، ويدخل الغل والحقد والجشع والمؤامرات والنفاق، فلن يسكن هذه الأماكن إلا مثل هذا أي: الشيطان، وكما يقول المثل: إن الطيور الشريرة لا تطير إلا ليلاً، مثل الخفاش والبوم، هذه لا تطير إلا ليلاً، وكذلك قلب المؤمن إن خرب وأظلم يسكنه الشيطان، لكن إذا كان القلب نيراً فلن يسكن فيه مثل هؤلاء. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهي معدة لقضاء الحاجة مظلمة الأرجاء، منتنة الرائحة، قد عمها الخراب وملأتها القاذورات، فلا يأنس بها ولا ينزل فيها إلا من يناسبه سكناها من الحشرات والديدان والهوام، الشيطان جالس على سريرها، وعلى السرير بساط من الجهل]. فبعد أن كان بساط الرضا أصبح بساطاً من الجهل. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتخفق فيه الأهواء وعن يمينه وشماله مرافق الشهوات، وقد فتح إليه باب من حقل الخذلان والوحشة، والركون إلى الدنيا]. أي: بدلاً من أن كانت مرافق للأوامر والنواهي، فتكون مرافق الشهوات، والأول فتح له باباً من أبواب التوفيق، وهذا -والعياذ بالله- فتح له باباً من الخذلان. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [والطمأنينة بها والزهد في الآخرة، وأمطر بوابل الجهل والهوى والشرك والبدع]. والأول كان يمطر بوابل الرحمة وأنواع الخيرات. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وما أنبت فيه أنواع مثمرة من المعاصي والمخالفات، من الزوائد والتنديبات، والنوادر والهزليات والمضحكات، والغزليات والخمريات، التي تهيج على ارتكاب المحرمات، وتزهد في الطاعات، فهي تؤتي أكلها كل حين من الفسوق والمعاصي، واللهو واللعب والمجون، والذهاب مع كل ريح، واتباع كل شهوة، ومن ثمرها: الهموم والغموم والأحزان والآلام، ولكنها متوارية بإشغال النفس بلهوها ولعبها، فإذا أفاقت من سكرها أحضرت كل هم وغم وحزن وقلق ومعيشة ضنك، وأجري إلى تلك الشجرة ما يسقيها من اتباع الهوى، وطول الأمل والغرور، ثم ترك ذلك البيت وظلماته وخراب حيطانه، بحيث لا يمنع منه مفسد ولا حيوان، ولا مؤذ ولا قذر؛ فسبحان خالق هذا البيت وذلك البيت]. فبعد أن كان الأول تنبت فيه أنوع من التسبيح والتهليل والتحميد والتقديس، فهذا أثمر المعاصي والمخالفات، كالزوائد والتنديبات، والنوادر والهزليات والمضحكات، والغزليات والخمريات، التي تهيج على ارتكاب المحرمات وتزهد في الطاعات، وبعد أن كان الأول من ثمرة شجرته الرضا واليقين، فهذا ثمرة شجرته الغموم والأحزان والآلام. ولذلك قالوا: انظر كم الله عندك، تعرف كم أنت عند الله، فإن كان الله عندك كل شيء، فأنت عند الله كل شيء. اللهم اجعلنا كل شيء عندك يا أكرم الأكرمين، واختم لنا بالصالحات يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوما، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل يا ربنا بيننا شقياً ولا محروما، اللهم اصرف عن بيوتنا شياطين الإنس والجن، واصرفهم عن قلوبنا، واشرح لنا صدورنا يا أرحم الراحمين. لا تدع لنا في هذه الليلة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا قصمته، ولا مسافراً إلا سالماً غانماً لأهله إلا رددته. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، ثقل بهذه الجلسة موازيننا يوم القيامة، اللهم ثبت بها على الصراط أقدامنا يوم تزل الأقدام، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم القصر لمن يقيم خارج بلده غالبا إن رجع

حكم القصر لمن يقيم خارج بلده غالباً إن رجع Q أعمل في القاهرة، وساكن في مدينة بلبيد، ونظراً لظروف العمل فأنا أقيم في القاهرة طوال أيام الأسبوع، وأذهب إلى المنزل يومي الخميس والجمعة، فما حكم صلاة القصر؟ A يجوز لك عندما ترجع إلى منزلك يومي الخميس والجمعة أن تقصر الصلاة، وطالما أنك رجل فمن الأفضل أن تصلي في المسجد مع المقيمين وتتم الصلاة.

