شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - حطيبة

أحمد حطيبة

آداب السفر [1]

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - آداب السفر [1] للسفر آداب ينبغي للمسلم أن يتحلى بها، سواء كان هذا السفر للحج والعمرة والغزو أو غير ذلك من الأسفار المباحة، والسفر مدرسة لتلقي الصبر والحلم والرفق بالغير؛ لأن السفر فيه مشقة، فجدير بالمسلم أن يتعلم الآداب من مدرسة السفر، حتى ينال الأجور العظيمة.

آداب السفر للحج والعمرة وغيرهما

آداب السفر للحج والعمرة وغيرهما الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. الأدب في الحج والعمرة والسفر هام جداً، فكل إنسان يحب أن يخرج مسافراً في حج أو عمرة أو زيارة ينبغي له أن يتعلم آداب السفر التي جاءت في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). فالمؤمن الذي يحج أو يعتمر يحاول قدر المستطاع أن يتقن في عمله، وأن يخلص، وألا يسيء إلى أحد في سفره، فلا يسيء إلى نفسه ولا إلى غيره. قال الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فهذه آداب قرآنية يذكرها الله عز وجل لنا فيقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. قوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة:197] أي: من ألزم نفسه بالحج بأن يعقد النية في قلبه، وبالتلبية على لسانه، وبلبس الإحرام في أشهر الحج، قال تعالى: ((فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ))، فهنا ربنا سبحانه يذكر صيغة النفي هنا: (لا رفث)، ومعناها النهي، أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الحج. والرفث: هو الجماع أو التعرض للنساء، أو ذكر الجماع بحضرة الزوجة وغيرها من النساء، والفسوق: هي المعاصي كلها، والجدال المقصود: أن الإنسان لا يماري ولا يجادل رفيقه في السفر، فيزعجه ويؤذيه بذلك. فقوله سبحانه: ((وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)) قال أهل العلم: المراد بالآية النهي عن جدال صاحبه ومماراته حتى يغضبه، وظاهر الآية النفي ومعناها النهي، أي: لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا في الحج، إلا أنه يجوز للإنسان أن يجادل دفاعاً عن كتاب الله، وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن دين الله عز وجل، فهذا أمر آخر، لكن كونه يجادل ليغضب صاحبه، أو يجادل لأنه يظن أنه متمكن ويعرف يتكلم وغيره لا يعرف، فهذا لا يجوز له في أثناء الحج، فقد نهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك. والمؤمن يوطن نفسه على عدم الجدل لا في حج ولا في غيره، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً) أي: لمن ترك الجدل حتى لو كان محقاً، فالمؤمن قدر المستطاع لا يكثر من الكلام ومن اللغو، ولا يجادل إلا إذا احتاج إلى ذلك لنصر دين الله عز وجل.

الاستشارة

الاستشارة للسفر له آداب نذكر منها ما جاء في كلام الإمام النووي ملخصاً في آداب السفر، فقد ذكر آداباً وفيها أدلة من الكتاب ومن السنة، فنذكر هذه الآداب لعظيم فائدتها ومنفعتها. وعلى الإنسان المؤمن أن يربي نفسه بتعلم هذه الآداب، ولا قيمة لإنسان يتعلم علوماً شرعياً ولا يعمل بها، أو يعرف أحاديث ويعرف آيات ولا ينفذ ما أمر به فيها، فالإنسان المؤمن يربي نفسه على طاعة الله، وعلى طاعة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وعلى العمل بشرع الله سبحانه. فمن آداب السفر: إذا أراد المسلم السفر لحج أو عمرة أو أي سفر من الأسفار استحب له أن يشاور من يثق بدينه وعلمه في سفره ذلك، فيستحب له أنه يستشير في الأمور التي يجهل مسالكها ويجهل أحوالها، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه قال: (المستشار مؤتمن)، فإذا استشارك إنسان في شيء فتنصح له كما تنصح لنفسك، وتحب لأخيك ما تحبه لنفسك، فالمستشار مؤتمن، والله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه، وهم مأمورون بإعطاء المشورة الصادقة والنصيحة الصحيحة فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، وقال سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه ويشاورونه.

الاستخارة

الاستخارة إذا عزم المرء على السفر استخار الله سبحانه وتعالى، فيصلي ركعتين من غير الفريضة، ويدعو بدعاء الاستخارة الذي نحفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -وتذكر الأمر الذي ستخرج له أو الذي تريده- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به، قال: ويسمي حاجته)، فيستخير الله سبحانه، فإذا ترجح في نفسه أمر من هذه الأمور، بأن ترجح له أنه يسافر في طائرة، أو يسافر في باخرة، أو يسافر في سيارة، فليسافر كما يشاء الله سبحانه وتعالى. ولا يشترط في صلاة الاستخارة أن يرى رؤيا، كما يظن الكثيرون أنه لابد أن يرى رؤيا، فلم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا رؤيا ولا غيرها، ولكن قد يرى المرء رؤيا تشجعه على هذا الأمر أو تحسن له هذا الأمر، فيستريح نفسياً، ويمضي في الشيء فيجده ميسراً ومسهلاً، فعلى ذلك ينفذ الاستخارة ونفسه مطمئنة لأمر من الأمور.

التوبة إلى الله تعالى ورد المظالم وقضاء الديون

التوبة إلى الله تعالى ورد المظالم وقضاء الديون إذا استقر عزم المرء على السفر لحج أو لعمرة أو لغيرها فينبغي أن يبدأ بالتوبة إلى سبحانه وتعالى؛ لأن المسافر قد يرجع وقد لا يرجع، والدنيا سفر إلى الآخرة، فيتذكر بسفره هذا سفره في هذه الدنيا إلى الله عز وجل إلى الآخرة، فيتوب إلى الله سبحانه وتعالى، ويرد المظالم إلى أصحابها إذا كان قد ظلم إنساناً، ويخرج عن هذه المظالم ويعيدها إلى أهلها، ويقضي ما عليه من ديون، فإذا لم يقض ولم يقدر على القضاء ولم يتمكن من ذلك يكتب ذلك ويشهد على ذلك: علي ديون لفلان وفلان، ويكتب وصيته بهذا الشيء، ويوكل من يقضي عنه الدين إذا لم يتمكن من الرجوع، أو حدث له حادث في سفره ذلك.

استئذان الوالدين عند إرادة السفر

استئذان الوالدين عند إرادة السفر ينبغي للمرء أن يسترضي والديه عند إرادة السفر، فإذا تعين عليه الحج أو العمرة أو غيرهما من الأسفار وصار هذا السفر فرض عين عليه فيستحب أن يستأذن الوالدين، لكن إذا لم يكن فرض عين عليه فيجب عليه أن يستأذن الوالدين، ولهما أن يمنعاه مما ليس واجباً عليه. فإذا كان قد حج قبل ذلك وأراد أن يحج مرة ثانية حج تطوع وليس فريضة، فلابد من إذن الوالدين في ذلك، أما إذا كان حجه وعمرته فرض عين عليه فعلى ذلك يستأذن والديه استحباباً حتى يرضيهما.

النفقة الحلال

النفقة الحلال ينبغي للمرء أن يحرص أن تكون نفقته حلالاً إذا خرج لحج أو لعمرة أو لسفر في غزوة وغيرها، فلا ينفق من حرام، والإنسان الذي ينفق من حرام جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه عندما يرفع يديه إلى الله بالدعاء لا يستجاب له، فيقول: (يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟) أي: كيف يستجاب له على ذلك؟ فالذاهب للحج أو للعمرة ذاهب ليغفر الله عز وجل له ذنوبه، ذاهب ليقول: لبيك اللهم لبيك، فهو ينتظر المغفرة، فإذا كان طعامه، وشرابه، وماله ويقول: يا رب! يا رب! فكيف يستجاب له؟! إذاً: ينبغي له أن ينقي ماله من الحرام وأن يخرجه من ماله فيتصدق به إذا لم يعرف صاحبه، أما إذا كان له صاحب فيعيد المال إلى صاحبه، ويحج بنفقة حلال. كذلك لو أنه حج أو اعتمر أو غزى بمال حرام، من مهنة محرمة، أو بمال كان مغصوباً عنده، فيجب عليه أن يعيد هذا المال إلى صاحبه، لكن هل حجه يكون صحيح أو ليس صحيحاً إذا حج بمال حرام؟ هناك فرق بين أن يكون العمل صحيحاً، وبين أن يكون مقبولاً، فهو صحيح بمعنى أنه سقط عنه الفرض، ولا يلزم بإعادته مرة ثانية، هذا هو الصحيح، لكن المقبول بمعنى أنه يعذب وقد لا يقبل الله سبحانه وتعالى العمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأنى يستجاب له؟) إذاً: فهذا الإنسان ليس عليه أن يحج مرة ثانية، لكن لا نقول: إن حجه مقبول عند الله عز وجل؛ لأنه لم يذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن مثل هذا الإنسان يقبل عمله، بل قال: (فأنى يستجاب له؟). أما الحديث الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم وفيه: (من حج بمال حرام فقال: لبيك اللهم لبيك، قال الله عز وجل: لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك) فهذا حديث ضعيف، لكن قد يحبس دعاؤه للحديث الآخر الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (فأنى يستجاب له؟)، والحج كله دعاء، فهو يقول: ليبك ويدعو ربه سبحانه، ويقف عند الصفا وعند المروة ويدعو الله، ويطوف بالبيت ويدعو الله، ويقف في عرفات ويدعو الله، والمناسك كلها توحيد وذكر لله سبحانه ودعاء.

حمل الزاد والإكثار منه

حمل الزاد والإكثار منه يستحب للمسافر في حج أو غيره أن يحمل معه الزاد وأن يستكثر منه، فهذا من أدب السفر؛ لأنه في أثناء الطريق يحتاج إلى الطعام والشراب، فيستحب أن يستكثر من ذلك؛ لأنه قد يجد مسكيناً محتاجاً، وقد يجد رفيقاً فيهدي إليه، فتؤجر على ذلك. وليكن زاده طيباً، لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267]، فلابد أن يطيب طعامه وشرابه وزاده ويخرج في الطريق ومعه شيء زائد ليعطي من في الطريق ممن يحتاجون إلى ذلك.

ترك المساومة في البيع في أمور العبادة

ترك المساومة في البيع في أمور العبادة يستحب للمسافر ترك المساومة فيما يشتريه لأسباب سفره في حجه وعمرته، والإنسان من طبيعته المساومة، حتى لو كانت السلعة تسوى الثمن الذي تباع به، وهذا المال الذي ينفقه في حجه وفي عمرته هو مأجور عليه. وليس المعنى أن الإنسان يكون ساذجاً مغفلاً في بيعه وشرائه فيخدع، ولكن لا يعود نفسه كثرة المساومة، وقد يكون عارفاً ثمن السلعة، لكن يعجبه المساومة، وقد يعرف أن البائع لا ينقص من الثمن فيظل يساوم، فإذا كان لأمر من أمور الحج أو العمرة أو لأمر العبادة فلا يستحب المساومة في ذلك؛ لأنه كلما زادت النفقة كلما زاد الأجر من الله عز وجل، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها: (إنما حجك على قدر نفقتك وتعبك).

عدم مشاركة الغير في الزاد والنفقة

عدم مشاركة الغير في الزاد والنفقة يستحب للمسافر ألا يشارك غيره في الزاد والراحلة والنفقة؛ لأن المشاركة مع الغير تدفع الإنسان إلى الشح، لكن عندما يكون مالك معك وجاء فقير فمن السهل أن تعطيه، لكن عندما يكون مالك مع مال المجموعة التي معك فستقول له: حتى يرضوا، فلا تدفع لا من مالك ولا من مال غيرك، فلذلك يستحب للإنسان ألا يشارك في مجموع المال، ولكن يجوز أن يأكل ويشرب مع غيره، بأن يجمعوا الأكل ويجلسوا للطعام معاً، فهذا جائز، لكن كونه يشارك غيره في الراحلة والزاد والنفقة بمعنى أنهم يجمعون النقود ويجعلونها مع واحد منهم، فإذا جاء إنسان فقير يسأل فيكون المسئول عن الرحلة هو الذي يعطيه، ولعل المسئول عن الرحلة يبخل، ولعلك تريد أن تعطي، لكن لما كان مالك مع غيرك بخلت وبخل هذا الغير. أما اجتماع الرفقة على طعام يجمعونه في كل يوم، فهذا حسن ولا شيء فيه، وهو غير المسألة التي نتكلم عنها، فقد جاء عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! إنا نأكل ولا نشبع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فلعلكم تفترقون، فقالوا: نعم، قال: فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه)، فكأن من السنة في وقت الطعام أن تجتمع المجموعة ليأكلوا جميعاً، خاصة إذا كان الطعام قليلاً، فالله عز وجل يبارك في الطعام القليل بسبب الاجتماع عليه.

تعلم المناسك

تعلم المناسك إذا أراد المرء سفر حج أو عمرة لزمه تعلم كيفيتهما، يتعلم كيف يحج وكيف يعتمر، إما أن يحضر دروس العلم في ذلك، والأفضل أن يكون معه كتاب في الحج أو في العمرة ليعرف المناسك، بحيث إنه إذا احتاج إلى شيء راجع مرة ثانية وقرأ فيه ما يحتاج إليه. يقول الإمام النووي رحمه الله: يستحب لمريد الحج أن يستصحب معه كتاباً واضحاً في المناسك، جامعاً لمقاصدها، ويديم مطالعته. إذاً: المذاكرة مطلوبة في هذا الأمر؛ لأن كثيراً من الناس الذين يذهبون إلى الحج أو العمرة توزع عليهم الكتب ومع ذلك لا يفكر أن يقرأ فيها، ويقول: سنسأل عندما تحصل قضية، ولعله يفعل الشيء الذي يلزمه عليه فدية؛ لأنه لم يقرأ ولم يتعلم، فتعلم أخي المسلم مناسك الحج والعمرة قبل أن تؤدي المناسك، والمناسك إذا كانت فرضاً عليك فتعلمها فرض عليك أيضاً.

اختيار الرفيق الصالح العالم

اختيار الرفيق الصالح العالم يستحب للمرء أن يطلب رفيقاً موافقاً، راغباً في الخير كارهاً للشر، وأن يكون هذا الرفيق على علم شرعي، وعلى تقوى لله سبحانه وتعالى؛ لأن مثل هذا يعينه على طاعة الله سبحانه، ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، وإذا كان يجتمع فيه أنه من أهل العلم وأنه قريب له، فهذا أفضل؛ لأنه مع القريب لا يوجد الحرج، فيسأل فيما يريد، وينصح بعضهم بعضاً في طاعة الله سبحانه.

عدم الاشتغال بالتجارة

عدم الاشتغال بالتجارة يستحب لمن سافر سفر حج أو غزو أن تكون يده فارغة من مال التجارة؛ لأن التجارة تطغى على صاحبها، وتجعله ينسى مناسك الحج والعمرة، ويكون همه كله أنه سيرجع بكذا من المال، ويوجد البعض من هؤلاء يكون عليه الهدي، بأن حج متمتعاً، فيقول: سأصوم ثلاثة أيام، فنقول له: كيف تصوم ثلاثة أيام ومعك نقود؟ فيقول: هذه النقود أريد أن أشتري بها حاجات! فهو يجمع النقود من أجل أن يشتري بها هدايا، أي يشتري بها تجارة، ولا يخرج ما وجب عليه من الهدي، ولذلك فالأفضل أن يتخلى عن التجارة.

استحباب السفر في يومي الإثنين والخميس

استحباب السفر في يومي الإثنين والخميس يستحب للمرء أن يكون سفره يوم الخميس بحسب ما يتيسر له؛ لأن الخروج يوم الخمس حسن، أو في يوم الإثنين؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث كعب بن مالك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس)، فإذا تيسر له ذلك كان حسناً، وكذلك يوم الإثنين، فقد ثبت أن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة كانت في يوم الإثنين، أيضاً في يومي الإثنين والخميس ترفع الأعمال إلى الله سبحانه، والمسافر يدعو ربه سبحانه، فإذا دعا فإنه يرفع دعاؤه ويستجاب له في ذلك.

الخروج المبكر وصلاة ركعتين قبل الخروج

الخروج المبكر وصلاة ركعتين قبل الخروج كذلك يستحب الخروج للسفر في وقت مبكر بعد الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهؤلاء المبكرين بالبركة، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها)، وكان إذا بعث جيشاً أو سرية بعثهم في أول النهار عليه الصلاة والسلام. كذلك إذا أردت الخروج وعزمت على السفر فصل ركعتين في البيت قبل الخروج للسفر، فهذه سنة، فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا خرجت من منزلك فصل ركعتين يمنعانك من مخرج السوء، وإذا دخلت إلى منزلك فصل ركعتين يمنعانك من مدخل السوء)، وهذا على العموم، لكن في السفر من باب أولى، فعلى الإنسان أن يعود نفسه عند خروجه من بيته للسفر أن يصلي ركعتين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يذكر فضل الركعتين هؤلاء: (يمنعانك من مخرج السوء)، المخرج مصدر بمعنى: خروج، أي: خروج الإنسان إما لشيء طيب أو لشيء رديء، فإذا أراد الخروج وصلى ركعتين قبل خروجه، فالله عز وجل يحفظه بهاتين الركعتين عن الدخول في الأمر الخبيث والسيئ، ويحفظه مما يسوءه، كذلك إذا دخل الإنسان إلى بيته ورجع من سفر فصلى ركعتين، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمنعانك من مدخل السوء)، والمدخل من الدخول، وقد يدخل الإنسان إلى بيته ويرى ما يغضبه فيتأذى ويؤذي، فإذا صلى ركعتين فإن الله عز وجل يذهب عنه ذلك.

توديع المسافر والدعاء له

توديع المسافر والدعاء له يستحب التوديع في السفر، وذلك بأن يسلم المرء على أهله وعلى أصدقائه وأحبابه عند خروجه للسفر، ويدعو بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أصحابه ويدعو به، فهذا عبد الله بن عمر كان إذا أراد أحدهم سفراً يقول له: ادن مني أودعك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعنا، فيقول: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك). فهنا المسافر مفارق للمقيم والمقيم مفارق للمسافر فيستحب لكل من الاثنين أن يقول للآخر: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)، والمعنى أنك تدعو لصاحبك أن الله عز وجل يحفظه، كأنك تقول: أجعل هذه الأشياء وديعة عند الله سبحانه، والله عز وجل إذا استودع شيئاً حفظه سبحانه وتعالى، فكأنك تدعو له ربه سبحانه وتعالى أن يحفظ له دينه وأمانته وعمله الصالح، ويديم عليه ذلك، وهو يدعو لك بمثل ذلك أيضاً. وجاء عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أريد سفراً فزودني، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: زودك الله التقوى)، كأنه يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم النصيحة، فدعا له أن يجعل الله زادك تقواه سبحانه وتعالى، قال: (زدني قال: وغفر ذنبك، قال: زدني بأبي أنت وأمي، -أي: أفديك بأبي وأمي- قال: ويسر لك الخير حيثما كنت). فهذا دعاء عظيم جميل من النبي صلى الله عليه وسلم، فيعود المؤمن نفسه على أن يدعو لإخوانه، وأنت حين تدعو لأخيك يرد عليك الملك فيقول: آمين، ولك بمثله. فهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: (زودك الله التقوى) أي: دعا له بالتقوى، والله عز وجل يحب المتقين، والله مع المتقين ومع المحسنين سبحانه، فإذا كنت من أهل التقوى كان الله معك. فقال الرجل: (زدني، فقال: وغفر ذنبك) أي: دعا له بالمغفرة لذنبه، قال: (زدني بأبي أنت وأمي! قال: ويسر لك الخير حيثما كنت) أي: دعا له بخير الدنيا والآخرة. أيضاً جاء عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا استودع شيئاً حفظه) أي: إذا جعل شيء عنده سبحانه وديعة فإنه يحفظ هذه الوديعة ولا يضيعها، وكذلك هنا إذا استودعت صاحبك عند الله سبحانه فإنه لا يضيعها، فهو سبحانه يحفظ صاحبك من كل سوء.

الالتزام بدعاء السفر في الذهاب والعودة

الالتزام بدعاء السفر في الذهاب والعودة من السنة أن يدعو الإنسان في خروجه بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، تقول أم سلمة رضي الله عنها: (ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي). هذا الدعاء العظيم كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من بيته، في أي خروج كان، سواء كان خروج سفر أو إلى المسجد أو غير ذلك، كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته يرفع بصره إلى السماء ويدعو بذلك: (اللهم إني أعوذ) أي: أعتصم وأستجير، فأطلب من الله عز وجل أن يكون هو مددي وملجئي ومجيري، ويعصمني ويحفظني من أن أضل أو أضل، وقوله: (أضل) فعل لازم معناه: أقع في الضلال وأصير إلى الضلال، وقوله: (أو أُضل) أي: أن يضلني أحد. فالإنسان الخارج لعل الشيطان يسول له أن يقع في الضلالة، أو يقابله رفيق سوء فيدعوه إلى الوقوع في الحرام، فأنت تقول: أعوذ بك يا رب أن أضل أنا بنفسي، أو أن يضلني غيري. قوله: (أو أزل) أي: أعوذ بك أن أقع في الزلل والمعصية. (أو أُزل) أي: أن يأتي إنسان إلي فيوقعني في الزلل وفي الخطيئة وفي المعصية. (أو أَظلم أو أُظلم) أي: أن أقع في الظلم، بأن أظلم أحداً من الناس، أو أن يظلمني أحد من الناس. (أو أجهل أو يجهل علي) أي: أن أقع في سوء الخلق فأجهل على إنسان آخر، أو إنسان يجهل علي بسوء خلقه. هذا الحديث جمع دعاء عظيماً: (اللهم إني أعوذ بك أن أَضل أو أُضل، أو أًزل أو أُزل، أو أَظلم أو أُظلم، أو أَجهل أو يُجهل علي). كذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا خرج الرجل من بيته فقال: باسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: يقال له حينئذ: هديت وكفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟!). فالشيطان عندما يسمع ذلك يقول لصاحبه: لا نقدر على هذا الإنسان. فقوله: (إذا خرج من بيته فقال: باسم الله) أي: خروجي هذا على اسم الله سبحانه وتعالى. قوله: (توكلت على الله) أي: فوضت أمري إلى الله سبحانه، ومعنى التوكل على الله سبحانه: أن الإنسان يستشعر العجز والضعف، وأنه لا يقدر على الشيء وحده، ويقول: الله الذي يقدرني على ذلك، فلا حول ولا قوة لي إلا بالله. والإنسان هو الضعيف العاجز فيحتاج إلى من يقويه، وإلى من يعطيه، فتقول: (توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله) أي: جعلت الله عز وجل وكيلي ومدبر أمري ومعيني وناصري، ولا حول ولا قوة لي إلا به. فإذا قال العبد ذلك فالله يعينه ويصرف عنه الشياطين، فيقال لهذا الإنسان: (هديت وكفيت ووقيت)، أي: الله قد هداك، ووقاك من كل شر، والله يكفيك من كل سوء سبحانه وتعالى، فإذا بالشيطان يقول لصاحبه: (كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟) يعني: إذا كان ربه معه فلن نقدر عليه. كذلك إذا أراد المسافر أن يركب الدابة، أو كان يريد أن يركب طائرة أو سيارة، أو باخرة، فأول ما يضع رجله يقول: باسم الله، فإذا استوى يقول: الحمد لله، ثم يأتي بالتسبيح والذكر والدعاء الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ابن عمر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبر ثلاثاً، يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13])، السفر كله عظات، وفيه تأملات ووقفات مع النفس، فيتأمل المسافر كيف أن الله عز وجل سخر لنا هذا الشيء، فأنت حين تركب طائرة تجد حجم الطائرة ضخماً، وإذا بهذه الطائرة تطير وتقلع من الأرض إلى السماء، فسبحان الذي سخر لنا هذا، فمن الذي حمل الإنسان عليها؟ إنه الله سبحانه وتعالى، فهو إن شاء هوى بها وأهلك أهلها، وإن شاء نجاهم وأوصلهم سبحانه، فيتمعن الإنسان ويتفكر ويعلم أنه محتاج إلى الله عز وجل في كل وقت، فما أعظمه سبحانه وتعالى، فهو الذي رفع هذه الطائرة سبحانه وتعالى، وهو الذي علم الإنسان ما لم يعلم، فصنع هذه الطائرة وهذه الباخرة وهذه السيارة وغيرها. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] أي: مطيقين، {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:14] أي: تذكر أنك مسافر من مكان إلى مكان تريد أن تنقلب وترجع إلى أهلك، فتذكر أن الرجوع الحقيقي هو إلى الله سبحانه وتعالى. ثم يدعو المسافر بالدعاء المأثور ويقول: (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى) أي: أعمال البر وأعمال الطاعة، العمل الذي يرضي الله سبحانه، والتقوى أن يجعل في قلوبنا ما يمنعنا من معصية الله سبحانه، وما يقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فالتقوى: هي الوقاية التي تقي الإنسان من غضب الله سبحانه وتعالى ومن المعاصي. ثم قال: (اللهم هون علينا سفرنا هذا)، هذا دعاء عظيم، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن السفر قطعة من العذاب)، فتسأل ربك سبحانه أن يهون عليك هذا السفر. ثم قال: (واطو عنا بعده) أي: لا تجعله بعيداً طويلاً، ولكن سهله وقلله. ثم قال: (اللهم أنت الصاحب في السفر) أي: المصاحب لنا بفضلك وحراستك وقوتك يا الله! (والخليفة في الأهل) أي: استخلفناك أن تدافع وتدفع وتحفظ وتحرس أهلنا. ثم قال: (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر) أي: شدة ومشقة السفر، (وكآبة المنظر)، أي: المنظر الذي يجعلني أكتئب وأحزن، فأعوذ بالله عز وجل أن يريني ما يحزنني في سفري أو في رجوعي، (وسوء المنقلب في المال والأهل)، أي: سوء الرجوع، فهو يستعيذ بالله أن يرجع فيجد ما يسوءه في أهله أو في ماله، وإذا رجع من السفر قالهن وزاد فيهن، (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون). قوله: (آيبون) من الأوبة وهو الرجوع، (تائبون) أي: إلى الله، والأوبة مع التوبة مناسب، فالإنسان يئوب ويرجع إلى مكانه، فكأنه يتذكر ويقول: أنا أبت إلى أهلي فلماذا لا أءوب إلى الله عز وجل، وأتوب إلى الله سبحانه، وأرجع إليه؟! وجاء عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب) أي: يتعوذ من الوعثاء، والوعثاء: هي الشدة والمشقة والتعب والنصب والإعياء في السفر، ويتعوذ مما يجعله مكتئباً حزيناً إذا رجع إلى أهله، (والحور بعد الكون، أو بعد الكور)، الكور: من كور العمامة التي تكون على الرأس، والكون هو: الاجتماع، والحور هو التفكك، فكأنك تدعو ربك: ألا يفك اجتماعي، وأن يجعل عملي كله مجموعاً صحيحاً، ولا يبعدني عن هذا العمل فأكون قد رجعت عن هذا العمل الصالح الذي عملته، فهو يتعوذ بالله من النقصان بعد الزيادة، وبعدما زاد إيمانه وزاد عمله يدعو ألا ينقص وينحل ويتفكك ويحدث هذا الخلل. ثم قال: (ودعوة المظلوم وسوء المنظر)، فدعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، ولو كان فاجراً ولو كان كافراًَ، فينبغي ألا تظلم أحداً لا مسلماً ولا كافراً، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من دعوة المظلوم وسوء المنظر في الأهل والمال. وجاء عن علي بن ربيعة قال: (شهدت علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتي بدابته ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: باسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم قال: الحمد لله ثلاث مرات، ثم قال: الله أكبر ثلاث مرات، ثم قال: سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل: يا أمير المؤمنين! من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت، ثم ضحك، فقلت: يا رسول الله! من أي شيء ضحكت؟ قال: إن ربك سبحانه يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري). فالعبد حين يقول: (اغفر لي ذنوبي) فربنا يعجب ويقول: من سيغفر له إلا أنا! فيعجب لعبده، فإذا عجب الله عز وجل لعبد فإنه يرحمه ويغفر له ويثيبه ويعطيه بفضله وكرمه سبحانه، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم لسعة رحمة رب العالمين تبارك وتعالى.

مرافقة الجماعة والاجتماع في السفر

مرافقة الجماعة والاجتماع في السفر يستحب للمرء أن يرافق في سفره جماعة؛ لأنهم عندما يكونون مجموعة في السفر يعين بعضهم بعضاً على التقوى، وأقلهم ثلاثة، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده)، فهذه أمور غيبية لا نعلمها، لكن علمها النبي صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل أطلعه على ما شاء من غيب لا نراه ولا نعرفه. فالنبي صلى الله عليه وسلم ينصح بألا تسافر لوحدك في طريق، وخاصة بالليل، فلعله مع خلو الطريق في سفره يزين له الشيطان أمراً من الأمور المحرمة، فيقع فيه ولا يجد من ينصحه، ولعل الشيطان إذا وجده في صحراء أو غيرها لوحده فيتمثل له في صور خيالية فيخيفه، فينصح النبي صلى الله عليه وسلم المرء ألا يسافر لوحده، ولكن يسافر مع مجموعة، وأقل ذلك ثلاثة، فقد جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب). أي: أن المسافر وحده يمكن أن يقع في شيء من الخطأ، وكذلك إذا كان معه آخر فلعل أحدهما يغلب الآخر، بأن يكون أكثر جدلاً من الآخر فيقول له: ما رأيك أن نعمل كذا؟ فيقنعه بهذا الشيء فيقع الاثنان في هذا الخطأ، فسماهما: شيطانين، لكن الثلاثة تجد كل واحد يراجع نفسه. إذاً: يستحب أن يسير الإنسان في سفره مع الناس ولا ينفرد في الطريق، وإذا اجتمع مع الناس وخاصة حين ينزلون في أماكن في أثناء الطريق، فبعض الناس يبدو له أن يشتري حاجة من مكان بعيد، ويجيء وقت الانطلاق فإذا به لم يأت بعد فيعطل الجميع، ولو أن كل إنسان عمل ذلك لتعطلت الرحلة كلها، لكن ينبغي على كل إنسان أن يلتزم وألا يبعد عن المجموعة التي هو معها.

اتخاذ الأمير فيه للمجموعة

اتخاذ الأمير فيه للمجموعة يستحب للمسافرين رفقة أن يؤمروا أفضلهم وأعلمهم وأصوبهم رأياً؛ لأن عدم التأمير يحدث الفوضى في السفر، ويؤدي إلى نوع من التناحر والتعادي، لكن عندما يكون المسئول عن الجمع شخصاً واحداً تنضبط الأمور، وكل إنسان يعرف الذي ينبغي عليه، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) أي: بأن يؤمروا أفضلهم وأجودهم رأياً وأعلمهم بالسفر، وأن يكون عالماً بالمناسك، بحيث يبقى رأيه فاصلاً بين هؤلاء الذين معه، وفي حديث آخر للنبي صلى الله عليه وسلم رواه ابن عباس قال: (خير الصحابة أربعة)، أي: الأصحاب، وقد ذكرنا في الحديث السابق: (الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب)، لكن الأربعة خير من الثلاثة؛ لأنه كلما زاد العدد زاد التناصح فيما بينهم، قال: (خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة)، الشاهد من الحديث قوله: (خير الصحابة أربعة) فالمسافر كلما كان مع مجموعة كان أفضل، وخاصة إذا كانوا متوافقين في الرأي.

السفر في الليل للمجموعة

السفر في الليل للمجموعة يستحب السرى في آخر الليل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالدلجة، فإن الأرض تطوى بالليل)، لكن الواحد لا يسافر وحده في الليل، أما إذا سافرت مع مجموعة فسافروا بالليل؛ لأن الأرض تطوى بالليل، والسفر في الليل ليس فيه منغصات، وليس فيه ارتفاع للحرارة، فعلى ذلك يمكن أن يقطعوا طريقاً طويلاً في أثناء الليل.

خدمة الرفقة ومساعدتهم وإعانتهم

خدمة الرفقة ومساعدتهم وإعانتهم يسن مساعدة الرفيق وإعانته في أثناء الطريق، وأن تخدم من معك، وكم رأينا من أناس يحبون أن يقوموا بخدمة المجموعة في السفر، فقد سافرنا مع مجموعة من الإخوة جزاهم الله خيراً، كان أحدهم من أفضلهم خادماً للجميع، فمثل هذا يحبه الجميع ويتمنون لو سافروا معه مرة ومرتين وثلاثاً، فأنت حين تخدم إخوانك في السفر فإن الله عز وجل يجعل في قلبك الحب للغير، ويعطيك الأجر والثواب، ويجعل المحبة في قلوب الناس لك، فلذلك على المؤمن أن ينتهز الفرصة في الحج والعمرة بأن يكون في خدمة غيره، عبادة لله سبحانه، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس أنفعهم) فإذا كنت نافعاً لنفسك ولغيرك فأنت من خير الناس. وفي الحديث: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل معروف صدقة)، وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له، فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكره، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل). هذا رجل جاء على راحلة له فجعل ينظر يميناً وشمالاً، ففهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه محتاج لمعونة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحرج الرجل ولم يقل له: ماذا تريد؟ ولا قال لبعض الصحابة: يا فلان أعطه كذا، فقد يرون ذلك فرضاً عليهم وليس معهم، ولكنه قال قولاً عاماً: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له). وفي حديث آخر لـ جابر بن عبد الله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يغزو فقال: يا معشر المهاجرين والأنصار! إن من إخوانكم قوماً ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضم أحدكم إليه الرجلين والثلاثة، قال: فما لأحدنا من ظهر يحمله إلا عُقبة أحدهم، قال: فضممت إلي اثنين أو ثلاثة وما لي إلا عقبة كعقبة أحدهم من جملي) انظر إلى الصحابة كيف كانوا يتكافلون فيما بينهم! فهذا الراوي جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما وهو في السفر يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جمل واحد يركبه، فيضم إليه ثلاثة ليركبوا معه على الجمل يتعاقبون عليه، هذا يركب مرة وهذا مرة وهذا مرة وهو مثلهم، ولم يقل: الجمل حقي فأنا أركب أكثر، بل قال: (فما لي إلا عقبة كعقبة أحدهم)، انظر إلى هذا التفاني في حب الله سبحانه وتعالى، وفي خدمة الغير، وفي البذل والتضحية!

تفقد أمير المجموعة لمجموعته وتعليمهم ما ينفعهم

تفقد أمير المجموعة لمجموعته وتعليمهم ما ينفعهم يستحب لأمير المجموعة أن يكون في آخر الركب؛ من أجل أن يتفقد الضعيف، ويتفقد النساء، حتى لا يتيه أحد منهم في أثناء سفرهم، فيتعهد آخر الركب فيحمل المنقطع أو يعينه، ولئلا يطمع في هؤلاء في المسافرين، ويتعرض لهم اللصوص، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). وكذلك في أثناء الطريق ينبغي على الأمير الذي مع القوم أن ينبههم ويعلمهم وخاصة في الحج والعمرة؛ لأنه قد يوجد في المجموعة من يحج أو يعتمر لأول مرة ولا يعرف كيف يفعل، فمثلاً: عندما ينزل الحجاج في المطار يطلب منهم المسئولون هناك إظهار جوازات السفر، فهذا الإنسان تكون عنده أوراق معينة بداخل الجواز مثل تذكرة السفر أو غيرها، فيدفع لهم جواز السفر مع التذكرة التي بداخله فتضيع منه تذكرة السفر؛ لأنه لا يعرف كيف يتصرف، فالذي ينبغي على أمير المجموعة أن ينبه مثل هذا الشخص ألا يدفع لهم إلا جواز السفر فقط، وأن يحتفظ ببقية الأوراق الخاصة به، وكذلك إذا كنت في منى أو في عرفات أو في المزدلفة فنبه الناس: من السنة كذا، وعند رمي الجمار يفعل كذا وهكذا.

الرفق وحسن الخلق مع الغير

الرفق وحسن الخلق مع الغير ينبغي للمرء المسافر أن يستعمل الرفق وحسن الخلق مع الغلام، مع الحمال، مع السائل، ويجتنب المخاصمة، والإنسان يعود نفسه على الكلام المهذب، حتى لو كان عادة هذا الإنسان أنه شديد في معاملته، وفيه خشونة، فينتهز الفرصة في أثناء الحج أو العمرة بأن يعود نفسه على حسن الخلق، لعله إذا رجع تصير له سجية، لعل الله سبحانه وتعالى ينعم عليه فيرزقه بعد ذلك حسن الخلق. فيتعود الإنسان على أن يلين مع إخوانه، ويبتعد عن الأخلاق السيئة التي كان عليها، فإن بعض الناس في طبعه خشونة، فتجده أثناء المخاصمة يرفع صوته، وقد رأينا أمثال هؤلاء، فقد يزعج من معه فيدعو عليه في أثناء سفره. وكذلك تنتهز فرصة العبادة بأن تسأل ربك سبحانه أن يحسّن خلقك، وأن يغير حالك من الأسوأ إلى الأحسن، يقول الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، ففرصة في السفر أن يعرض الإنسان عن الجاهلين ويأخذ بالعرف، كما قال الله سبحانه، وأن يعفو عمن يسيء إليه، قال سبحانه: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43].

عدم الدعاء على الغير باللعن وغيره

عدم الدعاء على الغير باللعن وغيره كذلك ينبغي للمرء ألا يعود نفسه على الدعاء على الغير وخاصة باللعن؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، فالإنسان الذي عود لسانه دائماً: لعنة الله على فلان، لعنة الله على كذا هذا لا يصلح أن يكون شفيعاً يوم القيامة، حتى وإن دخل الجنة لا يصلح أن يشفع لأحد من أهل النار بأن يخرج ويدخله الله الجنة، وفي الحديث الآخر: (لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً). وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)، وفي حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً)، انظر إلى اللعنة التي خرجت من الإنسان، يلعن شيئاً فتصعد إلى السماء فلا تلقى لها مكاناً، وتنزل إلى الأرض فلا تلقى لها مكاناً، فإن لم تجد لها مساراً رجعت إلى الملعون المشتوم المدعو عليه باللعنة إن كان أهلاً لذلك، وإلا رجعت إلا قائلها، فقد ضاقت عليها السماوات والأرض، وكم من إن إنسان يلعن غيره وترجع لعنته على نفسه، واللعن: هو الطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى. أيضاً ورد في حديث لـ عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا ما عليها ودعوها؛ فإنها ملعونة، قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس وما يعرض لها أحد). كأن لعنة المرأة وقعت على هذه الناقة فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يصحبنا شيء فيه لعنة، فكان ذلك عقوبة للمرأة حتى لا تلعن شيئاً آخر، فقد خسرت المرأة الناقة ولم يستفد أحد منها. فيتعود الإنسان ألا يلعن شيئاً، وهذا من الآداب الذي ينبغي أن يكون في سفر الحج والعمرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

آداب السفر [2]

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - آداب السفر [2] جاءت الأحاديث النبوية تبين الآداب التي ينبغي على المسافر أن يحرص عليها، حتى يكون سفره طاعة لله تعالى، فالمسافر يذكر الله على كل أحيانه، فإذا ارتفع على شرف كبر، وإذا هبط وادياً سبح، وإذا اقترب من قريته هلل، وأعلن توبته إلى الله، فما أعظم دين الإسلام! فقد علمنا كل شيء.

تابع آداب السفر

تابع آداب السفر

التكبير عند الصعود والتسبيح عند الهبوط وعدم رفع الصوت بذلك

التكبير عند الصعود والتسبيح عند الهبوط وعدم رفع الصوت بذلك الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ذكرنا في الحديث السابق بعضاً من آداب السفر التي ذكرها الإمام النووي رحمه الله في المجموع، وهنا نذكر بقية الآداب التي ينبغي على المسافر أن يحرص عليها. من هذه الآداب: أنه يستحب للمسافر أن يكبر إذا صعد الثنايا، والثنايا جمع ثنية، والثنية: المرتفع من الأرض؛ فإذا علا الإنسان يستحب له أن يكبر الله سبحانه وتعالى، ويستحب له أن يسبح الله سبحانه إذا هبط الأودية. إذاً: التكبير مع الصعود والتسبيح مع النزول؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: (كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا)، وهذا مناسب جداً للموضع الذي هو فيه، فالإنسان إذا ارتفع يستشعر أنه كبير أكبر من غيره، فيكبر الله سبحانه وتعالى ويقول: الله أكبر، فيستشعر في نفسه أنه حقير وأنه عبد لله سبحانه، وأنه مهما ارتفع فلن يعلو على مولاه سبحانه وتعالى، فيقول: الله أكبر. فإذا نزل العبد فيستحب له التسبيح، فيتذكر أنه ما من شيء يرتفع إلا ويضعه الله سبحانه وتعالى، ولكن الله سبحانه هو الذي له الكمال كله، فهو الذي يسبح وحده لا شريك له، وهو الذي ينزه عن كل نقص وعيب وشين. فقد أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه، وهو الحي الباقي الكامل ذو الجلال وحده لا شريك له. إذاً: فيستحب إذا نزل الإنسان أن يسبح، فيتذكر أن الله وحده هو الذي كمل له كل شيء حسن سبحانه وتعالى في أوصافه وفي أسمائه. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل من الحج أو العمرة -قفل بمعنى: عاد ورجع- كلما أوفى على ثنية أو فدفد كبر ثلاثاً)، والثنية: المرتفع، والفدفد كذلك، قال: (ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، فمن السنة أن يقال ذلك في الرجوع. وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! إني أريد أن أسافر فأوصني، قال: عليك بتقوى الله، والتكبير على كل شرف)، والشرف: هو المرتفع من الأرض، فأوصاه بأنه إذا ارتفع على أي مكان كبر ربه سبحانه، هذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المسافر، قال: (فلما ولى الرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له: اللهم اطو له البعيد، وهون عليه السفر). أيضاً: يستحب إذا كبر الإنسان أن يرفع صوته شيئاً، ولكن لا يجهر فيصير كالصراخ فذلك يكره، ولذلك جاء في حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكنا إذا أشرفنا على واد وهللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا)، أي: كلما جاءوا على واد على مكان مرتفع كبروا وهللوا بصوت مرتفع جداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! اربعوا على أنفسكم)، ربع على نفسه بمعنى: عاد على نفسه ورجع وهدأ، قال: (اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنه معكم سميع قريب). فيكون المعنى: ارفق بنفسك واهدأ في رفع صوتك، وارفع صوتك من غير أن تؤذي نفسك، ومن غير أن تزعج الناس الذين حولك. إذاً: تكبر الله سبحانه بصوت ليست مرتفعاً فيه صراخ.

ما يقول من أشرف على قرية

ما يقول من أشرف على قرية يستحب إذا أشرف المسافر على قرية يريد دخولها أو منزل أن يدعو الله سبحانه، ويقول: اللهم إني أسألك خيرها وخير أهلها وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها؛ لحديث صهيب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن -أي: حملن- ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين) والذر بمعنى: البث والنشر، إذا هبت الريح فنشرت الأشياء، قال: (نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها). فسأل الله الخير كله وتعوذ بالله من الشر كله، وقوله: (نسألك خير هذه القرية وخير أهلها)، أي: إذا نزلت في مكان فأنت تريد الخير الذي في هذا المكان، وتريد الخير من أهل هذا المكان، وتتعوذ بالله من شر هذا المكان، وشر أهل هذا المكان، وشر ما في هذا المكان، ولذلك تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها).

كثرة الدعاء في السفر

كثرة الدعاء في السفر يستحب للمسافر أن يدعو في سفره دعاء كثيراً في أغلب الأوقات؛ لأن السفر مظنة الإجابة؛ ولذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده)، فالمسافر عندما يدعو الله يستجيب له، والمظلوم يدعو الله ويستجيب له، والوالد يدعو على ولده أو لولده والله يستجيب له.

إذا خاف أناسا أو غيرهم فيدعو الدعاء المأثور عند الخوف من عدو وغيره

إذا خاف أناساً أو غيرهم فيدعو الدعاء المأثور عند الخوف من عدو وغيره إذا خاف أناساً أو غيرهم فالسنة أن يقول ما رواه أبو موسى رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوماً قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم)، قوله: (اللهم إنا نجعلك في نحورهم) أي: نخيفهم بك، فتكون أنت في صدورهم، فترعبهم وتخيفهم وتجعل قلوبهم تضطرب خوفاً منك وخوفاً من عبادك المؤمنين، وقوله: (ونعوذ بك من شرورهم) أي: نستجير ونعتصم بك من شرورهم. ويسن أيضاً أن يدعو بدعاء الكرب الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم) فهذا هو دعاء الكرب. وجاء في الحديث الآخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كربه أمر قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)، فالإنسان إذا اشتد عليه شيء وأراد الفرج من الله عز وجل دعا بذلك: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)، أو بالدعاء الأول: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم).

خدمة المسافر الذي له نوع فضيلة

خدمة المسافر الذي له نوع فضيلة تستحب خدمة المسافر الذي له نوع فضيلة، فعلى المسافر أن يكون نفاعاً لمن حوله يخدم من حوله من غير أن يشق على نفسه، والسفر قطعة من العذاب، ولعلك تعين إنساناً يدعو لك فييسر الله عز وجل لك أمرك، ويتقبل منك عبادتك؛ بسبب دعوة هذا الإنسان الذي أعنته. فهنا يستحب أن يخدم من له نوع فضيلة معينة، ويأتسي بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كأن يكون علمك في يوم من الأيام، أو أعانك في يوم من الأيام، أو لم يعلمك أنت ولكن علم غيرك أو أعان غيرك، أو عرفت منه كرماً في شمائله وكرماً في خلقه، فيستحب أن تخدم مثل هذا الإنسان، فقد جاء في الحديث أن أنساً رضي الله تعالى عنه قال: (خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه في سفر فكان يخدمني)، وجرير بن عبد الله البجلي كان ملكاً في بجيلة في قومه، وقد أسلم وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان غاية في الجمال، والنبي صلى الله عليه وسلم شبهه بيوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكان له منزلة في قومه وكان ذا جمال فيهم، وقد مدحه النبي صلى الله عليه وسلم. وكان جرير رضي الله عنه أكبر سناً من أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، ومع ذلك يقول أنس: خرجت مع جرير بن عبد الله في سفر فكان يخدمني، فقلت له: لا تفعل). وهذا أدب من أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، كأنه يقول: أنت أكبر مني سناً فكيف تخدمني؟! فقال: (إني رأيت الأنصار) يعني: لست أنت وحدك فقط، بل أخدمك وأخدم الأنصار كلهم، قال رضي الله عنه: (إني رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً آليت -أي: أقسمت وحلفت- ألا أصحب أحداً منهم إلا خدمته)، فالأنصار لم يعملوا له شيئاً، ولكن عملوا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وخدموا النبي صلى الله عليه وسلم، ودافعوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرواحهم وأموالهم، وآووه ونصروه صلوات الله وسلامه عليه، فـ جرير رضي الله عنه عرف لهم ذلك، وكان إسلامه رضي الله عنه متأخراً، فعرف فضل هؤلاء السابقين، فأقسم أنه لا يصحب أحداً من هؤلاء الأنصار إلا ويخدمه رضي الله تعالى عنه. يقول الراوي: (وكان جرير أكبر من أنس رضي الله عنهما).

المحافظة على الطهارة وعلى الصلاة في أوقاتها

المحافظة على الطهارة وعلى الصلاة في أوقاتها ينبغي للمسافر المحافظة على الطهارة في أثناء سفره، لعله يأتي إلى مكان يحتاج أن يصلي ولا يوجد ماء في ذلك المكان، فيكون متوضئاً جاهزاً، فينتهز الفرص في أثناء الطريق إذا دخل دورة المياه أن يقضي حاجته ويتوضأ، وأن يكون مستعداً للصلاة التي تأتي عليه بعد ذلك، لعله ينزل في مكان آخر فلا يجد فيه ماء لوضوئه أو لقضاء حاجته. ويستحب له الصلاة في أوقاتها.

الإتيان بالذكر المأثور عند نزول المنزل

الإتيان بالذكر المأثور عند نزول المنزل من السنة أن يقول إذا نزل منزلاً ما روته خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك) هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت في مكان أن تقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، بل ويستحب لك في أذكار الصباح والمساء أن تقول ذلك.

كراهة النزول في قارعة الطريق

كراهة النزول في قارعة الطريق يكره النزول في قارعة الطريق، وقارعة الطريق مأخوذ من القرع، يقال: قرع الشيء وعمد إليه. إذاً: الطريق المقروع هو الطريق الذي يمر عليه الناس، فهو طريق مقروع؛ لأن الناس ذاهبة آتية منه وإليه، ولا ينبغي أبداً أن ينزل الإنسان في طريق الناس؛ حتى لا يضيق عليهم طريقهم، وخاصة إذا كان بالليل، فمثلاً: لو أن إنساناً نزل في طريق سريع بالليل وقعد بجانب سيارته فلعل سيارة مسرعة تمشي فتصدمه، فليس مكانك أن تنزل في الطريق ليلاً، وإنما تنزل بجوار الطريق، أما على قارعة الطريق وهو المكان الذي تقرعه الدواب ويقرعه الناس فلا ينبغي لك أن تنزل فيه، أو تمكث أو تجلس أو تنام عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا عرستم بالليل)، والتعريس هو النزول للمبيت بالليل في آخره، أو النزول بالليل للاستراحة في مكان معين، فيقول: (إذا عرستم بالليل فاجتنبوا الطريق، فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل)، أي: أن حشرات الليل تبدأ تنتشر في الطريق، والآن عندما تسافر في الطريق السريع من مكان إلى مكان ففي أثناء طريقك خاصة بالليل ترى هواماً في الطريق، ترى فأراً أو أرنباً أو غير ذلك، فالليل مأوى الهوام، ولعل حية تظهر بالليل فتؤذي هذا المعرس في الطريق، ولعل سيارة طائشة تمشي بالليل فتطؤه. إذاً: يحذر المؤمن ولا ينزل على قارعة الطريق فيضيق على الناس طريقهم، وأيضاً حتى لا يؤذيه شيء مما يمر على الطريق.

