شرح كتاب الحج من بلوغ المرام

عبد الله بن مانع الروقي

مقدمة

مقدمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فهذا شرح متوسط لكتاب الحج من بلوغ المرام عقدناه في ست مجالس في أحد مجالس الرياض وقد ضمنته كثيرًا من فوائد شرح شيخنا ابن باز وشيخنا ابن عثيمين رحمهما الله وأضفت فوائد حديثية وفقهيه كثيرة نسأل الله أن ينفع به ولا يفوتني أن أشكر الأخوة الذين قاموا بتفريغ الأشرطة وطباعتها فجراهم الله خيرًا وأجزل مثوبتهم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. عبد الله بن مانع الروقي

نصيحة عامة وفائدة مهمة

نصيحة عامة وفائدة مهمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد: فما أحب أن أنصح به إخواني قبل الولوج في الشرح هو: أن طالب العلم عندما يدرس في العبادات يقرأ في كتب الأثر - الحديث -، وهي تكاد تكون مشروحة بذاتها، فلو اعتمد الإنسان على الآثار النبوية الصحيحة لم يحتج إلى شرح في الغالب إن استقام فهمه، ثم لا بأس من فهم كلام أهل العلم والاستفادة منهم. وأحاديث العبادات كثيرة جدًّا في كتب السنة وفيها تفصيل كل شيء؛ لأن العبد في العبادات ما يتحرك إلا بأثر - حديث - صحيح؛ لأنه يتعبد الله - عز وجل - بقيامه وقعوده وكلامه وسكوته ... وما أشبه ذلك. فمثلاً: (الصلاة) أحاديثها في كتب الفقه كثيرة جدًّا. وأيضًا: (الحج) ففي صفة الحج حديث جابر منسك لو أن الإنسان فقهه وزاد عليه بعض الأحاديث اليسيرة فقط في تكميل النسك لاكتفى بهذا. أما في المعاملات فيضم إلى كتب الأثر كتب الفقه؛ لأن الأحاديث في المعاملات قليلة؛ لأن الأصل في المعاملات والحل وإنما جاءت الشرائع بوضع ضوابط للعباد مثل: «البيِّعان بالخيار ...» (¬1) و «لا تبع ما ليس عندك» (¬2). فالأحاديث في البيوع مثلًا قليلة فربما لا تكون بقدر ما جاء في بعض أبواب العبادات ولا أقول كتب بل أبواب!. ¬

(¬1) هذه النصيحة هي بمثابة التوعية قبل أن يلج الإنسان الشرح وقد استخلصها من وسط الدروس. والحديث رواه البخاري (1973، ومواضع)، ومسلم (1532)، وغيرهما. (¬2) رواه أبو داود (3503)، والترمذي (1232)، والنسائي (4613)، وابن ماجه (2187)، وأصله في صحيح البخاري بمعناه.

فإن شئت أن تستوفي صحتها وشرائطها؛ فهذا يحتاج لتجميعها من كتب الفقه المعتمدة على النصوص، ويحتاج إلى فهم كلام أهل العلم وقياساتهم واستنباطهم. فلهذا أهل العلم في المعاملات يشققون في المسائل ويقعدونها، لذلك الإنسان إذا درس المعاملات من كتب الحديث فقط قد يفوته بعض الأشياء المهمة في البيوع أو الأنكحة أو غيره؛ لأنها تحتاج إلى فهم وشرح وتأصيل وتقعيد.

قال المؤلف - رحمه الله -

قال المؤلف - رحمه الله -: كتاب الحج بَابُ فَضْلِهِ وَبَيَانِ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لَمِا بَيْنَهُمَا، وَالَحجُّ المَبْرورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الَجَنَّةَ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). وَعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الحَجُّ، وَالعُمْرَةُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْرَابيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي عَنِ العُمْرَةِ، أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: «لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَك» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ]. وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - مَرْفُوعًا «الحَجُّ وَالعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ». وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: «الزَّادُ والرَّاحِلَةُ». رَوَاهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَالرَّاجِحُ إِرْسَالُهُ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا، وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَقَى رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: «مَنِ القَوْمُ؟» (قَالُوا: المُسْلِمُونَ)، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: «رَسُولُ اللهِ» فَرَفَعَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَك أَجْرٌ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. ¬

(¬1) سيأتي تخريج الأحاديث - إن شاء الله - كلٌ في موضعه.

يقول المؤلف - رحمه الله -: (كتاب الحج) أي: هذا كتاب الحج، ثم بدأ بفضله وبيان من فرضه عليه، والحج لا شك أنه ركن من أركان الإسلام فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بني الإسلام على خمس ...» وذكر الصيام الركن الرابع ثم ذكر الحج (¬1)، وفي رواية أنه ذكر الحج ثم ذكر بعده الصيام (¬2)، وهذه رواية البخاري فيها تقديم الحج وتأخير الصيام، ولكن المشهور في الأحاديث في ترتيب أركان الإسلام أن الحج هو آخرها، وهذه رواية مسلم في صحيحه وأصحاب السنن وغيرهم ففيها تقديم الصيام على الحج. ولن نطيل الكلام في مسألة فرضية الحج، إنما الكلام في المسائل التي تحتاج بحث ونظر. ومن المسائل المهمة: متى فرض الحج؟ وعلى هذا ينبني الخلاف في مسألة وجوب الحج هل هو على الفور أم على التراخي؟. الصحيح أن الحج فرض في العام التاسع من الهجرة، وأما قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. فهذه الآية نزلت في صلح الحديبية في العام السادس، وهذه الآية ليس فيها إلا إتمام فرائض الحج والعمرة وسننهما كما فسرها جماعة من السلف من الصحابة والتابعين. وأما فرض الحج فهو في آية آل عمران {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ (¬3) الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]. فمن باب الاستطراد النافع نقول: ¬

(¬1) أخرجه مسلم (19)، والترمذي في الجامع (2609)، والنسائي في المجتبى (5001)، وغيرهم من أصحاب السنن والمعاجم والمسانيد. (¬2) أخرجه البخاري رقم (8)، ومسلم (20، 21) وقد تكلم الحافظ ابن حجر على هذه الرواية كلاما جيدًا فانظره في شرح الحديث، وأيضًا كلام الإمام النووي في شرح حديث رقم (16) من صحيح مسلم وقد أورد كلام أهل العلم في النظر فيها فانظره ففيه فوائد. (¬3) هكذا الأفصح أن يقال حِج البيت وليس حَج البيت كما هو كتاب الله وأيضًا يقال ذو الحِجة.

هل يدل هذا على أن من لم يحج كافر؟ الأمر كما روي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {.. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ ..} [النمل: 40]، قال: «من كفر بالحج فلم ير حجه برًا ولا تركه مأثمًا» (¬1). وإن كان هذا الخبر به ضعفًا لكن معناه صحيح فعلى معناه يدل مفهوم كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة - رضي الله عنهم - وإجماع الأمة. فمما لا شك فيه أن الذي لا يرى الحج برًّا ولا يرى تركه إثمًا كافر (¬2). وقد نزلت آية آل عمران: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} في العام التاسع من الهجرة في عام الوفود باتفاق أهل السير. وأما قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فنزلت في العام السادس من الهجرة، وكانت مكة في قبضة المشركين حيث أنها ظلت في أيديهم إلى العام السابع، وفي هذا العام أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعمرة القضية (¬3). وفي العام الثامن من الهجرة كان فتح مكة وفي التاسع كان عام الوفود (¬4) وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ماكثًا في المدينة مشتغلًا باستقبال الناس لدخولهم في الإسلام زرافات ووحدانا، وكان هذا أنفع. ¬

(¬1) رواه البيهقي في شعب الإيمان (3/ 427 رقم 3971)، وفي السنن الكبرى (4/ 324 رقم 8389) من كلام ابن عباس فيما رواه عنه علي بن أبي طلحة، ورواية علي بن أبي طلحة وإن كان من رجال مسلم إلا أن روايته عن ابن عباس منقطعة عند أهل العلم، ولكنها وجدت بالتتبع والاستقراء موفقة للصحيح. (¬2) وقد عدد أهل التفسير والأثر الشواهد على هذا في تفسير الآية السابقة فلمزيد بيان انظر إن شئت تفسير الآية في تفسير الطبري والقرطبي وفتح القدير والدر المنثور وروح المعاني ... وغيرهم. وانظر أيضًا في المسألة ذاتها كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (20/ 91)، وشرح العمدة (3/ 633)، وانظر بدائع الصنائع (2/ 290). (¬3) قال ابن عبد البر في التمهيد (15/ 212)، وابن حجر في الفتح (3/ 602): سميت بذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاضي قريشًا وصالحهم في ذلك العالم على الرجوع عن البيت وقصده من قابل إن شاء فسميت بذلك عمرة القضية. اهـ. وكانت في ذي القعدة. (¬4) سُمي بهذا لكثرة الوفود التي وفدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، ولمزيد من التفصيل انظر كتاب المغازي في المجلد السابع من صحيح البخاري بداية من حديث رقم (4365)، ومسلم كتاب الفضائل.

وأيضًا هناك مانع آخر منعه - صلى الله عليه وسلم - من الحج في العام التاسع؛ أن المشركين كانوا يحجون، ولهذا بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي بكر وأتبعه بعلي بن أبي طالب، فكانوا يُعْلِنُون أنه لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عُريان ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة (¬1). فكان هذا إعلانًا من الله ورسوله أن الحج في السنة القادمة لا يحج إلا المسلمون، وهذان مانعان مشهوران عند أهل العلم من عدم حج النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع للهجرة. فالخلاصة موانع حج النبي - صلى الله عليه وسلم - في العام التاسع: أولاً: أن الحج كان فيه مشركون كثير سنة تسع. الأمر الثاني: أن النبي اشتغل في العام التاسع بالوفود، وعدد الوفود الذين قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أفاد الحافظ أنهم بلغوا ستين وفدًا كما ذكره في فتح الباري في باب حج أبي بكر بالناس من كتاب المغازي (8/ 83). وهناك أمر ثالث ذكره شيخ الإسلام والحافظ ابن حجر وغيرهم: وهو أن الزمان لم يكن قد استدار، وكانت قريش وغيرها من مشركي العرب يعبثون في الزمان، كما قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة: 37]. فكانوا يؤخرون الشهور، فكانت الأيام لم تقع على هيئتها كما خلقها الله - عز وجل -، لهذا لما خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة عشر من الهجرة في حجة الوداع قال: «إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض» (¬2). أي: وقعت الأيام موقعها، وكان شهر ذي الحجة موافق لأول ابتداء الخلق، فكان الحج حقيقيًّا، وإن كان هذا في كونه مانع نظرًا من حيث إن الناس - كما أجمع أهل العلم - لو وقفوا في اليوم الثامن أو اليوم العاشر بعرفة لصح حجهم باتفاق. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (362، 1543، 4378)، ومسلم (1347). (¬2) رواه البخاري (4385، 5230)، ومسلم (1679).

فهذا الوجه فيه ضعف من هذه الحيثية، ويمكن أن يقال بالفرق فإنما صح حج الناس في مثل هذه الصورة لعدم العلم. فالصحيح أن الحج فرض في العام التاسع من الهجرة، وعلى هذا ما يكون النبي تركه إلا بأعذار فيكون الأصل الحج على الفور. وقد حكى شيخ الإسلام اتفاق الصحابة والسلف أنه على الفور كما في شرح العمدة (2/ 215). ويدل عليه أثر عمر - رضي الله عنه -، وقد روي عنه من غير وجه وهو ثابت عن قوله: «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديًّا أو نصرانيًّا» (¬1). وفي لفظ عنه: «ولقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار فينظروا كل رجل ذا جِدة لم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين» (¬2). قال شيخ الإسلام في شرح العمدة: وهذا قول عمر ولم يخالفه مخالف من الصحابة اهـ. والمشهور عند الشافعية أن الحج فرض في العام السادس من الهجرة، وعلى هذا جرى قولهم واشتهر عنهم أن الحج ليس بواجب على الفور، وإنما على التراخي، والعجيب أنهم يقولون: الحج ليس بواجب على الفور، ولكن من مات علمنا أنه واجب عليه، فيلزمه إن كان ترك مالًا أن يخرج من تركته من يحج عنه. واحتج بعض الشافعية وغيرهم بأنه في قراءة بعض أصحاب ابن مسعود كعلقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود، وصح عن إبراهيم النخعي أنه قرأ قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} بلفظ: (وأقيموا). ¬

(¬1) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 306) رقم (14455) بلفظ: «من مات وهو موسر لم يحج فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا»، والبيهقي في سننه الكبرى (4/ 334) رقم (8444)، أبو نعيم في الحلية (9/ 252) بألفاظ تدل على نفس المعنى كلها عن عمر - رضي الله عنه -. (¬2) ذكره شيخ الإسلام في شرح العمدة (2/ 215) لكني لم أقف عليه في الأمهات.

ولكن هذه القراءة ضعيفة من وجهين: الأول: أنها تخالف الرسم العثماني فتكون شاذة. الثاني: أنها تفسيرية (أقيموا) و (أتموا) متقاربان. والصحيح أنها تفسيرية للآية بالرسم المشهور {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ .. الآية}. وعلى هذا لا حجة لمن قال أن الحج واجب على التراخي، فالصحيح أن الإنسان إذا بلغ سن البلوغ، كما لو بلغ في شوال أو في ذي القعدة، وكان موسرًا تلك السنة فيجب عليه أن يحج في أول سنة يأتي عليه فيها الحج، ومن مات وقد فرَّط في أداء الحج بعد القدرة عليه فَيُخْشَى ألا ينفعه تأديته عنه بعد موته (¬1). وهل الحج عبادة بدنية أو مالية؟ الأصل فيه أنه عبادة بدنية ولكن قد يحتاج الإنسان فيه إلى المال، ولكن المال ليس فيها على وجه اللزوم مثل الجهاد، فالجهاد عبادة مالية وبدنية لما يحتاج إليه من المركوب والسلاح وما أشبه ذلك، وأما الحج فبإمكان الحاج أن يحج ولا ينفق شيئًا. هذا هو الأصل ولكن الغالب على أهل الآفاق أنهم يحتاجون إلى مال فهذا لا يخرجه عن الأصل. فشروط الحج: 1 - الإسلام. 2 - البلوغ. 3 - العقل. 4 - الحرية. 5 - القدرة. ونظمها بعضهم في بيتين قال: الحج والعمر ة واجبان ... في العمر مرة بلا تواني شرط إسلام كذا حرية ... عقل بلوغ قدرة جلية ¬

(¬1) انظر كلام ابن القيم في تهذيب السنن (3/ 282).

الحديث الأول فضل العمرة والحج

الحديث الأول فضل العمرة والحج عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «العُمْرَةُ إلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ (¬1) لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةَ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬2). في هذا الحديث من الفوائد: أن فضل العمرة دون فضل الحج، ولهذا عبَّر بأن العمرة تكفر ما بينها وبين العمرة التي تليها، وأما الحج المبرور فليس له جزاء إلا الجنة، وهذا لا شك فيه فالحج والعمرة لا يستويان لا في الأجر ولا في الوجوب، فالحج واجب بالنص والإجماع والعمرة فيها خلاف يأتي ذكره إن شاء الله، والعمرة أقل أعمالًا ولهذا كانت العمرة كفارة لما بينها وبين العمرة التي تليها. قوله: «الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةَ» يقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: (والحج المبرور ما اجتمع فيه أمور: أولاً: أن يكون خالصًا لله - عز وجل - وهذا شرط في كل عبادة. ثانيًا: أن يكون بمال حلالٍ، فإذا كان بمال حرام فليس بمبرور. بل قال بعض أهل العلم: إن الحج بمال حرام لا يُقْبل، والصحيح أنه صحيح مع الإثم، لأن الجهة منفكة؛ لأن المال الحرام لا يطرأ على شرائط الحج، ولا على أركانه ولا على واجباته، أشبه بالصلاة في الدار المغصوبة على القول الراجح بل هو أولى من ذلك. ثالثًا: أن يقوم بفعل ما يجب وأن يترك ويجتنب كل ما يحرم لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ...} الآية [البقرة: 197]. ¬

(¬1) المبرور: هو الذي لم يخالطه آثام ومعاصٍ. (¬2) رواه البخاري (1773)، ومسلم (1349). انظر تحفة الأشراف (9/ 390، 386).

فإذا اجتمعت هذه الأشياء في الحج يرجى للإنسان أن يكون حجه مبرورًا). هل الحج يكفر السيئات الصغائر فقط دون الكبائر؟ اشتهر عند أكثر أهل العلم أن الحج يكفر الصغائر فقط، وذهب بعضهم أن الحج يكفر حتى الكبائر، واحتجوا بما أخرجه البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (¬1). ولا شك أن الإنسان تلده أمه ليس عليه من الذنوب لا صغائر ولا كبائر. واحتجوا أيضًا بما رواه مسلم من طريق عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص في الوفاة فَحوَّل وجهه تجاه الجدار، فأخذ يبكي ثم قال: إني كنت على أطباق ثلاثة، ثم ذكر أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يبايعه فقال: يا رسول الله أبسط يدك لأبايعك! فبسط النبي - صلى الله عليه وسلم - يده فقبض عمرو يده فقال - صلى الله عليه وسلم -: «مالك يا عمرو؟» قال: أردت أن أشترط! قال: «تشترط بماذا؟» قال: اشترط أن يغفر الله لي. فقال: «أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الحج يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها» (¬2). وليس في هذا الحديث أن التوبة تهدم ما قبلها بل لا يصح بهذا اللفظ حديث (¬3). والشاهد أن الحج يهدم ما كان قبله ولا شك أن الصغائر تمحوها الصلاة والوضوء وما أشبه ذلك، فلا يُعَبَّر بشيء أنه يُهْدَم إلا بشيء قائم وهو الذنوب الكبار، والاستدلال بهذا ظاهر على أن الحج يكفر الذنوب الكبار. وهذا مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في الجملة، فشيخ الإسلام يرى أن من الأعمال الصالحة ما يكفر حتى الكبائر. ¬

(¬1) رواه البخاري (1449، 1723، 1724)، ومسلم (1350). (¬2) رواه مسلم (121). (¬3) أي: لا يثبت في هذا الحديث هذا اللفظ، لكن التوبة النصوح ثبت بالكتاب والسنة فضلها والحث عليها.

قالوا: لهذا غزوة بدر - كما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (¬1) - كَفَّرت عمن شهدها ما عمل بعد ذلك، على أحد التفاسير المشهورة للخبر وهو الصحيح. فالحسنات العظام تُكَفَّر ما تصادف من السيئات، فقد تمحو كل السيئات وقد تمحوا أكثرها دون كونها مختصة بالصغائر، وهذا هو القول الراجح في الغزو، وفي بر الوالدين، وفي الحج، وفي العمرة، إذا كانت خالصة لله، وقد يكون هذا حتى في الصلوات التي يكون فيها خشوع واستحضار لعظمة الله - عز وجل -. لكن قال أهل العلم: إنه لا يُكَفِّر من السيئات إلا المقبول من العمل الصالح، فلو أن إنسانًا قام يصلي وقلبه ليس بخاشع بل في أودية الدنيا، فحسب هذه أن يسقط بها الفرض فضلًا عن أن تكفر شيئًا من السيئات، كما قال شيخ الإسلام وابن القيم والحافظ ابن حجر: (وإنما يكفر من الذنوب ما استجيب وما قبل من الأعمال الصالحة) وهذا ينبغي أن يكون معلومًا. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (2845، 2915، 3762، 4025، 4608، 5904، 6540)، ومسلم (2494)، وغيرهما من أصحاب السنن والمعاجم والمسانيد.

الحديث الثاني ما على النساء من جهاد

الحديث الثاني ما على النساء من جهاد وَعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ! عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الحَجُّ، وَالعُمْرَةُ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيح (¬1). هذا الحديث: أصله في صحيح البخاري؛ «أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: نرى الجهاد أفضل الأعمال أفنجاهد؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لكن أفضل الجهاد حج مبرور» (¬2). وقد احتج بهذا اللفظ الذي في السنن وفي مسند الإمام أحمد وابن ماجة على أن العمرة واجبة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليهن» وهذه الصيغة عند أهل العلم ليست صريحة في الوجوب ولكنها ظاهرة فيه. ففي حديث: «يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة» (¬3) ليس كل الخصال المذكورة واجبة. فهذا الحديث أحد الأحاديث التي استدل بها من قال بأن العمرة واجبة كالحج، وهذا اختيار شيخنا ابن باز - رحمه الله -، واختيار الشيخ ابن عثيمين، وهو مذهب البخاري كذلك في صحيحه، قال: باب وجوب العمرة وفضلها، واحتج بحديث الترجمة حديث الباب الأول «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما». ¬

(¬1) أخرجه أحمد (6/ 165)، وابن ماجه (2901)، وابن خزيمة (3074)، انظر تحفة الأشراف (12/ 402). (¬2) أخرجه البخاري (1520، وأطراف 1861، 2784، 2875، 2876). التحفة (17871). (¬3) أخرجه البخاري (2560، 2734، 2827)، ومسلم (720، 1007، 1009)، وغيرهما.

ولما لم يصح على شرط البخاري حديث في وجوب العمرة وإنما اكتفى بالترجمة، وهذه عادته - رحمه الله -؛ أنه إذا لم يصح الحديث على شرطه إما أن يذكر اختياره في الترجمة، أو يسند إلى بعض الصحابة والتابعين اختياره هذا، ومن درس البخاري علم هذا. فائدة: إن الحديث بهذا اللفظ غير محفوظ، فإن هذا اللفظ جاء من طريق محمد بن فضيل عن حبيب بن أبي عمرة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - به. وهذا الإسناد ظاهره الصحة، ولكن ذِكْر الحديث بلفظ الأمر تفرد به محمد بن فضيل، فقد روى الحديث عن حبيب بن أبي عمرة بلفظ الخبر والفضيلة، وليس بلفظ الأمر، جماعة من الرواة منهم: 1 - عبد الواحد بن زياد (¬1). 2 - خالد بن عبد الله الطحان (¬2). 3 - سفيان الثوري (¬3). 4 - جرير بن عبد الحميد (¬4). 5 - يزيد بن عطاء اليشكري (¬5). هؤلاء يروونه بلفظ البخاري، فالصحيح أن هذا اللفظ - لفظ الأمر - غير محفوظ فلم يتم الاستدلال به على وجوب العمرة. هذا أحد الأدلة التي استدل بها من قال إن العمرة واجبة. ¬

(¬1) انظر «صحيح البخاري» (1861)، وأحمد (6/ 79). (¬2) انظر «صحيح البخاري» (1520). (¬3) انظر «صحيح البخاري» (2876). (¬4) انظر «سنن النسائي» (5/ 114). (¬5) وهو لين الحديث، انظر «مسند أحمد» (6/ 71).

وكذلك استدلوا بحديث عمر الذي أصله في مسلم في سياق أركان الإسلام قال: «وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة» (¬1). ولكنه بهذا اللفظ «تحج وتعتمر» تفرد به سليمان التيمي، ومسلم - رحمه الله - رواه بدون هذه اللفظة، وساق إسناده من طريق سليمان التيمي نفسه لكن لم يسق لفظه فقال: بنحوه. أي: كما تقدم بلفظه الأول الذي ليس فيه زيادة «وتعتمر» فمسلم عَدَل عن هذه اللفظة، وهذا هو الحديث الثاني الذي استدل به من قال بوجوب العمرة، وهو معلول بتفرد سليمان التيمي فقد خالفه جماعة من الحفاظ. وكذلك استدلوا بحديث الصُّبي ابن معبد عند أبي داود وغيره أنه أتى عمر فقال: إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ في كتاب الله! فقال: (هديت لسنة نبيك) (¬2). فهذا مع كونه غير صريح إلا إنه اختلف في لفظة بهذا السياق (إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ) فهو بهذا الحرف فيه نظر، ثم إنه لو كان محفوظًا (إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ) ليس المراد بالكتابة: الفرض فهو قابل للتأويل بمعنى أنها مشروعة، ثم إنه أحال على كتاب الله، وليس في كتاب الله وجوب العمرة كما هو معلوم!. وإن أُريد به في حكم الله وأقره عمر، فيكون قولًا له - رضي الله عنه -. وأصح ما استدل به على وجوب العمرة ما أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير لا يستطيع: الحج، ولا العمرة، ولا الظعن؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حج عن أبيك واعتمر» (¬3). ¬

(¬1) بهذا اللفظ رواه ابن خزيمة (1/ 3) رقم (1)، وابن حبان (1/ 397) رقم (173)، والدارقطني (2/ 282) رقم (207)، والبيهقي (4/ 349) رقم (8537). (¬2) أخرجه أبو داود (1/ 559) رقم (1798، 1799)، وغيره. (¬3) أخرجه الترمذي (3/ 269) رقم (930)، وأبو داود (1/ 562) رقم (1810)، والنسائي (5/ 111، 117) رقم (2621، 2637)، وابن ماجه (2/ 970) رقم (2906)، وأحمد (4/ 10، 11، 12) وابن حبان (9/ 304)، وغيرهم من أصحاب السنن والمعاجم والمسانيد.

وقد أخرج البيهقي بسنده من طريق مسلم قال: سمعت أحمد بن حنبل - رحمه الله - يقول: (لا أعلم حديثًا أصح وأجود إسنادًا في إيجاب العمرة من هذا). هكذا قال الإمام أحمد وقد روُي عنه بالإسناد الصحيح، ولكن نازع الإمام أحمد جماعة من الحفاظ المتأخرين كابن دقيق العيد، وقالوا: لمن هذا فيه مشروعية العمرة عن الأموات ليس فيه أنها واجبة ابتداءً، وإنما فيه الإذن بالحج عنه والاعتمار هذا مجمل الأدلة على وجوب العمرة. وشيخنا ابن باز - رحمه الله - يحتج بزيادة: «تحج وتعتمر» وبهذا اللفظ: «عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة». والبخاري كما ذكر قال: باب وجوب العمرة وفضلها. ومسألة وجوب العمرة تكاد تكون مناصفة بين أهل العلم ليس فيها جمهور. هذه الأدلة، وفيما تقدم كنا نميل إلى الوجوب لكن الآن أقل ما يقال: (وفي الوجوب نظر). فالأحوط ألا يدع الإنسان العمرة، ولكن مع القول بأنها واجبة فهي ليست ركنًا من أركان الإسلام باتفاق العلماء، فقد يكون الشيء واجبًا وليس ركنًا، وهذا يكون في كثير من التكاليف الشرعية، تكون واجبة ولكنها ليست من الأركان، فالواجبات في العبادات غير الأركان كثيرة، فهذه زكاة الفطر ليست ركن من أركان الإسلام وهي واجبة بالنص والإجماع.

الحديث الثالث، والرابع هل العمرة واجبة كالحج

الحديث الثالث، والرابع هل العمرة واجبة كالحج وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ العُمْرَةِ، أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: «لَا، وَأَنْ تَعْتَمِر خَيْرٌ لَك» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ]. وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ (¬1). وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - مَرْفُوعًا: «الحَجُّ وَالعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ» (¬2). أما الحديث الأول في نفي وجوب العمرة، ولا يصح في نفي وجوب العمرة حديث كما قال الشافعي وغيره. وتقدم أن الأحاديث التي فيها وجوب العمرة فيها مقال على ما تقدم وأما الحديث الآخر «الحَجُّ وَالعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ» فلا يثبت ولا يصح. والعلماء في العمرة على ثلاثة أقوال: 1 - منهم من يرى أنها سنة. 2 - ومنهم من يرى أنها واجبة مطلقًا. 3 - ومنهم من يرى أنها واجبة على غير أهل مكة وإنما هي مستحبة لهم؛ لأنهم أهل البيت ويطوفون، وهذا أعظم أركان العمرة والبيت عندهم فالعمرة ليست واجبة عليهم. ¬

(¬1) ضعيف مرفوعًا، صحيح موقوفًا: أخرجه أحمد (3/ 316)، والترمذي (931)، وغيرهما. وإسناده ضعيف لضعف حجاج بت أرطاة وتدليسه، وقد عنعنه. ورواه البيهقي (4/ 349)، بسنده موقوفًا على جابر - رضي الله عنه -، ثم قال: هذا هو المحفوظ عن جابر موقوف غير مرفوع. (¬2) أخرجه ابن عدي (4/ 1468) وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة، وقال ابن عدي: غير محفوظ.

والصحيح: أن العمرة إما يقال أنها واجبة مطلقًا أو ليست واجبة، أما التفريق بين أهل مكة وغيرهم ففيه نظر، وقد اختلف الصحابة في العمرة فعلَّق البخاري في صحيحه ما يدل على وجوبها عن ابن عمر وابن عباس وصح عن جابر عدم الوجوب.

الحديث الخامس في تفسير الزاد

الحديث الخامس في تفسير الزاد وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَالرَّاجِحُ إرْسَالُهُ (¬1). وَأَخْرَجَهُ التَّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (أَيْضًا)، وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ (¬2). هذا الحديث وما جاء في معناه جاء من طرق لا يثبت فيها شيء يعني: لا يثبت فيها أن تفسير السبيل: الزاد والراحلة، فهذا حديث أنس لا يثبت وكذلك حديث ابن عمر. وما جاء عن الحسن مرسلًا فيه إبراهيم بن يزيد الخوزي، ولا يصح في هذا الباب حديث. ولكن عند أهل العلم أن الحج يحتاج إلى الاستطاعة، ولهذا نص الله - عز وجل - عليها، وإن كانت الاستطاعة واجبة في كل عبادة، ولكن إنما نص الله - عز وجل - على الاستطاعة في الحج؛ لأنها تحتاج إلى الشخوص إلى البيت؛ ولأن هذه العبادة لا تصح إلا بمكان واحد في الدنيا بخلاف الصلاة والصيام والعبادات الأخرى، فالإنسان يعبد الله في أي مكان فجاء النص عليها في كتاب الله تعالى، ولأن قاصد بيت الله الحرام يحتاج غالبًا مالًا ومركوبًا، فهنّ على الاستطاعة؛ لأنها لا تنفك غالبًا عن قاصد البيت الحرام. ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه الدارقطني (2/ 216)، والحاكم (1/ 442). وقد رجح البيهقي كما في سننه الإرسال ووصف عدم الإرسال بأنه وهم. وقد جاء من وجوده عدة عند الدارقطني وغيره ولا يسلم أحدها من ضعف. انظر: «نصب الراية» (3/ 8)، و «التلخيص» (2/ 423)، وقد استوفى العلامة الألباني الكلام عليه وطرقه في «الإرواء» (4/ 110) رقم (988). (¬2) ضعيف جدًّا: أخرجه الترمذي (813)، وفي إسناد متروك، وهو: إبراهيم بن يزيد الخوزي.

الحديث السادس في حج الصبي الذي لم يبلغ

الحديث السادس في حج الصبي الذي لم يبلغ وَعَنٍ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَقَى رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: «مَنِ القَوْمُ؟» قَالُوا: المُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: «رَسُولُ اللهِ» فَرَفَعَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَك أَجْرٌ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ] (¬1). فائدة حديثية: هذا الحديث يروى من طرق عن إبراهيم ومحمد وموسى بني عقبة ثلاثتهم عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس مرفوعًا: فرواه عن إبراهيم: مالك، والثوري، وابن المبارك، وابن عيينة، وزهير بن معاوية، ومعمر ابن الماجشون، وابن إسحاق كلهم متصلًا سوى رواية مالك، والثوري، وزهير بن معاوية؛ فمالك اختلف عليه في وصل هذا الحديث، فرواه جماعًة مرسلًا وآخرون متصلًا، وممن وصله عن مالك ابن وهب في الرواية المحفوظة عنه، وأبو مصعب، والشافعي، وابن عثمة، وعبد الله بن يونس. وأما الثوري فوصله عنه أبو نعيم الفضل بن دكين، وأرسله وكيع والقطان وابن مهدي. وأما رواية محمد بن عقبة فرواه عن الثوري واختلف عليه، فرواه محمد بن كثير العبدي ويحيى القطان وابن مهدي موصولًا، وأرسله وكيع، فرواية القطان وابن مهدي عن الثوري موصولة بطريق محمد ومرسلة بطريقة إبراهيم، وطريقا ابن مهدي كلاهما عند مسلم، ورواية الثوري في مسلم الغالب أن مسلمًا بينه وبين الثوري واسطتان وابن عيينه واسطة واحدة, وكذا كتب السنن. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1336). انظر تحفة الأشراف (5/ 199).

وأما رواية موسى بن عقبة فقد رواه عنه ابن جريح مرسلًا. وأما رواية حاتم بن إسماعيل عنه عن أخيه إبراهيم متصلًا. وقد سأل الأثرم أحمد - رحمه الله - عن هذا الحديث هل هذا عن كريب مرسلًا أم متصلًا عن ابن عباس فقال: هو عن ابن عباس صحيح. قيل لأبي عبد الله أن الثوري ومالكًا يرسلانه، فقال: معمر وابن عيينة وغيرهما قد أسندوه. وقال البخاري في تاريخه: (1/ 198 - 199) بعدما تطرقه إلى من أرسله ومن أسنده قال: أخشى أن يكون مرسلًا في الأصل. وقال ابن عبد البر في الاستذكار (13/ 329): هو حديث مسند صحيح؛ لأنه حديث قد أسنده ثقات ليسوا بدون من قطعه. وقال في التمهيد (1/ 100): والحديث مسند ثابت الاتصال لا يضره تقصير من قصر به؛ لأن الذين أسندوه حفاظا ثقات. قلت: لا ريب في أن الحديث محفوظًا مسندًا والبخاري شك فيه، فأعرض عن إخراجه في صحيحه فكان ماذا؟. شرح الحديث: الروحاء اسم محل بين مكة والمدينة، والركب جمع راكب وأقله ثلاثة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ القَوْمُ؟» يعني حتى يتبين أمرهم خشية أن يكونوا من العدو. (قَالوا: المُسْلِمُونَ) فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: «رَسُولُ اللهِ»

لما أخبرهم أنه هو الرسول رَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَك أَجْرٌ». وفي الحديث من الفوائد: 1 - أن صوت المرأة ليس بعورة، فإن هذه المرأة قد حادثت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد جاءت أحاديث كثيرة جدًّا فيها محادثة النسوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللصحابة، وهذا أمر مشهور في السنة يخلص الإنسان ببضع مئات من الأحاديث فيها ذكر النساء وأنهن يتكلمن بحضرة الرجال. ولكن إنما نُهِيَت عن الخضوع بالقول: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] والأصل جواز محادثة الرجال للنساء إذا دعت الحاجة. وقد روى أحمد (34/ 395) من حديث أم عطية: «أنه أخذ عليهن في البيعة وألا يحادثن من الرجال إلا من كان محرمًا». ولكن هذا الحديث لا يصح؛ لأن في إسناده غسان بن الربيع، والحديث جاء من مراسيل الحسن أيضًا ولا يصح. 2 - أن الصبي يصح إحرامه ولو في المهد، ويُحرم به وليه ويلزمه ما يلزم البالغ وينهاه عن ما يُنْهى عنه البالغون. ولكن هناك مسألة شهيرة وهي مهمة جدًّا في حج الصبي. هل إذا دخل في النسك - حجًّا كان أو عمرة - يُلزم التكميل أم لا؟ الجمهور على أنه يلزم ولابد من إتمام النسك، وقالوا: يجب إتمام الحج من البالغين وغير البالغين، وذهب بعض أهل العلم - وهو مشهور عن أبي حنيفة - رحمه الله - أن النسك لا يلزم الصبي إكماله؛ لأنه نفل في حقه، وإتمامه واجبًا

على البالغ سواء أكان فرضًا أو نفلًا لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وأما الصبي فلمَّا لم يجب عليه أصلًا لم يجب عليه تكميله. والعجيب أن جمهور أهل العلم يقولون أن الصبي لو نذر لا يلزمه أن يفي بالنذر، وإن دخل في النذر لا يلزمه تكميله. فيلزمهم أن يقولوا هنا كما قالوا هناك هذا هو القول الصحيح، وهو أن الحج لا يجب تكميله على الصبي؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رفع القلم عن ثلاثة ...» (¬1) وذكر منهم الصبي، فإنه أحيانًا قد يتعسر عليه إكمال النسك فقد يتضايق، ثم كذلك لو وقع في محذورات فليس على وليِّه فدية يخرجها سوى إتلاف الصيد، فإن هذا يستوي فيه الكبير والصغير؛ لأنه من باب الضمان، وقد أفتى ابن عباس في غلام ذبح حمامة في الحرم أن عليه شاة (¬2). فينبغي إفتاء الناس بمثل هذا القول الذي فيه سهولة للناس. أفعال الصبي تنقسم إلى أقسام: 1 - شيء يفعله بنفسه كالوقوف والمبيت. 2 - شيء يفعله وليُّه وله كعقد الإحرام. 3 - شيء يفعله وليُّه به مثل حمله أثناء الطواف. وقوله في الحديث: «نَعَمْ ...» أي: له حج «... وَلَك أَجْرٌ». وله حج مثل صلاة، وذلك إذا كان مميزًا وليست الصلاة واجبًا عليه، فإذا بلغ خوطب به. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (4398) ومواضع، والترمذي (1423)، والنسائي (3432)، وابن ماجه (2041). (¬2) رواه البيهقي (5/ 106) بإسناد صحيح.

ولهذا عامة أهل العلم على أن الصبي لا يجزئ أن يحج عن ميت حجة الإسلام. وقد ذكر الطحاوي (2/ 257) أن حج الصبي قبل بلوغه مثل صلاته ثم بلوغه في الوقت بعد ذلك، وأن عليه أن يعيدها، وأنه في حكم من لم يصليها، ونقل الإجماع على هذه الصور الأخيرة، وهذا غريب فخلاف الشافعي في المسألة مشهور وأنه يجزيه، ولا يلزمه الإعادة؛ لأن الصلاة وظيفة الوقت وقد أداها، ومذهب الجمهور (¬1) في هذه المسألة وجوب الإعادة، والصبي يكتب له حسنات ولا يكتب عليه سيئات حتى يبلغ ولهذا أمر بالصلاة لسبع (¬2)، فوضوءه إذا ميّز وصلاته صحيحة، وقبل التمييز لا يصح. سؤال: (إذا كان الحج فرض في العام التاسع من الهجرة ألا يكون هذا قولًا بكونه على التراخي)؟ جواب: قد ذكرنا أنه كان في العام التاسع وذكرنا عن تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أجوبة، وقد كان هناك أناس يحجون بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي الصحيحين عن ابن عباس: أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن امرأتي انطلقت حاجة وإني اكُتتبت في غزوة كذا وكذا! قال: «ارجع فحج مع امرأتك» (¬3). وهذا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا قطعًا ليس في السنة العاشرة إذْ لم يكن فيها غزو فقد دانت له الجزيرة - صلى الله عليه وسلم - فهذا كان قبل السنة العاشرة في التاسعة ومحتمل قبل ذلك: وفي العام الثامن لما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة لم يكن يستطيع أن يحج، لأنه قد فتح مكة في رمضان ومكث أشهرًا بعده يوطئ الأمن لدولة الإسلام الجديدة - أو المتوسعة حتى افتُتِحت مكة، لذلك ذكر أهل السيرة أنه استعمل عتاب بن أسيد على الحج. ¬

(¬1) انظر: «المغنى» (2/ 50). (¬2) وفي هذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع». (¬3) أخرجه البخاري (2844، 4935)، ومسلم (1341)، وغيرهما.

وكان يُحَج في العام الثامن من الهجرة فحج المسلمون والمشركون فاستعمل على الحج واحدًا من أصحابه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان ولي المسلمين فحينئذ أخذ يولي على الحج لكنه ما بادر - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الحج ما فُرض إلا في العام التاسع في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}. الأمر الثاني: أن في سنة ثماني للهجرة كان هناك مشركون كثير يحجون وكانت الأمور فيها شيء من الاختلاط بالكفار، وفي سنة تسع للهجرة دانت الجزيرة ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فلما جاءت سنة عشر للهجرة علم الناس أنه سيحج - صلى الله عليه وسلم - هذه السنة، حتى وافى المدينة خلق كثير كما في حديث جابر - وسيأتي إن شاء الله -، ثم بعد ذلك حج حجة الوداع السنة التي ودع فيها الناس - صلى الله عليه وسلم -، وإلا فالحج كان سنة ست وسبع وثمان، وقبل ذلك كان هناك من يحج بعضه بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في سنة ثمان وتسع، وبعضه لم يكن بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه إن وافق الحق فهو مقبول وإلا فهو مردود. وأما العمرة فكان مأذونًا لهم قديمًا فيها، ففي صحيح البخاري في باب ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - من يُقتل في بدر، من أبواب كتاب المغازي، أن سعد بن معاذ اعتمر قبل غزوة بدر وأخبر بمقتل أمية بن خلف ... الخ. سؤال: (ما الحكمة من إرسال معاذ إلى اليمن وعدم إيراد الصوم والحج مع أنهما من أركان الإسلام)؟ الجواب: هذا الحديث (¬1) اقتصر على جزء من أركان الإسلام، والمشهور أن بَعْث معاذ إلى اليمن كان متأخرًا سنة عشر قبل حجة الوداع، ونحن نعلم أن السُّنَّة ما جاءت في حديثين أو ثلاثة، وإنما يؤخذ الدين من مجموع الأحاديث، فقد يذكر بعض الأحاديث الصلاة والصيام، ولا يذكر مثلًا الحج، ¬

(¬1) هذا الحديث هو حديث إرسال معاذ إلى اليمن وهو مشهور، وقد أخرجه البخاري في صحيحه (1331، 1389، 1425، ومواضع)، ومسلم (19)، وغيرهما من أنهل السنن والمعاجم والمسانيد.

كما في حديث ابن عباس في إرسال معاذ إلى اليمن، فذكر الصلاة والزكاة ولم يذكر الصوم والحج، على أن بعض أهل العلم قال: إن عدم ذكر الصوم والحج من تقصير بعض الرواة واختصاره وهذا ضعيف. وقال آخرون: إن عادة الشارع ذكر التوجيه وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاقتصار على ذلك، ففي سورة التوبة {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ...} [التوبة: 5]، في موضعين من السورة والسورة قد نزلت بعض فرض الصوم والحج على خلاف في الثاني. وفي حديث ابن عمر: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك ...» (¬1)، والصلاة عمل بدني والزكاة عمل مالي ومن أذعن لهذين أذعن لما سواها. ذكره الحافظ في شرح البخاري وهو قوي (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22) وغيرهما. (¬2) انظر لمزيد بيان «فتح الباري» (باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة) (3/ 361).