كيفية التوبة من الغيبة والنميمة

كيفية التوبة من الغيبة والنميمة Q كيف نتوب إلى الله من الغيبة والنميمة؟ A نقوم برياضة للنفس، فعلى سبيل المثل: لا ينفع أن يأتي رجل ويقول لك: لف عشر لفات حول النادي الأهلي، وأنت غير رياضي أي: لا تمارس الرياضة، فيمكن أن تموت في أول لفة، لكن ممكن أن تجري لفة ثم لفتين، وهكذا مراحل مراحل. فعلى الرجل والمرأة أن يقول كل منهما في نفسه -وهذا من باب رياضة النفس-: لن أغتاب أحداً من الساعة السابعة حتى الساعة الثامنة، ولو جاءك اتصال قبل الساعة الثامنة وفيه غيبة ونميمة، فأخبر المتصل أن التوقيت لم يكتمل بعد، وعليه أن يتصل بعد الساعة الثامنة، وبعد الساعة الثامنة يأتيك نفس الاتصال فتقول في نفسك: إذا كان الله موجوداً من الساعة السابعة إلى الساعة الثامنة، فهو كذلك موجود من الساعة الثامنة إلى الساعة التاسعة، وهكذا يبدأ العبد في رياضة نفسه وقلبه بالتدريج، وكلما شغل الإنسان نفسه بالطاعات ومجالس العلم، وبذكر الله، فسيكون من الصعب عليه أن ينطق بحرام.

معنى النهي عن التفريق بين الرسل

معنى النهي عن التفريق بين الرسل Q كيف لا نفرق بين رسل الله؟ وهل الله سبحانه وتعالى يفرق بينهم في منازلهم في الجنة؟ A نحن لا نفرق بين أحد منهم، أما منزلتهم في الجنة فنحن ليس لنا شأن في هذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما كنت ليلة المعراج أقرب من الله عز وجل من يونس في بطن الحوت، لا تفضلوني على يونس بن متى). ولكن تجد بعض الناس يتكلمون على الأنبياء بنوع من السخرية، وهذا حرام، فالكلام عن الأنبياء يجب ألا يكون فيه مزاح، مثل الأوروبيين عندما يتكلمون عن موسى، يقولون: الزعيم العاقل، فماذا تعني هذه الكلمة؟ مع أن سيدنا الحبيب كان يتمثل في الصبر بسيدنا موسى، فكان يقول: (رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر). ومع ذلك قد ألقى الألواح مرتين، أولاهما: عندما بلغه أن أهله وقومه اتخذوا العجل. ثانيهما: عندما تلقى الألواح وقرأها قال: قرأت الألواح يا رب فوجدت أمة من الأمم الحسنة لهم بعشر أمثالها وقد تزيد، والسيئة بمثلها وقد تعفو، فقال: اجعلهم من أمتي يا رب! قال: كلا يا موسى! إنهم أمة أحمد، ثم قرأ في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم، يحفظون الكتاب، فقال: اجعلهم من أمتي يا رب! قال: كلا يا موسى! إنهم أمة أحمد، ثم قرأ في الألواح فوجد أمة يتصدقون بالصدقات ويأكلونها، فقال موسى: اجعلهم من أمتي يا رب! قال: كلا إنهم أمة أحمد؛ لأن اليهود كانوا عندما يتصدقون يضعون صدقاتهم على الجبل، ثم تنزل صاعقة تحرقها؛ لأنهم لم يكونوا يأكلون مع الفقير. فقال ابن عباس راوي الحديث: فوالله ألقى موسى الألواح من يديه وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد، وهذا تواضع من سيدنا موسى وليس غضباً.

اختلاف الملكات الروحية بين الناس

اختلاف الملكات الروحية بين الناس Q ما الفرق بين مختلف الكائنات الحية من حيث الجزء الروحي منهم؟ وهل تختلف الملكات الروحية من شخص لآخر؟ A لا شك في ذلك، أي: أن الملكات الروحية تختلف من شخص لآخر، حتى الصحابة أنفسهم، فمثلاً: سيدنا خالد بن الوليد عندما كان يصلي بالصحابة في معركة اليرموك، كان يقرأ آية فيغلط فيردونه، فيقرأ مرة أخرى فيغلط، حتى وصل لأربع غلطات في ركعة واحدة، وبعد أن أكمل الصلاة قال: شغلتني الحروب عن حفظ كتاب الله، فكان عمله القتال، ولكن سيدنا ابن مسعود كان أستاذ علم، ويأتي رجل مثل سيدنا عمر يختلف عنهما، فهو حاكم عادل، وعثمان بن عفان التاجر السخي، وأبو ذر الحيي، وأبو موسى الأشعري العابد، وهكذا، فكل شخص له ملكات روحية مختلفة، أما بقية الكائنات فلندعها وشأنها، ولنشغل أنفسنا بهذا الكائن المتعب، الذي هو الإنسان.

تأويل من رأى أنه وصل السماء

تأويل من رأى أنه وصل السماء Q من يحلم أنه وصل إلى السماء بجسده ويشعر بخفة إذا صحا من النوم ويشعر بالراحة، فما تأويلها؟ A هذه من المبشرات، وعليه أن يكثر من قراءة القرآن.

القول في السكتة بين التسبيحتين

القول في السكتة بين التسبيحتين Q قلتم: بين التسبيحتين في كل صلاة سكتة بمقام تسبيحة، فماذا أقول فيها؟ A كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يركع يقول: سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم، وما بين كل تسبيحة وتسبيحة وقفة بمقدار تسبيحة، لكن نحن الآن نسبح بطريقة سريعة جداً، فعلى الإنسان أن يسكت ولا يقول فيها شيئاً.