استحباب نزول الرفقة مجتمعين وكراهة تفرقهم لغير حاجة

استحباب نزول الرفقة مجتمعين وكراهة تفرقهم لغير حاجة يستحب للرفقة في السفر أن ينزلوا مجتمعين، وقد نبهنا على هذا من قبل، وقلنا: ما دام أنكم مجموعة مسافرون في (باص) أو في سيارة ونزلتم في مكان، فلا يذهب كل واحد في مكان؛ لأن السائق عندما يريد أن يمشي قد يتأخر بسبب البحث عنهم؛ لأنهم متفرقون، فينبغي أن يجتمعوا في مكان واحد، ولعله إذا انفرد واحد منهم أن يضيع، وقد لا يجدونه، خاصة إذا كان معهم أطفال، وكم رأينا من رحلات تتعطل الرحلة بسبب الأطفال، كمن نزل بأولاده وأرسل ولده إلى مكان فذهب ابنه ولم يرجع، فالرحلة كلها تتعطل بسبب هذا، يبحث هذا عنه وهذا عنه، ويتأخرون في طريقهم بسبب ذلك، فالمستحب في ذلك إذا نزلوا في مكان أن يكون الجميع قريبين بعضهم من بعض؛ لحديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: (كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان)، أي: الشيطان يدعوكم لهذا: تفرقوا واذهبوا بعيداً، فتجد الواحد يقول لك: اتركني أذهب حيثما أريد، وعندما تريدني سآتي إليك: يا أخي! من أين آتي بك عندما أريدك؟! فهذا يذهب إلى مكان وهذا يذهب إلى مكان، كأن الشيطان يلقي في قلوبهم ذلك، وهذا يقول لك: سنذهب إلى المطعم الفلاني أو إلى المكان الفلاني، وتفرق الجميع، وجاء وقت المسير فلم يجدهم السائق، فتتعطل الرحلة، وأحياناً يظلون منتظرين ثلاث إلى أربع ساعات، و (الباص) واقف في المكان، ويأتي وقت المرور وصاحبنا ليس موجوداً، ويبحثون عنه فلا يظهر إلا بعد أن عطل الجميع، ولعل هذا الذي أخرهم وعطلهم يجعلهم يبيتون في ذلك المكان؛ فيبيتون يدعون على هذا الذي عطلهم، فلا تكن كذلك، واعلم أن يدعو لهذا هو الشيطان، فالشيطان يوسوس لإنسان منهم في قلبه: أنت اذهب بعيداً عنهم، وهم ليسوا محتاجين لك، فيذهب بعيداً فيتأخر الناس بسببه. ومثل هذا الشيء يجعل البغضاء في القلوب، فتجد المسافرين قد أخذوا في نفوسهم على فلان؛ لأنه دائماً في كل مكان يعطلهم، ويمكن أن تحدث في أثناء الطريق المشاجرات بسبب هذا الأمر. يقول صلى الله عليه وسلم: (إن تفرقكم في هذه الشعاب والأدوية إنما ذلكم من الشيطان، قال أبو ثعلبة: فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض).

الاقتداء بالنبي في كيفية النوم للمسافر

الاقتداء بالنبي في كيفية النوم للمسافر السنة في كيفية نوم المسافر إذا كان قرب وقت صلاة، فلو فرضنا أنهم نزلوا في الطريق ولم يبق على صلاة الفجر إلا نصف ساعة مثلاً أو ربع ساعة، وهم متعبون، وكل واحد يريد أن ينام، فهنا لو ناموا لفاتتهم صلاة الفجر كلهم، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم له طريقة لطيفة في ذلك: وهي أنه إذا كان متعباً صلى الله عليه وسلم وأراد أن ينام فيقول لنا أبو قتادة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فعرس بليل اضطجع على يمينه، وإذا عرس قبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه) رواه مسلم. أي: إذا نزل بالليل وبقي لوقت الفجر ساعتان أو ثلاث ساعات فإنه يضطجع صلى الله عليه وسلم وينام، لكن إذا لم يبق للفجر إلا وقت يسير فإنه صلى الله عليه وسلم كان ينصب ذراعه على الأرض، ويجعل رأسه على ذراعه صلى الله عليه وسلم. وهذه الهيئة لا يكون معها التمكن والاستغراق في النوم؛ لأنك لو ذهبت في النوم فإن يدك ستخونك فتسقط على الأرض وتستيقظ مرة ثانية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ينام بهذه الطريقة من أجل ألا يضيع صلاة الفجر.

سرعة الرجوع إلى الأهل بعد قضاء الحاجة

سرعة الرجوع إلى الأهل بعد قضاء الحاجة السنة للمسافر إذا قضى حاجته أن يعجل الرجوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: (السفر قطعة من العذاب؛ يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجل إلى أهله)، فالمسافر هو غريب وبعيد عن أهله، فينبغي لك بعدما تنتهي من حاجتك التي سافرت من أجلها أن ترجع إلى أهلك؛ فأنت أحوج إليهم وهم أحوج إليك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ينصحك أنك إذا انتهيت من سفرك وقضيت نهمتك ومقصدك وحاجتك أن ترجع إلى أهلك.

الذكر المأثور عند الرجوع من السفر

الذكر المأثور عند الرجوع من السفر السنة أن يقول في رجوعه من السفر ما ثبت عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض -أي: على كل مكان مرتفع- ثلاث تكبيرات، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده). وجاء في حديث أنس: (أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بظهر المدينة قال: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، فلم يزل يقول ذلك حتى قدمنا المدينة). إذاً: يستحب تكرار ذلك حتى يدخل في البلد.

إخبار المسافر أهله بقدومه والنهي عن طرقهم ليلا

إخبار المسافر أهله بقدومه والنهي عن طرقهم ليلاً يستحب إذا قرب من وطنه أن يبعث إلى أهله من يخبرهم؛ لئلا يقدم بغتة، فإن كان في قافلة كبيرة واشتهر عند أهل البلد وصولهم ووقت دخلوهم كفاه ذلك عن إرساله معيناً. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصح أصحابه ألا يطرق أحدهم أهله طروقاً، والآن قد يسر الله تعالى أمر الهاتف، فبإمكانك أن تتصل بأهلك وتقول: أنا الآن في المكان الفلاني راجع إليكم، وبهذا يكون أهل البيت قد عرفوا أنه سيقدم عليهم في وقت كذا، لكن لو فرضنا أنه لا يوجد هاتف والرحلة آتية في الوقت الفلاني، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرقن أهله ليلاً)، وفي حديث أنس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله ليلاً، وكان يأتيهم غدوة أو عشية). أي: من أجل أن يستعد أهل البيت، فلعل المرأة لم تكن متزينة، ولعل البيت لم يكن مرتباً، وهو يكره أن يرى البيت على ذلك، فإذا أخبر أهله أو أرسل إليهم أو اتصل قبل أن يقدم عليهم فإنهم يجهزون أنفسهم لذلك، فلذلك يقول العلماء: يستحب أن يرسل إليهم من يخبر بقدومه في الوقت الفلاني مثلاً، لكن إذا كان في قافلة كبيرة آتية ومعروف ميعاد الرجوع، فلا حاجة إلى مثل ذلك إذا اشتهر ذلك. فقوله: (إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرقن أهله ليلاً) إذا كان الأمر أنهم يعلمون أنه سيأتي الساعة الثانية عشرة بالليل مثلاً فله أن يطرق أهله ليلاً؛ لأن العلة في ذلك أنه قد يرى ما يؤذيه وقد يرى ما يزعجه إذا قدم بالليل، قد تكون المرأة نائمة فتقوم من النوم في هيئة هو يكره أن يراها على ذلك. يقول جابر: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً) والطارق: هو القادم بالليل، ومنه قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق:1 - 3]. فهو نجم ثاقب، والنجم يكون بالليل وليس بالنهار، فكذلك هنا الطارق هو الإنسان الذي يأتي ليلاً، فيقول لنا جابر رضي الله عنه: (إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً؛ حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة) أي: حتى تتزين المرأة لزوجها بأن تمشط شعرها، وكذلك تستحد المغيبة، أي: تزيل ما على جسدها من شعر.

استحباب تلقي المسافرين واستقبالهم

استحباب تلقي المسافرين واستقبالهم يسن تلقي المسافرين، فإذا قدم المسافرون خاصة من حج أو عمرة فإنه يستحب للإنسان أن يستقبلهم؛ لأن الذي هو آت من حج أو عمرة يكون قد غفر الله عز وجل له ذنوبه، هذا في الغالب، فالإنسان لعله يسلم على هؤلاء فيدعون له بالخير، فتستجاب دعوتهم؛ لأنهم قريبو عهد بتوبة وطاعة وعمل صالح، فيستحب تلقيهم. وقد كان الصحابة إذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم يتلقونه، فهذا ابن عباس رضي الله عنه يقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من سفر فاستقبله أغيلمة بني عبد المطلب، فجعل واحداً بين يديه وآخر خلفه)، وهذا من طيب خلقه عليه الصلاة والسلام، فقد ذهبوا يستقبلونه ومعهم أطفال، فأتى الأطفال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذهم ووضع واحداً أمامه على الناقة، والثاني خلفه صلوات الله وسلامه عليه. وفي رواية: (قدم مكة عام الفتح) إذاً: قدومه صلى الله عليه وسلم كان عام الفتح، فجعل أغيلمة بني عبد المطلب يخرجون لاستقبال النبي صلوات الله وسلامه عليه. وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقي بصبيان أهل بيته، وإنه قدم من سفر فسبق بي إليه)، هذا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أبوه هو جعفر أخو علي رضي الله عنهم، وجعفر هو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الشهيد رضي الله تعالى عنه ذو الجناحين، يقول عبد الله بن جعفر: (فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه)، وعبد الله هو ابن ابن عمه، وهذا ابن ابنته، والذي سبق وضعه قدامه، والذي تأخر جعله خلفه عليه الصلاة والسلام، قال: (فأدخلنا المدينة ثلاثة على دابته).

إسراع المسافر السير عند رؤية قريته حال قدومه إليها

إسراع المسافر السير عند رؤية قريته حال قدومه إليها السنة أن يسرع السير إذا وقع بصره على جدران قريته، أي: إذا قرب المسافر من المدينة أو القرية وكان يسير سيراً بطيئاً فمن السنة أن يسرع، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدران المدينة أوضع راحلته)، والإيضاع بمعنى: الإسراع شيئاً، (وإذا كان على دآبة حركها من حبها) أي: من حب النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة كان يسرع إليها عندما يقرب منها.

أن يبدأ المسافر بالمسجد قبل أهله

أن يبدأ المسافر بالمسجد قبل أهله السنة إذا وصل إلى منزله أن يبدأ قبل دخوله بالمسجد القريب إلى منزله، فإذا كان بجانب بيته مسجد قريب فإنه يستحب له أن يدخل المسجد أولاً ويصلي فيه ركعتين، ثم يذهب إلى بيته بعد ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس)، وقد كان يجلس عليه الصلاة والسلام للناس من أجل أن يسلموا عليه، فإذا كان الإنسان مشهوراً بين الناس فينتظر الناس حتى يسلموا عليه ولا يتركهم ويذهب، لكن إذا كان غير مشهور بين الناس ولا ينتظره أحد فلا حاجة له أن يجلس في المسجد، وإنما يذهب إلى بيته ويسلم على أهله. وعن جابر في الحديث الطويل في قصة بيع جمله في السفر قال: (وقدمت بالغداة فجئت المسجد فوجدته -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- على باب المسجد، فقال: الآن قدمت؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله! قال: فدع جملك وادخل فصل ركعتين، قال: فدخلت ثم رجعت)، فهنا قال صلى الله عليه وسلم لـ جابر: (وادخل فصل ركعتين)، ففيه أن من السنة للقادم من السفر أن يبدأ بالمسجد.

إتيان البيوت من أبوابها لا من ظهورها

إتيان البيوت من أبوابها لا من ظهورها إذا وصل بيته دخله من بابه لا من ظهره، وقد كان من عادة العرب أنه إذا قدم الواحد من سفر فإنه يدخل من ظهر البيت، ويتشاءم أن يدخل من باب البيت، خاصة إذا كان راجعاً من حج أو عمرة، يقول البراء: (كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه، وكأنه عير بذلك، فأنزل الله عز وجل: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189]). فالبر ليس بالإتيان من الباب ولا من الظهر، ولكن بالتقوى: ((وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا)) هذا أمر ((وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)) أي: لا داعي للبدع، ولكن ائتوا البيوت من أبوابها؛ لأنه لا توجد حكمة في الدخول من ظهر البيت.

الدعاء بالتوبة عند دخول الأهل على المسافر

الدعاء بالتوبة عند دخول الأهل على المسافر إذا دخل بيته استحب أن يقول: ما جاء في كتاب ابن السني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فدخل عليه أهله قال: توباً توباً، لربنا أوباً، لا يغادر علينا حوباً)، فكان صلوات الله وسلامه عليه يدعو ربه سبحانه بالتوبة، أي: اللهم تب علينا. وقوله: (لربنا أوباً)، أي: أوابين راجعين إلى الله سبحانه وتعالى. وقوله: (لا يغادر علينا حوباً) أي: لا يغادر علينا سبحانه ذنباً، وقد ذكرنا قبل ذلك أنك إذا دخلت بيتك فصل ركعتين؛ فإنهما يمنعانك مدخل السوء، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكما خرجت للسفر فصليت ركعتين في بيتك، كذلك إذا قدمت إلى بيتك فصل ركعتين يمنعانك مدخل السوء.

استحباب النقيعة وهي الإطعام

استحباب النقيعة وهي الإطعام يستحب النقيعة، والنقيعة: هي طعام المسافر، وكأنها مأخوذة من النقع، والنقع هو التراب، وسميت بذلك لأن المسافر يأتي وعليه تراب وغبار السفر، فسميت النقيعة لذلك، فإذا قدم المسافر فيستحب له أن يطعم أهله وأن يطعم جيرانه وأن يطعم أحباءه، وله أن يفعل ذلك في طريق عودته؛ فقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث جابر: (اشترى مني النبي صلى الله عليه وسلم بعيراً بوقيتين ودرهم أو درهمين، فلما قدم صراراً)، وصرار: هو مكان قريب من المدينة يبعد عنها بحوالي ثلاثة أميال، أي: حوالي خمسة (كيلو) أو نحو ذلك، قال: (فأمر ببقرة فذبحت فأكلوا منها) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أطعم الرفقاء الذين كانوا معه، وهذه عادة جميلة منه صلوات الله وسلامه عليه، فلعل الركب النازلين معه صلى الله عليه وسلم يصلون إلى أهلهم وأهلهم فقراء، لم يجهزوا لهم طعاماً يطعمون هؤلاء الذين قدموا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، حيث ذبح لهم بقرة عليه الصلاة والسلام فأكلوا منها، قال: (فلما قدم المدينة أمرني أن آتي المسجد فأصلي ركعتين، ووزن لي ثمن البعير) أي: دفع لي الثمن، والقصة طويلة، وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يري جابراً فعل الله عز وجل بأبيه رضي الله تعالى عنه، وأبوه هو عبد الله بن حرام الأنصاري رضي الله تعالى عنه الذي استشهد في أحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن الله خاطب الشهداء من وراء حجاب، وخاطب عبد الله بن حرام كفاحاً، يعني: من غير حجاب، وهذا لفضله عند الله سبحانه وتعالى، وقد سأل الله عز وجل هؤلاء الذين استشهدوا في سبيله: ماذا يريدون؟ فطلبوا أن يعودوا إلى الحياة الدنيا مرة ثانية حتى يقاتلوا ويقتلوا في سبيل الله سبحانه، فأبى الله عز وجل ذلك، ولكنه رد على الشهداء أرواحهم وأدخلهم الجنة، وطلبوا من ربهم أن يخبر من بعدهم بما صنع بهم سبحانه وتعالى، فأنزل الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]. فالشهيد باع نفسه لله سبحانه وتعالى، وأخذ الثمن الجنة، فإذا بالله يقبل منه هذا الثمن وهو نفسه ويعطيه الجنة، ويرد عليه روحه سبحانه وتعالى. فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يري جابراً ما صنع الله عز وجل بأبيه، فـ جابر كان راكباً على جمل، فأتعبه الجمل في الطريق، فإذا بـ جابر يتضايق منه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (بِعْنيهِ) يعني: ضقت من هذا الجمل؟ أنا سوف أشتريه منك، ولم يظن جابر أنه سوف يبيعه، فاتفقا على الثمن، ثم جعله النبي صلى الله عليه وسلم له ليركبه حتى يصل إلى المدينة، فركب جابر البعير، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويضرب البعير فيجري البعير في الطريق حتى صار أسرع ما يكون، فلما وصلوا إلى المدينة علم جابر أن هذه بركة من بركات الله عز وجل جعلها على يد نبيه صلوات الله وسلامه عليه، فقال في نفسه: يمكن أن هذا كان في الطريق من أجل أن أرجع، وبعد أن أصل إلى المدينة سيعود كما كان، فأنا لا أريده، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فخشي جابر أن يرد عليه جمله، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يأمر بلالاً أو غيره أن يعطيه الثمن فوفاه الثمن، وبعد أن أعطاه الثمن زاده فوق الثمن أيضاً، فلما أراد أن يذهب قال له: (أتحسب أنا ماكسناك لنأخذ جملك؟ -يعني: أتظن أنا كنا نساومك من أجل أن نأخذ جملك؟ - البعير رد عليك، خذ جملك)، فأعطاه الثمن وأعطاه المثمن، كأنه يذكره بصنيع الله عز وجل بأبيه أنه أخذ روحه وأعطاه الجنة، ثم أعطاه روحه مرة ثانية.

ذكر وفد الله وبيان إكرامه سبحانه لهم

ذكر وفد الله وبيان إكرامه سبحانه لهم جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وفد الله ثلاثة: الغازي، والحاج، والمعتمر)، والوفد: هم الضيوف الذين وفدوا مسافرين من مكان، والعادة في الوفد أنهم زوار للملك والقادمون على الملك، يقال: الوفد الفلاني آت من البلاد الفلانية يقابل الملك أو يقابل الرئيس أو نحوهم. إذاً: فوفد الله هم زوار بيت الله سبحانه، وهم القادمون على ربهم سبحانه وتعالى الذين يستحقون أن يكرمهم ربهم سبحانه، وهم ثلاثة: الغازي المسافر الذي يجاهد في سبيل الله، وكذلك الحاج المسافر للحج، وكذلك المعتمر المسافر للعمرة.

من علامات القبول أن يكون بعد حجه خيرا مما كان قبله

من علامات القبول أن يكون بعد حجه خيراً مما كان قبله ينبغي على الحاج والمعتمر أن يكون بعد رجوعه من الحج أو العمرة خيراً مما كان، أما إذا سافر بهيئة معينة ورجع بأسوأ من هذه الهيئة فكأن الحج لم يؤثر فيه شيئاً، فإذا رجع أفضل مما كان وظهر التزامه، وظهرت أعمال الخير عليه، وتغيرت أخلاقه، فهذا يدل على أن حجه كان حجاً مقبولاً، فإن من علامات القبول: أن يتغير الإنسان عما كان عليه، فإذا كان قبل ذلك عاصياً صار الآن مطيعاً لله عز وجل، وإذا كان قبل ذلك صخاباً فيه شراسة في خلقه رجع إنساناً هادئاً طيباً ذا أخلاق حسنة. أيضاً من علامات قبول العمل من العبد: أن يزداد من عمل الخير والبر والحسنات. هذه الآداب التي كانت في السفر ينبغي على المؤمن أن يراعيها بقدر الإمكان، حتى يكون سفره موافقاً للسنة، وعمله مقبولاً.

المواقيت الزمانية والمكانية

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - المواقيت الزمانية والمكانية للحج مواقيت زمانية لا ينعقد إلا فيها، أما العمرة فيجوز أن تؤدى في سائر السنة إلا في أوقات يسيرة للحاج، ولهما مواقيت مكانية يجب على مريدهما أن يحرم منها ولا يجوز له مجاوزتها إلا محرماً، وقد جاءت مبينة في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

بيان المواقيت الزمانية والمكانية للحج والعمرة

بيان المواقيت الزمانية والمكانية للحج والعمرة

بيان وقت العمرة وحكم تكرارها في السنة الواحدة

بيان وقت العمرة وحكم تكرارها في السنة الواحدة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. متى تكون العمرة؟ وهل لها وقت مثل الحج؟ نقول: السنة كلها وقت للعمرة، فيجوز الإحرام بها في أي وقت من السنة، ولا تكره في وقت من الأوقات، سواء في أشهر الحج أو في غيرها، إلا إذا كان الإنسان قد تلبس بمناسك الحج فلا ينبغي له أن يأتي بعمرة بعد ذلك، وخاصة إذا كان قد قارب أن يفك الإحرام، أو بدأ في التحلل من حجه، فلا يدخل في إحرام ثان بعمرة، وإنما يكمل تحلله وبعد أن ينتهي الحج فهذا أمر آخر. وبهذا قال مالك وأحمد وداود وجمهور العلماء، ولا تكره عمرتان وثلاث وأكثر في سنة واحدة، بل يستحب الإكثار منها، فللإنسان أن يؤدي عمرة في رمضان، ثم بعد ذلك يرجع ويحج في موسم الحج ويؤدي عمرة مع حجه متمتعاً مثلاً، وقد يرجع في جمادى ويؤدي عمرة، فهو يحب أن يعتمر أكثر من مرة في سنة واحدة، فهذا خير عظيم، والله عز وجل ينقي الإنسان من ذنوبه بإكثاره من الحج والعمرة. وفي الصحيحين: (أن عائشة رضي الله عنها أحرمت بعمرة عام حجة الوداع فحاضت، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحرم بحج، ففعلت وصارت قارنة ووقفت المواقف، فلما طهرت طافت وسعت، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: قد حللت من حجك وعمرتك، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمرها عمرة أخرى، فأذن لها، فاعتمرت من التنعيم عمرة أخرى)، هذا مختصر للحديث الطويل الذي جاء في ذلك. فالسيدة عائشة رضي الله عنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم وهي تنوي أن تأتي بعمرة، ثم بعد ذلك تحج فحاضت، فلما حاضت وهي محرمة أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل الحج على العمرة وتكون قارنة رضي الله تعالى عنها. والناس كانوا قد حلوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فصاروا متمتعين، وهي كانت تود أن تأتي بعمرة ثم تحل كما حل الناس، ثم تأتي بمناسك الحج، فلم يتهيأ لها ذلك، فصارت قارنة، فلما انتهت من أعمال حجها جاء في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لها: (فكوني في حجتك فعسى الله أن يرزقكيها) أي: العمرة مع الحج، وفعلاً كانت قارنة فأتت بالحج والعمرة معاً. وفي رواية قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (قد حللت من حجتك وعمرتك جميعاً) أي: أديت مناسك الحج والعمرة جميعاً، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت) أي: أود أني آتي بعمرة لوحدها ليست داخلة في الحج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم، وذلك ليلة الحصبة). فهنا النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن أخاها أن يذهب بها إلى التنعيم، وفي رواية قالت: (وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الرحمن بن أبي بكر: اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة، ثم افرغا ثم ائتيا هاهنا، فإني أنظركما حتى تأتياني، قالت: فخرجنا حتى إذا فرغت من الطواف ثم جئته بسحر، فقال: هل فرغتم؟ فقلت: نعم، فآذن بالرحيل في أصحابه، فارتحل الناس فمر متوجهاً إلى المدينة)، ففيه بيان أنها كان لها عمرتان: عمرة مع حجها وهي قارنة، وعمرة أخرى مباشرة بعدها، ولم يكن هناك كبير وقت بين هذه وهذه، فدل هذا على أنه يجوز أن يكون هناك أكثر من عمرة في السنة الواحدة، أو في الرحلة الواحدة. قال الشافعي رحمه الله: وكانت عمرتها في ذي الحجة، ثم أعمرها العمرة الأخرى في ذي الحجة. هنا يريد الإمام الشافعي رحمه الله أن يقول: لقد كان لها عمرتان في شهر واحد، فيجوز أن يعتمر الإنسان في الشهر الواحد أكثر من عمرة. وعن عائشة رضي الله عنها (أنها اعتمرت في سنة مرتين) وفي رواية: (ثلاث عمر)، وجاء في الأثر الذي رواه الشافعي بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب: (أن عائشة رضي الله عنها اعتمرت في سنة مرتين: مرة من ذي الحليفة، ومرة من الجحفة)، وذو الحليفة ميقات أهل المدينة، والجحفة ميقات أهل الشام. ةهذا الحديث يرويه صدقة بن يسار عن القاسم بن محمد، فـ صدقة تلميذه يقول: هل عاب ذلك عليها أحد؟ فقال: سبحان الله! هل أحد سيعيب على أم المؤمنين أنها فعلت هذا؟ يعني: تأدب واعلم ما تقول؟! إنك تتكلم عن أم المؤمنين السيدة عائشة، ومن يعيب عليها وهي من الفقيهات رضي الله تعالى عنها؟ قال صدقة: فاستحييت. يعني: ما كان ينبغي لي أني أقول هذا الشيء، والسيدة عائشة قد فعلته مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك. أيضاً ابن عمر كان يعتمر في عهد ابن الزبير مرتين في كل عام. ويستحب الاعتمار في رمضان، ويستحب الاعتمار أيضاً في أشهر الحج فيصير متمتعاً، والعمرة في رمضان أفضل منها في باقي السنة؛ لأنه قد جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن عمرة في رمضان تعدل حجة، أو حجة معي)، وجاء: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته) عليه الصلاة والسلام. فالنبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، فيذكر الراوي أنهن كلهن في شهر ذي القعدة، إلا التي كانت مع حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

بيان الأوقات التي يمتنع الإحرام بالعمرة

بيان الأوقات التي يمتنع الإحرام بالعمرة ذكرنا أن كل السنة يجوز أن تعتمر فيها سواء في أشهر الحج أو في غير أشهر الحج، ولكن قد يمتنع الإحرام بعمرة لسبب معين: وهو أن يكون الإنسان محرماً بالحج، فلا يجوز له الإحرام بالعمرة بعد الشروع في التحلل من الحج، إلا إذا نوى الحج وأحرم به، ثم بدا له أن يتمتع كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ففسخ الحج وأتى بعمرة، فصار متمتعاً، ثم أتى بمناسك الحج في وقتها، فالراجح أن مثل هذا جائز، لكن إدخال العمرة على الحج لا يجوز، فجمهور الفقهاء على المنع من ذلك. وكذا لا يصح إحرامه بالعمرة قبل الشروع في التحلل، فمثلاً: لو أن إنساناً أحرم بالحج وفي يوم التروية ذهب إلى منى، وفي يوم عرفة ذهب إلى عرفة، وبعد ذلك ذهب إلى المزدلفة، ثم رجع إلى منى، وهناك سيبدأ يتحلل من الحج، ففي هذه الحالة المشروع لك أن تتحلل، فكيف تذهب وتحرم في الوقت الذي عليك أن تتحلل فيه؟ فهذا ممنوع من العمرة، فلو أن إنساناً خطر بباله وقال: سأذهب إلى البيت قبل أن أتحلل من الحج وآتي بعمرة وأرجع وأتحلل من الاثنين مع بعض، فهنا يقول العلماء: ليس له أن يفعل ذلك، يقول الشافعي رحمه الله: ولا وجه لأن ينهى أحد عن أن يعتمر يوم عرفة ولا ليالي منى إلا أن يكون حاجاً. يعني: في يوم عرفة وليالي منى يجوز للإنسان إذا كان من أهل مكة أو موجوداً في مكة ولم يحج ذلك العام أن يأتي بعمرة فيها، أما الحاج فيقول الشافعي رحمه الله: هو معكوف بمنى على أعمال من عمل الحج وهو الرمي والإقامة بمنى طاف للزيارة أو لم يطف، فإن اعتمر وهو في بقية إحرام حجه أو خارجاً من إحرام حجه، وهو مقيم على عمل من أعمال حجه فلا عمرة له. يعني: هو الآن منشغل بأعمال الحج، منشغل بالمبيت في منى، ومنشغل بالرمي، فيجوز له أن يذهب ويطوف بالبيت إن شاء كل ليلة من ليالي منى، لكن لا يؤدي عمرة، هذا كلام الشافعي. أما الأحناف فقالوا: العمرة تكره تحريماً يوم عرفة وأربعة أيام بعده، فيوجبون الدم على من فعل ذلك. وقال المالكية: إن أحرم بالعمرة قبل الزوال من اليوم الرابع من أيام النحر لم ينعقد إحرامه، فإذا كان هو في أيام منى وأحرم بالعمرة في أول يوم أو ثاني يوم أو ثالث يوم من أيام النحر أو رابع يوم قبل الزوال فيقولون: لن ينعقد الإحرام. ويقول المرداوي الحنبلي: لو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يصح إحرامه بها. إذاً: الأئمة الأربعة والفقهاء من المذاهب الأربعة على أنه لا يجوز له أن يحرم بالعمرة وهو متلبس بمناسك الحج، خاصة إذا بدأ في التحلل من أعمال الحج. أجمع العلماء على جواز العمرة قبل الحج، سواء حج في سنته أم لا، وكذا الحج قبل العمرة، فلو أن إنساناً اعتمر في شهر شوال ورجع إلى بلده مرة ثانية، فليس شرطاً أن نقول له: انتظر حتى يأتي عليك الحج، ولكن يجوز أن يرجع إلى بلده، وله أن يرجع بعد ذلك حاجاً أو لا يرجع في ذلك العام. روى البخاري عن عكرمة بن خالد أنه سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن العمرة قبل الحج، فقال: (لا بأس، قال عكرمة: قال ابن عمر: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج) ابن عمر يحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر قبل أن يحج صلوات الله وسلامه عليه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتمر في ذي القعدة ثم يرجع للمدينة، ليبين أنه يجوز للإنسان إذا اعتمر في ذي القعدة أن يرجع إلى بلده، ولا يجب عليه أن يمكث حتى يأتي وقت الحج. وفي الصحيحين عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر قبل حجته عليه الصلاة والسلام).

المواقيت المكانية للحج والعمرة

المواقيت المكانية للحج والعمرة الذي يريد العمرة أو الحج لابد أن يحرم من الميقات، والميقات: هو الموضع وهو الوقت؛ لأن الميقات إما أن يكون ميقاتاً زمانياً، وإما أن يكون ميقاتاً مكانياً، والميقات الزماني للعمرة قدمنا الكلام عليه أنه في أي وقت من السنة يجوز لك أن تحرم بالعمرة، إلا أن يمنع مانع أو سبب من الأسباب، كأن تكون متلبساً بمناسك الحج وستبدأ بالتحلل من مناسك الحج فليس لك أن تأتي حينئذ بعمرة، لكن إنسان آخر في هذه الأيام ليس حاجاً فيجوز له أن يأتي بالعمرة. والميقات الثاني هو الميقات المكاني، وهذا هو الذي نقصده هنا، فلابد للإنسان الذي يحج أو يعتمر أنه سيمر على الميقات، فعليه أن يحرم من الميقات الذي يمر عليه، إلا إذا كان من أهل مكة أو من المقيمين فيها، فهذا إذا أراد أن يعتمر وهو بمكة فليخرج إلى الحل ويحرم منه ثم يعتمر. ورد في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة)، الإهلال: هو رفع الصوت بالتلبية عند الإحرام؛ لأنه إذا أحرم قال: لبيك عمرة أو لبيك حجاً، فيرفع صوته بذلك، وكأن الهلال مأخوذ منها؛ لأن الناس كانوا إذا رأوه رفعوا أصواتهم: رأيناه، رأيناه، فسمي بذلك لإهلال الناس برفع أصواتهم عند رؤيته. فهنا قال: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة) هذا هو المكان الذي يحرم منه أهل المدينة وهو ذو الحليفة، ثم قال: (وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن)، قرن مكان اسمه قرن المنازل، وفي حديث آخر لـ ابن عمر قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يهل أهل اليمن من يلملم، وأهل الشام من الجحفة). فميقات أهل اليمن مكان اسمه: يلملم، وميقات أهل الشام مكان اسمه: الجحفة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما كما في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة -أي: حدد لهم ميقاتاً يحرمون منه- ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهم ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة). أي: أن أهل مكة يحرمون من مكة، والذي بين الميقات وبين مكة يحرم من مكانه، أما من كان وراء الميقات فلا يتجاوز الميقات حتى يحرم منه. أيضاً جاء في حديث رواه مسلم عن جابر، وسئل عن المهل فقال: سمعت أحسبه رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم: (مهل أهل العراق من ذات عرق). فقد ذكر في هذه الأحاديث خمسة مواقيت مكانية: الميقات الأول: ذو الحليفة التي تسمى الآن بأبيار علي، وهو مكان قريب من المدينة، وهذا الميقات هو الوحيد البعيد جداً عن مكة، وذلك لأن مكة والمدينة المسافة بينهما يسيرة، فعلى ذلك الخارج من المدينة يحرم من هذا الميقات القريب من المدينة البعيد عن مكة، لكن يشق على غير أهل المدينة أن يحرموا من ميقات بجانبهم، فمثلاً: أهل مصر إذا طلب منهم أن يحرموا من مصر سيشق عليهم، خاصة إذا كان المسافر راكباً البر، وكان الحاج في الماضي يركب على جمل ونحو ذلك، والمسافة طويلة جداً، ولو بقي كل هذه المسافة محرماً لطال شعره ولطالت أظفاره؛ لأن الذي يحج من مصر في الماضي كان يسافر شهراً حتى يصل إلى مكة، ومن يحج من المغرب يسافر أكثر من شهر حتى يصل إلى مكة، فلو أحرم من بلده لصعب عليه وشق عليه ذلك؛ ولذلك الشريعة الكريمة قالت لهذا الإنسان: كن على ما أنت عليه حلالاً من بلدك حتى تأتي الميقات القريب من مكة فتحرم منه؛ تيسيراً على الناس ورفعاً للحرج عنهم. إذاً: فميقات أهل المدينة هو أبعد المواقيت عن مكة، وبينه وبين مكة حوالي أربعمائة وخمسون كيلو متراً تقريباً، أي: عشر مراحل، والمرحلة تقريباً خمسة وأربعون كيلو، فذو الحليفة هو أقرب المواقيت إلى المدينة وأبعد المواقيت عن مكة. أما الجحفة فهو ميقات أهل الشام وميقات أهل مصر، والجحفة قرية اسمها: مهيعة، وتسمى برابغ، وإن كانت الجحفة ليست برابغ؛ لأن قرية رابغ قبلها، وبين الحجفة وبين مكة حوالي مائة وسبعة وثمانون كيلو تقريباً، يقولون: ما بين ثلاث إلى أربع مراحل، والجحفة أجحف بها السيل فصارت مكاناً خرباً، فكانوا يحرمون قبلها من مكان عامر وهو رابغ، وبين رابغ وبين مكة حوالي مائتان وعشرون كيلو. إذاً: كان الإحرام بعد ذلك من رابغ، فيجوز من رابغ ويجوز من الجحفة بحسب ما يتيسر للمتوجه من المكان. أما قرن المنازل فهو ميقات أهل نجد، ويمر عليه بعض أهل اليمن، وبينه وبين مكة حوالي تسعون كيلو تقريباً، وهو من ناحية عرفات. أما يلملم فميقات أهل اليمن، وهو ميقات آخر لهم، وهو يبعد عن مكة بحوالي تسعين كيلو متراً، وهو جبل من جبال تهامة. أما ذات عرق فهو ميقات أهل العراق، وهو على مرحلتين -نسأل الله عز وجل أن يحررها ممن فيها- وميقات أهل العراق بينه وبين مكة حوالي تسعون كيلو متراً. وهذا الميقات الذي هو ذات عرق قالوا: إنه قد صار خراباً الآن. إذاً: هذه هي المواقيت المكانية، وهن لهن ولمن أتى عليهن، فإذا خرجت راكباً سيارة مثلاً من مصر متوجهاً إلى المدينة، وأنت لست بمحرم، فميقاتك ميقات أهل المدينة، ولا ترجع مرة ثانية إلى رابغ أو إلى الجحفة من أجل أن تحرم من هناك، بل ميقاتك ميقات أهل المدينة. وكذلك إنسان قدم حاجاً من الهند ونزل مصر، وبعد ذلك سيخرج من مصر حاجاً، فميقاته هو الجحفة أو رابغ. هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (هن لهن ولمن أتى عليهن).

حكم الإحرام قبل الميقات وبعده

حكم الإحرام قبل الميقات وبعده قال ابن المنذر وغيره: أجمع العلماء على هذه المواقيت، وهذه المواقيت لأهلها ولكل من مر بها من غير أهلها، وأجمع من يعتد به من السلف والخلف من الصحابة ومن بعدهم أنه يجوز الإحرام من الميقات ومما فوقه. فلو فرضنا أنك خارج من مصر فميقاتك الجحفة أو رابغ، وبين رابغ وبين مكة مائتان وعشرون كيلو، وأنت إذا ركبت الطائرة فغالباً لن يقول لك سائق الطائرة: أنت فوق الميقات أو غيره، فأنت احتطت من المطار ولبست الإحرام ولبيت وأنت في المطار: لبيك حجاً أو لبيك عمرة، فبإجماع أهل العلم أن ذلك جائز، ولكن خالف داود بن علي رحمه الله وقال: لا يجوز الإحرام مما فوق الميقات، ولو أحرم قبله لم يصح إحرامه ويلزمه أن يرجع ويحرم من الميقات. نقول: إذا أحرم قبل الميقات أو أحرم بعد الميقات فقد أجمع أهل العلم على صحة هذا الإحرام، وإنما لو أحرم بعدما جاوز الميقات فيلزمه دم أو يرجع إلى الميقات، لكن إحرامه صحيح وليس باطلاً. يقول داود الظاهري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة ولم يحرم من المدينة، فهذا يدل على أن الميقات الذي لا يجوز لك أن تتجاوزه هو ميقات النبي صلى الله عليه وسلم الذي أحرم من عنده، والذي بينه في الأحاديث الأخرى كما قدمنا، لكن لو أنه أحرم قبله فيكون قد خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإحرامه صحيح وليس باطلاً، أما لو جاوزه وهو غير محرم ثم أحرم بعد ذلك، ففعله صحيح، ولكن طالما أنه مريد للحج والعمرة فإما أن يرجع إلى الميقات فيحرم منه ويلبي منه، أو يستمر في إحرامه ويلزمه دم. إذاً: الإحرام من الميقات هو الأفضل، وهذا هو قول جمهور أهل العلم، ومن حجتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعاً والعصر في ذي الحليفة ركعتين صلوات الله وسلامه عليه، فلو كان الإحرام من المدينة أفضل -وخاصة أن مسجد المدينة الصلاة فيه بألف صلاة- لأحرم النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد ولصلى العصر هناك ثم خرج منه محرماً صلى الله عليه وسلم، ولكن كونه يحرم من ذي الحليفة فهذا دليل على أن الأفضل أن يحرم من الميقات. أما الذي يريد أن يعتمر وهو من أهل الآفاق الذي نسميه: الآفاقي، أي: الذي أتى من المكان البعيد في الأفق، فهذا يحرم من المواقيت التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم.

مكان إحرام المكي للحج والعمرة

مكان إحرام المكي للحج والعمرة إذا كان الإنسان من أهل مكة وأراد الحج فيحرم من مكانه، وإذا أراد العمرة فلا بد أن يخرج إلى الحل؛ لأنه لابد في العمرة وفي الحج أن تجمع بين الحل والحرم، أي: بين المكان الذي هو الحل والمكان الذي هو الحرم، ففي الحج ستخرج إلى عرفات، وعرفات من الحل، ولذلك في الحج أحرم من مكانك الذي أنت فيه في مكة؛ لأنك ستخرج إلى الحل، لكن العمرة ستكون داخل الحرم، فكان لزاماً أن تخرج للإحرام من الحل: من التنعيم، أو من الجعرانة، من أقرب وأدنى الحل إلى مكة. إذاً: إذا كان المسلم مستوطناً مكة أو عابر سبيل وأراد العمرة فميقاته أدنى الحل، والمستحب أن يكون هذا الميقات هو الجعرانة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر منها، أو من التنعيم؛ لأنه أمر عائشة أن تعتمر منها، أو من أدنى الحل إلى مكة، كل هذا جائز، ولكن الأفضل الجعرانة ثم التنعيم. روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي كانت مع حجته)، وذكر لـ عمر هذا فقال: (عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته في ذي الحجة)، لكن إحرامه صلى الله عليه وسلم كان في ذي القعدة، وقدم لصبح رابعة من ذي الحجة، لكن إحرامه كان في ذي الحليفة لخمس بقين من ذي القعدة. وأيضاً في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعمرها من التنعيم).

حكم تجاوز الآفاقي للميقات دون إحرام

حكم تجاوز الآفاقي للميقات دون إحرام إذا انتهى الآفاقي إلى الميقات وهو يريد الحج أو العمرة أو القران حرم عليه مجاوزته غير محرم بالإجماع، فإذا جاوزه فهو مسيء، سواء كان من أهل تلك الناحية أو من غيرها، ومتى جاوز موضعاً يجب الإحرام منه غير محرم أثم، هذا المتعمد، أما الناسي فلا يأثم، لكن يرجع إلى الميقات ويحرم منه. فإن تجاوز الميقات وهو غير محرم متعمداً لكن بعذر، فهذا عليه دم ويسقط عنه الإثم؛ للعذر، والعذر إما أن يكون خائفاً من قطاع الطريق ومن اللصوص، أو يخاف الانقطاع عن الرفقة فاضطر أن يسرع من أجل أن يلحق الرفقة وألا يضيع ويهلك في الطريق، أو ضاق الوقت، أو كان به مرض شديد فاحتاج أن يتدثر بثياب كثيرة، فيحرم من الموضع الذي هو فيه وعليه دم إذا لم يعد إلى الميقات. أما إذا لم يعد وهو قادر على الرجوع فإنه يأثم، وإذا كان غير قادر على الرجوع فلا يأثم، لكن عليه دم، فإن عاد بعد الإحرام فأحرم منه فلا دم عليه، سواء كان قد دخل مكة أم لا.

حكم من جاوز الميقات فرجع إليه بعد أن أحرم

حكم من جاوز الميقات فرجع إليه بعد أن أحرم إذا جاوز الميقات وعاد قبل أن يحرم ورجع فاتفاقاً لا شيء فيه، لكن موضع الخلاف فيمن عاد إلى الميقات بعد أن جاوزه وأحرم، فهذا نقول له: لقد جاوزت الميقات وأنت تنوي الحج أو العمرة فلا بد أن يرجع إلى الميقات، إلا إذا كان له عذر من الأعذار، فلو رجع إلى الميقات ولبى من الميقات وعمل أعمال حجه وعمرته فهل عليه شيء؟ هنا خلاف الذي بين أهل العلم: فذهب الإمام الثوري وأبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني والشافعي وأبو ثور إلى أنه لا شيء عليه، وذهب الإمام مالك وابن المبارك وزفر والإمام أحمد إلى أنه عليه دماً. فعند الإمام أحمد والإمام مالك أنه سواء رجع للميقات أم لم يرجع عليه دم في الحالتين، أما عند الشافعي وعند محمد بن الحسن فإنه إذا رجع إلى الميقات وعند أبي حنيفة بشرط التلبية عند الميقات فلا شيء عليه، وإذا لم يرجع إلى الميقات فعليه دم. والراجح في هذه المسألة: أنه لو رجع إلى الميقات وأحرم فلا شيء عليه، لكن لو لم يرجع إلى الميقات وذهب إلى مكة فيلزمه دم؛ لتجاوزه مكان الإحرام وهو غير محرم، ولا فرق في لزوم الدم في كل هذا بين المجاوز للميقات عامداً عالماً أو جاهلاً أو ناسياً، ولكن يفترقون في الإثم، فالناسي نقول له: أمامك خيار من اثنين: إما أن ترجع إلى الميقات وتحرم من هناك، وإما أن تكمل سيرك ويلزمك الدم. والله أعلم. وللحديث بقية إن شاء الله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

معنى الحج وحكمه

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - معنى الحج وحكمه الحج ركن من أركان الإسلام، وهو من العبادات التي فصلها الله في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو واجب بالكتاب والسنة، وكذا أجمعت الأمة على وجوب الحج على المستطيع مرة واحدة، وشروط وجوب الحج خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة.

تعريف الحج والعمرة لغة واصطلاحا

تعريف الحج والعمرة لغة واصطلاحاً الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. تعريف الحج: الحج: بفتح الحاء وكسرها: الحَج والحِج، لغتان قرئ بهما في قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فقراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف، أبي جعفر: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)) وباقي القراء يقرءونها: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)). ويقال: شهر ذي الحِجة، وشهر: ذي الحَجة أيضاً. والحج معناه: القصد وكثرة الاختلاف إلى المكان، أي: قصد المكان والذهاب والتوجه إليه ذاهباً جائياً، فهذا يسمى حجاً، ومعنى كثرة الاختلاف: الذهاب والمجيء، ثم اختص باستعماله في القصد إلى مكة للنسك. والعمرة: كذلك أصلها: الزيارة، وأصلها: القصد أيضاً، وكأنها من إعمار المكان بكثرة الذهاب إليه. واختص الاعتمار بقصد الكعبة؛ لأن الذاهب يذهب إلى مكان عامر وليس مكاناً خرباً، فالكعبة مكان عامر يعمره الحجيج ويعمره المعتمرون، فسمي الاعتمار؛ لأنك تقصد مكاناً معموراً. فالحج: أن تقصد إلى بيت الله الحرام لعمل مناسك الحج. قال الإمام الطبري في قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] قال: فمن أتاه عائداً بعد بدء حج البيت، أي: أكثر القصد والاختلاف إلى المكان، فهو ذاهب جاءٍ إلى هذا المكان. قال الطبري: وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو حاج إليه. وإنما قيل للحاج حاجاً؛ لأنه يأتي البيت قبل التعريف، أي: يأتي البيت قبل يوم عرفة، فذهب إليه فيطوف ويعمل عمرةً مثلاً ثم يعود إليه لطواف يوم النحر، وفي يوم النحر يرجع إلى البيت لطواف الإفاضة بعد التعريف، ثم ينصرف عنه إلى منى، ثم يعود إليه في طواف الصدر في طواف الوداع، فلتكراره والعودة إليه مرة بعد أخرى قيل له: حاج حج البيت بمعنى: قصد البيت وذهب إليه فطاف به، وخرج من هناك متوجهاً إلى منى ثم إلى عرفة، ثمَّ رجع ثانياً إلى البيت يطوف طواف الإفاضة، أي: طواف الركن، ثم خرج منه ورجع إلى منى، ثمَّ رجع مرةً ثانية إلى البيت ليطوف طواف الوداع، فكثرة الاختلاف بالذهاب والمجيء يسمى حجاً، أي: قصد المكان وأكثر الاختلاف إليه. يقول: وأما المعتمر فإنما قيل له معتمراً لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه، كأنه زار ثم انصرف، هذا من معاني اعتمر، ومن معانيها ما ذكرنا: أنه قصد إلى موضع عامر أو إلى مكان عامر.

الأدلة على فضل الحج من الكتاب والسنة

الأدلة على فضل الحج من الكتاب والسنة جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة في فضائل الحج، وفي القرآن قال الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]. وفي الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور)، فأفضل العمل الإيمان، ويلي ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل، ويليه الحج المبرور. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)، فالذي يحج ولم يفسق ولم يرفث -والرفث معناه: الجماع أو مقدمات الجماع والكلام عن النساء والشهوات ونحو ذلك، والفسق: هو معصية الله سبحانه وتعالى- فالذي يحج ولم يقع منه رفث ولا فسوق رجع كيوم ولدته أمه. ورواه الترمذي بلفظ: (من حج فلم يرفث ولم يفسق غفر له ما تقدم من ذنبه). وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، والحج المبرور هو الذي جمع خصال البر، وهو الذي لم يعص الله سبحانه وتعالى فيه. إذاً: حج حجاً مبروراً أي: بر في حجه ولم يعص الله سبحانه، وأيضاً: حج وأكمل حجه وأحكامه فوقع موافقاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل. وروى البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: (يا رسول الله! نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور)، ورواه النسائي بلفظ: (قلت: يا رسول الله! ألا نخرج فنجاهد معك؛ فإني لا أرى عملاً في القرآن أفضل من الجهاد؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا، ولكن أحسن الجهاد وأفضله حج البيت حج مبرور) قوله: (لكن) بصيغة الخطاب للنساء، أي: لكن أيها النساء، أو لكن بلفظ الاستدراك، أي: يستدرك ذلك، ورواية البخاري فيها روايتان: (لكِنَّ) و (ولَكُنَّ)، وبعض أهل العلم رجحوا واحدة والبعض رجح الثانية. والحديث رواه ابن ماجة وأحمد بلفظ: (قلت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال: نعم، عليهن جهاد) ولاحظ لفظ (عليهن) فإنه يفيد الوجوب، قال: (عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) فإذا كان على النساء العمرة إذاً، فالرجل من باب أولى أن يكون عليه عمرة. وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟)، فالله سبحانه وتعالى يباهي بعباده الملائكة، والملائكة قد قالوا قبل ذلك: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، فيعجب الملائكة من أنهم أساءوا الظن فيهم، فيريهم الله ويباهي الملائكة بهؤلاء الذين زعمتم أنهم يفسدون فقد جاءوا شعثاً غبراً يطلبون مغفرة الله ورضوانه سبحانه. وروى الترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة)، والمعنى: يزيلان الفقر والذنوب عن الحاج وعن المعتمر، فالله عز وجل وعده بأن يغنيه سبحانه وتعالى فيعطيه إما غنىً في قلبه فلا يحتاج إلى أحد، ويرى نفسه غنياً حتى ولو لم يكن معه مال، أو أنه يعطيه مالاً ليأخذه ويغنيه عز وجل بذلك، وهذا مشاهد معروف. فقوله: (ينفيان) أي: يزيلان الفقر الظاهر بحصول غنى في اليد، وكذلك الفقر الباطن بحصول غنى في القلب. (كما ينفي الكير خبث الحديد)، وهي آلة الحداد التي ينفخ فيها النار ليعدل الحديد ويصنع منه أشياء، ويزيل الخبث من الحديد ومن الفضة ومن الذهب، أي: الوسخ الذي فيها، قال: (وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة)، فالحج المبرور ليس له إلا هذا الثواب. والمعنى: هذه الحجة ثوابها الجنة عند الله عز وجل، فلها أعظم وأفضل الجزاء الذي تتوق إليه نفس كل إنسان مؤمن.