الحديث السابع الحج عن الغير

الحديث السابع الحج عن الغير وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: كَانَ الفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ وَجْهَ الفَضْلِ إلىَ الشِّقِّ الآخَرِ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إنَّ فَرِيضَةَ الله عَلَى عِبَادِهِ فِي الحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (¬1). في هذا الحديث فوائد منها: 1 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أردف الفضل بن عباس وهو أكبر من أخيه عبد الله. فائدة: وإذا أطلق ابن عباس فالمراد به عبد الله، وإذا أطلق ابن عمر فالمراد به عبد الله، وإذا أطلق ابن الزبير فالمراد به عبد الله، وإذا أطلق ابن عمرو فالمراد به عبد الله، وهؤلاء هم العبادلة، وابن مسعود ليس منهم فالعبادلة في الصحابة كثير لكن المصطلح عليهم أربع: أبناء عباسٍ وعمروٍ وعمر ... وابن الزبير هم العبادلة الغررَ وقد نُقِلَت عنهم سنن كثيرة من ضمنها الإقعاء بين السجدتين رواه البيهقي (¬2) عن العبادلة فهي من السنن التي تثبتت عن الصحابة، وأصله في صحيح مسلم عن ابن عباس في رواية طاوس عن ابن عباس قال إننا نراه جفاءًا بالرجل؟ قال: تلك سنة نبيك (¬3). 2 - أردف النبي - صلى الله عليه وسلم - الفضل، وكان إردافه من مزدلفة إلى منى، وإردافه لأسامة كان من عرفات إلى مزدلفة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1513)، ومسلم (1334). انظر تحفة الأشراف (4/ 466). (¬2) أخرجه البيهقي في سننه (2/ 119) رقم (2570) (¬3) أخرجه مسلم (536)، والبيهقي في سننه (2/ 119) رقم (2565) وغيرهما.

3 - المرأة هنا أبهمت ولا يضر ذلك؛ لأن الأحكام لا ينفيها تعيين الأشخاص إنما الأحكام العامة. 4 - قوله: (فَجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ) يعني: أدام النظر؛ لأن (جَعَلَ) من ألفاظ الشروع. 5 - قولها (فَرِيضَةَ الله): يعني: وجوب الحج وكان أبوها شيخًا كبيرًا والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقرها على هذه اللفظة. 6 - وقوله (نَعَمْ) أي: حجي عنه، وحجة الوداع لم يحج قبلها بعد هجرته. وهل حج قبل الهجرة؟ فيها حديث ظاهرة نعم حج؛ لأنه كان في بعض المواسم يدعوهم، والصحيح أنه حج - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة حتى رآه بعض الصحابة فقالوا: ما لهذا واقفًا هنا، هم الحمس، والحمس هم قريش كانوا يقفون ولا يجاوزون الحرم وكانوا يقفون بمزدلفة ويقولن: نحن أهل الحرم وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخالفهم. ومن فوائد الحديث: 1 - جواز الإرداف على الدابة إن كانت مطيقة وقوية. 2 - حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تبليغ العلم وإيصاله إلى الرجال والنساء. 3 - عدم جواز نظر الرجل إلى المرأة - كما هو مقرر في كتاب الله -. وكشف المرأة هنا يحتمل؛ لأنها يشرع لها الكشف؛ لأنها محرمة وقد جاء في حديث عائشة (كُنَا إذا حاذانا الرجال سدلنا وإذا جاوزونا كشفنا) (¬1). وجاء من حديث فاطمة بنت المنذر مع أسماء بنت أبي بكر فهو حديث موقوف على أسماء وهو صحيح. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1/ 568 رقم 1833)، وأحمد (6/ 30 رقم 24067)، والبيهقي (5/ 48 رقم 8833).

قالت فاطمة: (كنا نكون مع أسماء بنت أبي بكر فإذا حاذانا الركبان سدلت إحدانا خمارها على وجهها). أما حديث عائشة في ستر الوجه فيه (يزيد بن أبي زياد) ضعيف. وأقل ما يقال في هذا الحديث في كشف المرأة الخثعمية أنه مجمل، وكم من حديث في السنة بل كم من آية من الكتاب فيجئ بيانها في كتاب الله وفي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقاعدة عند أهل العلم أن المجمل يُرَد إلى المبين والمتشابه يُرَد إلى المحكم؛ لأن الحكم هو أم الكتاب وأم الشيء هو المرجع وهو الأصل، فكلما تعسر كَشْفه يرد إلى أم الكتاب وهي الآيات الموضحة. وقد روى أبو يعلي من طريق يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعرابي معه بنت له حسنًا فجعل الإعرابي يعرضها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يتزوجها وجعلت ألتفت إليها ويأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - برأسي فيلويه ...» (¬1). 4 - في الحديث أنه لا يشترط في وجوب الحج القدرة البدنية إذا كان هذا الإنسان معضوبًا غير قادر بدنيًا وعنده مال، فإذا كان عنده مال لزمه إذا كان عجزه مستمرًا إما معضوبًا أو مريضًا مرضًا لا يرجى برؤه ولا يستطيع معه ¬

(¬1) رواه الطبراني في معجمه (18/ 288) من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق ثم رواه من طريق يونس وأحال على لفظ إسرائيل. ورواه أحمد (1/ 211) من طريق إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق به بلفظ «كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أفاض من مزدلفة وأعرابي يسايره وردفه ابنة له حسناء قال الفضل: فجعلت أنظر إليها فتناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهي يصرفه عنها». ولفظ إسرائيل عن أبي إسحاق هو المحفوظ بلا شك، إسرائيل كان يحفظ حديث جده كما يحفظ السورة من القرآن ... وكان قائد جده، وأما أبوه يونس ففي حديثه عن أبي إسحاق اضطراب وزيادة أحيانًا ويونس كان يحيل على ابنه إسرائيل في روايته عن أبي إسحاق وأيضًا الحديث مخرّج في الدواوين من مسند ابن عباس ليس فيه هذا الحرف «يعرضها لرسول الله رجاء أن يتزوجها» وما الحج بوقت نكاح ولا خطبة.

الشخوص إلى المسجد الحرام أن يلزمه أن يقيم من يحج عنه إذا كان قادرًا بماله وعاجزًا ببدنه. أما إن كان عاجزًا بماله وقادرًا ببدنه فينظر فإن كان يستطيع الحج ببدنه كما لو كان في مكة أو قريبًا منها فهذا يستطيع المشي بين المشاعر فيلزمه الحج أما إذا كان بعيدًا لا يستطيع فهذا لا حج عليه. فالحج يشترط له الاستطاعة المالية والبدنية. والاستنابة فِي الحج فِي حق النائب تنقسم إلى أقسام: الأول: «أن يحج مجانًا» وهذا فعل السلف كما قال شيخ الإسلام وهذا مشهور عن السلف أنهم كانوا يحجون عن موتاهم مجانًا. الثاني: «من أخذ المال لأجل الحج»؛ لأنه ليس عنده مال ليحج به فهذا مأجور وغير مأزور؛ لأنه يستعين بالمال لشهود الحج وشهود المشاعر ويستفيد هناك إيمان وخير. الثالث: «من حج ليأخذ» (عكس الثاني) قال شيخ الإسلام: (والأشبه في هذا أنه ليس له في الآخر من خلاق). فإذا كان قصده المال فإن حجه غير صحيح. وفي هذه الحالة نقول هل من حَجَ لأجل المال عليه أن يرد المال لمن استنابه؟ نعم، إذا حج لا يريد وجه الله ولا الدار الآخرة لكنه يريد المال، فهذا حجه غير صحيح ويلزمه أن يعيد المال؛ لأن ذمة أخيه لن تبرأ بهذا الحج ويلزمه أن يعيد المال لمن استنابه. وقد تساهل الناس الآن في مسألة الاستنابة فبعضهم الآن يعطى مبلغًا يكفيه، وقد يفضل له فضل ومع ذلك يطلب زيادة، ووجد في بعض السنين إنسان أخذ عشرة أو خمسة عشر حجة، فأخذ من هذا ومن هذا، فربما حج بمائة ألف عن عشرة أشخاص أو أكثر.

في هذه الحالة نقول: الحج يقع عن نفسه هو وعليه أن يعيد المال لكل من أخذ منه المال، فإن كان حج للمال فالحج لا يجزئ عنه ولا عن غيره من باب أولى. 5 - ومن الفوائد أيضًا: جواز حج المرأة عن الرجل، ومن باب أولى حج الرجل عن المرأة، فحج المرأة عن أحد من أقاربها مجزئ، والرجل عن المرأة من باب أولى.

الحديث الثامن من نذر أن يحج ومات ولم يفعل

الحديث الثامن من نذر أن يحج ومات ولم يفعل وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه -، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللهَ فاللهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ] (¬1). هذا الحديث فيه أن امرأة جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته أن أمها نذرت أي: ألزمت نفسها عبادة الحج التي لم تجب عليها بأصل الشرع ولكنها لم تحج؛ لأنها ماتت فقالت الإبنة: أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟!» هذا استفهام تقريري. يعني نعم. «اقْضُوا اللهَ فَاللهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ». وفيه أن من نذر الحج يلزمه، فمن نذر أن يطيع الله فليطعه. وحكم النذر في الأصل: قال بعضهم: «مستحب» - وعندي - أن هذا القول شاذ. وقال بعضهم: «مكروه» وهذا هو الصحيح. فالأصل في النذر أنه مكروه؛ لأنه تكليف للعبد فوق ما كلفه الشارع، وحسب العبد أن يقيم ما لزمه من الواجبات الشرعية، وإذا أراد بعد ذلك فليأت بالنوافل، أما كونه يأتي بشيء يفرضه على نفسه فهذا أقل ما يقال فيه: الكراهة. لهذا في حديث عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن النذر وقال: «إن النذر لا يأت بخير وإنما يستخرج به من البخيل» ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (1852). انظر تحفة الأشراف (4/ 400).

(¬1). وقال بعضهم: أن النذر المكروه هو الذي جاء في الحديث (¬2)، وهو أنه ينذر ويظن أن النذر له سبب في القدر. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن النذر لا يأت بخير وإنما يستخرج به من البخيل». والغالب أن الذين ينذرون يعلقونه على شفاء مرضاهم وعودة غائبهم وما أشبه ذلك، والصحيح أن النذر في الأصل مكروه لما تقدم، والمذكور في الحديث أشد كراهيه. وقد قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53]، فمن تأمل قوله تعالى: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} بإزاء قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} علم أن إقسامهم جهد إيمانهم - بالمفهوم - ليست طاعة معروفة، وأقل ما يقال في الطاعة التي غير المعروفة في الشرع، ولم يذكرها الشارع من المعروف أن تكون مكروهة، وقد استدل غير واحد من أهل العلم بهذه الآية على أن النذر مكروه. - ومن الفوائد فيه: حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على السؤال عن أحكام الدين المتعلقة بهم وبأقاربهم. - وفيه: إثبات القياس فالنبي - صلى الله عليه وسلم - شبَّه الواجب الشرعي بالدين المالي. - وفيه: حسن تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم -. سؤال: هل يقاس على الحج عن الميت الأجر في الصيام والصلاة ... الخ؟ الجواب: نعم، كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - في الصحيحين: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» (¬3) لكن المشهور في المذهب حمل هذا على النذر، وهذا اختيار شيخ الإسلام وابن القيم. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (6234، 6314، 6315)، ومسلم (1639). (¬2) هو الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا وإنما يستخرج من البخيل»، أخرجه البخاري (6235)، ومسلم (1640) واللفظ له. (¬3) أخرجه البخاري (2/ 690 رقم 1851)، ومسلم (2/ 803 رقم 1147).

ولكن أيهم أكثر موتًا من يموت وعليه صيام رمضان أم من يموت وعليه نذر؟ الجواب: من يموت عليه فرض الله الصيام بل النذر مكروه، والعجب من شيخ الإسلام والأصحاب كيف يحملون هذا الحديث على النذر - طبعًا لهم أدلة لكن لا تقوى - لهذا لما سألت الشيخ محمد قال: (كما قلت لكم): الآن يعمدون إلى حمل الحديث على حالة صغيرة بل ومكروهة ونادرة، ويتركون بابًا واسعًا من الأبواب التي يقع فيها الناس وهي أن الناس يموتون وعليهم فرض الصيام. وعندهم: (أن العِلَّة المستنبطة إذا عادت على النص بالإبطال فإنها تبطل) مثل قول بعضهم في حديث: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» (¬1). قالوا: الحبل هذا حبل السفن الكبار يبلغ النصاب وزيادة ولا يحملونه على مطلق الحبل. يريدون أن يقولوا كيف تقطع يده وهذا أقل من ثلاث دراهم؟! نقول: يتوصل بسرقة هذا الحقير إلى سرقة الكثير فتقطع يده، وهذا مهم في فهم النصوص. سؤال: النيابة للقادر أن ينيب وهو قادر جائزة؟ جواب: النيابة جاءت في الحي العاجز ببدنه القادر بماله، وجاءت عن الأموات، واختلف في النيابة في الحج عن القادر إذا حج فرضه. فقال بعض أهل العلم: يجوز فإنه إذا جاز في الفرض جاز في النفل. وقال بعضهم: لا يجوز وهذا هو الصحيح. والعبادات توقيفية فالحي القادر ليس له أن يستنيب من يحج عنه إذا كان قد حج. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (6401)، ومسلم (1687).

سؤال: لو حج عن متوفي خمس من أبنائه؟! جواب: يكتب لهم مثل لو صام عنه عشرة أو عشرين في يوم واحد، إلا إذا كان الصوم هذا مما يطلب فيه التتابع؛ مثل كفارة الجماع في نهار رمضان، أو القتل الخطأ؛ فإن هذا ينبري له واحد من الورثة ثم يصوم متتابعًا ولا يجزئ أن يصوم (زيد) عشرة أيام، ثم (عمرو) عشرة؛ لأن هذه صورة ملفقة فالذمة مختلفة هنا، فلابد أن يكون شخصًا واحدًا ثم هذا ما يصير فيه التتابع شهرين يصير فيه التتابع عشرة ثم تتابع عشرة ثم تتابع عشرة، ومن أفتى بمثل هذا فقد غلط فلا بد أن يشرع في الصيام واحد ويصوم شهرين متتاليين فإذا لم يصوموا عنه يطعموا.

الحديث التاسع حج الصبي والعبد

الحديث التاسع حج الصبي والعبد وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ، ثُمَّ بَلَغَ الحِنْثَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ، ثُمَّ أُعْتِقَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى». رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالبَيْهَقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ، وًالمَحْفُوظُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ (¬1). ¬

(¬1) موقوف على الراجح: فهذا الحديث رواه البيهقي (4/ 325) من طريق محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع عن شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا مرفوعًا. وخالفه عبد الوهاب بن عطاء الخفاف فرواه عن شعبة موقوفًا. ورواه ابن أبي شيبة عن طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس أنه قال: احفظوا عني ولا تقولوا قال ابن عباس: وأيما عبد حج به أهله .. وفيه أيما أعرابي حج أعرابيًا م هاجر فعليه حجة المهاجرين .. قال البيهقي: وتفرد برفعة محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع عن شعبة ورواه غيره عن شعبة، وكذلك رواه سفيان الثوري عن الأعمش موقوفًا هو الصواب. وقلت: ورواه ابن أبي عدي عن شعبة موقوفًا كما عند ابن خزيمة (4/ 350). وقد رواه البيهقي من وجه آخر عن ابن عباس (5/ 179) وذلك من طريق الوهبي عن يونس عن أبي السفر وهو عند الطحاوي في شرح المعاني من طريق إسرائيل عن أبي السفر .. (2/ 257). وأخرجه البيهقي (5/ 156) من طريق الثوري عن مطرف عن أبي السفر واسمه سعيد بن يُحمِد قال: (وأيها الناس اسمعوا مني ما أقول لكم، واسمعوني ما تقولون ولا تذهبوا فتقولوا قال ابن عباس قال ابن عباس، من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر، ولا تقولوا الحطيم فإن الرجل في الجاهلية كان يحلف فيلقي سوطه أو نعله أو قوسه، وأيما صبي حج به أهله فقد قضى حجه ما دام صغيرًا، فإذا بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد .....) الحديث. ومن طريق الثوري أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب مناقب الأنصار باب القسامة في الجاهلية، ولم يسق الحديث بتمامه بل اقتصر على الشطر الأول، وهذه الزيادة حذفها البخاري عمدًا لعدم تعلقها بالترجمة، ووقعت للإسماعيلي والبرقاني كما قال الحافظ. وقال الحافظ أيضًا، وهذه الزيادة عند البخاري أيضًا في غير الصحيح. قلت: ذكرها في التاريخ (1/ 199) من طريق أبي السفر وأبي ظبيان ورجع الوقف، والبخاري ذكر هذا ليعلل به حديث ابن عباس المرفوع أن امرأة رفعت صبيًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ألهذا حج؟ قال: «نعم ولك أجر» وتقدم الكلام على ذلك. وأما قول: «ولا تقولوا: قال ابن عباس» فإن ابن عباس أراد أن الحكم مرفوعًا لا اللفظ، فهو أراد حكم اللفظ لا رفع اللفظ. وقد أشار إلى هذا الحافظ في شرح البخاري. والخلاصة: أن هذا الأثر موقوفًا كما قال البخاري، والبيهقي، وابن خزيمة، وعامة أهل العلم على معنى ما جاء في هذا الحديث على مسألة الصبي وكذلك مسألة العبد. وله شاهد على رفعه رواه ابن أبي شيبة (4/ 444) وأبو داود في «المراسيل» (134) لكنه من مراسيل محمد بن كعب القرظي. وآخر رواه البيهقي (5/ 179)، من حديث جابر لكن في إسناده متروك، فلا يصلحا للاستشهاد.

فأيما صبي حج في صباه ثم بلغ أن يحج حجة الإسلام؛ لأنه حينما حج صغيرًا حج قبل أن يُخَاطب بالحج وحجه صحيح؛ لأنه قال: «أيما صبي حج» فاعتبر له الحج على الحالتين إن قلنا بأنه مرفوع وإن قلنا بأنه موقوف، فعامة علماء الأمصار على معنى هذا الحديث، وأما مسألة الصبي أظنها مسألة إجماع على أن حجه لا يجزئ عن حجة الإسلام. أما في مسألة العبد ففيه خلاف حيث ذهب جماعة من أهل العلم أن العبد إذا حج بإذن سيده قبل أن يُعْتَق فحجه صحيح، والصحيح ما دل عليه ظاهر الحديث. تنبيه: قوله: «أيما إعرابي حج ثم هاجر ...» المراد: ثم أسلم حيث عبر عن الإسلام بالهجرة (¬1). ومن فوائد هذا الحديث: صحة حج الصبي كما تقدم، وأنه إذا بلغ في عرفات فإن حجه مجزئ عن حج الفرض، ويتصور البلوغ في عرفات بأن يكون نام فاحتلم فيها، أو ضبط بالسن وأتم خمسة عشر سنة في نهار عرفات، أو في ليلة قبل طلوع الفجر، وكان قد ¬

(¬1) هكذا نقله ابن مفلح عن ابن الوليد (3/ 213).

تأخر وكان في تلك الليلة في عرفات فحينئذ يكون حجة فرضًا. فإن بلغ بمزدلفة هل نقول أرجع أو أكمل؟ نقول لابد أن يرجع إذا بلغ في مزدلفة وأمكنه الرجوع إلى عرفات، وسبب الإيجاب أنه - أي: الحج - واجب على الفور، وهو قادر الآن فيلزمه الرجوع إلى عرفات ليقف بها لحظات ويدعو الله ثم يرجع، ويكون قد حج فرضه ولا نقول أن ما مضى نفل وما يأتي فرض بل ينسحب الوجوب على الجميع، وهذا يكون من خصائص الحج فيما هو أوسع من ذلك، فلما أتى الصحابة وطافوا بالبيت طواف قدوم ثم سعوا للحج قال النبي: «اجعلوها عمرة» قالوا: كيف وقد سمينا الحج؟ قال: «افعلوا ما أمرتكم به» (¬1). فأمرهم أمر إلزامي وإيجابي بأن يجعلوها عمرة، فقصَّروا واعتبر الطواف الذي كان نفلًا والسعي الذي كان للحج على العمرة، وهذا من خصائص الحج والعمرة لا يشركهما غيرهما في كثير من الأحكام من وجوب الإتمام بالشروع ومن الانقلاب بعد فعل العبادة. ¬

(¬1) رواه البخاري (1493)، ومسلم (1216).

الحديث العاشر في النهي عن سفر المرأة بدون محرم

الحديث العاشر في النهي عن سفر المرأة بدون محرم وَعَنْ ابن عباس - رضي الله عنهما - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَقُولُ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرُ المَرْأَةُ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! إنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: «انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِك» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). هذه الخطبة التي خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتمل أنها خطبة عامة (جمعة) ويحتمل أنها عارضة وخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - قسمين: راتبة، وعارضة. قوله: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ ...» هذا نهي مؤكد. وقوله: «رَجُلٌ» أي البالغ. وقوله: «امْرَأَة» الأصل في المرأة في اللغة» البالغة. (المحرم): هو الزوج أو من تحرم عليه المرأة على التأبيد بنسب (كالأخ والعم ...) أو بسبب مباح (كالرضاع) وقولنا: (على التأبيد) يخرج من ذلك ما تحرم عليه المرأة حرمة مؤقتة مثل زوج أخت المرأة، وغيره ممن يمكن أن يتزوجها يومًا ما إذا طلقت أو مات عنها زوجها، فهذا لا يصلح محرم ويعامل معاملة الأجانب. من فوائد الحديث: 1 - حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبلاغ الشريعة حتى أنّه خطبهم في مثل هذا الأمر الذي هو حُكم من الأحكام لكن خَطَب فيه. 2 - تحريم خلوة الرجل بالمرأة إلا مع ذي محرم، ويحرم السفر بدون محرم، والمحرم عند أهل العلم هو: الزوج ومن تحرم عليه المرأة بالتأبيد بسبب مباح أو نسب، ويشترط أن يكون ذكرًا بالغًا عاقلًا. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1826)، ومسلم (1341). انظر تحفة الأشراف (5/ 357).

وقال بعضهم وهو مروي عن أحمد - رحمه الله -: ولا بأس أن يكون ابن عشر سنين؛ لأن المراد بالمحرم أن يكون حافظًا للمرأة، ولهذا لو وجد مع المرأة صبي لا يكون محرمًا، وكذا لو وجد معها مجنون، فهذا لا ينفع أن يكون محرمًا، فالمحرم لابد أن يكون بالغًا على القول الراجح ذكرًا عاقلًا، فالمجنون لا خير فيه ولا ينفع بشيء ولو أرادت المرأة أن تفجر ربما أعانها. وهل يشترط أن يكون المحرم للمرأة المسلمة مسلمًا؟ قال بعضهم: نعم؛ لأن محرمها لو كان كافرًا قد لا يغار عليها، والصحيح أنه لا يشترط إسلامه؛ لأن الوازع الطبيعي يقوم مقام الوازع الشرعي لهذا الكافر - في الجملة - يغار على محارمه - زوجته وابنته - كما يغار في القرابة المسلم على محارمه، فهذا مركوز في قلوب العباد من أجل القرابة، وإن كان قد يكون حال الكفار في كثير من أحوالهم على غير هذا، لكنهم إذا عاداهم أحد على محارمهم فإنهم يدافعونه، فالصحيح أنه لا يشترط هذا الشرط. 3 - عموم هذا النهي لكل رجل ولكل امرأة يعني لا يخلون رجل بامرأة أيًا كان حال هذا الرجل وأيًا كان حال هذه المرأة. وقد قيل: لكل ساقطة في الحي لاقطة ... وكل كاسدة يومًا لها سوقُ وقد تكون المرأة دميمة لكن قد يأتي من يشغلها ويحبها ويريد الفجور بها. وقد ذكر الشيخ حمود التويجري - عليه رحمة الله - في كتابه (الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور) قصصًا كثيرةً في مثل قصص التبرج، فذكر أن رجلًا خلا بامرأة عجوز فقالت - وقد خلا بها شاب يريدها -: إني عجوز: فلم يصرفه ذلك عن مراده الخبيث، فهو لم يترك هذه المرأة رغم أنها كبيرة.

وقد قيل: المرأة لحم على وضم إلا ما ذُبَّ (¬1) عنه، والوضم هو: خشب يوضع عليه اللحم من أجل تقطيعه فيأتي عليه الذباب، فالغرض مثل اللحم إن لم تَذُّبَ عنه وغفلت تعدو الذئاب عليه. 4 - وفي الحديث جواز خلوة المرأة بالصغير لأنه لا يسمى رجلًا. وفي قوله: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ» فإذا قيل رجلان وامرأة أو امرأتان ورجل فهو يجوز أو لا؟! قال بعضهم: إنه لا يجوز؛ لأن هذا يُمْنَع من باب أولى. والصحيح أنه جائز حيث لا ريبة، كيف ريبة؟ يكون رجلان خيران مع امرأة أو امرأتان مع رجل ودل عليه ما أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يخلون رجل بهؤلاء المغيبات إلا ومعه رجل أو رجلان». وفي الحضر يشترط عدم الخلوة امرأتين مع رجل ثلاث مع رجل رجلين أو أكثر مع امرأة لا بأس، أما في السفر فلا بد لكل امرأة من محرم حتى ولو عشر نساء لابد أن يكون لكل امرأة محرم. 5 - وفي الحديث عناية الشارع بالمرأة. 6 - وفيه أن الحج لا يجب على المرأة التي لا تجد محرمًا، فإذا وجِدَت امرأة قادرة ببدنها قادرة بمالها لكن لم يتيسر لها محرم، فهل المحرم يكون شرطًا للوجوب أو شرطًا للأداء؟؟! قال بعضهم: إنه شرط للوجوب يعني إذا لم يوجد المحرم لا يجب. وقال بعضهم: شرط للأداء. ¬

(¬1) الذَّب: الدفع والمنع. [لسان العرب (1/ 380)].

وثمرة المسألة من كونه شرطًا للوجوب أو شرطًا للأداء؛ أنه لو كان شرط وجوب وماتت المرأة فلا يؤخذ من مالها بل يجب أن يوفر للورثة؛ لأن الحج لم يجب عليها لعدم وجود المحرم، وإذا قلنا أن المحرم شرط أداء ولم تؤده بنفسها فإنه يؤديه عنها غيرها، فإذا ماتت يؤخذ من تركتها ما يحج به عنها، والصحيح أنه شرط وجوب. سؤال: مسألة تكرار الحج خلال خمس سنوات؟ الجواب: ما في بأس لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الذهب والحديد والفضة ...» (¬1). وقد جاء حديث فيه ذكر الخمس سنين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما - وهو حديث قدسي ولفظه: «إن عبدًا أصححت له جسمه وأوسعت عليه في المعيشة فأتى عليه خمسة أعوام لم يفد إلىّ لمحروم» (¬2). وولاة الأمر في عصرنا رأوا تنظيم الحج بهذه المدة، فلا يكرر الحج إلا من أتى عليه خمس سنين مراعاة لما صار عليه عدد الناس في الأزمنة المتأخرة من الكثرة والزحام الشديد. سؤال: هل هناك وقت بين العمرتين؟ الجواب: للعلماء كلام كثير لكن جاء عن بعض السلف كأنس - رضي الله عنه - وغيره قولهم: إذا حتم (¬3) رأسه. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (810)، والنسائي (2631)، وأحمد (1/ 387 رقم 3669)، والطبراني في الكبير (10/ 186)، وأبو يعلى (8/ 389)، وغيرهم من حديث ابن مسعود. (¬2) أخرجه البيهقي في سنه (5/ 262)، وهو حديث ضعيف تتابع الأئمة على الطعن فيه كالبخاري والدارقطني والبيهقي وابن عدي وغيرهم، وهو آخر حديث في كتاب الحج عند البيهقي. (¬3) الحَتْمُ: إحكام الإمر. [مختار الصحاح (1/ 167)].

فقال بعضهم: يجب أن يكون بينهما وقت يتسع لنبات الشعر، واستحسنها الإمام أحمد - رحمه الله - وأخذ بعضهم بأثر أنس - رضي الله عنه -، والمقصود أنه لا يأت بعمرة مكية أي: تكرار العمرة المكية، مثل أن يذهب إلى التنعيم (¬1) ويأت بعمرة فهذه التي أنكرها السلف وشيخ الإسلام - رحمه الله - لكن لو اعتمر الإنسان ثم ذهب إلى بلده ثم عَنَّت له حاجة في مكة وكان بينهما أسبوع أو أيام ينبت فيها الشعر فهذا لا إشكال فيه. وبعضهم كره أن تكون في السنة أكثر من مرة وهذا ضعيف. وتكرار العمرة المكية ليس بمشروع فهذا ما فعله إلا عائشة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أخبرها أن طوافها وسعيها بين الصفا والمروة ... الخ. فقالت: إني أجد في نفسي أني لم أطف حينما قدمت بعدما راجعته قال لعبد الرحمن أخيها: أذهب بأختك فأعمرها من التنعيم. ولم يعتمر عبد الرحمن كما هو الظاهر. أما ما وقع في صحيح البخاري: هل فرغتما من طوافكما؟ فهذه اللفظة عند البخاري من طريق أبي نعيم عن أفلج بن حميد عن القاسم عن عائشة. وقد خالف أبا نعيم أبو بكر الحنفي عند البخاري فرواه عن أفلج مطولًا دون هذه اللفظة برقم (1560) والذي يظهر لي أن الحمل فيها ليس على أبي نعيم فإنه حافظ بل على أفلج بن حميد فإنه مختلف فيه. وأيضًا الحديث يروى عن عائشة من غير وجه دون هذا اللفظ، وهذه اللفظة وإن صحت فهذا من باب التغليب، ويحتمل أنه طافا بالبيت فالطواف عبادة منفردة عن الحج والعمرة، لكن لم يُنْقل أن عبد الرحمن حينما ذهب إلى التنعيم ثم أحرمت عائشة - رضي الله عنها - أنه أحرم معها ولا قصر ولا سعى إنَّما نُقِل أنه أعمرها هي. ¬

(¬1) التَّنْعِيْم: بالفتح ثم السكون وكسر العين المهملة وياء ساكنة وميم موضع بمكة في الحِل، وهو بين مكة وسرف على فرسخين من مكة وقيل على أربعة، وسمي بذلك؛ لأن جبلًا عن يمينه يقال له: نعيم، وآخر عن شمال يقال له: ناعم، والوادي: نعمان، وبالتنعيم مساجد حول مسجد عائشة، وسقايا على طريق المدينة، منه يحرم المكيون بالعمرة. [معجم البلدان (2/ 49).

ونقل عن ابن الزبير أنه لما فرغ من بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ذهب إلى التنعيم فأحرم، فهذه عمرة عارضة شكرًا لله - عز وجل - وهذا الذي بلغنا في العمرة المكية، لكن أنكرها طاوس وجماعة من أصحاب ابن عباس أنكروا على من يفعل هذا. سؤال: بالنسبة لمن جاء من بعيد قد لا يتيسر له الحضور مرة أخرى؟ الجواب: من بعيد يلتزم بما شرعه رب العبيد ويكثر من الطواف وقراءة القرآن والصدقة في مكة، هذا الذي يظهر لكن لو أن إنسانًا حج من بعيد ومعه شخص قال: أنا من بعيد وأجد في نفسي أني ما أفردت بعمرة - هذا في الحج - أو امرأة حجت متمتعة فحاضت قبل الشروع في العمرة ووجدت في نفسها، فنقول: إذا كانت الحال مثل الحال فلا بأس. سؤال من الشيخ: ما هي العبادة التي لا يفعلها إلا عبد واحد في الدنيا كلها في وقت واحد؟ تقبيل الحجر ومسّ الركن وكان ابن عمر يزاحم على الحجر حتى يدمي (¬1)، فقال له رجل ذات يوم أرأيت إن زاحمت؟ أرأيت أرأيت ... فقال: اجعل أرأيت باليمن (¬2) فكان ابن عمر يأخذ الأمور بقوة فربما اجتهد وشدد على نفسه فربما زاحم حتى يُدمى. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (2/ 593 رقم 1562) من قول نافع أن ابن عمر كان يزاحم على الركن وكان لا يدعه حتى يستلمه. (¬2) أخرجه البخاري (2/ 583 رقم 1533).

الحديث الحادي عشر الحج عن الغير

الحديث الحادي عشر الحج عن الغير وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ: «مَنْ شُبْرُمَةَ؟» قَالَ: أَخٌ لِي، أَوْ قَرِيبٌ لِي، فَقَالَ: «حَجَجْت عَنْ نَفْسِك؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «حُجَّ عَنْ نَفْسِك ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» [رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ]، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَقْفُهُ (¬1). هذا الحديث من الأحاديث المشهورة في الحج وأيضًا في سنده كلام كثير في الاحتجاج به. فهذا الحديث يرويه أبو داود وابن ماجة والبيهقي عن طريق عبده بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عزرة بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا، ورواه غندر (محمد بن جعفر) عن سعيد بن أبي عروبة فوقفه. واختلف في رفع الحديث ووقفه والصحيح أنه موقوف كما رجحه أحمد والطحاوي وابن المنذر. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1811)، وابن ماجه (2903)، وابن حبان (3988)، والطبراني في الكبير (12/ 42 رقم 12419)، والصغير (1/ 377 رقم 630) مرفوعًا. لكن هذا الحديث فيه كلام كثير فمن العلماء من رجح الرفع، ومنهم من رجح الوقف. فمن الذين رجحوا الرفع: ابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي، وعبد الحق، وابن القطان ... وآخرون. ومن الذين رجحوا الوقف: الإمام أحمد، والطحاوي، وابن المنذر. فهو من طريق عبدة ابن سليمان رواه عن سعيد بن أبي عروبة مرفوعًا كما عند الدارقطني (2/ 270)، وهو أثبت الناس سماعًا في سعيد كما قال يحيى بن معين. ومن طريق غندر (محمد بن جعفر) رواه عن سعيد موقوفًا كما عند الدارقطني (2/ 271)، وغندر سمع من سعيد قبل الاختلاط كما ذكره عنه الفلاس في شرح العلل. وقد صحح العلامة الألباني الحديث مرفوعًا كما في سنن أبي داود، وابن ماجه، والإرواء ... وغيره. وانظر إن شئت مزيد بيان: نصب الراية (3/ 155)، والتلخيص (2/ 427)، والفروع (3/ 265)، وشرح العمدة (1/ 291).

وبناءً على الاختلاف في هذا الحديث نشأ الخلاف في الحج عن الغير فيمن لم يحج عن نفسه، فعلى قول جمهور أهل العلم سواءً صح الحديث مرفوعًا أو قالوا بأنه موقوف له حكم المرفوع، يقولون: من حج عن غيره بأجره ولم يكن حج عن نفسه فإنه يكون عن نفسه، ويلزمه إرجاع المال الذي أخذه إلى الذي استنابه. وهذه المسألة يدخلها الاجتهاد، فهناك قول آخر بناءً على ضعف الحديث، وهو رواية عن أحمد - رحمه الله - وهو إذا حج عن غيره ولم يكن قد حج من قبل عن نفسه فإنه يقع عن المستنيب، ولكنه يأثم هو لعدم البدار إلى الحج. وشيخنا ابن عيثمين - رحمه الله - يميل إلى هذا القول ويقول: عندنا حديث «إنما الأعمال بالنيات ...» في الصحيحين فكيف نقدم حديث ابن عباس المضطرب على حديث من أصول الإسلام، ويقول: إنه إذا نوى عن غيره فإن النية تكون عن الغير والحج يكون عن الغير. وستأتي صورة - إن شاء الله - ينبغي ألا يختلف فيها، وهي صورة (إذا كان الإنسان فقيرًا والحج يشترط له الاستطاعة كما ثبت في الكتاب والسنة، ويحتاج في أداء الحج إلى زاد وراحلة وأموال، فأتاه شخص قادر بماله وعاجز ببدنه فاستنابه) هنا نقول: هذا الفقير لا يجب عليه الحج لعدم القدرة المالية فحينئذ يجوز أن يحج عن ذلك القادر بماله العاجز بدنه، وهذا القول صححه الجمهور في مثل هذه الصورة، أو أن يستنيبه شخص ولي لميت في الحج عن الميت فلا نزاع في المسألة؛ لأنه لا يجب على هذا الفقير أصلًا أن يحج فهو نائب عن الميت، أو نائب عن الحي أما إذا كان قادرًا فسيأتي في شرح الحديث. والذي أرى في هذه المسألة أن مذهب الجمهور أحوط إلا في صورة الفقير التي ذكرنا، فإن الحج يكون عن المستنيب لدلالة الحديث «إنما الأعمال بالنيات ...» وينبغي ألا يختلف في ذلك.

أما إذا كان في غير هذه الصورة فالأحوط ألا يفعل الإنسان إذا لم يكن قد حج الإنسان عن نفسه، بل إذا كان قادرًا نقول يجب عليه أن يحج عن نفسه ولا تقبل النيابة عن غيرك لا مجانًا وبلا مال. ولهذا الحديث مسائل ملحقة به مثل: (من حج نفلًا ولم يحج الفرض لكنه حج يريد النفل، أو نذر الحج ولم يكن قد حج الفرض)، في هذه شبه اتفاق بين أهل العلم أن هذه الحجة تقع عن الفرض، وهذا قد أفتى به ابن عمر كما عند البيهقي وغيره بسند صحيح، أن رجلًا نذر أن يحج ولم يحج حجة الإسلام فقال: اجعل هذه عن نفسك ثم حج عن النذر (¬1). وكذلك إذا حج إنسان بنية النفل ولم يحج الفرض فإن هذه الحجة تقع عن الفرض، أما إذا حج الإنسان عن غيره ولم يكن حج عن نفسه فعندنا هذا الحديث، وشيخنا ابن باز - رحمه الله - يصحح هذا الحديث ويقول هذا الحج ينقلب عن النفس، وانقلاب الحج سواءً عن الغير أو كونه يخالف كثير من الأحكام هذا يخص الحج، ولهذا نقول: من حج عن غيره ولم يحج عن نفسه فالأحوط أن المستنيب لا يعتد بهذه الحجة؛ لأنه قول الجمهور أنها تكون عن النائب إذا لم يكن حج عن نفسه، ويلزمه إعادة مال المستنيب إن كان أخذ مالًا. وفي الحديث من الفوائد: 1 - الجهر بالتلبية، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه وهذه سُنَّة ويأتي حديث يخصه. 2 - وفيه تسمية الإنسان من يحج عنه فيقول: (لبيك عن فلان) والظاهر أنه لا يكررها بل يكتفي بها عند الميقات وسيأتي مواضع التلبية. وعلى القول بصحة الحديث أنه لا يجوز أن يحج الإنسان عن غيره ولم يكن حج غير نفسه. 3 - وفيه أن الحج يمتاز عن غيره بجواز قلب النية. ¬

(¬1) رواه البيهقي (4/ 339 رقم 8473، 8474) من كلام ابن عمر، و (4/ 339 رقم 8475) من كلام أنس - رضي الله عنهم -، وفي مصنف ابن أبي شيبة (3/ 130) من كلام عطاء.

الحديث الثاني عشر الحج الواجب في العمر مرة

الحديث الثاني عشر الحج الواجب في العمر مرة وَعْنَهُ - رضي الله عنه - قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ» فَقَامَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ: أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لَوْ قُلْتهَا لَوَجَبَتْ، الحَجُّ مَرَّةً، فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ» [رَوَاهُ الخَمْسَةُ غَيْرَ التِّرْمِذِيِّ] (¬1). - وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - (¬2). الحديث يروى من طريق سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي سنان الدؤلي عن ابن عباس، وسفيان روايته عن الزهري مضعفه، وقد روي من وجه آخر عن الزهري. وأصله في مسلم من طريق الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بنحوه. فالحج الواجب مرة واحدة في العمر؛ لأن النبي خطب الصحابة وقال لهم: «إنَّ اللهَ كَتَب عَلَيْكُمُ الحَجَّ ...» والمؤلف عدل عن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - والمخرج في الصحيح على حديث ابن عباس هذا، والنبي خطب فقال: «إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ ...» لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ...} فقام الأقرع بن حابس فقال: ..... الحديث. وفي الحديث: 1 - أن الحج لا يجب إلا مرة في العمر وكذا العمرة على القول بوجوبها. 2 - وفيه: إن الإنسان إذا حج أو اعتمر ثم جاوز الميقات لا يلزمه الإحرام. ¬

(¬1) صحيح: رواه أبو داود (1721)، والنسائي (5/ 111)، وابن ماجه (2886)، وأحمد (1/ 255)، والحاكم (1/ 441)، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني. انظر تحفة الأشراف (4/ 429). (¬2) أخرجه مسلم برقم (1337).

وكثير من أهل العلم قال: إنه لا يجاوز الميقات إلا بإحرام عمرة واستثنوا من تكرر دخوله كالحطابين والحشاشين وما أشبه ذلك، ولكن القول الصحيح أنه لا يلزم الإحرام بعمرة إذا مر الإنسان بالميقات. واختار الشيخان ابن باز وابن عثيمين - رحمها الله - أن من مر بالميقات ولم يكن قد اعتمر فإنه يلزمه العمرة إذا استطاع. وإذا قلنا بوجوب العمرة فإذا مر قاصدًا المسجد الحرام ومستطيعًا للعمرة فإنه لا يحل له مجاوزة الميقات إلا بإحرام؛ لأن هذا يؤدي فرضًا وهو قادر عليه، وإذا اعتمر عمرة الإسلام فلا يلزمه بعد ذلك الإحرام. 3 - وفيه: إعلان الأحكام الشرعية عن طريق الخطابة. 4 - وفيه: ترك الاختلاف والسؤال وأن الإنسان يقبل ما أُمر به ولا يزيد ولا يقول كما قال هنا: (أفي كل عام؟) إنما الواجب مرة واحدة هذا هو الأصل لهذا قال النبي: «اتركوني ما تركتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة أسئلتهم واختلافهم على أنبيائهم» (¬1). وفي الحديث الآخر حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (6858)، ومسلم (1337) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (6859)، ومسلم (2358).