العمل عند الوسوسة في ذات الله ودينه

العمل عند الوسوسة في ذات الله ودينه Q إذا استحوذ الشيطان على الإنسان وشككه في الله وفي دينه؛ فهل هذا كفر؟ A لا، هذا ليس كفراً، ولكنه من وساوس الشيطان، وعليك بالإكثار من قراءة قل هو الله أحد بعد الاستعاذة منه، وتكثر من قول: لا إله إلا الله، ولا يتوب الإنسان من ذلك لأنه لم يرتكب ذنباً؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله! نفكر في أشياء نستحي أن نقولها! -أي: أشياء في الذات الإلهية- فقال: هذا دليل الإيمان. فلم يعسر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشيء، فلا يقلق السائل. جعلنا الله وإياكم من الميسرين، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سلسلة شرح كتاب الفوائد [16]

سلسلة شرح كتاب الفوائد [16] لقد أمر الله بأوامر يجب الإتيان بها، ونهي عن مناه يجب الانكفاف عنها، والناس بالنسبة للقيام بالأمر وترك النهي أقسام؛ لكن ابن القيم رحمه الله يرى أن القيام بالأمر أعظم أهمية في الشرع وأدل على الإيمان من ترك النهي، وقد بين وجوه ذلك.

بيان من يسأل يوم القيامة أولا من الفائزين الآمنين

بيان من يسأل يوم القيامة أولاً من الفائزين الآمنين بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، حمد عباده الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا محمد صلى الله وسلم عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، أما بعد: فنسأل الله عز وجل أن يجعل جمعنا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل بيننا شقياً ولا محروماً. اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا قصمته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا طالب حاجة إلا قضيتها له يا رب العالمين. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك معافين غير فاتنين ولا مفتونين. اللهم تب على كل عاص، واهد كل ضال، واشف كل مريض، وارحم كل ميت، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين. هذه -بمشيئة الله عز وجل- هي الحلقة الأخيرة من كتاب الفوائد، فاللهم اجعلها لنا فوائد في الدنيا والآخرة يا أكرم الأكرمين، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. يقول سهل بن عبد الله التستري: ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي. إن الله عز وجل يحاسب العبد يوم القيامة على أمور أربعة سنذكرها بعد، وهي مضافة إلى السؤال عن العمر والشباب والمال والعلم. وأول من يسأل يوم القيامة هم الأنبياء والرسل، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا} [المائدة:109] فمن شدة وطأة وثقل يوم القيامة قالوا: (لا علم لنا) وبعد ذلك يسأل الله تعالى سيدنا عيسى بقوله: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] فيقول: يا رب! {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:117 - 118] والمتبادر إلى الذهن أن يقول: إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم سبحانك، ولكن لشدة المقام الواقف فيه سيدنا عيسى لم يناسب ذكر المغفرة.

بيان مناداة كل جماعة بإمامها يوم القيامة

بيان مناداة كل جماعة بإمامها يوم القيامة وكل مجموعة ينادى إمامها بعد الرسل، وكل مجموعة لها قائد، فمجموعة الخير في منطقة كذا في بلد كذا في الفترة الزمانية الفلانية ينادى قائدها، فيقف أمام الله، فيقال له: ماذا صنعتم؟ فيقول: يا رب! صلينا وصمنا وتعلمنا وعملنا كذا وكذا. فيقول: اذهب فبشر أصحابك بالجنة وخذ بأيديهم إلى رضوان الله. وإذا كان إماماً في الشر يقال له: ما صنعتم؟ فيذكر ما صنعوه، ثم يعود إلى مجموعته فلا يعرفون وجهه من الاكتئاب، فيقول: ألا تعرفونني؟! لقد ذهبت حتى وقفت عند الميزان، فتعالوا إلى النار وبئس القرار. فعلى الإنسان أن يلتصق بأهل الخير، فكن عالماً أو متعلماً أو أحبهم، فإن لم تفعل فلا تبغضهم. إن الناس يعيبون على أهل الدين تعقيدهم للأمور، وهذا غير صحيح، فإن المسلم مرح ولطيف وسهل، ولذلك يروى أن أحد تلاميذ الإمام أبي حنيفة رضوان الله عليه استأجر بيتاً، فكان السقف لقِدَمِه يكاد أن يسقط، وكان صاحبه يطلب الأجرة أول الشهر، فيقول له: أعطني الأجرة، فقال له يوماً: يا أخي! أصلح لنا السقف؛ لأن السقف يقرقع، فقال له: إنه لا يقرقع، بل إنه يسبح. فقال له ذلك الفقيه: أخاف أن تدركه الخشية فيسجد. وكذلك كان سيدنا الحبيب، فقد جاءت إليه امرأة تشكو من زوجها، فقال لها: (زوجك الذي في عينيه بياض) فقالت له: لا، فقال: (ما من بشر إلا وفي عينيه بياض)، فكان يمزح، ولكن لا يقول إلا حقاً صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك أن أحد الصحابة قبل أن يتوب الله عليه كان يحب أن يجلس جلسة النساء، فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ماذا تصنع هنا يا أبا عبد الله؟ قال: إن لي حبلاً لأربط به بعيري يا رسول الله). ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي فالأب عندما يرى ابنه قد أخطأ يوهمه بأنه لا ينظر إليه، فكان كلما وجده يقول له: (ما صنع البعير يا أبا عبد الله؟)، فكان إذا صلى يصلي في آخر المسجد حتى لا يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذات مرة بين صلاة الظهر والعصر دخل الحبيب المسجد، فوجده يصلي، فأطال الصلاة، فتبسم الرسول وقال: (يا أبا عبد الله! أطل ما تطل) أي: لو أطلت كثيراً فإني سأنتظرك فانظر إلى لطفه وحنانه صلى الله عليه وسلم. فلما فرغ من صلاته قال له: (يا أبا عبد الله! كيف حال بعيرك؟ فقال: والله ما عندي بعير، وما يشرد لي بعير)، ثم قال: (يا رسول الله! ادع الله لي. فوضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده على صدره، فقال: اللهم تب عليه واهده). فهذه حياتهم مع سيدنا مع الحبيب، فاللهم احشرنا في زمرتهم وأرناهم في الجنة يا رب العالمين.