حكم الحج

حكم الحج الحج فريضة وركن من أركان الإسلام، قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، فالحج ركن من أركان الإسلام وفرض عين على كل مسلم مستطيع. فالمسلم الذي يستطيع أن يحج صار فرض عين عليه أن يحج بهذه الآية، وبالأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما وهو في الصحيحين: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان). أيضاً: إجماع الأمة على وجوب الحج -كما سيأتي- وأنه واجب في العمر مرة. فلا يجب في العمر أكثر من حجة وعمرة في الشرع، ولكن قد يجب على الإنسان بالنذر، وإذا أفسد حجة الفريضة فعليه حجة أخرى مكانها، وإذا أفسد حجة التطوع فعليه حجة أخرى مكانها. إذاً: في الشرع لا يجب الحج والعمرة إلا مرةً واحدة، ولكن قد يجب بشيء آخر غير ما فرض الله عز وجل عليه حجة العمر، وعمرة العمر، ويكون ذلك بإفساد حج الفريضة أو حج التطوع، أو إذا نذر على نفسه أن يحج أو يعتمر. والدليل: ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت صلى الله عليه وسلم حتى قالها الرجل ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه). فالحديث دل على أشياء منها: أنه لا يجب على الإنسان المؤمن في العمر إلا حجة واحدة. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر بأمر فالأصل أن ينفذ المؤمن هذا الأمر مرةً واحدة، وأن الأمر لا يفيد التكرار حتى تأتي صيغة تفيد أنه يلزمه أن يكرر ذلك. ومنها: أن الأمر على الوجوب، فإذا أمر بشيء فلا بد أن يفعل، ولكن هذا الوجوب مقيد بالاستطاعة، فإذا كان مستطيعاً فعله، وإلا فعل ما استطاع إليه سبيلاً. ومنها: أن النهي للتحريم، وأنه لا يجوز لإنسان أن يرتكب ما نهى عنه النبي صلوات الله وسلامه عليه إلا أن تكون ضرورة. ولهذا قال: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) فقيد الأمر بالاستطاعة؛ لأن الأمر فيه مشقة، أما الترك فقال: (وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)، فالنهي أخف من الأمر ولذلك لم يقيد النهي بالاستطاعة. روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (حتى إذا كان آخر طوافه على المروة قال: لو أني لم أسق الهدي لجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة، فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟) سراقة بن مالك بن جعشم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل هذه الحجة الذي نحجها معك هذا العام فرض علينا في هذا العام، أم أنها فريضة فعلناها فانتفى عنا الوجوب بعد ذلك، وكانت للأبد؟ (فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين)، يعني: كرر هذا: مرتين دخلت العمرة في الحج، دخلت العمرة في الحج، قال: (لا، بل لأبد الأبد). إذاً: هذا ليس لكم فقط، بل لكم ولمن بعدكم أنه من حج قارناً فيكفيه ذلك، ومن حج متمتعاً فأتى بعمرة ثم حل منها ثم حج بعد ذلك فقد أتى بالفرض الذي عليه، وليس عليه أن يسافر مرةً أخرى لعمرة أو لحجةٍ ثانية. وروى أبو داود وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! الحج في كل سنة أو مرةً واحدة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع). وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن عنده الهدي فليحل الحل كله فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة)، قوله: (العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة) كأنه من اعتمر في أشهر الحج فقد أدى العمرة التي عليه وليس عليه أن يعيد عمرة أخرى مكان هذه العمرة. وكان أهل الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، ولذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم العمرة في أشهر الحج ثلاث مرات: عمرة الحديبية في شهر ذي القعدة، وعمرة القضاء في شهر ذي القعدة، وفي عمرته من الجعرانة كذلك، ثم عمرته في شهر ذي الحجة التي كانت مع حجته عليه الصلاة والسلام، فكان عُمرُ النبي صلى الله عليه وسلم كلها في أشهر الحج؛ حتى يزيل ما في قلوب الناس مما كانوا يرونه أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور. إذاً: معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج إذا جمع بينهما، هذا معنى. والمعنى الآخر: أنه يجوز أن يعتمر في أشهر الحج ولا بأس بالعمرة في أشهر الحج. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون: إذا عفا الوبر وبرأ الدبر ودخل صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر، وكان أهل الجاهلية يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم)، أي: حتى يخرج شهر ذي الحجة، ويخرج شهر المحرم، وبعد ذلك من أراد أن يعتمر فله أن يعتمر، فكانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وأشهر الحج معروفة وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فكانوا يمنعون أن يعتمر أحد في هذه الأشهر، ويرونه من أفجر الفجور، وعلى من يريد العمرة أن ينتظر حتى يرجع الحجيج من الحج وينتهي شهر المحرم ثمَّ يعتمر بعد ذلك، فيقولون: (إذا عفا الوبر، وبرأ الدبر، ودخل صفر) يقصدون أنه إذا انتهى شهر المحرم وانتهى الحج ورجع الحجيج وجاء شهر صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر، أو يقصدون أنهم كانوا يسمون شهر المحرم بصفر حتى يحلوا الأشهر الحرم. فالغرض: أنه إذا انتهى ذو الحجة عندهم يقولون: اعتمر في شهر صفر، أو اعتمر في أي شهر غير أشهر الحج، فالنبي صلى الله عليه وسلم تعمد أن يعتمر في أشهر الحج، وأن يعمر عائشة في أشهر الحج أيضاً بعد ما انتهت من حجتها ليري الناس أن هذا جائز. إذاً: فقد أجمعت الأمة -كما ذكرنا- على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرة.

حج النبي صلى الله عليه وسلم وعمرته

حج النبي صلى الله عليه وسلم وعمرته ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل هجرته، وقبل أن يفرض عليه الحج مرتين قبل أن يهاجر إلى المدينة، وهاتان الحجتان لم تكونا فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما حج وهو في مكة عليه الصلاة والسلام، وكان يأتي الموسم ويدعو الناس إلى دين الله تبارك وتعالى. ثم فرض عليه الحج بعد ذلك في العام التاسع؛ لقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، فحج مرةً واحدة صلوات الله وسلامه عليه بعدما فرض الحج. روى الترمذي وابن ماجة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر، وحجةً بعد ما هاجر، ومعها عمرة). إذاً: بعد أن هاجر حج حجةً واحدة عليه الصلاة والسلام ومعها عمرة، وقد اعتمر قبل ذلك صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: مرتين دخل واعتمر، ومرة لم يدخل، أي: في الحديبية حين حصر. وقد ساق ثلاثاً وستين بدنة وجاء علي من اليمن ببقيتها، فمجموع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان مائة بدنة -أي: مائة ناقة- ساق معه من المدينة ثلاثاً وستين، وأتى علي بن أبي طالب من اليمن للنبي صلى الله عليه وسلم بسبع وثلاثين. ومن ضمن هذه البدن التي أهداها النبي صلى الله عليه وسلم جمل لـ أبي جهل في أنفه برة من فضة، أي: حلقة من فضة، فنحرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر من كل بدنة ببضعة فطبخت وشرب من مرقها، أي: أن المائة الناقة نحرها النبي صلى الله عليه وسلم فنحر بيده الكريمة ثلاثاً وستين ناقة، وأكمل علي الباقي، وأمره أن يأخذ من كل ناقة ومن كل بدنة ببضعة أي: قطعة من اللحم، ويجعلها في وعاء أو في قدر، وطبخت وأكل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وشرب من مرقها.

ما يفعل من حج ثم ارتد؟

ما يفعل من حج ثم ارتد؟ الإنسان الذي حج إلى بيت الله سبحانه، وكذلك الذي صام شهر رمضان، وكذلك الذي صلى صلاة فريضة ثم بعد ذلك وقع منه -والعياذ بالله- أنه ارتد وكفر، فهل هذا العمل قد حبط ويلزمه أن يعيد ما صامه من رمضان مرةً ثانية، أو أن يعيد الحجة التي أداها قبل ذلك، أو أن يعيد الصلوات التي صلاها قبل ذلك؟ الراجح من كلام أهل العلم: أنه إذا ارتد ثم تاب إلى الله عز وجل بعد ذلك وأسلم فلا يجب عليه أن يعيد ما حجه في إسلامه قبل ذلك، فتجزئه حجته السابقة، وهذا اختيار الشافعي، وبه قال ابن حزم، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، بل هو الصحيح في مذهب الإمام أحمد. والمسألة مختلف فيها: فعند المالكية والأحناف وهو قول في مذهب أحمد: أن الذي حج ثم ارتد يجب عليه إعادة الحج مرةً ثانية. وعند الشافعي وابن حزم وهو قول في مذهب أحمد وهو الراجح والصحيح: أنه لا يلزمه إعادة الحج. وهذا الخلاف مبني على آيتين في كتاب الله سبحانه وتعالى: فقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وقال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة:217] فذكر الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم -وحاشا له أن يقع في ذلك- وللمؤمنين المسلمين بالتبع أنه من وقع في الردة حبط عمله، وذكر في الآية الأخرى القيد: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ}، فدل على أنه يعمل بهذا القيد فيها، فالذي يحبط عمله ويكون من الخاسرين هو الذي ارتد عن دين الله سبحانه، فحبط عمله بردته مع وفاته على الردة. إذاً: الآية فيها قيد أنه إذا كفر الإنسان والعياذ بالله ومات على ذلك الكفر فهذا هو الذي حبط عمله. لكن الذي قد وقع في ذلك ثم تاب وحسن إسلامه فلا يقال: إنه من الخاسرين، فالذي من الخاسرين هو الذي مات على الكفر، كما ذكر في هذه الآية. إذاً: الآية: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217] يقصد بها: الذي يرتد عن الدين ويموت وهو كافر. وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5] الراجح: أن هذا مطلق ويقيد بالآية التي فيها ذكر الوفاة. وجاء في حديث عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي رسول الله! أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة، أو عتاقة، أو صلة رحم أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير). فهذا حكيم بن حزام رضي الله عنه يذكر أنه كان في الجاهلية مع شركه ومع كفره يعمل أعمالاً من الخير منها: أنه تصدق، وأعتق رقاباً، وأنه وصل رحمه فهل له أجر بعدما أسلم على هذا الذي عمله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على ما أسلفت من خير). إذاً: هذا العمل السالف الذي كان من الخير لك أجره عند الله سبحانه وتعالى. فإذا كان هذا كافراً أصلياً ونفعه ذلك بعد ما أسلم؛ فإن ذلك ينفع من كان مسلماً ثم وقع بعد ذلك في الردة والعياذ بالله ثم تاب ورجع إلى الإسلام. وهذا الذي ننقله فيمن حج حجةً صحيحة وهو مسلم، أما من حج ثم ارتد في حجه فحجه باطل بذلك، وقد ذكرنا أن الذي يبطل الحج ويلغيه هي الردة، فإذا تاب بعد ذلك وعاد إلى الإسلام لزمته الحجة التي ارتد فيها وأبطلها بردته. إذاً: هناك فرق، فإذا ارتد وكفر ورجع عن الإسلام في أثنا حجه، ثم بعد ذلك تاب بعد ما انتهت هذه الأعمال وانتهت المناسك فلا ينفعه الحج، ولا يقال له: امض في هذه الحجة، بخلاف من أفسدها، فالذي أفسدها بالجماع وهو مسلم فإنَّه يصح منه أن يأتي بالعمل الذي فيه طاعة لله سبحانه وتعالى؛ لأنه عنده أصل الإيمان. إذاً: فرق بين من أفسد الحجة بجماع، فهذا نقول له: أكمل حجتك؛ لأن هذا مسلم يكمل الحجة التي أفسدها، وبين من ارتد في أثناء حجته فأبطلها وانتهى حجه بذلك، فعلى هذا يحج إذا أسلم بعد ذلك، لكن من حج حجةً صحيحة وبعد ما حج وانتهى حجه رجع إلى بلده ووقع في شيء يجعله مرتداً والعياذ بالله، ثم تاب ورجع إلى الإسلام، فالراجح: أنه لا يلزمه أن يحج مرةً ثانية، فقد وقعت حجته صحيحة على ما ذكر.

شروط وجوب الحج [1]

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - شروط وجوب الحج [1] شروط وجوب الحج خمسة: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة، فلا يجب الحج على أحد إلا إذا توافرت فيه هذه الشروط، ولو حج الصبي والعبد والمجنون فحجهم صحيح ولكن لا يجزئهم عن حجة الإسلام، فإذا بلغ الصبي وأعتق العبد وأفاق المجنون فعليهم أن يحجوا حجة الإسلام، وهناك مسائل وأحكام كثيرة تتعلق بحجة الصبي والعبد والمجنون ونحوهم.

شروط وجوب الحج

شروط وجوب الحج الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. شروط وجوب الحج خمسة شروط متفق عليها بين العلماء: الشرط الأول: الإسلام، فحتى يجب الحج على إنسان لا بد أن يكون مسلماً، فلا يجب الحج على كافر. الشرط الثاني: العقل. الشرط الثالث: البلوغ. الشرط الرابع: الحرية. الشرط الخامس: الاستطاعة. فهذه خمسة شروط إذا توفرت في إنسان قلنا له: وجب عليك الحج: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة.

خلاف العلماء في اشتراط أمان الطريق وإمكان السير

خلاف العلماء في اشتراط أمان الطريق وإمكان السير واختلف العلماء في شرطين وهما: أمان الطريق، وإمكان المسير، فلو افترضنا أن الإنسان الذي يجب عليه الحج توافرت فيه الشروط، أي: هو مسلم، بالغ، حر، مستطيع، عاقل، وقلنا له: يجب عليك الحج، ولكن الطريق غير مأمونة حتى يصل إلى الحج، فهناك عدو في الطريق يمنعه من الوصول إلى هذا المكان، أو أنه يقدر، ولكن ليس هناك وسيلة يصل بها إلى الحج، فلم تتوافر مواصلات توصله، وسيفوته الحج في هذا العام. إذاً: الشرطان هما: الأمان في الطريق، وإمكان المسير، فقد يكون هذا الإنسان في يوم ثمانية ذي الحجة معه مال كثير، لكن ليس هناك طائرة تنقله إلى هناك، ولا يقدر أن يصل إلى هناك. إذاً: المال موجود، والمال ليس وحده هو الذي يوصله، إذْ لا بد من الوسيلة حتى يصل. فأمان الطريق وإمكان المسير هل يقال: إنهما من شروط الاستطاعة، أو من شروط لزوم أداء الحج؟ اختلف فيهما العلماء: هل هما من شروط وجوب الحج، أي: أنه إذا وجدت هذه الشروط وجب عليه الحج، وإن لم تكن موجودة فلا يجب عليه، أم أنها من شروط لزوم السعي، ولزوم السعي يعني: أنه ليس قادراً على أن يحج هذه السنة، وإنما في السنة اللاحقة؟ فجمهور العلماء على أن هذه الشروط السبعة كلها شروط وجوب للحج، فحتى يجب عليه الحج لا بد من وجود هذه الشروط السبعة. وفي قول للإمام أحمد رحمه الله وهو الراجح في المذهب: أن الشرطين من شروط لزوم السعي، أي: أمان الطريق، وإمكان المسير شرطان من شروط لزوم السعي. إذاً: الخلاف هنا: هل هما من شروط الوجوب أم هما شرطان من شروط لزوم السعي؟ فإذا قلنا: إنهما من شروط وجوب الحج لم يجب عليه الحج؛ لأنه غير مستطيع، وإذا قلنا: إنّهما شرطان للزوم السعي فلا يلزمه أن يسعى هذه السنة، ويسعى في السنة القادمة، وهذا القول أحوط، وإن كان الراجح من حيث الدليل: أن هذا ليس مستطيعاً؛ لأن معه المال، ولكن ليس عنده وسيلة توصله؛ ولذلك سيفوت عليه موسم الحج فهو ليس قادراً، وهذا الراجح من حيث الدليل، وهو قول الجمهور أنه غير مستطيع. فعلى ذلك الراجح: أن هذه الشروط السبعة شروط وجوب؛ لأن الله عز وجل إنما فرض الحج على من استطاع إليه سبيلاً، وهذا لم يستطع السبيل إليه. لكن إذا توفي وكان معه من المال ما يمكن أهله أن يحجوا عنه فيلزمهم أن يقضوا دين الله سبحانه وتعالى، وأن يحجوا عن هذا الذي وجب عليه الحج ولم يفعل لسبب من الأسباب، أو لعذر من الأعذار.

أقسام شروط الحج

أقسام شروط الحج

القسم الأول: شرطان للوجوب والصحة

القسم الأول: شرطان للوجوب والصحة شروط الحج الخمسة وهي: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة، تنقسم إلى ثلاثة أقسام: فمنها: ما هو شرط للوجوب وللصحة، وقولنا: (شرط وجوب) أي: إذا وجد وجب عليك أن تحج، وإذا لم يوجد هذا الشرط فلا يجب عليك الحج. وقولنا: (شروط صحة) أي: حتى يصح منك هذا الحج لا بد من وجود هذا الشرط. فالإسلام والعقل شرطان للوجوب، وشرطان للصحة. فعلى ذلك فإن غير المسلم لا يجب عليه الحج؛ لأنه لا يخاطب به، وإن كان يوم القيامة يحاسب على تركه، ولكن في الدنيا لا يطلب منه ذلك؛ لأنه لم يأت بأصل الإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله حتى نقول له: يلزمك أن تحج. ولو فرضنا أن هذا الكافر تشبه بالمسلمين وحج الشيء، فإنه لا يصح منه هذا العمل؛ لأنه لم يأت بالتوحيد. إذاً: الإسلام شرط وجوب وصحة. وكذلك العقل شرط وجوب وصحة، فالمجنون لا يصح منه أن يحج بنفسه، والصبي الصغير لا يصح منه أن يحج بنفسه، ويصح أن يحج بالاثنين الولي الذي له النية ويصنع بهما أفعال الحج، ويأخذهما إلى عرفة وإلى مزدلفة ويكمل بهما باقي أعمال الحج، فلابد من وجود الولي، أما هما في أنفسهما فلا يصح منهما لعدم وجود العقل. إذاً: الإسلام والعقل شرطا وجوب وصحة، فلا تجب العبادة على كافر ولا مجنون، فإن فعلاها فلا تصح منهما؛ لأنهما ليسا من أهل العبادة. وهنا ذكرنا أن المجنون لا يصح منه الحج بقيد عدم الولي، لكن مع وجود الولي فحكمه حكم الصبي الصغير، فقد جاء أن امرأة رفعت للنبي صلى الله عليه وسلم صبياً لها وقالت: (ألهذا حج؟ قال: نعم. ولك أجر).

القسم الثاني: شرطان للوجوب والإجزاء

القسم الثاني: شرطان للوجوب والإجزاء منها شرطان للوجوب والإجزاء، وهناك فرق بين أن نقول: يصح منه، وأن نقول: يجزئ عنه، فقد يصح منه على نافلة وعلى فريضة فيصح منه هذا الحج، فإذا كانت نافلة بالنسبة للصغير أو للعبد وأعتق العبد بعد ذلك وبلغ الصبي وصارا مستطيعين، وجب عليهما حجة الإسلام، فهذا الحج صح منهما، ولكن ليس مجزئاً عن حجة الإسلام، ولذلك فالشرطان اللذان هما للوجوب وللإجزاء هما: البلوغ، والحرية، فالبالغ يجب عليه الحج، وغير البالغ لا يجب عليه، فإذا حج البالغ قبل منه ذلك وصار مجزئاً عنه، ومعنى الإجزاء: سقوط الفريضة عنه ولا يلزمه الإعادة ولا القضاء لهذه الفريضة. والعبد الذي يحج حجه صحيح فيصح منه، ولكن لا تجزئ عنه حجة الإسلام إلا إذا مات وهو عبد، لكن إذا أعتق فلا تجزئ عنه، فيلزمه إذا صار مستطيعاً أن يحج حجةً أخرى كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. إذاً: شرطا الوجوب والإجزاء: البلوغ، والحرية، فلو حج الصبي والعبد صح حجهما، ولم يجزئهما عن حجة الإسلام. إذاً: هنا يصح الحج ويقبله الله سبحانه وتعالى، وقد عرفنا قبل ذلك الفرق بين الصحة والقبول، فنحن نحكم بالصحة ولا نحكم بالقبول؛ لأن القبول أمره إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن الصحة معناها: أنه لا يجب عليك أن تعيد، وقد سقط عنك الفعل الذي فرض عليك. إذاً: نقول: لو حج الصبي والعبد صح حجهما، فإذا بلغ وصار مستطيعاً فعليه حجة الإسلام التي كلف الله عز وجل العباد بها، وكذلك العبد إذا أعتق على ما فصلنا.

القسم الثالث: شروط للوجوب

القسم الثالث: شروط للوجوب ومنها: ما هو شرط للوجوب فقط: وهو الشرط الخامس، وهو: الاستطاعة، ويدخل تحت الاستطاعة إمكان المسير وأمان الطريق، فلو تجشم غير المستطيع المشقة وسار بغير زاد وراحلة فحج كان حجه صحيحاً ومجزئاً، لأن هذا شرط للوجوب، فحتى نقول: وجب عليك الحج وتأثم بعدم الأداء لا بد أن تكون مستطيعاً لهذا الحج، فإذا كان مستطيعاً مع الشروط الماضية فنقول: يلزمك أن تحج لأنك الآن مستطيع. إذاً: شروط وجوب الحج خمسة شروط: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة، فإذا كان هذا الإنسان جمع هذه الشروط، فنقول له: يجب عليك أن تذهب وتحج؛ لأنك مستطيع. ولو أن غير المستطيع حج فنقول: حجه صحيح، أي: لو تجشم مع كونه لا مال له، ولا زاد معه، وحج ماشياً أو راكباً، استدان وحج وهو لا يجب عليه، فنقول: صح منه حجه. والكافر الأصلي لا يطالب بفعل الحج، وفرق بين الكافر الأصلي والمرتد، فالمرتد كان مسلماً ثم بعد ذلك فعل أو قال أو اعتقد ما يخرجه عن الملة والعياذ بالله! لكن الكافر الأصلي لم يدخل في الإسلام أصلاً، فعلى ذلك هذا الكافر الأصلي لا يطالب بفعله، سواء كان مستطيعاً أو غير ذلك، فغير المستطيع لا يطالب بما على المستطيع، وإن سئل يوم القيامة عنه سواء كان حربياً أو ذمياً أو كتابياً أو ثنياً، وكذلك المرأة والرجل كل هؤلاء لا يخاطبون بفعل ذلك، فإذا أسلم هؤلاء لم يخاطبوا بما فاتهم، فلو أن إنساناً كافراً في حال كفره صار مفلساً وأسلم بعد ذلك، فلن نقول له: أنت كنت غنياً ولذلك وجب عليك الحج، بل لا يجب عليه الحج الآن؛ لأنه ما كان في الماضي في الجاهلية يهدمه الإسلام، فكل ما كان عليه هذا الإنسان من مال ومن غنى وضاع منه هذا المال الآن بعد أن صار مسلماً، فإنه يخاطب على ما هو عليه الآن؛ لما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام يهدم ما كان قبله)، وفي رواية: (يجب ما قبله)، فإذا كان هذا الإنسان مستطيعاً قبل ذلك، وأراد أن يحج، فنقول: لا يقبل منك؛ لأنك كافر، فهذا مع الكفر لا يقبل منه العمل، فلو أنه أسلم وصار مفلساً ولا مال معه فلا يكلم ولا يخاطب بما كان عليه قبل ذلك في أيام جاهليته؛ لأن الإسلام يجبُّ ما كان عليه قبل ذلك من شرك. فإن استطاع في حال كفره ثم أسلم وهو معسر لم يلزمه الحج، إلا أن يستطيع بعد ذلك على ما ذكرنا؛ لأن الاستطاعة في الكفر لا أثر لها. وأما المرتد فيجب عليه، فإذا استطاع في ردته ثم أسلم وهو معسر فالحج مستقر في ذمته بتلك الاستطاعة، وفرق بين الاثنين: فالكافر الأصلي لا يخاطب بأفعال الإسلام إلا أن يخاطب بالتوحيد ويؤمر به، لكن المرتد مطلوب منه حالاً أن يرجع إلى دين الله سبحانه وتعالى، وإلا فإن حد الله عز وجل يقام عليه فيقتل لردته، فما دام أنه حي ومخاطب بأحكام الإسلام فليس من حقه أن يكفر وأن يرتد عن دين الله سبحانه وتعالى، فالمرتد يجب عليه إن كان غنياً في حال ردته، وهو مطالب بأن يسلم ومطالب بأن يحج بعد ما يرجع إلى دين الله سبحانه وتعالى. فإن استطاع في حال ردته ثم أسلم وهو معسر فالحج مستقر عليه، فإن قدر بعد ذلك لزمه أن يأتي به. أما الإثم بترك الحج فيأثم المرتد؛ لأنه مكلف به في حال ردته.

أقسام الناس في الحج

أقسام الناس في الحج الناس في الحج خمسة أقسام: القسم الأول: لا يصح منه الحج بحال، وهذا هو الكافر، فلو أنه حج لا يصح منه ذلك، ولو أنه فعل طاعة من الطاعات، كما لو جاء شهر رمضان وصام مع المسلمين كنوع من التزلف للمسلمين فلا يصح منه ذلك، ولكي يقبل منه العمل لا بد أن يأتي بأصل الأصول بأصل الإسلام وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. القسم الثاني: من يصح منه الحج والعمرة لا بالمباشرة، أي: ليس هو الذي سيباشر، ولا هو الذي سينوي، ولكن وليه هو الذي يقوم بالمباشرة بهذه الأشياء، وهو الذي ينوي له، وهذا القسم هو الصبي غير المميز، وكذلك المجنون، فهذان إذا كان مسلمين يحرم عنهما وليهما، وهو الذي ينوي عنهما ويقوم لهما بالأعمال ويهيئهما لأعمال الحج والعمرة. القسم الثالث: من يصح منه بالمباشرة، وهو أن يباشر أعمال المناسك بنفسه، وهو الصبي المسلم المميز، والعبد المسلم المميز، فيصح منهما الحج بالمباشرة سواء كان صبياً أو عبداً. القسم الرابع: من يصح منه بالمباشرة، ويجزئه عن حجة الإسلام، وهو المسلم المميز البالغ الحر. الخامس: من يجب عليه، وهناك فرق بين من يصح منه، ومن يجب عليه، فقولنا: (يصح منه) أي: لم يجب عليه بعد لأنه غير مستطيع، ولكن فعله فصح منه ذلك، فإذا صار مستطيعاً وجب عليه وأجزأه، وهو المسلم البالغ الحر العاقل المستطيع. فشرط الصحة مطلقاً إذا حج إنسان نقول: يشترط حتى يصح منه ذلك أن يكون مسلماً ولا يشترط التكليف بل سيقوم عنه غيره بالنية، مثل الولي ومعه الصبي الصغير، أو المجنون. وشرط صحة المباشرة بالنفس: الإسلام والتمييز، فحتى يباشر الأعمال بنفسه فيفعلها لا بد أن يكون مسلماً مميزاً، والمميز: هو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب، وهو من جاوز سبع أو ثمان سنوات، وشرط وقوعها حجة الإسلام: البلوغ، والعقل، والإسلام، والحرية، فإذا كان ليس بالغاً أو ليس عاقلاً، أو كان عبداً ليس حراً، فهذا لا تقع عنه حجة الإسلام، وإذا كان غير مسلم فمن باب أولى ألا يصح منه ذلك. ولو تكلف غير المستطيع الحج وقع حجه عن فرض الإسلام، ولو نوى غير حجة الإسلام وقع عن حجة الإسلام، أي: لو تكلف غير المستطيع الحج كأن يكون لا يملك شيئاً وكلف نفسه فاستدان وذهب وحج، فقد وقع ذلك الحج عن حجة الإسلام وعن فرض الإسلام. ولو كان ذاهباً للحج وقال: أنا غير مستطيع، وسأحج تطوعاً، ونوى التطوع بذلك، فهنا ينقلب إلى حجة الإسلام، مثل الذي حج عن شبرمة وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة). وشرط وجوب الحج: البلوغ، والعقل، الإسلام، والحرية، والاستطاعة.

حكم حج المجنون

حكم حج المجنون المجنون إما أن سيحج وحده فلا يصح منه ذلك؛ لأنه لا عقل له فلا يصح منه الحج، وإما أن إنساناً آخر يقوم معه بالحج فينوي عنه ويأخذه إلى المناسك، ويقف به في عرفة، فهذا أمر آخر، فيصح منه كثواب له، أي: كثواب لهذا الإنسان، لكنها ليست حجة الإسلام؛ لأن المجنون لا تجب عليه حجة الإسلام. روى أصحاب السنن عن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق). وفي رواية: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصغير حتى يكبر)، إذاً: هؤلاء رفع عنهم قلم الإثم، وقلم التكليف، وأجمعت الأمة على أنه لا يجب الحج على المجنون. فالمجنون لا يجب عليه الحج، ولكن لو حج به وليه فحكمه حكم الصبي الصغير الذي رفعته المرأة للنبي صلى الله عليه وسلم. والمغمى عليه يعتبر غير مفيق، وحكمه حكم المجنون؛ لأنه لا عقل له في هذه الحالة، فلا يصح منه حج الفريضة، ولو أن إنساناً أغمي عليه من أول الإحرام وعند إرادة الإحرام أخذ وهو مغمى عليه، أي: لم يحرم عن نفسه وحملوه وأخذوه إلى عرفة أو إلى مزدلفة وغيرها، وطافوا به وسعوا به فكل هذا لا يصح منه كحجة الإسلام، فالمغمى عليه: لا يجوز أن يحرم عنه غيره؛ لأنه ليس لديه عقل، ويرجى برؤه عن قريب، فهو كالمريض، فلا يطاف ولا يفعل به أفعال الحج إلا إذا كان قد أفاق من إغمائه، فعلى ذلك يحمل طالما أن عقله موجود معه. فالإنسان الذي يفيق كالإنسان الذي تأتيه نوبات الصرع وتطول معه، وتمكث معه أياماً وهو مصروع فيذهب عقله ثم يفيق بعد ذلك، ثم يذهب عنه عقله وهكذا، فالذي يجن ويفيق إذا كان في خلال مدة الإفاقة يتمكن فيها من الحج ووجدت الشروط الباقية لزمه الحج، وإلا فلا. وإذا كان يأتي له الجنون في فترة أو في فصل معين من السنة وفي فصول أخرى لا يأتيه الجنون، وحج به في خلال ذلك وهو مفيق فالحج منه صحيح. ولو سافر الولي بالمجنون إلى مكة فلما وصل إلى مكان الإحرام أفاق فأحرم صح حجه وأجزأه عن حجة الإسلام، ولو فرضنا أن هذا الإنسان أخذه وليه ليحج به وهو مجنون، وأخذ يعمل عنه المناسك، فإذا كان على هذه الحالة فلا يصح منه عمل بالمباشرة، وإنما الذي يصح فعل الغير عنه، فحكمه حكم الصبي الصغير، ويكون حجه تطوعاً، وليس حجة الفريضة، لكن لو فرضنا أنه أدرك ورجع إليه عقله ففعل المناسك وأداها، فعلى ذلك تصح عنه حجة الإسلام، حتى لو كان في البداية مجنوناً ثم رجع عقله هنالك. ويشترط لصحة مباشرته بنفسه للحج إفاقته عند الإحرام والوقوف والطواف والسعي، أي: عند أداء الأركان لابد أن يكون عقله حاضراً؛ فإذا كان أثناء هذه الأفعال مفيقاً عاقلاً: عند الإحرام والطواف والوقوف بعرفة والسعي، فعلى ذلك حجه صحيح.

حج الصبي

حج الصبي روى البخاري عن سالم بن يزيد قال: (حج بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين). وروى مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لقي ركباً بالروحاء فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر). فلا يجب الحج على الصبي ويصح منه رضيعاً كان أو مراهقاً، والرضيع هو الذي يرضع فقط خلال السنتين. والمراهق: هو الذي كاد يبلغ، أي: الذي هو دون البلوغ، كاد يبلغ ولكن لم يبلغ، ثم إن كان مميزاً أحرم بنفسه بإذن وليه، والمميز حده الحنابلة بأنه ما بلغ سن التمييز وهو سبع سنين. وعند الشافعية حدوه بسبع أو ثمان، والإمام النووي حد له حداً فقال: الصواب في حقيقة الصبي المميز: أنه الذي يفهم الخطاب ويحسن رد الجواب ومقاصد الكلام ونحو ذلك، ولا يضبط بسن مخصوص؛ بل إنه يختلف باختلاف الأفهام، أي: أنه ليس لازماً أن يكون سن التمييز سبع سنين بالضبط، فقد يكون أكثر أو أقل، المهم أن هذا يفهم الكلام ويعرف يرد الجواب، ويفرق بين الأشياء، فهو المميز، كما أن أصل التمييز هو ذلك، يقول الفيوفي في المصباح المنير: تميز الشيء بمعنى: انفصل عن غيره، والفقهاء يقولون: سن التمييز والمراد: سنٌّ إذا انتهى إليها عرف مضاره ومنافعه، وكأنه مأخوذ من (ميزت الأشياء) إذا فرقتها بعد المعرفة بها. وإن كان الصبي أو الصبية مميزين أحرما بأنفسهما بإذن الولي، فإن استقل الصبي وأحرم بنفسه بغير إذن وليه لم يصح، أي: لو أن الصبي أحرم وقال: لبيك عمرة أو لبيك حجاً من غير إذن الولي فلا يصح منه ذلك، ولوليه تحليله إذا رأى في ذلك المصلحة. أما الصبي غير المميز فيحرم عنه وليه، وهو ما كان عمره ثلاث أو أربع سنوات، وليس معناه: أنه يلبسه لبس الإحرام، ولكن يحرم بمعنى: ينوي عنه، إذاً: يحرم الولي عن الصبي بأن يعقد له الإحرام كما سيأتي، سواء كان الولي حلالاً أو كان محرماً، وسواء كان حج عن نفسه أو لم يحج، فعلى ذلك الذي يحرم عن الصبي بمعنى: ينوي له ذلك فيجرده ويلبسه لبس الإحرام، ويجعله يطوف أو يسعى أو يوكل به من يفعل به ذلك في المناسك ويصح ذلك.

الولي الذي يحرم عن الصبي

الولي الذي يحرم عن الصبي والولي الذي يجوز له عقد الإحرام عن الصبي هو الأب، وهذا الأصل في الولي، وكذلك الجد الصحيح عند عدم وجود الأب، والجد الصحيح: هو أبو الأب، والجد ليست له ولاية مع وجود الأب، فإذا وجد الأب فالولاية للأب، وكذلك يجوز للوصي والقيم، فللحاكم أن يعين إنساناً قيِّماً على الصبي الصغير، أو الوصي الذي أوصى إليه أبوه قبل أن يموت فقال: يا فلان، أنت وصيي على هذا الصبي، افعل به كذا وكذا، فالوصي والقيِّم يجوز لهما أن يعقدا الإحرام عن الصبي. أما الأم والإخوة والأعمام وسائر العصبات فليس لهم ذلك إذا لم يكن لهم وصية، فالأم إذا أوصى الأب إليها، أو أذن الحاكم لها في ذلك، إذ إنَّ الأم هي المتصرفة في مال الصبي وهي أشفق من يقوم بذلك على هذا الصبي، فإذا أذن لها الحاكم في التصرفات المالية على الصبي فلها ذلك، وليس هذا لكونها أمه، ولكن لكونها وصية. إذاً: الأم عندها رحمة وشفقة، لكن الولاية المالية للولي الذي هو الأب أصلاً، والأم يكون لها ذلك إذا كان بإذن الحاكم، فيكون للأم الولاية أو جعلها وصية على مال الصبي أو قيمة. والأم والإخوة والأعمام وسائر العصبات ليس لهم ذلك إذا لم يكن لهم وصية أو إذن من الحاكم في ولاية المال، فإن أحرمت أمه عنه، فالراجح: أنه يصح والمفترض على هذه المقدمة أنه لا يصح، ولكن كيف نقول لا يصح والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (له حج ولك أجر)؟ فعلى ذلك فإن الأم التي رفعت صبيها للنبي صلى الله عليه وسلم وسألت: (ألهذا حج؟ قال: له حج ولك أجر) دلَّ على أنها مأجورة على ذلك، فإذا كانت هذه حجت للصبي من مالها، فله حج ولها أجر على ذلك، وإن كانت حجَّت للصبي من ماله، وكانت هي القيمة على ماله أو الوصية عليه، فكذلك له أجر على ذلك ولها أجر.

صفة إحرام الولي عن الصبي

صفة إحرام الولي عن الصبي الإحرام بمعنى: عقد النية، والنية في القلب، ويصير الصبي محرماً بمجرد أن ينوي الولي، كما أنك تحرم عن نفسك بالنية ثم تقول: لبيك حجاً ولبيك عمرة، فالولي يقول: عقدت الإحرام لفلان أو لا يقول ولكن نوى في قلبه أنه الآن صار فلان هذا محرماً، كما إذا عقد له النكاح فيصير متزوجاً بذلك. وإذا صار الصبي محرماً بإحرامه أو إحرام وليه عنه فعل بنفسه ما قدر عليه، وفعل عنه وليه ما لا يقدر عليه الصبي، فيغسله الولي عند إرادته الإحرام -وهذا كما يصنع الكبير بنفسه كذلك يصنع مع الصغير- فيغسله عند إرادة الإحرام ويجرده من المخيط ويلبسه الإزار والرداء والنعلين، وإن تأتى منه المشي يطيبه وينظفه، هذا قبل أن يحرم عنه ثم يحرم الصبي أو يحرم عنه الولي. ويجب على الولي أن يجنبه ما يجتنبه الرجل الكبير، فَيحرم عليه أن يضع الطيب، أو يقص أظفاره أو يقص شعره، كذلك يمنع الولي الصبي من ذلك.

صفة حج الصبي أو حج الولي عنه

صفة حج الصبي أو حج الولي عنه فإن قدر الصبي على الطواف بنفسه علمه فطاف، أو أخذه بيده وطاف معه إن لم يكن يقدر، فيحمله ويطوف به أو يُركِبه ويطوف به، فإن كان غير مميز صلى الولي عنه ركعتي الطواف، أي: إذا كان صبياً صغيراً لا يعقل ذلك فبعد ما حمله وطاف به بالبيت فالولي سيصلي ركعتي الطواف عن هذا الصبي، وإن كان مميزاً أمره الولي فصلاهما بنفسه، وإذا كان الصبي عمره ثمان أو تسع سنوات فعلى الولي أن يأمره أن يصلي ركعتين عند المقام. ويشترط إحضار الصبي إلى عرفات سواء المميز وغيره، ولا يكفي حضور الولي عنه، فالحج عبادة بدنية ومالية، إذْ لا بد من حضور الأبدان في المواقف، فهنا الولي أحرم عن الصبي للعذر، لكن لا يصح أن يقف عنه بعرفة فلابد أن يحضر الصبي معه في عرفة. كذا يحضره إلى مزدلفة والمشعر الحرام ومنى وسائر المواقف؛ لأن كل ذلك يمكن فعله من الصبي، ويجمع الولي في إحضاره عرفات بين الليل والنهار، مثلما أن الكبير يلزمه أن يقف في عرفات حتى تغرب الشمس، كذلك لا بد أن يقف بالصبي الصغير أو يوقفه حتى تغرب الشمس، فإن ترك الجمع بين الليل والنهار أو ترك مبيت المزدلفة، أو مبيت ليالي منى وجب الدم في مال الولي؛ لأن الولي هو الذي قصر في ذلك، وهي شاة عن ترك واجب من الواجبات في مال الولي؛ لأن التقصير منه، فإن قدر الطفل على الرمي أمره به وإلا رمى الوليُّ عنه. ويستحب إن استطاع أن يضع الحصاة في يد الطفل فيرمي الطفل الجمرات، وذلك إذا لم يكن هناك زحام ويقدر على ذلك، فيحمل الوليُّ الطفل ويجعله يرمي، فإذا لم يستطع فالولي هو الذي يصنع ذلك عنه.

نفقة الصبي في سفره وفي الحج

نفقة الصبي في سفره وفي الحج نفقة الصبي في سفره وفي الحج يحسب منها قدر نفقته في الحضر من مال الصبي، وأما الزائد بسبب السفر فمن مال الولي، هذا لو تخيلنا أن هذا الصبي له مال، وقد يكون الصبي وارثاً من أبيه مالاً كثيراً، لكن هل لكونه وارثاً مالاً يأخذه الولي ويحج به حجاً يكلفه مالاً كثيراً فتكون النفقات باهظة على الصبي؟ يقول الفقهاء: لا يجوز التلاعب بمال الصبي، فأنت ستحججه لكونه له مال، فحج الصبي يكون على قدر النفقات المطلوبة منه، وإذا زدت عن النفقات المطلوبة منه، فتدفع أنت من عندك هذه الزيادة، فالزيادة إذا تعمد الولي أن ينفق مالاً كثيراً فيكون من ماله هو، ولكن على قدر الحج وقدر المناسك وقدر النفقة التي كانت في الحضر ينفق عليه من ماله في هذا المكان، والزائد بسبب السفر من مال الولي. ولو أحرم الصبي بغير إذن الولي جاز للولي أن يحلله كما قدمنا، فلو فرضنا أن الصبي يعيش في مكة مع أبيه، وعمره عشر سنوات، وقال: لبيك حجاً في موسم الحج وأراد أن يحج، ورفض أبوه ومنعه من ذلك، فله أن يحلله حتى بعد ما أحرم، طالما أن إحرامه بغير إذن وليه.

حكم ارتكاب الصبي محظورا من محظورات الإحرام

حكم ارتكاب الصبي محظوراً من محظورات الإحرام إذا ارتكب الصبي محظوراً من محظورات الإحرام فالمحظور على الكبير محظور على الصغير، ولكنه مرفوع عن الصغير قلم الإثم، وهنا الخطاب مع الصغير، وخطاب التكليف ليس موجوداً مع الصغير حتى نقول له: عليك الإثم في كذا، ولكن خطاب الوضع موجود، بحيث إنه لو أتلف شيئاً فعليه في هذا الإتلاف ما يكون من جزاء، فلو أن الصبي قتل صيداً في إحرامه أو في الحرم فجزاء الصيد موجود، وهنا خطاب الوضع أنه مكلف بذلك: إذا فعل كذا يلزم فيه كذا. وإن كان الإثم مرفوعاً عن الكبير -فإن محظورات الإحرام فيها ما يختلف عمده وسهوه كاللباس والطيب- فالصغير من باب أولى، فإذا لبس الكبير القميص أو العمامة أو البرنس وهو ناسٍ فلا شيء عليه، والصبي الصغير كذلك لا شيء عليه في ذلك. وإذا تعمد الكبير فعليه دم، وإذا تعمد الصغير فقد قدمنا في الكلام عن العمرة أن العلماء اختلفوا في ذلك، فذهب الإمام الشافعي إلى أنه يلزمه الدم في ذلك، على خلاف بين الشافعية في ذلك. وذهب الإمام أحمد والأحناف إلى أنه لا يلزم الصبي شيء، والأحوط في ذلك: أنه إذا كان الصبي مميزاً يعقل ذلك ويفهم وفعل شيئاً من هذه المحظورات فعليه دم، هذا الأحوط وليس الواجب. ونقول: الأحوط؛ لأن الصبي لو صلى صلاة الظهر مثلاً بغير وضوء لأمرناه أن يعيد الصلاة، لأن هذه عبادة من العبادات، وهو صلاها بغير شروطها، أو فعل فيها ما يبطلها فأمرناه بالإعادة، والحج عبادة أيضاً، فإذا فعل فيها شيئاً ينقصها فيلزم في ذلك الدم على الأحوط في ذلك. إذاً: ما يختلف عمده وسهوه في اللباس والطيب قيل: لا فدية فيه على الصبي؛ لأن عمده خطأ، وقيل: عليه الفدية هو الأحوط. وما لا يختلف عمده وسهوه كالصيد وحلق الشعر وتقليم الأظفار فعليه فيه الفدية، وهذا هو ما فيه استهلاك الشيء وإتلافه، لأنه صاد صيداً فأهلك هذا الصيد، أما حلق الشعر فعليه فيه الفدية على الاحتياط في ذلك، لكن جزاء الصيد عليه جزاء اتفاقاً.

إذا وجبت الفدية على الصبي فهل تكون في مال الصبي أو في مال الولي؟

إذا وجبت الفدية على الصبي فهل تكون في مال الصبي أو في مال الولي؟ اختلف العلماء في الفدية إذا وجبت هل تكون في مال الصبي أو في مال الولي؟ بمعنى: لو أن الصبي عمل شيئاً فنقول للولي: كيف عمل الصبي ذلك وأنت معه؟ ولماذا لم تمنعه؟ فإذا وجدته فتركته يصنعها فمن مالك أنت، فإذا رأيته يقص شعره وأنت تشاهد ذلك فيلزمك أنت الفدية من مالك، وإذا وجدته يأخذ الطيب ويضعه وأنت تسكت عن ذلك فيلزمك الفدية في ذلك من مالك، فالأصح: أنها في مال الولي، وهذا مذهب الإمام مالك، هذا إذا أحرم بإذن الولي، وهي كالفدية الواجبة على البالغ بفعل نفسه، فإن اقتضت صوماً أو غيره فعله وأجزأه، وإذا كان الصبي مخيراً في الفدية بين أشياء منها الصوم فصام الصبي أجزأه ذلك، فإن أحرم الصبي بغير إذن الولي فالفدية في مال الصبي، فلو أن صبياً عمره اثنتا عشرة سنة وحج من غير إذن الولي كأن يكون من أهل مكة، وفي موسم الحج خرج مع الناس وحج ووقع في هذه الأشياء فتكون الفدية من ماله، إذا قتل صيداً أو نحو ذلك. وإن كانت فدية تخيير بين الصوم وغيره واختار الصبي أن يفدي بالصوم صام ويجزئه؛ لأن صوم الصبي صحيح. ولو أراد الولي في فدية التخيير أن يفدي عنه بالمال لم يجز؛ لأنه غير متعين فلا يجوز صرف المال فيه، فإذا كان في الفدية التخيير وطلب الصبي أن يصوم فقال الولي: سندفع المال؛ لم يجز ذلك، وليترك الصبي يصوم إذا كان المال غير متعين. ولو طَيَّب الولي الصبي أو ألبسه أو حلق رأسه أو قلمه فهذه الأفعال من محظورات الإحرام، فالفدية في مال الولي؛ لأنه انتهك حرمة الإحرام، وكذا لو طيبه أجنبي أو حلق له شعره وهو محرم فالفدية في مال الأجنبي الذي فعل ذلك؛ لأن الإحرام مناسك وعبادة، ولا يجوز لأحد أن يتلاعب بالمناسك والعبادة، وإن فعل الولي ذلك لحاجة الصبي ومصلحته فالفدية في مال الصبي. إذاً: الفدية في مال الولي وليست في مال الصبي إذا ألجأه الولي إلى التطيب، أو فوته الولي الحج، بمعنى: أنه بعد ما أحرم الصبي بإذن الولي وقبل أن يأخذه إلى عرفات أمره أن يخلع لباس الإحرام، ولم يتركه يكمل حجه، ومعلوم أن الحج عرفة، فلا بد من إكمال الحج، والذي انتهك هذا الإحرام لهذا الصبي هو الولي فالفدية في مال الولي. إذاً: إذا ألجأه إلى التطيب أو فوت عليه الحج بأن حبسه بعد ما أحرم ومنعه من الوقوف في عرفة، أو منعه من فعل المناسك، والحج عرفة؛ فات منه الحج، وبسبب هذا الفوات يلزمه الدم في مال من فوت عليه الحج وهو الولي. وإذا تمتع الصبي أو قرن فدم التمتع أو دم القران في مال الصبي، فإذا حج قارناً أو متمتعاً وله مال فيأخذ من ماله.