الحديث الثالث عشر، والرابع عشر باب المواقيت

الحديث الثالث عشر، والرابع عشر بَابُ المَوَاقِيتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ: ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّام الجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، «هُنَّ لَهُنَّ وَلَمِنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ أَوِ العُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). وَعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لِأَهْلِ العِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ (¬2). وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رضي الله عنه -، إِلَّا أَنَّ رَواِيهِ شَكَّ فِي رَفْعِهِ (¬3). وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي وَقَّتَ ذَاتَ عِرْقٍ (¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1524)، ومسلم (1811). انظر تحفة الأشراف (5/ 21). (¬2) منكر: أخرجه أبو داود (1739)، والنسائي (5/ 123)، وقال ابن عدي في «الكامل» (1/ 408): أنكر أحمد على أفلح قوله: «ولأهل العراق ذات عرق». انظر تحفة الأشراف (12/ 254). (¬3) أخرجه مسلم برقم (1183)، ولكن راويه عن جابر قال: (أحسبه رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) ظاهره انه ليس بمرفوع ومما يؤكد ذلك أنه لم يثبت رفع هذا بحديث صحيح كما قال أهل العلم. فقال ابن خزيمة في صحيحه (4/ 159): أنه لا يثبت عند أهل الحدث منها شيء أي: من رفع توقيت ذات عرق أهل العراق. اهـ. وقال ابن منذر: لم نجد في ذات عرق حديثًا ثابتًا. وكما ذكر الشافعي في مسنده (ص815) عن طاوس قال: لم يُوَقِّتْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ عِرْق ولم يَكُنْ حِينئذٍ أهْلُ مَشْرِقٍ، ثم قال ولا أحسبه إلا كما قال طاوس. ولأحمد عن صداقة أنه قال له قائل: فأين العراق؟ فقال: لم يكن يومئذ عراق. ونقل مثل هذا عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. وكذا قال مالك في «المدونة»، والشافعي في «الأم». وانظر: «نصب الراية» (3/ 12 وما يليها). (¬4) أخرجه البخاري برقم (1531). عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: لما فتح هذان المصران أتوا عمر، فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُدَّ لأهل نجد قرنًا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنًا شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عرق. والمصران هما: البصرة والكوفة. [النهاية (4/ 336)].

وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لِأَهْلِ المَشْرِقِ العَقِيقَ (¬1). هذا باب المواقيت يتحدث عن مواقيت الحج المكانية، والحج له مواقيت مكانية ومواقيت زمانية: أما المكانية: فهي في حديث ابن عباس ذكر أربعًا، وفي ما بعده من الأحاديث ذكر الخامس حديث عائشة، وحديث جابر، وحديث ابن عباس في السنن. والزمانية: شوال وذو القعدة وذو الحجة، واخْتُلِفَ هل هو العاشر من ذي الحجة أو ذي الحجة كاملًا؟ والصحيح أنه كاملًا فيكون ثلاثة أشهر؛ لأن أقل الجمع ثلاثة، ولهذا قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}. وفي الحديث من الفوائد: 1 - توقيت المواقيت، وبضم ما سيأتي من أحاديث إلى حديث ابن عباس ستكون المواقيت المكانية خمسة، وهي محيطة بالبيت الحرام - الكعبة - من جهات الشرق والغرب والشمال والجنوب، والمار لا يخلو أن يكون يمر بالميقات نفسه أو ميقات غيره أو أن يمر بينهما، وقد جاء تفصيل هذه الأحكام في أحاديث المواقيت. فرتب المواقيت على النحو التالي: 1 - (... لِأَهْلِ المَدِينَةِ ذي الحُلَيْفَةِ ...) هذا الميقات قريب من المدينة وهو أبعد المواقيت عن مكة، وهو الذي أهل منه النبي (¬2) - صلى الله عليه وسلم - ويسمى الآن أبيار علي. ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أحمد (1/ 344)، وأبو داود (1740)، والترمذي (832)، وقال المنذري: في إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف، وذكر ابيهقي انه تفرد به. (¬2) كما رواه البخاري (1444، 1470، 1471) من حديث جابر، وأنس، وابن عباس - رضي الله عنهم -، ومسلم (1187) من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -.

2 - (... وَلِأَهْلِ الشَّامِ الجُحْفَةَ ...) والآن يهل الناس من رابغ وكانت الجحفة قديمًا قرية ثم خربت ثم صار الميقات الآن قبلها بقليل من جهة الساحل (رابغ). 3 - (وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ) وهذه المناطق معروفة والآن يسمونه السيل وله طرفان، طرف شمالي يسمى (السيل الكبير)، وطرف جنوبي يسمى (وادي محرم) فهو وادي طويل له طرفان يمتد من الشمال إلى الجنوب وليس بميقاتين بل هو ميقات واحد. 4 - (وَلِأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ) وهو معروف الآن (بالسعدية) وهو معروف لمن يقصد مكة من جهة الجنوب. وهذه المواقيت الأربعة المذكورة هنا اتُّفِقَ على أنها مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي مختلفة في البعد والقرب، واختلف في الميقات الخامس، وهو ميقات أهل العراق أو المشرق وسيأتي الكلام عليه أن شاء الله. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «هُنَّ لهُنَّ ...»، وفي لفظ: «هن لهم ...»، وفي لفظ: «هن لأهلهن ....» أي: هذه المواقيت لأهل هذه الجهات. وقوله: «... وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ ...» أي: لمن أتى على هذه المواقيت ممن هو ليس من أهلها فإنه يحرم منه. وقوله: «... مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ أَوِ العُمْرَةَ ...» فيه دلالة على أنه لا يلزم من لم يرد الحج والعمرة أن يحرم وتقدم الكلام على هذا. 2 - وفيه: أن الإنسان لا يجاوز المواقيت وهو مريد للحج أو العمرة إلا بإحرام. 3 - وفيه: أن من كان مكانه دون المواقيت أي: بين الميقات وبين المشاعر (مكة) فإنه يكون ميقاته من مكانه هو، فإذا أراد العمرة أو الحج فإنه يحرم من مكانه ولا يتجاوزه، وعند أهل العلم أنه إذا تجاوز مكانه وهو مريد للنسك

ومشى فحكمه حكم من تجاوز الميقات وهو مريد للنسك. مسألة: وهنا هل لهؤلاء إن مروا بالمواقيت وهم يريدون نسكًا أن يؤخروا الإحرام إلى منازلهم التي في مكة، أو دون المواقيت أم يلزمهم الإحرام من الميقات؟ فيه خلاف بين أهل العلم: - فمنهم من قال: إن شاء أحرم من الميقات الذي مر عليه أو من منزله. - ومنهم من قال: يلزمه الإحرام من الميقات. والأول أصح وهو اختيار شيخنا ابن باز وشيخنا ابن عثيمين - رحمهما الله -. وهذا معنى «... وَمَنْ كَانَ دُون ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ ...». وقال: «... حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ» هذا الأصل حيث ينتظم الحج والعمرة، لقوله قبل ذلك: «... مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ أَوِ العُمْرَةَ ....» غير أن جمهور أهل العلم يرون أن الحج يُحَرْم به من (مكة) وأما العمرة فلابد من الخروج إلى الحل واحتجوا بالأثر والنظر. أما الأثر: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عائشة أن تعتمر من التنعيم (¬1). وأما النظر: أن العمرة زيارة فيكون قدوم من الحل إلى الحرم. فلابد أن يقدم على الحرم من غيره وإلا لم يكن زائرًا. وقالوا: إن هاذ موجود في الحج ففيه الذهاب إلى عرفة وكل نسك من حج أو عمرة، قالوا: يجمع فيه بين الحل والحرم، وهو كذلك في الحج فالناس يذهبون إلى عرفات وهي من الحل، ثم يقدمون فيطوفون ويسعون بعد ذلك فيكونون قد وفدوا إلى البيت بعد أن خرجوا إلى الحل. ¬

(¬1) وهذا في حجة الوادع عندما حاضت والقصة في الصحيحين كما تقدم بيانه.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الإنسان إذا كان في مكة سواءً آفاقيًّا (¬1)، أو من أهل مكة أن له أن يحرم بالعمرة من مكة ولا شيء عليه، ولكن الصحيح أن عمرته صحيحة ليست باطلة، ولكن يكون كمن ترك الإحرام من الميقات لا يعني أنه لابد يحرم من الميقات، لكن يذهب إلى أدنى الحل سواءً التنعيم أو عرفات أو طرف الحديبية الذي في الحل، فمن أي مكان في الحل يحرم منه. وأما عَائِشَةَ - رضي الله عنها -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ. وحديث جابر في توقيت المواقيت الخمسة فيه: «... ولِأَهْلِ العِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ ....» لكن الراوي شك في رفعه قال: (أحسبه رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) ومن هنا اختلف أهل العلم في هل توقيت ذات عرق مسند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟! أم من توقيت عُمَر؟!. أما حديث عائشة - رضي الله عنها - فهنا ضَعَّفَه الإمام أحمد وغيره؛ لأنه يرويه أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد عن عائشة و (أفلح) هذا لا بأس به ولكن له بعض المناكير، ونقل ابن عدي في الكامل أن هذا الحديث أنكره عليه الإمام أحمد وأنكر قوله: لأهل العراق ذات عرق، فهذا اللفظ منكر. وكذلك من الأحاديث التي فيها أن توقيت ذات عرق من النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث أبي الزبير عن جابر ولكن هذا وقع فيه الشك ولم يجزم به راويه. وكذلك حديث ابن عباس الذي عند أحمد وأبي داود، وهذا الحديث ضعيف كذلك فيه يزيد بن أبي زياد يرويه عن محمد بن علي عن ابن عباس، ويزيد هذا ضعف وفيه انقطاع كذلك، وأيضًا في متنه نكاره لقوله العقيق، وأيضًا في الصحيح من حديث ابن عباس نفسه وليس فيه ذات عرق. ¬

(¬1) الآفاق: النواحي الواحد أُفُقٌ وأُقْقٌ، ورجل أَفقيٌّ إذا كان من آفاقِ الأرض. [مختار الصحاح (1/ 19)].

وقال بعضهم: لا منافاة فإن العقيق هذا وادي كبير فيسمى بعض أطرافه العقيق ويسمى ذات عرق. وجاء أحاديث أخرى مرفوعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي وقت لأهل العراق ذات عرق لكن كلها ضعيفة فبذلك لا يثبت في توقيت ذات عرق حديث مرفوع. والصحيح هو ما أخرجه الشيخان: أن عمر هو الذي وقت لأهل العراق ذات عرق لما فتح البصرة والكوفة وأتاه أهلهما فقالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحد لنا حدًّا فحد لهم ذات عرق. وهذا هو المحفوظ ولم يختلف في إسناده وهو مخرج في الصحيحين. وعلى القول بأن ذات عرق مرفوع للنبي يكون هذا مما وافق فيه اجتهاد عمر الوحي، ولكن المحفوظ أن توقيت ذات عرق من حد عمر - رضي الله عنه -. وقد يأتي إنسان من ناحية البحر الأحمر، فإن كان يأتي من جهة اليمن، فإنه سيحاذي (يلملم) ولابد، حينئذ نقول عليه إذا حاذى الميقات (يلملم) أن يحرم بالحج والعمرة حسب نسكه. وإن أتى من ناحية مصر فإنه يحاذي الجحفة (رابغ) فإنه يحرم من هناك. وإن أتى من الغرب مباشرة بشكل عمودي فحينئذ هذا يحرم من جدة، كما قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - قال: ولهذا أهل سواكن في السودان وهي تحاذي جدة على الساحل فهي غرب جدة فحينئذ يحرمون من الساحل؛ لأنهم لا يحاذون أيًّا من المواقيت، وقول الشيخ محمد قوي في النظر، وبعضهم قال: يحرم من البحر قبل الرسو على الساحل.

وأما جعل جدة ميقاتًا لكل من يأتي بالطائرة، فهو قول واهٍ مصادم للنصوص، ينبغي هجره والرد على قائله فالسنة واضحة في هذا الأمر، والأحكام لا تختلف بالطيران والارتفاع عن الأرض عن القرار عليها في مثل هذا. هنا مسألة: لو أن إنسانًا أتى من غير ميقاته ولكن سيمر بميقاته، كما لو أتى الشامي من طريق المدينة وهو يريد الحج والعمرة، فهل يلزمه الإحرام من ذي الحليفة أم له تأخير الإحرام إلى أن يأتي (رابغ) الآن؟! جمهور أهل العلم على أنه لابد من الإحرام من الميقات الذي حاذاه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «... هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهنَّ ...» وهذا أتى الميقات وهو من غير أهله فيلزمه الإحرام. وذهب مالك، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمها الله - إلى أن للشامي تأخير الإحرام إذا مر بميقات المدينة إلى ميقاته، والشيخان ابن باز وابن عثيمين - رحمها الله - على أنه ليس له ذلك، وهذا من باب الاحتياط من ناحية، وللأخذ بظاهر النص «... هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهنَّ ...» لكن لو أن إنسانًا أحرم وأخذ بقول شيخ الإسلام - رحمه الله - ثم جاءنا يسأل: نقول لا شيء عليك؛ لأن المسألة خلافية والأمر فيها سهل. مسألة: وإذا مر الإنسان بالهواء على المواقيت، هل يلزمه الإحرام أن ينتظر حتى يهبط في مطار جدة؟! بعضهم يقول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إذا كان الإنسان يطير وحاذى الميقات يلزمه الإحرام.

وتفسير قول شيخ الإسلام: ما ذكره - رحمه الله - في معرض كلامه عن هؤلاء الذين يحضرون إلى عرفات أو مزدلفة قال: فنرى أحدهم يأتي وتطير به الجن فلا يحرم كما ينبغي ويمر بالميقات ولا يحرم (¬1). يقول الشيخ محمد بن عثيمين: استفدنا من هذا أن الإنسان إذا كان في طائرة وحاذى الميقات يحرم، وهذا معلوم بالأدلة وشيخ الإسلام أومأ إليه. مسألة: ولو أن إنسانًا لبس ملابس الإحرام (الإزار والرداء) وهو الآن مريد للنسك ولكنه ما دخل في النسك، فبعض الناس يغلط ويظن أن مجرد اللبس هو الإحرام؟ هذه المسألة مثل كون الإنسان خرج من بيته يريد المسجد فهو مريد للصلاة فإذا كبر دخل في الصلاة، وكذلك لابس الإزار والرداء مريد للنسك فإذا لبى دخل في النسك. ¬

(¬1) انظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 48).

الحديث الخامس عشر باب وجوه الإحرام وصفته

الحديث الخامس عشر بَابُ وُجُوهِ الإِحْرَامِ وَصِفَتِهِ أنواع الأنساك عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَمِنَّا مِنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالحَجِّ فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ عِنْدَ قُدُومِهِ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، أَوْ جَمَعَ بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ. [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). هذا الحديث يتكلم عن أنواع الأنساك وهي ثلاثة: 1 - حج مفرد. 2 - حج وعمرة فعلهما واحد وهو: قران. 3 - حج وعمرة منفصلان وهو: التمتع. وهما باقيان إلى قيام الساعة، وقد أخرج مسلم وأحمد وغيرهما من طرق عن الزهري عن حنظله الأسلمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء، حاجًا أو معتمرًا أو ليثنيهما» (¬2). واختلف في الأفضل، فقال بعضهم: الإفراد. وقال بعضهم: التمتع. وقال بعضهم: القران. والخلاف في هذه المسألة طويل، ولكن الذي يظهر أن التمتع أفضل، لكن إن ساق الهدي فينبغي أن يكون قارنًا. مسألة: وقد يقول قائل: إذا ساق الهدي ما يمكن إلا أن يكون قارنًا؟ ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1562)، ومسلم (1211). انظر تحفة الأشراف (12/ 75). (¬2) رواه مسلم (1252)، وأحمد (2/ 240) وغيرهما.

نقول: لا. يمكن أن يكون مفردًا ويسوق الهدي حينئذ وليس بواجب، لكنه يمكن أن يسوق الهدي وليس بقارن، فإذا ساق الهدي يستحب أن يكون قارنًا تأسيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقول عائشة - رضي الله عنها -: (وأهل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج) هذا في ظنها وعلمها؛ لأنه لما جمع بين الحج والعمرة وكان فعلهما واحدًا ظنت أنه أهل بالحج، وإلا قد جاء في حديث ابن عمر في الصحيحين (¬1) وحديث ابن عباس أنه قال سمعت عمر يقول: لما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وادي العقيق (¬2) أتاه جبريل في هذا الوادي وقال: «صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة» (¬3) وجاء تأييد ذلك في حديث أنس (¬4) أيضًا، وغير ذلك الكثير مما يدل جزمًا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان قارنًا. ففي هذا الحديث التخيير بين الأنساك الثلاثة التي لا رابع لها. وفيه أن المتمتع إذا قدم يبدأ بالعمرة مباشرة لا يتشاغل بغيرها، وأما قولها (أَوْ جَمَعَ بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ) هذا مخصوص بمن ساق الهدي ليس عامًّا. وفيه أن الإنسان يسمي نسكه، وتسمية النسك ليس جهرًا بالنية كما في الإفراد يقول: (لبيك حجًا)، والتمتع يقول: (لبيك عمرة)، والقارن يقول: (لبيك عمرة وحجًا)، وأما قول بعضهم في التمتع: (لبيك عمرة متمتعًا بها إلى الحج) فهذا لم يثبت ولا نعلم له أصلًا. ¬

(¬1) رواه البخاري (1491)، ومسلم (1229). (¬2) (وادي العقيق) قرب البقيع بينه وبين المدينة أربعة أميال، ومعنى العقيق الذي شقه السيل قديمًا من العق وهو: الشق. (¬3) رواه البخاري (1461). (¬4) انظر صحيح مسلم (1251).

وفي حديث ابن عمر في الصحيحين قال: (لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهل سبح الله وحمده وكبَّره بعد أن قامت به راحلته استقبل القبلة ثم أهل بالحج، وقال: هكذا رأيت النبي يفعل) (¬1) وهذا في البخاري وغيره ومثله حديث أنس وبوب عليه البخاري: باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال ... قال ابن حجر: (وَقَلَّ من تعرض لها مع أنها في الصحيح) أي: قول: (سبحان الله والحمد لله والله أكبر) وما أشبه ذلك قبل أن يحرم، فَقَلَّ من تعرض لها من الفقهاء مع أنها ثابتة في التصحيح. والإهلال هو رفع الصوت بالتلبية وهو سنة في حق الرجال، وأما المرأة لا ترفع صوتها إنما تهل بقدر ما تسمع نفسها، أو تسمع صاحبتها، والتلبية قيل إنها واجبة وقيل إنها ركن وقيل إنها سنة، والصحيح أنها سنة، وإنما النية هي التي ركن وهي التي فرض، والتلبية تكون دائمًا وتتأكد في مواضع منها عند التقاء الرِّفاق ودبر الصلاة ... وأحسن ما روي فيها أثر عند ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن سابط قال: «كان السلف يستحبون التلبية في أربعة مواضع في دبر الصلاة وإذا هبطوا واديًا أو علوا وعند التقاء الرفاق» (¬2) وهو تابعي أدرك قلة من الصحابة ونقل أكثر رواياته عن التابعين وإسناده صحيح إليه. وروى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس وفيه «وأما موسى فرجل آدم جعد على جمل أحمر مخطوم بخلبة كأني انظر إليه إذا انحدر في الوادي يلبي» (¬3) وبوب البخاري: باب التلبية إذا انحدر في الوادي. ¬

(¬1) رواه البخاري (1443، 1477، 1479)، ومسلم (1187). (¬2) رواه ابن أبي شيبة (3/ 131 رقم 12750)، وانظر نصب الراية (3/ 26). (¬3) رواه البخاري (1480، 5569)، ومسلم (166).

وشيخ الإسلام يرى أن التلبية إنما تكون في التنقل أما إذا قَرَّ في المكان لا يلبي، فيرى أن التلبية تكون إذا شخصت من منى إلى عرفات فإذا قرَّت بعرفات لا تلبي. فإن قيل فقد أخرجه مسلم (¬1) والنسائي (¬2) من طريق أبي الأحوص عن حصين عن كثير بن مدرك عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله ونحن بجمع: سمعت الذي أُنزلت عليه سورة البقرة يقول في المقام «لبيك اللهم لبيك» ومثله من طريق زياد البكائي عن حصين، فهذا ظاهره التلبية وهو قار بمزدلفة. لكن أخرجه مسلم عن طريق هشيم عن أبي الأحوص به، ولفظه أن عبد الله لبّى حين أفاض من جمع فقيل: أعرابي هذا؟ فقال: عبد الله أنسى الناس أم ضلوا؟ سمعت الذي أُنزلت عليه سورة البقرة يقول: في هذا المكان: «لبيك اللهم لبيك» (¬3) ورواه أيضًا من حديث سفيان عن حصين ولم يسق لفظه وهذا اللفظ مقيد لما أطلق قبله فصح ما قال شيخ الإسلام. لكن أخرج النسائي (¬4) من طريق علي بن صالح - وهو أخو الحسن بن صالح بن حي - عن ميسرة بن حبيب عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير قال: كنت مع ابن عباس بعرفات فقال: مالي لا أسمع الناس يلبون؟ قلت: يخافون من معاوية. فخرج من فسطاطه فقال: لبيك اللهم لبيك فإنهم قد تركوا السنة من بغض علي. وإسناده لا بأس به. وعلق عليه شيخنا ابن باز - رحمه الله - في شرح النسائي: معاوية لم يكن يمنع ذلك ولعل بعض الناس ممن لا بصيرة عنده ترك التلبية في ذلك المحل حول ابن عباس. اهـ. ¬

(¬1) برقم (1283). (¬2) برقم (3046). (¬3) انظر الرقم السابق في مسلم. (¬4) برقم (3006).

قلت: ظاهره التلبية في عرفات، وبوب عليه النسائي فقال: (التلبية في بعرفة) فإذا تحركت من عرفات إلى مزدلفة تلبي، فإذا استقريت بمزدلفة وأنت قار (بائت) تلبي، فإذا أفضت من مزدلفة إلى منى فإنك تلبي هكذا. وسألت شيخنا ابن باز - رحمه الله - عن قول شيخ الإسلام فقال: ضعيف والصحيح أنه يستديم التلبية. قلت: ما صححه شيخنا هو ما دلت عليه السنة، وبالنسبة لصيغة التلبية، وهل كان النبي يلبي غيرها ستأتي - إن شاء الله تعالى -.

الحديث السادس عشر مكان إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -

الحديث السادس عشر مكان إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - بَابُ الإِحْرَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: «مَا أَهَلَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلَّا مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). هذا حديث ابن عمر وفيه إثبات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهَلَّ من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة. ولا يفهم من قوله: (مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ)؛ أنه يعني بعد الصلاة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر في المدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات تلك الليلة، ثم أحرم، فإنه أحرم عندما انبعثت به راحلته (¬2) هذا هو الصحيح. وفي لفظٍ عن ابن عمر كذلك: (ثم يركب فإذا استوت به راحلته قائمًا أحرم) (¬3) وفي حديث جابر: (حتى إذا استوت به على البيداء) (¬4) وهذا لا ينافي أن يكون أحرم أول ما ركبها، فإما أن يكون استوى عليها وهي على البيداء - فالمكان هناك كله صحراء -، أو يكون مشى شيئًا ثم رفع صوته فسمعه جابر - رضي الله عنه -. وهذا هو الصحيح أنه لم يحرم - صلى الله عليه وسلم - بعد الصلاة ولم يشرع في التلبية وعقد الإحرام حتى مشى، بل منذ أن ركب راحلته واستوت به أهَلَّ - صلى الله عليه وسلم -. وبعضهم رام جمع الآثار في هذا وقال بالحديث الذي رواه أبو داود (¬5) من طريق خصيف بن عبد الرحمن الجزري عن سعيد بن جبير قال: (عجبت لاختلاف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في نسكه) قال ابن عباس ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1541)، ومسلم (1186). (¬2) كما رواه البخاري (1628)، ومسلم (690) بشطره الأول، وهو من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (1479). (¬4) رواه مسلم (1218). (¬5) برقم (1770).

- رضي الله عنه -: (إنه أهَلَّ بعد الصلاة فسمعه قوم فنقلوا عنه، ثم أهل بعد ما ركب دابته فأدركه قوم فأخذوا عنه، ثم أهل بعدما علت به على البيداء فأدركه قوم فأخذوا عنه) فهذا لا يثبت؛ لأن خصيف ضعيفًا، ولو صح لكان فيصلًا في المسألة ولكان الصواب أنه أهل - صلى الله عليه وسلم - حينما استوت به الناقة وكان عند المسجد. ويأخذ من الحديث أن الإنسان يؤخر التلبية حتى يركب السيارة ويستقبل القبلة ثم يحرم؛ لأنه قد يكون نسي شيئًا. وهنا قد يسأل سائل هل للإحرام صلاة تخصه؟ نقول: الجمهور على أن للإحرام صلاة تخصه، والقول الثاني ليس له وهذا هو الصحيح. لكن إن صلى عند الميقات فرضًا فالأفضل أن يحرم عقيب الفرض على الوجه الذي ذكرنا هنا، ولكن كونه يمشي ويريد أن يميل إلى مسجد الميقات ثم يصلي ركعتين ثم يهل بعدهما فهذا لا أصل له، أما حديث ابن عباس (صل في هذا الوادي المبارك ثم قل: عمرة في حجة) (¬1) فهو - صلى الله عليه وسلم - صلى أي: وافق صلاة الفرض فصلاها - صلى الله عليه وسلم -. فإن رَتَّب الإنسان أنه يمر بالميقات فرضًا من الفروض ثم يحرم عقبه فلا بأس. ومما في الحديث من الفوائد رفع الصوت بالتلبية؛ لأنهم سمعوه. ¬

(¬1) رواه البخاري (1461، ومواضع).

الحديث السابع عشر رفع الصوت بالإهلال

الحديث السابع عشر رفع الصوت بالإهلال وَعَنْ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالإِهْلَالِ» [رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ] (¬1). هذا الحديث يروى من طريق: عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن خلاد بن السائب عن أبيه، وقد اختلف في صحابيه والمحفوظ أن صحابيه السائب والد خلاد كما قال مالك والبخاري والترمذي وغيرهم، وله شواهد منها حديث أنس عند البخاري وفيه قوله: (وسمعتهم يصرخون بها جميعًا) (¬2) أي: التلبية. وهي تدل على أن رفع الصوت من المسنون في حدود الاستطاعة. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (4/ 55)، وأبو داود (1814)، والنسائي (5/ 162)، والترمذي (829)، وابن ماجه (2922)، وابن حبان (3802). وله شاهد أخرجه أحمد (1/ 321)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 187) عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن جبريل أتاني فأمرني أن أعلن بالتلبية». (¬2) رواه البخاري (1473، 2791).

الحديث الثامن عشر الاغتسال قبل الإهلال

الحديث الثامن عشر الاغتسال قبل الإهلال وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَجَرَّد لِإِهْلَالِهِ وَاغْتَسَلَ. [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ] (¬1). هذا الحديث يروى من طريق عبد الله بن يعقوب المدني عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن طارق بن زيد عن أبيه، وعبد الله بن يعقوب فيه جهالة وعبد الرحمن ضعيف، وابن يعقوب قد توبع لكن مدار الحديث على أبي الزناد، فالحديث لا يثبت. وفي صحيح مسلم حديث جابر - وسيأتي - أن أسماء بنت عميس لما ولدت محمد بن أبي بكر قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي» (¬2). وهذا الاغتسال عند الميقات للدخول في النسك حجًّا كان أو عمرة هل هو لأجل النظافة أو هو عبادة محضة؟ قال بعضهم: إن هذا معقول لأجل النظافة وحصول النشاط، فعلى هذا لو عُدِمَ الماء فإنه لا يتيمم؛ لأن المقصود التنظيف لا رفع الحدث، وهذا اختيار شيخ الإسلام، والدليل معه حديث أسماء بنت عميس أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي نفساء أن تغتسل، والمعلوم أن النفساء لو اغتسلت ما ينفعها الغسل، فلا يرتفع حدثها لتجدده ولكن المقصود النظافة، وهذا هو الصحيح. وصح عن ابن عمر قوله: «إن من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم ...» (¬3) فهذا الاغتسال سببه عقد الإحرام فهو عام لكل محرم. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (830)، والدارمي (2/ 31)، والدارقطني (ص256)، والبيهقي (5/ 32). قال العلامة الألباني في الإرواء (1/ 188، 189 حديث رقم 149): هذا سند حسن؛ فإن عبد الرحمن بن أبي الزناد وإن تكلم فيه فإنما ذلك لضعف في حفظه لا لتهمة في نفسه، وليس ضعفه شديدًا فهو حسن الحديث لاسيما في الشواهد ومن شواهد حديثه هذا: - ما أخرجه الدارقطني والحام (1/ 447) والبيهقي: عن يعقوب بن عطاء، عن ابن عباس قال (اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لبس ثياب فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعد على بعيره فلما استوى به على البيداء أخرج الحج). وقال الحاكم: «صحيح الإسناد؛ فإن يعقوب بن عطاء بن أبي رباح ممن جمع أئمة الإسلام حديثه». ووافقه الذهبي مع أن يعقوب بن عطاء أورده ي «الميزان» وحكى تضعيفه عن أحمد وغيره ولم يذكر أحدا وثقه! فأنى له الصحة؟! ولذلك قال البيهقي عقبه: «يعقوب بن عطاء غير قوي». وقال الحافظ في «التلخيص» (ص208): «ضعيف»، وكذا قال في «التقريب». - ومن شواهد أيضًا قول ابن عمر: «إن من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم وإذا أراد أن يدخل مكة» رواه الدارقطني والحاكم وقال: «صحيح على شرط الشيخين» ووافقه الذهبي، وإنما هو صحيح فقط فإن فيه سهل بن يوسف ولم يرو له الشيخان. وهذا وإن كان موقوفًا فإن قوله: «من السنة» إنما يعني سنته - صلى الله عليه وسلم - كما هو مقرر في علم أصول الفقه ولهذا فالحديث بهذين الشاهدين صحيح إن شاء الله تعالى. (¬2) رواه مسلم (1218) في حديث جابر - رضي الله عنه - الطويل وسيأتي. (¬3) رواه الحاكم في المستدرك (1/ 615)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، لكن العلامة الألباني قال كما سبق من قليل أن هذا ليس بصواب بل هو صحيح فقط؛ لأن فيه من ليس من رجال الصحيحين، وأيضًا رواه الدارقطني (2/ 220)، وابن أبي شيبة في المصنف (3/ 423)، والبيهقي (5/ 33).

الحديث التاسع عشر ما لا يصح للمحرم لبسه

الحديث التاسع عشر ما لا يصح للمحرم لبسه وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ: مَا يَلْبَسُ الُمحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ: «لَا يَلْبَسُ القَمِيصَ، وَلَا العَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا البَرَانِسَ، وَلَا الخِفَافِ، إلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الوَرْسُ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (¬1). هذا الحديث فيه بيان ما لا يَلْبَس المُحْرِم، حيث سَأَلَ الرجل عن بيان ما يُلْبَس، فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - عمَّا لا يُلْبَس؛ لأن الذي يُلْبَس كثير فقال له: لا تَلْبَس كذا وكذا. أي: والباقي مباح. وهذا الحديث كان بالمدينة عندما خطب الناس وعلمهم، وأمر فيه بقطع الخفين. وأما في عرفات في حديث ابن عباس أنه قال: «ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين» (¬2) فدل على أن قطع الخفاف إذا لم يجد النعال منسوخ، وقطع الخفاف إفساد لها، وجاء نحو حديث ابن عباس حديث جابر أخرجه مسلم في صحيحه (¬3) في أول كتاب الحج. والقميص مثل الثياب والعمائم معروفة، والسراويلات هي التي تلبس على العورة والرِّجْلَيْن، وكذلك إذا كانت قصيرة يسمونها (التبان)، والبرانس هي ثياب رءوسها منها، والخفاف تكون من الجلود وغيرها وتلبس على الأرجل. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1542)، ومسلم (1177). (¬2) رواه البخاري (1744، 1746). (¬3) برقم (1178) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب يقول: «السراويل لمن لا يجد الإزار والخفان لمن لم يجد النعلين» يعني: المحرم. وبرقم (1179) من حديث جابر - رضي الله عنه - بنحوه.

فما شابه هذه الملابس مما يكون في معناها فإن حكمه حكمها، والتعبير النبوي واضح في عدم لبس كذا وكذا، ولا شك أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلين، فإذا وجد لباس (الفانيلة) مثل القميص، والطاقية مثل العمامة، والسراويل الصغيرة مثل السراويل الكبيرة، والمشلح مثل البرنس (¬1) أو قريبًا منه، والشرابات مثل الخفاف ... وهكذا، وعلى ذلك فَقِس. فلا تلبس هذه الملابس وما في معناها مما يُحْدَث عند الناس، فإذا لم يجد الإنسان النعلين يلبس الخفين بلا قطع، وكذلك إذا لم يجد الإزار يلبس السراويل. وهل عليه فدية أم لا؟ كثير من أهل العلم يقول: عليه فدية ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر الفدية. وقوله: «.. وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الوَرْسُ» هل نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الثياب التي مسها الزعفران والورس لأجل اللون أو الريح؟ الصواب: أنه نهى عنهما جميعًا؛ لأن الزعفران ليس من طيب الرجال بل من طيب النساء، لهذا في حديث أنس عند مسلم: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزعفر الرجل» (¬2)، ولما رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة، قال «ما هذا؟» قال: يا رسول الله إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب. قال: «فبارك الله لك، أولم ولو بشاة» (¬3). لأنه أصابه من مخالطة المرأة فلا يجوز للرجل أن يلبس ثوبًا مسه زعفران سواءً كان محرمًا أو غير محرم. ¬

(¬1) البُرْنُس: قلنسوة طويلة وكان النساك يلبسونها في صدر الإسلام. [مختار الصحاح: (1/ 73)]. (¬2) رواه البخاري (5508)، ومسلم (2101) يتزعفر الرجل: أن يصبغ الرجل جسده أو ثيابه بالزعفران. (¬3) رواه البخاري (1943، 1944، 3569)، ومسلم (1427) واللفظ لمسلم. وقال العلامة محمد فؤاد عبد الباقي في التعليق على مسلم: (أثر الصفرة) الصحيح في معنى هذا الحديث أنه تعلق به أثر من الزعفران وغيره من طيب العروس ولم يقصده ولا تعمد التزعفر.

فالصفرة هذه صفرة الزعفران ليس من طيب الرجال، وكذلك المحرم لا يلبس ثوبًا مسه الطيب؛ لأن الزعفران طيب والورس كذلك نبت طيب الرائح. - وفيه من الفوائد: حرص الصحابة على التعليم حيث سألوه عما يلبس. - وفيه: حسن تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم -. - وفيه: تحريم لبس المذكورات. وهنا مسألة الإزار: (ما يغطي الشق التحتي من البدن) لو أن إنسانًا خاطه مثل (الوزرة) التي يلبسها الناس الآن، وجعل له مغّاط بحيث يستقر على الحقو، يكون شادًّا عليه لكنه مخيوط خاطه من فوق وخاطه بالطول، فلا يحتاج إلى مسك ولا ربط يخلعه إن شاء ويلبسه إن شاء، هل يجوز لبسه؟ يقول الشيخ محمد بن عثيمين: هذا إزار ويسمونه العامة (وزرة) ولم يرتكب المحرم شيئًا منهيًّا. وسُئِل شيخنا ابن باز - رحمه الله - فقال: هذا ما يجوز هذا مثل السراويل ما بقى إلا خياطته في الوسط فيصير مثل السراويل. فالمسألة محل خلاف بين الشيخين والأحوط ألا يلبس، وإن كان فيه راحة في اللبس ولكن قد لا تكون راحة في الشرع فالأحوط تركه. وعائشة - رضي الله عنها - علق لها البخاري أنها كانت لا ترى بأسًا بلبس التُّبَّان لمن يرحلون هودجها أي: (يحملونه) إذا لبس الإزار يمكن أن تنكشف عورتهم، فكانت تفتى بلبس التبان للحاجة فهذا قوي لمن يتعاطى مثل هذا. ولكن الأصول تمنع هذا والشيخان على أنه لا يجوز لبس هذا التُّبَّان، والتبان السراويل القصير.

ومما يكمل هذا الحديث حديث الذي مات ووقصته الدابة قال: «لا تخمروا رأسه ولا وجهه» فهل تثبت هذه الزيادة؟ أصل هذا الحديث ما رواه الستة وأحمد وغيرهم من طرق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قصة الرجل الذي كان واقفًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فوقع من راحلته فمات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه طيبًا ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا». وهذا الحديث له ألفاظ متقاربة ويرويه عن سعيد بن جبير اثنا عشر راويًا وهذا تفصيل رواياتهم: 1 - أبو الزبير: أخرجه مسلم (2900) عن هارون بن عبد الله عن أسود بن عامر عن زهير عنه وفيه ذكر الوجه ولفظه «وأن يكشفوا وجهه حسبته قال: ورأسه» قال البيهقي: «ذكر الوجه على شك فيه في متنه ورواية الجماعة الذين لم يشكوا وساقوا المتن أحسن سياقة أولى أن تكون محفوظة» انتهى كلام البيهقي ويأتي مزيد بيان إن شاء الله. 2 - إبراهيم بن أبي حرة: أخرجه أحمد عن سفيان بن عيينة عنه بدون ذكر الوجه. 3 - عمرو بن دينار: واختلف عليه في ذكرها كثيرًا فالحديث يرويه عن عمر وأكثر من أربع عشرة نفسًا. أ - الثوري: أخرجه مسلم (1206) عن أبي كريب عن وكيع ح وأخرجه ابن ماجه عن علي بن محمد الطنافسي كلاهما (الطنافسي وأبو كريب) عن وكيع عن الثوري عن عمرو بذكر الوجه، وتابع وكيعًا أبو داود الحفري: أخرجه النسائي (2714) عن

عبدة بن عبد الله الصفار وعن الحفري عن سفيان وفيها ذكر الوجه، ورواه محمد بن كثير عند أبي داود (3238) والبيهقي (3/ 391) عن الثوري بدون ذكر الوجه. ومن طريق مسلم المذكور أخرجه البيهقي (5/ 53) وابن حزم (7/ 92) وقال ابن حزم: خبر ثابت، وقال البيهقي: ورواه محمد بن عبد الله بن نمير عن وكيع دون ذكر الوجه فيه، وكذا رواه محمد بن كثير وعبد الله بن الوليد العدني عن سفيان دون ذكر الوجه. اهـ. ب - ابن عيينة: روى الحديث عنه أربعة أحمد في المسند (1914) والحميدي في مسنده (466) وابن أبي شيبة عند مسلم (2891) وابن أبي عمر عند الترمذي (951) وليس في شيء من ذلك ذكر الوجه. جـ - يونس بن نافع: أخرجه النسائي (1904) أخبرنا عتبة بن عبد الله حدثنا يونس وليس فيها ذكر الوجه. د - ابن جريح: أخرجه أحمد (323) عن يحيى عنه وليس فيها ذكر الوجه وكذلك أخرجه النسائي (2858) أخبرنا عمران بن يزيد حدثنا شعيب بن إسحاق أخبرنا ابن جريج وليس فيها ذكر الوجه. هـ - عمرو بن الحارث: أخرجه ابن حبان (3928) أخبرنا ابن سلم عن حرملة عن ابن وهب عن عمرو وليس فيها ذكر الوجه.

و - حماد بن زيد: أخرجه مسلم (2892) حدثنا أبو الربيع الزهراني قال: حدثنا حماد ليس فيها ذكر الوجه، وأخرجه البخاري (1849) حدثنا سليمان بن حرب ح وحدثنا مسدد (1268) كلاهما (سليمان ومسدد) عن حماد عن عمرو وليس فيها ذكر الوجه. ز - سَليم بن حيان (بفتح السين): أخرجه الطبراني في الصغير (2/ 188) برقم (1004) وليس فيها ذكر الوجه. ورواها - أعني بذكر الوجه - عن عمرو كلًا من: عبد الله بن علي الأزرق، وأبان العطار، وأشعث بن سوار، وأبان بن صالح، وابن أبي ليلى، وأبو مريم، وعمر بن عامر. وكل رواياتهم عنه عند الطبراني (12/ 76 فما بعدها)، ورواية عمر بن عامر أخرجها كذلك الدارقطني (2/ 295). 4 - رواية أيوب السختياني: أخرجها البخاري (1265) حدثنا أبو النعمان عن حماد عن أيوب وليس فيها ذكر الوجه، وأخرجه النسائي عن قتيبة عن حماد وليس فيها ذكر الوجه، وبمثل طريق النسائي أخرجها البخاري بسنده ومتنه سواء (1266) وأخرجها أحمد (3076) عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب وليس فيها ذكر الوجه، وكذلك أخرجها أحمد (2591) عن محمد بن جعفر عن سعيد بن أبي عروبه عن أيوب وليس فيها ذكر الوجه. 5 - رواية الحكم بن عتية: أخرجه البخاري (1839) عن قتيبة عن جرير عن منصور عن الحكم ورواها النسائي (2856) أخبرنا محمد بن قدامة عن جرير به وليس فيها ذكر الوجه، وكذا رواها أبو داود (3241) عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير دون ذكر الوجه.