بيان أربعة أمور يسأل عنها العبد يوم القيامة

بيان أربعة أمور يسأل عنها العبد يوم القيامة إن العبد عندما يقف عند الميزان يسأل عن أشياء أربعة: فأول شيء: الأوامر. وثاني شيء: النواهي. وثالث شيء: الذكر. ورابع شيء: الشكر. فأول ذلك الأوامر، ولأجل تنفيذ ذلك أنصح حال قراءة القرآن بأن يكون مع القارئ دفتر صغير، فكلما قرأ صفحة كتب ما فيها من الأوامر، وفي الصفحة الثانية من الدفتر يكتب النواهي، ثم بعد ذلك فينظر في الأمر الذي نفذه فيعلم عليه بالأخضر، والأمر الذي لم ينفذه فيعلم عليه بالأحمر، وكذلك النهي، وهكذا في كل يوم. فلو أني كل يوم أقول: في هذا الشهر سأطبق من الأوامر كذا، وبقي علي كذا ودرَّبت نفسي على ما بقي شيئاً فشيئاً، فإني سأجد نفسي بعد ذلك مؤتمراً بأوامر الله منتهياً عن نواهي الله عز وجل. فالله تعالى سيسألني عن الأوامر، وسيسألني عن النواهي. كما أنه تعالى سيسألني عن الذكر، والذكر ليس المراد به الذكر اللساني، بل الذكر بجنس ما أنعم الله عليك، كما لو كان هناك رجل له مكانة يستطيع بها أن يخدم الناس ويمشي في مصالحهم، فلو أن هذا الإنسان ترك ذلك وذهب يصلي ليل نهار، فهل تقبل صلاته وهو يستطيع أن يعطي الناس من وقته ومن جهده لقضاء مصالحهم ما هو خير له من الصلاة ومن الذكر؟! إذاً: ذكر هذا الرجل أن ينجز أعمال الناس بخير. والعالم ذكره لله أن يعلم الناس العلم، والغني ذكره لله أن يخرج من ماله، وهكذا كل واحد له مفتاح يدخل به على الله عز وجل، فاللهم أدخلنا عليك من جميع الأبواب. ثم بعد ذلك الشكر، فنحمد الله على كل حال، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يسره قال: (الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات)، وإذا رأى ما يكرهه. قال: (الحمد لله على كل حال).

بيان أن ترك الأمر أعظم جرما من ارتكاب النهي

بيان أن ترك الأمر أعظم جرماً من ارتكاب النهي فـ سهل التستري يقول: ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي؛ لأن آدم نهي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب الله عليه، وإبليس أمر بأن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يتب عليه. فترك الأمر أعظم عند الله جريرة وذنباً من ارتكاب النهي، فعندما يقال للرجل: صل، فلا يصلي، وعندما يقال للمرأة: تحجبي، فلا تتحجب، وعندما يقال: قل خيراً، فلا يقول خيراً، وعندما يقال: تعامل مع الناس بالخير، فلا يتعامل مع الناس إلا بالشر، فذلك تعطيل لأوامر الله عز وجل. فترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي، وذلك من وجوه عديدة:

الوجهان الأول والثاني لكون ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي

الوجهان الأول والثاني لكون ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي الأول: ما ذكره سهل من شأن آدم وعدو الله إبليس، فالله تاب على أحدهما ولم يتب على الآخر؛ لأن هذا ارتكب منهياً وهذا ترك أمراً. الثاني: أن ذنب ارتكاب النهي مصدره في الغالب الشهوة والحاجة. يعني: أنه محتاج إلى أن يأكل؛ لأن شهوته تدعوه إلى أن يأكل، فهناك دافع يدفعه إلى ارتكاب النهي. أما الأمر فذنب تركه مصدره في الغالب الكبر والعزة، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. ومثال ذلك في شارب الخمر، فهو مرتكب للنهي، والخمر من الكبائر، ولكنَّه يصلي، وفلان لا يصلي ولا يشرب الخمر، ففي رأي ابن القيم يكون شارب الخمر أقرب إلى الله من تارك الصلاة؛ لأن شارب الخمر لم يترب تربية جيدة، ولم يجد تربية إسلامية، ولا بيئة إيمانية، وإنما وجد مجتمعه كله يشرب فشرب، فهناك ما يدفعه لشربها. فـ ابن القيم يقول: إن هذا الذي لا ينفذ الأمر عبارة عن إنسان متكبر، والجنة محرمة على المتكبر، فمصدر تركه الأمر في الغالب الكبر والعزة، ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ويدخلها من مات على التوحيد وإن زنا وسرق، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من قال: (لا إله إلا الله) دخل الجنة، فقال أبو ذر: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟! فقال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق؟! قال: وإن زنى وإن سرق، فقال: وإن زنى وإن سرق، فقال: وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر)، فكان أبو ذر في المسجد يذهب ويجيء ويقول: وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر؛ سروراً بذلك؛ لأنه لم يكن يسرق ولا يزني. فالمذنب مبتلى بضعف العزيمة، فمن الواجب أن نعامله كمريض، والمريض لا ننهره، ولا نضربه، بل لابد من أن نقف بجانبه؛ لأنه مبتلى، والابتلاء في الدين أصعب أنواع الابتلاء، وأصعب من الابتلاء في الدين ابتلاء السلب بعد العطاء، حين يعطي الله تعالى الإنسان حلاوة نوره ثم بعد ذلك يسلبها منه، فيعتاد على درس علم ثم بعد ذلك يسلبه اعتياده. فعلى العبد أن يداوم على الأعمال حتى وإن قلت، فمن يقول: (سبحان الله) ثلاث مرات في اليوم ويواظب عليها طيلة عمره أحسن ممن يقول ذلك ألف مرة في يوم ثم بعد ذلك يترك، ففي الحديث: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، ولذلك روي أن سيدنا داود قال: يا رب! كم تسع كفة الميزان؟ قال: يا داود! تسع أطباق السماوات والأرض، فقال سيدنا داود: يا رب! ومن أين آتي بحسنات لكي أملأها؟! فقال: يا داود! إذا رضيت عن عبد ملأت له كفة حسناته بشق تمرة يتصدق بها مخلصاً من أجلي. ولذلك روي عن رجل من بني إسرائيل أنه عبد الله ستين سنة، ثم جاءته إلى صومعته امرأة بغي، فوقع عليها فارتكب الفاحشة، وكان معه رغيفان، فذهب قبل أن يتوب ليغتسل، فوجد مسكيناً، فأعطى المسكين الرغيفين، ثم مات وهو يمد يده بالرغيفين، فوزنت عبادة الستين سنة بالزنية التي ارتكبها فأذهبت عبادة الستين سنة، ثم دخل الجنة بالرغيفين. فأنت لا تعرف من أين يأتي الخير. إن الخوف من الله عز وجل يجب أن يتعادل مع الرجاء، ولكن يجب أن يكون الخوف أكثر من الرجاء؛ لأن الرجاء لا يفيد في زمن كثرت فيه الآمال، ولأن نخاف اليوم ونأمن يوم القيامة خير لنا من أن نأمن اليوم ونخاف يوم القيامة، ففي الحديث: (لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، إن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة، وإن أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة).