حكم الصبي إذا أفسد حجه بالجماع

حكم الصبي إذا أفسد حجه بالجماع ولو جامع الصبي في إحرامه كأن يكون عمر الصبي اثنتي عشرة سنة وليس بالغاً وفعل ذلك فسد الحج ويلزمه القضاء بعد ذلك، ولو جامع الصبي في إحرامه ناسياً فلا يفسد الحج؛ لأن الكبير لو نسي ولم يكن كاذباً لم يفسد حجه بالجماع، فإذا كان صبياً وناسياً لم يفسد، لكن لو حج وجامع عامداً يفسد الحج. ونقول: يلزم القضاء على الكبير، فهل الصبي يلزمه القضاء في ذلك؟ الراجح: أنه لا يلزمه القضاء وإنما الذي عليه حجة الإسلام بعد ذلك، ويلزمه هنا الهدي في ذلك، وهل الهديُ على الوجوب أمْ أن عليه الكفارة في ذلك؟ اختلف العلماء في ذلك، والفرق بين الصبي الذي جامع وبين من تطيب أو لبس فلزمته الفدية: أن المجامع قد فسد حجه، والآخر لم يفسد حجه فيجبر بالفدية. إذاً: الصبي الذي وقع في الجماع في أثناء المناسك هناك قول عند الشافعية: أنه يلزمه القضاء، وأصل هذا أنه واجب وعليه الكفارة في ذلك. والقول الآخر: أنه لا يلزمه ذلك، وهذا هو الذي نميل إليه، مع وجود القول الآخر بأنه أفسد الحج مثلما أفسده الكبير، وألزمناه بالفدية أيضاً فنلزمه بالفدية، لكن دليل الترجيح: أن هذا صبي صغير ولا يجب عليه الحج ابتداءً، فلو قلنا: إنه أفسد هذا الحج ويلزمه القضاء لأوجبنا عليه قضاءً وهو صبي صغير بحكم تكليفي وليس بحكم وضعي. وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا أفسد الحج بالجماع فعليه أن يمضي في هذا الفاسد، وعليه أنه يقضي كالكبير، وعليه أيضاً الفدية، وقد قلنا: إن الأرجح: أن الصبي الصغير غير مكلف الآن، والأفضل أن يمضي في هذا الحج الفاسد الذي أفسده بالجماع، وبالنسبة للكفارة فرق العلماء بين من تطيب فعليه الفدية، وبين من جامع، وقالوا: ليس عليه فدية؛ لأنه فسد الحج، ولم نلزمه بقضاء لكونه صغيراً والصغير لا يجب عليه ذلك. وهل عليه هدي في ذلك أو فدية؟ قالوا: لا نلزمه بهدي ولا فدية، فإذا قلنا: لماذا ألزمتموه بالفدية إذا وضع الطيب أو لبس الثياب ولم تلزموه هنا؟ قالوا: الذي لبس الثياب أو وضع الطيب حجه صحيح فأردنا جبر حجه ليكتمل أجره فيه. أما هذا فحجه فاسد ولا إثم عليه فبأي ذنب نلزمه بالفدية؟ فيكفيه ما تكلفه، وليس له أجر في هذا الذي فعل، فليس له شيء فيه، والذي نميل إليه هنا أن حجه فسد بذلك، ولا يلزمه المضي فيه ولا الكفارة على قول من أقوال أهل العلم، وفرق بينه وبين من ألزمناه بالهدي أو بالفدية لكون هذا يجبر الخلل في حجه، فيصح منه الحج، ويكون كاملاً بهذا الذي جبره، أما هذا فقد فسد منه فلا نلزمه بقضاء؛ لأن الصبي لا وجوب عليه أصلاً فلا يلزم بالقضاء ولا بالكفارة، إذ كيف نقول له: أكمل وهو قد أفسده، لكن الذي يلزمه ذلك هو الكبير في هذه المسألة مع وجود الخلاف بين العلماء في ذلك، وقد فصلنا خلاف العلماء في ذلك. إذا نوى الولي أن يعقد الإحرام للصبي فمر به على الميقات ولم يعقد ثم عقده بعد ذلك وجبت الفدية في مال الولي خاصة، فإذا أراد أن يحرم عن الصبي فأخذه من أجل أن يحج به، ولما جاء به إلى الميقات قال: لن أحرم عنه الآن ومر به على الميقات وتجاوزه وهو غير محرم، وهو ناوٍ أن يحج بهذا الصبي، فمجاوزة الميقات وهو غير محرم الإثم فيها على الولي، إذاً: الفدية في مال الولي.

حكم المجنون كحكم الصبي في الحج عنه

حكم المجنون كحكم الصبي في الحج عنه وحكم المجنون حكم الصبي الذي لا يميز في جميع ما سبق، ولو خرج الولي بمن قد جن بعد استقرار فرض الحج عليه، وأنفق على المجنون من ماله، فإن لم يفق حتى فات الوقوف غرم الولي زيادة نفقة السفر. ومن استقر عليه الحج وكان عاقلاً وبدأ فيه شيءٌ من الجنون، فخرج الولي به وقد استقر عليه حج -أي: عاد إليه عقله- وجب عليه الحج. والإنفاق على المجنون في خلال هذه الفترة يكون من مال الولي، فإن لم يفق حتى فات الوقوف يغرم الولي نفقة السفر أيضاً، كما يغرم النفقة كلها. وإذا أفاق وأحرم وحج فلا غرم، فإذا كان هذا عاقلاً وجب عليه الحج ثم جن وأخذه الولي ليحج به وأنفق الولي في خلال ذلك، فإذا أفاق أخذ الوليُّ ماله من هذا الذي صار عاقلاً الآن، وإذا لم يفق فالولي هو الذي سيغرم المال؛ لأنه وقت خروجه به كان مجنوناً. ويشترط لاحتسابه عن حجة الإسلام إفاقته عند الأركان: الإحرام، والوقوف، والطواف، والسعي، والمغمى عليه لا يصح إحرام وليه عنه ولا رفيقه عنه؛ لأنه غير زائل العقل ويرجى برؤه عن قرب، فإذا أغمي عليه فلينتظر ولا يتجاوز به الميقات حتى يفيق، والعادة في المغمى عليه أنه يغمى عليه ساعة أو ساعتين أو يوماً ثم بعد ذلك يفيق، فعلى ذلك لا يحرم عنه أحد، وينتظرونه حتى يفيق.

حكم حج العبد

حكم حج العبد أجمعت الأمة على أن العبد لا يلزمه الحج؛ لأن منافعه مستحقة لسيده، فليس هو مستطيعاً بإجماع، فلا يلزمه الحج ولا يجب عليه، لكن إن أذن له سيده صح منه، وليست حجة الإسلام، ولكنْ تغني عن حجه في وقته. وإن أحرم العبد بإذن السيد لم يكن للسيد تحليله، سواء بقي نسكه صحيحاً أو أفسده.

أحوال الصبي والعبد إذا حجا وبلغ الصبي وأعتق العبد

أحوال الصبي والعبد إذا حجا وبلغ الصبي وأعتق العبد فإن أحرم الصبي بالحج ثم بلغ أو العبد ثم أعتق فلهما أربعة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون البلوغ والعتق بعد فراغ الحج، كصبي صغير عمره ثلاث عشرة سنة، فلما حج وانتهى من المناسك بلغ، فهذه الحجة لا تجزئ عن حجة الإسلام. كذلك إذا حج العبد وبعد ما انتهى من الحج أعتقه سيده فلا يجزئ عن حجة الإسلام وإنما هو تطوع، ويلزمه إن استطاع بعد ذلك حجة الإسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى). الحالة الثانية: أن يكون البلوغ والعتق قبل الفراغ من الحج، لكنه بعد خروج وقت الوقوف بعرفات، أي: خرج وقت الوقوف بعرفات بمضي ليلة العيد حتى طلع الفجر في يوم العيد، فليس هناك وقوف بعرفة، فلو أن هذا الإنسان كان عبداً ووقف بعرفات حتى غربت الشمس وذهب إلى المزدلفة قبل الفجر فقال له سيده: أنت حر فصار حراً، فعليه أن يلحق ويذهب إلى عرفات فيقف بعرفات حتى تكون له هذه حجة الإسلام. وكذلك إن كان الصبي خرج من عرفات ووصل إلى المزدلفة ثم نام فاحتلم بالليل وصار بالغاً، فإنه يرجع إلى عرفة ليقف فإن وقف يجزئ ذلك عن حجة الإسلام، لكن إذا لم يقف بعرفة حين بلغ أو أعتق فلا تجزئ هذه الحجة عن حجة الإسلام؛ لأنهما لم يدركا وقت العبادة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة). الحالة الثالثة: أن يكون بلوغ الصبي أو عتق العبد قبل الوقوف بعرفات أو حال الوقوف، فتصح وتجزئ عن حجة الإسلام. الحالة الرابعة: أن يكون بعد الوقوف بعرفات وقبل خروج وقت الوقوف، فإذا رجع إلى عرفة صحت منه الحجة، ولو فرضنا أنه بلغ وهو في مزدلفة قبل الفجر فرجع إلى عرفة ووقف ولو لحظة من الليل قبل طلوع الفجر صحت منه الحجة، وكذلك العبد الذي أعتق لو رجع إلى عرفة قبل طلوع الفجر صح منه الحج. ولو لم يعد هذا ولا ذاك إلى عرفة حتى طلع الفجر لم يجزئ عن حجة الإسلام وكان تطوعاً، فإذا أجزأه عن حجة الإسلام فالذي سنقوله عن الصبي الذي بلغ سنقوله عن العبد الذي أعتق. ولو فرضنا أن هذا العبد الذي قد أعتق كان حجه مفرداً، وهو في حال رقه قدم فطاف طواف القدوم بالبيت، وسعى بعدها سعي الحج، ثمَّ وقف بعرفة وهو عبد، ثمَّ توجه إلى مزدلفة بالليل فأعتق ورجع إلى عرفات ووقف بها، فالسعي الذي سعاه قبل ذلك كان عن حجة التطوع، ويلزمه الآن سعي الركن الذي هو عن حجة الإسلام. إذاً: لا بد أن يسعى الآن، يطوف طواف الركن ويسعى بعده مرةً أخرى؛ لأن السعي الماضي لا يجزئ عن حجة الإسلام. إذاً: لا بد من السعي؛ لأنه ركن قد وقع في حال النقص فوجب إعادته، بخلاف الإحرام فإنه مستدام، فلا نقول له: رجع وأحرم من الميقات مرةً ثانية؛ لأن وقت الميقات قد مضى، لكن السعي ما زال الوقت باقياً، والإحرام مستدام، أي: في كل وقت هو محرم، ولا يلزمه في ذلك دم لا إساءة ولا تقصير. والطواف في العمرة مثل الوقوف في الحج؛ إذ إن الطواف في العمرة ركن من الأركان كالوقوف في الحج، والطواف متفق على أنه ركن في العمرة، لكن السعي مختلف فيه هل هو ركن من أركان العمرة، أم هو واجب من واجباتها، أم هو سنة فيها؟ فلو أنه طاف بالبيت فأعتق قبل الطواف أو بلغ الصبي قبل الطواف صارت العمرة الواجبة عليه. وإذا أعتق بعد ما طاف بالبيت، فهذا ركن من أركان العمرة، فالطواف في العمرة كالوقوف في الحج، فإذا بلغ أو أعتق قبله أجزأته عن عمرة الإسلام، وكذا لو بلغ أو أعتق في أثناء طوافه بالبيت، وإذا كان بعده فلا.

حكم حج السفيه

حكم حج السفيه من حجر عليه لسفه وقد وجب عليه الحج فليس للولي أن يدفع المال إليه؛ بل يصحبه وينفق عليه بالمعروف. والسفيه هو الذي لا يتصرف في المال إلا بسفه فيضيع المال، فهذا هو المحجور عليه، يحجر عليه لحظ نفسه؛ لأنه سفيه يخشى عليه أن يضيع ماله، فإذا وجب عليه الحج فلابد أن يكون الولي معه، ولا يعطيه المال، وإنما الولي هو الذي ينفق عليه؛ لأنه محجور عليه لسفهه لحظ نفسه. إذاً: يصحبه الولي وينفق عليه، أو ينصب قيماً ينفق عليه من ماله. فلو شرع في حج تطوع بعد الحجر فللولي تحليله إن كان يحتاج إلى مؤنة تزيد على نفقته المعهودة، أي: سفيه حجر عليه الحاكم لكونه سفيهاً يبذر في المال ويضيعه ولا يعرف كيف يصرفه، فإذا حج حجة الفريضة، ثم بعد ذلك بسبب سفهه أراد أن يحج حج التطوع فللولي أن يمنعه من ذلك، أي: للذي قام أو أقيم عليه أن يمنعه من ذلك، فلو لم تزد هذه عن نفقته المعهودة، ولم يكن لهذا الإنسان كسب يفي، أو كان له كسب يفي مع قدر النفقة المعهودة والمؤنة في السفر وجب إتمامه ولم يكن له تحليله. إذاً: هناك فرق بين أن يحج السفيه حج الفريضه ومعه مال ومعه الولي أو القيِّم، وبين أن يحج حج نافلة ومن الممكن أن ماله يسع ذلك ويزيد، ولكن الولي له أن يمنعه من ذلك إذا وجده سفيهاً سيضيع المال والمال لا يكفي، وإذا كان المال سيكفي فيقيم معه من يكون رقيباً على هذا المال وينفق عليه. إذاً: لو شرع السفيه في حجة تطوع بعد الحجر فللولي تحليله إن كان يحتاج إلى مؤنة تزيد على نفقته المعهودة، ولم يكن له كسب، فإن لم تكن هذه المؤنة تزيد على نفقته المعهودة أو كان له كسب يكسب ماله فعلى ذلك لا يحلله الولي أو القيم عليه، ولكن يجعل معه من يقوم بالإنفاق عليه ويحرص حتى لا يضيع منه المال.

حكم حج الأغلف

حكم حج الأغلف يصح حج الأغلف وهو الذي لم يختن، كأن كان نصرانياً أو وثنياً وأسلم ولم يكن قد ختن، وأراد أن يحج فنقول: يصح منه الحج حتى لو كان على هذه الحالة.

حكم من حج بمال حرام أو ركب للحج دابة مغصوبة

حكم من حج بمال حرام أو ركب للحج دابة مغصوبة من حج بمال حرام أو راكباً دابة مغصوبة أثم وصح حجه وأجزأه، فلو أن إنساناً معه مال وأراد الحج، ولما ذهب للحج فعل شيئاً من المحرمات كأن ركب الباخرة وأخذ تأشيرة مزورة وسافر بها للحج أو نحو ذلك، فهناك فرق بين من ارتكب الإثم وبين من يصح منه العمل، فالحج صحيح ومعناه صحيح وسقط عنه وجوب الإعادة أو القضاء. إذاً: العمل أجزأ، أما أنه مقبول فالعلم عند الله سبحانه. إذاً: من حج بمال حرام أو راكباً دابةً مغصوبة أثمَ وصح الحج وأجزأ، فلا نقول له: حُجَّ ثانية، وقبوله هذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شروط وجوب الحج [2]

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - شروط وجوب الحج [2] الاستطاعة شرط من شروط الحج، ولا تتحقق الاستطاعة إلا بوجود الزاد والراحلة، ووجود نفقة الأهل والعيال، ومن له أو عليه دين فله أحكام خاصة، ومن شروط الاستطاعة وجود المسكن، ويجوز للحاج أن يزاول التجارة، ولا يجوز له الحج ببيع بضاعة يتكسب بها، ولا بد للحاج أن يكون بدنه صحيحاً، آمناً في الطريق على نفسه وماله، ولا يجوز سفر المرأة للحج والعمرة بدون محرم، فإن لم يوجد المحرم لم تعد مستطيعة، وللحج عن المعضوب والميت أحكام مبسوطة في موضعها.

الاستطاعة في الحج وأنواعها

الاستطاعة في الحج وأنواعها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. تكلمنا في الحديث السابق عن بعض شروط وجوب الحج، فمن الشروط التي ذكرها أهل العلم: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة. وهذه الشروط اتفقوا عليها، فلا يجب الحج على إنسان إلا أن يكون مسلماً، عاقلاً، بالغاً، حراً، مستطيعاً، ووقفنا عند الشرط الخامس: وهو الاستطاعة، وذكرنا شرطين آخرين اختلف فيهما العلماء وهما السادس والسابع: أمان الطريق، وإمكان المسير. فالاستطاعة شرط لوجوب الحج بإجماع المسلمين، فقد أجمع المسلمون على أن الاستطاعة شرط حتى يجب على الإنسان الحج، ودليله من القرآن: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، فهذا الشرط متفق عليه وأجمع العلماء عليه؛ لأن الله سبحانه قيد الحج به. الاستطاعة نوعان: استطاعة بالنفس، واستطاعة بالغير، والمستطيع بنفسه هو الذي يخرج ليحج بنفسه، وفيه شروط سنذكرها. وأما الاستطاعة بالغير فهو الذي لا يقدر على الحج لأنه معذور، كأن يكون مريضاً مرضاً مزمناً لا يقدر على الحج معه ولا على الركوب، لكن قد يجد من يستنيبه ليحج عنه، وهذه هي الاستطاعة بالغير.

الاستطاعة بالنفس وشروطها

الاستطاعة بالنفس وشروطها إذا كان المسلم مستطيعاً أن يحج بنفسه فلابد من توافر خمسة شروط:

صحة البدن شرط من شروط الاستطاعة بالنفس

صحة البدن شرط من شروط الاستطاعة بالنفس الشرط الأول: أن يكون بدنه صحيحاً بحيث يقدر على الركوب والنزول بغير مشقة شديدة، فإن وجد مشقة شديدة كالمشلول أو أقطع الرجلين الذي لا يقدر على الحركة إلا بمساعدة غيره ولا يجد من يعينه على ذلك فليس هذا مستطيعاً.

وجود الزاد والماء من شروط الاستطاعة بالنفس

وجود الزاد والماء من شروط الاستطاعة بالنفس الشرط الثاني: وجود الزاد والماء في المواضع التي جرت العادة بوجوده فيها. ويشترط في وجود الزاد والماء أن يكون بثمن المثل، فإذا كان سينزل في مكان أثناء الطريق وسيمكث فيه فترة طويلة، والماء في هذا المكان صعب وجوده، أو يوجد ولكن يبيعونه بثمن غال جداً لا يقدر على مثله، فالحج لا يجب عليه؛ لأنه غير مستطيع. وثمن المثل المعين في الماء والزاد هو القدر اللائق المناسب في ذلك الزمان والمكان، فإن وجدهما بثمن المثل لزمه تحصيلهما والحج، سواء كانت الأسعار غالية أو رخيصة، طالما أنه قادر على ذلك في هذا المكان وفي هذا الزمان. وإذا كان لا يجد ما يصرفه في الزاد والماء لكنه كسوب يكتسب ما يكفيه من نفقة، فالراجح أنه لا يلزمه الحج تعويلاً على الكسب. ولو فرضنا أنه وجد ثمن التذكرة التي سيسافر بها للحج، ووجد التأشيرة، ولكنه سينزل في مكان ما وليس لديه عمل يعمله، وفرضنا أنه كسوب في بلده، يستطيع أن ينزل في مكان ويعمل، ولكن ما يدرينا هل سيعمل هناك ليكسب مالاً ويأتي بما يقدر عليه أم أنه لا يعمل؟ فإذا كان على هذه الحال فإنه يدخل في كونه ليس مستطيعاً.

وجود الراحلة شرط من شروط الاستطاعة بالنفس

وجود الراحلة شرط من شروط الاستطاعة بالنفس الشرط الثالث: وجود الراحلة، فإن كان بينه وبين مكة مسافة تحتاج إلى ركوب لم يلزمه الحج إلا إذا وجد الراحلة التي يركب عليها؛ ليكون مستطيعاً بنفسه، فإن لم يجد ذلك أو وجده بأكثر من ثمن المثل فلا يلزمه الحج؛ لأنه لا يجد الشيء الذي يركبه كالسيارة أو الطائرة أو الباخرة، ولكن إذا وجده بثمن المثل فالحج عليه واجب ويلزمه مع باقي الشروط، أو كان يجد هذا الشيء ولكن ليس معه ثمنه، أو كان الثمن مرتفعاً جداً بحيث لا يقدر على مثله فهذا ليس مستطيعاً الآن، فإذا كان عاجزاً عن الثمن لم يلزمه الحج، سواء قدر على المشي وهو معتاد على ذلك أم لا. أما الناذر فيستحب له الحج، ولا يجب عليه؛ لأنه لا يجد ما يصل به إلى هناك، وأما في الماضي فقد كان الإنسان يستطيع أن يمشي مسافات طويلة، أما الآن فيصعب على الإنسان أن يمشي من بلد إلى بلد، بل مستحيل أنه يمشي من بلد إلى بلد إلا إذا كان رحالة ولديه إذن خاص بالخروج من بلد إلى بلد على قدميه، أما الآن فالسفر من بلد إلى بلد لابد له من وسيلة حتى يسمح له بالخروج، وقد كنا من قبل نلزمه ونقول له: أنت قادر، وأنت قوي، وتستطيع أن تمشي من مصر إلى هناك على رجليك إذا لم يكن هناك مشقة شديدة، أما إذا كان في سفره مشقة شديدة جداً فلا تأمر الشريعة بذلك حتى يكون واجباً عليه، لكن إن فعل ذلك فالحج صحيح، والراجح أننا لا نقول له: أنت شاب ومتعود وقادر على المشي فلابد أن تمشي من مصر إلى هناك؛ لوجود المشقة الشديدة، فلا يلزمه ذلك.

حكم حج من عليه دين

حكم حج من عليه دين أما من وجد ما يشتري به الزاد والراحلة وهو محتاج إليه لدين عليه لم يلزمه الحج، سواء كان الدين حالاً أو مؤجلاً، بمعنى: أنه لا يجوز له أن يدفع تذكرة الطائرة أو الباخرة أو السيارة التي سيسافر بها؛ لأن عليه ديناً، ويلزمه أن يسدد هذا الدين إذا حل وقت الدين، وأما إذا كان الدين مؤجلاً، ولكن صاحبه يطلبه منه، فمثلاً: أنت عليك عشرون ألف جنيه ديناً، ومعك الآن عشرة آلاف جنيه قد تستطيع أن تحج بها، ولكن صاحب الدين قد يطلب منك هذا المال في أي وقت، فهل يجب عليه الحج؟ الراجح: أنه لا يجب عليه، لكن إن كان الدين مؤجلاً واستأذن من صاحب الدين وأذن له جاز له أن يحج، وأما إذا كان الدين حالاً لم يلزمه أن يحج، ولصاحب الدين أن يمنعه من الحج حتى يأخذ منه ماله؛ لأنه سيصرف ما معه في الحج ولن يجد ما يقضي به الدين؛ ولأن حق الآدمي المعين أولى بالتقديم لتأكده، والله تعالى لم يوجب عليه الحج إلا مع الاستطاعة، وإذا رضي صاحب الدين بتأخيره إلى ما بعد الحج لم يلزمه، أي: لم يجب عليه الحج، فلو فرضنا أن عليه ديناً ومعه مال، والمال يكفي، فإما أن يسدد دينه وإما أن يحج به، وصاحب الدين أذن له بالحج، فهل يصير الحج بهذا الإذن واجباً عليه؟ الراجح: أنه لا يجب عليه؛ لأن الأولى أن يسدد دينه بهذا المال، ولأنه قد يحج وقد يموت فلا يجد صاحب الدين من يقضي له دينه.

حكم حج من له دين

حكم حج من له دين أما من كان له دين عند الناس وجاء وقت الحج، فإما أن يكون في حكم الواجد لهذا المال، بحيث: لو طلب هذا المال فإنه سيحصل عليه، وإما أن يكون في حكم المعدوم، بحيث لو طلبه فإنه لا يحصل عليه، فإن كان يمكن تحصيله في الحال بأن كان الدين حالاً على غني مقر قادر على الوفاء وليس مماطلاً، فيلزم هذا الرجل أن يطلب ماله ممن عليه الدين؛ لأنه يريد الحج، فكأن المال حاصل في يده الآن، وإن لم يمكنه تحصيله بأن كان مؤجلاً أو حالاً، ولكن لا يمكنه التقاضي أو طلب الدين بسبب أن سداد الدين لم يأت وقته بعد، كأن أقرضه قبل شهر لمدة سنة، فهذا لا يلزمه الحج؛ لأنه غير مستطيع، أو حل وقت سداد الدين ولكنه على معسر فمن أين يدفع هذا المعسر؟! أو كان الدين على جاحد وصاحب الدين ليس له من يشهد له، وليس عنده بينة، فلا يجب الحج في هذه الصور التي ذكرناها؛ لأن الجاحد في حكم العدم، فهو لن يدفع إلا إذا أتى ببينة، وإن أتى ببينة ففي وقت ما يقاضيه ويرجع إليه المال قد يفوته وقت الحج؛ لأن الجاحد قد يكون معسراً، فلا نلزمه بأن يستدين ليحج وإن كان له مال عند غيره؛ لأنه لا يدري هل سيأخذ هذا المال أم لا؟

وجود نفقة الأهل والعيال شرط من شروط الاستطاعة بالنفس

وجود نفقة الأهل والعيال شرط من شروط الاستطاعة بالنفس الشرط الرابع: أن يجد نفقة عياله وأهله ومن تلزمه نفقته، فحتى يكون مستطيعاً بنفسه لابد أن يكون صحيحاً ليس مريضاً وأن يكون قادراً على الحج من غير مشقة، وأن يقدر على الانتقال من مكان إلى مكان، ولابد أن يجد الزاد والطعام في الطريق، ويجد الراحلة التي يصل عليها إلى هناك، كذلك لابد أن يجد نفقة عياله مدة ذهابه ورجوعه، فإن لم يجد النفقة على عياله خلال هذه الفترة فلا يلزمه الحج؛ لأن النفقة على الأهل مقدمة على الحج؛ لأنها واجبة عليه، فإن لم ينفق عليهم فقد ضيع أهله. وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)، وهذا الحديث رواه مسلم، ورواه أبو داود بلفظ: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) أي: كفاه إثماً أن يضيع من يلزمه أن يقيته ويعطيه قوته. وهذا الحديث في نفقة من تلزمه النفقة من طعام وشراب، وكذلك الكسوة إن كانوا محتاجين إلى الكسوة، خاصة إذا دخل الشتاء وليس عندهم كسوة فلا يصرف المال في الحج ويتركهم بلا كسوة؛ حفاظاً على صحتهم.

وجود المسكن للأهل شرط من شروط الاستطاعة بالنفس

وجود المسكن للأهل شرط من شروط الاستطاعة بالنفس الشرط الخامس: لابد من توافر المسكن لهم؛ لأن السكن من حاجات الإنسان الضرورية ولو بأجرة يدفعها. مسألة: إن احتاج إلى مسكن أو كتب علم يحتاج إليها ونحوها وليس معه ما يفضل عن ذلك، فإنه لا يلزمه بيع ذلك المسكن ولا الكتب ولا الثياب ليحج، إلا أن يكون عنده ما يفضل عن ذلك، كأن يكون عنده بيتان: بيت يعيش فيه، والبيت الآخر مقفل ليس محتاجاً له في شيء، فهذا زائد عن حاجته، ويجوز له بيعه من أجل الحج. وكذلك إنسان عنده كتب علم كثيرة يحتاج إلى بعضها وأكثرها لا يحتاج إليها، ولو باعها لصار معه نفقة للحج، فيلزم هذا الإنسان أن يفعل ذلك، لكن من كان عنده كتب علم كثيرة وهو يحتاج إليها؛ لأنه من طلبة العلم ويريد أن يصبح من العلماء، فلا يلزمه أن يبيع هذه الكتب في هذه الحالة.

حكم تقديم النكاح على الحج

حكم تقديم النكاح على الحج من كان صحيح البدن، وعنده الزاد والراحلة، وعنده نفقة الأهل الموجودين والكسوة والمسكن وغير ذلك، لكنه يريد أن يتزوج، فهو بين خيارين: إما أن يحج بالمبلغ الذي معه، وإما أن يتزوج به، فهذا الذي يريد الزواج: إما أن تتوق نفسه إلى النكاح ويخشى على نفسه العنت، وإما أنه لا يخشى على نفسه العنت، ففي هذه الصورة الثانية يلزمه أن يحج. وأما في الصورة الأولى: إذا كان يخشى على نفسه العنت فيجب عليه أن يتزوج بهذا المال، ثم بعد ذلك يحج إن وجد ما يتيسر له معه الحج. وقد ذكر الإمام النووي في هذه المسألة أنه إذا كان واجداً للنفقة التي تمكنه من الحج فإنه يكون مستطيعاً، ثم يقول: صرح خلائق من الأصحاب أنه يلزمه الحج ويستقر في ذمته، ولكن له صرف هذا المال في النكاح وهو أفضل. فكأنه يريد أن يقول: إذا كان لا غنى له عن الزواج الآن ويخاف على نفسه العنت وعنده مال، فقد وجب عليه الحج، ولكن يصرف هذا المال في النكاح، ولأن الحج قد وجب فعليه أن يجمع المال بعد ذلك ويحج. هذا قول من الأقوال، وقد عللوا لهذا القول بأن صرف المال في النكاح أفضل في هذه الحالة وإن كان ليس واجباً، ويبقى الحج في ذمته؛ لأن النكاح من الملاذ ولا يمنع وجوب الحج، لكن هذا القول فيه نظر؛ لأن هذا المال إما أن يصرفه في الحج وإما أن يصرفه في النكاح، فإن صرفه في النكاح فنقول له: أنت واجب عليك الحج؛ لكن لأنك خائف من العنت ومن الوقوع في الزنا والعياذ بالله، فقدم النكاح، فهنا أمامه واجبان: الحج واجب، والنكاح مع خوف العنت والوقوع في الزنا واجب، فإذا قلنا: اصرفه في النكاح لأنه واجب، فكيف سنقول: يجب عليه الواجب الآخر وهو الحج وهو لا يجد ما ينفق فيه؟! وينبني على هذه المسألة ما ذكره الإمام النووي عن خلائق من الشافعية: أنه إذا توفي هذا الإنسان صار الحج ديناً عليه، مع أنه ليس لديه مال الآن إذا توفي، لكن الراجح: أنه إذا أنفق هذا المال في النكاح الذي وجب عليه انتفى عنه وجوب الحج؛ لأنه صار غير مستطيع الآن، فلا يجب عليه الحج مع عدم الاستطاعة، فإن لم يخف العنت، ولم يخف الوقوع في الزنا قدم الحج؛ لأن النكاح في هذه الحالة تطوع والحج فريضة واجبة فيكون الحج هو الواجب.

حكم الحج على من عنده بضاعة يتكسب بها

حكم الحج على من عنده بضاعة يتكسب بها إذا كانت له بضاعة يتكسب بها كفايته وكفاية عياله، أو كان له عرض تجارة يحصل من غلته كل سنة كفايته وكفاية عياله وليس معه ما يحج به غير ذلك، ولا يفضل بعده شيء؛ لم يلزمه الحج؛ لئلا ينقطع ويحتاج إلى الناس. فالتاجر إن كانت له بضاعة فلا نقول له: بع البضاعة التي عندك واصرف الثمن للحج؛ لأن عياله لا يجدون ما يأكلونه ولا يجد التاجر ما ينفق به عليهم، ولابد من وجود رأس مال معه ليستمر دكانه قدر ما يكفيه وعياله فقط فلا يفرط فيه، كأن يكون له رأس مال عشرة آلاف جنيه في كل شهر، ومع تشغيلها في التجارة يحصل له ما يكفيه هو وعياله، فلو قلنا له: بع التجارة كلها وخذ رأس المال هذا وحج به لصار مفلساً لا شيء معه، ولذلك نقول: ما زاد عن ذلك بعه واذهب لتحج. وقوله: (وعرض تجارة)، يجوز أن تقول: عرَض وعرْض، لكن عرْض هي الأكثر فيها وهي بمعنى المتاع، والعرَض بمعنى العطاء وبمعنى الطمع ويأتي بمعنى المتاع أيضاً، ولذلك جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس الغنى عن كثرة العرَض) أي: بكثرة المتاع، لكن الغالب عند الفقهاء أن العرْض بمعنى: عروض التجارة.

حكم مزاولة الحاج للتجارة

حكم مزاولة الحاج للتجارة يستحب للحاج أن يكون متخلياً عن التجارة ونحوها في طريقه، فإن خرج بنية الحج والتجارة فحج واتجر صح حجه وسقط عنه فرض الحج، لكن ثوابه دون ثواب المتخلي عن التجارة، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] قال ابن عباس: في مواسم الحج. إذاً: لا حرج عليك في ذلك، وقد كان الصحابة يتحرجون في ذلك؛ ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فلما كان الإسلام فكأنهم تأثموا فيه، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] في مواسم الحج)، هكذا قرأها ابن عباس، وكأنها قراءة تفسيرية أو أن زيادة: (في مواسم الحج) قراءة شاذة. وقد رواه أبو داود عن ابن عباس وفيه: (أن الناس في أول الحج كانوا يتبايعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحج فخافوا البيع وهم حرم، فنزلت الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]). وروى أبو داود عن أبي أمامة التيمي قال: (كنت رجلاً أكري في هذا الوجه، وكان ناس يقولون لي: إنه ليس لك حج، فلقيت ابن عمر رضي الله عنهما فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إني رجل أكري في هذا الوجه -يعني: أؤجر الدواب في هذا الكراء- وإن ناساً يقولون لي: إنه ليس لك حج، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: أليس تحرم وتلبي، وتطوف بالبيت، وتفيض من عرفات، وترمي الجمار؟! قال: قلت: بلى، قال: فإن لك حجاً؛ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن مثل ما سألتني عنه، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، حتى نزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه هذه الآية، وقال: لك حج). وفي هذه الآية تتجلى رحمة الله عز وجل بعباده؛ فإن الإنسان الذي يحج يجوز له أثناء حجه أن يتاجر مع الناس ويؤدي المناسك وحجه صحيح، ولكن الذي يذهب متفرغاً للعبادة أفضل بكثير ممن يذهب للعبادة ويشتغل بالتجارة؛ لأن الانشغال بالتجارة يجعل التاجر يقصر كثيراً في أمور العبادة، في نوافلها، وفي الفرائض التي يأتي بها، وكما نرى في مواسم الحج فهناك تقصيرات وتفريطات ممن يتاجرون في الحج.

أمن الطريق شرط من شروط وجوب الحج

أمن الطريق شرط من شروط وجوب الحج نحن قلنا: هناك خمسة شروط اتفق العلماء عليها، على خلاف في بعضها، فلابد أن يكون مسلماً بالغاً حراً مستطيعاً عاقلاً، وهذه شروط لوجوب الحج، وبعضها شروط مع الإجزاء، وبعضها مع الصحة، لكن كلها شروط للوجوب. أما الشرط السادس: فهو أمن الطريق، فالإنسان الذي يريد الحج لابد أن يكون آمناً في طريقه، بحيث يخرج من بلده إلى مكة من غير أن يمنعه أحد في الطريق؛ فيشترط ألا يوجد في الطريق لصوص ولا قطاع طريق ولا أي عدو في الطريق. واتفق جمهور العلماء على أن هذا الشرط من شروط وجوب الحج، لكن في مذهب أحمد الراجح أنه يلزمه الحج، وهناك قول آخر للإمام أحمد وهو قول جمهور العلماء أنه لا يلزمه؛ لأنه غير مستطيع حقيقة. إذاً: يشترط لوجوب الحج أمن الطريق في ثلاثة أشياء: أن يكون آمناً على نفسه، وعلى ماله، وعلى عرضه، ولا يشترط الأمن الغالب في الحضر، بل الأمن في كل مكان بحسبه، فأما النفس فمن خاف عليها من سبع أو عدو كافر أو مسلم أو غير ذلك لم يلزمه الحج إن لم يجد طريقاً آمناً آخر، وكذلك المال، فلو خاف الحاج على ماله في الطريق من عدو أو غيره لم يلزمه الحج.

حكم حج المرأة التي لم تجد محرما إلا بأجرة

حكم حج المرأة التي لم تجد محرماً إلا بأجرة مسألة: إذا لم تجد المرأة محرماً يحج بها فإنه لا يلزمها الحج، ولو امتنع محرم المرأة من الخروج معها إلا بأجرة لزمها أن تعطيه، فلو أننا فرضنا أن امرأة غنية ولها محارم فقراء وهي تريد الحج فتحتاج إلى أن تأخذ معها محرماً كأخيها مثلاً أو عمها أو خالها، ووراء كل واحد منهم عائلة ونفقات، وهو يعمل للكسب يوماً بيوم، فإذا سافر معها إلى الحج ضيع أهله، وقد جاء في الحديث: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)، فإذا قال لها: لا أقدر أن أحج معك إلا أن تعطيني أجرة؛ لأن أهلي في حاجة إلى نفقة، فإذا دفعت لي أجرة خرجت معك، فإنه يلزمها ذلك؛ لأنه لا يجوز لها أن تحج حتى تأمن في الطريق ولا تضيع أهل هذا المحرم، لكن إذا كان هذا المحرم قد وجب عليه الحج، وهو قادر على ذلك، فيخرج معها وليس له أن يأخذ أجرة على ذلك. إذاً: لو امتنع محرم المرأة من الخروج معها إلا بأجرة لزمها أن تعطيه، فإما أن تكون حجة هذا المحرم التي سيحجها حج تطوع، أو أن وراءه عيالاً يحتاجون إلى نفقة وسيضيعهم بالذهاب مع المرأة للحج، فله أن يطلب أجرة.

حكم حج الأعمى ومقطوع اليدين أو الرجلين

حكم حج الأعمى ومقطوع اليدين أو الرجلين أما الأعمى ومقطوع اليدين ومقطوع الرجلين إن وجدوا زاداً وركوباً ووجدوا من يقودهم ويهديهم عند النزول ويركبهم وينزلهم، وقدروا على الركوب بلا مشقة شديدة لزمهم الحج بأنفسهم، ولم يجز لهم الاستئجار للحج عنهم، هذا إذا كان الأعمى متعوداً في البلد على أن يذهب للصلاة في المسجد ويستطيع أن يعود بدون مشقة عليه أو معه من يقوده، وكذلك في الحج إذا كان معه من يقوده ويذهب به ومعه المال، فإنه يلزمه الحج في هذه الحالة. وأما الإنسان المقطوع اليدين فإذا كان معتاداً في البلد على أنه يقضي حاجاته بنفسه، أو يجد من يذهب معه إلى الحج ولا مشقة عليه في ذلك، فإنه يلزمه الحج. وكذلك مقطوع الرجلين إذا كانت له عجلة يركب عليها، والأمر يسير عليه وهو متعود على الحركة، ويخرج إلى العمل كل يوم على عجلته، ويجد من يقوده في الحج ويذهب معه، فإنه يلزمه الحج في هذه الحالة. ولكن إذا اعترض هؤلاء المشقة الشديدة، وليسوا متعودين على هذا الشيء، كأن يكون الأعمى قعيداً في بيته لا يخرج، فإذا خرج أصابه خوف ورعب من الناس ولا يستطيع أن يمكث في مكان وحده، أو يجد مشقة شديدة في التجول أو الذهاب، فإذا وجدت المشقة الشديدة التي مثله لا يقدر عليها فهو غير مستطيع بنفسه، ففي هذه الحالة لا يلزمه أن يحج بنفسه وإنما يستأجر من يحج عنه. إذاً: هناك فرق بين إنسان قادر على الخروج وقادر على أداء المناسك، وقادر على الركوب من غير مشقة، وبين إنسان يكون عليه في ذلك مشقة شديدة لا يقدر معها على عمل المناسك.

القائد في حق الأعمى كالمحرم في حق المرأة

القائد في حق الأعمى كالمحرم في حق المرأة لو فرضنا أن الأعمى إنسان غني جداً وقائده خادم عنده ويدفع له أجرة على ذلك، فقال له: تعال لكي تحج معي، فقال له الأجير: أنا لا أقدر أن أحج معك إلا إذا أعطيتني أجرة الحج؛ لأن ورائي عيالاً سأضيعهم إذا ذهبت معك، فإذا طلب الأجرة خلال الفترة التي يحج فيها معه لكي ينفق على عياله فله ذلك، فمثله مثل المحرم مع المرأة. إذاً: هنا القائد في حق الأعمى كالمحرم في حق المرأة، فلو امتنع القائد من الخروج معه إلا بأجرة لزمه أن يعطيه إذا كان قادراً.

حكم سفر المرأة للحج والعمرة مع نسوة ثقات

حكم سفر المرأة للحج والعمرة مع نسوة ثقات لا يلزم المرأة الحج ولا العمرة إلا إذا أمنت على نفسها بزوج أو محرم، وهذا اتفاق بين العلماء، ولكن الخلاف في أنه إذا لم يكن معها محرم وحجت مع نسوة ثقات فهل لها ذلك أم لا؟ مذهب الإمام الشافعي في مسألة سفر المرأة للحج والعمرة بدون محرم أنه إذا وجدت المرأة نسوة ثقات فإنها تحج معهن إذا كانت تأمن على نفسها معهن، وهو قول في مذهب الإمام أحمد أيضاً، وهو قول الإمام مالك رحمه الله، وهذا في حجة الفريضة، أما غير الفريضة فلا يجوز لها أن تحج مع نسوة ثقات. كذلك العمرة إذا كانت فريضة عند من يوجبها من هؤلاء، فالإمام الشافعي يوجب العمرة، وكذلك الإمام أحمد، أما الإمام مالك وأبو حنيفة فإنهما لا يوجبان العمرة، فالذي يوجب العمرة يقول بجواز عمرتها مع نسوة ثقات. إذاً: لا يجوز للمرأة أن تسافر لحج التطوع أو لسفر زيارة وتجارة ونحوهما مع نسوة ثقات أو امرأة ثقة؛ لأنه ليس بسفر واجب، وإنما في السفر الواجب فقط لها أن تحج مع نسوة ثقات.

أدلة عدم جواز سفر المرأة إلا مع ذي محرم

أدلة عدم جواز سفر المرأة إلا مع ذي محرم أما الأدلة التي تدل على أن المرأة لا تسافر إلا مع محرم فمنها ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم). وفي رواية لـ مسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم). وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوماً وليلة ليس معها ذو حرمة).

استئذان المرأة لزوجها في حج الفريضة والنافلة

استئذان المرأة لزوجها في حج الفريضة والنافلة ينبغي للمرأة ألا تحرم بغير إذن زوجها إذا كان الحج نافلة، وللزوج أن يمنعها، وكذلك يلزمها أن تستأذن زوجها في حج الفريضة، لكن لا يجوز للزوج أن يمنعها طالما أنه قد وجب عليها الحج ومعها المحرم الذي يخرج بها. جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب وقال: لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافر امرأة إلا مع محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا، قال: فانطلق فحج مع امرأتك)، في هذا الحديث أنه يستحب للرجل أن يكون مع امرأته في الحج، وليس للزوج منع زوجته من حجة الإسلام كما قدمنا، فإن أرادت حج إسلام أو حج تطوع أو عمرة واستأذنت الزوج في خروجها للحج فأذن لها، وأتت بالتأشيرة ولبست إحرامها وخرجت محرمة فليس له أن يمنعها لا من حج فريضة ولا من حج تطوع، طالما أنه أذن لها وخرجت فأحرمت، ويلزمه تمكينها من إتمامه ولا يجوز له تحليلها؛ لأنه لا يجوز التحلل إلا إذا أرادت المرأة الخروج ثم توفي الزوج فيلزمها العدة، ولا يجوز لها أن تسافر، إلا إن كانت قد سافرت بالفعل، كأن تكون قد ركبت الطائرة، ويصعب عليها أن ترجع لتعتد فلها على ذلك أن تكمل سفرها.

حكم حج من يسأل الناس في طريقه للحج

حكم حج من يسأل الناس في طريقه للحج أما من عادته أن يسأل الناس الطعام والشراب في أثناء طريقه إلى الحج، فهذا لا يلزمه الحج، ولم يأمره الله عز وجل بذلك، والإنسان الذي يمد يده إلى الناس ويطلب من الناس الأموال وهو مستغن عن ذلك يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة من لحم، قد تساقط لحم وجهه من شدة حرجه وحيائه يوم القيامة من الله سبحانه وتعالى. إذاً: الاستطاعة بالنفس لها شروط وهي: أن يكون بدنه صحيحاً بحيث يقدر على الركوب، وأن يجد الزاد والراحلة، وأن يجد نفقة أهله، ويجد المسكن لهم، وليس عليه أجرة للدار، ولديه كتب علم وليس مضطراً أن يبيعها، فعلى ذلك يلزمه أن يحج.

إمكان المسير شرط من شروط وجوب الحج

إمكان المسير شرط من شروط وجوب الحج الشرط السابع لوجوب الحج: إمكان المسير، أي: أن يأمن من فوت الحج وعرفة، فإذا كان سيدرك الوقوف بعرفة فإنه يلزمه الحج مع الشروط السابقة التي ذكرناها، وإذا كان من المستحيل أن يدرك عرفة، كأن يغلق المطار أمام الحجاج ولن يصل إلى هناك إلا بعد فوات يوم عرفة، فإن إمكان المسير غير متهيئ لهذا الإنسان؛ لأنه يكون قد انتهى وقت الحج وفاته الحج. وإمكان المسير من أجل إدراك الحج معتبر بما جرت به العادة، أما لو أمكنه المسير بأن يحمل على نفسه ويسير سيراً يجاوز العادة أو يعجز عن تحصيل آلة السفر لم يلزمه السعي؛ فإمكان المسير بحسب الإنسان وبحسب المكان الذي هو فيه، فمن الناس من يكون موجوداً في المدينة، ومنهم من يكون موجوداً في مكة، ومنهم من يكون موجوداً في مصر أو في مكان بعيد، وكل واحد له وقت في وصوله. إذاً: يشترط أن يكون الطريق آمناً، وأن يكون من الممكن الوصول إلى عرفة قبل فوات الحج، وهذا عند الحنابلة من شروط لزوم السعي، أما عند الجمهور فإنها من شروط الاستطاعة، وهو الراجح؛ لأنه إن لم يتمكن من الوقوف بعرفة فاته الحج، فكيف نوجب عليه الحج وهو لم يتمكن من الوصول إلى عرفة؟!

الحج والعمرة عن المعضوب والميت

الحج والعمرة عن المعضوب والميت كلمة (المعضوب) مأخوذة من العضب، والعضب: هو الضعف الذي يكون في الإنسان، فالمعضوب: هو الضعيف الذي لا يقدر على الحج؛ لكبر سنه أو لكونه مريضاً مرضاً شديداً، أو كان المرض مرضاً مزمناً، فهو لا يستطيع الحج. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم، قال: وذلك في حجة الوداع). وهذا يعني: أن هذا لم ينسخ بشيء؛ حيث كان ذلك في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بعدما نزل قول الله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]. وعن أبي رزين العقيلي: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن؟ قال: حج عن أبيك واعتمر) فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج عن أبيه؛ لكونه ذكر أن أباه لا يقدر على الحج ولا على العمرة ولا على الظعن، أي: ركوب الراحلة.

الفرق بين الحج عن المعضوب والحج عن الميت

الفرق بين الحج عن المعضوب والحج عن الميت لا يجزئ الحج ولا العمرة عن المعضوب بغير إذنه؛ لأن هذا حي عاقل له إذنه بخلاف الميت، فإنه ليس محتاجاً لإذن، لكن الحي لابد من إذنه طالما أنه يعقل وأن إدراكه موجود، بخلاف قضاء الدين؛ لأن الحج عن الميت يعتبر ديناً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء). والحج عبادة، والعبادة تحتاج إلى نية، وقضاء الدين معاملة ولا تحتاج إلى نية، فلو فرضنا أن واحداً عليه دين وذهبت وسددت عنه ذلك الدين، فالمطلوب أن يقضى الدين، ولا يحتاج إلى نية في الأداء سواء نوى صاحبه أو لم ينو، بخلاف الحج فإنه لو لم ينوه فإنه لا يأخذ أجر هذا الحج بغير نية منه؛ فلذلك لابد للإنسان الذي يحج عن المعضوب من إذنه. والحج والعمرة عن الميت يجبان عند استقراره عليه، سواء أوصى به أو لم يوص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دين الله أحق بالقضاء) فالإنسان المتوفى إذا ترك مالاً وهو لم يحج فلابد أن يحج عنه. والذي يحج عن الميت سواء كان قريباً له وارثاً أو غير وارث أو كان أجنبياً عنه وحج عنه كل ذلك يجزئه.

حكم حج المرء عن غيره قبل أن يحج عن نفسه

حكم حج المرء عن غيره قبل أن يحج عن نفسه ولا يجوز لمن عليه حجة الإسلام أو حجة قضاء أو نذر أن يحج عن غيره، فالإنسان الذي عليه حجة الإسلام ليس له أن يكون وكيلاً أو نائباً عن إنسان آخر، فلابد أن يحج عن نفسه أولاً وبعد ذلك يحج عن هذا الآخر، كذلك من عليه عمرة الإسلام لا يعتمر عن غيره حتى يعتمر عن نفسه. روى أبو داود عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي. قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يحج عن نفسه أولاً وبعد ذلك يحج عن شبرمة. وفي لفظ للبيهقي وابن خزيمة أيضاً: (قال: فاجعل هذه عنك، ثم حج عن شبرمة). فإن أحرم المرء عن غيره ولم يحج عن نفسه وقعت عن نفسه.

حكم حج الخنثى

حكم حج الخنثى يجب الحج على الخنثى المشكل البالغ؛ لأنه إما أن يكون رجلاً أو يكون امرأة، وسواء كان رجلاً أو امرأة لزمه الحج، ويشترط في حقه من المحرم ما يشترط في المرأة، فإن كان معه نسوة من محارمه كأخواته جاز، وإن كن أجنبيات وهناك احتمال أنه رجل فيحرم عليه الخلوة بهن.

حكم حج من توافرت فيه شروط وجوب الحج وضاق عليه الوقت

حكم حج من توافرت فيه شروط وجوب الحج وضاق عليه الوقت إن وجد المسلم الزاد والراحلة وغيرهما من الشروط المعتبرة وتكاملت صار مستطيعاً بنفسه، وعلى ذلك يلزمه أن يحج، وإن بقي بعد تكامل الشروط زمن يمكن فيه الحج وجب عليه أن يحج فوراً، فإن أخره عن تلك السنة استقر في ذمته، فإن لم يبق بعد استكمال الشرائط زمن يمكن فيه الحج لم يجب عليه الحج، كما لو فرضنا أنه جاء يوم أربعة من ذي الحجة ولديه مال، وليس هناك من يعطيه تأشيرة ولا طائرة تأخذه ولا سيارة، فليس من الممكن أن يصل إلى هنالك، فإذا كان الأمر كذلك لم يجب عليه الحج الآن.

حكم حج المكي غير الواجد للراحلة مع قدرته على المشي

حكم حج المكي غير الواجد للراحلة مع قدرته على المشي أما من كان في مكة وقوي على المشي لزمه الحج، وفرق بين من هو في مكة وبين من هو في مصر وهو رحالة يمشي كثيراً، فالذي في مصر لا نقول له: سافر إلى مكة لتحج؛ لأن في ذلك مشقة عليه، والشريعة لا تلزمه بهذه المشقة لكونه متعوداً على المشي، بخلاف الذي في مكة فالأمر عليه سهل. أما إن كان ضعيفاً لا يقوى على المشي أو يناله به ضرر ظاهر فحينها تشترط الراحلة للمكي حتى يجب الحج عليه.