ورواها أحمد عن حسين عن شيبان عن منصور عن الحكم وليس فيها ذكر الوجه، ثم أردفه أحمد برواية أسود حدثنا إسرائيل بإسناده إلا أنه قال: «ولا تغطوا وجهه» ورواه مسلم في الصحيح (2901) عن عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن منصور عن سعيد وفيها ذكر الوجه، فأسقط إسرائيل الحكم وقد خالفه عمرو بن أبي قيس عند أبي عوانة برقم (2/ 273) وعبيدة بن حميد عن الدارقطني (2/ 295) فهؤلاء أربعة: جرير، وشيبان، وعمرو بن أبي قيس، وعبيدة بن حميد كلهم يذكرون الحكم ولا يذكرون الوجه، إلا في رواية عبيدة قال البيهقي (3/ 393): هذا هو الصحيح منصور عن الحكم عن سعيد وفي متنه ولا تغطوا رأسه ورواية الجماعة في الرأس وحده وذكر الوجه غريب اهـ. وتعقبه ابن التركماني في الجوهر النقي بقوله: (قد صح النهي عن تغطيتهما فجمعها بعضهم وأفرد بعضهم الرأس وبعضهم الوجه والكل صحيح ولا وهم في شيء منه وهذا أولى من تغليط مسلم). 6 - عبد الكريم الجزري: أخرجها أحمد (3077) حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري وليس فيها ذكر الوجه، وكذا رواية عبيد الله بن عمرو عن الجزري عند الطبراني (12/ 80) وليس فيها ذكر الوجه. وروى الطبراني (12/ 80) من طريق قيس بن الربيع عنه وبها ذكر الوجه وقيس ضعيف وقد خولف. 7 - طريق أبي بشر واختلف عليه في ذكر الوجه فيرويه عن أبي بشر:

أ - شعبة: أخرجه مسلم (2899) عن محمد بن بشار وأبو بكر بن نافع كلاهما عن محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي بشر بذكر الوجه، وعن محمد بن جعفر أخرجه أحمد (2600) بذكر الوجه، وأخرجه النسائي (2854) (5/ 696) عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد الحذاء عن شعبة بذكر الوجه، وأخرجه ابن ماجة (3084) حدثنا علي بن محمد عن وكيع عن شعبة بذكر الوجه، ورواه ابن حبان (3960) من طريق أبي أسامة عن شعبة بذكر الوجه. فهؤلاء أربعة يروونه عنه شعبة بذكر الوجه: محمد بن جعفر - وهو من أثبت الناس فيه - ووكيع، وخالد الحذاء، وأبو أسامة. ب - هشيم: أخرجه النسائي (2853) والبخاري (1851) كلاهما عن يعقوب بن إبراهيم عن هشيم به دون ذكر الوجه، وأخرجه مسلم (2897) عن محمد بن الصباح ويحيى بن يحيى كلاهما عن هشيم به دون ذكر الوجه، وأخرجه أحمد (1850) عن هشيم به دون ذكر الوجه. جـ - خلف بن خليفة: أخرجه النسائي (2857) حدثنا محمد بن معاوية عن خلف بن خليفة عن أبي بشر وفيه ذكر الوجه. د - أبو عوانه: أخرجه مسلم (2898) حدثنا أبو كامل الجحدري عن أبي عوانة به دون ذكر الوجه، وأخرجه (3031) عن عفان حدثنا أبو عوانة به دون ذكر الوجه، وأخرجه البخاري (1267) حدثنا أبو النعمان أخبرنا أبو عوانة به دون ذكر الوجه.

8 - قتادة بن دعامة: أخرجه أحمد (2591) عن محمد بن جعفر عن سعيد عن قتادة وأيوب عن سعيد بن جبير به دون ذكر الوجه، وقتادة لم يسمع من سعيد في قول يحي بن معين وأحمد لكنه هنا مقرون فرجع الحديث إلى أيوب. 9 - عطاء بن السائب: أخرجه الطبراني (12/ 79) من طريقه عنه عن سعيد ليس فيها ذكر الوجه. 10 - فضيل بن عمرو: أخرجها الطبراني (12/ 73) من طريق شريك عن سعيد بن صالح عنه دون ذكر الوجه وفيه شريك. 11 - مطر الوراق: أخرجها الطبراني (12/ 81) من طريق فضيل بن عياض عن هشام بن حسان عنه وفيها ذكر الوجه، وكذا أخرجها أبو عوانة (2/ 272) ومطر ضعيف. 12 - سالم الأفطس: أخرجها الطبراني (11/ 436) عن سعيد دون ذكر الوجه وبها قيس بن الربيع وفيه كلام. خلاصة ما مضى: أولاً: طريق أبي الزبير عن سعيد وقد وقع فيها الشك أخرجها مسلم وتقدم كلام البيهقي، وقد اضطرب حفظ أبي الزبير لها فحفظ الوجه وشك في الرأس مع أن الرأس لا خلاف في ذكره، فهذا مما يدل على أنه لم يحفظ كما ينبغي.

ثانيًا: طريق عمرو بن دينار عن سعيد. (أ) من طريق الثوري ذكرها وكيع عنه واختلف عليه، فذكرها الطنافسي وأبو كريب، ولا يذكرها عن الثوري عبد الله بن الوليد، ولا محمد بن كثير ويذكرها أبو داود الحفري فكونها محفوظة في طريق الثوري محل نظر. (ب) ورواها عن عمرو من تقدم ذكرهم وأما سائر أصحاب عمرو من كبار الحفاظ كابن عيينة وحماد وابن جريح ويونس وعمرو بن الحارث وقيس بن سعد لا يذكرونها أصلًا، فهي منكرة من طريق عمرو. ثالثًا: طريق الحكم عن سعيد جاءت الزيادة عنه من طريق إسرائيل عن منصور عنه وخالف إسرائيل شيبان فلم يذكرها، وكذا لا يذكرها جرير ولا عمرو بن أبي قيس فالزيادة في طريق الحكم غير محفوظة، وكلام ابن التركماني المتقدم ليس بشيء ولا يجئ على طريقة الأوائل في مثل هذا الموضع. رابعًا: طريق منصور بن المعتمر عن سعيد وجاءت الزيادة عند مسلم من طريق عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن منصور، وهذه الرواية وقع وهم فيها في السند والمتن فرجعت إلى طريق الحكم دون ذكر الوجه كما تقدم. خامسًا: طريق أبي بشر عن سعيد: (أ) الزيادة من هذا الطريق رواها عن شعبة: وكيع، ومحمد بن جعفر، وخالد الحذاء، وأبو أسامة.

(ب) طريق خلف بن خليفة جاءت من طريق واحد عند النسائي أخرجها عن محمد بن معاوية عن خليفة، وأما سائر أصحاب أبي بشر كهشيم وأبي عوانة فلا يذكرونها، وكونها محفوظة عن أبي بشر إنما هذا من ناحية التحمل عنه، لكن من جهة حفظه إياها فمحل نظر، فسائر الرواة عن سعيد كأيوب وإبراهيم بن أبي حرة وعبد الكريم الجزري فلا يذكرونها أصلًا، إذًا شعبة برئ من العهدة والحمل في ذلك على أبي بشر في ذكرها، ومما يدل على ذلك أن هشيمًا وأبا عوانه لا يذكرون الزيادة وهما من هما، قال علي بن حجر: هشيم في أبي بشر مثل ابن عيينه في الزهري سبق الناس هشيم في أبي بشر، وقال ابن المبارك: من غير الدهر حفظه فلم يغير حفظ هشيم، وقال ابن مهدي: حفظ هشيم أثبت من حفظ أبي عوانه وكتاب أبي عوانه أثبت من حفظ هشيم. اهـ. تهذيب الكمال (30/ 282) قلت: قد اجتمعا. والحقيقة أن القول بأنها محفوظة في الحديث قول فيه بُعد، مع أن مسلمًا - رحمه الله - أخرج الحديث عن أصحاب عمرو كـ: سفيان بن عيينة، وحماد، وابن جريج، ثم جعل طريق الثوري عن عمرو آخر ما ذكر، ثم أخرج مسلم الحديث عن أصحاب أبي بشر فبدأ برواية هشيم ثم أبي عوانة ثم جعل طريق شعبة عن أبي بشر آخر ما ذكر. ثم أخرج في آخر الباب حديث أبي الزبير عن سعيد، وحديث منصور عن سعيد، والمتتبع لطريقة مسلم في كتابه الصحيح يجده يقدم الأصح أولًا في الأغلب ثم يردفه بما دونه كما في مقدمته لصحيحه، فمسلم مع إخراجه له قد صنع به ما ترى، وقد بوب النسائي للحديث باب (النهي عن أن يخمر وجه المحرم ورأسه إذا مات). وقال ابن حزم: إنه خبر ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمره في الذي مات محرمًا ألا يخمر رأسه ولا وجهه رويناه من طرق حجة منها من طريق مسلم: حدثنا أبو كريب فذكره. اهـ. وحكى ابن المنذر الخلاف ولم يرجح (5/ 345).

وقال البيهقي (5/ 53): باب لا يغطي المحرم رأسه وله أن يغطي وجهه، وذكر بعض الطرق عن سعيد عن ابن عباس والاختلاف في الزيادة .. وقد مررنا على ذلك بتمامه، ثم أسند عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنه قال: رأيت عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بالعرج وهو محرم في يوم صائف قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان ... وكذا أخرجه ابن حزم (7/ 91) قلت: أثر عثمان أخرجه مالك (1/ 327). وأسند البيهقي أيضًا من طريق ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومروان بن الحكم كانوا يخمرون وجوههم وهم حرم. وأسند أيضًا عن يعلي بن عبيد عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر قال: يغتسل المحرم ويغسل ثيابه ويغطي أنفه من الغبار ويغطي وجهه وهو نائم. اهـ. ثم قال البيهقي: خالفهم ابن عمر، وأسند من طريق مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم. اهـ. وأثر جابر أخرجه ابن حزم أيضًا، وأخرج كذلك من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن الفرافصة بن عمير قال: كان عثمان وزيد بن ثابت وابن الزبير يخمرون وجوههم وهم محرمون. وأسند ابن حزم من طريق عبد الرزاق عن الثوري عن أبي الزبير عن جابر وابن الزبير: أنهما كانا يخمران وجوههما وهما محرمان. ومن طريق حماد عن عيسى بن سعد عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: المحرم يغطي ما دون الحاجب. ثم قال ابن حزم: وعن عبد الرحمن بن عوف أيضًا إباحة تغطية المحرم وجهه، وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد وعلقمة وإبراهيم النخعي والقاسم بن محمد كلهم

أفتى المحرم بتغطية وجهه، وبيَّن بعضهم من الشمس والغبار والذباب وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأبي سليمان وأصحابهم. وروي عن ابن عمر لا يغطي المحرم وجهه، وقال بن مالك: ولم ير على المحرم إن غطى وجهه شيئًا لا فدية ولا صدقة ولا غير ذلك، إلا أنه كرهه فقط بل قد روي عنه ما يدل على جواز ذلك. اهـ. وقال أبو الطيب في تعليقه على الدارقطني (2/ 296): وقال الحاكم في كتاب علوم الحديث وذكر الوجه في الحديث تصحيف لرواية الجماعة الثقات من أصحاب عمرو بن دينار على روايته ولا تغطوا رأسه. اهـ. والمرجع في ذلك إلى مسلم لا إلى الحاكم فإن الحاكم كثير الأوهام، وأيضًا فالتصحيف إنما يكون في الحروف المتشابهة وأي مشابهة بين الوجه والرأس في الحروف. إلى آخر كلام أبي الطيب. وقال ابن عبد البر في الاستذكار (11/ 45): اختلف العلماء في تخمير المحرم وجهه بعد إجماعهم أنه لا يخمر رأسه، فكان ابن عمر فيما رواه مالك وغيره عنه يقول: ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم، ولذلك ذهب مالك وأصحابه، وبه قال محمد بن الحسن من غير خلاف عن أصحابه. قال ابن القاسم: كره مالك للمحرم أن يغطي ذقنه أو شيئًا مما فوق ذقنه؛ لأن إحرامه في وجهه ورأسه، قيل لابن القاسم: فإن فعل أترى عليه فدية؟ قال: لم أسمع من مالك فيه شيئًا ولا أرى عليه شيئًا لما جاء عن عثمان في ذلك، وقد روي عن مالك: من غطى وجهه وهو محرم أن يفتدي، وفي موضع آخر من كتاب ابن القاسم: أرأيت محرمًا غطى وجهه ورأسه في قول مالك. قال: قال مالك: إن نزعه مكانه فلا شيء عليه، وإن تركه فلم ينزعه مكانه حتى انتفع بذلك افتدى. قلت: وكذلك المرأة إذا

غطت وجهها؟ قال: نعم. إلا أن مالكًا كان يوسع للمرأة أن تسدل رداءها فوق رأسها على وجهها إذا أرادت سترًا، وإن كانت لا تريد سترًا فلا تسدل، قال أبو عمر: روي عن عثمان، وابن عباس، وعبد الرحمن بن عوف، وابن الزبير، وزيد بن ثابت، وسعد بن أبي وقاص، وجابر بن عبد الله: أنهم أجازوا للمحرم أن يغطي وجهه فهم مخالفون لابن عمر في ذلك، وعن القاسم بن محمد، وطاووس، وعكرمة: أنهم أجازوا للمحرم أن يغطي وجهه، وقال عطاء: يخمر المحرم وجهه إلى حاجبيه، وبه قال الثوري، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وذكر عبد الرزاق عن ابن عيينه عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: كان عثمان وزيد بن ثابت يخمران وجوههما وهما محرمان، وكل من سمينا في هذا الباب من الصحابة ففي كتاب عبد الرزاق. اهـ. قلت: الآثار عن الصحابة وغيرهم انظرها في المصنف (3/ 273) لابن أبي شيبة. وقال أبو محمد في المغني (5/ 153) وفي تغطية المحرم وجهه روايتان: إحداهما: يباح ذلك، روي ذلك عن عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، وابن الزبير، وسعد بن أبي وقاص، وجابر، والقاسم، وطاوس، والثوري، والشافعي. الثانية: لا يباح، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك لما روي عن ابن عباس أن رجلًا وقع عن راحلته فوقصته فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة يلبي»؛ ولأنه محرم على المرأة فَحُرِّم على الرجل كالطيب، ولنا ما ذكرنا من قول الصحابة ولم نعرف لهم مخالفًا في عصرهم فيكون إجماعًا، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها» وحديث ابن عباس المشهور فيه: «ولا تخمروا رأسه» هذا المتفق عليه وقوله: «ولا تخمروا وجهه» فقال شعبة: حدثنيه أبو بشر ثم سألته عنه بعد عشر سنين فجاء بالحديث كما حدث إلا أنه قال: «ولا تخمروا وجهه ورأسه» وهذا يدل على أنه ضَعَّف هذه الزيادة، وقد روي في بعض ألفاظه: «خمروا

وجهه ولا تخمروا رأسه» (¬1) فتتعارض الروايتان وما ذكره يبطل بلبس القفازين. اهـ. وقال في الفروع (3/ 271): ويجوز تغطية الوجه في رواية اختارها الأكثر وفاقًا للشافعي وفعله عثمان ورواه أبو بكر النجاد عنه، وعن زيد وابن الزبير وأنه قاله ابن عباس وسعد بن أبي وقاص وجابر وعن ابن عمر روايتان، روى النهي عن مالك؛ ولأنه لم تتعلق سنة التقصير من الرجل فلم تتعلق به حرمة التخمير كسائر بدنه وعنه لا يجوز. اهـ. قلت: الروايتان عن ابن عمر أخرجهما مالك عن نافع عن ابن عمر كان يقول: ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم، والرواية الثانية من الطريق نفسها أن عبد الله بن عمر كفن ابنه واقد بن عبد الله ومات بالجحفة محرمًا وخمر رأسه ووجهه وقال: لولا أنا حرم لطيبناه. قال مالك: وإنما يعمل الرجل ما دام حيًّا فإذا مات فقد انقضى العمل. اهـ. قلت: قول مالك هذا يرده الحديث الثابت في الباب وتعليل النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا». ولهذا قال ابن القيم في الهدى (2/ 245) على فوائد القصة وأحكامها الحكم الثاني عشر: بقاء الإحرام بعد الموت وأنه لا ينقطع به وهذا مذهب عثمان وعلي وابن عباس وغيرهم - رضي الله عنهم - وبه قال أحمد والشافعي وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي فينقطع الإحرام بالموت، وصنع به كما يصنع بالحلال لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات أحدكم انقطع ¬

(¬1) أخرجه الشافعي في مسنده (1/ 381) عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال ابن عيينة وزاد إبراهيم بن أبي حرة عن سعيد عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره. ومن طريقه أخرجه الشافعي في السنن (3/ 393) وهو حديث منكر بهذا اللفظ وابن عيينة لم يسق إسناده وتقدم لفظ إبراهيم بن أبي حرة أول البحث وليس فيه ذكر الوجه أصلًا.

عمله إلا من ثلاث» قالوا: «ولا دليل في حديث الذي وقصته راحلته؛ لأنه خاص به» كما قالوا في صلاته على النجاشي إنها مختصة به. وقال الجمهور: دعوى التخصيص على خلاف الأصل فلا تقبل وقوله في الحديث: «فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا» إشارة إلى العلة. اهـ. ثم قال ابن القيم قبل ذلك الحكم الحادي عشر: منع المحرم من تغطية وجهه وقد اختلف في هذه المسألة فذهب الشافعي وأحمد في رواية إباحته، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد (¬1) في رواية المنع منع وبإباحته قال ستة من الصحابة: عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، والزبير (¬2)، وسعد بن أبي وقاص، وجابر - رضي الله عنهم -. وفيه قول ثالث شاذ إذ كان حيًّا فله تغطية وجهه، وإن كان ميتًا لم يجز تغطية وجهه، قاله ابن حزم: وهو اللائق بظاهريته، واحتج المبيحون بأقوال هؤلاء الصحابة وبأصل الإباحة وبمفهوم قوله: «ولا تخمروا رأسه» وأجابوا عن قوله: «ولا تخمروا وجهه» بأن هذه اللفظة غير محفوظة، قال شعبة: حدثنيه أبو بشر ثم سألته عنه بعد عشر سنين فجاء بالحديث إلا أنه قال: «ولا تخمروا رأسه» قالوا: وهذا يدل على ضعفها، قال: وقد روي في هذا الحديث فخمروا وجهه ولا تخمروا رأسه. اهـ. وانظر تهذيب السنن له (4/ 352). وقال النووي - رحمه الله - في المجموع (7/ 280) (فرع) مذهبنا أنه يجوز للرجل المحرم ستر وجهه ولا فدية عليه وبه قال جمهور العلماء. ¬

(¬1) فإن قلت كيف يتفق هذا مع قولهم بانقطاع الإحرام بالموت فإن عجبت فقد عجب أهل العلم قبلك قال ابن القيم في الإعلام (2/ 198): في ذكر طرف من تخبط المقلدين في الأخذ ببعض السنة وترك بعضها قال - رحمه الله -: (واحتجوا على منع المحرم من تغطية وجهه بحديث ابن عباس في الذي وقصته ناقته وهو محرم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا» وهذا من العجب فإنهم يقولون إذا مات المحرم جاز تغطية رأسه ووجهه وقد بطل إحرامه. اهـ. (¬2) كذا والمعروف ابنه فلعلها سقطت.

وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز كرأسه واحتج لهما بحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المحرم الذي خر من بعيره: «ولا تخمروا وجهه ولا رأسه» [رواه مسلم]، وعن ابن عمر أنه كان يقول: «ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم» [رواه مالك والبيهقي وهو صحيح عنه]. واحتج أصحابنا برواية الشافعي عن سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن ابن القاسم عن أبيه: «أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومروان بن الحكم كانوا يخمرون وجوههم وهم حرم» وهذا إسناد صحيح وكذلك رواه البيهقي ولكن القاسم لم يدرك عثمان وأدرك مروان واختلفوا في مكان إدراكه زيدًا. وروى مالك والبيهقي بالإسناد الصحيح عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: «رأيت عثمان بالعرج وهو محرم في يوم صائف قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان». والجواب: عن حديث ابن عباس أنه إنما نهى عن تغطية وجهه لصيانة رأسه لا لقصد كشف وجهه، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه ولابد من تأويله؛ لأن مالكًا وأبا حنيفة يقولون: لا يمتنع من ستر رأس الميت ووجهه، والشافعي وموافقوه يقولون: يباح ستر الوجه دون الرأس فتعين تأويل الحديث. (وأما) قول ابن عمر فمعارض بفعل عثمان وموافقيه والله أعلم. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (4/ 54) وقوله: «يبعث ملبيًا» أي: على هيئته التي مات عليها واستدل بذلك على بقاء إحرامه خلافًا للمالكية والحنفية، وقد تمسكوا من هذا الحديث بلفظة اختلف في ثبوتها وهي قوله: «ولا تخمروا وجهه» فقالوا: لا يجوز للمحرم تغطية وجهه مع أنهم لا يقولون بظاهر هذا الحديث فيمن مات محرمًا، وأما الجمهور فأخذوا بظاهر الحديث وقالوا: إن في ثبوت ذكر الوجه مقالًا وتردد ابن المنذر في صحته.

قال البيهقي: ذكر الوجه غريب وهو وهم من بعض رواته، وفي كل ذلك نظر فإن الحديث ظاهره الصحة، ولفظه عند مسلم من طريق إسرائيل عن منصور وأبي الزبير كلاهما عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر الحديث قال منصور: «ولا تغطوا وجهه» وقال أبو الزبير: «ولا تكشفوا وجهه». وأخرجه النسائي من طريق عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير بلفظ: «ولا تخمروا وجهه ولا رأسه». وأخرج مسلم أيضًا من حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير بلفظ «ولا يمس طيبًا خارج رأسه» قال شعبة: ثم حدثني به بعد ذلك فقال خارج رأسه ووجهه. انتهى. وهذا الرواية تتعلق بالتطيب لا بالكشف والتغطية وشعبة أحفظ من كل من روى هذا الحديث ... انتهى من الفتح. قلت: هذا على لفظ مسلم وفيه تقديم وتأخير، وإلا فسياق النسائي وغيره يدفع كلام الحافظ من أصله وهو صريح، وقول الحافظ وشعبة أحفظ .. إن أراد أصل الحديث فلا وإن أراد طريق أبي بشر فنعم فكان ماذا وجل أصحاب سعيد لا يذكرونها؟! والذي يتحرر لي جواز التغطية للوجه من حاجة: كحَرٍّ، أو غبار أو نحو ذلك، وقد جاء هذا عن بعض الصحابة وحُكِي مذهب الجمهور بلا تقييد كما تقدم، فأما من غير حاجة فتوقيه أفضل وأحوط، وهذا نوع من الجمع بين الآثار والحديث على ما في الزيادة من كلام كما تبين لك. هذا من ناحية أما من ناحية إيجاب الفدية في تغطية الوجه فلا أرى ذلك أصلًا فلا تشغل ذمة مسلم بحديث هذا حاله (¬1). ¬

(¬1) على أن في إيجاب الفدية في غير حلق الرأي ما هو معلوم.

الحديث العشرون التطيب قبل الإحرام

الحديث العشرون التطيب قبل الإحرام وَعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: «كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالبَيْتِ» [مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ] (¬1). حديث عائشة - رضي الله عنها - فيه في قولها: (كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِإحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ) يعني أنها طيبت النبي - صلى الله عليه وسلم - بيديها لإحرامه يعني أن الطيب عند عقد الإحرام سنة؛ لأنها قالت: لإحرامه أي: لأجل إحرامه قبل أن يحرم يعني قبل أن يدخل في النسك. (وَلحِلِّهِ): أي بعد إحرامه. (قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالبَيْتِ) أي: بعد أن رمى ثم ذبح ثم حلق طيبته، ويأتي الخلاف متى يحصل التحلل الأول في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى. في الحديث سنية التطيب عند الإحرام، فهل يكون الطيب في البدن والثياب؟ قال بعض أهل العلم: نعم. والإجابة عن حديث «.. وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الوَرْسُ» الذي ذكره المؤلف سابقًا كان في الابتداء، فالمحرم ممنوع من ابتداء الثياب الملبوسة المطيبة، أما استدامة الثوب المطيب فإنه لا بأس، وعندنا قاعدة أن أحكام الاستدامة أقوى من أحكام الابتداء، فقد يجوز استدامة الشيء ولكن لا يجوز ابتداؤه. فالمحرم له أن يراجع زوجته إذا طلقها؛ لأن المراجعة من قبيل الاستدامة وليس من باب الابتداء؛ لأنها فرع عن النكاح كما قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}: فهو بعل لا يزال بعلًا في مدة العدة، وأما النكاح ابتداءً فإنه ممنوع كما سيأتي في الحديث الذي يليه. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1539)، ومسلم (1189) (33).

فما سبق قد يفهم منه القول بأن الإزار والرداء يطيبان، ولكن القول الصحيح أن الإزار والرداء لا يطيبان، وأن هذا الطيب في البدن على القول الراجح، وأن المحرم يتطيب في بدنه ورأسه ولحيته، ولكن لا يلبس ثوبًا مسه طيب، سواء كان لا بسًا له قبل الإحرام، أو بعد الإحرام على القول الراجح في المسألة. ومنهم: من أجاز أن يكون ابتدأه مطيبًا، فإذا خلعه أو أراد لبسه مرة ثانية فإنه ليس له ذلك، ولكن هذا القول ضعيف. فالخلاصة: أن الصحيح في المسألة أن الطيب يكون في البدن، وعلى هذا من طيب ثوبه أو رداءه قبل الإحرام فإنه يجب عليه أن يغسله أو يستبدله. وفيه من الفوائد: أن استدامة الطيب تبقى، وفي الحديث الآخر عنها - رضي الله عنها - قالت: «كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله مفرق الرأس» (¬1) فكان يفرق رأسه من وسطها ويضع مسكًا كثيرًا - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن المسك أطيب الطيب. وكانت تقول: (كان يسيل على إحدانا) فلا ينكره النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستدامة الطيب في البدن جائزة. فإن قال قائل: من المعلوم أن الطيب إذا كان كثيرًا في الرأس واللحية فإنه سيعلق باليدين بسبب الحك أو بسبب الوضوء وما أشبه ذلك. نقول: انتقال الطيب في البدن له ثلاثة أحوال: 1 - أن يتعمد نقله إلى بقعة أخرى من البدن لتتسع مساحة الطيب، وهذا ما يجوز وحكمه حكم المتطيب بعد الإحرام. ¬

(¬1) رواه البخاري (268، ومواضع)، ومسلم (1190).

2 - أن يسيل الطيب بنفسه؛ لأجل الحَر أو ما أشبه ذلك فيسيل من اللحية على الصدر مثلًا، فهذا لا بأس به وجاء به النص. 3 - أن ينتقل الطيب بمقتضى ما يسوغ شرعًا (كالوضوء)، فلو مسح رأسه ثم غسل رجليه فانتقل الطيب لهما، فهذا بمقتضى أمر الشارع بالوضوء، وكذلك انتقل بما يسوغ عادة كحك رأسه فيعلق بيده فلا بأس. وفيه أن التطيب عند التحلل الأول سنة قد يغفل عنها كثير من الناس، فإذا رمى وحلق فإنه يتطيب وهذا سنة، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتطيب وهي - رضي الله عنها - عبَّرت بقولها: (كُنْتُ) مع أن هذا لم يقع إلا مرة واحدة، والأصل في لفظ: (كان، يكون، كنت) أنها تدل على الشيء الأغلبي لا الشيء الدائم، ولا على الشيء الذي يقع مرة أو مرتين ما لم يقيد بقرائن وهنا مقيد بالواقع.

الحديث الحادي والعشرون مما نهى عنه المحرم

الحديث الحادي والعشرون مما نهى عنه المحرم وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يَنْكِحُ المُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ] (¬1). هذا الحديث في سياق ما يَحْرُم على المُحْرِم: فقوله: «لَا يَنْكِحُ المُحْرِمُ» يشمل الزوجان فإن النكاح يكون منهما فلا تقبل المرأة النكاح ولا يقبله الرجل، وهنا النفي «لَا يَنْكِحُ» متضمن للنهي، والشارع حينما يأتي بـ (لا) النافية فهي أبلغ كثيرًا مما يأتي بـ (لا) الناهية؛ لأن النفي يقتضي النهي. وفيه إخبار على أن (النكاح) للمحرم لا يكون شرعًا؛ لأن الشرع نهى عنه، وإذا نهى عنه الشرع ونفاه فإنه يطلب إعدامه. ومن هنا ذهب بعض أهل العلم أن نكاح المحرم باطل، وأن الإنسان إذا عقد على امرأة وهما محرمان أو أحدهما فإن النكاح باطل، وعلى هذا فتوى كبار الصحابة. وقوله: «وَلَا يُنْكِحُ» هذا يتناول الولي فهو خطاب للولي بأن لا يزوج موليته، فالمرأة لا تَقْبَل ولا الزوج يَنْكح ولا الولي يَعْقِد للمرأة. وقوله: «وَلَا يَخْطُبُ» فيه النهي عن النكاح ووسائله. وينهي عن الجماع من باب أولى هذا بالإجماع في هذه المسألة، فالجماع ووسائله وذرائعه كلها محرمة؛ لأن الجماع أعظم مفسدات الحج، بل أعظم ما نُهي عنه في الحج، ولا يفسد النسك حجًّا أو عمرة شيء من المناهي إلا الجماع، ولهذا أكد النهي عنه بالنهي عن وسائله وذرائعه. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1409).

وقد تكون ذريعة وذريعة أخرى؛ فالجماع محرم والذريعة إليه النكاح والذريعة إلى النكاح الخطبة وكلاهما محرم. وفي الحديث تحريم هذه الثلاثة أشياء، وأيضًا المباشرة وهذه ثابتة بالنص في قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} الآية. والرفث هو: الجماع ودواعيه. فإذا جامع الإنسان قبل التحلل الأول ترتب عليه خمسة أمور: 1 - الإثم. 2 - وفساد النسك. 3 - ووجوب المضي فيه. 4 - ووجوب الفدية وهي بدنة. 5 - ووجوب القضاء من العام القادم. أما الإثم فهو بالنص والإجماع؛ لأن من فعل شيئًا مما سبق مرتكب للنهي. وأما الباقية فهي من فتاوى الصحابة كـ: عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وابن عمرو وأبو هريرة ... وغيرهم، ونقله شيخ الإسلام إجماع الصحابة والتابعين وعلى هذا عامة العلماء، وأما ابن حزم فقال: لا يجب المضي في النسك الفاسد، وهذا القول فاسد. وفيه أن العقد باطل، وأما الخطبة فقيل مكروهة؛ لأنها وسيلة إلى النكاح والنكاح محرم. وقال بعضهم: هي محرمة؛ لأن الحديث سيق مساقًا واحدًا، وهذا هو الصحيح أن الخطبة محرمة.

وهل هناك فدية في النكاح أو الخطبة؟ الصحيح أنه ليس هناك في النكاح ولا في الخطبة فدية. إذًا الخطبة والعقد محرمان ولا فدية فيها. فإن قال قائل: هذا الحديث عارضه ما رواه البخاري من حديث ابن عباس أن النبي تزوج ميمونة وهو محرم؟ فالجواب من وجوه: 1 - أن ميمونة - رضي الله عنها - نفسها كما في صحيح مسلم قالت (أن النبي تزوجها وهو حلال) (¬1). 2 - قول أبي رافع: (تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو حلال وكنت السفير بينهما) (¬2) أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما وفي إسناده مطر الوراق. 3 - أن زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حلال موافق للنهي هنا عن نكاح المحرم، وما توهمه بعضهم من التخصيص ليس بشيء (¬3). 4 - أن يزيد بن الأصم ابن أخت ميمونة يخبر عن خالته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال، كما أخرج مسلم (¬4) في كتاب النكاح، وليته أخرجه في كتاب الحج، وأخبر بذلك عمر بن عبد العزيز حينما سأله عن هذا وقبل عمر بن عبد العزيز قوله: كما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح، ولا شك أن الإنسان إذا كان من أهل البيت فهو أعلم بحال قريباته. ¬

(¬1) رواه مسلم (1411). (¬2) رواه الترمذي (841)، وأحمد (6/ 392 رقم 27241) وابن حبان (9/ 438، 442)، والدارقطني (3/ 262)، والطبراني في الكبير (1/ 310)، والبيهقي (7/ 211)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 264). (¬3) انظر سنن البيهقي (7/ 58). (¬4) سبق.

5 - وجاء عن سعيد بن المسيب أنه قال: (وهم ابن عباس) (¬1) رواه أحمد في المسند وغيره وفي سنده بعض مقال. والخلاصة: أن أهل العلم أجمعوا على أن ابن عباس وَهِمَ في هذا الحديث. وعند الأصحاب أنه إذا حل التحلل الأول وبقي التحلل الثاني فإنه أيضًا لا يجوز النكاح بعد هذا التحلل، وذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - وجماعة من أهل العلم إلى أنه إذا حل التحلل الأول فإنه له أن يتزوج وهو الصحيح؛ لأنه إنما نهى عن النكاح وهو محرم، فإذا حل التحلل الأول لم يبق عليه إلا تحريم جماع النساء. والأصحاب احتجوا بحديث «حل له كل شيء قال: إلا النساء» (¬2) وقالوا: النساء يشمل الجماع والعقد، وبعضهم قال حتى المباشرة، والصحيح أن العقد جائز ولكن هل يباشر أو لا؟ يُقَبِّل أو لا؟ محل خلاف بين أهل العلم وسيأتي تحقيق القول في ذلك. سؤال عن الجماع قبل الوقوف بعرفة وبعد الوقوف بعرفة؟ أما المشهور عن الحنفية أنه إذا جامع بعد الوقوف فإن الحج صحيح، وقالوا بأنه أمِن الفوات فأمِن الفساد فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الحج عرفة» (¬3) فإذا جامع بعد الوقوف بعرفة فإن حجه صحيح، والجمهور على أن من جامع قبل التحلل الأول فإن حجه فاسد، وإن جامع بعد التحلل الأول فإن حجه صحيح، ولكن إحرامه فاسد، فعليه أن يجدد الإحرام بأن يذهب إلى الحل ويحرم من جديد حتى يطوف ويسعى بإحرام صحيح، والجمهور أجابوا عن حديث «الحج عرفة» فقالوا: كون الحج عرفة لا يمنع أن الإحرام بعد ¬

(¬1) رواه أبو داود (1845). (¬2) رواه النسائي (3084)، والدارقطني (2/ 276)، وأبو بعلى (1/ 441) وابن أبي شيبة (3/ 238، 239)، والنسائي في الكبرى (2/ 441، 460)، والهيثمي في المجمع (3/ 567). (¬3) رواه أبو داود (1949)، والترمذي (889)، والنسائي (3016، 3044)، وابن ماجه (3015)، وأحمد (4/ 309)، وانظر إرواء الغليل (4/ 256 حديث رقم 1064).

عرفة إحرام كامل لم يدخله النقص حتى يتحلل، وكونه أمن الفوات لا يعني أنه أمن الفساد، فإن حاله بعد عرفة مثل حاله قبلها، ولا يخف الإحرام إلا بالرمي أو الحلق أو الطواف والسعي، إذا فعلها كلها جاز له كل شيء، وقول الجمهور أصح، وأنه إن جامع بعد الوقوف بعرفة فإن حجه فاسد حتى يحل الإحرام بما يحل به التحلل الأول وسيأتي إن شاء الله.

الحديث الثاني والعشرون، والثالث والعشرون مما نهي عنه الحاج

الحديث الثاني والعشرون، والثالث والعشرون مما نهي عنه الحاج وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - فِي قِصَّةِ صَيْدِهِ الحِمَارَ الوَحْشِيَّ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ - قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ لِأَصْحَابِهِ - وَكَانُوا مُحْرِمِينَ -: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهِ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). وَعَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرْمٌ». [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬2). هذان الحديثان يتعلقان بالصيد وهو منهي عنه للمحرم أي: (صيد البر) لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ...} الآية [المائدة: 96] فإذا أحرم الإنسان حَرُم عليه الصيد. وفي حديث أبي قتادة وكان هذا في سنة صلح الحديبية، وقد أحرم الصحابة وهو لم يحرم فرأى حمارًا وحشيًا فأراد صيده، فركب خيله وطلب من أصحابه أن يعطوه سوطه، وقد سقط منه أو نسي أن يأخذه فلم يعطوه، ثم ذهب واصطاده ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ؟» قالوا: لا. قال: «فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهِ». وهنا أمور ينبغي النظر إليها: الأول: أنه لم يصده أحد من المُحْرِمِين بل صاده أبو قتادة وهو حلال. الثاني: أن المحرمين لم يشيروا بشيء. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1824)، ومسلم (1196) (60). (¬2) أخرجه البخاري (1825)، ومسلم (1193).

الثالث: أنه لم يصده لهم كما هو ظاهر، ودل على ذلك حديث الصعب بن جثامة، وهذا هو الجمع بين الحديثين ففي حديث الصعب بن جثامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقبله منه؛ لأن صاده له - صلى الله عليه وسلم -. فالخلاصة: أن المحرم إذا صاد صيدًا فإن الصيد ميتة فإنه لا يحل له، وإذا أعان على صيده فإنه لا يحل له، وإذا صيد له فإنه لا يحل له. وما سوى ذلك فحلال كما لو صاده حلال وأهداه لمحرم ولم يكن صاده لأجله فإنه حلال. وفي هذا الباب الحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو عن مطلب عبد الله بن حنطب عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم» (¬1) ولكن الحديث مع أن في متنه الفيصل لكن في سنده (المطلب عبد الله بن حنطب لم يسمع من جابر) ولكن العلماء أخذوا بمعناه رغم ضعفه. والحمار الوحشي معروف وسمعت شيخنا ابن باز - رحمه الله - يقول: هو ما يسمى بالوضيحي (نوع من الغزلان) ونوقش في ذلك. والصحيح: أنه هو مثل الحمار الإنسي ولكنه متوحش يفر من الآدميين، ومخطط البدن بالسواد، ونص على ذلك الزركشي بن بهادر الشافعي في كتابه «المنثور في القواعد» (جـ2، ص223)، وقال: (إن هذا هو المؤثر في الحكم مع الاستيحاش). فبعض أهل العلم نحى منحى الجمع بين حديث أبي قتادة وحديث الصعب ابن جثامة على قولين: ¬

(¬1) رواه أبو داود (1851)، والترمذي (846)، والنسائي (2827)، وابن جبان (3971)، والمستدرك (1/ 621، 649)، والدارقطني (2/ 290)، والبيهقي (5/ 190)، وانظر كلام الزيلعي في نصب الراية (3/ 140)، والحافظ في التلخيص (2/ 276).

القول الأول: أن حديث الصعب بن جثامة متأخر، فحديث أبي قتادة في صلح الحديبية في العام السادس من الهجرة، وحديث الصعب في العام العاشر فهو ناسخ، وفيه أن الصيد يحرم إذا أهدي للمحرم. والقول الثاني: أن الجمع ممكن ولا يُصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع. والمراتب: الجمع ثم النسخ ثم الترجيح. والجمع ممكن وهو أنه في حديث أبي قتادة لم يُعِنْهُ أحد ولم يصده لأجلهم، وأما في حديث الصعب فإنه صاده لأجل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومما يستفاد من الحديث: 1 - أن الإنسان إذا أهديت له هدية ولا تحل له يردها ويعتذر ويبين سبب عدم القبول كما بين النبي للصعب وقد كان كريمًا مضيافًا فدفع للنبي - صلى الله عليه وسلم - الحمار الوحشي ولكن النبي اعتذر له وقال: «إنا محرمون». 2 - أن الإنسان المحرم يحل له ما صاده غير المحرم لنفسه إذا لم يُصَدْ له ولم يعن أحدًا في صيده. 3 - ويستفاد من حديث أبي قتادة في صيد الحمار الوحشي جواز أن يستوهب من صاحبه شيئًا، وبوب البخاري في كتاب الهبة: باب من استوهب من صاحبه شيئًا .... فهذا جائز إذا علم طيب نفوسهم كأن يقول الشخص ناولني كذا وكذا فلا بأس. ومبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئًا، وأن أحدهم يسقط سوطه فينزل فيأخذه (¬1) هذا مبالغة في الاستغناء، وإلا فهو جائز. ¬

(¬1) رواه مسلم (1043) من حديث عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه -.

وقد ذكر البخاري في الترجمة المذكورة حديث سهل بن سعد في طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المرأة أن تعمل له أعواد المنبر (¬1). وكتاب البخاري كتاب عظيم أعظم كتب السنة فقهًا وحديثًا ولن تجد في كتب السنة مثل كتاب البخاري، ونصيحتي لطلبة العلم أن يحفظوه إن استطاعوا؛ لأن البخاري فقيه محدث، فإن أبوا فليكثروا من النظر فيه ومدارسته. مسألة: ولو أن المحرم رأى صيدًا فضحك وأخذ ينظر، فنظر إليه الحلال فإذا هو يضحك وينظر، فنظر إلى جهة نظره فإذا هو إلى الصيد فصاده هل يحرم أو لا؟ الجواب؟ لا يحرم وهذه قصة أبي قتادة ولهذا بوب البخاري «باب إذا رأى المحرمون صيدًا فضحكوا ففطن الحلال». وهذا الضحك لا يعتبر إعانة. سؤال: هل جميع أنواع الإشارة تعتبر إعانة ممنوعة؟ جواب: كل ما يمكن أن يسمى إشارة أو إعانة وما أشبه ذلك ممنوع. ¬

(¬1) رواه البخاري (2430).

الحديث الرابع والعشرون ما أبيح قتله من الدواب

الحديث الرابع والعشرون ما أبيح قتله من الدواب وَعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، كُلُّهُنَّ فَواسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الحِلّ وَالحَرَمِ: العَقْرَبُ، وَالحِدَأَةُ، وَالغُرَابُ، وَالفَأْرَةُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). هذه الدواب يقتلن في الحل والحرم؛ لأذيتهن. فقوله: «خَمْسٌ» هذا مفهوم عدد ليس فيه الحصر، وقد جاء في بعض طرق البخاري: «والحية» (¬2) وعند أبي داود: «السبع العادي» (¬3). وقوله: «كُلُّهُنَّ فَوَاسِقُ» الفاسق: هو الخارج عن حد الاعتدال، والفسوق: الخروج، وفي هذا قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]. أي: خرج عن طاعة ربه وما أراداه منه. و «العَقْرَبُ»: هي الدابة المعروفة ذات السم وهذه تُقْتَل حتى في الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الأسودين كما في حديث يحيى بن أبي كثير عن ضمضم بن جوس عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو حديث صحيح. «وَالحِدَأَةُ»: طائر معروف ينتشل اللحم ويسرقه، وفي قصة عائشة - رضي الله عنها - في قصة المرأة التي كانت لها حفش (¬4) في المسجد وكانت تتمثل بأبيات كثيرة منها هذا البيت: ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1829)، ومسلم (1198). (¬2) رواه مسلم (1198). (¬3) رواه أبو داود (1848)، وابن ماجه (3089)، وأحمد (3/ 3). وقال الحافظ في التلخيص: في إسناده يزيد بن أبي ضعيف وإن حسنه الترمذي وفيه لفظة منكرة وهي قوله: «ويرمي الغراب ولا يقتله» ا. هـ. (¬4) الخشف: هو البيت الصغير قليل الارتفاع.

ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ... إلا أنه من بلدة الكفر أنجاني وكانت عائشة ما جلست معها إلا تسمع هذا البيت فقالت: ما قصته؟ قالت: إني كنت عند أناس وفقدوا وشاحًا أحمر كان على إحدى جواريهم أتته الحدأة فأخذته تظنه لحمًا، قالت: ففتشوني حتى فتشوا قُبُلَهَا قالت: فبينما هم كذلك أتت الحدأة فرمت بالوشاح (¬1). وبوب عليه البخاري (باب نوم المرأة في المسجد). «وَالغُرَابُ»: هو طائر خبيث أسود في ظهره وبطنه بياض يؤذي المزارعين. «وَالفَأْرَةُ»: هي الدابة التي تخرق وتشق الأقمشة، وتسرق الذهب كما قال بعضهم، وتفسد الأطعمة، وتقذر بفضلاتها. «وَالكَلْبُ العَقُورُ»: قد يقال أنه اسم جنس فيشمل الأسد والنمر، اعتمادًا على ما روي أن النبي دعى على بعض ولد أبي لهب: اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك فقتله الأسد (¬2). خرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي في دلائل النبوة وهو مشهور في أخبار السيرة لكن ليس له إسناد قائم. وقيل: أنه الكلب، والصحيح أنه يشمل كل كلب عقور يفترس ويعدو ويؤذي ويعقر الدواب والناس. والدواب قال أهل العلم فيها إنها ثلاثة أقسام من حيث القتل وعدم القتل: ¬

(¬1) رواه البخاري (428، 3623). (¬2) رواه الحاكم في المستدرك (2/ 588)، وصححه ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي (5/ 211)، والهيثمي في الزوائد (2/ 562)، والمتقي الهندي في كنز العمال (12/ 688)، وقال: أورده السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 366) وقال: أخرجه ابن إسحاق وأبو نعيم من طرق أخرى مرسلة. ا. هـ، وابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 138). وقال العلامة الألباني في تخريج الظلال (1/ 734): حسن لشواهده، ونقل تحسين الحافظ في الفتح (4/ 48).

1 - قسم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله كهذه الخمس، والوزغ كذلك وسماه فويسقًا كما في حديث أم شريك الذي رواه البخاري وفيه قال: كان ينفخ النار على إبراهيم (¬1)، وقاس عليها العلماء كل مؤذي من الدواب. 2 - قسم ينهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتله مثل: «النملة، والنحلة، والهدهد، والصُرد» (¬2). 3 - قسم مسكوت عنه. فقال بعضهم: يباح قتلها؛ لأن سكوت الشارع عفو. وقال بعضهم: لا تقتل؛ لأن الله خلقها لحكمة، وبخاصة إن كان الأصل أنها غير مؤذية، فالأولى تركها ما لم يكن حصل منها ضرر وأذية، ولهذا جاء النهي عن قتل الهدهد والنملة والنحلة. وقد لا يكون في بعضها فائدة كالصرد: وهو طائر أكبر من العصفور قليلًا، والنملة قد لا يكون فيها فائدة بل قد يصير بها شيء من الإفساد بحق الأرض، لكن الأصل في النمل أنه لا يقتل، وإن أمكن دفع أذيته بغير القتل كالكنس أو الفخ بالهواء، فلا يقتل إلا إذا لم يندفع شره إلا بالقتل قتلت. مسألة: وهل تقتل هذه الدواب الخمس ابتداءً؟ نعم. تقتل ابتداءً، وليس معنى هذا أن ينشغل الإنسان بالبحث عنها وطردها لكن إذا عرضت له قتلها، ويكون في قتلها امتثالًا لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا لما كان الصحابة - رضي الله عليهم أجمعين - بمنى ¬

(¬1) رواه البخاري (3131، 3180)، ومسلم (2237، 2238). (¬2) رواه أبو داود (5267)، وابن ماجه (2609)، وأحمد (1/ 332، 347)، قال ابن حجر في التلخيص (2/ 275): رجاله رجال الصحيح، قال البيهقي: هو أقوى ما ورد في هذا الباب، ثم رواه من حديث سهل بن سعد وزاد فيه والضفدع، وفيه عبد المهيمن بن عباس بن سهل وهو ضعيف.

خرجت عليهم حية فابتدروها يقتلوها فدخلت الجحر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كفيت شركم وكفيتم شرها» (¬1). وجاء في بعض الأحاديث تقييد الغراب بالأبقع والصحيح كل الغربان وإن صحت فيكون لشدة أذيته وجاء الأبقع في مسلم (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (1733، ومواضع)، ومسلم (2234). (¬2) رواه مسلم (1198)، وقال العلامة محمد فؤاد عبد الباقي: (الغراب الأبقع) هو الذي في ظهره وبطنه بياض.

الحديث الخامس والعشرون مما يباح للمحرم فعله

الحديث الخامس والعشرون مما يُباح للمحرم فعله وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وَهُو مُحْرِمٌ. [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). هذا الحديث اختصره المؤلف، وليته أتى بسياق يدل عل تعلق الحجامة بالرأس، ولا أدري ما السبب الذي جعل المؤلف اختصره، فلفظ البخاري «أنه احتجم في رأسه وهو محرم» (¬2)، وجاء عن ابن بحينه - رضي الله عنه - (¬3) كذلك في الصحيحين «أنه احتجم في وسط رأسه» (¬4). وهذه الزيادة مهمة جدًّا؛ لأنه لو لم تأت هذه الزيادة لما كان للإتيان به في هذا المكان معنى؛ لأنه حينما كان في الرأس والرأس ينهى عن حلقه إذا كان الإنسان محرمًا، فلما حلقه واحتجم -؛ لأن الحجامة لابد فيها من أخذ بعض الشعر - دل هذا عل فوائد منها: 1 - جواز الاحتجام للمحرم. 2 - وجواز أخذ بعض الشعر من الرأس إذا احتاج للحجامة. وهذا إذا فعله المحرم فهل يفدي أو لا؟ الصحيح أنه لا يفدي لأمرين: 1 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يفد ولم يقضي فيه بشيء. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1835)، ومسلم (1202). (¬2) رواه البخاري (5374). (¬3) هو: أبو محمد عبد الله بن مالك بن القشب (جندب الأزدى)، يعرف بابن بحينة، وهي أمه، ويذكر بأبويه. (¬4) رواه البخاري (1739، 5373)، ومسلم (1203).

2 - أنه حَلْقٌ لجزء يسير واليسير مغتفر فإنما هو بقدر المحاجم وقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} هذا في جميع الرأس.

الحديث السادس والعشرون وجوب الفدية على من اضطر لحق الرأس

الحديث السادس والعشرون وجوب الفدية على من اضطر لحق الرأس وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: حُمِلْت إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: «مَا كُنْت أُرَى الوَجَعَ بَلَغَ بِك مَا أَرَى، أَتَجِدُ شَاةً؟» قُلْت: لَا، قَالَ: «فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أُطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ» [مُتَّفْقٌ عَلَيْهِ] (¬1). كعب بن عجرة أحد الصحابة كان أصابه قمل كثير في رأسه، فحمل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر عل وجهه فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما كُنْت أُرَى» أي: أظن فـ (أُرى) بالضم يعني أظن، أما (أَرى) بالفتح فهو البصر العيني. وقوله: «أَتَجِدُ شَاةً؟» هذا يوهم الترتيب، لكنه في كتاب الله تعالى على التخيير في قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}. فلعله إنما قال شاة عل سبيل التخيير أو الأفضلية لا على سبيل الترتيب بسبب صريح القرآن، وكما هو صريح في بعض سياقات حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - «أنسك شاة أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيامًا» (¬2). وفيه الفدية عل الإنسان إذا حلق شعره من أجل وجود قمل أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا الشعر يتعلق به النسك فكان فيه الفدية وهى على التخيير. وأهل العلم يسمونها: (فدية أذى) وتكون: - إما يذبح شاة تجزئ في الأضاحي سليمة من العيوب الممنوعة شرعًا، وبلغت السن المجزية، وهكذا كل دم واجب أو مستحب كالهدي والأضاحي والعقيقة. - أو يطعم ستة مساكين لكل واحد نصف صاع. - أو يصوم ثلاثة أيام. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1816)، ومسلم (1201). (¬2) رواه البخاري (1722، 3927).

قال أهل العلم: الذبح والإطعام بمكة، والصيام حيث شاء. وقعد أهل العلم قاعدة هي: «إن الإنسان إذا أتلف شيئًا لدفع أذاه له فإنه لا يضمن، وإذا أتلفه لدفع أذاه به فإنه يضمن». وهنا أتلف الشعر لدفع أذاه به، فإن الأذى متعلق بالقمل لا الشعر، ولا يمكن إذهاب القمل إلا بحلق الشعر، فأُتْلِف الشعر لدفع أذى القمل له. ومثل ذلك لو أن إنسانًا صال عليه جمل أو شاة ولم يكن يستطيع دفع أذاها إلا بالقتل فإنه لا يضمن؛ لأنه أتلفها لدفع أذاها له فهي مؤذية له لم يندفع شرها إلا بالقتل. ولكن لو أنه جاع جوعًا شديدًا وأراد دفع أذى الجوع عنه بذبح هذا الجمل أو الشاة فإنه يضمن؛ لأنه دفع أذى الذي لحقه بإتلاف هذا الجمل أو الشاة وهي للغير فإنه يكون ضامنًا. وعليه كما قال أهل العلم: لو أن إنسانًا انكسر ظفره وآلمه، أو سقطت شعرة في عينه وكانت الشعرة هي المؤذية فقطعها وقطع الأظفر فلا فدية، لكن لو أصابه القمل فلا يمكن إتلاف هذا القمل إلا بحلق الشعر فالشعر لم يحصل منه أذى فعندها يضمن والضمان هنا الفدية كما تقدم. وقد قسم أهل العلم فعل المحظور إلى ثلاثة أقسام: 1 - أن يفعله عالمًا ذاكرًا مختارًا غير معذورًا، فهذا عليه الإثم وما يترتب عليه فعل ذلك المحظور. 2 - أن يفعله معذورًا بجهلٍ أو نسيان أو إكراه، فهذا لا إثم ولا فدية عليه. 3 - أن يفعله عالمًا ذاكرًا مختارًا ولكنه معذور مثل قصة كعب بن عجرة فهذا عليه فدية وليس عليه الإثم.

الحديث السابع والعشرون مما نهي عنه المحرم

الحديث السابع والعشرون مما نهي عنه المحرم وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ، قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ؛ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ؛ لِأَحَدٍ بَعْدِي، فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ» فَقَالَ العَبَّاسُ: إلَّا الإِذْخِرَ، يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا، فَقَالَ: «إِلَّا الإِذْخِرَ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). هذا الحديث يتعلق بالمناسك في مسألة «ولا يُخْتَلَى شَوْكُهَا» و «لَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا» وفتح النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكة أسبابه معروفة في السيرة، وهى نقض العهد فسلط الله رسوله على المشركين، وصار الفتح عنوة بالسيف والغلبة والقهر في العام الثامن من الهجرة. وقوله: «إنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ» أي: قصة الفيل المعروفة في كتاب الله «وسلط الله عليها رسوله والمؤمنين» في سنة الفتح ولهذا قال: «وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ؛ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ». وقوله: «سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» أي: فترة من نهار. وجاء في مسند أحمد: أن الساعة من النهار كانت من طلوع الشمس إلى صلاة العصر (¬2). ثم بعد ذلك عادت حرمتها كحرمتها يوم خلق السماوات والأرض أي: أنها محرمة ولم تحل لأحد حتى من الأنبياء غير النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (2434)، ومسلم (1355). (¬2) انظر المسند (5/ 343).

وقوله: «فلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» أي: لا يزجر ولا يطرد، كما لو رأى ظبيًا أو صيدًا في ظل، فليس له أن ينفره ويجلس مكانه في الظل. وقوله: «وَلَا يُخْتَلى» أي: لا يقطع. «خلاها» والخلا هو الكلأ (العُشْب). والمراد به ما أنبته الله لا ما تسبب الآدميون في إنباته فغرسوه. وبعض الحكمة التي ظهرت لأهل العلم من ذلك: حتى يتوفر ذلك لدواب الحجاج والعمار. فبهذا تكون الأرض كثيفة لا يجوز لأحد أن يختليها بنفسه، لكن لو أن الدواب رعت فيها من إبل وبقر وغنم وغيرها فلا بأس، ولهذا لم ينقل أن أحدًا من الحجاج والعمار يكممون أفواه الدواب عن الاحتشاش، وأكل ما أنبتته الأرض. ولكن أن يأتي الإنسان ويحتطب أو يحتش أو يكسر الشوك فهذا كله لا يجوز، بل يتوفر هذا الظلال وذلك الكلأ (العُشْب) للناس ودوابهم. مسألة: وهل في قطعه كفارة؟ الصحيح لا كفارة فيه وهو مذهب الجمهور، وذهب بعض أهل العلم أن الدوحة الكبيرة (الشجرة العظيمة) فيها بقرة، ويروى هذا عن ابن عباس وتلاميذه جاهد وعطاء وابن الزبير والأسانيد إليهم فيها مقال (¬1)، ولو صحت فإن هذا القول ضعيف، والصحيح أنه آثم وليس عليه فدية. وقوله: «وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ» أي: اللقطة لا تحل إلا لمنشد أي: لمعرف يعرفها الدهر كله ليس كسائر الأمصار؛ لأن سائر الأمصار تعرف سنة واحدة، ثم بعد التعريف تكون ملكًا للمُعَرِّف. ¬

(¬1) انظر مصنف عبد الرازق (5/ 142)، وابن أبي شيبة (3/ 253)، والبيهقي في سننه (5/ 196).

قال: «وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ» أي: إما أن يَقْتُل القاتل أو أن يقبل الدية. فقال العباس: «إلَّا الإِذْخِرَ» أي: رخص لنا يا رسول الله فيه، وهذا معطوف عل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا» وفي رواية: (خلاها) فسمح فيه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه يكون في البيوت يخلطونه بالطين فيقوى الطين، ويضعونه عل قبورهم يغلقون به قبورهم. ويستفاد من الحديث تحريم القتال في مكة، لكن إذا قُتل الإنسان فله أن يقاتل كما قال تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...} الآية [البقرة: 191].

الحديث الثامن والعشرون مكة والمدينة حرام

الحديث الثامن والعشرون مكة والمدينة حرام وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيم حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لِأَهْلِهَا، وَإِنِّي حَرَّمْت المَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْت فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «المَدِينَةُ حَرَامٌ (¬2) مَا بَيْنَ عَيْرٍ إلَى ثَوْرٍ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ] (¬3). هذان الحديثان يتعلقان بالحرم لا الإحرام، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لِأَهْلِهَا»، وثبت أيضًا في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله حرم مكة» (¬4) ولا منافاة، لأن الله أنشأ التحريم وإبراهيم - عليه السلام - أظهره وبلغه ثم دعا لأهلها. ثم قال: «وَإِنِّي حَرَّمْت المَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ» ألا بجري فيها القتال وأن تكون أحكامها كما مر معنا. وقوله: «وَدَعَا لِأَهْلِهَا» وهو كما ذكر الله تبارك وتعالى من قوله: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ...} الآية [البقرة: 126] والنبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لأهل المدينة وحرمها كما دعا إبراهيم لأهل مكة وحرمها وقال: «وَإِنِّي دَعَوْت فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْراهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ» وبمثلي: أي ضعفي. ولهذا يوجد من البركة في الطعام في مكة والمدينة ما ليس في غيرهما. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (2129)، ومسلم (1360). (¬2) في بعض النسخ المخطوطة: (حرم). (¬3) أخرجه مسلم برقم (1370)، وأخرجه البخاري برقم (6755). (¬4) رواه البخاري (1736، 1984)، ومسلم (1353).

ومن أعظم ما يستفاد من الحديث: - أن هاتين المدينتين حرمهما الخليلان، مكة حرمها إبراهيم خليل الله وهو أفضل الخلق بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمدينة حرمها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي عاصمة الإيمان وإليها يجتمع ويأزر كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الإيمان ليأرز إلى مكة والمدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» (¬1) أي: ينضم ويجتمع. فني آخر الزمان لا يكون هناك إيمان إلا في مكة والمدينة، وهما المدينتان اللتان تُحفظان من الدجال (¬2)، فإنه سيطأ الأرض كلها إلا هاتين، فلهما أبواب وأسوار في آخر الزمان، حينما تعود الأوضاع كما كانت سيوف وخيول بها يحتاط الناس لبلدهم، كما هو الحال في سالف الدهر وأسوار تمنع من نفوذ العدو واللصوص. ويكون عل أنقابها ملائكة بسيوف مصلتة (¬3) فلا يدخلها الدجال. - وأن الله قد جعل في طعامهما البركة، ومن سكنهما عرف بركة المطاعم، وسمعت شيخنا ابن باز - رحمه الله - وقد استوطن المدينة دهرًا حينما كان نائبًا ثم رئيسًا للجامعة الإسلامية قال: «من سكن المدينة يعرف ذلك» أي: بركة الطعام الذي يكال ويصاع، ولا شك أن من شرب من ماء زمزم في مكة وأكل من طعام مكة واستوطن المدينة يعرف البركة في المأكل والمشرب. وقال بعضهم: إن جو المدينة من أصح بلاد الله فلا تدخلها الأوبئة. وفي الصحيح من حديث أنس وغبره: أن المدينة لا يدخلها الدجال ولا الطاعون (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (1777)، ومسلم (147). (¬2) انظر ما رواه البخاري (1780، 1781، 1782، 6707، 6715، 7035)، ومسلم (1379، 2943)، وغيرهما في هذا. (¬3) انظر التخريج السابق. (¬4) رواه البخاري (6715، 7035) من حديث أنس - رضي الله عنه -، وأيضًا من حديث أبي هريرة وغيرهما، وقد تقدم قريبًا.

وفي حديث على تحديد الحرم المدني ما بين عير إلى ثور، وثور: هو جبل خلف أحد، وعير: جبل في المدينة قبل الميقات على يسار الذاهب إلى المقيات، وهذا لا ينافي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرَّم ما بين لابتيها (¬1)، فاللابتين شرقية وغربية، والجبلان شمالي وجنوبي. ¬

(¬1) رواه البخاري (1774، 2732، 3187، 3856)، ومسلم (1361). وقال الشيخ العلامة محمد فؤاد عبد الباقي: (لابتيها) اللابة هي الحرة، والمدينة المنورة بين حرتين شرقية وغربية تكتنفانها، والحرة: هي الأرض ذات الحجارة السود كأنها أحرقت بالنار، ومعنى ذلك اللابتان وما بيهما والمراد تحريم المدينة ولا بتيها.

الحديث التاسع والعشرون باب صفة الحج ودخول مكة

الحديث التاسع والعشرون بَابُ صِفَةِ الحَجِّ وُدُخُولِ مَكَّةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما -، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّ فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى إذَا أَتَيْنَا ذَا الحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ فَقَالَ: «اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي»، وَصَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي المَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ القَصْوَاءَ حَتَّى إذَا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى البَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: «لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَك»، حَتَّى إذَا أَتَيْنَا البَيْتَ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ أَتَى مَقَامَ إبْرَاهِيمَ فَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البَابِ إلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ. {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» فَرَقَى الصَّفَا، حَتَّى رَأَى البَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهَ، وَكَبَّرَهُ وَقَالَ: «لَا إلَهَ إلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللهَ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ». ثمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إلَى المَرْوَةِ، حَتَّى إذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الوَادِي سَعَى، حَتَّى إذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى المَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى المَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا - وَذَكَرَ الحَدِيثَ - وَفِيهِ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى، وَرَكِبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ، وَالعَصْرَ، وَالمَغْرِبَ، وَالعِشَاءَ، وَالفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَأَجَازَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ القُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى المَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ القَصْوَاءِ إلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الُمشَاةِ بَيْنَ

يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ القُرْصُ، وَدَفَعَ، وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ اليُمْنَى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ، السَّكِينَةَ»، وَكُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى المُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا المَغْرِبَ وَالِعَشاءَ، بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، وَصَلَّى الفَجْرَ، حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى المَشْعَرَ الحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَدَعَاهُ، وَكَبَّرَهُ، وَهَلَّلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الجَمْرَةِ الكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، كُلُّ حَصَاةٍ مِثْلُ حَصَى الخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الوَادِي ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المَنْحَرِ فَنَحَرَ، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَفَاضَ إلَى البَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُطَوَّلًا (¬1). هذا الحديث هو أطول حديث روي في الحج وسنقف فيه وقفات كثيرة ومتنوعة من نواحي شتى إن شاء الله تعالى. فمن ناحية الحديث: هذا الحديث انفرد بإخراجه بطوله الإمام مسلم عن البخاري، وأخرجه كذلك أبو داود (¬2) وسرده أبو داود نحو رواية مسلم مطوله. وقد رواه عن جابر نحو سبعه من التابعين، أشهرهم رواية (جعفر بن محمد عن أبيه) وهي التي ساقها مسلم، والبخاري روى قطعة منه من غير طريق جعفر بن محمد، رواه من طريق محمد بن المنكدر عن جابر رواه كذلك (أبو الزبير) ورواه جماعة من أصحاب جابر ومسلم ساقه بطوله. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1218). (¬2) برقم (1905).

وهذا السياق مختصر يعنى فيه بعض الحذف عن سياق الحديث المطول والمؤلف اجتزى بهذا. ومن ناحية التفصيل والبحث: قول - صلى الله عليه وسلم -: «اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي»: تقدم الكلام عليه وأن الاغتسال سنة، وقد روى ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عمر «من السنة أن يغتسل المحرم». وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ» (¬1) وفي بعض الألفاظ: «تلجمي» (¬2) والتلجّم هو التحفظ، وهذا الاغتسال ليس لرفع الحدث وإنما هو للنظافة، وإن كان يتعبد به فيجمع التعبد مع النظافة. وقوله: «لَبَّيْكَ» التلبية بمعنى الإجابة، وأيضًا تأبي بمعنى الإقامة؛ لأنها مِنْ (ألب بالمكان) أي: أقام به، ومِنْ (لبى الشخص) أي: أجاب نداءه، وثنيت «لَبَّيْكَ» ليس للتثنية بل لمطلق التكرار، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] ليس معنى كرتين أنه تثنية كرة بل لمطلق التكرار، والإنسان في كل طاعة هو ملبي، وإن كان الحج اختص بهذا اللفظ. وقوله: «اللهُمَّ» يعني يا الله و «لَبَّيْكَ» تأكيدًا ثم قال: «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ» هذا تأكيد آخر. ¬

(¬1) قال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على صحيح مسلم: (واستثفري) الاستثفار: هو أن تشد في وسطها شيئا، وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها، ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها، وهو شبيه بثفر الدابة الذي يجعل تحت ذنبها. (¬2) هذا اللفظ في جامع الترمذي (182). قال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على سنن ابن ماجه: (تلجمي) أي: اجعلي ثوبا كاللجام للفرس، أي: اربطي موضع الدم بالثوب.

و «إنَّ الحَمْدَ» هو هكذا بالكسر وهو المشهور في الرواية، وقال بعض أهل اللغة: (أن الحمد) ومن قال هذا فقد خصص أي: ألبيك؛ لأن الحمد لك، فتكون تعليلية، والصواب بالكسر ألبيك تلبية مطلقة. ثم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ» والحمد: هو الثناء على المحمود، والله - عز وجل - يستحق الحمد المطلق، فهو يُحمد - سبحانه وتعالى - على كل شيء، والحمد: هو وصف المحمود بالكمال عل كماله وعلى إنعامه. و «النِّعْمَةَ» هي العطاء و «المُلْكَ» فاللهُ - عز وجل - مالك للذوات والأعيان، ومتصرف فيهما - سبحانه وتعالى -. بحث في هل ثبتت صيغ أخرى للتلبية: ولم يثبت على القول الراجح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبى تلبية غير هذه، وقد جاء عن أنس أنه كان يقول: «لبيك إله الحق» وجاءت مرفوعة وموقوفة ولكن الموقوف أصح، وروى النسائي من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لبيك إله الحق» (¬1) ولكن الصحيح أنه لا يثبت بل أعله النسائي بالإرسال في السنن نفسها. والصحابة لبوا تلبية مثل تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن عمر كان يقول: (لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل) (¬2). وجاءت تلبيات أخرى، فقد أخرج أحمد عن القطان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر في بيان حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلبيته وفيه: (والناس يزيدون ذا المعارج) (¬3) ... ونحوه. ¬

(¬1) رواه النسائي (2752)، وابن ماجه (2920)، وأحمد (2/ 341، 352، 476)، والحاكم (1/ 618)، والمعجم الأوسط (4/ 329)، وقد صححه الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار، والعلامة الألباني وغيره في مواضيع شتى. (¬2) رواه مسلم (1184). (¬3) رواه أبو داود (1813)، وأحمد (3/ 320)، وابن خزيمة (4/ 173)، وأبو يعلى (4/ 93)، والبيهقي (5/ 45).

وقد روي إن سعدًا أنكر على من قال ذلك وقال: (إنه ذو المعارج) ولكن ما هكذا كنا نقول مع النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فالخلاصة: أن الملبي إذا لبى بمعنى صحيح لا بأس، ولكن السنة أن يأبي بالذي ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحاح والسنن. التلبية عن الصبيان: وأما من لم يَبْلُغ من الصحابة ولم يميز، فكما جاء في حديث جابر - رضي الله عنه - الذي رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والترمذي من طريق عبد الله بن نمير، عن أشعث بن سوار، عن أبي الزبير، عن جابر قال: (حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعنا النساء والصبيان فكنا نلبي عن الصبيان ونرمي عنهم) (¬2) هكذا إسناده عند أحمد وابن أبي شيبة. لكن الترمذي رواه من طريق (محمد بن إسماعيل الواسطي البختري) عن عبد الله بن نمير عن أشعث بن سوار عن أبي الزبير عن جابر قال: (حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعنا النساء والصبيان فكنا نلبى عن النساء ونرمى عن الصبيان) (¬3) وهذا اللفظ غير محفوظ. والحديث فيه (أشعث) وهو ضعيف. ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 171)، والشافعي (1/ 123)، وأبو يعلى (2/ 77) بسند فيه انقطاع؛ لأن عبد الله بن أبي سلمة (المجاشون) لم يدرك سعدًا ورى عنه ففيه انقطاع، وقد رواه الداروردي بسند متصل كما ذكره البزار (4/ 77)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 125) عن عبد الله بن أبي سلمة عن عامر بن سعد عن أبيه به. فإن افترضنا أنه ثابت فيكون الرد أن المثبت يقدم على النافي، وكما ذكر ابن خزيمة أنه طالما ثبت عن جابر فيثبت، وإن خفي على من هو أكبر منه سنًا، وعلمًا، ومكانة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) رواه ابن ماجه (3038)، وأحمد (3/ 314)، والطبراني (1/ 274)، وابن أبي شيبة 3/ 242)، والبيهقي (5/ 156). وذكر الحافظ في التلخيص (2/ 270) نقلًا عن ابن القطان أن هذا اللفظ أقرب إلى الصواب من اللذي يأتي وقال: فإن المرأة لا يلبي عنها غيرها أجمع أهل العلم على ذلك والله أعلم. (¬3) رواه الترمذي (927)، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد أجمع أهل العلم على أنه المرأة لا يلبي عنها غيرها بل هي تلبي عن نفسها، ويكره لها رفع الصوت بالتلبية.

لكن هذا اللفظ - أي لفظ الترمذي - قال الذهبي - فيما نقله عنه الحافظ في تهذيب التهذيب (¬1) -: محمد بن إسماعيل الواسطي البختري (غلط غلطة ضخمة) فقال: (نلبي عن النساء) والمحفوظ سياق أحمد وابن أبي شيبة الذين روياه عن عبد الله بن نمير عن أشعث عن أبي الزبير عن جابر. قوله: (وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ) (¬2) يعنى أشياء كانت موجودة. وقد تقدم ذكر مواضيع التلبية فيما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن سابط قال: (أدركت الناس - أو قال: السلف - يلبون إذا علو نشزًا، وإذا نزلوا واديًا، ودبر الصلاة، وعند التقاء الرفاق) (¬3). وقوله: (حَتَّى إذَا أَتَيْنَا البَيْتَ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ) يعني: الحجر الأسود فإليه ينصرف الركن عند الإطلاق، واستلامه: مسحه وتقبيله بالتكبير والتهليل إن أمكنه ذلك من غير إيذاء أحد، وإلا يستلم بالإشارة من بعيد، والاستلام افتعال من السلام بمعنى التحية (¬4). وقوله: (فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا) هذه السنة أنه يرمل في الثلاثة أشواط كلها. وفي عمرة القضية أمر أصحابه أن يرملوا من الحجر إلى الركن اليماني، ثم بين الركنين يرفقوا بأنفسهم فيمشوا، وكان المشركون حينئذ عل جبل قعيقعان - هو: مما يلي الشامية الآن - فكانوا لا يرون الصحابة فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرفقوا بأنفسهم (¬5). لكنه في حجة الوداع رمل - صلى الله عليه وسلم - من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود في الثلاثة الأولى ومشى في الأربع (¬6). ¬

(¬1) (9/ 48). (¬2) هذا مما اختصره المؤلف ولم يذكره فانظره في أصل الحديث في صحيح مسلم إن شئت. (¬3) تقدم. (¬4) من تعليق الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي على صحيح مسلم. (¬5) رواه البخاري (1525، 4009)، ومسلم (1264، 1266). (¬6) رواه مسلم (1263)، ومالك في الموطأ (1/ 365).

أفضلية الرمل وبحث مهم: فالسنة الرمل، لكن لو كان الإنسان إذا دنا من الكعبة لا يرمل، وإذا ابتعد رمل أيهما أفضل الدنو من البيت مع المشي أو البعد مع الرمل؟ نقول لا شك أن الرمل أفضل؛ لأن هنا قاعدة فقهية: «مراعاة المزية الراجعة إلى ذات العبادة مقدمة عل مراعاة المزية الراجعة إلى مكان العبادة أو زمن العبادة ما دام الزمن والمكان باقيين». ومن ذلك هنا فإنه يرمل؛ لأن المطاف لا زال موجودًا كونه يطوف بالبيت قرب أو بعد عارضه مزية أخرى في ذات العبادة وهي الرمل. ومن ذلك الإبراد بصلاة الظهر، فإن الإبراد لأجل تحصيل الخشوع وهو في ذات العبادة، لكنه يؤخر الصلاة عن أول وقتها، والصلاة في أول وقتها أفضل، ومن ترك أول الوقت مع بقاء الوقت، وصلى بعد ذلك في وقت الإبراد بالظهر من أجل تحصيل الخشوع فهو أفضل. ومن ذلك ما قاله شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله -: لو أن إنسانًا يصلي خلف إمام، فإذا صلى بطرف الصف الأول من اليمين أو الشمال لا يسمع صوت الإمام لبعده عنه، فكونه يصلي في الصف الثاني من أجل سماع الصوت الذي يتعلق بالمتابعة أفضل من كونه في طرف الصف، ويخفى عليه حال الإمام من الركوع والسجود، وهذا المتوجه وإن كان الصف الأول أفضل، لكن عارض مكان العبادة وهو في الصف الأول، وشيء آخر هو كيف يعرف حال الإمام؟ وهذا راجع إلى حال العبادة. اهـ. ومن ذلك مسألة مهمة هي: المقام بمكة عند أهل العلم أهو أفضل إذا كان الإنسان يُحصِّل خيرًا ويطلب علمًا، أم إذا أقام بالثغور أو ببلده الذي هو فيه، ويكون له من طلب العلم والاشتغال به ما يعود عليه عائدًا حسنًا في إيمانه وتقواه وورعه، ولم يحصل

له ذلك بمكة؛ لأنه لو أقام بمكة تشتت ذهنه ولم يجد قلبه مجتمعًا عليه، حينئذ يكون المقام ببلدة أفضل من المقام بمكة في مثل هذه الصورة. وقوله: (ثُمَّ أَتَى مَقَامَ إبْرَاهِيم فَصَلَّى) قرأ - صلى الله عليه وسلم -: بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬1) وهذه لم تقع في مسلم ولكنها جاءت في غيره. وفيه من الفوائد: أنه جهر بها جهرًا سمعه أصحابه مع العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف في وقت النهار، فحينئذ قد يقال هذا إن دعت الحاجة إلى ذلك كما لو أراد أن يُعَلِّم الناس السنة فلا بأس. وقوله: (ثُمَّ رَجَعَ إلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ) فيه من الفوائد: أن استلام الركن عبادة مستقلة فهو يُسْتَلم لوحده، وفي الطواف وفي العمرة والحج. ومما يدل عل ذلك: ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عبدة بن سليمان عن عبيد الله عن نافع قال: (كان ابن عمر يستلم الركن طائفًا، أو غير طائف) (¬2). ¬

(¬1) انظر أصل الحديث في صحيح مسلم (1218)، وكلام النووي عليه ومنه قوله: وقد ذكره البيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت فرمل من الحجر الأسود ثلاثًا ثم صلى ركعتين قرأ فيهما {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ورواه أيضًا النسائي (2963)، وغيره. (¬2) رواه ابن أبي شيبة (3/ 215).

وأيضًا ما رواه عطاء بن أبي رباح قال: (صليت خلف ابن الزبير المغرب فسلم في الركعتين تم قام ليتسلم الحجر فسبحوا به فرجع فأتم ما بقي وسجد سجدتين) (¬1). فالخلاصة: أن استلام الحجر الأسود سنة مستقلة، سواء كان في طواف أو في غير طواف، لكن في هذه الصورة وهي استلامه بعد الطواف إذا لم يستطع استلامه فلا يشير بيده ولا يُكَبِّر لعدم النقل. وإذا حاذى الحجر الأسود يُكَبِّر في أول طوفه وهل يُكَبِّر في آخرها؟ قال بعضهم: إنه يُكَبِّر في ابتداء كل شوط، وعليه لا يُكَبِّر في نهاية الشوط السابع حتى تكون التكبيرات والأشواط سبعة. وقال بعضهم: بل يُكَبِّر لعموم قوله: «كُلَّمَا حَاذَى الرُّكْن كَبَّر» هذا من ناحية، وكذلك أن المقصود من الطواف والسعي ورمي الجمار؛ إقامة ذكر الله. وجاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - في السنن وغيرها: «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» (¬2). ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 351) والطبراني في الكبير (11/ 199)، والأوسط (5/ 53)، وأبو يعلى (4/ 466)، والبيهقي (2/ 360)، والفاكهي (1/ 133). (¬2) رواه مرفوعًا أبو داود (1888)، والترمذي (902)، وأحمد (6/ 64، 75، 138)، وابن خزيمة (4/ 222، 279، 317)، والحاكم (1/ 630)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/ 467)، وسننه الكبرى (5/ 145). وموقوفًا رواه الدارمي (2/ 71)، وعبد الرزاق (5/ 49)، وابن أبي شيبة (3/ 399). وقال البيهقي في سننه الكبرى: رواه أبو قتيبة عن سفيان فلم يرفعه، ورواه يحيى القطان عن عبيد الله فلم يرفعه، وقال: قد سمعته يرفعه ولكني أهابه، وواه عبد الله بن داود وأبو عاصم عن عبيد الله فرفعاه، ورواه بن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة فلم يرفعه، ورواه حسين المعلم عن عطاء عن عائشة فلم يرفعه.

ولكن هذا الحديث الصحيح أنه موقوف على عائشة وفيه (عبيد الله بن زياد القداح) رفعه ورواه عنه سفيان، قال البيهقي نقلًا عن يحيى القطان أنه كان يتهيب رفع هذا الحديث، ثم المحفوظ عنها من رواية عطاء، وجاء من طريق عبيد الله القداح عن القاسم بن محمد عن عائشة - رضي الله عنها - من قولها، وهذا يوافق رواية الثقات عن عائشة في أن هذا الحديث من كلام عائشة. والذي يظهر لي في مسألة التكبير في آخر الشوط السابع أنها مسألة اجتهادية من كبر فله ظاهر الحديث، ومن ترك فلا شيء عليه. تنبيه: وقع في مسند الإمام أحمد في هذا الوضع من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمل ثلاثة أطواف من الحجر إلى الحجر وصل ركعتين، ثم عاد إلى الحجر، ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب عل رأسه، ثم رجع فاستلم الركن، ثم رجع إلى الصفا ... الحديث. أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/ 294): حدثنا موسى بن داود حدثنا سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر به، وهذا الزيادة في ذكر شرب ماء زمزم وصب الماء عل رأسه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع غريبة، تفرد بها موسى بن داود الضبي روى له مسلم حديثًا واحدًا، وهو ثقة وثقة ابن نمير وابن سعد وابن عمار الموصلي والعجلي، وأثنى عليه الدارقطني، وقال أبو حاتم: شيخ في حديثه اضطراب. والحديث كالمتواتر عن جعفر بن محمد ليس فيه هذا الحرف، نعم شربه من ماء زمزم ثابت بعد طواف الإفاضة، والأكل والشرب أثناء الطواف مباح، وقد نقل أبو العباس اتفاق العلماء عل ذلك في مجموع الفتاوى (26/ 125) وإن كان قد يكره إذا لم يكن حاجة كما قال - رحمه الله - (26/ 198 - 199).

فائدة: حديث: «ماء زمزم طعام طعم» أخرجه مسلم عن أبي ذر وفيه قصة (¬1). زاد الطيالسي والبيهقي وغيرهما «وشفاء سقم» (¬2) وهي زيادة ثابتة. فائدة أخرى: حديث: «ماء زمزم لما شُرب له» (¬3) أخرجه ابن ماجة من طريق عبد الله بن المؤمل عن ابن الزبير عن جابر مرفوعًا، وعبد الله بن المؤمل ضعيف. وجاء في معناه حديث ابن عباس عند الدارقطني لكنه لا يثبت (¬4). ¬

(¬1) رواه مسلم (2473)، وغيره والقصة هي قصة إسلام أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -. وقال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على صحيح مسلم: (طعام طعم) أي تشبع شاربها كما يشبعه الطعام. (¬2) رواها الطيالسي (1/ 61)، والطبراني في الصغير (1/ 186)، والبيهقي في السنن (5/ 147). (¬3) رواه ابن ماجه (3062)، وأحمد (3/ 357، 372)، والطبراني في الأوسط (1/ 259)، (4/ 139)، (9/ 26)، وابن أبي شيبة (3/ 274)، البيهقي في الشعب (3/ 481)، والسنن (5/ 148، 202)، وعدد طرقه وشواهده الحافظ في التلخيص (2/ 268) وانظر بحث العلامة الألباني في الإرواء (4/ 320 - 325 حديث رقم 1123). (¬4) رواه الدارقطني (2/ 289)، والحاكم في المستدرك (1/ 646)، وقال: صحيح الإسناد إن سلم من الجارودي، وقال الذهبي في الميزان (3/ 508): غمزه الحاكم؛ لأنه أتى بخبر باطل اتهم بسنده، وقال الحافظ في التلخيص (2/ 268) عقب هذه الرواية: والجارود صدوق إلا أن روايته شاذة.

وأحسن ما جاء في هذا الباب ما أخرجه الفاكهاني في أخبار مكة (2/ 37) قال حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا يعقوب عن أبيه قال: لما حج معاوية - رضي الله عنه - حججنا معه .... وفيه: ومن ثم مر بزمزم وهو خارج إلى الصفا فقال: انزع لي منها دلوًا يا غلام قال: فنزع له منها دلوًا فأتى به فشرب منه وصب عل وجهه ورأسه وهو يقول: زمزم شفاء هي لما شُرب له. وهذا إسناد صحيح والفاكهي عده ابن حجر من الحفاظ الذين رووا عن البخاري، وقد روى الفاكهي واسمه محمد بن إسحاق عن جماعة من الحفاظ المشاهير كـ: مسلم، وأبي حاتم ... وجماعة آخرين، فهو مشهور بالطلب وقد روى عنه الحافظ العقيلي فلا شك في توثيقه، أما شيخه في كتابه فهو محمد بن إسحاق الصاغاني الصيني. وذكر الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة عن شيخه الحافظ ابن حجر أنه حسن هذا الطريق بقوله: هذا إسناد حسن مع كونه موقوفًا وهو أحسن من كل إسناد وقفت عليه لهذا الحديث. وابن إسحاق صرح بالتحديث، وبقية الإسناد ثقات، فهذا إسناد ثابت موقوف على معاوية الخليفة المشهور يجهر به بين بقية أصحاب محمد وجمهرة التابعين، ومثله لا يقال بالرأي، فلا شك في صحته ونقل معاوية - رضي الله عنه - من شربه وصبه على رأسه ووجهه هو ما وقع في رواية موسى بن داود .... فائدة أُخرى: جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرب من زمزم ثم مّج في الدلو ثم صب في زمزم (¬1). رواه أحمد في مسنده من طريق حماد بن سلمه عن قيس بن سعد عن مجاهد عن ابن عباس وهو غريب من هذا الوجه، وهو أقوى ما في الباب. ¬

(¬1) رواه أحمد (4/ 315)، والطبراني في الكبير (11/ 97)، (22/ 51)، وقال العلامة أحمد شاكر في تحقيق المسند (18740): إسناده صحيح وإن لم يصرح عبد الجبار - وهو من ثقات التابعين - بالراوي عن أبيه إلا أن أهله يدل على الكثرة لا على الجهالة فليس منقطعًا كما قال البوصيري، والحديث رواه ابن ماجه (1/ 216 رقم 659)، والحميدي (2/ 393 رقم 886).