بيان ما يحصل به التطهير من الذنوب بعد الموت

بيان ما يحصل به التطهير من الذنوب بعد الموت إن مظالم العباد والصلاة التي لم يصلها العبد، والزكاة التي لم يزكها يطهر منها العبد على مرحلتين: الأولى: في القبر. فجل عذاب أمة محمد صلى الله عليه وسلم في القبور، فمن فضل الله أن كثيراً من الذنوب تتطهر عن العصاة في القبر. الثانية: شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشفاعة المؤمنين، فالمسلم قد يجد مسلماً يكاد أن يقع في النار، فيقول: يا رب! شفعني فيه؛ فلقد رآني مرة مظلوماً فنصرني، فيقول الله تعالى: خذ بيد أخيك وادخلا الجنة. ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من الأخلاء الصالحين، فإن لكل مؤمن شفاعة يوم القيامة)، كل مؤمن له شفاعة، مثل الرجل أو المرأة التي لها صلة طيبة بالناس، فإنهما إذا مرضا زارهما في المستشفى أناس كثيرون؛ لأن الرجل محبوب، والمرأة حنونة على الكل وحنونة على الأسرة كلها، فالأسرة كلها تحبها. ففي الحديث: (أكثروا من الأخلاء الصالحين؛ فإن لكل مؤمن شفاعته يوم القيامة)، وأول من يشفع هو الرسول صلى الله عليه وسلم، يشفع لأصحاب الكبائر من أمته، الذين عملوا كبائر ولم يتوبوا، وبعد شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع العلماء، ثم الشهداء ثم الصالحون، فهذه أربعة أنواع من الشفاعات، وبعد ذلك يقول الله عز وجل: (شفع الأنبياء وشفع حبيبي محمد وشفع العلماء وشفع الشهداء وشفع الصالحون، وبقيت شفاعتي، فيقول: أخرجوا من النار كل من قال: لا إله إلا الله)، فالحمد لله على أننا من أهل (لا إله إلا الله). فالله عز وجل يعطينا مواسم للعبادة ومواسم للطاعة، من أجل أن الواحد منا يكون عنده أمل في رحمة الله عز وجل، وعنده أمل في فضل الله عز وجل، وأمل في كرم الله عز وجل. والناس الذين لا تنفع معهم الشفاعة هم الذين قال تعالى عنهم: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] فلا شفيع ولا صديق ولا أحد، {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، فهؤلاء الشفاعة أغلقت من ناحيتهم، كصاحب البدعة، والمصر على المعصية، والمستهزئ بالله عز وجل، والذي كان يفضل مزامير الشيطان على كلام الرحمن، والذي يطبق الإحسان لغير الله ولا يطبق الإحسان لله، حيث يقول له شخص: والله العظيم لقد حصل كذا، فيقول: لا أصدقك، ثم يقول له: علي الطلاق لقد حصل كذا، فيقول: خلاص أنا أصدقك، والعياذ بالله، وكثير من الناس هكذا. وآخر من يخرج من النار يقضي فيها مدة، ومقدار هذه المدة إلى أن يأذن الله، فيعذب مدة من أجل أن يطهر من الإثم الذي عليه، ثم ينادي ويقول: يا رب! أخرجني من النار، يا رب! أخرجني فقط، لا تجعلني أشقى خلقك، فآخر رجل يخرج من النار رجل طال عذابه فيها يقول: يا رب! أخرجني من النار، فيقول الله عز وجل: عبدي! إن أخرجتك اعترفت لي بذنوبك؟ فيقول: يا رب! أعترف، ولكن أخرجني، فعندما يخرج من النار يقول الله عز وجل له: اعترف بذنوبك، إنك وعدت بأن تعترف، فيقول: يا رب! ليس لي ذنوب، فأنا لم أرتكب ذنباً قط، فيقول الله تعالى: يا عبدي! إن لي عليك بينة، فهناك شهود وحجج وبراهين وأدلة تقول: إنك أذنبت، فينظر عن يمينه فلا يرى أحداً، وينظر عن شماله فلا يرى أحداً، وينظر خلفه وأمامه فلا يرى أحداً، فيقول: (لا أرضى شهيداً على نفسي إلا نفسي)، أي: أنا أشهد على نفسي، لا أحد يشهد علي، قال صلى الله عليه وسلم: (فختم الله على لسانه وتنطق الجوارح بالمحقرات من ذنوبه)، فالجوارح تنطق بالذنوب الصغيرة فقط، ثم يعاد إليه النطق، فيقول: (تباً لكن، فعنكن كنت أناضل) أي: أنا كنت أكذب من أجلكن، (فيقول الله عز وجل: عمداً عمداً عمداً فعلت، أدخلوه الجنة، فيقول: يا رب! لقد ذكرت لي ذنوباً صغيرة)، فإذا كان الأمر هو دخول الجنة فلابد من ذكر كبائر الذنوب، فيقول: (يا رب! إن لي ذنوباً أكبر من ذلك، فيقول: يا عبدي! نحن إذا غفرنا، فقد غفرنا أجئت لتعلم لطيفاً خبيراً)، أي: عندما نحكم ينتهي الأمر، فهذا آخر من يخرج من النار. والجهنميون الذين قضوا مدة العقوبة وخرجوا من النار لا يدخلون الجنة مباشرة، فلو دخلوها فإن أهل الجنة سينظرون إليهم ويقولون: هؤلاء الذي قضوا في النار مدة طويلة، فالعذاب ظاهر في أشكالهم، بل قال صلى الله عليه وسلم: (فيغمسون في نهر يسمى نهر الحياة، فيخرجون كالأقمار ليلة التمام، يراهم أهل الجنة فيقولون: لقد سبقنا هؤلاء بزمن طويل)، فهؤلاء أصحاب النور سبقونا في دخول الجنة. إذاً: العبد إذا ارتكب منهياً فالأمر أيسر من تعطيله الأمر، فالجنة لا يدخلها من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.

الوجه الثالث لكون ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي

الوجه الثالث لكون ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي الأمر الثالث: أن فعل المأمور أحب إلى الله من ترك المنهي؛ لأن أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها وهي أمر، فأحب أمر عند الله هو أن أصلي الصلاة في وقتها، فهذا هو أفضل الأعمال عند الله، وفي الحديث (واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، عندما تأتي النهي والله عز وجل قد نهى عنه، فإنه كف النفس عن الفعل، ولهذا علق سبحانه المحبة بفعل الأوامر، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف:4]، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]. أما في جانب المناهي فأكثر ما جاء هو نفي المحبة، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23]، {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36]. وفي موضع ذكر المنهيات وأخبر تعالى أنه يكرهها ويسخطها، فقال تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [محمد:28]. قال: إذا عرف هذا -يعني: العبد- ففعل ما يحبه سبحانه مقصود بالذات، ولهذا يقدر ما يكرهه ويسخطه لإفضائه إلى ما يحب، كما قدر المعاصي والكفر والفسوق لما ترتب على ذلك مما يجب. فالله عز وجل قدر على كل شخص حظه من الذنوب، ففي الحديث: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، النظر واليد تزني وزناها اللمس، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه). فالإنسان له حظ من الذنوب لابد من أن يعملها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم)، يعني: أنت إذا لم تذنب فإن الله عز وجل سيأتي بأناس يذنبون ويستغفرون؛ لأن الله سبحانه وتعالى سوف يغفر لهم، فاللهم اجعلنا من الذين إذا أذنبوا استغفروا يا أرحم الرحمين.