حكم تأدية مناسك الحج كلها مشيا على الأقدام

حكم تأدية مناسك الحج كلها مشياً على الأقدام لو أن واحداً يريد أن يحج ماشياً في مناسك الحج كلها، فيمشي من مكة إلى منى يوم التروية وهو اليوم الثامن على قدميه، ثم في صبح يوم عرفة يمشي من منى إلى عرفات، ويفيض من عرفات بعد غروب الشمس إلى مزدلفة ماشياً قرابة ثلاث ساعات، فمن كان يقدر على ذلك فله أن يصنع ذلك، لكن أيهما أكثر أجراً عند الله عز وجل، الذي يؤدي المناسك كلها ماشياً على رجليه أم الذي يؤديها راكباً؟ نقول: كل من الاثنين فيه خير وله أجر، فالذي حج ماشياً على قدميه قد أتعب بدنه فله الأجر على تعب البدن، والذي ركب السيارة قد أنفق ماله فله الأجر على نفقة المال، والذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم أنه حج راكباً، فبالركوب يتفرغ الإنسان للعبادة، وخاصة إذا كان سيركب متوجهاً إلى البيت ليطوف به، فإذا أتعب نفسه في الطريق ماشياً على رجليه ووصل إلى البيت وجد الطواف مزدحماً فيكون صعباً جداً عليه أن يطوف، وإذا أراد أن يسعى بين الصفا والمروة يجد نفسه غير قادر على السعي بين الصفا والمروة، وإذا استطاع ووقف على الصفا لم تبق عنده طاقة لأنه يقف ويدعو ويطيل في الدعاء؛ لأن المجهود البدني الذي بذله أثر على العبادة التي يتعبد بها لله سبحانه وتعالى. إذاً: فكلا الأمرين جائز، وإن كان الأفضل أن يستريح حتى يؤدي المناسك والأدعية في محلها على أفضل ما يكون، والذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا أنه حج راكباً، وهذا أعون على المناسك والدعاء وسائر العبادات.

شروط وجوب الحج على المطاع (المعضوب والمريض)

شروط وجوب الحج على المطاع (المعضوب والمريض) إنما يصير الحج واجباً على المطاع وهو المعضوب أو المريض مرضاً مزمناً بأربعة شروط: الأول: أن يكون المطيع ممن يصح منه فرض حجة الإسلام، وذلك بأن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً حراً. الثاني: أن يكون المطيع قد حج عن نفسه حجة الإسلام، فإن لم يكن قد حج عن نفسه تنقلب هذه إليه، وأن يكون ليس عليه حجة واجبة عن قضاء أو نذر. الثالث: أن يكون موثوقاً بوفائه وطاعته؛ لأنه يمكن أن يقول لفلان: أتحج عني؟ فيقول: نعم أحج عنك، فيأخذ المال ويهرب ولا يحج عنه. الرابع: ألا يكون معضوباً، فإذا كان الإنسان الذي يريد أن يحج عن هذا المعضوب معضوباً آخر فهو لا يقدر على ذلك.

حكم قبول الوالد نفقة الحج من ولده والعكس

حكم قبول الوالد نفقة الحج من ولده والعكس مسألة: إن بذل الولد المال لأبيه كأن يقول لأبيه: هذا المال يا أبي فاخرج وحج، فإن كنت مريضاً أو معضوباً آتي بشخص ليحج عنك، فهل يلزم الوالد قبول ذلك؟ لا شك أن هذا خير كثير جداً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنت ومالك لأبيك)، وقال: (الولد من كسب أبيه)، ولكن الأب لعله يجد من الابن منة عليه، كأن يقول الابن: لقد حججت عن أبي، وعملت كذا عن أبي، فيلحقه بذلك شيء من الضيق والحرج، والراجح أنه إن خاف الوالد أن يمن عليه الولد في ذلك فلا يصير الحج واجباً عليه بذلك؛ لأنه مما يمن به، بخلاف خدمته بنفسه، فمن الممكن أن يقول الابن لأبيه: أنا سأخرج معك لكي أخدمك في أثناء الطريق، فهنا يلزم الأب أن يوافق؛ لأن الأب سينفق من ماله وسيخرج بنفسه ولكنه محتاج للابن أن يخدمه، بخلاف ما لو أن الابن خرج عن الأب والأب يخاف من المنة في ذلك فلا يلزمه في هذه الصورة. وكذلك لو بذل المال للمعضوب أبوه فهو كبذل الولد، فلو أن المعضوب ضعيف لا يقدر على الحج فقال له أبوه: أنا أحج عنك، فهل صارت الحجة فريضة على الابن؟ الراجح في هذه المسألة: أن الحجة لا تصير على الابن فريضة، وإن كان الأب قد فعل ذلك فهذا حسن.

حكم حج المطيع الباذل عن الغير إذا أفسد حجه

حكم حج المطيع الباذل عن الغير إذا أفسد حجه إن أفسد المطيع الباذل حجه، كأن يكون إنسان مريضاً أو معضوباً وقال له آخر: أنا سأحج عنك، فخرج ليحج عن فلان: لبيك عن أبي أو غيره، وأثناء الحج أفسد هذه الحجة بجماع أو غيره؛ فإن الحجة هذه تصير لهذا الابن الذي يحج عن أبيه؛ لأن الحجة التي تكون عن الأب هي الحجة الصحيحة، والابن بما أنه أفسد هذه الحجة فعليه أن يكمل الحجة الفاسدة، وعليه القضاء وعليه الهدي بسبب أنه جامع.

حكم الاستنابة أو الاستئجار في الحج عن الميت والمعضوب

حكم الاستنابة أو الاستئجار في الحج عن الميت والمعضوب تجوز الاستنابة عن الميت إذا كان عليه حج وله تركة، وهناك فرق بين الإجارة والاستنابة، فالفرق بين الاثنين أن الإجارة مختلف فيها كما سيأتي، فإذا قلت لشخص: حج عني وسأعطيك أجرتك على هذا الحج، فالأجير مسئول عن كل ما سيحصل في هذا الحج، فإذا مات الأجير قبل إتمام الحج وكان معه مال فيقوم غيره بإكمال الحج، على تفصيل سنذكره، أما النائب عن غيره فهو الذي يحج من غير أجرة، ولكن من الممكن أن يعطي له رزقاً في أثناء الطريق، لكن لا يأخذ أجرة على عمله لهذه المناسك. أما المعضوب فتلزمه الاستنابة، سواء طرأ العضب بعد الوجوب أو بلغ معضوباً واجداً للمال، فإذا كان عنده مال وهو معضوب فيلزمه أن يستنيب عنه أو أن يؤجر على ما سنفصل. وإذا طلب الوالد المعضوب العاجز عن الاستئجار من الولد أن يحج عنه استحب للولد إجابته إن كان قادراً، ولا تلزمه إجابته، لكن لا يجب على الوالد المعضوب أن يطلب من ولده أن يحج عنه؛ لأن الحج فيه مشقة شديدة جداً، ولأن الابن قد يرضى وقد لا يرضى، لكن كونه يطلب من ولده أن يخدمه فإنه فرض على الولد أن يخدم أباه. إذاً: إذا طلب الوالد المعضوب العاجز عن الاستئجار من الولد أن يحج عنه استحب للولد إجابته، ولا تلزمه إجابته، ولا يلزم الوالد الحج؛ لأنه ليس على الوالد في امتناع الولد من الحج ضرر، بخلاف ما إذا طلب الأب من الابن أن يعطيه طعاماً أو نفقة فإن عليه ضرراً في عدم تنفيذ ذلك، أما في الحج فإن الله يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]؛ لأن الحج حق للشريعة، فإن عجز عنه الأب فلا إثم عليه في ذلك ولا يجب عليه.

حكم حج المعضوب إذا حج عنه ثم عوفي وقدر على الحج بنفسه

حكم حج المعضوب إذا حج عنه ثم عوفي وقدر على الحج بنفسه أما لو أن المعضوب حج عنه ثم عوفي وقدر على الحج بنفسه، فهذه صورة أخرى، كأن يكون مريضاً مرضاً مزمناً لا يرجى برؤه، ومعه مال، فأتى شخص وأعطاه الأجرة فحج عنه هذا الأجير، وبعدما حج عنه شفاه الله سبحانه، فهل يلزمه الآن أن يحج عن نفسه؟ هنا قولان لأهل العلم: القول الأول: أنه يلزمه أن يحج عن نفسه. القول الثاني: لا يلزمه ذلك. فالذين قالوا: يلزمه، قالوا: قد تبين أنه ليس معضوباً، أي: بان أنه كان واهماً في أنه معضوب، فزال هذا الوهم وصار الآن قادراً. والذين قالوا: لا يلزمه -وهو القول الأقوى- قالوا: حين جعل غيره يحج عنه كان معضوباً، وكان اليقين عند نفسه أنه لا شفاء له، والأطباء قرروا أنه لا يقدر، ففعل ما وجب عليه، فإذا فعل ما وجب عليه فإما أنه أدى الفريضة المسقطة عنه هذا الواجب، وإما أن تكون غير مسقطة عنه، فلو كانت غير مسقطة لما وجب ابتداءً على أحد من المعضوبين أن يطلب من يحجج عنه؛ لاحتمال أنه إذا صار صحيحاً بعد ذلك فلا يسقط عنه، والشريعة لم تقل ذلك، فلم يبق إلا أن يقال: إنه طالما استيقن في نفسه وغلب الظن أنه لا شفاء لهذا المرض الذي هو فيه، فأحج عن نفسه ثم شفاه الله عز وجل بعد ذلك لم يلزمه شيء؛ فقد سقط عنه الفرض على الراجح من كلام أهل العلم. والعلماء الذين قالوا: إنه يلزمه هم: الشافعي والأحناف وابن المنذر، وذهب غيرهم من العلماء إلى أنه لا يلزمه، ورجحه ابن قدامة في المغني.

لو برء المعضوب قبل إحرام النائب

لو برء المعضوب قبل إحرام النائب مسألة: إن برأ المعضوب قبل إحرام النائب لم يجزئه بحال، كأن يطلب المعضوب من أحد الناس أن يحج عنه، والمعضوب قبل أن يصل النائب إلى الحج شفاه الله، فعلى المعضوب أن يحج عن نفسه بنفسه.

هل الحج واجب على الفور أم على التراخي

هل الحج واجب على الفور أم على التراخي من وجب عليه الحج وأمكنه فعله فهل الحج واجب عليه على الفور أم على التراخي؟ قولان لأهل العلم في ذلك: القول الأول: وهو قول الإمام الشافعي وغيره: أن الحج واجب على التراخي؛ وحجتهم في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه في الحديبية: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] قالوا: ففي الحديبية أوجب عليه الحج، ومع ذلك لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم إلا في العام العاشر. القول الثاني: ذهب الحنابلة والأحناف إلى أنه واجب على الفور؛ وحجتهم في ذلك: أن الحج وجب على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع، فكان اللازم أن يحج صلى الله عليه وسلم، ولكن وجد المانع من حجه صلوات الله وسلامه عليه في هذا العام؛ لأنه حتى سنة تسع كان المشركون يحجون البيت ويطوفون بالبيت وهم عراة، وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحج في وسط هؤلاء المشركين وهو يلبي بالتوحيد صلوات الله وسلامه عليه؛ ولذلك وجد المانع من أن يحج في هذا العام، فأخر الحج إلى العام الذي يليه حتى أنذر هؤلاء وأذن فيهم: (أنه لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك)، فحج بعد ذلك في العام العاشر صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: الذين قالوا بأن الحج واجب على التراخي -وهم الشافعية- احتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض عليه الحج بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] في الحديبية في سنة ست، وهذا صحيح، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية حيث ذهب ولم يطف بالبيت وكان ذلك سنة ست، واعتمر عمرة القضية في ذي القعدة من السنة التي تليها، ودخل صلى الله عليه وسلم مكة وكان قد بقي بينه وبين الحج أيام قليلة ومع ذلك لم يحج عليه الصلاة والسلام، واعتمر لما فتح مكة في العام الذي يليه فخرج إلى حنين ورجع من الجعرانة ثم اعتمر صلوات الله وسلامه عليه، وكان في ذي القعدة أيضاً، وكان بينه وبين الحج وقت قليل، ومع ذلك لم يحج عليه الصلاة والسلام، مع أن الله أمره وقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]. لكن نقول: إن هذه الآية ليس فيها الامر بابتداء الحج، فلا حجة في كل ما ذكروه، والذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم هناك لم يكن فرضاً عليه صلى الله عليه وسلم حتى هذا الوقت، إنما الفرض بعد ذلك لما كان في سنة تسع ونزل عليه قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] وكونه لم يحج في سنة تسع لأن المشركين كانوا يطوفون بالبيت ويشركون بالله، وكان العراة يطوفون بالبيت، فما كان له صلى الله عليه وسلم أن يحج مع هؤلاء، فأرسل أبا بكر يحذرهم، فلما استتب الأمر ولم يبق أحد من هؤلاء يحج في العام الذي يليه ذهب صلى الله عليه وسلم وأذن في الناس، وحج عليه الصلاة والسلام. أيضاً من الأدلة على أن الحج على الفور: ما جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أراد الحج فليتعجل)، وفي رواية: (من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحالة). فعلى ذلك فالحج ركن من أركان الإسلام مثله مثل الصيام، فقد فرض في رمضان ولا يجوز تأخيره عن رمضان، فكذلك الحج فريضة عليك فرضها الله سبحانه، وقال الجمهور وهم الأحناف والمالكية والحنابلة: إن هذا الإنسان الذي وجب عليه الحج على التراخي لو أنه توفي قبل أن يحج فإنه يأثم؛ لأنه إذا كان الحج فريضة عليه على التراخي فإنه سوف يؤجله سنة وراء سنة حتى يموت فيأثم إذا لم يحج، وهل يعرف الإنسان متى سيموت حتى نقول: إنه على التراخي حتى وقت كذا، كذلك قد يكون الإنسان صحيحاً وقد يموت، وقد يكون به مرض ويعيش سنين طويلة، فعلى هذا فقول الجمهور في ذلك هو الأرجح والأصح؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتعرض الحاجة). أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حكم من مات ولم يحج الحجة الواجبة عليه وأحكام المستأجر وما يقع فيه من مخالفات

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - حكم من مات ولم يحج الحجة الواجبة عليه وأحكام المستأجر وما يقع فيه من مخالفات اختلف أهل العلم في الحج هل هو على الفور أم على التراخي؟ وثمرة هذه المسألة تظهر في الحكم على من مات ولم يحج وهو قادر، فهل يجب أن يحج عنه أم لا؟ ثم اختلفوا في الاستنابة في الحج عمن تكون، ويشترط في النائب أو الأجير أن يكون قد حج عن نفسه، وهناك مسائل متعلقة بالاستنابة والإجارة في الحج والعمرة، ومنها ما يتعلق بمخالفة الأجير أو النائب لمن استنابه ونحو ذلك.

حكم من وجب عليه الحج فمات ولم يحج

حكم من وجب عليه الحج فمات ولم يحج الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. وصلنا في الكلام إلى من وجب عليه الحج فلم يحج حتى مات قبل تمكنه من الأداء. فإذا وجب على إنسان الحج ولكن في العام الذي كان معه المال توفي قبل أن يبدأ موسم الحج وقبل أن يسافر الناس إلى الحج، فهذا لم يتمكن من الأداء، فشرط الاستطاعة غير موجود، والأفضل في حقه أن الورثة يأخذون من ماله ما يحججون به عنه، ولكن إن لم يفعلوا ذلك فهذا لم يجب عليه لعدم تمكنه من الفعل. إذاً: من مات قبل حج الناس من سنة الوجوب، أي: كان معه مال وأراد أن يحج، ولكن قبل أن يحج توفي فلم يفعل، فالأفضل أن يحج عنه ورثته، وقد فعل هو ما عليه. أما إن مات بعد التمكن من أداء الحج، كأن مات بعد حج الناس وقد استقر الوجوب عليه، ولم يبذل أي شيء في سبيل أن يحج، فحج الناس وتوفي هو بعد ذلك فقد استقر الوجوب عليه، وعلى ورثته أن يخرجوا من تركته ما يحج به عنه، سواء أوصى أو لا، ففي صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال: (بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت، فقال صلى الله عليه وسلم: وجب أجرك وردها عليك الميراث)، فالمرأة تصدقت على أمها بجارية على وجه الهدية أو الهبة أو الصدقة، فلما ماتت الأم عادت الأمة للبنت، ولذا قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (وجب أجرك وردها عليك الميراث)، ثم قالت: (يا رسول الله! إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ فقال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها). إذاً: الأم لم تحج، ولم تذكر الفتاة أن هذا الحج كان قد وجب على الأم أو لا؟ ولكن قالت: لم تحج قط فهل أحج أنا عنها؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: حجي عنها. ففيه جواز النيابة، وأن الإنسان يحج عن أبيه أو أمه، سواء أوصى بذلك أو لم يوص. ويكون قضاء الحج من الميراث، فمن وجب عليه الحج وتوفي فإن الوارث يحج عنه، أو ينفق مالاً يستنيب به من يحج عن هذا المتوفى من المكان الذي كان سيحرم منه الميت، إلا إن ضاقت التركة فله أن يستأجر من مكة من يحج عنه، لكن إن اتسع المال فالواجب أن يحج عنه من المكان الذي استقر عليه أن يحج هو فيه، ويكون من رأس المال؛ لأنه دين واجب. ومعنى (من رأس المال): أي: أنه ليس من ثلث التركة مثل الوصية، فالوصية شيء والدين شيء آخر، فالديون تكون من رأس مال المتوفى، فمثلاً: إنسان توفي وترك عشرة آلاف مثلاً وعليه دين خمسة آلاف، فتخرج الخمسة الآلاف من العشرة الآلاف من رأس المال، بخلاف الوصية، فمن توفي وترك عشرة آلاف وأوصى بخمسة آلاف فهنا ينظر هل الورثة راضون أو ليسوا راضين، فإن رضي الورثة فتخرج الخمسة الآلاف، وإن رفض الورثة فيرد هذا النصف إلى الثلث، فيخرج فقط ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون في الوصية، والباقي يأخذه الورثة، لكن الحج دين وفرض وجب عليه، فيخرج من رأس مال المتوفى؛ لأنه دين لله عز وجل على هذا المتوفى.

حكم من مات ولم يحج وله مال وعليه دين

حكم من مات ولم يحج وله مال وعليه دين فإن كان هناك دين آدمي وضاقت التركة عنها قدم دين الآدمي وسقط عنه الحج، وهذا ليس اتفاقاً، ولكن هذا هو الاختيار في هذه المسألة. يقول ابن قدامة: يحتمل أن يسقط عمن عليه دين وجهاً واحداً؛ لأن حق الآدمي المعين أولى بالتقديم لتأكده. ويقول الإمام النووي: إن كان هناك دين آدمي وضاقت التركة عنهما ففيه أقوال ثلاثة: أصحها يقدم الحج، والثاني: دين الآدمي، والثالث: يقسم بينهما، وهذا كله إذا كان للميت تركة. فإن ترك الميت مالاً وعليه دين لآدمي وعليه أيضاً فريضة الحج، فأي الاثنين يقدم؟ هل يقدم دين الآدمي أو يقدم دين الله سبحانه؟ الذي يقول: يقدم الحج -وهو الأصح عند الشافعية- قالوا: هذا دين الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فدين الله أحق بالقضاء)، إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن دين الله أحق، لكن في مسألتنا دين لآدمي يشح بماله، والآدمي فيه بخل: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، ودين الله سبحانه وتعالى حق لله سبحانه، والله يعفو ويصفح سبحانه وتعالى، فإذا كان عليه دين لآدمي، وعليه حج والحج يكلفه عشرة آلاف، والمال الذي تركه لا يكفي الاثنين، فقال بعض الفقهاء: يقدم دين الله باعتبار الحديث، لكن لو قدمنا دين الله لصار الآدمي الشحيح محتاجاً يدعو على هذا الميت الذي أخذ ماله وتوفي وهو عنده، فهنا الآدمي أولى والله كريم سبحانه وتعالى، ويعفو سبحانه عن عباده، أما الآدمي فسوف يطالب بدينه، فنكون قد أتلفنا مال الآدمي من أجل عبادة من العبادات قصر الميت فيها، والتقصير فيها يحاسبه الله عز وجل عليه، وقد يعفو عنه سبحانه، لكن دين الآدمي لن يسامح فيه ويظل الميت يعذب بهذا الدين في قبره حتى يقضى عنه الدين؛ ولذلك اختار الحنابلة أنه قد يسقط دين الله وهو الحج لأنه غير مستطيع، والمال لا يكفي ما عليه من دين. أما الشافعية فقالوا: الأصح من ثلاثة أقوال: أنه يقدم دين الله وهو الحج، وبعض الفقهاء يقول: يتحاصى بالحصص، ومثله إنسان توفي وعليه ديون لأناس وترك مالاً لا يفي بالدين كله، فيتوزع المال حصصاً، ويسمونها: أسوة الغرماء، فلو ترك عشرة آلاف وعليه ديون عشرون ألفاً هذا يريد خمسة، وهذا يريد أربعة، وهذا يريد كذا وهذا يريد كذا، إذاً يعطى كل واحد منهم نصف الدين الذي له، قالوا: فكذلك هنا تعطى حصة لدين الآدمي، وحصة للحج، وينظر أقل ما يكلفه، وأقل تكلفة للحج ستكون من مكة أي: حجة مكية، فيعطى بقدرها والباقي يأخذه الغرماء، لكن الراجح في ذلك أن الله سبحانه تبارك وتعالى يتجاوز عن عباده ويعفو عنهم، فحق الآدمي مبناه على شح الآدمي وعلى بخله، فيقدم حق الآدمي على العبادة هنا فيعطى للآدمي حقه، ثم بعد ذلك إن فاض شيء فيحج عنه وإلا فليس بالاستطاعة. إذاً: هذا الأرجح في المسألة: أنه إذا كانت التركة قليلة ولا تكفي إلا أحد الدينين فيبدأ بدين الآدمي. إذاً: لو استقر عليه الحج ومات ولم يحج ولا تركة له مات عاصياً وبقي الحج في ذمته، ولا يلزم الوارث الحج عنه، لكن يستحب، والحج كثير من الناس يقصر فيه ويسوف، ويقول: في وقت قريب سأحج، فلا هو حج ولا ظهر من نيته أنه يريد الحج، فيا ترى! لو مات الإنسان كيف سيموت؟ يقول الفقهاء: لو مات مات عاصياً، هذا الذي معه مال وقدر على الحج وأخر سنة وراء سنة ولا يريد أن يحج فإنه يموت عاصياً، ويحاسب على ذلك عند الله عز وجل؛ لأنه فرط ومرت سنة وراء سنة وأنفق المال بسفه ولم يحج حتى مات وقد استقر الحج في ذمته، وهو الذي أتلف مال نفسه ومات عاصياً لله سبحانه وبقي الحج في ذمته، لكن هل يلزم الورثة أن يحجوا عنه؟ لا يلزم الورثة أن يحجوا عنه؛ لأنه لم يترك مالاً، لكن لو ترك مالاً فيلزم الورثة أن يحجوا عنه، أو أن يحججوا من يحج عنه بماله الذي تركه. فإن حج عنه الوارث بنفسه أو استأجر من يحج عنه سقط الفرض عن الميت سواء كان أوصى به أم لا، وهذا الراجح: أن المتوفى إذا وجب عليه الحج سواء أوصى الورثة بذلك أو لم يوص فيجوز أن يحجوا عنه من ماله، فيحج عنه أحدهم أو يحججون آخر من ماله؛ لأن المرأة التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمها أنها لم تحج قط قال: (حجي عنها)، ولم تقل: كانت مستطيعة أو غير مستطيعة، ,هل أوصت أو لم توص بهذا الشيء، وترك النبي صلى الله عليه وسلم الاستفصال فنزل منزلة العموم من المقال. ولو حج عنه أجنبي جاز سواء أذن له الوارث أم لم يأذن، كما يقضي دينه بغير إذن الوارث ويبرأ الميت به، وقد ذكرنا أنه فرق بين المعضوب وبين المتوفى، والمعضوب: هو الذي مرض مرضاً مزمناً يضعفه عن الحج ولا يستطيع الحج، ويكون عليه في ذلك مشقة شديدة جداً، فلو أراد إنسان أن يحج عنه فلا بد من إذنه؛ لأن له أهلية وله إذن بخلاف المتوفى فلا إذن له، فعلى ذلك سواء أوصى المتوفي أو لم يوص فإنه يجوز أن يحج عنه القريب أو الغريب، أما الحي المعضوب فلا يحج عنه إلا بإذنه لا بد من نيته في ذلك.

الاستنابة في الحج

الاستنابة في الحج الاستنابة: هي: أن تقيم غيرك مقامك في ذلك، مثل المريض مرضاً مزمناً شديداً يمنعه من الحج إلا بمشقة شديدة جداً، ولا يقدر على الركوب أو النزول، وهذا المرض مستديم معه، وعلى ذلك فإن المعضوب يستنيب ويقيم غيره نائباً عنه في إقامة هذا النسك. وتجوز النيابة في حج الفرض المستقر في الذمة في موضعين: أحدهما: عن المعضوب، والثاني: عن الميت؛ لحديث بريدة الذي تقدم، ولحديث ابن عباس: (أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله بالحج على عباده أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم. وذلك في حجة الوداع). وفي حج الفريضة وحج التطوع لا يستنيب إنسان عن نفسه آخر ليحج عنه إلا أن يكون معضوباً، أما غير المعضوب فلا يستنيب، إذاً حج التطوع لا تجوز الاستنابة فيه عن حي ليس بمعضوب، فيجوز الاستنابة في حج التطوع عن ميت أوصى به، أو حي معضوب استأجر من يحج عنه مثل حجة الفريضة في ذلك.

حكم الاستنابة في حج التطوع والنذر والقضاء

حكم الاستنابة في حج التطوع والنذر والقضاء وهل تجوز الاستنابة في حج التطوع أم لا؟ هذا مختلف فيه، لكن في حجة الفريضة اتفقوا على أنه لا يحج الفريضة إلا عن إنسان ميت أو معضوب، فهم نظروا في الفريضة إلى أنه إما أن يحج بنفسه، وإن كان معضوباً لا يقدر على ذلك فإنه يستنيب غيره لهذه العلة أو لهذا العذر، لكن في حج التطوع جاء عن أبي حنيفة ورواية عن مالك وهو قول أبي ثور: أنه يجوز للإنسان في حج التطوع أن يستنيب غيره، كما لو حج إنسان عن نفسه الفريضة ثم أجر إنساناً بعد ذلك ليحج عنه وهو قد حج عن نفسه الفريضة. ولكن الحج عبادة بدنية، والأصل أن العبادة البدنية يقوم بها الإنسان بنفسه ولا يقوم غيره عنه إلا لعذر يجوزه الشرع، وقد جوز الشرع في الحج الاستنابة في حالة الإنسان المعضوب، وكذلك في المتوفى. وحجة الفريضة وحجة النافلة هذا حج وهذا حج، وهذه عبادة وهذه عبادة، ولا فرق بينهما إلا أن هذه فريضة غير التطوع، فإذا تلبس بها الحاج صارت عليه فريضة حتى لو كانت تطوعاً، فإذا تلبس بالحج لزمه أن يكمل الحج ويتمه كما أمر الله سبحانه، فعلى ذلك هذا الحج في التطوع حكمه حكم الفريضة، فلا يستناب فيه إلا عن ميت أو معضوب. وكذلك الحجة الواجبة بقضاء أو نذر يجوز النيابة فيها عن الميت، فمن كان عليه قضاء الحج، كمن حج حجة وأفسدها ثم توفي فعليه قضاء، فأخرجوا من ماله من يحج عنه جاز ذلك. إذاً: الحجة الواجبة بالقضاء أو النذر لمن توفي وكان عليه نذر أو قضاء ومات قبل أن يحج فيستناب عنه من يقوم مقامه كحجة الإسلام. ولو لم يكن للميت مال ولا لزمه حج لعدم الاستطاعة، فالراجح أنه يجوز الإحجاج عنه، وصورة المسألة: أن المتوفى الذي لم يجب عليه الحج، فهل لابنه أن يحج عنه أو يستنيب من يحج عنه؟ نقول: ما جاز في الإنسان الذي عليه الفرض جاز في غيره؛ لما في حديث المرأة التي قالت: إن أمي لم تحج قط، فلم تقل: وجب عليها أو لم يجب عليها الحج.

من لم يحج عن نفسه فلا يحج عن غيره

من لم يحج عن نفسه فلا يحج عن غيره ولا يجوز لمن عليه حجة الإسلام أو حجة قضاء أو نذر أن يحج عن غيره، ولا لمن عليه عمرة الإسلام -إذا أوجبناها- أو عمرة قضاء أو نذر أن يعتمر عن غيره، طالما عليه الفرض فيلزمه أن يؤدي الفرض الذي عليه من حج أو عمرة، ثم يحج عن غيره بعدما يؤدي الدين الذي عليه، فإن أحرم هذا الذي عليه حجة فريضة سواء كانت حجة الإسلام أو حجة نذر أو حجة قضاء، وكذلك لو كان عليه عمرة الإسلام، أو عمرة نذر، أو عمرة قضاء،، فإذا حج أو اعتمر عن غيره انقلبت إليه؛ لما روى أبو داود عن ابن عباس: (أن رجلاً قال: لبيك عن شبرمة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة)، أي: أن هذه الحجة التي كان فيها لا يصلح أن تكون عن شبرمة؛ لأنك لم تؤد الحج عن نفسك. وفي رواية أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل حججت قط؟ قال: لا، قال: فاجعل هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة)، فإن كان مستأجراً وقد ظنه حج عن نفسه فبان أنه لم يحج لم يستحق أجرة لتغريره، والمال الذي أخذه يرده لصاحبه، والحجة هذه تكون له هو فلا يصلح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه. وكذلك لو أن إنساناً اجتهد في نفسه، وظن أنه مصيب في ذلك، مع وجود نص النبي صلى الله عليه وسلم في خلاف ما يختاره، فلو ظن وقال: اعتقادي أن من لم يحج عن نفسه يجوز له أن يحج عن غيره، وأعطى ذلك الإنسان مالاً، وقال: حج عني بهذا المال، فهذه الحجة عن الأجير وليست عن المستأجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حج عنك ثم حج عن شبرمة). أما إذا استأجر للحج من حج ولم يعتمر أو للعمرة من اعتمر ولم يحج، فقرن الأجير وأحرم بالنسكين عن المستأجر أو أحرم بما استؤجر له عن المستأجر وبالآخر عن نفسه، فما استؤجر له يقع عن المستأجر، والآخر عن الأجير. وصورة المسألة: إنسان مطلوب منه أن يؤدي نسكاً واحداً، هذا النسك قد أداه قبل ذلك، وجاءه إنسان وقال له: أنت حججت عن نفسك، قال: نعم، لكن ما اعتمرت، فقال: حج عني وأدفع لك أجرة، فحج عن هذا المستأجر، ثم اعتمر عن نفسه، أو بدأ بالعمرة وحج عن هذا المستأجر، فعلى ذلك وقع الحج عن صاحبه؛ لأنه أدى عن نفسه. والعكس: لو قال له إنسان: أنا أريد أن تعتمر عني عمرة، فقال: سأذهب أحج عن نفسي وأعتمر عنك، وهو قد اعتمر عن نفسه قبل ذلك، فهذا صحيح أيضاً، فهو قد اعتمر عن نفسه قبل ذلك، فيصلح أن يعتمر عن غيره، فما استؤجر له يقع عن المستأجر والآخر يقع عن نفسه.

حكم من نذر أن يحج ولم يكن قد حج حجة الإسلام

حكم من نذر أن يحج ولم يكن قد حج حجة الإسلام ومن نذر أن يحج ولم يكن قد حج حجة الإسلام، فلو أن إنساناً قال: لله علي أن أحج إن نجحني في الامتحان هذا العام، فصار نذراً عليه، فهل يلزمه في هذه الحال أن يحج حجة الإسلام ابتداء ثم يوفي بالنذر بعد ذلك؟ الراجح في هذه المسألة: أن الذي يقول ذلك فإنه غالباً لا يقصد بهذا النذر حجة الإسلام، وهذا نذره كمن يقول: لله علي أن أصلي العشاء اليوم، فلا يصلي العشاء بنية العشاء وعشاء ثانية بنية النذر؛ لأنها عشاء واحدة فقط، وكأنه يوجب على نفسه ما هو واجب عليه أصلاً، فكذلك هنا الراجح أنه إن قال ذلك وجبت عليه حجة الإسلام، وليس له بالنذر إلا زيادة تأكيد لذلك. إذاً: حجة واحدة تغني عن ذلك، إلا إن نوى الفرق، كأن يكون إنساناً حج حجة الإسلام عن نفسه، وقال: لله علي أن أحج، فهذه نذر بلا خلاف، كأن يقول: لله علي نذر بعد أن أؤدي حجة الإسلام، فهذا من البداية ينوي حجة الإسلام، ويقصد الآن بنذره حجة ثانية غير حجة الإسلام، ففي هذه الحالة تلزمه حجة الإسلام وهي المقدمة، ويبدأ بحجة الإسلام، ثم بعد ذلك النذر، لكن الغالب فيمن يقول ذلك أنه يقصد الحجة التي عليه، ويؤكدها بنذره ذلك، وإن فعل ذلك فحجة واحدة تجزئ إن كان المقصد على ما ذكرنا.

حكم الاستئجار للحج

حكم الاستئجار للحج الاستئجار في الحج أن يستنيب إنسان ويقيم غيره نائباً عنه في الحج، ويدفع له أجراً على ما يعمل من مناسك، فالذي لم يحج أو يعتمر عن نفسه وهو معضوب ويريد أن يستأجر من يقوم بذلك، أو عن إنسان قد توفي فنستأجر إنساناً يحج عنه سواء وجب عليه الحج أو لم يجب: الراجح أنه يجوز، وفي أمر الاستئجار خلاف: هل يجوز الاستئجار على الحج وعلى العبادات أو لا يجوز ذلك؟ فيجوز الاستئجار في الحج والعمرة لدخول النيابة فيهما كالزكاة، ويجوز بالبذل، وهذا أفضل، أي: أن يقول إنسان أنا أحج عن فلان، فالأفضل أن الإنسان ينفع أخاه من غير أن يأخذ منه مالاً على ذلك، ويمكن لمن يخرج ليحج عن آخر ويعطل مصالحه ويحتاج لنفقة في بيته، والذي سيخرجه إن لم يشارطه على دفع أجرة له، فهو هنا يخرج للحج لكي يرفع عن الميت الحرج في كونه لم يحج عن نفسه وعليه إثم في ذلك، وقد كانت عليه فريضة الحج فلم يفعل، ومن ثم فهو يقع في الحرج في أنه لا يجد ما ينفق على عياله، فهنا العلماء اختلفوا في مسألة الأجرة: هل يجوز لإنسان أن يأخذ الأجرة على أن يحج عن آخر أو لا يجوز ذلك؟ فممن قال بجواز أخذ الأجرة على الحج وعلى العمرة ونحو ذلك الإمام مالك والإمام الشافعي واختاره ابن المنذر، وممن منع من ذلك الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد له وجهان في هذه المسألة، ولذلك يقول ابن قدامة: في الاستئجار على الحج والأذان وتعليم القرآن والفقه ونحوه مما يتعدى نفعه ويختص فاعله أن يكون من أهل القربة روايتان: إحداهما: لا يجوز، والأخرى: يجوز، فالذين قالوا بالجواز احتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، وهذا الحديث رواه البخاري، فقالوا: لأنه يجوز أخذ النفقة عليه فجاز الاستئجار عليه، كبناء المساجد والقناطر، فعندما نبني مسجداً فهل نشترط على العامل الذي يعمل في المسجد ونقول له: لا تأخذ أجراً ولك الأجر من الله؟ قالوا: لا، ويجوز دفع الأجرة له على عمله ذلك، فهو أخذ أجرته على ذلك، ولا يحرم عليه ما أخذ من أجر على ذلك، قالوا: فكذلك الذي حج عن إنسان آخر وأخذ الأجرة على عمله الذي عمله وانتفع بأجر هذا الذي وجب عليه أو لزمه الحج. ابن قدامة يذكر وجه الرواية الأولى وهي الأشهر في مذهب الإمام أحمد وهي المنع من أخذ الأجرة على الحج وعلى العبادات، فهم عمموا وإن كان الدليل خصص من هذا التعميم، قالوا: لو حج أو أذن أو علم القرآن أو الفقه أو غير ذلك مما يتعدى النفع فيه فهذا ممنوع أخذ الأجرة عليه. وأدلة المنع سنجدها في مسألة تعليم القرآن، فقد روى أبو داود وابن ماجة وأحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (علمت أناساً من أهل الصفة الكتابة والقرآن، فأهدى إلي رجل منهم قوساً، فقلت: ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله عز وجل، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتيته فقلت: يا رسول الله! رجل أهدى إلي قوساً ممن كنت أعلمه الكتابة والقرآن وليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبله)، وفي رواية قال: (جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها)، فهذا حجة من قال: يمنع أخذ الأجرة على تعليم القرآن أو أخذ الهدية. وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لما جعله إماماً على قومه: (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)، فهذا دليل على أن المؤذن لا يأخذ على أذانه أجراً. إذاً: هذه الأدلة في المنع من أخذ الأجرة على العبادة، ولا شك أن هذا أحوط، فالأحوط والأفضل للإنسان أنه إذا فعل عبادة لا يأخذ عليها أجراً من الناس، وليأخذ أجره من الله سبحانه وتعالى. حديث آخر: وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أبي سعيد لما رقى الرجل فقال له: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، وكان قد رقى إنساناً وقرأ عليه الفاتحة سبع مرات فشفاه الله عز وجل، وكان قد شارطهم على قطيع من الغنم فكأنهم تحرجوا أن يأخذوا أجراً على القرآن، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ما فعلوا وقال: (وما يدريك أنها رقية)، مصوباً للذي فعله أبو سعيد رضي الله تبارك وتعالى عنه. ففي هذا الحديث بيان جواز أخذ الأجرة على القرآن، أما حديث عبادة بن الصامت ففيه بيان المنع، فبأي الحديثين يعمل في هذه المسألة، هل بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)؟ فهذا يجوز أن أقرأ القرآن وأعلمه وآخذ عليه أجرة، فهذا الحديث يدل على الإباحة، والحديث الآخر يرجح جانب التحريم، فإذا تعارض التحريم مع الجواز غلب جانب التحريم، لكن بالنظر إلى صحة حديث عبادة وهو في السنن، وحديث أبي سعيد وهو في الصحيحين، نقول: هذا الأخير أصح، فعند الترجيح بين الصحيح والأصح نقول: ما في الصحيحين أصح، وهو الراجح على غيره، أو نجمع بين الأحاديث إذا قدرنا على ذلك، وهذا الأفضل. فينظر في السبب الذي من أجله قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فحديث عبادة بن الصامت قال: (علمت ناساً من أهل الصفة الكتابة والقرآن)، وأهل الصفة هم من فقراء المسلمين الذين هاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم محبوسون على أمر النبي صلوات الله وسلامه عليه يخرجهم في سرايا أو مغازي معه صلى الله عليه وسلم، وهم موجودون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء أضياف الإسلام، وإذا جاء للنبي صلى الله عليه وسلم صدقة أو هدية أرسل إليهم منها عليه الصلاة والسلام، فكون عبادة يعلم واحداً منهم شيئاً من القرآن وبعد ذلك يأخذ منه أجرة فمن أين سيأتي له بأجرة؟ ولو فتح هذا الباب سيعلم فقراء المسلمين ويأخذ على ذلك أجرة، فلن يوجد أحد سيعلم إلا بعد أن يأخذ أجرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. أو أن يكون هذا الذي علمه كان فرضاً عليه أن يعلمه، كما يأتي الإنسان ويقول لك: علمني كيف أصلي؟ فلا يصلح أن تقول له: كم تدفع وأنا أعلمك كيف تصلي؟ يحرم عليك هذا ولا يحل لك أن تأخذ ذلك، فإذا تعين عليك التعليم وجب أن تعلم بلا أجر، إذاً: كأنه تعين عليه أن يعلمهم أو علمهم ما تعين عليهم أن يفعلوه كفاتحة الكتاب ونحو ذلك، فلما علمهم أهدى إليه رجل منهم هذه القوس فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم من قبولها. أما الحديث الآخر فهو أعم قال فيه: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، أما الأذان فقد نصح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)، إذاً: في مسألة الأذان لا يأخذ المؤذن أجراً، وإنما يجوز أن يعمل برزق أو براتب يعان به في ذلك، وما أكثر هؤلاء اليوم! لكن في أمر التعليم لو قلنا لمن يحفظ القرآن لا تأخذ أجراً، سيترتب على ذلك أن لا أحد سيحفظ قرآناً، ولسان حاله: لم أحفظ أذهب أعمل لكي أعيش وأعيش أولادي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً عاماً: (أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله). فلذلك الراجح أن الحديث في المنع من أخذ الأجر على تعليم القرآن إذا تعين على إنسان أن يعلم القرآن أو غيره لزمه أن يعلم هذا الأمر الذي صار فرض عين عليه بغير أجر، خاصة إذا كان هذا المحتاج إليه محتاجاً إلى أن يقيم فرائضه، مثل: إنسان في الحج، وعند المناسك يقول لك: كيف أحج؟ كيف ألبي؟ كيف أحرم؟ فتأتي وتقول له: ادفع حتى أنا أعلمك! هذا لا يحل لك في هذه الحال، لكن إذا كان إنسان سيعلم آخر الفقه في الدين أو يعمله التوحيد ويعطي له دروساً ويتعب نفسه ويفرغ نفسه من أجله، فمثل هذا الراجح أنه يجوز أن يأخذ أجراً على ذلك، وقد كان الإمام مالك رحمه الله ممن يمنع أخذ الأجرة على ذلك، حتى ذهب إليه معلمو القرآن وشكوا إليه وقالوا: إن الناس يمتنعون أن يعطونا حتى نشارطهم، أي: أن الناس بخلاء، ونذهب نحفظ أولادهم القرآن فلا يعطونا شيئاً حتى نشارطهم على كذا، فغير الإمام مالك رحمه الله فتواه من ذلك بناء على الواقع الذي هو موجود، وعادة الناس أنهم يبخلون إذا وجد من يتبرع لهم. ففي مسألة الحج لم يأت نص عن النبي صلى الله عليه وسلم في المنع من أخذ الأجر عليه، إنما الذي جاء في مسألة القرآن وفيه ما ذكرنا، وفي مسألة الأذان، وفي الأذان الكثيرون يؤذنون بلا أجر، والأمر لا يقف على هذا الذي يقول: آخذ أجرة عليه، فعلى ذلك غيره من الأشياء كالحج والعمرة، وتعليم القرآن، وتعليم الفقه، وتعليم الحديث وغيره، الراجح أنه يجوز أن يعلم وأن يأخذ أجراً عليه إن كان يعيش على ذلك. إذاً: الراجح في مسألة الحج: طالما أنه يجوز فيه النيابة، فالنائب إما بأجر وإما من غير أجر، وهذا أفضل بلا شك؛ لأنه سيعطل نفسه وسيقف عن أخذ المال لأولاده وعياله، فيجوز له أن يأخذ الأجرة عليه طالما أنه عمل تدخله النيابة فجاز أخذ العوض عليه، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (حج عن أبيك فدين الله أحق بالقضاء)، لن يقوم أمر الحج عن إنسان إلا بمثل هذا الأمر، ويندر أن تجد متطوعاً، لكن أن تجد من تستأجره هذا كثيراً، والشريعة لا تضيق مثل ذلك. أيضاً العلماء اتفقوا على أنه يجوز أخذ الرزق على الحج، فلو قلت لشخص: تعال حج عني وسأعطيك مبلغاً في النهاية، فحج عنه وأعطاه مبلغاً على ذلك، فجوزوا ذلك، قالوا: هذا رزق لا مانع منه إذا كان نائباً فيه فليقل إذا بخلوا: لا أحج إلا أن تعطوني كذا؛ لأن عندي بيتاً وأولاداً، فالراجح أنه يجوز ذلك. لكن قال العلماء: هذا ينتقض بالجهاد في سبيل الله، فلو أن

مسائل متعلقة بمخالفة المستأجر لمن استأجره في الحج

مسائل متعلقة بمخالفة المستأجر لمن استأجره في الحج إذا انتهى الأجير إلى الميقات المتعين للإحرام فلم يحرم عن المستأجر بل أحرم عن نفسه بعمرة، فلما فرغ منها أحرم عن المستأجر بالحج فما الحكم؟ هذه صور سنفرعها على جواز الإجارة على الحج، عندما أستأجر إنساناً يحج عن معضوب أو متوفى، هذا الذي خرج ليحج ويأخذ أجرة على ذلك فوق تكاليف الحج التي تبلغ عشرة آلاف، فهو يأخذ أجرة على ذلك ليحج عن إنسان، وعند الإحرام لم يحرم عن صاحبه بالحج، بل أحرم عن نفسه بعمرة، فهو الآن يعمل عمرة عن نفسه في وقت الحج. يقول الفقهاء: هذا له حالان: إما أنه في وقت الحج رجع للميقات، ومن الميقات أحرم عن صاحبه، فهذا فعل الذي هو فرض عليه، أو أنه لم يرجع وسيأخذ أجرة كاملة على ذلك، فإذا لم يعد إلى الميقات فإنه يصح الحج عن المستأجر للإذن، ويضع شيئاً من الأجرة المسماة لإخلاله بالإحرام من الميقات. إذاً: نقول له: أنت سافرت إلى الميقات ومن عند الميقات صنعت شيئاً لنفسك ليس لي للمستأجر، فمن الميقات إلى أن وصلت مكة تعلن فيها مناسك العمرة لنفسك؛ ولذا يوضع من التكاليف ومن الأجرة التي تأخذها. الحالة الثانية: أن يرجع إلى الميقات على حسابه، ثم يحج عن صاحبه، فهذا فعل الفرض الذي عليه، وتجب له الأجرة كلها. والواجب على الأجير أن يحرم من الميقات، فإن جاوز الميقات المعتبر غير محرم ثم رجع إلى الميقات فأحرم ثم ذهب إلى المناسك فلا شيء عليه؛ لأنه أحرم من الميقات، لكن لو أنه جاوز الميقات وبدأ إحرامه بعدما جاوز الميقات فعليه دم؛ لأنه جاوز الميقات وهو غير محرم. إذاً: إذا أحرم من جوف مكة أو بين الميقات ومكة ولم يعد لزمه دم في ماله هو وليس في مال من استأجره؛ لأنه هو الذي قصر بأن جاوز الميقات غير محرم، أما إذا عدل الأجير عن طريق الميقات المعتبر إلى طريق آخر ميقاته مثل المعتبر أو أقرب إلى مكة فلا شيء عليه. وإن لزمه دم بترك نسك أو بفعل محظور كاللبس والقلم فلا يضع شيئاً من الأجرة؛ لأنه لم ينقص شيئاً من العمل، ويجب الدم في ماله؛ لأنه هو المسيء وليس من استأجره. فلو فرضنا أن هذا الإنسان المحرم بالحج عن رجل معضوب أو عن إنسان ميت حلق شعره في أثناء إحرامه، أو وضع طيباً أو لبس ثياباً غير ثياب الإحرام فتلزمه الفدية في ذلك، والدم عليه، وليس على صاحبه. صورة أخرى: إن استأجره للقران بين الحج والعمرة: استأجر هذا المعضوب إنساناً ليحج عنه قارناً، أي: أنه ينوي من هنا الحج والعمرة مع بعض، أي: نسك واحد بنيتين، فإذا امتثل وفعل ذلك وجب دم القران على المستأجر، والقارن يلزمه دم، إذاً الدم من مال المستأجر، كما لو حج هذا بنفسه. فإن كان المستأجر معسراً فسينتقل من الدم إلى الصيام، فمن الذي يصوم؟ هنا اختلف العلماء، فالبعض يرى أن الصيام يكون على الأجير؛ لأن الصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، فالثلاثة سيصومها الذي في الحج، إذاً: الأجير الذي يلزمه البعض الآخر، لكن الصواب ما دام الدم على صاحبه كذلك الصيام بدلاً من هذا الدم يصوم الأيام العشرة في بلده؛ لأنه معذور، هذا الراجح فيها. فإن كان المستأجر معسراً فعليه صوم عشرة أيام؛ لقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196]، وهذا لا يقدر على الصوم في الحج فصام الجميع هنا، وقياسها: أن الإنسان الذي لزمه الصوم هناك وهو معسر كأن حج متمتعاً أو قارناً ولزمه دم ولم يقدر فلزمه الصوم فلم يصم هو هناك، فلزمه أن يصوم الأيام العشرة في بلده. إذا استأجر إنساناً ليحج قارناً أو متمتعاً فصنع عكس ما طُلب منه، فهذه من المخالفات التي يصنعها الأجير، فما الحكم فيها؟

حكم الأجير إن خالف النسك المستأجر عليه

حكم الأجير إن خالف النسك المستأجر عليه فمثلاً: استأجر أجيراً للقران فعدل إلى الإفراد فحج ثم اعتمر، فما الحكم؟ معناه: أنك تلبس الإحرام وتلبي من الميقات، وتقول: لبيك حجة وعمرة، فهذا حاج ومعتمر، لكن هذا عدل إلى الإفراد فقال: لبيك حجاً فقط، وبعدما أكمل الحج أتى بعمرة، فإن عاد إلى الميقات للعمرة فلا شيء عليه؛ لأنه زاد خيراً، كأنه مر على الميقات مرتين، مرة للحج ومرة للعمرة فلا شيء عليه ولا على المستأجر، وإن لم يعد فعلى الأجير أن يرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام العمرة من الميقات، ويعاقب هذا الأجير، والأصل الأمانة، وأنك نائب عني تقوم بما أردته أنا، فأنت خالفت في ذلك، وكان المفترض أن تحج وتعتمر قارناً، فأنت لم تفعل هذا، ولذا قالوا: عليه أن يرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام العمرة من الميقات. ولو قال الحي للأجير: حج عني، وإن تمتعت أو قرنت فقد أحسنت، فقرن أو تمتع وقع منه المراد؛ لأنه مخير، فسواء اختار القران أو التمتع فكلاهما خير. ولو أمره بالإفراد فقرن، فبدلاً من أن يقول: لبيك حجاً، قال: لبيك حجاً وعمرة، فصار قارناً، فهذا أتى بالأمر وزيادة، فعلى ذلك لا يضمن شيئاً، فهو فعل لصاحبه ما هو زيادة، ثم إن كان أمره بالعمرة بعد الحج ففعلها فلا شيء عليه، وإن لم يفعل رد من النفقة بقدرها، إذاً هنا المخالفة في شيء آخر، كأن هذا قال له: بعدما تكمل الحج اعتمر بعد ذلك، فهذا عمل الاثنين مع بعض من أجل أن يوفر، وإذا كان صاحبه لم يطلب منه عمرة وقال له: أفرد فقرن، فهذه زيادة خير، وليس له أجرة زيادة على ذلك، لكن لو طلب منه أن يفرد الحج ثم يعتمر، فهذا استسهل وقرن حتى لا يخرج مرة أخرى ولا يدفع نفقة مرة أخرى، فيرد من الأجرة بقدر ما ترك من ذلك.