وروى أحمد أيضًا والفاكهي في أخبار مكة من طريق مسعر عن عبد الجبار بن وائل قال: حدثني بعض أهل العلم عن أبي قال: (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بدلو من ماء زمزم فشرب منه ثم مج في الدلو ثم صب في البئر ....) إسناده ضعيف عبد الجبار لم يسمع من أبيه ولا أدركه مات أبوه وهو حمل. وروى الفاكهي في أخبار مكة من طريق يوسف بن عبده البصري عن ثابت عن أنس قال: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زمزم فنزع دلوًا فشرب منه ثم مج من ثم صبه في زمزم. وإسناده ضعيف قال أحمد: يوسف بن عبده له أحاديث مناكير عن حميد وثابت. قلت: وهذا منها. قوله: (.. ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البَابِ إلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» ....) يدل هذا على أن الإنسان إذا صعد الصفا يقرأ أول الآية فقط ولا يُتِم الآية ولم أر في خبر صحيح مسند أنه - صلى الله عليه وسلم - أتم الآية. ثم يقول: «نَبْدَأ بِمَا بَدَأ اللهُ بِهِ» كما هو أصح الروايات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقد وردت هذه الجملة بصيغ: 1 - بصيغة الجمع بلفظ (نبدأ) (¬1) وهي أصح الروايات. ¬

(¬1) أخرجه هذه اللفظة: مالك في الموطأ (829)، وأبو داود (1905)، والنسائي (2961، 2969، 2970، 2974)، وابن ماجه (3074)، وأحمد (14480)، وابن حبان (3943)، والطيالسي (1668)، والطبراني في الصغير (1/ 126)، وأبو يعلى (4/ 23، 93، 12/ 105)، والبيهقي في الكبرى (1/ 85، 3/ 315، 5/ 93)، والنسائي في الكبرى (2/ 409، 411، 412) ـ والحميدي (2/ 533)، وابن الجارود (1/ 121). قال الحافظ في التلخيص (2/ 250): قال أبو الفتح القشيري: مخرج الحديث عندهم واحد، وقد اجتمع: مالك، وسفيان، ويحيى بن سعيد القطان، على رواية «نبدأ» بالنون التي للجمع. قلت: وهم أحفظ من الباقين. وانظر بحث العلامة الألباني - للألفاظ الثلاثة - كما في الإرواء (4/ 316 - 319) ففيه فوائد.

2 - وبصيغة الخبر (أبدأ) (¬1). 3 - وبصيغة الأمر بلفظ (ابدءوا) (¬2). أما رواية (ابدأوا) فهذه شاذة، والصحيح (نبدأ) وأما رواية (أبدأ) فهي وإن كانت لا خلاف كبير فيها لكن المحفوظ بالجمع (نبدأ). وهذه صارت قاعدة عند أهل العلم أنه يبدأ الإنسان بما بدأ الله به ففي الوضوء {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. وهنا فما قدم الله يقدم وما أخره الله يؤخر هذا هو الأصل. قوله: (.. فَرَقَى الصَّفَا، حَتَّى رَأَى البَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهَ، وَكَبَّرَهُ وَقَالَ: «لَا إلَهَ إلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللهَ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ»، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ....). في هذا أن الذكر ثلاث مرات، فهل الدعاء أيضًا ثلاث مرات؟! قال بعضهم: الدعاء بين الأذكار، والأذكار ثلاثة وما يتخللها اثنان؛ ما بين الأول والثاني وما بين الثاني والثالث، فلا يكون دعا إلا مرتين، وهذا اختيار الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله -. ¬

(¬1) أخرج هذه اللفظة: مسلم (1218)، والدارمي (1850)، وابن خزيمة (2757)، وابن حبان (3944)، وابن أبي شيبة (3/ 335)، والبيهقي في الكبرى (5/ 93)، وعبد ابن حميد (1/ 341). (¬2) أخرج هذه اللفظة: النسائي (2962)، والدارقطني (2/ 254)، والنسائي في الكبرى (2/ 413)، وابن الجارود (1/ 123). قال العلامة الألباني في بحثه الألفاظ الثلاثة في الإرواء (4/ 316 - 319): وجملة القول: إن هذا اللفظ: «ابدؤوا» شاذ لا يثبت لتفرد الثوري، وسليمان به مخالفين فيه سائر الثقات الذين سبق ذكرهم، وهم سبعة وقد قالوا: (نبدأ). فهو الصواب، ولا يمكن القول بتصحيح اللفظ الآخر؛ لأن الحديث واحد وتكلم به - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة عند صعوده على الصفا، فلابد من الترجيح وهو ما ذكرنا.

وقال بعضهم: بل يدعو ثلاثًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا دعا ثلاثًا، وهذه الرواية لا تدل عل أنه اقتصر على الدعاء بين ذلك، بل ربما زاد وإنما نقل جابر - رضي الله عنه - ما جهر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالسنة أن الإنسان إذا رقى على الصفا يرفع يديه ويستقبل الكعبة ثم يجهر بالذكر ويقول: «لَا إلَهَ إلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللهَ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ» ثم يسر الدعاء، ثم يعود فيجهر بالذكر ثم يسر الدعاء، ثم يرجع ويجهر بالذكر ثم يسر الدعاء، هذا هو الأفضل. قوله: (... ثُمَّ نَزَلَ إلَى المَرْوَةِ، حَتَّى إذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الوَادِي سَعَى، حَتَّى إذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى المَرْوَةَ ...) فمن هنا يستفاد أن العجلة تكون في الوادي ما بين العلمين، وقد روى النسائي عن طريق صفية بنت شيبة في رواية أنها رأت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي أخرى أنها تروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بواسطة امرأة أنه قال: «لا يقطع الأبطح إلا شدًّا» (¬1) وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا سعى تدور به إزاره (¬2) وذلك في خبر لا يثبت. فالسنة الإسراع مع عدم المشقة هذا في حق الرجال، أما في حق النساء فلا يشرع، وقد صح عن ابن عمر وغيره من الصحابة أنه قال: «أليس على النساء رمل» (¬3) ونقل ابن المنذر الاتفاق عل هذا. أما سعي هاجر فإنه قد يقال لم يكن بحضرتها أحد من الرجال البتة، ثم نقول ثانيًا أن الشريعة استقرت عل عدم رمل النساء، أما الآن إذا رملت ففيه من المحاذير ما لا يخفى. ¬

(¬1) روايتها المباشرة: رواها النسائي (2980)، وأما روايتها عنه - صلى الله عليه وسلم - باسطة: رواها النسائي في الكبرى (2/ 414)، وابن ماجه (2987)، وأحمد (6/ 404)، والبيهقي (5/ 98). (¬2) رواه أحمد (6/ 421)، والحاكم (4/ 79)، والطبراني في الكبرى (24/ 226)، وإسحاق بن راهويه في مسنده (5/ 195)، وفيه عبد الله بن مؤمل. (¬3) انظر مسند الشافعي (1/ 129)، والدارقطني (2/ 295)، وابن أبي شيبة (3/ 151)، والبيهقي في سننه الكبرى (5/ 48، 84)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 36).

قوله: (.. فَفَعَلَ عَلَى المَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا - وَذَكَرَ الحَدِيثَ - ...) لكن لا يكرر ذكر الآية إذا أتى المروة ولا يقول: «نبدأ بما بدأ الله به» لكنه يدعو نحو الدعاء الذي تقدم ويستقبل القبلة ويرفع يديه، وقوله: (وذكر الحديث) يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بأنهم يجلوا ويجعلوها عمرة، وقال: «افعلوا ما آمركم به» ثم ترددوا ثم فعلوا ما أمرهم به - صلى الله عليه وسلم - وي، ثم اقتطع المؤلف هذا الجزء من الحديث ثم قال: وَفِيهِ: (.. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى، وَرَكِبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ، وَالعَصْرَ، وَالمَغْرِبَ، وَالعِشَاءَ، وَالفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ...). يصليها - صلى الله عليه وسلم - قصرًا بلا جمع، الرباعية ثنتين الظهر والعصر والعشاء؛ لأنه قار وهذا هو السنة، أن الإنسان المسافر إذا كان قارًّا يقصر بلا جمع، وإذا جد في السير فإنه يُسَن له الجمع، ولكن على القول الراجح يجوز للمسافر المستقر أن يجمع لاسيما إذا دعت الحاجة، وأما إذا لم تدع حاجة فتركه أفضل. قوله: (.. فَأَجَازَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ القُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ ...). هذا الوادي هو وادي عُرنة، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نزل يوم عرفة ثلاثة منازل المنزل الأول بنمرة، وهذا قبل الوادي ونزل به للارتفاق والراحة، ثم لما زالت الشمس أتى بطن الوادي، ثم خطب ثم صلى الظهر ركعتين، ثم العصر ركعتين، ثم دخل عرفة. وقوله: (.. ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ...).

وكان هذا يوم جمعة في وقفته - صلى الله عليه وسلم - ولم يُصَلِّ الجمعة؛ لأن المسافر لا يصلي الجمعة، وهذا باتفاق العلماء، بل لو صلى الإنسان الجمعة وهو مسافر فإنها لا تصح منه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬1) لكن إذا كان المسافر نازلًا ببلد وسمع أذان الجمعة فهل يلزمه أم لا؟ وقبل الشروع في هذه المسألة أقول أن المسافر له حالتان: الأولى: حال استقلال بجماعة المسافرين وانفصاله عن البلد. الثانية: حال استقرار في بلد لا يقطع حكم السفر. ففي الصورة الأولى: هل تجب الجمعة على المسافرين وحدهم؟ والجواب: يقال إن الجمعة لا تجب عل المسافرين بل لوصلوها جمعة لا تصح منهم، والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سافر أسفارًا كثيرة في حياته - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقل عنه حرف واحد أنه جمع بأصحابه، وقد صادفته الجمعة في أسفاره كثيرًا، ولو صلى الجمعة في أسفاره لكانت الهمم متوافرة على نقل ذلك. ولا أدل على ذلك من سفره لحجه - صلى الله عليه وسلم - فقد وافق يوم عرفه يوم الجمعة، ومع ذلك فقد صلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، وقد سماها جابر الظهر كما في صحيح مسلم (1218)، ولم يجهر بالقراءة، وأيضًا خطب قبل الأذان خطبة واحدة، ثم أذن وصلى وهذا العلم به ظاهر لأهل العلم لا يكادون يختلفون في ذلك (¬2). وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد». ¬

(¬1) رواه مسلم (1718). (¬2) انظر الموطأ (1/ 107) ومجموع الفتاوى (17/ 480) و (24/ 177) ما بعدها (مهم جدًّا) و (ج/16) من فتاوى ابن عثيمين.

وإنما محل البحث في الصورة الثانية: وهي إذا كان المسافر مستقرًّا في بلد استقرارًا لا يقطع أحكام السفر فهل يجب عليه حضور الجمعة أم لا؟ قد وردت آثار في نفي وجوب الجمعة عن المسافر لا بأس بذكرها مع الكلام عل أسانيدها، ثم نذكر - إن شاء الله - كلام أهل العلم. أولاً: حديث تميم الداري: أخرجه البيهقي (3/ 184) من طريق محمد بن طلحة عن الحكم عن ضرار بن عمرو عن أبي عبد الله الشامي عن تميم الداري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الجمعة واجبة إلا على امرأة أو صبي أو مريض أو عبد أو مسافر». وهذا الحديث واه جدًّا. فضرار بن عمرو منكر الحديث كما قال البخاري، وأورد له العقيلي هذا الحديث في ضعفائه (2/ 222) وقال: لا يتابع عليه، وأبو عبد الله الشامي لا يعرف كما قال الذهبي في الميزان. والحديث قال عنه أبو زرعه الرازي - عبيد الله طه بن عبد الكريم -: هذا حديث منكر (انظر علل ابن أبي حاتم (2/ 212)). ثانيًا: حديث جابر: أخرجه الدارقطني في السنن (2/ 3) والبيهقي (3/ 174) وابن عدي في كاملة (2425) وابن الجوزي في التحقيق (788) من طريق ابن لهيعه عن معاذ بن محمد الأنصاري عن أبي الزبير عن جابر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه والله غنى حميد».

وهذا الحديث كسابقه واه جدًّا. فيه أن لهيعة ضعيف ومعاذ بن محمد قال العقيلي: في حديثه وهم، وقال ابن عدي: منكر الحديث، وذكر حديثه هذا وضعفه الحافظ في التلخيص (2/ 65)، وقال ابن عبد الهادي: لا يصح، وكذا قال الذهبي. انظر التحقيق لابن الجوزي (4/ 121). ثالثًا: حديث أبي هريرة: أخرجه الطبراني في الأوسط (2/ 196) من طريق إبراهيم بن حماد بن أبي حازم المديني ثنا مالك بن أنس عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خمسة لا جمعة عليهم المرأة والسافر والعبد والصبي وأهل البادية». قال الطبراني: لم يروه عن مالك إلا إبراهيم. والحديث أخرجه الدارقطني في غرائب مالك، كما ذكره الحافظ في لسان الميزان (1/ 268) قال الدارقطني: تفرد به إبراهيم وكان ضعيفًا. رابعًا: حديث ابن عمر: أخرجه الدارقطني في السنن (2/ 4) والطبراني في الأوسط (882) من طريق عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ليس عل المسافر جمعة». وهذا إسناده ضعيف جدًّا كذلك. فعبد الله بن نافع قال أبو حاتم فيه: منكر الحديث، وهو أضعف ولد نافع، وقال البخاري: منكر الحديث. والمحفوظ في هذا الحديث الوقف على ابن عمر.

أخرجه البيهقي (3/ 184) من طريق ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: «لا جمعة على مسافر». قال البيهقي: هذا هو الصحيح موقوف ورواه عبد الله بن نافع عن أبيه فرفعه. اهـ. وقد رواه ابن المنذر (4/ 19) وعبد الرزاق (5198) (3/ 172) موقوفًا. خامسًا: مرسل الحسن: روى عبد الرزاق (3/ 174) عن ابن عيينة عن عمرو (هو ابن دينار) عن الحسن قال: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «ليس على المسافر جمعة». وهو ضعيف لإرساله. والحسن هو: ابن محمد بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي مدني تابعي ثقة، وأبوه هو ابن الحنفية. وأما الآثار عن الصحابة والتابعين فمنها: أولاً: أثر ابن عمر المتقدم وهو صحيح ثابت. ثانيًا: أثر علي. أخرجه ابن المنذر في الأوسط (4/ 19) من طريق أبي إسحاق عن الحارث عن علي - رضي الله عنه - قال: «ليس على المسافر جمعة». والحارث واه. وروى عبد الرزاق (3/ 168) وابن أبي شيبة (2/ 101) وغيرهما من طريق سعد بن عبيده عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: «لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع». إسناده صحيح.

ثالثًا: أثر عبد الرحمن بن سمرة: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4352) وابن المنذر في الأوسط (4/ 360) من طريق هشام بن حسان عن الحسن قال: كنا مع عبد الرحمن بن سمرة في بعض بلاد فارس سنتين وكان لا يجمع ولا يزيد على ركعتين. وإسناده صحيح. وأخرجه البيهقي (3/ 185) من طريق يونس بن عبيدة عن الحسن قال: كنا مع عبد الرحمن بن سمرة بخراسان نقصر الصلاة ولا نجمع. قال البيهقي: هكذا وجدته في كتابي ولا نجمع بالتشديد ورفع النون. رابعًا: أثر أنس: وأخرج ابن المنذر (4/ 20) من طريق يونس عن الحسن أن أنسًا أقام بنيسابور سنه أو سنتين وكان يصلي ركعتين ولا يجمع. إسناده صحيح. خامسًا: أثر عمر بن عبد العزيز: أخرجه ابن أبي شيبه من طريق رجاء بن أبي سلمه عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك قال: خرج عمر بن عبد العزيز من دبق وهو يومئذ أمير المؤمنين فمر بحلب يوم الجمعة فقال الأمير؟: «جمع فإنا سفر». وإسناده لا بأس به. سادسًا: أثر مسروق وعروة بن المغيرة وجماعة من أصحاب ابن مسعود:

أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 104) عن أبي أسامة عن أبي العميس عن علي بن الأقمر قال: خرج مسروق وعروة بن المغيرة ونفر من أصحاب عبد الله فحضرت صلاة الجمعة فلم يجمعوا وحضروا الفطر ولم يفطروا. إسناده ثابت. وأخرج عبد الرزاق عن الثوري عن مغيرة عن إبراهيم (وهو النخعي) قال: كانوا لا يجمعون في سفر ولا يصلون إلا ركعتين. صحيح. ورواه ابن أبي شيبه عن أبي الاحوص عن المغيرة به بلفظ: (كان أصحابنا يغزون فيقيمون السُّنة) أو نحو ذلك: (يقصرون الصلاة ولا يجمعون). سابعًا: أثر طاووس: أخرجه عبد الرزاق (3/ 172) عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: (ليس على المسافر جمعة). ثامنًا: أثر الزهري: وأخرج عبد الرزاق (3/ 174) برقم (5205) عن عمر عن الزهري قال: سألته عن المسافر يمر بقرية فينزل يوم الجمعة؟ قال: (إذا سمع الأذان فليشهد الجمعة). صحيح. وعلقه البخاري في صحيحة من رواية إبراهيم بن سعد عنه، ويأتي الكلام عليه، وله سياق آخر عند عبد الرزاق برقم (5188) بالإسناد نفسه.

أقوال أهل العلم: قال الشافعي - رحمه الله - في الأم (1/ 327): (وليس على المسافر أن يمر ببلد جمعة إلا أن يجمع فيه مقام أربع، فتلزمه الجمعة إن كانت في مقامه) اهـ. وقال ابن المنذر - رحمه الله - في الأوسط (4/ 20): (ومما يحتج به في إسقاط الجمعة عن المسافر؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مر به في أسفاره جمع لا محالة فلم يبلغنا أنه جمع (¬1) وهو مسافر، بل أنه ثبت عنه أنه صلى الظهر بعرفة، وكان يوم الجمعة فدل ذلك من فعله على أنه لا جمعه على المسافر؛ لأنه المبين عن الله - عز وجل - معنى ما أراد بكتابه فسقطت الجمعة عن المسافر استدلالًا بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كالإجماع من أهل العلم؛ لأن الزهري مختلف في هذا الباب حكي الوليد بن مسلم عن الأوزاعي أنه قال: لا جمعة على المسافر، وإن سمع المسافر أذان الجمعة وهو في بلد فليحضر معهم، يحتمل أن يكون أراد استحبابًا ولو أراد غير ذلك كان قولًا شاذًّا خلاف قول أهل العلم وخلاف ما دلت عليه السنة). اهـ. ¬

(¬1) قلت: ذكر ابن الهمام فتح القدير (2/ 33) ما نصه: «وفي الكافي صح أنه - صلى الله عليه وسلم - أقام الجمعة بمكة مسافرًا» اهـ. وفي بدائع الصنائع (1/ 430) مثله. قلت: فإن كان انتزعه من إقامته - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة كما ثبت في البخاري عن ابن عباس، فقد أطلق جماعة من أهل العلم عدم إقامته الجمعة في سفره، ولو قدر أنه أقام الجمعة فغاية ما في الأمر أنه إمام فيها، وإلا فهي قائمة مفروضة على أهل مكة، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - شاهدًا لها فمن الذي سيتقدم بين يديه في إقامتها، وكذلك هو - صلى الله عليه وسلم - إمام المسلمين. ولهذا قال السرخسي في المبسوط (2/ 130) ما نصه: «ولو أن أمير الموسم جمع بمكة وهو مسافر جاز، لأنه فوض إليه أمر المسلمين» اهـ. ومراده في (الموسم): الحج، والجهاد مثله، ومعلوم أن شهود المسافر المستقر للجمعة أفضل وأعظم أجرًا، حيث لا مشقة لكن الكلام في الوجوب. وقد عقد عبد الرزاق (3/ 360) باب الإمام يجمع حيث كان، وذكر آثارًا عن السلف. والصحيح في هذا المسألة أن الإمام له أن يتولى إقامة الجمعة في البلد الذي يمر به أو ينيب غيره لا أنه تلزمه الجمعة حيث كان إذا كان مسافرًا.

قلت: وقول الزهري علقة البخاري في صحيحه تحت باب (المشي إلى الجمعة وقول الله - جل ذكره -: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]). وعلق أثارًا ثم قال: وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري: «إذا أذن المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر فعليه أن يشهد». قال الحافظ (2/ 391) ما نصه: «لم أره من رواية إبراهيم، وقد ذكره ابن المنذر عن الزهري، وقال: إنه أختلف عليه فقيل عنه مثل قول الجماعة إنه لا جمعة على المسافر، كذا رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري. قال ابن المنذر: «وهو كالإجماع من أهل العلم على ذلك؛ لأن الزهري أختلف عليه فيه». اهـ. ويمكن حمل كلام الزهري على حالتين: فحيث قال: «لا جمعة على المسافر» أراد على طريق الوجوب. وحيث قال: «فعليه أن يشهد» أرد على طريق الاستحباب (¬1). ويمكن أن تحمل رواية سعد بن إبراهيم هذه على صورة مخصوصة، وهو: إذا أتفق حضوره في موضع تقام فيه الجمعة فسمع النداء (¬2) لها، لا إنها تلزم المسافر مطلقًا حتى يحرم عليه السفر قبل الزوال من البلد الذي يدخلها مجتازًا مثلًا، وكأن ذلك رَجَحَ عند ¬

(¬1) هذا الحمل من الحافظ ضعيف غريب، وكلام الزهري واضح من نقله عن ابن المنذر، فالمسافر عند الزهري له حالتان: (أ) أن يكون حاضرًا فيسمع النداء فعليه الحضور (وهو محل البحث) ونُقُول الأئمة عن الزهري إنما في هذه الصورة. (ب) ألا يكون كذلك فليس على المسافر جمعة. وقد فطن ابن المنذر وحمل قول الزهري فليحضر معهم، يعني إذا كان في بلد على الاستحباب، حتى لا يخالف قول أهل العلم في إسقاط الجمعة عن المسافر. فافهم. (¬2) قلت: هذا صريح فتوى الزهري لمعمر عند عبد الرازق والحافظ لم ينسبه له وتقدم.

البخاري، ويتأكد عنده بعموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. فلم يخص مقيمًا من المسافر، وأما ما احتج به ابن المنذر على سقوط الجمعة عن المسافر بكونه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر جمعًا بعرفة وكان يوم الجمعة، فدل ذلك من فعله على أنه لا جمعة على المسافر فهو عمل صحيح إلا أنه لا يدفع الصورة التي ذكرتها. أهـ. وقال الموفق (3/ 216): «وأما المسافر فأكثر أهل العلم يرون أنه لا جمعة عليه كذلك قال مالك في أهل المدينة، والثوري في العراق، والشافعي وإسحاق وأبو ثور، وروى ذلك عن عطاء، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، والشعبي، وحُكِي عن الزهري، والنخعي أنها تجب عليه؛ لأن الجماعة تجب عليه فالجمعة أولى، ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسافر فلا يصلي الجمعة في سفره، وكان في حجة الوداع بعرفة يوم الجمعة فصلى الظهر وجمع بينها ولم يصل جمعة، والخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم - كانوا يسافرون للحج وغيره فلم يصلِ أحدًا منهم الجمعة في سفره، وكذلك غيرهم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم. وقد قال إبراهيم: كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك وبسجستان السنين لا يجمعون ولا يشرقون - ثم ذكر أثر أنس وعبد الرحمن بن سمرة وتقدما -. ثم قال: وهذا إجماع من السنة الثابتة فيه فلا يسوغ مخالفته ... إلى أن قال (3/ 220): والأفضل للمسافر حضور الجمعة؛ لأنها أفضل». ونقل ابن عبد البر في الاستذكار (5/ 76) الإجماع على أنه ليس على المسافر جمعة. قال ابن حزم في «المحلى» (5/ 49): «وسواء فيما ذكرنا في وجوب الجمعة للمسافر في سفره والعبد والحر والمقيم ... إلى قوله (ص 51): قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا

نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} قال على: فهذا خطاب لا يجوز أن يخرج منه مسافر ولا عبد بغير نص من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». اهـ. وقال البغوي في شرح السنة (4/ 226): «ولا تجب على المسافر وذهب ألنخعي والزهري إلى أن المسافر إذا سمع النداء (¬1) فعليه حضور الجمعة». وقال النووي في المجموع (4/ 351): «لا تجب الجمعة على المسافر هذا مذهبنا لا خلاف فيه عندنا وحكاه ابن المنذر وغيره عن أكثر العلماء وقال الزهري والنخعي: إذا سمع النداء لزمه قال أصحابنا: ويستحب له الجمعة للخروج من الخلاف ولأنها أكمل هذا إذا أمكنه ...» اهـ. قال العمراني في البيان (2/ 543): «ولا تجب الجمعة على المسافر وبه قال عامة الفقهاء، وقال الزهري والنخعي إذا سمع النداء وجبت عليه، دليلنا حديث جابر، ولأنه مشغول بالسفر ويستحب له إذا كان في بلد وقت الجمعة أن يحضرها». وقال ابن هبيره في الإفصاح (2/ 93): «واتفقوا على أن الجمعة لا تجب على صبي ولا عبد ولا مسافر ولا امرأة إلا رواية عن أحمد رواها في العبد خاصة». اهـ. ونقل الاتفاق صديق حسن خان عن صاحب المسوي ... انظر الروضة الندية (1/ 341). ¬

(¬1) سماع النداء محله: (أ) إذا كان المؤذن صيتًا. (ب) والأصوات هادئة. (جـ) والرياح ساكنة. (د) والموانع منتفية. اهـ. من الإنصاف (5/ 66) زاد في المغني. (3/ 244 - 245). (هـ) والمستمع غير ساه ولا غافل. (و) وفي موضع عال، ولم يذكر الموفق الموانع فحاصل ما ذكر ستة وحَدُّوه بفرسخ. قلت: الفرسخ خمسة كيلو مترات.

وقال المجد في المحرر (1/ 142): «ولا تجب على مسافر له القصر». وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجموع (24/ 184): «وكذلك يحتمل أن يقال بوجوب الجمعة على من في المصر من المسافرين، وإن لم يجب عليهم الإتمام كما لو صلوا خلف من يتم فإن عليهم الإتمام تبعًا للإمام، كذلك تجب عليهم الجمعة تبعًا للمقيمين؛ لأن قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ ...} ونحوها يتناولهم وليس لهم عذر، ولا ينبغي أن يكون في مصر المسلمين من لا يصلي الجمعة إلا من عاجز عنها؛ كـ: المريض، والمحبوس، وهؤلاء قادرون عليها. لكن المسافرون لا يعقدون جمعة لكن إذا عقدها أهل المصر صلوا معهم وهذا أولى من إتمام الصلاة خلف الإمام المقيم». اهـ. ونقله عنه في الاختيارات ملخصًا (ص 119). وقال في الفروع (2/ 74): «ويحتمل أن يلزمه تبعًا للمقيمين خلافًا لهم قاله شيخنا وهو متجه». اهـ. يعني بشيخنا شيخ الإسلام ونقله ابن قاسم عن الشيخ وصاحب الفروع قال وهو من المفردات. وقال الحافظ ابن رجب في شرحه على البخاري المسمى فتح الباري (1/ 403): على قول البخاري: «باب من أين تؤتي الجمعة وعلى من تجب» لقول الله - عز وجل -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وقال عطاء: إذا كنت في قرية جامعة، فنودي بالصلاة من يوم الجمعة، فحق عليك أن تشهدها، سمعت النداء أو لم تسمعه. وكان أنس بن مالك في قصره، أحيانًا يجمع، وأحيانًا لا يجمع، وهو بالزاوية على فرسخين.

قال: «تضمن الذي ذكره مسألتين: المسألة الأولى: أن من هو في قرية تقام فيها الجمعة، فإنه إذا نودي فيها بالصلاة للجمعة وجب عليه السعي إلى الجمعة، وشهودها سواء سمع النداء أو لم يسمعه، وقد حكاه عن عطاء. وهذا الذي في القرية، إن كان من أهلها المستوطنين بها، فلا خلاف في لزوم السعي إلى الجمعة له، وسواء سمع النداء أو لم يسمع، وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد، ونقل بعضهم الاتفاق عليه. وإن كان من غير أهلها، فإن كان مسافرًا يباح له القصر، فأكثر العلماء على أنه لا يلزمه الجمعة مع أهل القرية، وقد ذكرنا فيما تقدم أن المسافر لا جمعة عليه. وحكي عن الزهري والنخعي، أنه يلزمه تبعًا لأهل القرية. وروى عن عطاء - أيضًا - أنه يلزمه. وكذا قال الأوزاعي: إن أدركه الأذان قبل أن يرتحل فليجب ... الخ». وقال الصنعاني في سبل السلام (2/ 157): في شرح حديث ابن عمر «ليس على مسافر جمعة» ما نصه: «والمسافر لا يجب عليه حضورها وهو يحتمل أن يراد به: مُبَاشِر السفر وأما النازل فتجب عليه، ولو نزل بمقدار الصلاة وإلى هذا جماعة من الآل وغيرهم، وقيل لا تجب عليه؛ لأنه داخل في لفظ المسافر وإليه ذهب جماعة من الآل أيضًا وغيرهم وهو الأقرب؛ لأن أحكام السفر باقية له من القصر ونحوه، ولذا لم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - صلي الجمعة بعرفات في حجة الوداع؛ لأنه كان مسافرًا، وكذلك العيد تسقط صلاته على للمسافر، ولذا لم يرو أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة العيد في حجته، وقد وهم ابن حزم - رحمه الله - فقال إنه صلاها في حجته، وغَلَّطَهُ العلماء». اهـ.

وقال في مطالب النهي في شرح غاية المنتهى (1/ 758): «ولا تجب على مسافر أبيح له القصر؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره فلم يصل أحد منهم الجمعة فيه مع اجتماع الخلق الكثير، وكما لا تجب عليه لا تلزمه بغيره نص عليه، فلو أقام المسافر ما يمنع القصر لشغل أو علم أو نحوه، ولم ينوِ استيطانًا لزمه بغيره لعموم الآية والأخبار» اهـ. وفي الدرر السنية (5/ 6): سُئِل الشيخ عبد الله بن محمد عن المسافر إذا أدركته الجمعة. فأجاب المسافر إذا قدم ولم ينوِ إقامة تمنع القصر والفطر في رمضان فهذا لا جمعة عليه بحال، فإذا صلى الجمعة مع أهل البلد أجزأته، والأفضل في حقه حضورها إذا لم يمنع مانع، فإن كان المسافر قد نوى إقامة مدة تمنع القصر والفطر فهذا تلزمه بغيره، فإذا كان في بلد تقام فيها الجمعة وجب عليه حضورها. اهـ. وقال الشيخ محمد بن عثيمين: في الشرح الممتع (5/ 15): بعدما قرر عدم وجوب الجمعة على المسافر بل بعدم صحتها من المسافرين قال ما نصه: «أما المسافر في بلد تقام فيه الجمعة كما لو مر إنسان في السفر ببلد ودخل فيه ليقيل ويستمر في سيره يعد الظهر فإنها تلزمه الجمعة لعموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وهذا عام ولم نعلم أن الصحابة الذين يفدون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويبقون إلى الجمعة يتركون صلاة الجمعة بل إن ظاهر السنة أنهم يصلون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -». اهـ. وقرر في فتاويه مثله (16/ 74). وحاصل ما قيل في هذه المسألة: 1 - وجوب حضور الجمعة وأدائها، وقال به: النخعي، والزهري، وعطاء، والأوزاعي، والبخاري، وابن حزم، وشيخ الإسلام، وابن حجر، وصاحب الفروع، وابن عثيمين ... وغيرهم.

2 - عدم وجوب حضور الجمعة، وقال به جماهير الأمة كما نقله: ابن المنذر، وابن رجب ... وغيرهم. 3 - استحباب حضور الجمعة، لأنه أولى وأكمل وخروجًا من الخلاف، ومما قال به: الموفق (3/ 220) ونقله النووي عن بعض أصحابه من الشافعية وقال في الإنصاف (5/ 175): فائدة: كل ما لا تجب عليه الجمعة لمرض أو سفر أو اختلف في وجوبها عليه كالعبد ونحوه فصلاة الجمعة أفضل في حقه، وذكره ابن عقيل وهذا القول لا ينافي ما قبله. وخلاصة حجج الموجبين: - عموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ...} الآية، وهذا في البلد يسمع النداء، فهذا العموم يتناوله وليس له عذر في التخلف. - أن الصحابة في المدينة كانوا يَفِدُون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويشهدون الجمعة ولا يتخلفون عنها ... وبينوا ذلك فقالوا: لما كان مسافرًا جادًّا به السير كان له الترخص بكامل رخص السفر من القصر والجمع والفطر والتنفل على الدابة، وإذا نزل في مكان فإن جماعة من أهل العلم يقولون يقصر مع التوقيت إما وجوبًا وإما استحبابًا، ويمنعونه من التنفل على الدابة، ومع ترخيصهم له بالفطر والقصر، ويقولون: إن الفطر والقصر مشروع له في الإقامات التي تتخلل في السفر بخلاف الصلاة على الراحلة فإنه لا يشرع إلا في حالة السير، ولأن الله علق الفطر والقصر بمسمى السفر بخلاف الصلاة على الراحلة، فليس فيه لفظ عام بل فيه الفعل الذي لا عموم له، فهو من جنس الجمع بين الصلاتين الذي يباح للعذر مطلقًا.

وقالوا أيضًا: إن نزول المسافر في مصر ومكثه مدة لا تمنع القصر، فما الذي يخرجه من عموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وهو من الذين آمنوا وهو شاهد يسمع النداء معافى، فما الذي يحجزه عن شهود هذا الخير وامتناعه من السعي إلى ذكر الله؟. قالوا: وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة العيد بخروج العواتق وذوات الخدور والحيض ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، وأيضًا والجمعة عيد المسلمين في الأسبوع، وهي عيد بالنص والإجماع، فلابد أن يخرج لها من كان بالمصر من الذكور البالغين غير المعذورين والمسافر المستقر غير معذور، وكيف يأمر النساء بالخروج من خدورهن والحيض ليشهدن العيد ويدع المسافرين فلا يأمرهم بشهود الجمعة؟ بل أمرهم بشهود الجمعة أولى، وأيضًا: لم نعلم أن الصحابة الذين كانوا يفدون على النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتخلفون عن الجمعة معه، وقد أخرج مسلم من طريق سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال: قال أبو رفاعة: «انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب قال: فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ قال: فأقبل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتى بكرسي حسبت قوائمه حديدًا قال: فقعد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم أخرها» ومسلم أخرجه في أبواب الجمعة (¬1) وهذا هدى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه، وقالوا: إن من القواعد المقررة عند علماء الملة «أنه يثبت تبعًا مالا يثبت استقلالًا»، وهذه قاعدة صحيحة عند جماهير علماء الأمة على اختلاف مذاهبهم وقد اختلفت تعبيراتهم عنها، فعند الحنابلة ما قدمناه من لفظ القاعدة وعند الشافعية يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها، وعند الأحناف الأصل أنه قد يثبت الشيء تبعًا وحكمًا وإن كان قد يبطل قصدًا، وقد ضرب العلماء لهذه القاعدة أمثلة كثيرة في العبادات والمعاملات، وقد دلت عليها الأدلة الشرعية وجاءت ¬

(¬1) برقم (876) ..

بتقريرها ومسألتنا فرد من أفراد تلك القاعدة: فلما كان المسافر قارًّا في البلد، كان حكمه في إجابة نداء الجمعة حكم المقيمين كما لو صلى المسافر خلف من يُتِم كان عليه أن يُتِم تبعًا للإمام، كذلك يجب عليهم الجمعة تبعًا للمقيمين، بل شهودهم الجمعة أولى من إتمامهم الصلاة خلف المقيم (¬1). قال المسقطون: مهلًا فقد أجلبتم علينا بخيلكم ورجلكم، وقد قلتم فأكثرتم وأحسنتم، فأنصفونا فإنا نقول إن الله قد علَّق أحكامًا كثيرة بمسمى السفر من القصر والفطر والمسح ثلاثًا عن الخفين، والعفو عن الجمعة والاستعاضة عنها بالظهر مقصورة رحمة من الله وتخفيفًا، وكل ذلك صدقة من الله على عباده فاقبلوا صدقته واكلفوا من الأعمال ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا ... وهذه المسامحة والعفو والتخفيف لا يحل رفعها عن عباد الله والاشتقاق عليهم إلا بحجه بينه من كتاب الله وسنة نبيه أو إجماع متيقن أو قياس صحيح يجب المصير إليه، وأين هذا في مسألتنا؟ فأما قولكم: عموم الآية وشمولها للمسافر القار فنحن نمنع ذلك. فكما لم يجب عليه الصوم ولم يدخل في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، كذلك لم يدخل في عموم آية الجمعة، وسبب سقوط الصوم عنه السفر بنص الآية قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فكذا في مسألتنا ونحن معنا فهم السلف وجمهورهم، فهذا ابن عمر يقول: «لا جمعة على مسافر» فهذا عذرهم الذي عذرهم به السلف، وأنتم أبيتم ذلك .. !! وأما قولكم: إن المسافر إن مكث بمكان لا يقطع حكم السفر فإنه لا ينتفل على الدابة ما دام نازلًا، وتتوصلون بهذا إلى أن أحكام المسافر القار تتعبض! فنعم. فلا حاجة له إلى ركوب دابته والتنقل عليها ما دام نازلًا، وإنما رخص له في حال السير وهكذا ثبتت به السنة. فكان ماذا؟!! ¬

(¬1) انظر كلام شيخ الإسلام المتقدم.

وأما قولكم: فكيف يأمر الحيض وذوات الخدور بالخروج للعيد ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، فكيف لا يشهد المسافر القار الخير في الجمعة ودعوة المسلمين وذكر الله؟ فالجواب: أننا نحاكمكم إلى أنفسكم فالعيد إنما هو مرتان في السنة ومجمعه أكبر مجامع المسلمين بعد مشهد عرفة، فشرع لعامة المسلمين شهوده ومنهم المذكورات لقلة دورانه في الحول، أما الجمعة فإنها تتكرر في السنة نحوًا من خمسين مرة، وأيضًا العيد لو لم تشهد المرأة فإنه لا بدل له، والجمعة لها بدل مفروض فلم يستويا. وأما قولكم: لم نعلم أن الصحابة الذين كانوا يقصدون النبي - صلى الله عليه وسلم - ويفدون إليه أنهم كانوا يتخلفون عن التجميع معه، فنعم فلعمر والله لقد كانوا يشهدونها ويحرصون عليها، فلقد كان نظرهم إليه وسماع كلامه أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم والناس أجمعين، ونحن نشهد الله على ذلك فإنه أحب إلينا من آبائنا وأمهاتنا وأولادنا والناس أجمعين، ولو خيرنا بين لقياه - صلى الله عليه وسلم - مع ذهاب الأهل والأولاد والأموال وأهل الأرض كلهم لاخترنا لقياه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك بأبي هو وأمي، على أن الصحابة - رضي الله عنهم - كان لزامًا عليهم إذا كانوا معه - صلى الله عليه وسلم - أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62]. وقد فسر الأمر الجامع بشهود الجمعة أو كانوا في زحف، صح التفسير بذلك عن الزهري وابن جريج كما رواه ابن جرير عنهما واختاره، وهذا يعلم أصحابه المقيمين والوافدين إليه وقد التزم نظير ذلك بعض أهل العلم في مسألتنا فقالوا: إذا حضر المسافر المسجد الجامع لزمته صلاة الجمعة.

وقد لام النبي - صلى الله عليه وسلم - من دخل المسجد ولم يصل، وقال: «ما منعكما أن تصليا معنا» (¬1). مع أنهما قد صليا في رحالهما ... وهذه المسألة أخص من المسألة المتنازع فيها. وأما قولكم: «إنه يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا»، وأن المسافر يأخذ حكم المقيم إن كان ماكثًا نازلًا في وجوب إجابة النداء، فنحن نسلم بصحة هذه القاعدة، ولكننا نقول: إن محلها ما لم يكن استقل التبع بحكم آخر يمنع إلحاقه بالمتبوع، واعتبر هذا بالبهيمة المذكاة إن وجد جنين في بطنها أنه إذا خرج ميتًا فهو كجزء من أجزائها، وإن خرج حيًّا فلا بد من تذكيته ولا يتبع أمه، وفي مسألتنا فإن المسافر مستقل بأحكام خاصة تناسب حاله فلا يخرج عنها إلا بدليل، وإنما يثبت تبعًا هنا أهل مصر ممن لا يسمع النداء ومن كان حوله وحده كثير منهم بفرسخ. فهذا نهاية إقدام الفرقين وغاية سجال الطائفتين. وأنا على مذهب جماهير الأمة (¬2) من عدم الوجوب والإلزام، نعم يستحب شهودها من غير حرج وانحتام. قال الشاطبي في الموافقات (1/ 443): وأما الرابع فكأسباب الرخص هي موانع من الانحتام بمعنى: أنه لا حرج على من ترك العزيمة ميلًا إلى جهة الرخصة كقصر المسافر وفطره وتركه الجمعة وما أشبه ذلك. وبهذا ننهي هذا البحث في مسألة صلاة المسافر. وقوله: (.. ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى المَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَافَتِهِ القَصْوَاءِ إلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ المُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ¬

(¬1) رواه أبو داود (575)، والترمذي (219)، والنسائي (858)، وأحمد (4/ 160، 161)، وغيرهم. (¬2) قال القرافي في الفروق (2/ 557): والحق لا يفوت الجمهور غالبًا.

وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ القُرْصُ، وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ اليُمْنَى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ، السَّكِينَةَ»، وَكُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ ...) ومما ينبغي أنْ يعلم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف ذلك اليوم مفطرًا كما ثبت عنه في الصحيح أنه شرب شيئًا من اللبن (¬1)، وجاء عنه في السنن «أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة» (¬2) لكن في إسناده إبراهيم بن مهدي الهجري وضعفه غير واحد وذكر العقيلي هذا في منكراته، فالحديث لا يثبت لكن الصيام مكروه. وروى مالك في موطئه عن عائشة - رضي الله عنها - بإسناد صحيح (أنها كانت تصوم يوم عرفة بعرفة) (¬3) والسنة خلاف هذا، فهذا من اجتهادها. وهذا اليوم هو أعظم الأيام وينبغي للإنسان أن يهتبل (¬4) هذه الفرصة العظيمة وهذا اليوم وهذه العشية فلا تذهب عليه سُدى. ¬

(¬1) رواه البخاري (1575، 1578، ومواضع) ومسلم (123)، من حديث أم الفضل - رضي الله عنها -: «أن ناسا اختلفوا عندها يوم عرفة في صوم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه». (¬2) رواه أبو داود (2440)، وابن ماجه (1732)، وأحمد (2/ 304، رقم 8081)، وابن خزيمة (2/ 292)، والحاكم (1/ 600)، والطبراني في الكبير (3/ 81 رقم 2556)، والبيهقي في الكبرى (4/ 284 رقم 8172، 8173، 5/ 117 رقم 9255)، وقال: كذا رواه أبو داود الطيالسي عن حوشب وفي حديث أم الفضل كفاية، والنسائي في الكبرى (2/ 155 رقم 2830)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 348)، وقال: هذا حديث غريب من حديث عكرمة تفرد به عنه مهدي وعنه حوشب، وانظر التلخيص (2/ 213 رقم 929). قال العلامة الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة: إسناده ضعيف لجهالة العبدي واسمه مهدي بن حرب قال ابن معين وأبو حاتم: لا أعرفه. ومما ورد في هذا الباب: - ما رواه النسائي في السنن الكبرى (2/ 156 رقم 2832) قال: أنبأ إسحاق بن منصور قال أنبأ عبد الرحمن قال حدثنا سفيان وشعبة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن عبيد بن عمير قال: كان عمر ينهى عن صوم يوم عرفة. - وما رواه الترمذي (751)، وقال حديث حسن، وأحمد (2/ 47 رقم 5080)، والدرامي (1765)، وابن حبان (8/ 369 رقم 3604)، وأبو يعلى (9/ 445 رقم 5595)، وعبد الرازق (4/ 285 رقم 7829)، وابن شيبة (3/ 195 رقم 13380) أن ابن عمر - رضي الله عنه - سُئِل عن صوم يوم عرفه فقال: «حججت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يصمه، وحججت مع أبي بكر فلم يصمه، وحججت مع عمر فلم يصمه، وحججت مع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا أمر به ولا أنهى عنه»، وإسناده صحيح كما ذكر العلماء. (¬3) رواه مالك في الموطأ (1/ 375 رقم 836)، وعبد الرزاق في مصنفه (4/ 157 رقم 7310)، وابن أبي شيبة (2/ 341 رقم 9715). (¬4) يهتبل: يغتنم.

قوله: (.. حَتَّى أَتَى المُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا المَغْرِبَ وَالعِشَاءَ، بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ...) فيه ثلاث مباحث: الأول: في قوله: (بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ) وهذا هو السنة، وهو أصح ما جاء في صفة الأذان والإقامة يعني: في عدد الأذان، فالأذان لا يؤذن مرتين، إنما يؤذن أذانًا واحدًا ويقيم أقامتين، وما سوى ذلك فهو وهم، وإن وقع في الصحيح شيء منه عن ابن مسعود (¬1) فهو من اجتهاده، وأما عن ابن عمر فوقع اضطراب كثير. فالسنة للمسافر أنه إذا صلى صلاة مجموعة يؤذن للأولى ويقيم للأولى والثانية. وهو ما جاء في حديث جابر؛ لأن الأذان دعوة غائبين وقد حضروا به، فلم يحتج إلى تكراره، وأما الإقامة تأهب للدخول في الصلاة، فهو دعوة حاضرين فاحتيج إلى ذلك. فافهم. الثاني: في قوله: (فَصَلَّى بِهَا المَغْرِبَ وَالعِشَاءَ) وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أتى مزدلفة جمع بين المغرب والعشاء، فبادر بصلاة المغرب ثم بعد ذلك صلى العشاء - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: في قوله: (وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا) وفيه أنه لم ينتقل لمغرب ولا لعشاء، وثبت في الصحيح أنهم أناخوا دوابهم بين المغرب والعشاء (ولم يسبح بينهما) (¬2) يعني: لم يصل بينهما صلاة النافلة (فالسبحة) هنا النافلة. وفي البخاري عن ابن مسعود أنه صلى بعد المغرب ركعتين، وكذلك أذن للعشاء (¬3)، وهذا من اجتهاده والسنة خلافه. ¬

(¬1) سيأتي قريبًا. (¬2) رواه البخاري (139، 1588)، ومسلم (1280). (¬3) رواه البخاري (1591).

وجاء عن ابن عمر عند البخاري (ولا على إثر كل واحده منهما) (¬1). فلم يصلي بعد المغرب ولا بعد العشاء شيء، لكنه أوتر - صلى الله عليه وسلم - لعمومات الأحاديث؛ ولأنه الأصل. وقوله: (ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ) هذا ليس معناه أنه لم يستيقظ - صلى الله عليه وسلم - حتى الفجر، فكيف وقد أَذِنَ - صلى الله عليه وسلم - للظعن أن يسيروا، فالظاهر أنه استيقظ - صلى الله عليه وسلم - في آخر الليل بعض الوقت، وَأَذِنَ لبعض أزواجه كسودة (¬2) وأم حبيبه (¬3)، وكذلك بعث ابن عباس في ضعفة أهله (¬4)، فليس فيه دليل على ترك صلاة الوتر في تلك الليلة، لكنه يأتي بأصل الوتر ولا يطيل حتى يرتاح، ويستعد لأعمال يوم العاشر يوم العيد يوم الحج الأكبر يوم النحر. ¬

(¬1) رواه البخاري (1589). وهنا فائدة حديثية مهمة: أن زيادة «ولا على إثر كل واحدة منهما» تفرد بها ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن ابن عمر، فالحفاظ من أصحاب الزهري كمالك ويونس ومعمر ليس أحد منهم يذكر هذه الزيادة، وأيضًا أصحاب سالم لا يذكرونها، وكذا أصحاب ابن عمر لا يذكرونها كسعيد بن جبير ونافع، ولا يذكروها سليم والد الأشعث. فالقدر المحفوظ في الخبر: «ولم يسبح بينهما» وهو المذكور في حديث جابر حيث قال: «حتى أتى مزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا ثم اضطجع»، وأيضًا في رواية ابن أبي ذئب عن الزهري كلام يقع فيها اضطراب وقد قيل إنها عرض. (¬2) روى البخاري (1596، 1597)، ومسلم (1290) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «نزلنا المزدلفة فاستأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - سودة أن تدفع قبل حطمة الناس - وكانت امرأة بطيئة - فأذن لها فدفعت قبل حطمة الناس، وأقمنا حتى أصبحنا نحن، ثم دفعنا بدفعه، فلأن أكون استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما استأذنت سودة أحب إلي من مفروح به»، وحطمة الناس أي: زحمتهم. (¬3) روى مسلم (1292) عن عطاء أن ابن شوال أخبره أنه دخل على أم حبيبة فأخبرته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث بها من جمع بليل. (¬4) روى البخاري (1594)، ومسلم (1293) عن ابن عباس قال: «بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الثقل (أو قال: في الضعفة) من جمع بليل»، وفي لفظ: «أنا ممن قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ضعفة أهله».

وهو أفضل الأيام كما في حديث عبد الله بن قرط: «أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر» (¬1) يعني يوم الحادي عشر يوم الاستقرار بمني. والخلاصة: أن الوتر مشروع في كل السَنَة ومن خالف ذلك فإنما هو شيء زاده من عنده. قوله: (.. ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، وَصَلَّى الفَجْرَ، حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى المَشْعَرَ الحَرَامَ (¬2)، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَدَعَاهُ، وَكَبَّرَهُ، وَهَلَّلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلًا ...). هذا هو السنة أنه يدفع قبل طلوع الشمس، كما أن السُّنَّة أنه يدفع في عرفة بعد غروب الشمس واختفاء القرص، فلا يدفع قبل غروب الشمس فيشابه بالمشركين، ولا يدفع من مزدلفة بعد طلوع الشمس فيتشبه بالمشركين، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - خالفهم في هذين الموقفين. وهكذا استقر الحج على مخالفة المشركين؛ لأن المشركون كانوا لا يخرجون إلى عرفة وهو خَرَجَ - صلى الله عليه وسلم -، ودفع بعد ما غربت الشمس وكانوا يدفعون قبل ذلك، وأفاض من مزدلفة قبل طلوع الشمس وكانوا يفيضون بعد طلوع الشمس. وقوله: (حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ) ومحسر من مني كما ثبت في حديث الفضل بن عباس عند مسلم قوله: «ومحسر من منى» (¬3). ¬

(¬1) رواه أبو داود (1765)، وأحمد (4/ 350 رقم 19098)، وابن خزيمة (2917)، والحاكم في المستدرك (4/ 246 رقم 7522)، وصححه ووافقه الذهبي، والطبراني في الأوسط (3/ 44 رقم 2421)، ومسند الشاميين (1/ 272 رقم 475)، والبيهقي في الكبرى (5/ 237 رقم 9994) مطولًا، ورواه ابن حبان (7/ 51 رقم 2811)، وابن خزيمة (2866، 2966) مختصرًا. (¬2) وفي رواية غير التي أوردها المؤلف: (حتى أتى المشعر الحرام فرقِي عليه). (¬3) رواه مسلم (1282).

وقال ابن القيم في الهدي: ومحسر حرم وليس بمشعر وهو برزخ بين مزدلفة ومنى. ورحم الله الإمام ابن القيم فليس هذا بصواب فهو من منى، وإذا قلنا هو من منى فهو مشعر يعني: مكان للنسك، فالمشعر هو المكان للنسك. قوله: (.. ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الجَمْرَةِ الكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، كُلُّ حَصَاةٍ مِثْلُ حَصَى الخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الوَادِي ...) فيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انطلق من مزدلفة إلى منى راكبًا. وفي حديث كريب أنه سأل أسامة بن زيد كيف صنعتم حين ردف رسول الله؟ فذكر الحديث، فكيف فعلتم حين أصبحتم؟ قال: ردفه الفضل بن عباس، وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي (¬1). وبعض أصحابه رموا راكبين وبعضهم رموا على أقدامهم. والحصيات أخذها - صلى الله عليه وسلم - من الطريق، فلم يثبت أنه أخذها من مزدلفة، فالظاهر أنه أخذها قُبَيْل رمي الجمرة، ولكن إن أخذها الحاج من مزدلفة على وجهٍ لا يقصد به التسنين بل يقصد التهيؤ، حتى يكون مستعد فأول ما يأتي منى يرمي؛ ولأنه قد لا يجد مكانًا يأخذ منه فلا يأس. أما جمع السبعين حصاة لمن يتأخر فيمكث ثلاثة أيام وَصرُّها معه هذا كله خلاف السنة. قوله: (.. ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى المَنْحَرِ فَنَحَرَ، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَفَاضَ إلَى البَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُطَوَّلًا). ¬

(¬1) رواه مسلم (1280).

لما أتى منى - صلى الله عليه وسلم - كانت تحية منى رمي الجمار وكان يبلي حتى شرع في رمي الحصاة الأولى. وجاء عند ابن خزيمة: فلم يزل يلبي حتى رمى الجمرة ولم يقطع التلبية حتى آخر حصاه (¬1). ولكن هذه الرواية شاذة، والصحيح أنه قطع التلبية مع أول جمرة فكان يكبر وقطع التلبية؛ لأنه شرع في أسباب التحلل، ولما رمى - صلى الله عليه وسلم - ذهب ونحر ثلاثًا وستين بدنه، وكان قد أهدي مائة بدنه فنحر ثلاثًا وستين بيده - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حبان: وفيه إشارة إلى سني عمره (¬2). وكمل الباقي علي - رضي الله عنه -. ثم بعد ذلك حلق رأسه، ثم طيبته عائشة - رضي الله عنها -، ثم ذهب إلى البيت فطاف - صلى الله عليه وسلم - ولم يَسْعَ؛ لأنه قد تقدم سعيه بعد طواف القدوم. وفي حديث جابر هنا (فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّة). وحديث ابن عمر في مسلم من طريق عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى» (¬3). ¬

(¬1) رواه ابن خزيمة (4/ 281 رقم 2885). والثابت رواية مسلم (1281) وغيره، عن الفضل - رضي الله عنه - قال أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة. قال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على الحديث: (الجمرة) المراد جمرة العقبة وهي الجمرة الكبرى فعندها يقطع التلبية بأول حصاة ترمى. (¬2) ذكره ابن حبان (9/ 250 رقم 3943) من قول أبي حاتم. (¬3) رواه مسلم (1308).

ولم يروه البخاري وإنما علقه عن ابن عمر موقوفًا فقال: وقال لنا أبو نعيم: حدثنا سفيان (وهو الثوري) عن عبد الله به موقوفًا، وليس فيه ذكر الصلاة، ثم قال البخاري: ورفعه عبد الرزاق عن عبيد الله (¬1). مشيرًا إلى رواية مسلم فلا يصح أن يقال عن الحديث متفق عليه. وطريق الجمع على كل حال ممكن لعل أصحابه - رضي الله عنهم - انتظروه - صلى الله عليه وسلم - فجاء فصلى بهم، وإلا بعض أهل العلم رجح لفظ حديث جابر؛ لأنه ضبط الحج وحفظه. وكل يوم من أيام الحج له اسم: - فاليوم العاشر يسمى يوم النحر. - والحادي عشر يوم القر. - والثاني عشر يسمى يوم النفر الأول عند أهل العلم. - والثالث عشر يسمى يوم النفر الثاني. - ويوم الثامن يسمى يوم التروية. - ويوم التاسع يسمى يوم عرفة. والفوائد في هذا الحديث كثيرة، ولكن سياقه وما تقدم من فوائد فيها الكفاية إن شاء الله. ¬

(¬1) انظر صحيح البخاري (1645).

الحديث الثلاثون الذكر بعد التلبية

الحديث الثلاثون الذكر بعد التلبية وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ سَأَلَ اللهَ رِضْوَانَهُ وَالجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنَ النَّارِ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (¬1). هذا الحديث ضعيف وليس بشيء ففي إسناده شيخ الشافعي إبراهيم بن محمد الأسلمي (تالف) (¬2) كذلك فيه (صالح بن محمد بن زائدة) منكر الحديث، وهو يرويه عن عمارة عن خزيمة بن ثابت عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يشرع هذا الذكر بعد التلبية. والمؤلف ذكره لأنه ورد في الباب ولم يرد أن هذا صحيح ولذلك قد نص على ضعفه. ¬

(¬1) ضعيف: رواه الشافعي في «مسنده» (1/ 307). (¬2) ابن أبي يحيى وإن كان كذابًا فإنه قد توبع عند الدارقطني (2/ 238) والبيهقي (5/ 46).

الحديث الحادي والثلاثون

الحديث الحادي والثلاثون وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «نَحَرْت هَاهُنَا، وَمِني كُلُّهَا مَنْحَرٌ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْت هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ] (¬1). هذا السياق مقطع من الحديث أجزاء مجموعة، وإلا هذا التركيب لم يقله النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا النسق. فقوله: «نَحَرْت هَاهُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ»، وجاء في لفظ: «وفجاج مكة طريق منحر» وهذا من تيسير الله - عز وجل -؛ أن ينحر الإنسان بمنى وينحر بمزدلفة وينحر بمكة في حدود الأميال في الحرم، فذبح الهدي لا بد أن يكون في الحرم، ولا يجزئ عند أهل العلم أن يُذْبَح في الحل كأن يُذْبَح في عرفة أو التنعيم فلابد أن يذبح في الحرم، والمشهور عند أهل العلم أنه إذا ذبح في الحل أن هذا لا يجزئ ولابد من الإعادة. وقوله: «وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» هذا يعني أن الإنسان يقف في أي مكان إن تيسر له المكان الذي وقف فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلا ففي أي مكان من عرفة وكذلك في (جمع) وهي مزدلفة. ¬

(¬1) رواه مسلم برقم (1218).

الحديث الثاني والثلاثون مكان دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة وخروجه

الحديث الثاني والثلاثون مكان دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة وخروجه وَعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها -، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا جَاء إلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا. [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). أعلاها يسمى الحجون ويسمى الآن (آبار الزاهر) وأسفلها يسمى (المسفلة) لكن هل هذا على سبيل السُّنِّيَّة أو فعله لأنه أسمح لدخوله وخروجه؟ فيه خلاف بين أهل العلم، فقال بعضهم: إن هذا من جنس الدخول من طريق والرجوع من آخر، نظير ما يُفْعَل في العيد، والأقرب والله أعلم أنه سُنَّة، ثم إن في سهولة أيضًا فإنه يأتي من شرق الكعبة من وجهها من جهة الباب ويخرج من دبر الكعبة. ¬

(¬1) رواه البخاري (1577)، ومسلم (1258).

الحديث الثالث والثلاثون المبيت بذي طوى

الحديث الثالث والثلاثون المبيت بذي طوى وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما -، أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إلَّا بَاتَ بِذِي طُوًى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). (ذِي طُوًى) يسمى الآن آبار الزاهر. والنبي - صلى الله عليه وسلم - بات بذي طوى وهو (الأبطح)، وهو الدخول من الحجون الذي ذكرناه فيما تقدم ويسمى (كداء)، ويسمى الخروج من أسفلها من مكان يقال له: (كُدي). قال بعضهم: (افتح وادخل واضمم واخرج). وفي الحديث: شرعية الاغتسال لدخول مكة. وفيه: جواز غسل المحرم ولو من غير جنابة.

الحديث الرابع والثلاثون

الحديث الرابع والثلاثون وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ الحَجَرَ الأَسْوَدَ وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الحَاكِمُ مَرْفُوعًا، وَالبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا (¬2). هذا الحديث يرويه الحاكم من طريق جعفر بن عبد الله، عن محمد بن عباس ابن جعفر بن عباس، وجعفر بن عبد الله ظن الحاكم أنه ابن عبد الله بن الحكم الثقة، والصحيح أنه جعفر بن عبد الله بن عثمان كما في سنن الدارمي، نص عليه غير واحد كالبيهقي والحافظ وغيرهم. والحديث هذا لا يثبت؛ لأن فيه أكثر من علة: 1 - فيه: جعفر هذا في حديثه وهم واضطراب كما قال العقيلي وذكر هذا الحديث في ترجمته. 2 - وأيضًا: الصحيح عن ابن عباس الوقف كما رواه عبد الرزاق عن ابن جريح قال: أخبرنا محمد بن عباد بن جعفر، عن ابن عباس، ووقفه وهذا إسناد صحيح، فالصحيح وقفه على ابن عباس. 3 - ويمكن أيضًا يضاف علة ثالثة: أن المحفوظ في الأحاديث الصحيحة التقبيل فقط، وليس في الدنيا شيء يُقَبَّل على وجه التعبد إلا الحجر الأسود، وليس في الدنيا شيء يستلم ويمسح على وجه التعبد إلا الحجر الأسود والركن اليماني. وبهذا يعلم أن ما يفعله الآن كثير من العوام من تقبيل المصحف ووضعه على الجبهة، أو وضعه على الوجه، أو السجود عليه كله من البدع ليس له أصل. وقد روى الدارمي في «سننه»: عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن أيوب عن ابن أبي مليكة أن عكرمة بن أبي جهل كان يضع المصحف على وجهه يقول: كلام ربي، ¬

(¬1) رواه البخاري (1553)، ومسلم (1259). (¬2) رواه الحاكم (1/ 455)، والبيهقي (5/ 74).

كلام ربي، لكن هذا لا يثبت؛ لأن ابن أبي مليكة لم يدرك عكرمة بن أبي جهل، فالانقطاع بينهما ظاهر، فعلى هذا لا يجوز تقبيل المصحف ولا وضعه على الوجه لضعف هذا الأثر ثم هو عن صحابي والأصل أن العبادات توقيفيه. وحديث الباب فيه تقبيل الحجر الأسود، وأما السجود عليه فهو مروي عن ابن عباس موقوفًا كما تقدم لكن لا يقال إنه بدعة؛ لأنه جاء عن صحابة. ومن فضائل الحجر الأسود ما رواه أحمد (1/ 307) والنسائي من طريق حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «نزل الحجر الأسود من الجنة». وهذا إسناد صحيح.

الحديث الخامس والثلاثون، والسادس والثلائون صفة الطواف بالبيت

الحديث الخامس والثلاثون، والسادس والثلائون صفة الطواف بالبيت وَعَن ابْن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَيَمْشُوا أَرْبَعًا، مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (¬1). وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما -، أَنَّهُ كَانَ إذَا طَافَ بِالبَيْتِ الطَّوَافَ الأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا. وَفِي رِوَايَةٍ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا طَافَ فِي الحَجِّ أَوِ العُمْرَةِ أَوَّلُ مَا يَقْدَمُ فَإِنَّهُ يَسْعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ بِالبَيْتِ وَيَمْشِي أَرْبَعَةً. [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬2). تركيب الحديث هذا فيه شيء من النظر؛ لأنه قال: (أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَيَمْشُوا أَرْبَعًا، مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ) فيوهم أنه يمشي أربعًا بين الركنين، ولكن السياق الصحيح بإسقاط لفظة: (أَرْبَعًا) (¬3) فيكون (أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَيَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ)، وهذا كان في عمرة القضية كانوا يمشون بين الركنين، ولكن استقرت السُّنَّة في حجة الوداع عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه رمل في الثلاثة كلها من الحجر إلى الحجر ومشى في الأربعة الباقية. وعندنا زيادة عن ابن عمر - رضي الله عنهما - (أَنَّهُ كَانَ إذَا طَافَ بِالبَيْتِ الطَّوَافَ الأَوَّلَ أي: (طواف القدوم) خَبَّ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا. وَفِي رِوَايَةٍ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا طَافَ فِي الحَجِّ أَوِ العُمْرَةِ أَوَّلُ مَا يَقْدَمُ فَإِنَّهُ يَسْعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ بِالبَيْتِ وَيَمْشِي أَرْبَعَةً). فيه: شرعية الرمل في طواف القدوم خاصة في الثلاث الأشواط الأولى. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1602)، ومسلم (1264). (¬2) أخرجه البخاري (1603)، ومسلم (1261). (¬3) رواه مسلم (1266).

وأما إذا كان الإنسان أتى البيت بعد أن أتاه أول مرة في طواف القدوم كما يفعل الآن الحجاج في طواف الإفاضة أو طواف الوداع؛ فإنهم لا يرملون في الثلاثة الأشواط الأولى؛ لأن الرمل إنما هو مشروع في طواف القدوم خاصة.

الحديث السابع والثلاثون

الحديث السابع والثلاثون وَعَنْهُ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُ مِنَ البَيْتِ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَّيْنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). هذا هو السنة استلام الركنين اليمانيين بتخفيف الياء الأولى؛ لأنها لا تشدد وإنما استلمهما النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهما على القواعد على قواعد إبراهيم، وَقَبَّل الركن الذي فيه الحجر لوجود الحجر، واستلم الركن اليماني؛ لأنه على قواعد إبراهيم فاستقرت السُّنَّة على هذا. فالخلاصة: فالحجر الأسود يُقِّبل ويُستلم فإن لم يستطيع تقبيله مسحه بيده وقبل يده. فإن لم يستطع مسحه بيده وكان بيده آله كـ: محجن أو عصا استلمه بالعصا أو بالمحجن وقبل المحجن. فإن تعسر أو تعذر ذلك فإنه يشير إليه ويكبر. فهذا كله اختص به الحجر وليس للركن اليماني من هذا سوى المسح فقط فإنه يُمسح، فإذا تعسر عليه فلا يشير إليه ولا يكبر وليس له إلا المسح فقط. وما ذكره ابن القيم في الهدي من قوله: وذكر الطبراني عنه - أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد جيد أنه كان إذا استلم الركن اليماني قال: «بسم الله والله أكبر ...». ¬

(¬1) رواه البخاري (1609) واللفظ له، ورواه مسلم (1267) بلفظ (يسمح) مكان (يستلم)، وهو عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. وعند مسلم (1269) من غير قوله: (من البيت)، وهو عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

ففي هذا نظر فالصحيح أن هذا الأثر موقوف على ابن عمر - رضي الله عنهما - كما رواه أحمد والطبراني في كتاب الدعاء له (2/ 1201) والبيهقي (9/ 79). وثانيًا: أن هذا عند الحجر الأسود، ففيه عند من أخرجه: (فيأتي البيت ويستلم الحجر ويقول: «بسم الله والله أكبر»، وليس في الخبر زيادة اليماني، والإمام ابن القيم - رحمه الله - ساقه من حفظه، وشيخنا ابن باز - رحمه الله - ذكر نحو كلام ابن القيم في منسكه فالقول فيه كما تقدم، وزيادة البسملة قبل التكبير من اجتهاد ابن عمر - رضي الله عنه -. أما الأركان الشامية والعراقية فإنها لا يشار إليها ولا يُكبَّر عندها ولا يلتفت إليها في أثناء الطواف؛ ولهذا أنكر ابن عباس على معاوية لما قال: ليس شيء من البيت مهجورًا. قال: صدقت ولكن ما كنا نفعل هذا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فرجع معاوية - رضي الله عنه -. ثم هل معنى هذا أن الكعبة لو كانت على قواعد إبراهيم أنها تستلم؟ نقول: هذا هو الأصل، ولكن هذه المسألة الآن غير متصورة؛ لأن الكعبة على ما تعلمون الآن ناقصة البناء فهذا هو البناء هو الذي كان على عهده - صلى الله عليه وسلم -. ولما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - حدّثت عائشة - رضي الله عنها - ابن الزبير بعدما ولي خلافة الحجاز وما والاه فمدها على الأركان الأربعة، ثم بعد ذلك لما صار بينه وبين عبد الملك ما صار وانتهى بقتله ردها عبد الملك بن مروان على ما كانت عليه، وزعم أن ابن الزبير كذب في خبره عن عائشة في بناء الكعبة، ثم ندم على ما وقع منه لما حدثه الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة أنه سمع عائشة - رضي الله عنها - تذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمنيه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم (¬1)، وخبر ندم عبد الملك بن مروان عند مسلم (¬2). ¬

(¬1) سيأتي الحديث قريبًا إن شاء الله. (¬2) روى مسلم (1333) قصة ندم عبد الملك بن مروان في قصة وفادة الحارث بن عبد الله على عبد الملك، وأنه فعلًا سمع من عائشة - رضي الله عنها - أنها نقلة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمنى أن يعيد بناء الكعبة على بناية إبراهيم - عليه السلام -.

ثم لما جاء بعض خلفاء بني العباس استفتى مالكًا في ذلك فقال: أخشى أن يصير ملعبة للملوك، فتركها فكانت على ما هي عليه إلى الساعة. قال الحافظ: ولم أقف في شيء في التواريخ على أن أحد من الخلفاء ولا من دونهم غير من الكعبة شيئًا مما صنعه الحجاج إلى الآن ... اهـ. ولعل في ذلك حكمة حتى يكون الإنسان يدخل الإنسان ويخرج من باب هذا الذي تمناه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لولا أن قومك حُدثاء عهد بكفر لنقضت الكعبة ولألصقت بابها بالأرض ولجعلت لها بابين باب يدخل منه الناس وباب يخرجون منه» (¬1). فهم الآن يدخلون ويخرجون من الفتحات التي عند الحِجر - هكذا يقال (الحِجر) ولا يقال: (حِجر إسماعيل)؛ لأن إسماعيل ليس مدفونًا هناك، ولم يصح هذا وكيف يصح هذا فيكون المسجد الحرام مبنيًا على قبر؟! إنما يقال له: الحِجر يعني: المحجور، ويقال له: (الحطيم) أي: المحطوم. ¬

(¬1) رواه البخاري (126، 1506، 1509، 3188، 4214، 6816)، ومسلم (1333).

الحديث الثامن والثلاثون الاعتقاد في الله وحده

الحديث الثامن والثلاثون الاعتقاد في الله وحده وَعَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَبَّلَ الحَجَرَ وَقَالَ: إنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). ما يقبل إلا الحجر الأسود كما تقدم، ولا يُمْسَح إلا هو والركن اليماني، وهذا التقبيل تأسيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وعبادة لرب العالمين، وأما ما بين الحجر الأسود والركن اليماني وحيطان الكعبة فإنها لا تستلم ولا تُقَبَّل، غاية ما فيه جاء في الملتزم أن الصحابة فعلوه عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو - رضي الله عنهم - (¬2) في بعضها التقييد بطواف الوداع، وفي بعضها الإطلاق في الملتزم ما بين الباب وما بين الحجَر، وجاء التزام الكعبة في الخارج في غير الملتزم من جماعة من السلف - رضي الله عنهم - والاقتصار على ما ورد عن الصحابة وهو المتعين. وروي كذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل الكعبة التزم جدارها من الداخل. والالتزام: أن يضع اليدين والصدر والخدين. وهذا جاء عند أحمد (5/ 209) والنسائي (5/ 220) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أسامة. وبعضهم أجاز الاستلام من الخارج قياسًا على هذا الحديث من الداخل قالوا: لما استلمها من الداخل جاز استلامها من الخارج! ولكن نقول الحديث أصلًا لا يثبت ولو ثبت فهو من الداخل والحديث فيه انقطاع بين عطاء وأسامة. ¬

(¬1) رواه البخاري (1597) واللفظ له، ومسلم (1270). (¬2) رواه مسلم (1271) عن سويد بن غفلة قال: رأيت عمر قبل الحجر والتزمه، وقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بك حفيًا.

الحديث التاسع والثلاثون، والأربعون

الحديث التاسع والثلاثون، والأربعون وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ - رضي الله عنه - قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَطُوفُ بِالبَيْتِ وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقَبِّلُ المِحْجَنَ. [رَوَاهُ مُسْلِمٍ] (¬1). وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ - رضي الله عنه - قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أَخْضَرَ. رَوَاهُ الخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذيُّ (¬2). حديث يعلى يرويه هؤلاء من طريق سفيان عن ابن جريج عن عبد الحميد وهو ابن جبير عن ابن يعلى عن أبيه وابن يعلى هذا هو صفوان لا بأس به فالحديث صحيح. والاضطباع هو: أن الإنسان يجعل الرداء وسطه تحت يده اليمنى وطرفاه على عاتقه الأيسر. وهذا يكون في طواف القدوم في الأشواط السبعة كلها وأما الرمل في الثلاثة الأولى. وفيه أيضًا: لبس الأخضر فلا بأس. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1275). (¬2) صحيح: رواه أبو داود (1883)، والترمذي (859)، وابن ماجه (2954) وأحمد (4/ 222، 223، 224)، واللفظ لأبي داود، وزيادة (أخضر) عند أبي داود فقط، وإسناده منقطع.

الحديث الحادي والأربعون صفة العودة من منى إلى عرفات

الحديث الحادي والأربعون صفة العودة من منى إلى عرفات وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ يُهِلُّ مِنَّا المُهِلُّ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ مِنَّا المُكَبِّرُ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ. [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). هذا الحديث جاء في صفة غدوه من منى إلى عرفات، وفيه: مشروعية التكبير ومشروعية التلبية للحاج، أما التلبية؛ فلأنه حاج، وأما التكبير؛ فلأنها من أيام التكبير. والتكبير المطلق يبدأ عند جماهير أهل العلم من دخول ذي الحجة حتى نهاية اليوم الثالث عشر من ذي الحجة تكبير مطلق في كل وقت، ولكن ليس في هذا التكبير المقيد في أدبار الصلاة فإنه يبدأ من فجر يوم عرفة كما صح ذلك عن ابن مسعود وعن جماعة من السلف - رضي الله عنهم - يبدأ من فجر عرفة، يكبر دبر كل صلاة (¬2) بعد الاستغفار ثلاثًا، واللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام. ويكبر ويستمر التكبير المطلق فيجتمعان يجتمع التكبير المطلق والمقيد من فجر يوم عرفة، وقال بعضهم: إن كان الإنسان حاجًّا من ظهر يوم النحر؛ لأنه قبله مشتغل بالتلبية، ولكن الصحيح أن الحاج يخلط التلبية بالتكبير كما دل عليه الحديث. وصفة التكبير كما روى ابن مسعود - رضي الله عنه - عند عبد الرزاق وعن سلمان «الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد» (¬3). ومن أحسن من تكلم على مسألة التكبير الحافظ ابن رجب - رحمه الله - في «فتح الباري» وقال: إن هذا العمل الذي ينقل عن السلف جيلًا بعد جيل يجري مجرى الخبر المسند، وان لم يكن فيه حديث مرفوع فالصحابة أسوة، ونقل إجماع الصحابة على هذا بل نقل الإجماع عن غير واحد كأحمد - رحمه الله - في التكبير المقيد. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1659)، ومسلم (1285). (¬2) سيأتي تخريجه إن شاء الله. (¬3) رواه الدارقطني (2/ 50)، والطبراني في الكبير (9/ 307)، وابن أبي شيبة (1/ 488، 490)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 315).

الحديث الثاني والأربعون إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للضعفاء

الحديث الثاني والأربعون إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للضعفاء وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الثَّقَلِ، أَوْ قَالَ فِي الضَّعَفَةِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ. [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). هذا فيه إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للضعفاء. وقوله: (الثَّقَلِ) المتاع والنساء وما أشبه ذلك إذا كُنَّ ضيفات. وجاء كذلك في حديث أسماء - رضي الله عنها - عند البخاري (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن) (¬2). وظاهر الحديث هذا أنه إذا أذِن لمن تعجل في آخر الليل أنه يقدم فيرمي حتى لا يدركهم الأقوياء؛ ولأن الرمي تحية منى فلا ينبغي أن يبدأ بغيره فهذا هو الأقرب بل هو ظاهر السنة. وفي حديث أسماء - رضي الله عنها - أنها رمت ثم أتت إلى مكانها ثم قال لها مولاها عبد الله - وهو ابن كيسان -: (وما أرانا إلا قد غلّسنا) قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أذن للظعن. فلا إشكال عندي في جواز الرمي لمن تعجل وذهب أخر الليل حتى لا يدركه الأقوياء، وأما أحاديث النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس يأتي الكلام عنها. ¬

(¬1) رواه البخاري (1856)، ومسلم (1293). (¬2) رواه البخاري (1595)، ومسلم (1291).

الحديث الثالث والأربعون إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للسودة أن تسبق إلى الرمي

الحديث الثالث والأربعون إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للسودة أن تسبق إلى الرمي وَعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ المُزْدَلِفَةِ: أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَهُ، وَكَانَتْ ثَبِطَةً - تَعْنِي ثَقِيلَةً - فَأَذِنَ لَهَا. [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). وعند مشايخنا أن من كان مع الضعيف من الأقوياء فإن حكمه كحكمه؛ لأنه قد يشق عليه الانفصال عنه فيرمي الضعيف ولا يرمي القوي فالأشبه أن هذا من باب «يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا»، والأفضل للقادر أن يؤخر لكن إن كان مع ضعفاء وشق عليه التأخير كما في مثل هذه الأزمنة من الزحام الشديد فلا بأس. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1680)، ومسلم (1290).

الحديث الرابع والأربعون النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس

الحديث الرابع والأربعون النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَرْمُوا الجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» [رَوَاهُ الخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ] (¬1). لا داعي لاستثناء النسائي، الحديث أخرجه النسائي وهذا سبق قلم من الحافظ فالصحيح رواه الخمسة فقد أخرجه في سننه والحديث منقطع لأنه من طريق الحسن العرني عن ابن عباس كما قال أحمد إنه منقطع. والحديث هذا ضَعَّفَه البخاري في «التاريخ الأوسط» المسمى بـ «التاريخ الصغير» غلطًا - مطبوع في مجلدين - وصوابه «التاريخ الأوسط». وهذا الحديث جاء من طرق عن ابن عباس، ولكن كلها معلولة وكلها لا تسلم من مقال، وقول الحافظ: (وهذه الطرق يقوي بعضها بعضًا) فيه نظر، حتى لو سلم ذلك ففيها مخالفة لما في الصحيح!! والصحيح أن من تعجل من الضَّعفة إنه يجوز له أن يرمي قبل طلوع الشمس. وشيخنا ابن باز - رحمه الله - يحمل هذا الحديث لو صح على أنه على الاستحباب. فالخلاصة: أن الأفضل ترك الرمي حتى تطلع الشمس، ولو رمى قبل ذلك لا بأس. ¬

(¬1) رواه أبو داود (1940)، والنسائي (5/ 270)، وابن ماجه (3025)، وأحمد (1/ 234، 311، 343)، لكن بسند فيه انقطاع؛ لأن فيه الحسن العرني وهو لم يسمع من ابن عباس. وهناك طريق آخر: عند أبي داود (1941)، والنسائي (5/ 272)، لكن علته أن فيه حبيب بن أبي ثابت مدلس ولم يصرح بالتحديث عن ابن عباس - رضي الله عنه -. وهناك طريق آخر: عند أحمد (1/ 326)، والترمذي (893)، لكن فيه انقطاع؛ لأن الحكم لم يسمع من مقسم هذا الحديث.

الحديث الخامس والأربعون

الحديث الخامس والأربعون وَعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَرَمَتِ الجَمْرَةَ قَبْلَ الفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ (¬1). حديث عائشة - رضي الله عنها - رواه أبو داود والبيهقي من طريق الضحاك بن عثمان عن عائشة - رضي الله عنها - ووقع في هذا الحديث اضطراب في السند والمتن. جاء في بعض ألفاظ الحديث (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن توافيه في صلاة الصبح بمكة) وهذه اللفظة منكرة استنكرها الإمام أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهم. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الفجر بمزدلفة فكيف يأمرها أن توافيه بمكة؟ وكذلك أعل الحديث بالإرسال. وعلى كل حال فمسألة تعجل النساء إن كُنَّ ضعيفات في آخر الليل إلى مزدلفة هذا جاء في أحاديث صحاح. كما في حديث أسماء - رضي الله عنها - تقدم ذكره. وفي الصحيحين عن ابن عمر بأنه كان يقدم ضعفة أهله إلى منى (¬2). ¬

(¬1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1942). فيه: الضحاك بن عثمان قال أبو زرعة: ليس بالقوي. وقد رواه الشافعي في «الأم» (2/ 180) والطحاوي (2/ 218) بطرق مختلفة مرسلة. ورجح الإمام أحمد الإرسال وقال أحمد: وهذا أيضًا عجب، وما يصنع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر بمكة. وقد أعله غير واحد من أهل العلم بالاضطراب. وضعفه العلامة الألباني في تحقيق سنن أبي داود. (¬2) رواه البخاري (1592)، ومسلم (1295).

وفي صحيح مسلم من حديث أم حبيبة - رضي الله عنها - قالت: كنا نغلس من جمع إلى منى في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ومن لازم التعجيل - كما تقدم - أنهم يرمون الجمار، ومن أحب أن يطوف بعد ذلك ولو قبل طلوع الشمس فلا بأس على القول الراجح، والحديث على ما فيه شواهده في الصحيح والمحفوظ أنه من مسند أم سلمة. ¬

(¬1) رواه مسلم (1292).

الحديث السادس والأربعون

الحديث السادس والأربعون وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ - يَعْنِي بِالمُزْدَلِفَةِ - فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ». [رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ] (¬1). الحديث رواه أهل السنن من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عروة ابن مضرس وقد صححه ابن خزيمة والدارقطني والترمذي وغيرهم. سبب هذا الحديث أن عروة بن مضرس قدم من حائل من جبال طيء فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مزدلفة وقال له: أتعبت نفسي وأكللت راحلتي وما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ (صلاة الفجر في مزدلفة) فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ». وقوله: «لَيْلًا أَوْ نَهَارًا» استدل به الحنابلة على أن الوقوف بعرفة قبل الزوال مجزيء. وأخذوا بعموم هذا الحديث وقالوا: إن «نَهَارًا» تشمل من طلوع الشمس إلى الزوال إلى الغروب. وخالفهم الجمهور وقالوا: إن هذا الحديث بينه - صلى الله عليه وسلم - بفعله وأن قوله: «لَيْلًا أَوْ نَهَارًا» أي: في وقت وقوفه وهو لم يقف إلا بعد الزوال. ¬

(¬1) رواه أبو داود (1950)، والنسائي (3041، 3042)، والترمذي (891)، وابن ماجه (3016)، وأحمد (4/ 15، 261، 262)، وابن خزيمة (2820، 2821).

وثمرة المسألة: أنه لو وقف إنسان قبل الزوال ودفع قبل الزوال إلى مزدلفة فحجه على قول الحنابلة صحيح وعليه دم، وعلى قول الجمهور غير صحيح، وقول الجمهور أحوط. وفيه الحديث من الفوائد: امتداد وقت الوقوف حتى طلوع الفجر، فمن وافى عرفة قبل طلوع الفجر وهو من أهل الوقوف فقد تم حجه وقضى تفثه. وفيه من الفوائد: أن من تأخر عن مزدلفة بسبب أو عذر فلم يوافها حتى طلع الفجر فإنه ليس عليه شيء، فالنبي قال: «تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ». فلو أن إنسانًا حُبِسَ في الناقلات أو الطرق أو تأخر ما عقد النية إلا قبل طلوع الفجر فوقف بعرفات لحظات ثم أتى مزدلفة والناس يصلون أو بعد الصلاة؛ فإنه يقف ما تيسر حتى يسفر جدًّا ثم يذهب إلى منى.

الحديث السابع والأربعون

الحديث السابع والأربعون وَعَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: إنَّ المُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ، وَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ. [رَوَاهُ البُخَارِيُّ] (¬1). سبق بيان هذا في حديث جابر وأن المشركين كانوا ينتظرون طلوع الشمس. وقولهم: (أَشْرِقْ ثَبِيرُ) هذا خطاب لجماد، ولكن هذا عند أهل اللغة إذا طلب من الجماد شيء فهو من باب التمني كقولك: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما إلا صباح منك بأمثل والنبي خالفهم فأفاض قبل أن تطلع الشمس. ومن فوائد الحديث: المنع من التأخر وأن الإنسان يفيض إلى منى قبل طلوع الشمس إلا إذا تأخر بسبب زحام مثلًا فلا بأس. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (1684).