الوجه الرابع لكون ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي

الوجه الرابع لكون ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي ففعل المأمور مقصود لذاته، وترك المنهي مقصود لتكميل فعل المأمور، فهو منهي عنه؛ لأجل كونه يخل بفعل المأمور أو يضعفه. ففعل المأمورات من باب حفظ قوة الإيمان وبقائها، وترك المنهيات من باب الحمية عما يشوش قوة الإيمان، فأنا عندما أعمل أمر الله سبحانه وتعالى أحفظ بذلك قوة إيماني؛ لأني أصلي، فربنا سيعطيني قوة، وأزكي وأصوم وأحج وأعتمر وأعمل الخير، فكلما نفذت أمراً من الأوامر أقترب من الله، وإذا لم أبتعد عن المناهي لا أضيع المأمور الذي أمرت به، كشخص يصلي ويكذب، فالكذب يكون ذنباً عليه، والصلاة يأخذ عليها حسنات. إذاً: عندما ارتكب النهي تحمل الإثم، والثواب مرتبط بفعل الأمر، فهو نفذ الأمر وصلى، ولكن كيف يصلي ويكذب؟ ويصلي ويختلس؟! ويصلي ويرتشي؟! ويصلي وهو يأكل الحرام؟! فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا خير فيها، لا خير في الصلاة إلا أن تكون لها ثمرة، ومن الثمرات أن المرء يكون عنده عزيمة على أن لا يرتكب المنهيات.

الوجه الخامس لكون ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي

الوجه الخامس لكون ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي إن فعل المأمورات حياة القلب وغذاؤه وزينته وسروره ولذته ونعيمه، أما ترك المنهيات بدون ذلك فلا يحصل به شيء من ذلك؛ لأنه لو ترك المرء جميع المنهيات ولم يأت بالإيمان والأعمال المأمور بها؛ لم ينفعه ذلك الترك، مثل الذي لا يصلي ولا يصوم، ولكن يقول: أنا أعامل الناس معاملة حسنة ولا أسرق ولا أغتاب أحداً ولا أنم. فهذا ترك المنهيات، ولكن لم يعمل الأوامر التي هي الصلاة والحج وغيرهما، فهل هذا يقبل منه الإيمان؟! مع أنه ترك كل المنهيات التي نهى عنها الله عز وجل، فلا يفتري على أحد، ولا يكذب على أحد. وليس معنى هذا أن الأمر نفسه نهي، لا، فالأمر أمر والنهي نهي، فربنا سبحانه وتعالى أمرني بأوامر ونهاني عن مناه، فلابد من أن آتمر بالأمر. يقول ابن القيم: (لكن فعل الأمر أفضل). فمازال يؤكد أن فعل الأمر أفضل عند الله من ترك النهي. يقول: فمن فعل المأمورات والمنهيات فهو إما ناج مطلقاً إن غلبت حسناته سيئاته، وإما ناج بعد أن يؤخذ منه الحق ويعاقب على سيئاته، فمآله إلى النجاة، وذلك بفعل المأمور، ومن ترك المأمورات والمنهيات فهو هالك غير ناج. فهذا هو الكلام المؤكد، يقول: شخص يعمل المأمورات، فالله عز وجل أمره بأوامر فهو يعملها، يصلي ويصوم ويتقي الله، ويغض البصر، وفعل المنهي، حيث كذب وسرق، قال: هذا أمره إلى الله، فإن غلبت حسناته سيئاته نجا؛ إذ إننا في الآخرة ثلاثة أصناف: فمنا من حسناته تغلب السيئات، ومنا من تستوي حسناته وسيئاته، ومنا من تكون سيئاته أكثر من الحسنات، ثم إن من كانت حسناته أكثر من سيئاته فريقان: مقربون وأصحاب يمين، فمن المقربين أبو بكر وعمر وعلي وعثمان. فإذا كنا نفعل المأمورات ونرتكب المنهيات وغلبت الحسنات السيئات فذلك خير وبركة. وإذا كانت حسناتنا مثل السيئات كنا من أصحاب الأعراف، وإذا جاءت السيئات أكثر من الحسنات فهناك ننجو بشفاعة، أو يأتي عفو الرحمن. أما من يترك المأمورات والمنهيات، فلا يصلي ولا يصوم فهو هالك، إذاً: الأساس كله يدور على فعل المأمورات وقد يشكل الهلاك بالشرك، وذلك أمر مجاب عنه، فإن قلنا: إنما هلك بارتكاب المحظور وهو الشرك، قيل: يكفي في الهلاك ترك نفس التوحيد المأمور به. الذي يشرك بالله هذا ارتكب منهياً، ولكنَّه ترك مأموراً، وهو التوحيد، فالقضية في الشرك ترك المأمور الذي هو توحيد الله عز وجل. كما أن المدعو إلى الإيمان إذا قال: لا أصدق ولا أكذب، ولا أحب ولا أبغض، ولا أعبده ولا أعبد غيره؛ كان كافراً، كشخص يقول لك: إن هناك قوة في العالم أنت تسميها الله أو تسميها أي شيء، فأنا لا أعبد الله ولا أعبد غير الله، والعياذ بالله، فهذا يكون كافراً بمجرد الترك والإعراض بخلاف ما إذا قال: أنا أصدق الرسول وأحبه وأؤمن به، وأفعل ما أمرني، ولكن شهوتي وإرادتي وطبعي حاكمة علي لا تدعني أترك ما نهاني عنه، وأنا أعلم أنه قد نهاني وكره لي فعل المنهي، ولكن لا صبر لي عنه، فهذا لا يعد كافراً، ولكنه مؤمن عاص. فهو يؤمن بأنه يحب الرسول ويعمل المأمورات، ولكن الشهوات تغلبه جداً إلى درجة أنه يأخذ من مال الناس ما لا يحق له، وينظر نظرة محرمة، ويسمع السماع، ويشرب كذا، وكل هذه الأمور الله سبحانه وتعالى سوف يغفرها له إذا شاء، ولكن عندما يترك الأمر فيقول: أنا لا أحب ولا أبغض، ولا أعمل المنهي؛ يكون كافراً والعياذ بالله.