حكم النائب والأجير إذا أمره المستأجر بالإفراد فقرن أو تمتع والعكس

حكم النائب والأجير إذا أمره المستأجر بالإفراد فقرن أو تمتع والعكس إذا قال له: حج عني مفرداً فقط. والمفرد ليس عليه دم، فإذا قرن الأجير فإن عليه دماً من ماله لا من مال المستأجر؛ لأنه لم يطلب منه أن يقرن، وإنما طلب منه الإفراد، إذاً: الدم على الأجير. أما إن أمره بالتمتع، أي: أمره بعمرة في أشهر الحج، ثم بعد ذلك يتحلل إلى أيام الحج، فإن أمره بالتمتع فقرن، والقران هو أنه يعمل عملاً واحداً بنيتين، فعلى ذلك هذا القارن قريب من المتمتع، لكن المتمتع يعمل عمل العمرة كاملاً والحج كاملاً، فإذا أمره بالتمتع فقرن وقع عنه؛ لأنه أمر بهما وإنما خالف في أنه أمره بالإحرام بالحج من مكة فأحرم به من الميقات، ولا يرد شيئاً من النفقة. فلم يلزمه رد شيء من النفقة؛ لأنه لم يخالف في شيء. وقد اختلف أيهما أفضل: القران أم التمتع؟ وفي كل من الحالين دم، وهنا استوى أمر القران وأمر التمتع، ففي القران سيحرم بالعمرة والحج من الميقات، ويظل محرماً إلى أن يتحلل في يوم العيد برمي جمرة العقبة، ويتحلل تحللاً أصغر عندما يطوف بالبيت، ثم يتحلل التحلل الأكبر، ففيه مشقة زيادة ولذا أمره بالتمتع، أما المتمتع فيحرم من الميقات بعمرة ويأتي بها كاملة ثم يتحلل، فهو أقل في المشقة، ثم يبدأ بعد ذلك في مناسك الحج من مكانه ولا يبدأ من الميقات مرة ثانية. ولو نظرنا إلى الفرق بين المتمتع والقارن فإن القارن زاد مشقة، وقلت عنه بعض المناسك، وزيادة المشقة في أنه يظل محرماً مثلاً من يوم واحد ذي الحجة إلى يوم العيد، أما المتمتع فسيعتمر ثم يصير حلالاً إلى أن يحرم بالحج. والقارن سيطوف طواف القدوم، والمتمتع سيطوف طواف العمرة. والمتمتع سيسعى بين الصفا والمروة سعياً عن عمرته وسعياً عن حجه بعد ذلك، والقارن إن سعى بعد طواف القدوم فليس عليه سعي آخر. وهذا فيه ترفه بإسقاط واحد من الواجبات أو الأركان التي عليه بأنه نوى هذا السعي بنيتين عن حجه وعن عمرته. إذاً: كلا الأمرين قريب من الآخر، فلا يلزمه أن يرد من النفقة شيئاً. وإن أمر بالاثنين -الحج والعمرة- فعمل واحداً فقط وأفرد الحج ولم يعمل عمرة عنه فهو مقصر في ذلك ويرد نصف النفقة؛ لأنه أخل بالإحرام بالعمرة من الميقات، وصاحبه أمره أن يحرم بالعمرة من الميقات لأنه أمره بالقران، وهذا أحرم بالحج فقط، وأخل بما طلبه صاحبه فيرد نصف النفقة.

حكم من استنابه رجل في الحج وآخر في العمرة

حكم من استنابه رجل في الحج وآخر في العمرة من الصور: أن تقول لرجل: يا فلان! حج عن فلان، وندفع لك أجرتك على الحج، وآخر قال له: اعتمر عني، وهذا يعلم وهذا يعلم، أو هذا يعلم وهذا لا يعلم، أو هما لا يعلمان. إذاً: الذي يخرج نائباً أو مستأجراً عن أكثر من واحد بالأجرة، فحج واعتمر قارناً وأذنا له في ذلك فإن الدم على الاثنين. وقد يكون هذا يعمل عمرة عن إنسان، وحجاً عن إنسان آخر، وهذا ميت وهذا ميت، وهذا دفع له أجراً، وهذا دفع له أجراً على ذلك، فصار الآن عليهما دم القران، طالما كان الأمر بمعرفة الاثنين فهما من يدفعان هذا المال. أما إن قرن بغير إذنهما، فهذا طلب منه حجة، والآخر قال: اعمل لي عمرة، يقصد: اعتمر من الميقات أيضاً، فذهب وقرن بين الحج والعمرة عن الاثنين، فإن قرن من غير إذنهما صح ووقع عنهما ويرد من النفقة لكل واحد منهما النصف، ودم القران عليه، وإن إذن أحدهما دون الآخر رد على غير الآمر نصف نفقته وحده. أي: لو قال له: أنا سأخرج أحج عن فلان، فقال: اعمل لي عمرة، ودفع له الأجر عن ذلك، والذي يحج عنه لم يعرف هذا الأمر، فيرد له من النفقة نصفها؛ لأنه أتى بما أمر به، وإنما خالف في صفته لا في أصله، فأشبه من أمر بالتمتع فقرن.

حكم من استنابه رجل للحج أو العمرة ثم حج أو اعتمر

حكم من استنابه رجل للحج أو العمرة ثم حج أو اعتمر إذا أمره بالحج فحج ثم اعتمر لنفسه، أو أمره بعمرة فاعتمر ثم حج عن نفسه صح، ولم يرد شيئاً من النفقة؛ لأنه أتى بما أمر به على وجهه. وصورة المسألة: أنه أمره بالحج فحج، وبعدما أكمل مناسك الحج عمل عمرة عن نفسه فلا شيء عليه، ولا يلزمه أن يرد شيئاً من النفقة، أو أمره أن يعتمر فاعتمر وأنهى العمرة وانتظر، وفي أيام الحج حج عن نفسه، فلا شيء عليه؛ لأنه وفى للآخر؛ لأنه طلب عمرة فوفى عنه هذه العمرة، ولا يلزمه أن يرد شيئاً من النفقة.

مسائل متفرقة في الحج عن الغير

مسائل متفرقة في الحج عن الغير إن أمره بالإحرام من ميقات فأحرم من غيره، كأن قال له: أحرم عني من الجحفة فأحرم عنه من ذي الحليفة، فهنا هو أحرم من الميقات، فلا شيء عليه في ذلك، ولا يرد شيئاً من النفقة. وإن أمره بالإحرام من بلده فأحرم من الميقات، كما لو فرضنا أنه قال له: حج عني من هنا من الإسكندرية تلبس الإحرام وتلبي، فهو لم يفعل، وأحرم من الميقات من ذي الحليفة أو من رابغ، فهذا أتى بما طلبت منه الشريعة، فليس عليه أن يرد شيئاً من أجل أنه فعل ما أمر به شرعاً. وإن أمره بالحج في سنة أو بالاعتمار في شهر ففعله في غيره جاز؛ لأنه مأذون فيه في الجملة: فإذا أمره بالحج عنه في السنة المقبلة فحج عنه هذا العام فهذا خير له أنه فعل هذا الشيء الآن، وإن آخر في السنة التي بعدها، فهذا أيضاً صحت الحجة وله الأجر، ولكن يكره له أن يفعل ذلك؛ لأنه مأمور الآن، فالأمر يتوجه عليه أن يفعل هذا الذي أمر به الآن، وخاصة إذا قلنا: إن الحج يجب على الفور. وإن استنابه اثنان في نسك فأحرم به عنهما وقع عن نفسه دونهما؛ لأنه لا يمكن وقوعه عنهما. بمعنى: إذا استنابه اثنان في نسك واحد فأحرم به عنهما، فهذا قال له: حج عني، والثاني قال له: حج عني، وهذا لا يعرف أنه قد طلب منه غيره، فخرج يلبي: لبيك عن فلان وعن فلان، فمثل هذا لا يقع إلا عنه هو فقط ويغرم المال الذي أخذه لأصحابه، فهو إن أحرم عن نفسه وعن غيره وقع عن نفسه؛ لأنه لا تكون عن فلان وعن فلان نيتان والعمل واحد، فهذا لا يصح في الفريضة، إذاً: الذي يحج إما أن يحج عن واحد، وإما أن يحج عن نفسه. والحج عن نفسه هل سيكون تطوعاً أو فريضة؟ لا ينفع ابتداء أن أطلب ممن لم يحج عن نفسه أن يحج عني؛ فمن خرج يلبي عنه وعن فلان فهي عنه فقط، ويرجع لهما أجرتهما. وإن أحرم عن أحدهما غير معين، فلم يعين في نيته فلاناً هذا، بل قال له: حج عني، وأعطاه الأجرة، فقال: لبيك عن أحدهما، في هذه الحالة يعين أحدهما ويرد للآخر ماله، وإن وصل إلى الطواف بالبيت وما زال معلقاً أن الحجة هذه عن فلان وعن فلان وهو يطوف بالبيت فلا ينفع وتنقلب وتصير الحجة له هو، ويرد النفقات لأصحابها. وإذا جامع الأجير وهو محرم قبل التحلل الأول فسد حجه: فهذا أجير أو نائب ذهب ليحج عن فلان، ثم لما قضى بعض المناسك وقبل أن يتحلل التحلل الأول -والتحلل الأول لا يتم بأن يرمي جمرة العقبة أو يحلق شعره أو يذبح الهدي، فإذا تحلل التحلل الأول فهو ما زال متلبساً بالنسك- فإذا جامع قبل التحلل الأول فسد الحج، بخلاف ما بعد التحلل الأول فعليه دم، ولا يفسد حجه، ولو أفسد بالجماع قبل التحلل الأول فهو يفسده على نفسه، والحج ينقلب إليه هو، فهو الذي أفسد الحجة، ويمضي في الحجة الفاسدة، وعليه القضاء لهذه الحجة الفاسدة، وتلزمه الفدية، ويرد النفقة والأجرة لصاحبها، فإن كانت إجارة عين فيأتي بها واقعة عن الأجير ويرد الأجرة، وإن كانت في الذمة، أي: إذا عينت أن فلاناً هذا بعينه يحج عني هذا العام فلا تنفع حجة هذه السنة، ولا ينفع أن يحجها عنك مرة أخرى، وتنفسخ الإجارة، ويرد المال لصاحبه، ويلزمه القضاء بعد ذلك على ما ذكرنا. وإن كانت في الذمة -أي: ليست متعينة هذه السنة- فهي في ذمته، والحجة الفاسدة تنقلب إليه ولا يلزمه أن يرد المال، ولكن نقول له: بعدما تحج هذا العام الحج الفاسد ففي العام الذي يليه تقضي عن نفسك بعد ذلك وتحج عن صاحبك، وما زال الأمر متعلقاً بك. ولو أحرم الأجير عن المستأجر ثم صرف الإحرام إلى نفسه ظناً منه أنه ينصرف، وأتم الحج على هذا الظن، فلا ينصرف الحج إلى الأجير بل يبقى للمستأجر؛ لأن الإحرام من العقود اللازمة، فإذا انعقد على وجه لا يجوز صرفه إلى غيره. وصورة المسألة: أن إنساناً أحرم وهو أجير عن المستأجر، وقال: لبيك عن فلان، والأجير كان قد حج عن نفسه قبل ذلك، والآن هو نائب عن آخر، ثم بدا له أن يجعل هذه الحجة له ويرد المال لصاحبه، ومضى على هذه النية حتى أنهى المناسك، فقد وقع كل حجه عن صاحبه، وليس له أن يغير النية؛ لأن العقد صار لازماً بتلبيته عن فلان؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: (هذه عنك، ثم حج عن شبرمة)، فانقلبت إليه لكونه لم يحج عن نفسه قبل ذلك، فلو كان حج عن نفسه لصارت الحجة لفلان هذا طالما أنه لبى باسم فلان وقال: لبيك حجاً عن فلان ولم تنقلب، حتى لو زعم وظن الأجير أنها تنقلب هذه الحجة إليه، ويستحق الأجير الأجر المسمى لحصول غرض المستأجر. وإن خرج الحاج للحج فمات في الطريق، فهل يمكن أن نستنيب آخر يقوم مقامه ويكمل؟ الراجح أن هذا هو الأفضل، وأن يخرج من المكان الذي توفي فيه من يكمل له مناسك الحج، وتصح النيابة عنه في ذلك، أو فيما بقي من النسك، سواء كان إحرامه لنفسه أو لغيره؛ فإن كان لنفسه فهذا هو الأصل، وإن كان لغيره -النائب أو الأجير- فيكمل من هذا المكان إنسان آخر يحل محله، ويكمل المناسك عن هذا الإنسان؛ لأنها عبادة تدخلها النيابة، فإذا مات بعد فعل بعضها قضى عنه باقيها كالزكاة، والظاهر عدم وجوب ذلك؛ لأن العلماء اختلفوا في ذلك: هل يجب إكمال الحج عن هذا المتوفي أو لا يجب؟ فلو أن الذي يحج عن غيره كان نائباً أو أجيراً فلا بد أن تكمل الحج عن هذا الآخر؛ لأنه أخذ أجرة على ذلك ومات في الطريق، إذاً: ورثة هذا الأجير يكملون عنه هذه الحجة، لكن لو أن إنساناً ذهب يحج عن نفسه ومات في الطريق، فهل يلزم ورثته أن يأتوا بمن يكمل عنه المناسك؟ الراجح أنه لا يلزم ذلك؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فأوقصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم آخر أن يكمل الحج عنه، فدل على أن الذي يتوفى في الحج يبعث يوم القيامة ملبياً وله الأجر على ذلك، لكن وجوب الإكمال هو في حق الأجير الذي يأخذ أجرة على ذلك؛ لأن الإجارة في ذمته، وإذا توفي تنتقل إلى ورثته، فهم الذين يقيمون غيره ليكمل هذه المناسك عن صاحبهم؛ لأن المستأجر لم يستفد شيئاً، فالأجير هو الذي أحرم وصاحبه لم يتم عنه الحج، فعلى ذلك يلزمهم أن يكملوا هذه الحجة عنه.

من أحكام المستأجر وأنواع النسك

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - من أحكام المستأجر وأنواع النسك من تيسير الله عز وجل على عباده أن جوز لهم التوكيل والاستنابة في بعض العبادات، ومنها الحج، فيجوز للمعضوب الذي به مرض لا يرجى برؤه أن يستأجر من يحج عنه إذا كان قادراً على ذلك، كذلك يجوز لورثة الشخص الذي مات ولم يحج أن يستأجروا من يحج عن ميتهم، وهذا من فضل الله تعالى على عباده. والحج لا يكون إلا في أشهر الحج لورود الأحاديث الصحيحة بذلك. أما أنواع الحج فقد أجمع أهل العلم على جواز العمل بأحدها واختلفوا في الأفضلية.

الاستئجار للحج وأنواعه

الاستئجار للحج وأنواعه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ذكرنا فيما سبق مسائل في الأجير، وفي مخالفات الأجير إذا خالف في أمر الحج، فطلب منه أن يحج على طريقة معينة: قارناً أو مفرداً أو متمتعاً، أو أن يعتمر فخالف في ذلك. وهنا سنذكر إذا مات الأجير في أثناء الحج. وقد ذكرنا أن الراجح من كلام أهل العلم أنه يجوز الإجارة على فعل الحج فيكون نائباً، أو يكون أجيراً فيأخذ أجرة على ذلك بصورة أخرى. والفرق بينهما: أن النائب يأخذ تكاليف الحج، ويقوم بعمل الحج، وهو يحتسب الأجر عند الله عز وجل في ذلك، ويجوز أن يأخذ في النهاية جعلاً أو هدية على الذي فعله، لكن الأجير يشارط. والإجارة ضربان: إجارة عين، وإجارة ذمه. إجارة العين أن يكون ملزماً هو بنفسه أن يحج، ويعين له الوقت الذي يحج فيه، إما في هذا العام أو في العام التالي. أما الإجارة في الذمة فلو استأجر الأجير غيره يقوم بها، فجائز، سواء في هذا العام أو في العام الذي يليه، فهنا فرق بين الأجير المعين، وبين أن يكون أجيراً في الذمة.

صور وأحوال الأجير الذي يموت في أثناء الحج

صور وأحوال الأجير الذي يموت في أثناء الحج من المسائل التي سنذكرها: إذا مات الأجير في أثناء الحج له أحوال: الصورة الأولى: أن يموت بعد الشروع في الأركان وقبل الفراغ منها: في هذه الحالة سيأخذ الأجير أجرة على هذا العمل، وطالما أنه سيأخذ الأجرة فلا بد من إكمال هذا العمل. فإذا توفي هذا الأجير بعد الشروع في الأركان، وقبل الفراغ منها، فيستحق من الأجرة بقدر عمله، وبقدر سفره؛ لأنه عمل بعض ما استأجر عليه فوجب له قسطه، لكن على ورثة الأجير أن يستأجروا من يكمل الحج عن المستأجر، فإن أمكن ذلك في تلك السنة ببقاء الوقت فليفعل، وإن تأخر إلى السنة القابلة، فهنا يسقط الخيار وللمستأجر فسخ الإجارة. إذاً: إذا مات بعد الشروع في الأركان وقبل الفراغ منها، وذلك بأن وصل وطاف طواف القدوم، وسعى بعد طواف القدوم، ولكن لم يؤد منسك الحج الأكبر وهو الوقوف بعرفة؛ لأنه مات قبل ذلك، فهذا الذي توفي لم يتم الحج لمن يريد أن يحج عنه، فعلى ورثة هذا الأجير أن يستأجروا من يكمل الحج عن الذي توفي، فيقف بعرفة ويكمل بقية المناسك، أو أنهم يؤجلون الحج إلى السنة القادمة، فيستأجرون من يحج عنه، لكن في هذه الحالة من حق المستأجر أن يفسخ هذه الإجارة، وتكون حجة الأجير المتوفي عن نفسه، ويأخذ المستأجر المال؛ لأنه لم يكمل عنه حجه، وسيحتاج أن يجعل من يحج عنه بأجرة من جديد. الصورة الثانية: أن يموت بعد الشروع في السفر وقبل الإحرام: هذا الأجير أخذ أجرة على أنه سيحج عن فلان، وشرع في السفر، لكنه لم يحرم، فرضنا أنه ركب وقبل أن يصل إلى الجحفة مات هذا الأجير، فهذا يستحق من الأجرة بقدر ما سافر؛ لأنه لم يحج، بل لم يحرم. الصورة الثالثة: أن يموت بعد فراغه من الأركان وقبل فراغه من باقي الأعمال: يكون الأجير قد أدى أركان الحج: الإحرام، الطواف، السعي، الوقوف بعرفة، يكون قد فعل الأركان كلها، وبقية المناسك التي لم يفعلها فيها دم، لكن لو كان هذا الإنسان يحج عن نفسه وتوفي قبل أن ينتهي من الأركان فلا يلزم أن يكمل عنه هذا الشيء؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، وله أجره عند الله. وهذه الصورة كأن يبقي عليه رمي الجمرات فهذا من الواجبات، والمبيت بمنى فهذا من الواجبات، فعلى الورثة أن يوكلوا من يذبح ويوزع اللحم على فقراء الحرم، فعليه دم مكان كل واجب من الواجبات التي تركها، لكن لو كان الوقت باقياً كأن توفي يوم العيد مثلاً بعدما طاف وسعى وبقيت عليه الواجبات، فاستنابوا أو وكلوا غيره يقوم بهذا الشيء، فجائز، ولا يشترط فيها الإحرام؛ لأنه قد تحلل من الإحرام، ولا يلزم الدم، ولا ينقص شيء من الأجرة؛ لأن الحجة قد تمت.

حكم إحصار الأجير قبل إمكان الحج

حكم إحصار الأجير قبل إمكان الحج يقول: إذا أحصر الأجير قبل إمكان الأركان تحلل ولا قضاء عليه، ولا على المستأجر، يعني لا قضاء عليه إذا كان هذا اشترط وقال: محلي حيث حبستني، فيتحلل ولا شيء عليه، لكنه إذا لم يشترط، فعليه دم بسبب الأحصار. فنقول هنا: يتحلل ولا قضاء عليه، والحجة رجعت بأصلها لصاحبها، وكانت مستقرة عليه في ذمته، وعليه الحج مرة أخرى. ثم يقول: (كأنه أحصر وتحلل، فإن كانت حجة تطوع أو كانت حجة إسلام، وقد استقرت قبل هذه السنة بقي الاستقرار) يعني: ما زالت الحجة على من أراد الحج عنه، ولكن عليه الدم في الإحصار، لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] فإذا كان نائباً محضاً فالدم على الذي حججه عن نفسه، أي: على المستنيب الذي حج له. فهذا المستأجر سيأخذ أجرة، لكنه أحصر بعد الإحرام وقبل الشروع في الأركان، فعليه الدم في ذلك، ويخرج قيمة الدم من أجرته. هناك خلاف بين أهل العلم في هذه الصورة فمنهم من قال: الدم على الأجير باعتبار أنه هو الذي يباشر وسيأخذ أجرة على الذي فعل، أما المستأجر فلم تكن له حجة، وبعض أهل العلم قال: الدم على الذي استأجره باعتبار أن الحج له؛ لأنه لو ذهب بنفسه فسيحصر في هذه الحالة. إذاً: طالما أن الأجير سيأخذ أجرة على ذلك فليكن الدم على الأجير، فإن كان نائباً من غير أجرة فالدم على المستنيب. وإن كان استطاعها هذه السنة سقطت الاستطاعة، يعني: أن المستأجر استطاع الآن الحج بالغير، والمستطيع إما مستطيع بالنفس، وإما مستطيع بالغير، فهذا مستطيع بالغير، فيستأجر غيره عن نفسه، فإذا قام فاستأجر الأجير وذهب وأحصر فهو الآن غير مستطيع، فلا يجب عليه إلا أن يستطيع مرة ثانية، وإن لم يتحلل الأجير وقد أحصر، ودام على الإحرام حتى فاته الحج انقلب الإحرام إليه كما في الإفساد؛ لأنه مقصر حيث لم يتحلل بأعمال عمرة، وعليه دم الفوات، وليس على المستأجر؛ لأنه مقصر حيث لم يتحلل بأعمال عمرة، وعليه دم الفوات.

حكم حصول الفوات بنوم أو تأخير من الأجير

حكم حصول الفوات بنوم أو تأخير من الأجير قال: (لو حصل الفوات بنوم أو تأخر)، هذه الصورة غير الصورة الماضية، الصورة الماضية أحصر وأصر على إحرامه حتى فاته الحج، فهذه عليه دم الفوات. لكن لو كان الفوات بنوم أو بتأخير، كأن يفوته الوقوف بعرفة بسبب النوم، هذا الأجير قصر حتى أفسد هذه الحجة، فعليه أن يرد المال لصاحبه الذي استأجره. قوله: (لو حصل الفوات بنوم أو تأخر عن القافلة أو غيرهما من غير إحصار انقلب المأتي به إلى الأجير، أيضاً كما في الإفساد، ولا شيء للأجير) وذلك لأنه مفرط وليس بإحصار ولا بغيره.

إذا استأجر المعضوب من يحج عنه فأحرم الأجير عن نفسه

إذا استأجر المعضوب من يحج عنه فأحرم الأجير عن نفسه قال: (لو استأجر المعضوب من يحج عنه، فأحرم الأجير عن نفسه تطوعاً). يعني: لو استأجر المعضوب الذي هو المريض مرضاً مزمناً لا يرجى برؤه، ومع شدة مرضه لا يقدر على الذهاب للحج، أو كان ضعيفاً ضعفاً شديداً لا يقدر معه على ركوب الراحلة للسفر لأداء الحج، ولا يقدر على أداء المناسك، فاستأجر من يحج عنه، فأحرم الأجير عن نفسه تطوعاً يعني: أن الأجير قال: لبيك حجة، لبى عن نفسه حجة تطوع، فهذه الحجة تكون للأجير. الصورة الأولى: أنه أحرم عن المستأجر أو عن المستنيب، ثم بعد ذلك حول النية وجعل الحجة عن نفسه، فهذا لا يصلح، وإنما الحجة للمستأجر أو المستنيب، فطالما أنه أحرم عن فلان فليستمر الإحرام عن فلان، حتى لو أنه أراد ذلك وغير لم ينقلب الإحرام عن فلان. الصورة الثانية: بدأ الإحرام عن نفسه، فكأنه خدع صاحبه وحج عن نفسه، فهذا تكون الحجة تطوعاً له، ويرد الأجرة لصاحبه.

حكم من أحرم عن رجلين معا أو عن أحدهما وعن نفسه أو عن أحدهما لا بعينه

حكم من أحرم عن رجلين معاً أو عن أحدهما وعن نفسه أو عن أحدهما لا بعينه قال: (لو استأجر رجلان رجلاً يحج عنهما فأحرم عنهما معاً انعقد إحرامه لنفسه تطوعاً، ولا ينعقد لواحد منهما؛ لأن الإحرام لا ينعقد عن اثنين، وليس أحدهما أولى من الآخر، ولو أحرم عن أحدهما وعن نفسه معاً انعقد إحرامه عن نفسه أيضاً؛ لأن الإحرام عن اثنين لا يجوز وهو أولى من غيره فانعقد له. فإذا استأجره اثنان ليحج عنهما، أو أمراه بلا إجارة، فأحرم عن أحدهما لا بعينة انعقد إحرامه عن أحدهما، وكان له صرفه إلى أيهما شاء قبل التلبس بشيء من أفعال الحج، يعني: لو أنه حج عن رجلين فأحرم عن أحدهما لا بعينه، فيجوز له أن يحول النية إلى واحد منهما، وذلك كمن يحرم قارناً أو متمتعاً فله أن يغير النية، كذلك هنا في هذه الصورة لو أحرم عن أحدهما لا بعينه فله أن يعين هذه الحجة عن فلان، أو عن فلان، لكن قبل التلبس بشيء من أفعال الحج، وأما بعد التلبس بشيء من أفعال الحج فلا يصلح حجاً بغير نية، وفي هذه الحالة يلزمه أن يرد الأجرة لصاحبها.

آداب الحج

آداب الحج من فرض على نفسه الحج فعليه التأدب بآدابه كما ذكرنا في العمرة قبل ذلك، قال الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] هذه من آداب الحج قوله: (من فرض فيهن) يعنى: من أوجب على نفسه فيهن الحج وألزم نفسه به. وقوله: ((فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)) قال أهل العلم: المراد بالرفث، الجماع، وكذلك التعرض للنساء بالجماع، أو ذكر الجماع في حضرة الزوجة وغير ذلك، وكونه يذكر الجماع في حضرة النساء ممنوع. قوله: ((وَلا فُسُوقَ)) الفسوق هي: المعاصي قوله: ((وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)) الجدال بمعنى أن يماري صاحبه حتى يغضبه، إلا أن يكون الجدل لنصرة دين الله سبحانه وتعالى، واحتاج إلى ذلك، أما غير ذلك فالأصل أنه منهي عن الجدال، وسميت المخاصمة مجادلة؛ لأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن غيره ويصرفه عنه، كأنه مأخوذ من الجدل أي: الحبل المفتول. فكل واحد يريد أن يصرف صاحبه عن رأيه إلى الرأي الذي اختاره هو، وظاهر الآية - ((فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)) - النهي، يعني: كأنه يقول لنا هنا: لا ترفثوا ولا تفسقوا، ولا تجادلوا.

أشهر الحج

أشهر الحج قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أشهر جمع شهر، والحج شهران وبعض من الثالث فلذلك جمع، فأهل العلم قالوا: على أن في قوله سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} [البقرة:197] تقديراً، والتقدير فيها: أشهر الحج أشهر معلومات، فهنا (أشهر): المقدرة كأنها مبتدأ، والحج، مضاف إليه، فحذف المضاف الذي هو المبتدأ، وأقيم المضاف إليه مقامه، وأخذ إعرابه، هذا التقدير الأول. التقدير الثاني: الحج حج أشهر معلومات، الحج مبتدأ، وحج أشهر معلومات خبر. إذاً المعنى: لا حج إلا في هذه الأشهر المعلومات، فلا يجوز في غيرها، خلافاً لما كان أهل الجاهلية تفعله من حجهم في غيرها. إذاً: لا ينعقد الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج، وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة آخرها طلوع الفجر ليلة النحر. ويجوز أن يقال: ذو القِعدة، وذو القَعدة، وإن كان الأشهر ذو القَعدة، كذلك ذو الحِجة، يجوز فيه الحجة والحَجة كما قدمنا قبل ذلك.

حكم انعقاد الإحرام في غير أشهر الحج

حكم انعقاد الإحرام في غير أشهر الحج اختلف العلماء في مسألة: هل ينعقد الإحرام في غير أشهر الحج، وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة؟ قال بعض العلماء: إنه لا ينعقد الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج، وهذا مذهب الشافعية وبه قال عطاء وطاوس، ومجاهد، وأبو ثور وهذا منقول عن عمر، وابن مسعود، وجابر، وابن عباس، ومنقول عن الإمام أحمد، وإن كان الأشهر في المذهب عن الإمام أحمد أنه يجوز أن يحرم في أشهر الحج وفي غيره من الأشهر، ولكن لا تقع الأعمال إلا في أشهر الحج. وذهب النخعي، والثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأحمد إلى أنه يجوز قبل أشهر الحج ولكن يكره ذلك. الإحرام قبل فيه مشقة على الإنسان، ولم يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فحتى من قال بجواز الإحرام قبل أشهر الحج قالوا: يكره هذا الشيء، فعلى هذا لا ينبغي لمسلم أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج التي ذكرها الله سبحانه وتعالى. القائلون بجواز الإحرام قبل أشهر الحج مع الكراهة استدلوا بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] يعني: كل الأهلة كذلك. أما من قال: لا ينعقد الإحرام إلا في أشهر الحج فقال: إن قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] قد جاء مطلقاً، فيحتمل أن من الأهلة ما هو مواقيت للناس، مثل حل وقت الديون، وحل وقت المرأة الذي تعتد من الوفاة أو من الطلاق وغير ذلك، فهي مواقيت لهذا الشيء، ومنها مواقيت للحج في أشهر الحج، فقالوا: هذه الآية بإطلاقها قيدتها الآية الأخرى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]. فإذاً: قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] تقديره: أن أشهر الحج من ضمن الأشهر الباقية التي هي أشهر العام، ومنها الأشهر المعلومة التي تكون فيها المناسك وهي أشهر الحج، ولا ينعقد الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج، وأشهر الحج هي شوال وذو القِعدة، وعشر ليال من ذي الحجة آخرها طلوع الفجر من يوم النحر.

أقوال العلماء في تحديد العشر من ذي الحجة هل بالليالي أم بالأيام

أقوال العلماء في تحديد العشر من ذي الحجة هل بالليالي أم بالأيام مسألة: اختلف العلماء: هل أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة أو وعشرة أيام من ذي الحجة؟ قال بعض أهل العلم ومنهم الشافعية: على أن اشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، وهذا القول مروي عن ابن مسعود وابن الزبير والشعبي، وعطاء، ومجاهد، وقتادة، والنخعي، والثوري، وأبي ثور، وقال به أبو يوسف من الأحناف، وقال به: داود. وذهب غيرهم من العلماء منهم: أبو حنيفة، والإمام أحمد، وأصحاب داود بن علي إلى أن أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة. الخلاف في يوم العيد نفسه هل هو داخل فيها أم لا؟ الذي قال: لا يدخل قال في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة:197] من الممكن أن تفرض الحج في شوال وذو القعدة وذي الحجة إلى ليلة عشرة من ذي الحجة يمكن أن تذهب إلى عرفات ليلة العيد، لكن غير ممكن يوم العيد أن تفرض الحج، إلا على قول من يقول بأنه يجوز الحج في العام كله، ويبقى محرماً طوال العام، وهذا فيه نظر، لذلك الصواب أن الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فستبقى العشر الليال من شهر ذي الحجة من أشهر الحج، أما أن تفرض الحج بعد ذلك فلا، إلا أن تجوز الإحرام في السنة كلها. فإذاً: الذين قالوا: عشرة أيام، قالوا بأن يوم العيد أكثر المناسك تكون فيه، فكيف يوم العيد لا يكون داخلاً في أشهر الحج؟ فأنت تصلي الفجر يوم العيد في المزدلفة ثم تخرج إلى منى وترمي الجمرات وهي من ضمن المناسك، وتحلق شعرك وتنحر الهدي، ثم تذهب فتطوف بعد ذلك، ثم تبيت في منى، وهو يوم الحج الأكبر. نقول: وإن كان من أيام الحج وفيه المناسك، لكن ليس فيه فرض الحج، إنما الفرض في ليلته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة)، فأنت حتى تنال الحج لا بد أن تقف بعرفة. ومن أحرم بالحج في غير أشهر الحج لم ينعقد الحج وإنما ينعقد عمرة مجزئة عن عمرة الإسلام، فلو أن إنساناً عقد حجاً في يوم العيد وقال: لبيك حجاً فلا ينعقد لهذا الإنسان حج، لكن الذي عقد الإحرام يتحلل بعمرة، والراجح أنها مجزئة عن عمرة الإسلام. فأما إذا أحرم بنسك مطلقاً قبل أشهر الحج، في رمضان أحرم وقال: لبيك اللهم لبيك لم يعين حجة ولا عمرة وإنما نسك مطلق، فنقول: ينقلب إحرامه عمرة؛ لأن الوقت لا يقبل إلا العمرة على الراجح. لا يصح في سنة واحدة أكثر من حجة؛ لأن الوقت يستغرق أفعال الحجة الواحدة، إلا في مسائل دقيقة جداً ويلغز بهذه المسائل، كأن يذهب الإنسان ليعمل حجة، ومنع من هذه الحجة، وقدر له أن يرجع مرة أخرى، على تفصيل يذكره العلماء في ذلك، وهي أنه أحصر، فتحلل بأعمال عمرة فرجع فلما رجع إلى الميقات تمكن من أن يذهب مرة ثانية، فكأن هذه الحجة قضاء عن هذه في العام الواحد. هذه صورة من الصور التي ذكرها العلماء في ذلك، لكن الأصل أنه لا يصح في سنة واحدة أكثر من حجة؛ لأن الوقت يستغرق أفعال الحجة الواحدة؛ ولأنه لا يفرغ من أفعال الحج إلا في أيام التشريق، ويتعذر الوقوف بعرفة في السنة الواحدة مرتين.

أنواع الإحرام

أنواع الإحرام يجوز الإحرام على خمسة أنواع: إما تكون مفرداً أو متمتعاً، أو قارناً، أو تطلق الإحرام، أو تعلق الإحرام، هذه خمس صور ممكن يكون الإحرام على واحد منها. الأول: الإفراد: هو أن يهل بالحج مفرداً، فيقول: لبيك حجة. الثاني: المتمتع: وهو أن يهل بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحج، فإذا فرغ منها وتحلل أحرم بالحج من عامه. يعني: يبقى حلالاً ما بين عمرته وبين الحج، وحج من عامه هذا، فتمتع بالعمرة إلى الحج. الثالث: القران: هو أن يهل بالحج والعمرة معاً، أي: يجمع بينهما في الإحرام بهما، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف، بأن يقول: لبيك عمرة وحجة، أو حجةً وعمرة، ويعمل المناسك كلها كما سنفصل فيها، وهذه الأركان تغني عن الحج وعن العمرة وتجزئ عنهما. أو أنه أحرم بعمرة وقبل أن يطوف بالبيت أدخل عليه الحج، قال: لبيك عمرة، فقبل أن يطوف أدخل الحج على العمرة فصار قارناً. الرابع: الإطلاق: وهو أن يحرم بنسك مطلقاً ثم يصرفه إلى ما يشاء، فرضنا أنه ذهب إلى الميقات ولبَس الإحرام وقال: لبيك اللهم لبيك، وأطلق الإحرام فله قبل أن يطوف بالبيت أن يصرفه إلى ما يشاء أما ينوي حجة أو عمرة أو يجمع بينهما، هذا قبل الطواف بالبيت، أما بعد الطواف فهو إما أن يكون نوى حجة وطاف طواف القدوم، أو أن ينوي عمرة. الخامس التعليق: وهو أن يحرم فيقول: إن فلاناً سيحج معنا هذه السنة، فأنا أريد أن أعمل مثله، فيقول: لبيك بإحرام كإحرام فلان، كما فعله بعض الصحابة فأحرموا بتلبية كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وجعلهم قارنين مثله، هذا من كان قد ساق الهدي منهم. إذاً: هذه الأنواع الخمسة جائزة.

أقوال العلماء في أفضل أنواع الإحرام

أقوال العلماء في أفضل أنواع الإحرام أنواع الإحرام إما أن يكون مفرداً أو متمتعاً أو قارناً أو يعلق على إحرام فلان أو يطلق، والتعليق والإطلاق جائزان، نقول: الأفضل واحد من هؤلاء: إما أن يكون مفرداً أو متمتعاً أو قارناً. أجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة، وهي: الإفراد والتمتع والقران، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بأن يكونوا متمتعين، فهذا خاص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أمرهم وألزمهم بذلك صلى الله عليه وسلم، ليغير ما كان في الجاهلية من أشياء، ويعلمهم الجواز في ذلك. فإذا كان أهل العلم قد أجمعوا على أن الثلاثة الأنساك جائزة فلا يجوز الإنكار في المسائل التي أجمع فيها العلماء، وإنما الخلاف في أيها أفضل؟ لقد نقل الإجماع على ذلك ابن قدامة في المغني، والنووي في المجموع، ونقل هذا الإجماع غيرهما، لكن أيها الأفضل من المناسك الثلاثة؟ نقول: ننظر إلى الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن مجموعها سنختار الأفضل، نقول: إن الذي يحج إما أن يكون قد ساق معه الهدي، فأفضل المناسك له القران؛ لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه لم يسق معه الهدي، فالأفضل في حقه التمتع؛ لأن هذا تمناه النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأمر به أصحابه من لم يسق الهدي منهم. إذاً: الأفضل لمن ساق الهدي القران؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرن حين ساق الهدي، ومنع كل من ساق الهدي من الحل حتى ينحر هديه. وأما من لم يسق الهدي فالتمتع له أفضل، لأن هذا هو الذي أمر به أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي.

الأحاديث الواردة في أنواع الإهلال والإنساك

الأحاديث الواردة في أنواع الإهلال والإنساك في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفراً. يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يتحللوا ويجعلوها عمرة؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن من أفجر الفجور أن تعتمر في أشهر الحج، فكان هذا الأمر مستقراً في نفوس الكثير من الناس، فحج مع النبي صلى الله عليه وسلم أعداد كثيرة، فخرج معه من المدينة ألوف، ولما وصل إلى مكة كانوا أعداداً غفيرة مع النبي صلى الله عليه وسلم جاءوا من أماكن شتى؛ لأنهم علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم سيحج فأحبوا أن يحجوا معه، فأراد أن يعلم هؤلاء جميعهم أنه يجوز العمرة في أشهر الحج، فكانت وسيلة ذلك أن يأمر الجميع أن يحلوا الإحرام وأن يجعلوها عمرة؛ لبيان جواز فسخ الحج إلى العمرة، ثم يحرمون بعد ذلك بالحج. إذاً: أراد أن يبين لهم أنما كان يقوله أهل الجاهلية، هو كلام باطل، وأنه يجوز في أشهر الحج أن تعتمر، وأن تكون متمتعاً. لذلك فإن ابن عباس يبين لنا في هذا الأثر الذي في الصحيحين أن أهل الجاهلية كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج، من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفراً، من أجل أن يقاتل بعضهم بعضاً في هذا الشهر، وهذا هو النسيء الذي قال عنه الله عز وجل: زيادة في الكفر، وكانوا يقولون قولاً مسجوعاً من أجل أن يقعدوا قاعدة من قواعدهم الباطلة، قال ابن عباس: ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر يقولوا هذا الشيء من أجل أن يقننوا قانوناً بهذا الكلام المسجوع الذين يقولونه. قوله: (إذا برأ الدبر) يعني: البعير لما يركب عليه أثناء موسم الحج ذهاباً وإياباً تحصل له جروح في ظهره، هذا هو الدبر (وعفا الأثر) أي: أثر المسير في الحج. قوله: (وانسلخ صفر) يعني: كانوا يسمون شهر المحرم صفراً، قوله: (حلت العمرة لمن اعتمر) يعني: لا تصح العمرة في أشهر الحج. ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ قال: حل كل)، يعني: حل الإحلال الكامل من العمرة، إذا أديت العمرة تصير حلالاً، ويجوز لك أن تقلم أظفارك وأن تقص شعرك وأن تأتي النساء. أيضاً: في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: (قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول: لبيك اللهم لبيك بالحج) يعني: كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مفردين للحج، يقولون: لبيك حجاً، ثم قال: (فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلناها عمرة). وفي رواية أخرى (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل هو وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة، وقدم علي من اليمن ومعه الهدي، فقال: أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة ويطوفوا ثم يقصروا ويحلوا، إلا من كان معه الهدي). فقالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت، وحاضت عائشة رضي الله عنها فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت، فلما طهرت طافت بالبيت فقالت: يا رسول الله، تنطلقون بحجة وعمرة وأنطلق بحج، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج). في هذا الحديث أنهم أنكروا وتعجبوا وقالوا: كيف نأتي النساء ونذهب إلى منى بعد ذلك، وهذه العلة التي ذكروها عرفها النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أمرهم بأن يحلوا، فإن علل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كراهته للتمتع لهذا السبب فالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حجة على من منع بهذه العلة؛ لأن العلة عرفها النبي صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك أمرهم أن يحلوا من حجهم وأن يجعلوها عمرة، ثم يحرمون بعد ذلك بالحج. في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج وليالي الحج وحُرم الحج فنزلنا بسرف، قالت: فخرج إلى أصحابه فقال: من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه الهدي فلا). والحديث الذي جاء قبل ذلك عن جابر قال: (ونحن نقول: لبيك اللهم لبيك بالحج) يعني: أنهم أهلوا بالحج، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لهؤلاء المهلين بالحج: (من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل). فقالت عائشة رضي الله عنها: (فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه، قالت: فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجال من أصحابه، فكانوا أهل قوة، وكان معهم الهدي فلم يقدروا على العمرة) يعني: طالما أنه ساق الهدي وهو قد نوى الحج فليس له أن يفسخ الحج إلى عمرة؛ لأن معه الهدي، كذلك، من كان قارناً مثل النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أن يتحلل بعمرة؛ لأنه ساق معه الهدي. إذاً: من كان معه الهدي ولبى بالحج فليس له أن يفسخ إلى عمرة. وفي الصحيحين أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أهل النبي صلى الله عليه وسلم بالحج وأهللنا به معه، فلما قدمنا مكة قال: من لم يكن معه هدي فليجعلها عمرة، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم هدي، فقدم علينا علي بن أبي طالب من اليمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بما أهللت فإن معنا أهلك؟ يعني: السيدة فاطمة كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأمسك فإن معنا هدياً). فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن معنا أهلك) يعني: لو أن إهلالك إهلال بعمرة لكان ذلك الإهلال بعمرة لك، لكن مادام أنك أهللت بحج وأنت معك الهدي فليس لك أن تفسخ هذا الحج؛ لأنك سقت الهدي معك، وكان إهلاله رضي الله عنه معلقاً، حيث قال: (أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم فأمسك) يعني: ابق على إحرامك، وليس لك أن تأتي النساء، (فأمسك فإن معنا هدياً). هذه الأحاديث المتفق عليها فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نقل من لم يسق الهدي من الإفراد والقران إلى المتعة.

الراجح في بيان فضل أحد المناسك الثلاثة

الراجح في بيان فضل أحد المناسك الثلاثة أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يسق الهدي أن يحل يدل على أن التمتع أفضل، إذ لو كان ما هم فيه أفضل لتركهم صلوات الله وسلامه عليه، لكن من ساق الهدي فالأفضل له أن يظل على ما هو عليه، سواء كان مفرداً أو قارناً، فالراجح هو أن الأفضل القران لمن ساق الهدي؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحج بعد هجرته إلا مرة واحدة، ولا يكون حجه فيها إلا بأفضل ما يكون، وكانت آخر حجة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وسميت بحجة الوداع، وكان يقول: (لعلي لا أحج بعد عامي هذا) فكونه يحج حجة واحدة فيفعل فيها ذلك، فهذا يدل على أنه أفضل ما يكون من المناسك، ولذلك قلنا: إن أفضل المناسك القران لمن ساق الهدي، ومن لم يسق الهدي يكون أفضل المناسك له التمتع؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم تمنى ذلك. لم يختلف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلوا إلا من ساق هديه، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت على إحرامه، قال جابر: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نحل، وقال: أحلوا وأصيبوا من النساء، ولم يعزم عليهم، ولكن أحلهن لهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنا نقول: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نحل! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون فحلوا، فلو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، فحللنا وسمعنا وأطعنا). قوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت) يعني: أنه نقلهم إلى التمتع وتأسف إذ لم يمكنه ذلك، فدل على فضل التمتع؛ لأنه تمناه النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: من لم يسق الهدي فالأفضل في حقه التمتع؛ لأن التمتع منصوص عليه في القرآن، قال الله عز وجل: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] ولأن المتمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما وكمال أفعالهما على وجه اليسر والسهولة فمن ضمن المرجحات للتمتع: أن المتمتع يأتي بعمرة كاملة ويأتي بحج كامل، ولا يدخل منسك في منسك. لكن قد يقال في ذلك: إن المتمتع استمتع بأنه كان حلالاً ولم يكن عليه مشقة بين العمرة إلى الحج. أما القارن فإنما يأتي بأفعال الحج، وتدخل أفعال العمرة فيه. أما المفرد: فهو يأتي بالحج وحده، وإن اعتمر بعده من التنعيم فقد اختلف في إجزائها عن عمرة الإسلام، والراجح أنها مجزئة ولكن فيها خلاف، والأمر الذي ليس فيه خلاف أفضل من الذي فيه خلاف. أما جواز أنواع النسك كلها فيدل عليه حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة وعمرة، ومنا من أهل بالحج)، وأجمع العلماء على أنه تجوز المناسك الثلاثة، فلا وجه للمنع من واحد منها إلا التفضيل، ثم قالت: (وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فأما من أهل بالحج، أو جمع الحج والعمرة لم يحل حتى كان يوم النحر) وهذا الحديث في الصحيحين. وفي رواية مسلم: (منا من أهل بالحج مفرداً، ومنا من قرن، ومنا من تمتع) يعني: نصت على أنواع المناسك التي أجمع العلماء بعد ذلك عليها. وفي رواية للبخاري: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم كان أهل بالحج حتى قيل له في وادي العقيق: (صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة) يعني: أدخل العمرة على الحج. وفي الحديث هنا: (فأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة لم يحل حتى كان يوم النحر)، وهذا من المرجحات لأفضلية التمتع، أما المرجحات للقران فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، أما الذين رجحوا الإفراد، وهذا هو مذهب الشافعي فقالوا: إن الإفراد أفضل باعتبار أنه سيسافر للحج، وأنه سيسافر سفراً آخر للعمرة، فقالوا: هذا فيه مشقة أكثر، فيكون الإفراد أفضل، واحتجوا أيضاً بأن الصحابة كلهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أو أكثرهم وهم ينوون الحج، ثم أمرهم بالفسخ بعد ذلك، وهو نفسه صلى الله عليه وسلم أول ما خرج كان ينوي الحج، حتى قيل له في وادي العقيق: (قل عمرة في حجة). وفي حديث عائشة رضي الله عنها (وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج) وفي رواية: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج). وفي رواية في الصحيحين: قالت: (خرجنا لا نرى إلا الحج) إلى آخر الحديث. أما من رجح القران فقد احتج بقول الله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وهذا مشهور عن علي رضي الله عنه أنه قال: (أتمامهما: أن تحرم بهما من دويرة أهلك) أي: أن تحرم بالاثنين مع بعض. وبما رواه مسلم عن بكر بن عبد الله المزني عن أنس قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعاً قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر فقال: لبى بالحج وحده، قال بكر: فلقيت أنساً فحدثته بقول ابن عمر فقال أنس: ما تعدوننا إلا صبياناً، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك عمرةً وحجاً) وصدق الاثنان: صدق أنس وصدق ابن عمر، فـ ابن عمر سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج فقط، وأنس كان مع النبي صلى الله عليه وسلم وتحت ناقته فسمعه وهو بالعقيق يهل بالاثنين. وفي حديث آخر أن الذي سمعه في العقيق هو عمر رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: أتاني آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل عمرةً في حجة). فـ عبد الله بن عمر شاهد البداية، وأنس بن مالك شاهد بعد ذلك لما أدخل العمرة على الحج صلوات الله وسلامه عليه. وروى مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه). وروى أبو داود والنسائي عن الصبي بن معبد قال: (كنت رجلاً أعرابياً نصرانياً فأسلمت فأتيت رجلاً من عشيرتي يقال له: هذيم بن ثرملة فقلت له: يا هناه -يعني: يا هذا- إني حريص على الجهاد وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي، فكيف لي بأن أجمعهما؟ قال: اجمعهما واذبح ما استيسر من الهدي، فأهللت بهما معاً، فلما أتيت العُذيب لقيني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما جميعاً، فقال أحدهما للآخر: ما هذا بأفقه من بعيره، قال: فكأنما ألقي علي جبل، حتى أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقلت له: يا أمير المؤمنين إني كنت رجلاً أعرابياً نصرانياً، وإني أسلمت وأنا حريص على الجهاد، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي، فأتيت رجلاً من قومي فقال لي: أجمعهما واذبح ما استيسر من الهدي، وقد أهللت بهما معاً، فقال لي عمر رضي الله عنه: هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم). هنا في هذا الحديث أن الرجل قال: (إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين). ولم يخطئه عمر رضي الله عنه، بل قال له عمر: (هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم) وهذا كان قارناً بين الحج والعمرة، فصوبه فيما صنعه. وفي الصحيحين عن حفصة رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟ فقال: إن لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر) يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لكونه ساق معه الهدي عليه الصلاة والسلام لم يحل. قوله: (إن لبدت رأسي) تلبيد الرأس: هو وضع شيء من الصمغ على شعر الرأس، خاصةً إذا كان طويلاً، وهذا التلبيد يمنع دخول الهوام فيه. إذاً: الراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم أولاً بالحج مفرداً، ثم أدخل عليه العمرة فصار قارناً صلى الله عليه وسلم، للحديث (صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرةً في حجة). فمن روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفرداً أراد أول الإحرام مثل ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، ومن روى أنه كان قارناً مثل ما جاء عن أنس اعتمد آخره، لما قيل له: (قل عمرة في حجة)، ومن روى أنه كان متمتعاً فليس المعنى أنه أحل، وإلا كان هناك تناقض بين الأحاديث، وإنما قصد التمتع اللغوي، يعني: أنه أسقط أحد نسكيه، وعمل واحداً يجزئ عن الاثنين؛ لما فيه من التخفيف، فهو فعل أفعال الحج ودخلت فيه العمرة من غير إعادة لها بأفعال أخرى، فسماها تمتعاً بذلك؛ لأنه أسقط أحد نسكيه عن نفسه بفعل النسك الآخر.