الحديث الثامن والأربعون

الحديث الثامن والأربعون وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنهما - قَالَا: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ. [رَوَاهُ البُخَارِيُّ] (¬1). هذا السياق الصحيح، وقوله: (حَتَّى رَمَى) هل هو حتى شرع أو حتى أتم؟ الصواب: حتى شرع؛ لأنه جاء في حديث جابر - رضي الله عنه - كما تقدم: (يكبر مع كل حصاة) فانقطعت التلبية بالتكبير، فانقطعت مع أول حصاة وشرح بالتكبير وهذا ظاهر سياق الصحيح. ورواه النسائي وابن خزيمة بلفظ: (فلم يزل يلبي حتى رمى الجمرة حتى قطر التلبية مع أخر حصاة) (¬2) ولكن لفظ الصحيح أصح وأن التلبية تنقطع بمجرد الشروع في الرمي، ولأنه شرع في أسباب التحلل. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1686، 1687). (¬2) تقدم بحث هذه المسألة في حديث جابر - رضي الله عنه - في صفة الحج، تأتي في صفة الرمي.

الحديث التاسع والأربعون

الحديث التاسع والأربعون وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: أَنَّهُ جَعَلَ البَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى الجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَقَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البَقَرَةِ. [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). هذه السنة عند رمي جمرة العقبة يجعل مكة البيت عن يساره ومنى عن يمينه ويستقبل الجمرة. والأصحاب يقولون: يجعل الجمرة عن يمينه ويستقبل البيت فيصبح يرمي عن يمين ولكن هذا ضعيف. وهذا هو صفة رمي جمرة العقبة في يوم العيد والأيام بعده، وقول ابن مسعود هذا مقام الذي أُنزلت عليه سورة البقرة خصها بالذكر؛ لأن أحكام الحج وآيات الحج نزلت في سورة البقرة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1749)، ومسلم (1296).

الحديث الخمسون

الحديث الخمسون وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: رَمَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ. [رَوَاهُ مُسْلِمٌ] (¬1). في هذا تحديد الرمي أما رمي جمرة العقبة فقد رماها - صلى الله عليه وسلم - ضحى ووقع في صحيح البخاري «رميت بعدما أمسيت» (¬2) في حديث ابن عباس كأنه بعد الزوال، فلا بأس في ذلك اليوم حتى ولو في ليلة الحادي عشر إن تأخر، وأما الأيام الأخرى يرمي بعد زوال الشمس يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر لمن تأخر، ولا يرمي قبل الزوال في أيام التشريق، ولو كان الرمي في هذه الأيام قبل الزوال سائغًا لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما ترك الأمة تنتظر في وقت الضحى، وهو وقت البراد والسعة إلى زوال الشمس وتكون الهاجرة، فلما عدل عن هذا الوقت علم أنه غير مشروع وإثم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خُيِّر بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا (¬3). فعلم أن وقت الرمي في وقت الضحى إثم وإذا عُلِمَ أنه إثم وغير طاعة فتعين أنه معصية وغير مجزئ، واستثنى بعضهم يوم النفر من تعجل يوم الثاني عشر، ولكن الصحيح أنه لا استثناء في ذلك ولا ينبغي أن تُطَوِّع الفتيا لأفعال الناس، فإن الناس لا يقفون عند شيء، ولهذا في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: (كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا) (¬4) أي: نتحرى ونبحث عن هذا الوقت وننتظر فكيف يدع النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الوقت مع سعته فيجعل الوقت بعد الزوال، ومعلوم أن وقت ما بعد الزوال فيه شيء من التضييق في الوقت، فَعُلِمَ أن الرمي قبل الزوال لا يصح. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1299). (¬2) رواه البخاري (1636). (¬3) رواه البخاري (3367، 5775)، ومسلم (2327). (¬4) رواه البخاري (1659).

والخلاصة: أنه لا يجوز ولا يجزئ الرمي قبل الزوال وقد بالغ شيخ شيوخنا محمد بن إبراهيم - رحمه الله - في الرد على قول من أجاز الرمي قبل زوال الشمس في رده على الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، وأصاب. ولنا كتابة مفردة في هذا الموضوع يسر الله إتمامها، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - ينهون عن الرمي قبل الزوال، وقد صح عن ابن عمر في الموطأ (¬1). أما الرمي بالليل يوم الحادي عشر يرمي ليلة الثاني عشر أو يوم الثاني عشر يرمي ليلة الثالث عشر إن تأخر لا بأس به؛ لأن العبادة لا تجوز قبل وقتها كما قال شيخ الإسلام في الفتاوى (26/ 203): «إن المناسك لا تجزيء قبل وقتها» اهـ. وتجوز بعد وقتها في الجملة، فلا يمكن أن تصح صلاة الظهر قبل وقتها ولكن قد تؤخر للعصر للعذر. وفي الباب حديث ابن عباس في البخاري (رميت بعدما أمسيت) (¬2) والمساء يطلق على آخر النهار وأول الليل. وكذلك أثر عبد الرحمن بن سابط أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح قال (كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعون ظهرهم ويرمون بالليل) (¬3). وإن كان هذا احتمال أنهم متعجلين؛ لأنهم كانوا على ظهور يركبونها - على دواب - وأما إذا قروا بمنى فالغالب أنهم يمشون. وقد صح أن صفية زوج ابن عمر رمت جمرة العقبة ليلة الحادي عشر (¬4). ¬

(¬1) انظر الاستذكار (13/ 214). (¬2) سبق. (¬3) رواه ابن أبي شيبة (3/ 398). (¬4) رواه مالك في المؤطأ وانظر التمهيد (7/ 268).

فظاهر هذا اتساع وقت رمي يوم الحادي عشر إلى ليلة الثاني عشر والثاني عشر إلى ليلة الثالث عشر، وأما الثالث عشر فلا يجوز أن يرمي بعد غروب شمسه؛ لأن أيام الرمي انتهت بعد الغروب.

الحديث الحادي والخمسون صفة الرمي

الحديث الحادي والخمسون صفة الرمي وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى أَثَرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ ثُمَّ يَسْهِلُ، فَيَقُومُ فَيَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ، ثُمَّ يَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي الوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، ثُمَّ يَدْعُو فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ العَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ. [رَوَاهُ البُخَارِيُّ] (¬1). هذا السياق ظاهر في صفة الرمي، وقوله: (يُكَبِّرُ عَلَى أَثَرِ كُلِّ حَصَاةٍ) في حديث جابر - رضي الله عنه - (مَعَ كُلِّ حَصَاة) والأمر سهل إما يُكَبِّر مع الرمي أو إثر الرمي - بُعيده - فالخطب يسير. وفيه: أن الجمرة الأولى والثانية يدعى بعدهما أما الثالثة الكبرى فيرميها وينصرف. وفيه: أنه يتقدم لقوله: (ثُمَّ يَتَقَدَّمُ) أي: يبتعد عن مكان الرمي وحطمة الناس، وكذلك في الجمرة الوسطى غير أنه يأخذ ذات الشمال، ولم يقع التحديد بعد الجمرة الأولى هل يأخذ ذات الشمال أم ذات اليمين، المقصود: أن يتعدى إلى مكان لا يشق فيه على الناس، وأما الثانية إذا رماها يأخذ ذات الشمال حتى يتهيأ له أن يرمي الجمرة الكبرى وتكون قبالته ومنى عن يمينه والبيت عن يساره. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (1751).

الحديث الثاني والخمسون في أن الحلق أفضل من التقصير

الحديث الثاني والخمسون في أن الحلق أفضل من التقصير وَعَنْ ابن عمر - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اللهُمَّ ارْحَمُ المُحَلِّقِينَ». قَالُوا: وَالمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «وَالمُقَصِّرِينَ». [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). فيه: أن الحلق أفضل من التقصير، وقد وقع في مسند أحمد وغيره من حديث ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنه في صلح الحديبية دعا للملحقين ثلاثًا والمقصرين واحدة. قالوا: لم ظاهرت للمحلقين؟ قال: «أنهم لم يشكوا» (¬2). فقد يقول قائل: تفضيل الحلق على التقصير من وجوه: - أنه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. - أنه فعل الصحابة الذي لم يشكو مع نبيهم في صلح الحديبية. - أن فيه المبالغة في الأداء. فهذا وجه ترتيب الدعوات الثلاث للمحلقين، وأما المقصرين فأتوا بأصل الأخذ من الرأس فكانت لهم دعوة واحدة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1727)، ومسلم (1301) (317). (¬2) روى أصل الحديث البخاري (1641)، ومسلم (1302)، واللفظ لابن ماجه (3045)، وأحمد (1/ 353)، وابن أبي شيبة (3/ 220، 7/ 390).

الحديث الثالث والخمسون تيسير النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأمة في الحج

الحديث الثالث والخمسون تيسير النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأمة في الحج وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَفَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: «اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ»، وَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْت قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ»، فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ: «افْعَلْ وَلَا حَرَجَ». [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). أما أفعاله - صلى الله عليه وسلم - يوم العيد فإنه كان رمى ثم نحر ثم حلق ثم طاف، ومن كان عليه سعي فليسع فالنبي - صلى الله عليه وسلم - سعى بعد طواف القدوم. فالترتيب هو: أن يرمي، ثم يذبح إن كان متمتعًا أو قارنًا، ثم يحلق، ثم يطوف، ثم يسعى إن كان متمتعًا أو كان قارنًا أو مفردًا، ولم يسع بعد طواف القدوم، وان قَدَّم هذه الأفعال بعضها على بعض فلا حرج. وهذا الحديث حديث ابن عمرو - رضي الله عنهما - يرويه الزهري عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. وجاء كذلك نحوه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. وجاء في سنن أبي داود وغيره حديث أسامة بن شريك (سعيت قبل أن أطوف) (¬2) ولكن هذه اللفظة شاذة والمحفوظ في حديث أسامة في سنن أبي داود عدم هذه الزيادة، وعلى كل حال فإنه لو قدم السعي على الطواف فإنه داخل تحت عموم هذا الحديث (فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ: «افْعَلْ وَلَا حَرَجَ») وسواء وقع في ذلك اليوم أو في الأيام بعده الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (83)، ومسلم (1306). (¬2) رواه أبو داود (2015).

وهل ينجر هذا الحكم في هذه العمرة إذا قدم السعي على الطواف جاهلًا؟ محتمل وأفتى به الشيخ ابن عثيمين مرة وقد يقال: لو أن إنسانًا جاهلًا سعى ثم طاف ثم قصر وقال: ما كنت أظن إلا أن السعي قبل، وكنت أظن أن الأمر واسع فنقول: لا بأس، وفتوى الشيخ محمد موجودة في كتابه فرائد الفوائد.

الحديث الرابع والخمسون ماذا على من أحصر؟

الحديث الرابع والخمسون ماذا على من أُحْصِر؟ وَعَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ. [رَوَاهُ البًخَارِيُّ] (¬1). هذا الحديث في صلح الحديبية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أُحْصِر نحر - صلى الله عليه وسلم - ثم حلق وأمر أصحابه بذلك، وَذِكْر المؤلف له هنا فيه شيء من الإيهام فمن قرأ ظن أن هذا في حجة الوداع، وعلى كل حال إن كان الإنسان قد أُحْصِر عن البيت فإنه ينحر إن كان معه شيء قد أهداه، وإن لم يكن معه يلزمه عند أهل العلم أن يشتري هديًا - شاة - فإن لم يكن معه مال، لفقره فإنه يصوم عشرة أيام قياسًا على هدي التمتع، وهذا ذهب إليه الأصحاب، ولكن الصحيح إن المحصر إذا لم يكن عنده شيء يشتري به الهدي فإنه يكتفي بحلق رأسه، ولو كان الصوم واجبًا لأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وَبَيَّنَه، ثم إن أكثر الصحابة - رضي الله عنهم - الذين حجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا فقراء، وَفَرَّقَ بين الهدي في الإحصار والهدي في التمتع، فدم التمتع دم شكران على إتمام النسك وأما دم الإحصار فهو هدي عن الحصر في النسك فلا يمكن القياس، وهنا نحب أن نبين أقسام الدماء: - فقسم يذبح في الحرم ويجوز أن يوزع خارج الحرم كهدايا التمتع والقران ففي حديث جابر - رضي الله عنه - «كلوا وتزودوا» (¬2). - وقسم يذبح داخل الحرم ويوزع داخل الحرم كالدماء التي لترك واجب. - وقسم يسوغ ذبحه خارج الحرم، كهدي الإحصار حينما يذبح في محل الحصر، وكفدية الجزاء فهذا يوزع حيث يذبح، ولا مانع من نقله إلى مكان آخر. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (1811). (¬2) رواه البخاري (1632)، ومسلم (1972).

الحديث الخامس والخمسون

الحديث الخامس والخمسون وَعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيبُ وَكُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاء». [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ] (¬1). هذا الحديث جاء عن طريق الحجاج بن أرطأة عن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة - رضي الله عنها - واضطرب فيه الحجاج اضطرابًا كثيرًا والحجاج ضعيف. وجاء من طريق الحجاج عن الزهري عن عمرة عن عائشة - رضي الله عنها - وفيه انقطاع فالحجاج لم يسمع من الزهري. وجاء في بعض ألفاظه: «إذا رميتم فقد حل لكم كل شيء» (¬2) أي: من اللباس الصيد والطيب والحلق والخطبة والنكاح والمباشرة وجماع النساء ثم جاء الاستثناء «إلَّا النِّسَاءَ» وهذا يشمل الجماع، فإن هذا لا يحل إلا إذا طاف وسعى. واختلف فيما فوق ذلك من عقد النكاح والمباشرة. واختلف أهل العلم فيما يحل به الإنسان؟ قال بعضهم: يحل بالرمي وحده واحتجوا ببعض ألفاظ هذا الحديث «إذا رميتم ... الحديث». وكذلك روى الحسن العرني عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «إذا رميتم فقد حل لكم كل شيء» ولكن هذا منقطع ولا يصح. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1978)، وأحمد (6/ 143)، والدارقطني (2/ 276)، والبيهقي (5/ 136) وقال: «وهذا من تخليطات الحجاج بن أرطاة، وإنما الحديث عن عمرة عن عائشة كما رواه سائر الناس عن عائشة - رضي الله عنها - يقصد الحديث المتفق عليه من قولها - رضي الله عنها - (طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه ... الخ)، ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 419). وقد صححه لغيره العلامة الألباني في الإرواء (4/ 235 رقم 1046) في بحثه فانظره إن شئت. (¬2) رواه ابن ماجه (3041).

واحتجوا بحديث أم سلمة - رضي الله عنها - عند أبي داود من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن أبيه وعن أمه زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة - رضي الله عنها - وفيه: «إن هذا يوم رخص لكم فيه إذا أنتم رميتم جمرة العقبة أن تحلوا من كل ما حرمتم منه» ولكن هذا الحديث فيه أبو عبيدة (فيه جهالة). وهذا الحديث هو الذي فيه: «فإذا لم تطوفوا قبل أن تمسوا عدتم حرمًا كهيئتكم قبل أن ترموا جمرة العقبة» وهذا فيه نكارة كبيرة جدًا. واحتج بعض المتأخرين بما رواه أحمد وغيره من حديث عروة والقاسم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (طيبت النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أحرم وحين رمى جمرة العقبة) احتج بهذا الشيخ الألباني قال: حين رمى جمرة العقبة صريح أنه تطيب وهذا يدل على أن الإحلال يحصل بالرمي وحده!. ونقول: لكن هذا الحديث أصله في الصحيحين (طيبت النبي - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت) وفرق بين السياقين! ولفظ أحمد شاذ والمحفوظ ما في الصحيحين. ثم نقول: كيف يتطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويذهب إلى بدنه ويذبح ثلاثًا وستين بدنة، وما فيها من الدماء والتعرض للروائح ومخالطة الدواب؛ لا يمكن أن يكون. ولذا قال البخاري في صحيحه: «باب الطيب بعد الحلق قبل الإفاضة» وذكر حديث عائشة - رضي الله عنها - الذي ذكرته قريبًا هذا. وكذلك احتج من قال بأنه يتحلل بالرمي وحده بأثر عمر - رضي الله عنه - عند مالك والبيهقي: «إذا رمى الرجل الجمرة فقد حل له كل شيء» ولكن هذا الحديث رواه مالك عن نافع عن ابن عمر عن عمر - رضي الله عنه -: (إذا رميتم وحلقتم) ففيه إضافة وحلقتم فيحمل اللفظ الأول على هذا.

وجاء عن عائشة - رضي الله عنها - وابن الزبير: (إذا رمى الجمرة فقد حل له كل شيء). والخلاصة: أنه ليس هناك حديث قائم صريح في الاكتفاء بالحل برمي الجمرة وحدها - أي: الحل الأول - والأحوط أن الإنسان لا يحل إلا بالرمي ثم الحلق. والأحاديث الآنف ذكرها فيها كلها مقال والمشهور عند أهل العلم أنه يحل بفعل اثنين من ثلاثة الرمي والحلق والطواف، وهذا على بابه ليس فيه كبير إشكال فإذا رمى وحلق حل التحلل الأول أو رمى وطاف أو حلق وطاف فلا بأس. وقال بعضهم: يجوز بفعل واحد من اثنين كما ذكر صاحب الفروع وغيره يحل بفعل واحد من اثنين على القول بأن الرمي وحده يكفي، فيحل بالرمي وحده وبالطواف وحده، قالوا: لما كان الطواف يحصل به التحلل الثاني كان له علاقة وتأثير في التحلل الأول، فإذا طاف جاز له التحلل الأول، وإذا رمى حل التحلل الأول، وهذا على القول بتصحيح ما جاء في الحل بالرمي وحده، وفيه ما فيه! والأحوط ألا يتحلل إلا الذي رمى ثم حلق، وأما الذبح فلا علاقة له في حصول التحلل الأول. وشيخنا ابن باز - رحمه الله - يرى أن التحلل بالرمي وحده جائز، لكن الأفضل أن يرمي ثم يحلق، وحديث أم سلمة - رضي الله عنها - كنت كتبت فيه بحثًا (إن هذا يوم رخص لكم فيه إذا أنتم رميتم جمرة العقبة أن تحلوا) هذا السياق قد يقال أنه محفوظ، وأما زيادة الإحرام فهو منكر، والحديث قد يكون جزء منه محفوظ والآخر غير محفوظ، فهذا يمكن ولكن أنا أقول من باب الاحتياط.

الحديث السادس والخمسون

الحديث السادس والخمسون وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ، وَإِنَّمَا يُقَصِّرْنَ». [رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ] (¬1). الحديث هذا قواه أبو حاتم والبخاري في التاريخ، ونقل الحافظ هذا في التخليص. ومفهومه: أنهن لا يحلقن وأن الحلق إنما هو على الرجال. وقدر تقصيرهن تأخذ قدر أنملة من رأسها من كل خصلة أو ضفيرة تقصها، وحلق النساء شعور رءوسهن فيه تشبه بالرجال. ¬

(¬1) رواه أبو داود (1985)، ورواه الدارمي (2/ 64)، بإسناد صحيح.

الحديث السابع والخمسون

الحديث السابع والخمسون وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما -، أَنَّ العَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ - رضي الله عنه - اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ. [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). العباس - رضي الله عنه - كان يتولى السقاية لأهل مكة يسقيهم من زمزم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل ذلك إليهم فأستأذن العباس أن يبيت بمكة لأجل السقاية ليلًا ونهارًا. وفيه: مشروعة المبيت بمنى ليالي أيام التشريق بل هو واجب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص له، ومفهوم الترخيص المنع لولا هذا العذر. ومن هذا استنبط أهل العلم وجوب المبيت بمنى ليالي أيام التشريق وهذا هو الصحيح. وفيه: أن المبيت يسقط بالأعذار ومن ذلك سقاية الحجيج، وهذا قد رخص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك لو أن إنسانًا احتاج لحراسة مال أو لمرافقة مريض في المستشفى فإنه يسقط عنه المبيت لعذره ولا يلزم بدم. الواجب عند أهل العلم معظم الليل والليالي كلها واجب واحد عند جمهور القائلين بأن ترك النسك فيه دم وهم جماهير أهل العلم، واحتجوا بما أخرجه مالك عن أيوب السختياني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - موقوفًا عليه: (ومن ترك نسكًا أو نسيه فليهرق دمًا) وهذا الحديث موقوف وأخذ به جماهير أهل العلم ورواه ابن حزم مسندًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن فيه مجهولان فهو لا يثبت مرفوعًا. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1634)، ومسلم (1315).

فمن ترك المبيت بمنى لعذر فيرخص له، وإلا لا يرخص له وإن ترك الليالي كلها أو ليلتين من ثلاثة فعليه دم، وإن كان تعجل يلزمه مبيت ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر فإن ترك ليلة فعليه دم، وإن بات ليلة وأكثر الليلة الأخرى فلا بأس. المقصود: إن ترك الأكثر فعليه دم وإلا فلا. وبهذا لو بات أكثر الليل وخرج فليس عليه شيء هكذا قالوا.

الحديث الثامن والخمسون

الحديث الثامن والخمسون وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ لِرِعَاءِ الإِبِلِ فِي البَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَرْمُونَ الغَدَ، لِيَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ. رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ (¬1). في الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في ترك المبيت بمنى للرعاة، وهم الذين يرعون إبل الحجاج، والحجاج وهم نازلون بمنى لا يحتاجون إلى إبلهم. والإبل تحتاج إلى الرعي وتحتاج إلى أكل النبات فيذهبون إلى مواقع الكلأ القريبة فترعى منها. وقوله: (عَنْ مِنًى) هنا تتضمن معنى الخروج وترك منى فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لهم في ترك المبيت ويبيتون مع الإبل يحرسونها. وقوله: (يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ)؛ لأن الحجاج يأتون على رواحلهم يحتاجون للرواحل، فهم لا حاجة لهم في تركها؛ لأنهم قدموا عليها من عرفات لمزدلفة، فيرمون - أي: الرعاة - مع الناس يوم العاشر، فالرعاة لم يستلموا الإبل بعد ثم يرمون يوم الغد ومن بعد الغد ليومين أي: يجمعون رمي يوم الحادي عشر والثاني عشر فيرمونه يوم الثاني عشر، فسيتركون المبيت ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر، والترك يفوت لا يمكن قضاؤه، أما الرمي فيمكن قضاؤه ولهذا رخص لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في البيتوتة، ولم يأمرهم بها لأنها تفوت، وأما الرمي فأذن لهم فإنه لا يفوت فيرمونه يوم الثاني عشر عن يوم الحادي عشر والثاني عشر لمن تعجل، ويرخص لهم كذلك وإذا تأخروا يرمون يوم الحادي عشر والثاني عشر في يوم الثالث عشر لمن تأخر. ¬

(¬1) صحيح: رواه أبو داود (1975)، والنسائي (5/ 273)، والترمذي (955)، وابن ماجه (3037)، وأحمد (4/ 450)، وابن حبان (3888).

وفيه: أن المشتغل بمصالح عامة - كما قال شيوخنا - للمسلمين فإنه يرخص له في ترك المبيت، ولكن لا يرخص له بترك الرمي وله أن يؤجل الرمي. ومن هنا قال بعض مشايخنا في إن الإنسان إذا كان الرمي بعيدًا عليه كمن يكون في أطراف مزدلفة، أو في أطراف منى يشق عليه التردد إلى الجمرات؛ فإنه له أن يؤخر إلى اليوم الأخر إن كان تأخر، وإن كان تعجل إلى يوم الثاني عشر، ثم إذا أتى يرتب رميه يرمي اليوم الأول، ثم يعود ويرمي الثاني، ثم يعود ويرمي اليوم الثالث فيقضيه؛ لأن هذا له عذر في مشقة التردد على الجمرات فيجوز له التأخير. والمشهور في المذهب جوازه ولو بلا حاجة، ولكن الصحيح جواز تأخير الرمي لحاجة فيجمعه في يوم واحد. وفيه: وجوب الرمي وهو واجب من الواجبات عند أهل العلم، وفي تركه عندهم دم، والرمي كله واجب واحد ليس الرمي يوم العيد به دم وسائر الأيام بها دم. وبعضهم قال: رمي يوم كامل فيه دم والصحيح أنه واجب واحد، فإن ترك بعض الشيء وقع الخلاف عند أهل العلم على نحو ما قيل في ترك المبيت. ومشايخنا منهم من يفتي إذا ترك يوم كامل - ولم يمكنه استدراك الرمي لفوات زمانه أيام التشريق أو ترك المبيت ليلة من غير عذر - أنه يتصدق بشيء ويستغفر الله - عز وجل - إذا كان من غير عذر كما تقدم. سؤال: لو رمى بأقل من سبع؟ الجواب: جاء في حديث سعد - رضي الله عنه - قال: رجعنا من حجة الودع وفينا من يقول بست ومنا من يقول: رميت بسبع ولم يعب بعضنا بعضًا لكن أظن إسناده منقطع.

ولكن رخص بعض مشايخنا ولهم سلف من التابعين بترك الحصاة الواحدة، ورخص بعضهم بترك الحصاتين وعلى كل حال إذا كان الوقت باقيًا فينبغي أن يرمي الرمي كاملًا، ولكن إذا فات الوقت لا نستطيع أن نؤثمه أو نلزمه بدم إذا كان المتروك حصاة أو حصاتين.

الحديث التاسع والخمسون

الحديث التاسع والخمسون وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ النَّحْرِ ... [الحَدِيثَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). هذه الخطبة خطبهم ذلك اليوم وذكرهم عظمة ما يكون فيه، وذكرهم عظمة الدماء والأعراض وفيه أن الإمام يستحب له أن يخطب في هذا اليوم، ويؤكد على حرمة اليوم والدين والمال والعرض، ويعلم الناس ما يكون في يومهم هذا من النسك من الرمي وأحكام التقديم والتأخير وأحكام يوم الحادي عشر والثاني عشر؛ لأن الجمع عظيم والحاجة متجددة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1741)، ومسلم (1679).

الحديث الستون

الحديث الستون وَعَنْ سَرَّاءَ بِنْتِ نَبْهَانَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الرُّءُوسِ فَقَالَ: «أَلَيْسَ هَذَا أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؟» [الحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ] (¬1). وهذا الحديث يروى من طريق أبي عاصم النبيل، عن ربيعة بن عبد الرحمن بن حصين، عن جدته السراء بنت نبهان وربيعة كالمجهول والسراء لا تعرف صحبتها إلا من هذا الطريق. وقد حسن حديثها المصنف وحفيدها تابعي، وقد جاء لهذا الخبر ما يشهد له، وسمي يوم الحادي عشر بيوم الرءوس؛ لأن الناس يأكلون من الهدايا التي أهدوها يوم العاشر ويوم الحادي عشر يأكلون ما تبقى منها، وكانوا يبقون الرءوس لهذا اليوم، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَيْسَ هَذَا أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؟» يوهم أن العيد منها؛ لأنه إذا كان أوسطها يوم الحادي عشر يدل على أن العيد فيها، ولكن هذا من باب التغليب، والصحيح أن يوم العيد غير أيام التشريق وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، فالأوسط هنا يوم الحادي عشر بالاتفاق كما قال ابن القيم في الهدي (2/ 289)، ولعل وصفه بالأوسط يعني الأفضل مثل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، أي: خيارًا فيكون موافق لحديث عبد الله بن قراط: «إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» (¬2). ¬

(¬1) أخرج أبو داود (1953)، وفي إسناده ضعف؛ لجهالة ربيعة بن عبد الرحمن الغنوي، ولا تعرف جدته إلا بهذا الحديث، وآخر ضعيف. (¬2) تقدم تخريجه في صفة الحج.

الحديث الحادي والستون

الحديث الحادي والستون عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ (لَهَا): «طَوَافُك بِالبَيْتِ وَسَعْيُك بَيْنَ الصَّفَا وَالَمْروَةِ يَكْفِيك لَحِجِّك وَعُمْرَتِك». [رَوَاهُ مُسْلِمٌ] (¬1). أن عائشة - رضي الله عنها - كانت أهلت بعمرة، ثم حاضت بسرف فأتت أيام الحج ولم تطهر، ثم بعد ذلك أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تدخل الحج على العمرة، وتصبح قارنة ثم لما طافت وسعت مرة واحدة قال لها: «طَوَافُك بِالبَيْتِ وَسَعْيُك بَيْنَ الصَّفَا وَالَمْروَةِ يَكْفِيك لَحِجِّك وَعُمْرَتِك». ثم أنها وجدت في نفسها أنها لم تطف حين قدمت فأمر أخاها عبد الرحمن أن يعمر من التنعيم. وفي الحديث: أن القارن يكفيه طواف واحد بالبيت وسعي واحد بين الصفا والمروة. وفيه: أن الطواف والسعي لا يسقط عن الحائض ولكنها تفعله بعد أن تطهر. وفيه: أن الطواف ركن واختلف في السعي مع اتفاقهم علي أن الطواف والوقوف والنية كلها من أركان الحج، والصحيح أن السعي ركن وقيل أنه واجب يجبر بدم والصواب: أنه ركن وعليه تكون أركان الحج الأربعة: (نية، وقوف بعرفة، طواف، سعي). ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1211) بلفظ: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» وبلفظ: «يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك». واللفظ المذكور هو عن أبي داود (1897) وهو معل بالإرسال كما قال ابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 294).

الحديث الثاني والستون

الحديث الثاني والستون وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَرْمُلْ فِي السَّبْعِ الَّذِي أَفَاضَ فِيهِ. [رَوَاهُ الخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ] (¬1). الذي أفاض فيه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد تحلل والنبي - صلى الله عليه وسلم - في حجه طاف ثلاثة أطوافة: طواف القدوم، والإفاضة، والوداع، ولم يزد النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الأطوفة، وأما حديث كان يزور البيت منى فهو ضعيف. ولعل هذا تشريع لأمته؛ لأنها ستكون أكثر وإكثار الإنسان من الطواف في هذه الأيام يشق على الناس فالسنة أن الإنسان لا يزيد على الطواف المسنون في الحج. ¬

(¬1) صحيح: أخرجه أبو داود (2001)، والنسائي في «الكبرى» (2/ 460 - 461)، وابن ماجه (3060)، والحاكم (1/ 475).

الحديث الثالث والستون

الحديث الثالث والستون وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ وَالعَصْرَ وَالمَغْرِبَ وَالعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إلَى البَيْتِ فَطَافَ بِهِ. [رَوَاهُ البُخَارِيُّ] (¬1). في هذا الحديث أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما رمى في يوم الثالث عشر الجمار ركب وترك منى وغادرها بعد الزوال فأتى المحصب وهو الأبطح وسمي بذلك؛ لأن فيه حصى كثيرة وصلى فيها الظهر في وقتها ركعتين، والعصر في وقتها ركعتين والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة في المحصب، ثم ركب إلى البيت وطاف به طواف الوداع، ثم غادر إلى المدينة فجر الرابع عشر وارتحل من آخر الليل من الأبطح (المحصب) وكان معه أم سلمة وسائر أزواجه - رضي الله عنهن -، وكانت شاكية فقال لها: طوفي من وراء البيت والناس يصلون فطافت على بعير وهي شاكية، ثم كان واعد عائشة - رضي الله عنها - في تلك الليلة أمرها أن تذهب مع أخيها إلى التنعيم ليعتمر بها، ثم واعدها في المكان فلما أتت أذن بالرحيل فارتحلوا إلى البيت فطافوا به ثم ارتحلوا إلى المدينة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (1764).

الحديث الرابع والستون

الحديث الرابع والستون وَعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها -: أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُ ذَلِكَ - أَيِ النُّزُولَ بِالأَبْطَحِ - وَتَقُولُ: إنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَنْزِلًا أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ. [رَوَاهُ مُسْلِمٌ] (¬1). هذا الحديث الصواب فيه أنه متفق عليه، وهذا اختيار عائشة - رضي الله عنها - في أن النزول بالأبطح إنما كان؛ لأنه أسمح. وعلى هذا لو كان الآن أسمح غير هذا المكان فينزل فيه، وذهب بعض أهل العلم إلى أن هذه سنة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنا نازلون غدًا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» فهو مقصود أي: الذهاب إلى هذا المكان، وهذا هو الراجح فالنبي - صلى الله عليه وسلم - علله بعلة قال: «حيث تقاسموا على الكفر» وأراد الذهاب للبقعة ليعمرها بالتوحيد هذا هو الأقرب. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (1311). وهو في البخاري أيضًا (1765).

الحديث الخامس والستون

الحديث الخامس والستون وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالبَيْتِ، إلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الحَائِضِ. [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). وقول ابن عباس - رضي الله عنهما - (أُمِرَ) له حكم الرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل جاء في بعض ألفاظه: «لا ينفرن أحد حتى يكون أخر عهده بالبيت» وقد أخرج مسلم اللفظين من وجهين عن طاوس عن ابن عباس. وفي الحديث: الأمر بطواف الوداع لمن أراد الارتحال؛ لأن طواف الوداع ليس من مناسك الحج، فهو ليس من أعمال الحج، ولكن: إذا فرغ الإنسان من أعمال الحج وأراد أن يسافر فإنه يطوف الوداع. وإذا قلنا أن هذا من واجبات الحج فليزمه وإن مكث بعد الحج شهر أو شهرين يلزمه طواف الوداع، ولكن الصحيح إنه إن كان حاجًّا فأراد أن يرجع فعليه أن يطوف، وأما إذا كان معتمرًا أو أقام إقامة طويلة ثم ارتحل فليس حينئذ حاجًّا فلا يلزمه طواف الوداع إلا على القول بوجوبه مطلقًا، والصحيح أنه واجب في الحج لمن أرتحل أما في العمرة أو من أتى مصليًا أو مجاورا فارتحل فليس عليه طواف وداع. وفي الحديث: أن طواف الوداع يسقط عن المرأة الحائض وكذا النفساء فينفران ولا وداع عليهما. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1755)، ومسلم (1328).

وفيه: أن طواف الوداع يكون أخر العهد، ولا يكون بعده إقامة ولا معاملة أو بيع أو شراء بل يرتحل مباشرة، ولكن إذا أطال المكث فإنه يعيد، لكن لو طاف ثم استراح حتى ينام لشدة التعب في مثل هذه الأزمنة فلا نلزمه بالإعادة، كذلك لو اشترى هدايا في طريقه أو تغدى فإنه بعد ذلك يرتحل وليس عليه شيء.

الحديث السادس والستون

الحديث السادس والستون وَعَن ابْن الزُّبَيْرِ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ ألفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ] (¬1). هذا الحديث يروى من طرق حماد بن زيد عن حبيب المعلم عن عطاء عن أبيه الزبير مرفوعًا وإسناده صحيح، قال ابن عبد البر: أسند حبيب المعلم هذا الحديث وَجَوَّدَه ولم يخلط في لفظه ولا معناه. اهـ. قلت: والصحيح أن الحديث مرفوع. وفي هذا الحديث: فضل المسجد الحرام وأنه بمئة ألف صلاة لما كان مسجده - صلى الله عليه وسلم - بألف صلاة، وهذا يفضل بمائة كان المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وتفضيل المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والمسجد النبوي بألف صلاة. وهذا التفضيل في المسجد يشمل الحرم كله وهذا هو الصحيح وهذا مذهب الجمهور، واختيار شيخنا ابن باز - رحمه الله -، فإن قال قائل: قد روى مسلم والنسائي من حديث ميمونة في تسمية المسجد (إلا مسجد الكعبة)؟. والجواب: أن مسلم أخرجه من طريق الليث، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد، عن ابن عباس، عن ميمونة. وقال البخاري في التاريخ بعد أن روى حديثه عن ميمونة حدث نافع عن ابن عباس عن ميمونة ثم قال لا يصح فيه ابن عباس. اهـ. ولهذا أدخل ابن حبان إبراهيم في أتباع التابعين وقال: وقيل أنه سمع من ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس ذلك بصحيح عندنا. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (4/ 5)، ورجاله رجال الصحيحين.

وذكر مغلطاي في الإكمال أنه لم يصرح بسماع إبراهيم من ميمونة أحد المتقدمين، وأكد ذلك أن ابن سعد حيث ذكره في الطبقة الرابعة من المدنيين الذين ليس عندهم إلا صغار الصحابة فصار الحديث منقطعًا. والخلاصة: أن هذا اللفظ غير محفوظ فالتضعيف يشمل الحرم كله. أما في المدينة فالمضاعفة بالمسجد خاصةً، والصلاة في المسجد الحرام تفضل عن الصلاة في مساجد الحرم الأخرى؛ لشرف الكعبة مع ثبوت التضعيف في الحرم كله. وقال أهل العلم: إن الزيادة لها حكم المزيد فلما زيد في المسجدين كانت الصلاة مضاعفة، أما المسجد الحرام فلا إشكال إذا كانت المضاعفة منتشرة في الحرم، لكن نستفيد أنه لو كبر المسجد فإنه يكون محلا للطواف فيطوفون فيه ولو بعدت عن الكعبة.

الحديث السابع والستون

الحديث السابع والستون بَابُ الفَوَاتِ وَالإِحْصَارِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَجَامَعَ نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا. [رَوَاهُ البُخَارِيُّ] (¬1). هذا الباب في باب الفوات والإحصار والفوات: من فاته الحج والإحصار: من حصر عن دخول مكة ومنع من الإتيان بالنسك. والمحصر كما قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ...} الآية، وتقدم الكلام عن المحصر أن الإنسان إذا أحصر عن الكعبة أو عرفات في الحج حتى فاته أو العمرة عن الكعبة؛ فإنه كان معه هدي فليذبحه وإن لم يكن فليشتر وليذبح؛ وإلا فليحلق ثم يتحلل، وأما اعتماره - صلى الله عليه وسلم - عمرة قابلة ليس هذا من باب القضاء، وإنما سميت عمرة القضاء من القضية لا من القضاء فليست هذه العمرة حتم، ولهذا لم يعتمر هذه كثير من أصحابه الذين حضروا معه. والإنسان إذا أحْصِر إنما يلزمه الهدي والحلق فإن كان معه كفى وإن لم يكن معه فالمشهور عند الأصحاب أنه يصوم عشرة، والصحيح عدم اللزوم - كما تقدم - ولكن يتحلل وحينئذ لا يكون حاجًّا ولا معتمرًا ولا يلزمه القضاء، ويكون الإحصار مخصص من قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (1809).

الحديث الثامن والستون في الاشتراط

الحديث الثامن والستون في الاشتراط وَعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ - رضي الله عنها -، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنِّي أُرِيدُ الحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «حُجِّي وَاشْتَرِطِي: أَنَّ مَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي». [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] (¬1). في الحديث أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب - رضي الله عنها - حجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنها كانت مريضة فاستفتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: «حُجِّي وَاشْتَرِطِي»، أي: قولي: «اللهم محلي حيث حبستني». فيه من الفوائد: أن الإنسان إن كان شاكيًا في الحج والعمرة فإنه يشترط. وفائدة الاشتراط: أنه يحل مجانًا إذا حصل له عائق عن تكميل نسكه، فإن يحل بلا ذبح أو حلق ولا يلزم بالإكمال. وفيه من الفوائد: أنه يشرع الشرط حيث شرع بسببه من الشكوى أو المرض. وهل ينفع الاشتراط إذا كان الإنسان غير شاك؟ قال بعضهم: ينفع؛ اشترط ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإن لك على ربك ما استثنيت» وهذا له على ربه ما استثنى. وقال بعضهم: إنما ينفع حيث كان الإنسان شاكيًا، وإلا فلا ينفع لو اشترط وليس به علة، وهذا يميل إليه الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله -، وظاهر كلام شيخنا ابن باز - رحمه الله - أن الإنسان لو اشترط في هذه الأزمنة خصوصا مع كثرة الحوادث؛ فإنه ينفعه الشرط. وقال الشيخ محمد: نسبة الحوادث إلى عدد الحجيج في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كنسبة الحوادث إلى عدد الحجيج في زمننا هذا فالمسألة بحالها. كذا قال - رحمه الله -، يعني وإن ¬

(¬1) أخرجه البخاري (5089)، ومسلم (1207).

قال الناس: الآن حوادث كثيرة. نقول: الذين يسلمون أضعافا مضاعفة ملايين، وكانوا قبل على دواب ويحصل لهم حوادث مع قلة عددهم، ومع ذلك لم يشرع الاشتراط إلا في حق من كانت به علة. وفيه من الفوائد: أنه لا يشرع الاشتراط في غير الشكوى والعلة وهذا تجتمع به الأخبار، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط وعامة أصحابه، وهذا هو القول الفصل في المسألة فلا يسن إلا لمن به علة وشكوى.

الحديث التاسع والستون

الحديث التاسع والستون وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ الحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَاريِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كُسِرَ، أَوْ عَرِجَ، فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الحَجُّ مِنْ قَابِلٍ». قَالَ عِكْرِمَةُ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَا: صَدَقَ. [رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذيُّ] (¬1). هذا الحديث يرويه الخمسة من طريق (يحيي بن أبي كثير عن عكرمة عن عبد الله بن رافع عن الحجاج بن عمرو) وفيه كلام كثير وأعله شيخنا ابن باز - رحمه الله - من وجوه: 1 - يحيي بن أبي كثير عنده شيء من التدليس. 2 - لم يذكر عليه الهدي والهدي موجود في النصوص. 3 - أن من كسر أو عرج قد يكون يستطيع أن يطاف به محمولا ويحل. 4 - «وَعَلَيْهِ الحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» هذا لا يحب إلا إذا كان الإنسان لم يحج حجة الإسلام فوجوبها بحالة على الفور. والحديث لابد من حمله على ما يوافق النصوص. وفيه - لو صح - دلالة على أن الحصر يكون بغير العدو وهذه مسألة مشهورة وقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} الآية، ليس له مفهوم بأن الحصر بالعدو فهو أعم، فيكون ¬

(¬1) صحيح: رواه أبو داود (1862)، والنسائي (2861)، والترمذي (940)، وابن ماجه (3077)، وأحمد (3/ 450). قال الترمذي: هكذا رواه غير واحد عن حجاج الصواف نحو هذا الحديث، وروى معمر ومعاوية ابن سلام هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن عبد الله بن رافع - وهو مولي أم سلمة - عن الحجاج بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث، وحجاج الصواف لم يذكر في حديثه (عبد الله بن رافع) وحجاج ثقة حافظ عند أهل الحديث، وسمعت محمدًا يقول: رواية معمر ومعاوية بن سلام أصح. اهـ. وقد صححه العلامة الألباني وجماعة.

بضياع نفقة أو ضلال طريق، وكذلك إذا كان كسر أو مرض فإنه يتحلل ويفعل ما يفعل المحصر، فإن كان لم يحج حجة الإسلام فليحج حجة الإسلام. وإلى هنا ننتهي من تعليق ما أردنا تعليقه على كتاب الحج من بلوغ المرام والله ولي التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

§1/1