الوجه السادس لكون ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي

الوجه السادس لكون ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي يقول: إن الطاعة والمعصية إنما تتعلق بالأمر أصلاً وبالنهي تبعاً، فالمطيع ممتثل مأمور، والعاصي تارك المأمور. فالله تعالى يقول: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم:6]، وقال موسى لأخيه: {يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:92 - 93] إذاً: هنا عصيان الأمر. وقال عمرو بن العاص عند موته: أنا الذي أمرتني فعصيت -يخاطب الله سبحانه وتعالى- ولكن لا إله إلا أنت، أي: المهم أنني أموت على التوحيد.

الوجه السابع لكون ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي

الوجه السابع لكون ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي يقول: والمقصود من إرسال الرسل طاعة المرسل. يعني أن المقصود من إرسال الرسل أن نطيع الله سبحانه وتعالى، ولا تحصل طاعته إلا بامتثال أوامره، واجتناب المناهي من تمام امتثال الأوامر ولوازمه، ولهذا لو اجتنب المرء المناهي ولم يفعل ما أمر به؛ لم يكن مطيعاً وكان عاصياً، بخلاف ما لو أتى بالمأمورات وارتكب المناهي، فإنه -وإن عد عاصياً مذنباً- مطيع بامتثال الأمر عاص بارتكاب النهي.

سبق الأكياس بما وقر في قلوبهم

سبق الأكياس بما وقر في قلوبهم قال أبو الدرداء رضي الله عنه: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم. الأكياس: جمع كيَّس، والكيس هو الفطن. فالمؤمن كيس فطن، وليس كيس قطن، كما أن المؤمن مثلما قال سيدنا ابن عمر: من خدعنا بلله انخدعنا له. فإذا دخل علي بالله سبحانه وتعالى فإني أصدقه، فمن خدعنا بالله انخدعنا له، لكن هو إذا خدعنا بالله واستغل هذا الخداع فإنما يخدع نفسه؛ لأن المخادع في النار يوم القيامة؛ لأنه يستغل الدين لكي يخدع الناس والعياذ بالله رب العالمين، وطالما كان في الدنيا مغفلون فالمحتالون بخير، وهذا مثل معروف. يقول أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم. يريد أن يفسر حديث: (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب)، يعني: يقف يصلي بالليل ويمن على الله أو يرائي، فالنوم أحسن. وكذلك الصائم الذي يصوم عن الأكل والشرب، ولكن لا يصوم عن أعراض الناس ولا يصوم عن المال الحرام، فلو أنه أفطر لكان ذلك أحسن. والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين، فالإنسان المغتر لو عمل جبالاً من العبادة لا تنفعه. يقول: إنما العبد يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته، لا ببدنه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح، فقد رأت السيدة عائشة مجموعة من الشباب يمشون قد طأطئوا رءوسهم، فقالت: من هؤلاء؟ قالوا لها -نساك أي: عباد- فقالت: رحم الله عمر بن الخطاب؛ كان إذا مشى أسرع وإذا قال أسمع وإذا أطعم أشبع، وإذا ضرب أوجع وكان هو الناسك حقاً رضي الله عنه، فكان يمشي رافعاً رأسه وليس مطأطئاً لرأسه أبداً، ورغم ذلك كان قلبه رحيماً رضوان الله عليه. وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، وقال صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا) وأشار إلى صدره الشريف صلى الله عليه وسلم، فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجديد القصد وصحة النية مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب والمشقة. ولقد دخل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر على زوجته جويرية فوجدها على مصلاها تسبح الله، وتقول: الحمد لله، ثم بعد ذلك: (الله أكبر)، فقال لها: ماذا تعملين؟ قالت: أسبح يا رسول الله! قال لها: من متى؟ قالت: من بعد ما انتهينا من الصلاة، قال لها: (لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته).

§1/1