أقسام إحرام الصحابة

أقسام إحرام الصحابة أما الصحابة رضوان الله عليهم فكانوا ثلاثة أقسام: قسم أحرموا بحج وعمرة، أو بحج ومعهم هدي فبقوا عليه حتى تحللوا منه يوم النحر. وقسم آخر: أحرموا بالعمرة فبقوا في عمرتهم حتى تحللوا قبل يوم عرفة، ثم أحرموا بالحج بعد ذلك من مكة. وقسم أحرموا بحج وليس معهم هدي، وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقلبوا حجهم عمرة، وهو معنى فسخ الحج إلى العمرة. فمن روى أنهم كانوا قارنين أو متمتعين أو مفردين فقد قصد البعض من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم فسخ الحج إلى العمرة

حكم فسخ الحج إلى العمرة يجوز فسخ الحج إلى العمرة، فمن قال: لبيك حجةً، وبعد أن وصل للبيت بدا له أن يجعله عمرة، فيجوز له ذلك، بل يستحب لمن كان مفرداً أو قارناً إذا طاف وسعى أن يفسخ نيته بالحج وينوي عمرةً مفردة، فيقصر ويحل من إحرامه ليصير متمتعاً إن لم يكن وقف بعرفة. أيضاً من طاف بالبيت وسعى جاز له أن يقلبها عمرة، وإن كان الأفضل أنه يفسخ قبل أن يطوف بالبيت، حتى تكون النية من البداية أن هذا طواف الركن للعمرة. وفي الصحيحين عن جابر في صفة حجة الوداع قال: (حتى إذا كان آخر طوافه على المروة قال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة) وهذا فيه أنه يجوز للمرء بعد طوافه بالبيت أن يفسخ حجه ويجعله عمرة. إذاً: من نوى الحج مفرداً، وطاف طواف القدوم ثم سعى بين الصفا والمروة السعي المجزئ عن الحج -لأنه يجوز أن يقدم السعي مع طواف القدوم ويطوف بعد ذلك طواف الركن الذي به الحج- فيجوز له أن يجعل ذلك عمرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر من فعل ذلك أن يجعله عمرة، فجاز مثل ذلك لأمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (من كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين) يعني: تجوز العمرة في أشهر الحج إلى الأبد في أي وقت من الأوقات وفي أي سنة من السنين، وليست خاصة بهؤلاء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم. وأيضاً في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكر مثل ذلك ثم قال: (فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ فقال: حل كله). كذلك في رواية أخرى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يجعلوها عمرة) كل ذلك يبين أنه يجوز قبل الطواف بالبيت أن يفسخ أعمال الحج إلى عمرة، وبعد الطواف بالبيت يجوز الفسخ أيضاً. والله أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شروط وجوب دم التمتع وصفته وما يتعلق به من أحكام

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - شروط وجوب دم التمتع وصفته وما يتعلق به من أحكام من مناسك الحج التي ينبغي للحاج معرفتها: الهدي المترتب على الحج بنية التمتع أو القران، ومتى يجب هذا الدم على الحاج، ومتى يثبت البدل عن الهدي وهو صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، والحكم إذا مات الحاج بعد الانتهاء من مناسك الحج وهل عليه هدي أم صوم بدل الهدي.

أنواع الإحرام

أنواع الإحرام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ذكرنا في الحديث السابق: أن الإحرام بالحج يجوز على وجوه: إما أن يكون محرماً بالحج، أو يكون متمتعاً بالعمرة إلى الحج، فيأتي بالعمرة في أشهر الحج، ثم يتحلل منها، ثم يحرم بالحج بعد ذلك، فهذا المتمتع، وهذا جائز، كذلك القارن الذي يخرج بحج وعمرة معاً يلبي في وقت الإحرام فيقول: لبيك عمرة وحجة أو حجة وعمرة، ويجوز كذلك الإحرام المطلق والإحرام المعلق. الإحرام المطلق أن يقول: لبيك اللهم لبيك، ثم بعد ذلك قبل أن يطوف بالبيت يحول هذا الإحرام إما إلى عمرة وإما إلى حج وإما بحسب ما يريد أن يصنع في المنازل، والإحرام المعلق أن يقول: لبيك إحراماً كإحرام فلان، كأن يكون حج مع إنسان هو أعلم منه ويريد أن يقتدي به فيقول ذلك، فهذا الإحرام المعلق ذكرناه قبل ذلك، وفعله بعض من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم يمسك ويظل محرماً؛ لكونه ساق الهدي فجعله قارناً معه صلى الله عليه وسلم. وذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حجة الوداع خرجوا من المدينة: منهم من أهل بعمرة، ومنهم من أهل بحج، ومنهم من أهل بالاثنين معاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من المدينة قد أهل بالحج، وجاء له في وادي العقيق جبريل بعد ذي الحليفة وقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة؛ فصار قارناً صلوات الله وسلامه عليه. وفيه: أنه أدخل العمرة على الحج، ولكن قبل أن يصل إلى البيت جلس في وادي العقيق، ولذلك اختلف العلماء فيمن أراد إدخال العمرة على الحج بعدما بدأ في الطواف بالبيت، فالذي عليه الجمهور: أنه لا يجوز ذلك، لأنه لن يزيد شيئاً في أعمال الحج التي يعملها، ولو كان العكس يعمل أعمال عمرة فأدخل عليها الحج فإنه أدخل الكثير على القليل، فالجمهور على أنه لا يجوز؛ لأنه لم يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم إلا بعد إحرامه في ذي الحليفة، فأحرم بالحج ثم أدخل العمرة عليه وهو هناك في وادي العقيق. وذكرنا: أنه يجوز لمن أحرم بالحج وقبل الطواف بالبيت أن يفسخ ذلك إلى عمرة، وبعد ما ينتهي من أعمال العمرة يتحلل ثم يحرم بالحج بعد ذلك، وهذا جائز باتفاق، والخلاف: أنه إذا بدأ بالطواف وأكمله وسعى بين الصفا والمروة فهل يمكن أن يفسخ هذه الأعمال التي كان نوى بها الحج، فنوى بالسعي سعي الحج وكان الطواف بالبيت للقدوم، فهل يجوز أن يفسخ ذلك ويجعله عمرة؟ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك فدل على الجواز، فهو لما طاف بالبيت كان طوافه للقدوم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اجعلوها عمرة، فدل على أنه يجوز ذلك، فيكون هنا خرج عن الأصل، من كونه بدأ بشيء لم ينوه ركناً في الحج ولا ركناً في العمرة، وصار ركناً فيها بجعله له ذلك، وهذا نص النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها عمرة) فيجوز لثبوت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

أحكام التمتع والقران للمقيم بمكة والآفاقي

أحكام التمتع والقران للمقيم بمكة والآفاقي الذي يعتمر ثم يحل وهو معتمر في أشهر الحج وبعد ذلك يحرم بالحج، فهذا هو المتمتع، فيجوز للمكي ولغير المكي أن يتمتع، والمكي: الشخص الذي يكون من أهل مكة، أو المستوطن المقيم بها، فهذا المكي يجوز له أن يتمتع بالعمرة إلى الحج وغيره يجوز له ذلك، لكن يفرق بين أن المكي ليس عليه دم في ذلك، وغير المكي عليه دم واجب في ذلك، ولا يكره للمكي التمتع والقران، وإن تمتع لم يلزمه دم؛ لأن الله عز وجل قال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] فأهل الحرم لا يلزمهم دم في التمتع لهذه الآية. فإن قال قائل: إنما كان النسك قربة وطاعة في حق المكي أو غير المكي، فلم لزم الدم الغريب لاختياره التمتع؟ فنقول: إن الإنسان المقيم في مكة الله سبحانه تبارك وتعالى جعل له ميزة، وهي أنه مقيم في الحرم فهو يطوف بالبيت في كل وقت يقدر على ذلك، والذي يأتي من بعيد بالنسبة له لا يطوف إلا مرة في العمر بحسب ما يتيسر له، فهذا هو الذي عليه الدم؛ لأنه ترفه بالتمتع فيلزمه الدم، والمكي أحرم بحجة وعمرة من ميقاته أي: من مكة، وإن كان هو لا تلزمه عمرة، فإن فعل ذلك فلا يلزمه الدم بتمتعه من العمرة إلى الحج، وإن جاز له أن يفعل ذلك. والآية معناها: فمن تمتع فعليه الهدي إذا لم يكن من حاضري المسجد الحرام، فإن كان من حاضري المسجد الحرام فلا دم عليه، والقارن كذلك يلزمه الدم إلا أن يكون مكياً، فالمكي ليس عليه دم. والقارن هو الذي يأتي بعمرة وحج، أما المتمتع: فيأتي بعمرة وحج، لكنه يحل بين العمرة والحج فترة، ويترفه بإسقاط أحد السفرين، فهو لم يسافر مرة للحج ولا مرة أخرى للعمرة، والقارن كذلك يعتبر أسقط أحد السفرين بكونه أدى مناسك الحج ودخلت فيه أعمال العمرة، والمكي لم يسافر، وإنما أحرم من مكانه فإذا كان في التمتع لا يلزمه دم فالقران كذلك لا يلزم المكي فيه الدم، قال الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، والقارن متمتع على هذا المعنى. العلماء ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفرداً، وذكروا أنه كان قارناً، وذكرواً أنه كان متمتعاً صلوات الله وسلامه عليه. فالقول أنه كان مفرداً هذا صحيح، ولكن لما خرج من المدينة كان مفرداً ثم صار قارناً في وادي العقيق، فأدخل العمرة على الحج فصار قارناً. والقران يسمى بالتمتع أيضاً للمعنى الذي فيه، نقول: التمتع: الترفه بالشيء، والتسهيل, وتعريف التمتع هنا على المعنى اللغوي، وعلى ذلك القارن يطلق عليه متمتعاً على هذا المعنى، فيكون المتمتع عليه دم سواء كان متمتعاً على هذا المعنى في النسك بأنه اعتمر في أشهر الحج ثم تحلل، ثم أحرم بالحج بعد ذلك في أيام، أو أنه قرن بين العمرة والحج، فكأنه ترفه بإسقاط أحد السفرين، وكذلك عمل نسكاً واحداً - وهو نسك الحج - فأجزأ عن العمرة والحج. والقارن: هو المتمتع بالعمرة إلى الحج بدليل أن علياً رضي الله عنه لما سمع عثمان ينهى عن المتعة أهل بالحج والعمرة؛ ليعلم الناس أنه ليس بمنهي عنه، وكأنه حمله على المعنى اللغوي من أن القران فيه التمتع على ما ذكر، وفي الصحيحين عن سعيد بن المسيب أنه قال: اجتمع علي وعثمان رضي الله عنهما بعسفان فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، وهذا اجتهاد من عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقبله اجتهد في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكان ينهى عن المتعة، وكان يخشى أنه لو أذن لهم أن يعتمروا ثم يتحللوا ثم يحرموا بالحج أنهم عندما يتحللوا بين العمرة والحج ولا يزالون على ذلك حتى يفسد أحدهم على نفسه حجه، فـ عمر نظر إلى ذلك من أنه لو أبيح لهم أمر النساء لفسد حجهم، فأرادوا أن يكونوا بعيدين عن النساء حتى ينتهوا من حجهم، ولكن العلة التي نظر إليها عمر رضي الله عنه عرفها النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد قالوها له على وجه التعجب، ومع ذلك أمرهم بالتمتع صلوات الله وسلامه عليه، فيكون الذي نهى عنه عمر رضي الله عنه، وهذا اجتهاده منه رضي الله تبارك وتعالى عنه، وليس نسخاً لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فليس من حق أحد أن ينسخ ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه. كذلك عثمان رضي الله عنه عندما قال بذلك ونهى عن المتعة أو عن العمرة في هذا الوقت فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله النبي صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟! أي: تريد أن تنهى عنها والذي فعلها هو النبي صلى الله عليه وسلم؟! فقال عثمان: دعنا منك، فـ عثمان كان مجتهداً رضي الله عنه، فاجتهد في شيء لشيء رآه، ولكن علياً رأى أن هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي أن تترك، فلما رأى علي ذلك أهل بهما جميعاً. فالصورة صورة القران، وكأن هذا القران كان يطلق عليه المتعة لهذا المعنى الذي ذكرناه، ولأنه ترفه بسقوط أحد السفرين، والقارن كذلك بدل ما يسافر للعمرة لوحدها ثم يسافر ثانية للحج فجمعهما في سفر واحد فهذا ترفه، فلزمه دم كالمتمتع، وإذا عدم الدم فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله كالمتمتع سواء. ومن شرط وجوب الدم عليه ألا يكون من حاضري المسجد الحرام على قول جمهور العلماء، فالمكي إذا تمتع بالعمرة إلى الحج أو كان قارناً فلا يجب عليه الدم في ذلك، ويجوز منه القران، ويجوز منه التمتع قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] الحاضر والمقيم والمستوطن كلهم من أهل الحرم، فالذين قدموا واستوطنوا ومكثوا فهؤلاء أهل الحرم، وكذلك من بينه وبين مكة دون مسافة القصر، أي: الذي يعتبر من أهل مكة هو من كان دون مسافة القصر، ليس أن يقول: إنه مسافر من مكان إلى مكان. فنقول: يجب على المتمتع الدم؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]. ولوجوب دم التمتع شروط منها: الأول: ألا يكون من حاضري المسجد الحرام كما ذكرنا، وهم من مسكنه دون مسافة القصر من الحرم، فمن قيل في حقه: مسافر من مكان كذا إلى الحرم فهذا ليس من حاضري المسجد الحرام، وهذا الإنسان إذا كان له مسكنان أحدهما في مكة أو قريب منها والآخر بعيد عنها -في المدينة أو في غيرها- فإذا كان مقامه في أحدهما فله حكمه، فمن الممكن أن يكون له بيت في مكة مقيم فيه وبيت آخر في المدينة يذهب له كل ما يسافر فهنا الأصل أنه مكي، وإذا استوى مقامه بهما وكان أهله وماله في أحدهما كأن يكون أهله وأولاده وماله في مكة فيعتبر هذا مكياً، وإن كان أهله وأمواله وأولاده في المدينة فهذا مدني وليس مكياً، فالحكم يكون للمكان الذي أهله وماله فيه. وإذا استوى ذلك وكان عزمه الرجوع إلى أحدهما فالحكم له، كأن يكون له مال وأهل في مكة وكذلك في المدينة وهو عازم أنه سيعيد في المدينة فالحكم تابع لهذا العزم، فإن عزم أن يقيم في مكة بعد ذلك فهو لهذا المكان، وهذا خلاف من ذهب ليستوطن، كإنسان في موسم الحج نوى أن يعمل في الحج ويستوطن هناك، فهذا ليس من حاضري المسجد الحرام، إلا إذا أقام بمكة بعد ذلك. ولو استوطن غريب بمكة فهو حاضر، يعني: جاء من بلده وقعد في مكة سنين ونوى أن يمكث فيها فهذا يطلق عليه من حاضري المسجد الحرام، لكن إنساناً آخر ذهب في موسم الحج ونيته أن يقيم بعد ذلك، فلا يطلق عليه أنه من حاضري المسجد الحرام إلا إذا أقام بعد ذلك. ولو قصد الغريب مكة فدخلها متمتعاً ناوياً الإقامة بها بعد فراغه من النسكين أو من العمرة أو نوى الإقامة بها بعدما اعتمر فليس بحاضر، ولا يسقط عنه الدم. يقول ابن المنذر: أجمع العلماء على أن من دخل مكة بعمرة في أشهر الحج مريداً للمقام بها ثم حج من مكة أنه متمتع وعليه دم، ولو كان هو أصلاً استوطن مكة قبل هذا النسك لقلنا: هذا من حاضري المسجد الحرام، لكن هذا ذاهب إلى النسك فيكون حكمه الآن أنه غريب قادم من الآفاق، فهذا يلزمه دم، فإذا أقام وحج بعد ذلك من قابل فهو مقيم، فإذا اعتمر بعد ذلك فهذا متمتع ومن أهل المسجد الحرام فلا يلزمه الدم.

شروط وجوب دم التمتع

شروط وجوب دم التمتع أما شروط وجوب دم التمتع فهي:

ألا يكون الحاج من حاضري المسجد الحرام

ألا يكون الحاج من حاضري المسجد الحرام الشرط الأول: ألا يكون من حاضري المسجد الحرام.

أن يحرم الحاج في أشهر الحج

أن يحرم الحاج في أشهر الحج الشرط الثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج: فلو أحرم بها وفرغ منها قبل أشهر الحج فلا يلزمه الدم، وأشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة، فهذه أشهر الحج، ولو أنه اعتمر في رمضان فهو ليس من أشهر الحج، لكنه بعد ذلك يبدأ في الحج في أيام الحج ويكون مفرداً نقول: هذا مفرد للحج، وعلى ذلك لا يلزمه دم، لأنه ليس متمتعاً، ولو أن شخصاً اعتمر في آخر يوم من رمضان قبل غروب الشمس، وآخر اعتمر في أول يوم من شوال أو أول ليلة من شهر شوال، فالأول يكون مفرداً إذا حج من سنته، والآخر يكون متمتعاً إذا حج من سنته، وإذا أحرم بالعمرة وفرغ منها قبل أشهر الحج ثم حج في سنته لم يلزمه دم، لأنه لم يجمع بين نسكين في أشهر الحج، فلم يلزمه دم كالمفرد، ولو أحرم بها قبل أشهر الحج وأتى بجميع أفعالها في أشهر الحج لم يجب عليه الدم. وهنا المقصد: أنه أحرم في هذه العمرة قبل أشهر الحج، كأن يكون ذهب للعمرة في الليالي الأخيرة من رمضان، وأراد أن يقوم بالعمرة فما تمكن لمرض ألم به، فظل محرماً حتى انتهى رمضان، وجاء العيد فابتدأ المناسك، لكن إحرامه كان في غير أشهر الحج، وصار يعمل المناسك في أشهر الحج، ولكن البدء كان في غير أشهر الحج، فلو أحرم بها قبل أشهر الحج وأتى بجميع أفعالها في أشهر الحج لم يجب عليه دم، لأن الإحرام نسك لا تتم العمرة إلا به، فلا تتم العمرة بغير الإحرام، وإحرامه من المناسك كان في غير أشهر الحج، فلم يلزمه دم التمتع كالطواف. وهذه المسألة ليست متفقاً عليها وفيها خلاف، ولذلك يقول الإمام أحمد: عمرته في الشهر الذي أهل، واحتج بقول جابر السابق، ولأن الإحرام نسك من أعمال العمرة، فهذا قول الإمام أحمد رحمه الله. وعند أبي حنيفة: إن طاف للعمرة أربعة أشواط في غير أشهر الحج فليس متمتعاً، وكأنه ينظر إلى الأغلب، فهذا الذي ذهب وأحرم في رمضان قائلاً: لبيك عمرة، ثم طاف بالبيت أربعة أشواط، ثم بعد ذلك حدث له شيء فلم يطف وتأخر حتى دخل عليه شهر شوال فأكمل الثلاثة الأشواط الباقية، يقول: إن طاف للعمرة أربعة أشواط في غير أشهر الحج فليس متمتعاً، لأنه لا يفسدها بوطء بعد ذلك إن وطئ وكأنه ينظر أن الأربعة عمل أكثر مناسك الطواف، والطواف ركن عند أبي حنيفة، والسعي بين الصفا والمروة واجب عنده وليس ركناً من الأركان، فكأنه نظر إلى أنه الركن الأعظم في العمرة، فما دام أنه أحرم وطاف بالبيت فقد عمل أكثر الطواف فلو وطئ أهله بعد الانتهاء من الطواف للعمرة فعمرته صحيحة، باعتبار أن السعي بين الصفا والمروة عنده واجب وليس ركناً من الأركان. يقول النووي: إذا أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج وفعل أفعالها في أشهره فالأصح عند الشافعية أنه ليس عليه دم التمتع، وبه قال جابر بن عبد الله وقتادة وأحمد وإسحاق وداود والجمهور. وقال الحسن والحكم وابن شبرمة: يلزمه، وهنا بعض العلماء قالوا: إنه يلزمه، كالإمام أبي حنيفة وقبله الحسن وابن شبرمة، وذهب الجمهور إلى أنه لا يلزمه، وهو الراجح؛ وذلك أن الإحرام بالعمرة نسك، والذي لم يحرم لم يدخل في النسك بعد، فهذا فعل نسكاً للعمرة في غير أشهر الحج فيكون الحكم له. ولو أنه أهدى للبيت هدياً خرج من هذا الخلاف، لكن الراجح هو ما ذكرنا، من أنه إذا أحرم في أشهر الحج فيلزمه الدم، وإذا أحرم في غير أشهر الحج حتى لو عمل المناسك كلها بعد ذلك فلا شيء عليه. وهنا مسألة: إنسان ذهب إلى مكة فأحرم قبل غروب الشمس في آخر ليلة من رمضان فلما بدأ بالطواف كان بعد غروب الشمس وجاءه الخبر أن العيد غداً، فصار الآن في ليلة العيد من شوال، فيكون دخل في الأشهر الحرم أو في أشهر الحج فيكون الحكم أنه أتى بالإحرام في رمضان وليس في أشهر الحج فلا دم عليه.

أن تقع العمرة والحج في سنة واحدة

أن تقع العمرة والحج في سنة واحدة الشرط الثالث: أن تقع العمرة والحج في سنة واحدة، وهذا واضح فنقول: هذا مترفه بإسقاط السفر، فلو أنه اعتمر في هذا العام في شهر شوال، والعام الذي يليه حج، فهذا لا يسمى متمتعاً، بل لابد أن يكون قد عمل الاثنين في سنة واحدة، ولو اعتمر ثم حج في السنة القابلة فلا دم عليه سواء أقام بمكة إلى أن حج أو رجع وعاد. روى ابن أبي شيبان عن سعيد بن المسيب قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج، فإن لم يحجوا من عامهم ذلك لم يهدوا شيئاً) فهذا هو الدليل على أن الذي المتمتع الذي يلزمه الهدي هو الذي يعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه الذي هو فيه.

ألا يعود المعتمر الذي يريد الحج إلى الميقات

ألا يعود المعتمر الذي يريد الحج إلى الميقات الشرط الرابع: ألا يعود إلى الميقات، وذلك بأن أحرم بالحج من نفس مكة واستمر، لكن لو أن هذا الإنسان أحرم بعمرة في أشهر الحج ثم خرج من مكة ورجع إلى بلده أو رجع إلى الميقات أو توجه إلى المدينة ومكث حتى أيام الحج، ثم أحرم من ميقات المدينة، فيكون هذا قد سافر سفراً آخر وما جمع بين النسكين في سفر واحد فيكون مفرداً. فيكون الشرط الرابع: ألا يعود إلى الميقات، فيحرم بالحج من نفس مكة ويستمر، فلو عاد إلى الميقات الذي أحرم منه بالعمرة أو إلى مسافة مثله وأحرم بالحج فلا دم عليه، أو إلى مسافة مثله أو مسافة أكبر من مسافة الميقات، فلو أنه أحرم بالعمرة من الجحفة، وتوجه من هنالك فأدى العمرة في شهر شوال ثم خرج من مكة وتوجه إلى المدينة ثم أحرم من ذي الحليفة فأدى مناسك الحج فتكون ذو الحليفة أبعد من الجحفة فمسافة (450 كيلو) هو ما بينها وبين مكة، والجحفة فبينها وبين مكة حوالي (220 كيلو) فتكون المسافة أطول، فيكون على ذلك مفرداً وليس متمتعاً. فلو عاد إلى الميقات الذي أحرم منه بالعمرة أو إلى مسافة مثله وأحرم بالحج فلا دم عليه، ولو أحرم به من مكة ثم ذهب إلى الميقات محرماً سقط عنه الدم، وهذا فيه خلاف بين الشافعية والحنابلة، فعند الحنابلة أنه إذا جاوز الميقات وأحرم بعده ثم رجع إليه بعد ذلك فهذا صار عليه الدم؛ لأنه جاوز الميقات غير محرم. وقلنا: إنه إذا جاء عند الميقات وأراد أن يحرم بعمرة ثم لم يحرم، فجاوز الميقات ثم بعد ذلك أحرم بالعمرة فالراجح: أنه بين أمرين: إما أن يكمل وعليه دم؛ لأن جاوز الميقات من غير إحرام، أو أنه يرجع إلى الميقات، فلو أنه لم يحرم لا لبى ولا لبس لباس إحرام، ولم يعقد النية ثم رجع إلى الميقات فاتفق الجميع على أنه ليس عليه دم في ذلك. وهذه صورة أخرى: لو أنه أحرم من مكة ثم ذهب إلى الميقات محرماً، سقط عنه الدم على الراجح، ولو دخل القارن مكة قبل يوم عرفة ثم عاد إلى الميقات فأحرم فهنا القارن صار مترفهاً بإسقاط أحد السفرين، وكذلك أحد النسكين دخل في الآخر، فعلى هذا المعنى: لو أن القارن دخل مكة قبل يوم عرفة ثم عاد إلى الميقات مرة ثانية، فيكون سافر مرتين فلا دم عليه، ولو أنه أحرم بالعمرة من الميقات ودخل مكة، ثم رجع إليه قبل الطواف وقبل فواته فأحرم بالحج فيكون أدخل الحج على العمرة فهذا قارن في هذه الصورة. ولو أنه طاف طواف العمرة ثم سافر إلى الميقات فالراجح أنه ليس عليه دم. ولا يشترط وقوع النسكين عن شخص واحد، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الحديث أنه يجوز أن يحج عن إنسان ويعتمر عنه، فإذا كان برضا الاثنين فيكون إما قارناً وإما متمتعاً وفي الحالتين عليه دم. فلو أنه استأجر شخصاً وقال له: أد عني عمرة وآخر قال له: حج عني، فيكون اعتمر عن هذا وحج عن هذا، وهو في أشهر الحج فيلزمه الدم ويوزع على الاثنين، لكن لو أنه لم يخبر واحداً من الاثنين فاعتمر عن هذا وحج عن هذا فيلزمه الدم على الأجير نفسه، ولا تشترط نية التمتع؛ لأن الدم يتعلق بترك الإحرام بالحج من الميقات وذلك يوجد من غير نية. وإذا ذهب فأدى عمرة في أشهر الحج، ثم بعد ذلك أحل، ثم أهل بالحج بعد ذلك، وهو لم ينو تمتعاً ولا يعرف التمتع، لكن الصورة صورة تمتع فيلزمه الدم. وإذا فرغ المتمتع من أفعال العمرة صار حلالاً، يعني: تحلل الآن بعد العمرة فحل له الطيب واللباس والنساء وكل محرمات الإحرام سواء أكان ساق الهدي أم لم يسق، فهذا الذي ذهب ناوياً العمرة وساق معه الهدي، فلما انتهى من العمرة حتى ولو كان معه الهدي فقد تحلل، بخلاف من ذهب ينوي الحج أو ذهب ينوي القران بين العمرة والحج، فيبقى محرماً سواء أساق الهدي أم لم يسق، وكيف نصنع بالحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لولا الهدي لأحللت؟) وهذا دليل للحنابلة، أن الذي يسوق الهدي لا يجوز له أن يتحلل حتى يفرغ من أعمال الحج، واحتجوا بأنه جاء في الصحيحين عن عائشة قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة حتى قدمنا مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحرم بعمرة ولم يهد فليحل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أهل بحج فليتم حجه) وهذا دليل على عكس ما نذكره، والذي نذكره: أنه إذا نوى التمتع وساق معه الهدي فله أن يحل، ولكن هذا حديث واضح يدل على أنه ليس له حق أن يحل هنا، وكأن هذه رواية مختصرة من روايتيين، ذكرهما البخاري ومسلم وفيه قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة). فيكون في الحديث الأول: أن المعتمر إذا كان معه هدي فإنه يظل على إحرامه حتى ينتهي من أعمال الحج والعمرة، ولكن الرواية الثانية في الحديث توضح أن الذين كان معهم هدي وأرادوا الاعتمار أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدخلوا الحج على ذلك فقال: (من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة) فهم كانوا ناوين عمرة لكن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يهلوا بالاثنين الحج والعمرة، ثم لا يحل هذا الذي معه الهدي وأحرم بالحج والعمرة معاً حتى يحل منهما جميعاً، فهذه رواية مفسرة من الرواية الأولى. ففيهما ذكرنا: أن الذي أهل بالاثنين هذا هو القارن الذي ليس له أن يحل من إحرامه حتى ينتهي وينحر هديه، لكن الذي نوى عمرة فقط وساق الهدي معه، وإن كان الآن هذا نادر جداً -أي: أن أحداً ينوي العمرة ويسوق معه الهدي- ولكن لو فرضنا أنه فعل هذا الشيء فالراجح: أنه إذا نوى العمرة فقط يجوز له بعد أدائها أن يتحلل حتى ولو كان معه الهدي؛ لأن نيته لم تكن إلا العمرة، ونيته أن يتحلل بعد الفراغ منها، فيستحب له ألا يحرم بالحج إلا يوم التروية، وهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه، حيث أمر أصحابه أن يحلوا، وهذا أمر منه أنهم لا بد أن يتحللوا من العمرة ويمكثوا حتى يجيء يوم الحج فيهلوا بالحج، وإن كان هو محرم قبل ذلك ولم يفك إحراماً صلى الله عليه وسلم.

حكم تقديم الإحرام بالحج من أجل الصوم

حكم تقديم الإحرام بالحج من أجل الصوم هنا السنة: الإهلال بالحج في يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة هذا إن كان يجد الهدي يعني: يقدر أن يشتري الهدي أو هو معه أو يدفع الشيكات لمن يهدي عنه، فيكون على ذلك لا يوجد بدل من الهدي وهو الصوم، لكن إذا عدم الهدي كأن يكون فقيراً غير قادر على شرائه، فيلزمه الآن البدل، وهو الصيام، فيستحب له أن يقدم الإحرام بالحج احتياطاً وخروجاً من الخلاف، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه أمر أحداً من الصحابة أن يقدم الحج على يوم التروية، ولكن اخترنا ذلك احتياطاً في المسألة؛ لأن العلماء اختلفوا في معنى الآية: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] ما هي الثلاية الأيام في الحج، فكثير من العلماء على أنه ما دام متلبساً بمناسك الحج فيبقى على ذلك، ويصوم من قبل يوم التروية، يصوم يوم السادس والسابع والثامن سواء أحرم بالحج أم لم يحرم، ومن هؤلاء الحنابلة، وقالوا: إنه يستحب له أن يقدم الإحرام خروجاً من الخلاف في هذه المسألة، وعند الشافعي وغيره فسروا ذلك على أنه ثلاثة أيام في الحج وهو متلبس بالمناسك، فيجب عليه إذا كان سيؤدي البدل وهو الصوم أن يحرم بالحج ابتداء ويصوم ثلاثة أيام وهو متلبس بالإحرام، لذلك قلنا هنا: إنه إذا كان عادماً للهدي يستحب له، والقول الآخر: أنه يجب عليه ذلك، والراجح: أن هذا استحباب فقط؛ لأنه مبني على تفسير الآية، فالراجح في معناها: أنه يصوم ثلاثة أيام في أشهر الحج إن كان عادم الهدي، ويستحب له تقديم الإحرام بالحج قبل اليوم السادس؛ لأن فرضه الصوم، وواجبه ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع، فقلنا: يستحب تقديم الإحرام بالحج، قال الإمام مالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر: لا يجوز الصيام إلا بعد الإحرام بالحج، واحتجوا بقول الله عز وجل: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة:196] قالوا: لأنه صيام واجب. والحنابلة احتجوا بأنه أحرم بالعمرة فيكون هنا يلزمه الهدي لسببين: السبب الأول: العمرة التي كانت في أشهر الحج. السبب الثاني: الحج، فعلى ذلك يلزمه الصيام، وإن كان سيشكل على قولهم تصويبهم لقول الشافعية في أنه يجوز له أن ينحر هديه قبل يوم العيد، فطالما أنه أحرم بأحد النسكين وتقدم أحد النسكين فيجوز له أن يذبح قبل العيد، وهو اختيار الشافعية، وإن كانوا يستحبون ألا يذبح إلا يوم العيد، فهذه المسألة في النحر قبل العيد باعتبار أن سبب النحر هو للعمرة والحج. والجواب -وهو الذي عليه الجمهور-: أنه صحيح تقدم أحد السببين وأن الهدي سببه الاثنان، فلما وجد أحدهما فلا بد من هدي، لكن مع ذلك لم تلتفت الشريعة إلى ذلك، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً من أصحابه أن ينحر قبل يوم العيد، فوجد السبب، ووجد المقتضي لذلك، ومع ذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً أن ينحر، فدل ذلك على أن الذبح مختص بالعيد، لكن يصح أن يصوم قبل ذلك، وهل يجب أن يكون متلبساً بالإحرام؟ مع كثرة من كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فلم يثبت عنه أنه أمر أحداً منهم أن يقدم الإحرام لأجل الصيام، والقليل منهم كان معهم الهدي، فيكون وجب عليهم الصيام، فلو كان يجب تقديم الإحرام حتى يصوموا لأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، أو أمر هؤلاء أن يقدموا الإحرام ويصوموا الثلاثة الأيام حتى لا تفوت أيام الحج، فلما لم يأمر بذلك دل على أن هذا ليس واجباً، فسنة المتمتع أن يحرم بالحج يوم التروية، وبذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين أحلوا من إحرامهم بعمرة، وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه: (أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن) البدن يعني: الجمال، وسميت البدن لأنها أبدان ضخمة (وقد أهلوا بالحج مفرداً فقال لهم: أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة وقصروا، ثم أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة، فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟! فقال: افعلوا ما أمرتكم، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم، لكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله) وهنا قوله (ثم أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج) مع إن الكثيرين كانوا ليس معهم هدي، والذي معه هدي هو النبي صلى الله عليه وسلم ومجموعة من أصحابه، لكن الأغلبية ليس معهم هدي، وكلهم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتمتعوا، فكان الأكثرون هم المتمتعون مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يأمر أحداً أن يقدم الإحرام قبل يوم التروية حتى يصوم، فدل على أن تقديم الإحرام ليس واجباً، والصيام الواجب يجوز ولو لم يقدم الإحرام. وأجمع العلماء على أن من أهل بعمرة في أشهر الحج فله أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت، والذي أهل بعمرة في أشهر الحج له أن يدخل عليها الحج، والذي فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج من المدينة مهلاً بالحج وأدخل العمرة صلى الله عليه وسلم والعمرة أقل، ولكن فعله صلى الله عليه وسلم كان عند الميقات أو بعد الميقات بشيء يسير، فإذا كانت العمرة - وهي الأقل - أدخلت على الأكثر فيجوز إدخال الأكثر على الأقل وهو الحج، والعلماء أجمعوا على أنه يجوز إدخال الحج على العمرة، فمن أهل بعمرة في أشهر الحج فله أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت، وأما بعد افتتاح الطواف فليس له ذلك، أي: فليس له أن يدخل عليها الحج، فإدخال الحج على العمرة إجماع على أنه جائز بشرط ألا يكون بدأ في الطواف، والعكس إدخال الأقل على الأكثر يعني: أراد الحج ولبى هل يدخل عليه العمرة؟ الظاهر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك ولكن أيضاً يقال: إنه كان من وادي العقيق، وهذا قريب من ذي الحليفة، وكأنه عند إحرامه صلى الله عليه وسلم لم يعمل شيئاً من المناسك وإنما هو مجرد الإحرام فأمر بذلك، فيجوز مثل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان عند الميقات وقال: لبيك حجة، فجاز له أن يدخل عليه العمرة فيقول: لبيك حجة وعمرة، أما بعد ما يصل إلى البيت فليس له أن يدخل العمرة على الحج، وعند أبي حنيفة يجوز أن يدخل العمرة على الحج مطلقاً، ويصير قارناً وعليه دم القران.

وقت وجوب دم التمتع

وقت وجوب دم التمتع ودم التمتع واجب بإجماع المسلمين، ووقت وجوبه الإحرام بالحج، وهذه مسألة مختلف فيها، لكنه هنا دخل في مناسك الحج وأحرم فيؤدي العمرة ليتحلل بين العمرة والحج، فهو دخل في الحج، وربنا سبحانه وتعالى ذكر لنا قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] فجعل الهدي له غاية، لكن من تمتع بالعمرة إلى الحج، هل المراد إلى ابتداء الحج ويكفي أم لابد من الانتهاء من مناسك الحج حتى يجب عليه دم المتعة؟ هذا فيه خلاف بين العلماء، والراجح: أنه طالما أدى العمرة وتحلل ثم بدأ في الإحرام فقد أصبح متلبساً بالحج، فيجب عليه ما أوجب الله سبحانه وتعالى، ولا يشترط أن يكمل المناسك حتى يجب عليه ذلك، فيكون وقت الوجوب هو الإحرام بالحج. وفرق بين أن نقول: إنه وقت وجوب دم التمتع وبين وقت ذبح الهدي، فذبح الهدي شيء آخر فنقول: أنت وجب عليك الدم من وقت ما أحرمت بالحج، فيقول: أنا أديت العمرة وتحللت وصرت حلالاً في هذا الوقت بين الحج والعمرة وكان من الممكن أن أسافر ولا أرجع مرة أخرى، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقد اعتمر في ذي القعدة ثلاث عمرات صلى الله عليه وسلم، وما مكث حتى أدى الحج، نقول: لو أن إنساناً فعل ذلك لم يجب عليه الهدي لأنه اعتمر فقط، لكن لو مكث حتى الحج وأحرم بالحج فلا يجوز له فسخ هذا الإحرام بعد ما تلبس به، فيصير محرماً طالما أنه عقد الإحرام في الحج، فليس له أن يتحلل منه إلا بالانتهاء منه، فطالما أنه ليس له التحلل منه إلا بالانتهاء من أفعاله فيجب عليه الآن دم التمتع، فيكون المراد بقول الله عز وجل: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] المتمتع أحرم بالحج من دون الميقات، فيلزمه الدم، كما لو وقف أو تحلل. والعلماء لهم أقوال في هذه المسألة: فالذين قالوا بوجوب دم التمتع بوقت الإحرام بالحج أبو حنيفة والشافعي وأحمد وداود، وعن أحمد قول آخر: أنه يجب عليه هذا الدم وقت الوقوف بعرفة، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة) فعندما يقف بعرفة يجب عليه دم التمتع، وتصبح المناسك تابعة له، ويلزمه الحج الآن، ولكن الراجح الرواية الأولى عن الإمام أحمد رحمه الله، وهو قول الجمهور، فيكون وجد الشرط الذي ذكره الله عز وجل: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196]. وبعض أهل العلم ذهبوا إلى أن هذا الدم يجب إذا رمى جمرة العقبة، والجمهور كما ذكرنا ذكروا أن قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} تفيد الغاية ويكتفى بأولها، كما في قول الله عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] والليل له أول وله آخر، وينتهي الصيام في أول الليل، كذلك هنا: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} فالحج له أول، وهو الإحرام، وله آخر بالتحلل، فيكون المعنى على ذلك: إلى الابتداء بالحج، وهذا هو الأحوط فيها. ولا يجوز نحر الهدي قبل يوم النحر وقلنا: يجوز ذلك للإنسان المتمتع عند الشافعية باعتبار أنه تمتع بالعمرة إلى الحج، فهذا يجوز له بوجود أحد السببين أن ينحر الهدي. وقلنا: لا يجوز؛ لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز فيه ذبح الأضحية، وهذا بالاتفاق، فكذلك الهدي قياساً عليه، فلا يجوز ذبح هدي التمتع قبل العيد؛ لأنه لم يثبت أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نحر قبل يوم النحر، ولا أمروا بذلك، فيكون الراجح فيه أنه لا يجوز قبل يوم النحر؛ لأنه لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً من أصحابه بفعل ذلك، وإن جاز أن يكون البدل قبله، أي: أن يصوم ثلاثة أيام قبل العيد، لكن الهدي نفسه لا يذبح إلا في العيد؛ لأنه يوم النحر ويوم الهدي ويوم العيد، وهو الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ولم يأمر أحداً أن يذبح قبل.

حكم من وجد الهدي وليس له مال

حكم من وجد الهدي وليس له مال وصفة دم التمتع نفس صفة الأضحية، وسيأتي الحديث عن أحكام الأضحية، ويقوم مقامها بدنة أو بقرة كلاً منهما عن سبعة، فيجوز للذي عليه دم التمتع ودم القران أن ينحر شاة أو يشارك ستة آخرين في نحر بقرة أو في نحر جمل أو ناقة. وإذا وجد المتمتع الهدي في موضعه فلا يجوز له العدول إلى الصوم؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196] فلا يجوز للإنسان المتمتع أن يرجع بهدايا للناس ويقول: إنه سيصوم بعد ذلك، فهذا لا يجوز، فطالما أن معه المال فيلزمه أن يشتري الهدي، وليس له أن ينتقل إلى البدل إلا إن فقد الهدي أو وجد وليس معه المال الذي يدفعه في ذلك، فإن عدم الهدي في موضعه فلا بد أن يصوم عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، حتى ولو كان هذا الإنسان له مال غائب في بلده ولكن في مكة لا يوجد معه مال، فعند ذلك يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. ومن وجد الهدي وثمنه لكنه لا يباع إلا بأكثر من ثمن المثل، فهو كالمعدوم، كأن يتوقع أن ثمن الهدي أربعمائة ريال ومعه أربعمائة ريال فوجده يباع بألف ريال، فيكون حكمه حكم الفاقد، فله أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. ولو وجد الثمن وعدم الهدي جاز له الانتقال إلى الصوم، فمن وجد الثمن وعدم الهدي في الحال فقعد ينتظر لعله أن يجد غداً هدي، ثم انتظر في اليوم الثاني ولكن ما جاء الهدي وخشي التأخير فهذا نقول: له أن يصوم ثلاثة أيام التي تلزمه. ثم الصوم الواجب عشرة أيام قال تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196] ثم يأمر الله سبحانه وتعالى بقوله: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] فذكر ثلاثة، وذكر سبعة والمجموع: عشرة أيام، وكل إنسان يعرف أن مجموع ثلاثة وسبعة عشرة، والعلة في ذكر هذا: أن الإنسان قد يختان نفسه فيقول ربنا قال: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} فإما أن نصوم ثلاثة أيام في الحج وإما أن نصوم سبعة أيام فقط لما نرجع، فيظن أن الثلاثة دخلت في السبعة الأيام، فقال تعالى: (تلك عشرة) حتى لا تخون نفسك، فالمطلوب ثلاثة أيام في الحج وسبعة حتى ترجع إلى بلدك. وقلنا: الأفضل أن يقدم الإحرام بالحج ليصوم هذه الثلاثة وهو محرم خروجاً من الخلاف. والأفضل أنه يبدأ بالإحرام بالحج في اليوم الخامس مثلاً ويبتدئ الصيام الخامس والسادس والسابع أو السادس والسابع والثامن، فيصوم وهو متلبس بمناسك الحج، لكن إن صام من غير ما يتلبس بها فالراجح أنه يجوز، ولا يجوز صوم شيء منها يوم العيد.

حكم صيام أيام التشريق للحاج

حكم صيام أيام التشريق للحاج ويجوز صيام أيام التشريق؛ لحديث ابن عمر في صحيح البخاري أنه قال: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) حديث رواه البخاري عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما وفيه: (لم يرخص) والذي يرخص لهم هو النبي صلى الله عليه وسلم فالمراد: أنهم سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أنه لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي، وأيام التشريق هي الثلاثة الأيام بعد النحر ولها عدة أسماء، حيث إن الحجاج يقيمون فيها بمنى، واليوم الأول يقال له: يوم القر. ومعنى التشريق: أنهم يشرقون فيها لحوم الهدايا عندما تذبح في الشمس حتى لا تتعفن، فيملحها صاحبها ويضعها في الشمس حتى لا تتعفن، فاليوم الأول من أيام التشريق اسمه: يوم القر؛ لأن الجميع يقرون فيه بمنى لا يخرج أحد منها، وليس له أن ينفر في اليوم الأول، ويوم العيد اسمه: يوم الأضحى وهو أول الأيام، وهو يوم الحج الأكبر، ويليه ثلاثة أيام للتشريق الأول منها ثاني أيام العيد الذي نسميه يوم القر، اليوم الثاني من أيام التشريق الذي هو ثالث أيام العيد يسمونه: يوم النفرة الأولى، فيجوز لمن تعجل في يومين ولا إثم عليه أن يغادر بعد رمي الجمار. اليوم الثالث الذي هو رابع أيام العيد: يوم النفرة الثانية. وأيام التشريق هي الأيام المعدودات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى حيث قال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203].

معنى قوله تعالى: (وسبعة إذا رجعتم)

معنى قوله تعالى: (وسبعة إذا رجعتم) ويستحب صيام جميع الثلاثة الأيام قبل يوم عرفة حتى يتفرغ يوم عرفة للدعاء، وله أن يصومها مع يوم عرفة، لكنه يتعب مع الصيام ومع الحر ومع الانشغال بالمناسك والذهاب والإياب. وهذه الثلاثة الأيام تفوت بخروج أيام التشريق، فيكون رخص في صومها لأنه ما زال بقي عليه شيء من أعمال الحج، فالحاج إذا لم يقدر على صيامها قبل أيام التشريق يجوز له أن يصومها في أيام التشريق وكأنه الآن يقضي هذه الأيام الثلاثة التي فاتت، فليس له أن يضيعها حتى تنتهي أيام التشريق، فإذا فات صوم الثلاثة في الحج لزمه قضاؤها ولا دم عليه، فهذا يعتبر بدل من هذا الدم فليس عليه دم مرة ثانية، وكان الإمام أبو حنيفة يقول: عليه دمان، يعني: رجع الدم الأصلي عليه وعليه دم آخر بترك هذا الواجب الذي كان عليه. والراجح: أنه إما أن يذبح هدياً ويهديه لأهل الحرم، أو أنه غير واجب فيلزمه هذا الصيام على الصورة التي ذكرها الله عز وجل، فإذا فاتته الثلاثة الأيام قضاها بعد ذلك ولا يلزمه شيء آخر. قوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] مضمون الآية: إذا رجعتم من الحج -وذلك بانتهاء مناسكه- ولو كنتم في الطريق أردتم أن تصوموا جاز لكم ذلك، سواء في الطريق أو بعد الرجوع إلى أهليكم فالأمر سيان. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: (من كان أهدى فإنه لا يحل له شيء حرم منه حتى يقضي حجه, ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج، فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) فالأفضل إذا رجع إلى أهله صام؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت الآية لم تذكر الرجوع إلى الأهل، فبمجرد الرجوع من الحج يجوز للإنسان أن يصوم؛ لنص النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يجوز صوم شيء من السبعة في أيام التشريق، فلو أن شخصاً استسهل صوم الثلاثة الأيام قبل العيد وجاء في أيام التشريق ليصوم السبعة الأيام فلا يجوز ذلك، وليست هذه معتبرة، وأيام التشريق لم يرخص فيها إلا صيام الثلاثة الأيام فقط وليس الباقي؛ لأنه لا يسمى راجعاً، ولأنه ما زال في الحج حتى وإن تحلل، وأما من بقي عليه طواف الإفاضة فلا يجوز صيامه؛ لأنه ما زال في الحج، وإنما يصوم السبعة الأيام بعد ذلك إذا رجع من الحج، أما هذا الذي عليه طواف الإفاضة فما زال عليه ركن من أركان الحج، فليس له أن يصوم السبعة الأيام. وإن لم يصم الحاج الثلاثة الأيام في الحج ورجع لزمه صوم عشرة أيام، سواء ترك صيامها بعذر أو بغير عذر، فلما يرجع إلى أهله يلزمه صيام العشرة الأيام متواصلة، وإن صام ثلاثة أيام وحدها، ثم صام سبعة أيام وحدها جاز، لكنه لا يجب التفريق بين الثلاثة والسبعة، وكأن التفريق وجب بحكم الوقت وقد فات فسقط كالتفريق بين الصلوات، وهذا قياس، أي: عندما نقول: صلاة الظهر في وقتها، والعصر في وقتها، والمغرب في وقتها، فلو أنك فاتتك هذه الصلاة وأنت نائم فعندما تقوم من النوم نقول لك: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها، فبمجرد ما قمت من النوم يلزمك أن تصلي هذه التي فاتتك، ولا تقل: نؤجلها إلى الغد، ثم نصلي الظهر مع الظهر، والعصر مع العصر، والمغرب مع المغرب، لا، ولكن صل إذا قمت؛ لأنك أنت الآن تقضي هذه الصلاة، فلذا صوم الثلاثة والسبعة الأيام لا يجب فيه التتابع ولكن يستحب، فينوي بهذا الصوم صوم التمتع وإن كان قارناً نوى صوم القران بدلاً من الهدي، وإن صام الثلاثة الأيام في الحج والسبعة بعد الرجوع لم يلزمه نية التفريق، فإذا شرع في صوم التمتع الثلاثة أو السبعة ثم وجد الهدي فقد شرع الآن في البدل، وهل يلزمه أن يرجع ثانية ونقول له: وجب عليك الهدي؟ لا فقد انتهى الأمر، فهو قد تلبس الآن بما وجب عليه فعليه أن يكمل هذا الشيء، ولكن يستحب له أن يرجع للهدي ولا يجب. ويجب على القارن دم مثل ما قلنا في المتمتع، وهذا مروي عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم؛ لأنه جمع بين نسكين في وقت، فلأن يجب على القارن وقد جمع بينهما في الإحرام أولى، فالمتمتع قد عمل عمرة كاملة وحجاً كاملاً، ولكنه تمتع بين الاثنين في سفر واحد، والقارن تمتع بنسكين في سفر واحد، وكذلك عمل عملاً واحداً وهو الحج وأدخل فيه العمرة، فإذا كان متمتعاً عليه دم، وكذلك القارن.

حكم من مات بعد أداء الحج وعليه هدي

حكم من مات بعد أداء الحج وعليه هدي وإذا مات المتمتع بعد فراغه من الحج وهو مؤجل للهدي ولم يكن أخرجه فما حكمه؟ فإن كان هذا المتمتع معه مال ولكن مات بعد المناسك فأهله يهدون عنه ما وجب عليه من ماله، وكذلك إن مات في أثناء الحج فلا يسقط الدم؛ لأنه وجب بالإحرام، وفيما ذكرناه قبل ذلك أنه يجب عليه الدم من تركته. وإذا رجحنا أنه يجب عليه الدم بإحرامه بالحج، فلو أنه أحرم في الحج وقال: لبيك حجة ثم مات بعد ذلك فهذا متمتع وجب عليه دم بالتمتع ويكون ديناً لله عز وجل يخرجه أهله من ماله، وعلى قول الإمام أحمد يجب الهدي بالوقوف بعرفة، وكذلك يقول الإمام مالك، فحينها لا يجب عليه إلا إذا وقف بعرفة ثم مات بعد ذلك. وذكرنا أن الراجح: أنه بتلبسه في الحج صار واجباً عليه الدم، ولو كان يجب عليه الصيام بدل الهدي ثم مات وعليه صيام صام عنه وليه، وهذا وارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيستحب للأولياء أن يصوموا عنه، فإن مات قبل تمكنه منه سقط لعدم التمكن، كصوم رمضان ممن كان عليه صوم من رمضان ثم مرض في رمضان فأفطر في آخره وظل مريضاً حتى مات في شهر شوال، فهذا تمكن من القضاء أم لم يتمكن؟ لم يتمكن، وهل يجب عليه صوم؟ إذا مات لا شيء عليه، ولا يجب على ورثته أن يخرجوا من ماله شيئاً، لكن يستحب أن يطعموا عن كل يوم مسكيناً، وكذلك هنا، أي: يستحب أن يهدي عنه الورثة أو يصومون، أما من توفي ولم يتمكن من الصوم لاستمرار مرضه وهو في الحج، وكان معسراً ولا يجد الهدي فهذا لا شيء عليه، فإن صاموا عنه كان حسنة لكن لا يجب، وإن تمكن من الصوم فلم يصم حتى مات فهو كصوم رمضان فيصوم عنه وليه، أو يطعم عنه عن العشرة الأيام التي تركها عن كل يوم مداً أو يطعم مسكيناً عن كل يوم، ويستحب صرفه إلى فقراء الحرم ومساكينه يعني: هذا الإطعام وهذا الهدي يجب ذبحه هنالك في الحرم، لكن الصيام سيصوم في أي مكان، فإذا صام في أي مكان فالإطعام بدلاً من الصيام فيجوز في أي مكان، لكن يستحب صرف هذا الإطعام إلى فقراء الحرم ومساكينه، فإن صرف إلى غيرهم جاز؛ لأن هذا الإطعام بدلاً عن الصوم الذي لا يختص بالحرم فكذا ما كان بدلاً عنه كما قدمنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حجة الوداع

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - حجة الوداع من أجمع الأحاديث في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم هو حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه؛ حيث وصف أعمال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج منذ خروجه من المدينة حتى رجوعه إليها.

بيان كون حديث جابر أشمل الأحاديث في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم

بيان كون حديث جابر أشمل الأحاديث في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: فإننا سنذكر في هذا الدرس حجة الوداع كما في سياق حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في قصة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الحجة الوحيدة التي حجها صلى الله عليه وسلم بعد هجرته. والسياق الذي ذكره جابر بن عبد الله هو من أكمل السياقات لحجة النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه كان له اعتناء خاص بهذه القصة، ولذلك ذكرها بطولها. يقول الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم: حديث جابر رضي الله عنه وهو حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد ونفائس من مهمات القواعد، وهو من أفراد مسلم؛ لم يروه البخاري في صحيحه، ورواية أبي داود كرواية مسلم. قال القاضي عياض: وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا، وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزء كبيراًَ، وخرج فيه من الفقه مائة ونيفاً وخمسين نوعاً، ولو تقصي لزيد على هذا القدر قريب منه. فهذا الحديث فيه فوائد فقهية كثيرة جداً، وبعضها ذكرها الإمام النووي في شرحه الحديث، وأيضاً ذكرها الحافظ ابن حجر في سياق أحاديث حج النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا ذكرها صاحب عون المعبود في شرح هذا الحديث. وسياق الحديث بكماله رواه الإمام مسلم في صحيحه كما ذكرنا، وأيضاً رواه الإمام أبو داود بطوله، ورواه الإمام أحمد أيضاً، ورواه ابن ماجة بطوله. وهذا الحديث استقصى طرقه ورواياته العلامة الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه (حجة النبي صلى الله عليه وسلم)، فذكر سياق حديث جابر، واستوفى كل ما وصل إليه من ألفاظ في الحديث، ونذكر رواية مسلم، والزيادات التي على هذه الرواية مما نحتاج إليه في الفقه، فهناك زيادات كثيرة موجودة وهي معان مترادفة، فلا نحتاج إلى معان مترادفة، ولكن نذكر ما نحتاج إليه كفقه في الحديث نفسه، فنذكر الزيادات التي يحتاج إليها في ذلك، ومن شاء الألفاظ التي استوعبها الشيخ الألباني فليرجع إلى روايات حديث جابر التي ذكرها العلامة الألباني رحمة الله عليه.

شرح حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم

شرح حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث رواه مسلم عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن أبيه محمد بن علي بن الحسين قال: (دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتى انتهى إليه، فقلت: أنا محمد بن علي بن الحسين، فأهوى بيده إلى رأسي فنزع الردء الأعلى ثم نزع الردء الأسفل، ثم وضع كفه بين ثدييه، وأنا يومئذ غلام شاب، فقال: مرحباً بك يا ابن أخي! سل عما شئت، قال: فسألته وهو أعمى، وحضر وقت الصلاة فقام في نساجة ملتحفاً بها كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب فصلى بنا). فهنا الذي يروي لنا هذا الحديث هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه، يرويه عن أبيه محمد بن علي بن الحسين أنه دخل على جابر بن عبد الله رضي الله عنه. وواضح من هذه الرواية أن جابراً كان قد عمي، فكان رضي الله تبارك وتعالى عنه يسأل عن القوم الذين اللي دخلوا عليه، فقالوا: فلان وفلان إلى أن وصلوا إلى محمد بن علي بن الحسين. ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون له مزيد من الإكرام ومزيد من الضيافة، وكان شاباً صغيراً، يعني: في سن خمس عشرة أو ست عشرة سنة. فـ جابر بن عبد الله وضع يده على صدره بين ثدييه، هذا يليق بمن كان في مثل سنه، وهذا نوع من الملاطفة، فهذا الضيف جاء إليه وهو من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فلاطفه بذلك، وكان هذا لا يحصل مع الرجل الكبير، وكل ضيف يتعامل الإنسان معه على قدر سنه وعلى قدر منزلته. ولذلك الإمام النووي يذكر في هذه القطعة عدة من الفوائد فيقول: يستحب لمن ورد عليه زائرون أو ضيفان ونحوهم أن يسأل عنهم لينزلهم منازلهم. وفيه: إكرام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل جابر بـ محمد بن علي بن الحسين. ومنها: استحباب قوله للزائر والضيف ونحوهما يرحب بهما: مرحباً. ومنها: ملاطفة الزائر بما يليق به وتأنيسه، أي: ملاطفة الزائر بالشيء الذي يليق به حسب سن هذا الزائر، وما يليق بمثله من الملاطفة، وتأنيسه؛ حتى لا يستشعر بوحشة، وأنه جالس بين كبار السن وهو صغير بينهم، فكأن جابراً كان يقبل عليه ويربت على صدره كنوع من الملاطفة والتأنيس له. قال الإمام النووي: وهذا سبب حل جابر زري محمد بن علي ووضع يده بين ثدييه، يعني: كأن القميص كان له زر أعلى وزر ثان أسفل، ففك الزرين ووضع يده على صدره كنوع من الملاطفة والتأنيس له والمعرفة لمنزلته ومكانه رضي الله عنه. يقول: (فسألته وهو أعمى، وحضر وقت الصلاة فقام في نساجة ملتحفاً بها) كأنه قام فصلى بهم إماماً، رضي الله تبارك وتعالى عنه وعليه نساجة يلتحف بها، والنساجة: عبارة عن ثوب ملفق، وخروق لفق بعضها ببعض وجعلها ثوباً، وكأن هذا الثوب كان صغيراً، فكلما وضعه على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها، يعني: يلتحف على المنكبين، لكنها من صغرها كانت تسقط من شماله وتسقط من يمينه، فيرجع طرفاها إليه من صغرها.

تهيؤ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لحجة الوداع

تهيؤ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لحجة الوداع قال محمد بن علي بن الحسين: (فصلى بنا، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بيده، فعقد تسعاً -يعني: عقد بيده العدد تسعة- قال: فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم). أي: أن هذه هي السنة الوحيدة التي حجها، وهي الحجة التي سميت بحجة الوداع؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم ويحثهم أن يأخذوا المناسك منه صلى الله عليه وسلم، كما جاء في صحيح مسلم وغيره عن جابر قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: لتأخذوا عني مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه). فقوله: (لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) فيه إشارة إلى توديعه صلى الله عليه وسلم، وإعلامهم بقرب وفاته صلوات الله وسلامه عليه، فكان يحثهم على أن يأخذوا المناسك منه عليه الصلاة والسلام، وينتهزوا الفرصة أنه معهم فيعلمهم صلوات الله وسلامه عليه. فمكث النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة تسع سنين لم يحج، قال: (ثم أذن في الناس -أي: أعلم الناس- وجعل منادياً ينادي على الناس بذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج -يعني: في العام العاشر- فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم). يعني: أنهم لم ينتظروا حتى يخرج ويقابلوه في الطريق، وإنما قدموا من أجل أنه من أول ما يخرج يأتسون ويقتدون به صلوات الله وسلامه عليه. قال: (كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ فقال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي). يعني: أنه خرج حتى وصل ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس، وكانت في ذلك الحين زوجة لـ أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه. في رواية لـ ابن عباس لهذا الحديث قال: (انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس إلا المزعفرة التي تردع على الجلد). يعني: أنه لم ينه عن أي نوع من أنواع الثياب يلبسها الإنسان من قطن أو من صوف أو من غيرها؛ فيلبس الإنسان ما شاء إلا ما كان حراماً من حرير؛ فقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم، وإلا ما كان مزعفراً فإذا وضع وعرق الإنسان فإنه يلطخ ثيابه باللون الأصفر، وأيضاً هو من الطيب.

بيان كيفية إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وتلبيته

بيان كيفية إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وتلبيته قال جابر رضي الله عنه: (فأصبح صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه، وقلد بدنته، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة) وفي بعض الروايات: (وقلد البدن). يعني: أن خروج النبي صلى الله عليه وسلم كان في شهر ذي القعدة قبل أن ينتهي بخمسة أيام أو خمس ليال. وساق النبي صلى الله عليه وسلم معه بدناً من المدينة، ووصى علياً أن يشتري له من اليمن بدناً، فكان مجموع ما ساقه وما قدم به علي رضي الله عنه مائة، كلها أهداها النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيت. وقوله: (قلد بدنته) التقليد هو: وضع قلادة من ليف في عنقها، فالحبل الذي يوضع في عنق الدابة يقال له: قلادة، وأصل القلادة: ما تضعه المرأة من شيء في رقبتها. وجاء في رواية: (أنه علق فيها نعليه)، يعني: أن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم التي قلدها وضع في عنقها حبلاً من ليف، وفي هذا الحبل علق نعليه، وكأنه إشارة إلى الحث على التوجه إلى بيت الله سبحانه وتعالى والمشي والطاعة في ذلك. قال: (وذلك لخمس بقين من ذي القعدة، فقدم مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة)، يعني: أنه بقي في الرحلة تسعة أيام؛ فخرج من المدينة وبقي خمسة أيام انتهى شهر ذي القعدة، ووصل مكة صلى الله عليه وسلم في الرابع من ذي الحجة، فأخذ منه المسير تسعة أيام. هنا يقول جابر: (إن أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟). يعني: ماذا أعمل وأنا نفساء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي). يعني: أن السنة في المرأة النفساء التي تلد، ومثلها الحائض كذلك أنها تغتسل، فإذا كانت هذه في غسلها لن يفيدها إلا التنظف فقط، فإن من يفيده الغسل العبادة من باب أولى، كالذي عليه جنابة، فإن الغسل يرفع هذه الجنابة، وهذا أولى، وكذلك المرأة التي انتهى حيضها فيلزمها التطهر، فهذه أولى أن تغتسل لذلك، فالغسل هنا غسل تنظف، تتنظف المرأة ويتنظف الرجل ويستعد لأعمال المناسك. وقوله: (استثفري) بمعنى: تلجمي، يعني: ضعي على مكان نزول الدم شيئاً من الثياب واربطيه جيداً؛ حتى لا ينزل منك الدم. قال: (وأحرمي، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء) وهي ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولها أسماء، وهذا من أسمائها. في رواية النسائي لهذا الحديث: (فلما أتى ذا الحليفة صلى وهو صائم حتى أتى البيداء). يعني: ما زال لم يلب عليه الصلاة والسلام؛ لأنه جاء وقت الصلاة فصلى صلى الله عليه وسلم الصلاة ولم يكن قد أهل إلى أن أتى البيداء فبدأ بالتلبية بعدما ركب ناقته. وهنا ذكر القصواء، وفي رواية ذكر: (الجدعاء)، في رواية ذكر: (العضباء)، وفي رواية: (على ناقة خرماء)، والظاهر أنها هي هي، فهي ناقة واحدة، وكأن هذه أوصاف أو أسماء لهذه الناقة التي ركبها النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش). يعني: استوت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم به وكانت الطريق والصحراء أمامه مليئة بالناس من بين اليدين ومن اليمين والشمال. قال: (نظرت إلى مد بصري من بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به). يعني: أن الجميع كانوا ينظرون إلى فعله صلى الله عليه وسلم، وكان القرآن ينزل عليه وهو يعمل صلوات الله وسلامه عليه وهم يقتدون. قال: (فأهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، هذا إهلاله صلى الله عليه وسلم، وأهل بمعنى: رفع الصوت، فرفع صوته صلى الله عليه وسلم بهذه التلبية، وأهل الناس بهذه التلبية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أهل بذلك، والناس اقتدوا به صلى الله عليه وسلم، وزادوا عليه أشياء لم ينكرها عليه الصلاة والسلام؛ فجاء في رواية: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الكلمات ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل)، فزاد هذه الكلمة: (والرغباء) يعني: السؤال، والطلب، أي: نطلب منك ونسألك ونرغب فيما عندك، وقوله: (والعمل) يعني: نخلص العمل ونوجهه إليك. وجاء أيضاً فيه رواية أخرى عن عبد الله بن عمر: (أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وكان عبد الله بن عمر يزيد في تلبيته: لبيك لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، والرغباء إليك والعمل)، ففيها زيادة كانوا يقولونها، ومنهم عمر ومنهم عبد الله بن عمر، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فالتزم تلبيته. وفي رواية لـ جابر عند أبي داود قال: (وذكر التلبية والناس يزيدون: ذا المعارج، ونحوه من الكلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئاً)، (والمعارج) جمع معراج وهو: الذي تعرج فيه الملائكة إلى السماء، فقوله: (ذا المعارج) يعني: يا صاحب السماوات! يا صاحب المعارج التي تعرج الملائكة فيها إلى السماء! فالله سبحانه يملك كل شيء، فكانوا يقولون ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينكر عليهم هذا الذي يقولونه. وجاء عن عمر أيضاً أنه كان يزيد: (لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك مرهوباً منك ومرغوباً إليك). وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (لبيك وسعديك، والخير بيديك والرغباء إليك والعمل). وعن أنس رضي الله عنه: (لبيك حقاً؛ تعبداً ورقاً، لبيك حقاً؛ تعبداً ورقاً). فهذه بعض الزيادات التي كانوا يقولونها، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يزد على تلبيته التي قال. قال جابر: (فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئاً منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته). قال جابر رضي الله عنه: (لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة). فـ جابراً ذكر أن كل الذي نلبي به هو الحج، ولكن ذكرنا قبل ذلك عن عائشة أنها ذكرت: أن الصحابة منهم من لبى بالحج ومنهم من لبى بالعمرة ومنهم من جمع بين الاثنين، فهنا الذي علم حجة على من لم يعلم، والعدد كان ضخماً جداً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فـ جابر سمع من حوله وهم لا يعرفون إلا الحج فقط، وعائشة سمعت غيره ممن لبوا بعمرة، وممن لبوا بحج وعمرة، وممن لبوا بحج فقط. إذاً: هنا كونه يقول: (لسنا نعرف العمرة) يعني: في هذه الحجة، هذا في ظن جابر رضي الله عنه.

كيفية الطواف بالبيت

كيفية الطواف بالبيت قال جابر: (حتى إذا أتينا البيت معه -أي: مع النبي صلى الله عليه وسلم- استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]). يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم وصل إلى البيت، وهنالك عند البيت أول ما بدأ استلم الركن والحجر الأسود. وقوله: (فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً)، ما فعله قبل ذلك في عمرة القضاء هو أنه رمل لعلة معينة، والآن هذه العلة غير موجودة، ومع ذلك فعل ذلك، فصارت سنة، وسنة الرمل هي في أول ثلاثة أشواط ثم بعد ذلك المشي في الأربعة بعد ذلك. وقوله: (ثم نفذ إلى مقام إبراهيم) أي: توجه إلى مقام إبراهيم عليه السلام، قال: (فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125])، يعني: أنه يسن بعدما تنتهي من الطواف بالبيت أن تتوجه إلى مقام إبراهيم؛ لتصلي خلفه ركعتين، تقول وأنت متوجه إليه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]، ثم تصلي ركعتين. قال: (فجعل المقام بينه وبين البيت)، قال راوي الحديث -الذي هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه- فكان أبي -يعني: محمد بن علي بن الحسين يقول -ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم-: كان يقرأ في الركعتين: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ))، و ((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ))، يعني: قرأها في الركعتين، وهنا عطف بالواو التي تفيد مطلق الاشتراك بين الاثنين؛ فيجوز أن تبدأ بـ ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ))، ويجوز أن تبدأ بـ ((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ))، إحداهما في ركعة وفي الركعة الثانية السورة الأخرى. وجاءت أحاديث أخرى عنه صلوات الله وسلامه عليه، فكأن الرواة لم يضبطوا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف المقام ركعتين فقط، فروى بعضهم أنه قرأ في الأولى: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) وفي الثانية: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ))، وبعضهم ذكر عكس ذلك؛ فذكر هذه في الأولى وتلك في الثانية، فكل جائز. وروى الترمذي عن جابر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)) و ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ))) يعني: بعد قراءة الفاتحة. قال: (ثم رجع إلى الركن فاستلمه) صلوات الله وسلامه عليه، وهذا فيه سنة أخرى: أنك بعدما تنتهي من صلاة الركعتين خلف مقام إبراهيم ترجع وتستلم الركن مرة ثانية، وهذا طبعاً إن استطعت ذلك؛ لأن الآن مع الزحام أصبح هذا صعباً جداً، ولكن من استطاع أن يفعل فليفعل كل بحسب ما يقدر.

كيفية السعي بين الصفا والمروة

كيفية السعي بين الصفا والمروة قال جابر: (ثم خرج من الباب إلى الصفا)، يعني: أنه لم ينزل على نصف المسعى مباشرة، وإنما ذهب من الباب إلى الصفا، فهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا انتهيت من الصلاة خلف مقام إبراهيم، فتوجه مباشرة مستقيماً إلى الصفا، ولا تمش من ساحة الحرم إلى أن تصل إلى الصفا، فتخرج من باب الصفا إلى الصفا مباشرة، بحيث تمشي جزء من الشوط داخل المسعى، بل امش إلى الصفا وابدأ من الصفا؛ مراعاة لقول الله سبحانه في الصفا والمروة: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]، فبدأ بالصفا. وكذا قرأها النبي صلى الله عليه وسلم وفسرها بفعله عليه الصلاة والسلام، مع أننا نقول: إن الواو في اللغة لا تقتضي ترتيباً، إنما تقتضي مطلق الاشتراك فقط، ولكن ربنا سبحانه قدم الصفا على المروة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (نبدأ بما بدأ الله به)، فيكون هذا مقصوداً، حتى وإن كانت الواو لمطلق الاشتراك، لكن سنة النبي صلى الله عليه وسلم بينت أن الابتداء يكون بالصفا. فهنا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]، وقال: (أبدأ بما بدأ الله به) يعني: أن الله عز وجل إذا ذكر شيئاً وعطفه بالواو فنبدأ بالذي بدأ به الله سبحانه تبارك وتعالى، سواء قلنا: إن الواو تقتضي مطلق الاشتراك أو تقتضي الترتيب، والصواب أنها لمطلق الاشتراك، لكن لم يقدمها الله عز وجل إلا لسبب من الأسباب، فنبدأ بما بدأ الله سبحانه تبارك وتعالى به. قال: (فقرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]، فبدأ بالصفا فرقي عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات). وجاء في حديث آخر عن جابر أيضاً من رواية النسائي قال: (قرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]، ورفع صوته يسمع الناس) يعني: أنه بعدما أكمل الطواف وتوجه إلى مقام إبراهيم قرأ هذه الآية ورفع صوته؛ ليسمع الناس أن هنا مقام إبراهيم وهنا نصلي خلفه ركعتين. قال: (ثم انصرف فاستلم)، يعني: استلم الحجر الأسود مرة أخرى قبل أن يتوجه إلى الصفا. قال: (ثم ذهب فقال: نبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى بدا له البيت فقال ثلاث مرات: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت). وقوله: (يحيي ويميت) زيادة موجودة في سنن النسائي وليست في صحيح مسلم. قال: (يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، فكبر الله وحمده ثم دعا بما قدر له، ثم نزل ماشياً حتى تصوبت قدماه في بطن المسيل، فسعى حتى صعدت قدماه، ثم مشى حتى أتى المروة فصعد فيها، ثم بدا له البيت فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، قال ذلك ثلاث مرات، ثم ذكر الله وسبحه وحمده، ثم دعا عليها بما شاء الله، فعل هذا حتى فرغ من الطواف). وفي رواية جابر بعدما ذكر أنه قال ذلك على الصفا قال: (ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى)، فهنا السنة المشي من الصفا إلى بطن الوادي الذي عند الميل الأول الأخضر، فإذا وصلت إلى هذا المكان فابدأ فيه السعي الشديد أو شيئاً من الجري بين الميل الأول والميل الثاني. قال: (حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة، فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة). يعني: أنه في المرة السابعة انتهى إلى المروة، فقال: إنه لو استقبل من أمره ما استدبر لم يسق الهدي ولجعلها عمرة، يعني: ولكان تحلل كما تحلل أصحابه، ولكنه لبى بحج وعمرة، فكان قارناً وساق معه الهدي، فليس له أن يتحلل الآن عليه الصلاة والسلام.

جواز التحلل بعد العمرة لمن لم يسق الهدي

جواز التحلل بعد العمرة لمن لم يسق الهدي قال جابر رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: (فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة) يعني: يتحلل، وقال لهم هذا الشيء بعد ما صار على الصفا، وكأنه كررها صلى الله عليه وسلم لهم حتى يبلغ بعضهم بعضاً، وحتى يبلغ الأمر للجميع أن يفعلوا ذلك. في رواية في الصحيحين عن جابر قال: (إنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه وقد أهلوا بالحج مفردين، فقال لهم: أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة، وقصروا ثم أقيموا حلالاً، حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة، فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال: افعلوا ما أمرتكم، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله، فافعلوا). يعني: أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجعلوا هذه التي قدموا بها عمرة، مع أنهم نووا الحج، وبين لهم أن يفعلوا هذا الشيء، وقال لهم: أنا كنت أود أن أفعل ذلك، ولكني سقت الهدي. قال صلى الله عليه وسلم: (من كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة)، يعني من كان معه الهدي وقد لبى بالحج فليس له أن يتحلل، فقد لبى بالحج والعمرة فليس له أن يتحلل، وإنما الذي له أن يتحلل هو من لم يسق الهدي، فإذا كان لبى بالحج فله أن يتحلل ويجعلها عمرة. وإذا لبى قارناً ولم يكن معه هدي فله أيضاً أن يتحلل ويجعلها عمرة، وإذا لبى متمتعاً يعني: لبى بالعمرة وساق الهدي فله أيضاً أن يتحلل، فالهدي ليس هو الذي يلزم المتمتع أن يظل على إحرامه، إنما الذي يلزمه ذلك هو ما نواه في البداية، فإذا نوى الإفراد أو نوى القران وقد ساق الهدي معه فيظل على إحرامه، وقد فصلنا ذلك المرة السابقة. قال: (فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج -مرتين- لا بل لأبد الأبد). المعنى: إن العمرة دخلت في الحج للأبد، فلك أن تحج قارناً ليس هذا العام ولكن لأبد الأبد، قال الإمام النووي: اختلف العلماء في معنى هذا الحديث، أي: ما هو معنى قوله: (دخلت العمرة في الحج لأبد الأبد)؟ قال: اختلفوا على أربعة أقوال، أصح هذه الأقوال: ما قال به جمهور العلماء: معناه: أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إلى يوم القيامة. والمقصود به: بيان إبطال ما كانت الجاهلية تزعمه من امتناع العمرة في أشهر الحج. قلنا: إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فهدم الإسلام هذا الذي كانوا يقولونه، وأمرهم بأن يؤدوا العمرة في أشهر الحج، وقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم عمره كلها في أشهر الحج في ذي القعدة ثلاث عمر وعمرته مع حجته صلوات الله وسلامه عليه بذي الحجة. إذاً: قوله: (دخلت العمرة في الحج لأبد الأبد)، يعني: أنه يجوز لك في أشهر الحج أن تعتمر ثم تتحلل ثم تحج أو تقرن بين الاثنين، وهذا المعنى الثاني -وهو جواز القران- فعله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه عمل أعمالاً للحج هي لحجه ولعمرته صلوات الله وسلامه عليه، فدخلت العمرة في الحج لأبد الأبد. هذان معنيان صحيحان لهذا القول منه صلى الله عليه وسلم. المعنى الثالث: تأويل بعض من فسره بأن العمرة ليست واجبة، قالوا: إن قوله: (دخلت العمرة في الحج)، يعني: الحج يغني عن العمرة، والعمرة ليست واجبة، فقالوا: معناه: سقوط وجوب العمرة، ودخولها في الحج. قال الإمام النووي: وهذا ضعيف أو باطل. فالعمرة الراجح فيها من أقوال أهل العلم أنها واجبة، كما جاء ذلك في أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد قدمناها قبل ذلك، ومن ذلك ما جاء عن عمر من قوله: هديت لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الرجل: (حج عن أبيك واعتمر)، وفي هذا دلالة على أن العمرة واجبة. وهناك تأويل رابع تأوله بعض أهل الظاهر وهو جواز فسخ الحج إلى العمرة، فقوله: (دخلت العمرة في الحج)، معناه: جواز فسخ الحج إلى العمرة. وهنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل هذا كله، فيحتمل جواز فسخ الحج إلى عمرة، فقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالفسخ، وأمره لهم أمر لغيرهم أيضاً، فمن أهل بالحج مفرداً فإذا طاف بالبيت يجوز له أن يفسخ ذلك ويجعله عمرة ويصير متمتعاً، ثم بعد ذلك يهل بالحج في أيام الحج لما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم. فـ سراقة بن مالك بن جعشم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحال الآن، فهم كانوا أهلوا بالحج، فلما أمرهم صلى الله عليه وسلم بأن يجعلوها عمرة، فسأله: هذه العمرة هل هي لنا الآن، أو أنها على طول؟ كأنه يسأل: هذا الفسخ لنا أو لنا ولغيرنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، بل لأبد الأبد) يعني: ليس أنتم فقط، بل أنتم ومن بعدكم، فكأن الحديث احتمل معاني منها: أن العمرة في أشهر الحج جائزة، أي: أن القران جائز، والعمرة في الحج، يعني: أنك إذا نويت الحج وطفت بالبيت جاز أن تجعلها عمرة، فدخلت العمرة في الحج، ثم تهل بالحج بعد ذلك. فهذه ثلاث معان صحيحة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم.

الإهلال المعلق

الإهلال المعلق يقول جابر: (وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثياباً صبيغة، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها). علي جاء من اليمن مهلاً، وكان يعمل للنبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه ولاه في اليمن، ولاية من الولايات كان فيها، واشترى للنبي صلى الله عليه وسلم من اليمن الهدي، أو ما يكمل به مائة ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم. قال: (فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل، ولبست ثياباً صبيغة، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا)، يعني: أن علي بن أبي طالب أنكر على فاطمة: أنت في الحج وأنت محرمة فكيف تعملي هذا الشيء؟ قالت: (إن أبي أمرني بهذا، قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة للذي صنعت، مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال: صدقت صدقت)، أي: صدقت فاطمة رضي الله تبارك وتعالى عنها. ثم قال: يسأل علياً: (ماذا قلت حين فرضت الحج؟ فقال علي قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك صلى الله عليه وسلم). وكون الإنسان يهل بإهلال فلان، هذا النوع يسمى إهلالاً معلقاً، وقد ذكرنا أن أنواع الإحرام خمسة. وكل نوع من هذه الأنواع يجوز أن تحرم به، فيجوز أن تحرم مفرداً للحج، أو قارناً بين الحج والعمرة، أو متمتعاً بين العمرة إلى الحج، فالإنسان يحرم بعمرة، أو يحرم إحراماً مطلقاً وبعد ذلك يغير إلى شيء قبل الطواف، أو إحراماً معلقاً على إحرام فلان، كما فعل علي رضي الله تبارك وتعالى عنه. فـ علي أهل إهلالاً معلقاً، وكذلك أبو موسى الأشعري رضي الله عنه تبارك وتعالى عنه، وفرق النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهما، فـ علي بن أبي طالب ساق هدياً فأمره أن يبقى على إحرامه وأبو موسى لم يسق هدياً وأهل أيضاً كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يتحلل رضي الله تبارك وتعالى عنه. يقول هنا: (قال: قلت - أي: علي بن أبي طالب -: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك صلى الله عليه وسلم، قال: فإن معي الهدي فلا تحل، قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة) يعني: جملة هديه صلى الله عليه وسلم الذي ساقه لينحره هناك عند البيت مائة ناقة، بعضها جاء به من المدينة والبعض جاءه به علي من اليمن. وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري قال: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: حججت -يعني: لبيت بالحج-؟ فقلت: نعم. قال: بما أهللت؟ قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قد أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حل). فهنا أمر أبا موسى الأشعري بأن يحل؛ لكونه لم يكن معه هدي، فيكون مثله مثل غيره ممن لم يسق الهدي، وعلي بن أبي طالب ساق الهدي وأهل بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يستمر على إحرامه.

أعمال يوم التروية

أعمال يوم التروية قال جابر: (فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج). يعني: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه تحللوا بعدما أكملوا أعمال العمرة، ومكثوا حلالاً أربعة أيام، أي: في اليوم الرابع أكملوا العمرة، وانتظروا يوم الثامن وهم حلال، ثم أحرموا من جديد في اليوم الثامن. قال: (فلما كان يوم التروية) وهذا هو اليوم الأول في أيام المناسك، ويسمى بيوم التروية؛ لكون الناس كانوا يتروون فيه من الماء، أي: يحملون الماء معهم من مكة إلى عرفات؛ ليستعملوه في الشرب وغيره، وكان الحج في الماضي صعب جداً، وكان الإنسان الذاهب إلى منى والذاهب إلى عرفة محتاجاً للماء أن يكون معه، فكان يحمل معه الماء، فانظر الرحمة التي نحن فيها الآن؛ فإنك تذهب إلى أي مكان فتجد الماء هناك، وتلاقي نافورات المواصير طالعة في السماء تنزل عليك رذاذ ماء وأنت في عرفة، وأنت في منى، وتجد أشياء عظيمة جداً بفضل الله سبحانه وتعالى؛ فإنه سبحانه يسر لعباده، فالحج في الماضي كان غاية في المشقة، فقد كان الحجاج في يوم التروية كل واحد يأخذ مزادت الماء من أجل أن تكفيه في هذه الأيام أيام المناسك. فاليوم الثامن كان اسمه يوم التروية، واليوم التاسع اسمه يوم عرفة، والعاشر يوم النحر، والحادي عشر يوم القر، والثاني عشر يوم النفر الأول، والثالث عشر يوم النفر الثاني، فهذه ستة أيام للمناسك؛ كل يوم له اسم من الأسماء. قال: (لما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج)، فلم يخرجوا إلى الميقات، وإنما أهلوا من مكانهم، وذكروا أنهم أهلوا من البطحاء، بطحاء مكة. قال هنا: (توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج)، وفي رواية الإمام أحمد لهذا الحديث قال جابر: (فأمرنا بعدما طفنا أن نحل، قال: وإذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا، قال: فأهللنا من البطحاء). والبطحاء: موضع بين مكة وبين منى، يسمى بالبطحاء، وكأنه المكان المتسع من الوادي، فما انبطح من الوادي فهذا البطحاء، فالمكان المتسع يسمى بالبطحاء، ويسمى أيضاً بالمحصب، ويسمى أيضاً بالمعرس والأبطح، هذا المكان لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من منى بعدما أنهى رمي الجمار نزل في هذا المحصب؛ من أجل أن يكون أسمح له في النفر والخروج من مكة للرجوع إلى المدينة. والمحصب أصبح الآن بداخل مكة، اتصل به البنيان من مكة فصار بداخلها، وهو قريب من المقبرة التي تسمى مقبرة الحجون. يقول جابر: (وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر) يعني: بمنى، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة متوجهاً إلى منى، وأهل من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من البطحاء أو المحصب أو المعرس أو الأبطح. قال: (فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر) يعني: أن السنة الخروج من مكة والتوجه إلى منى بحيث يصل إلى منى عند وقت الظهر، فيصلي هنالك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيت هناك ويصلي الفجر، فيصلي في منى خمس صلوات. فالذهاب إلى منى في يوم التروية هذا سنة من سنن الحج، ومع شدة الزحام الآن الكثيرون يتوجهون إلى عرفة مباشرة، والذهاب إلى منى سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم وليس واجباً وليس فرضاً من الفرائض، لكن الأفضل للمسلم أن يلتزم ذلك طالما أنه يستطيع أن يذهب إلى هناك. قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس). وكان صلى الله عليه وسلم هنالك يقصر من الصلاة، ولكن لم يجمع، فالصلاة هناك لم تكن جمعاً، ما جمع في منى بين الظهر والعصر، والجمع يكون للحاجة، وهنا أنت في عبادة لله سبحانه تبارك وتعالى لا تحتاج إلى الجمع في هذا المكان، فإذا كنت في منى فصل هنالك قصراً، ولكن لا تجمع بين الصلاة.

أعمال يوم عرفة

أعمال يوم عرفة قال جابر: (ثم مكث صلى الله عليه وسلم قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة). ونمرة: مكان بجوار عرفة، وليس من عرفة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبة من شعر تضرب له، أي: خيمة تضرب له في نمرة. قال: (فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام). لاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من منى متوجهاً إلى عرفة، وانتظر إلى أن طلعت الشمس، يعني: لم يمش من منى بالليل، ولا مشى من منى قبل الفجر أو بعد الفجر وقبل طلوع الشمس، وإنما توجه إلى عرفة بعد طلوع الشمس، بخلاف رجوعه من المزدلفة؛ فإنه خرج من المزدلفة ليرمي الجمرة بمنى، وهو راجع إلى منى خرج من المزدلفة قبل طلوع الشمس، وكأنه بفعله هذا يخالف المشركين، حيث كان المشركون يعكسون، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، فهو في المزدلفة خرج بعدما صلى الفجر، ومكث فترة يدعو الله عز وجل على جبل قزح المشعر الحرام، وقبل أن تطلع الشمس خالف المشركين، وتوجه صلى الله عليه وسلم إلى منى. إذاً: في ذهابه إلى عرفات توجه بعدما طلعت الشمس، وفي عودته من مزدلفة إلى منى عاد قبل طلوع الشمس. قال: (سار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام) أي: عند مزدلفة، ونقول الحرم: مكة حرم منى حرم المزدلفة حرم عرفات من الحل وليست من الحرم، فالقرشيون كانوا يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يترك الحرم، وقالوا: هذا رجل من الحمس، أحمسي، والحمس هم متشددون في دينهم، الذين هم القرشيون، قالوا: كيف سيترك مكة ويترك الحرم ويذهب إلى الحل؟! فإن الشيطان زين لهؤلاء أنهم هم أهل الحرم، وأنهم لو خرجوا خارج الحرم فكأنهم صنيعوا هيبة الحرم. لذلك كانت قريش ومن دان بدينها الذين يلقبون بالحمس كانوا لا يتركون الحرم، وكل الحجاج كانوا يذهبون إلى عرفات والقرشيون لا يذهبون، وكان أقصى شيء يصلون إليه المزدلفة، ولا يذهبون أبعد من ذلك. روى ابن خزيمة وإسحاق بن راهويه من حديث نافع بن جبير عن أبيه قال: (كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة، ويقولون: نحن الحمس فلا نخرج من الحرم). يعني: ليس عندهم عرفة، كل الناس يذهبون عرفة وأما قريش فلا يذهبون خارج المزدلفة، فتركوا الموقف بعرفة. قال جبير: (فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له). ونحن ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل هجرته مرتين، فـ جبير يقول: رأيته أيام الجاهلية، يعني: قبل ما يوحى إليه صلى الله عليه وسلم وكان يخرج مع الناس إلى عرفة، وهذا من توفيق الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم. قال: (فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف مع الناس بعرفة على جمل له، ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة، فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا). وفي رواية لـ ابن إسحاق: (توفيقاً من الله له). قال جبير في رواية أخرى: (أضللت حماراً لي في الجاهلية فوجدته بعرفة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفات مع الناس، فلما أسلمت علمت أن الله وفقه لذلك). قال: (فقلت: هذا والله! من الحمس -الذين لا يصلون إلى هذا المكان- فما شأنه هاهنا؟!) أي: ما هو الذي جعله يخرج؟! ولما أسلم جبير بعد ذلك قال: علمت أنه من توفيق الله، أي: أن الله تعالى وفق النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام، وهو ما زال قبل بعثته، فكان يقف مع الناس بعرفات، ونزلت الآية: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]، فكان صلوات الله وسلامه عليه موفقاً قبل أن يوحى إليه. يقول جابر رضي الله عنه: (ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام)، فالخارج يخرج من مكة ويتوجه إلى منى، ثم يتوجه إلى عرفات، ثم يرجع من عرفات إلى المزدلفة، ومن مزدلفة يرجع إلى منى، فهم تخيلوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من مكة، ويذهب إلى منى، ثم إلى مزدلفة، ويرجع صلى الله عليه وسلم إلى منى، ولا يذهب إلى الحل في عرفات. قال: (فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها) أي: أنهم عملوا له عليه الصلاة والسلام خيمة في نمرة، ونمرة: مكان بجوار عرفة. والسنة دخول عرفة عند وقت الزوال، لكن هذا لا يتيسر الآن لكل الناس، فإنه صعب جداً مع الازدحام الشديد، فكون كل الناس يقعدون في نمرة ثم يدخلون عرفة، هذا صعب، فبحسب ما يتيسر للناس، لكنه صلى الله عليه وسلم نزل في نمرة إلى وقت الزوال، وخطب الناس، ثم دخل صلى الله عليه وسلم. قال: (حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له)، يعني: حط عليها ما يوضع على الجمل من شيء يجلس عليه الراكب. قال: (فأتى بطن الوادي) يعني: وادي عرنة، وعرنة أيضاً ليس من عرفات. فهو صلى الله عليه وسلم نزل وادي عرنة وخطب الناس هناك. قال: (فخطب الناس)، وخطبة النبي صلى الله عليه وسلم هذه واحدة من عدة خطب، واختلف العلماء في: كم خطبة خطبها النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع؟ فالبعض ذكر أربع خطب، والبعض ذكر ثلاث خطب له صلى الله عليه وسلم. وهذه الخطب إرشاد وتعليم للناس بالمناسك، والآن ليس موجوداً من هذه الخطب إلا خطبة عرفة فقط، وفي أيامه صلى الله عليه وسلم كان الناس يحضرون ويسمعون منه صلى الله عليه وسلم هذه الخطب، وأما الآن فكأنهم استغنوا عن ذلك بالدروس التي في الحرم، والتي في منى لتوعية الناس؛ لأنه يصعب حضور الناس كلهم، وحتى في خطبة عرفة لا يحضرها كل الناس، فحضور الناس كل الخطب يصعب، فهنا أربع أو ثلاث خطب خطبها النبي صلى الله عليه وسلم. الخطبة الأولى: كانت في اليوم السابع من ذي الحجة الذي هو قبل يوم التروية، خطب الناس خطبة تعليمية، علم الناس المناسك التي يفعلونها. والخطبة الثانية: كانت في يوم عرفة خطبها بنمرة قبل أن يصلي الظهر والعصر جمع تقديم، فخطب بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإمام يفعل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. والخطبة الثالثة وهي سنة عند الشافعية والحنابلة: أن يخطب الإمام يوم النحر بمنى، وهذه ليست خطبة العيد، فخطبة العيد شيء آخر لمن يصلي العيد، لكن هذه الخطبة أيضاً تعليمية؛ يعلم الناس المناسك التي في يوم الحج الأكبر، وهي خطبة واحدة يعلم الناس فيها مناسكهم من النحر والإفاضة والرمي؛ لما روى ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر)، يعني: بمنى. وذهبت الحنفية والمالكية إلى أن هذه الخطبة تكون يوم الحادي عشر من ذي الحجة لا يوم النحر، يعني: أنه في يوم النحر يكون الناس مشغولين بالعبادة وليسوا متفرغين للخطبة. ولكن جاء عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في هذا اليوم). فتكون هذه الخطبة سنة. الخطبة الرابعة: أن يخطب الإمام في الناس بمنى ثاني أيام التشريق، الذي هو يوم النفر الأول، من أجل أن يبين لهم كيف ينفرون، فينفر هذا اليوم من أراد النفر، ولا يمكث إلى أن تغرب عليه الشمس، فإذا غربت عليه الشمس لزمه المبيت هناك. وخطبته صلى الله عليه وسلم في عرفات قال فيها: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوعة، ودماء الجاهلية موضوع، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث؛ كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضع ربانا؛ ربا عباس بن عبد المطلب؛ فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربونهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات، ثم أذن، ثم أقام فصلى صلاة الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً). والذي أذن هو مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: ثم أمر بالأذان. فهذه الخطبة فيها: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)، فالأصل أن دم المسلم محرم على أي إنسان، فيحرم عليه أن يسفك دمه، إلا بما جاء فيه نص من الكتاب أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومما جاء في ذلك: (الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة). كذلك يحرم مال المسلم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه). وقوله: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)، فهذا البلد حرام، وهذه الأشهر حرم، واليوم يوم الحج يوم عرفة من أعظم الأيام، فكما يحرم عليكم أن تعتدوا في هذا المكان في هذا الوقت، وفي هذه الشعيرة، فكذلك حرمة دم المسلم وماله وعرضه. وقوله: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)، في هذا إلغاء كل ما كان في الجاهلية من باطل الجاهلية. قال: (ودماء الجاهلية موضوعة)، أي: ما كان من أشياء بين الناس من سفك دماء في الجاهلية كله موضوع، وأمر الجاهلية كله التغى ويستأنفون العمل من الآن. قال: (وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل)، و

أعمال ليلة النحر ويوم النحر وما بعده

أعمال ليلة النحر ويوم النحر وما بعده قال جابر رضي الله عنه: (حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة). يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم وصل إلى المزدلفة، وهنالك صلى صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء بأذان وإقامتين، ثم نام صلوات الله وسلامه عليه إلى الفجر، ولما طلع الفجر صلى صلاة الفريضة -صلاة الصبح- بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء، وهذه الصلاة في هذا اليوم بكر صلى الله عليه وسلم بها، يعني: كانت العادة أنه يؤذن المؤذن وينتظر النبي صلى الله عليه وسلم حتى يجتمع الناس، وأما هنا فأذن المؤذن وصلى ركعتين وأقام الصلاة مباشرة، فلما طلع الفجر صلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة. قال (ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده)، يعني: دعا ربه سبحانه، فمن السنة الوقوف على المشعر الحرام، وهو جبل قزح، وأي مكان يقف فيه في المزدلفة فكله جائز، وتسمى المزدلفة، وتسمى أيضاً بجمع، ويسمى المكان الذي يقف فيه المشعر الحرام أو جبل قزح. والمزدلفة سميت من التزلف والازدلاف؛ لأن الحجاج يقدمون من عرفة ويقربون عليها، فكأنهم يزدلفون إليها، أي: يمضون إليها ويتقربون منها، وتسمى بجمع لاجتماع الناس هنالك، فالحجيج يجتمعون في المزدلفة، والبيات في المزدلفة هذا من الواجبات في الحج، وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يسبح بين الصلاتين دليلاً على أن السنة إذا صلى المغرب لا يصلي سنة المغرب، وصلى العشاء وبعد ذلك نام صلوات الله وسلامه عليه. فإن قيل: الوتر في هذه الليلة هل يصلى أو لا يصلى؟ هنا لم يذكر في هذا الحديث، وكأن الراوي لم ينتبه هل صلاه النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يصله، لكن قال لنا فقط: (لم يسبح بين المغرب والعشاء)، فعلى ذلك لا يضيع الإنسان الوتر؛ لأن عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يترك الوتر ولا ركعتي الفجر لا في سفر ولا في حضر، فالأصل العموم في ذلك. قال: (حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً) يعني: وقف على جبل قزح في المشعر الحرام فدعا الله سبحانه، وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر، والإسفار: أن يبدأ كل إنسان يعرف من بجواره، أي: فيه إضاءة، لكن الشمس ما طلعت، ولا زالت تحت الأفق، ففي وقت الفجر يظهر شعاع بسيط يخرج منها ويبقى منكسراً فوق الأفق، وتكون السماء كلها مظلمة، ولا ترى من بجوارك، ووقت الإسفار كأن الشمس قربت تطلع وما زالت تحت الأفق، والإشعاعات التي تطلع تنعكس فوق سطح الأرض، ويتغير لون السماء، فبعد ما كانت سوداء تتحول إلى الزرقة، وإذا بالإنسان يرى من بجواره. قال: (حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس)، وهذا هو الذي قدمناه: أنه خالف أهل الجاهلية، فقد كان أهل الجاهلية يقفون وينتظرون حتى تطلع الشمس، وكانوا يقولون لجبل هناك اسمه ثبير أعظم الجبال الموجودة هناك: أشرق ثبير كيما نغير، يعني: اطلعي يا شمس! فنحن نريد أن نمشي، وأن نتحرك بسرعة من المكان، أو كيما نغير، بمعنى: أن نلحق نأكل الذبائح التي سنذبحها هنالك. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينتظر طلوع الشمس، ولكن خرج في وقت الإسفار قبل أن تطلع الشمس وتوجه عليه الصلاة والسلام إلى منى. قال: (وأردف الفضل بن عباس، وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً، فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ضعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل؛ يصرف وجهه من الشق الآخر، حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً). يعني: أن الفضل كان راكباً خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فمرت مجموعة من النساء -ضعن- يجرين، فنظر إليهن، فالنبي صلى الله عليه وسلم وضع يديه على وجهه حتى لا ينظر، وهذا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتغيير لذلك، حتى ولو كان هذا قريباً، وحتى لو كان الإنسان يظن أنه ليس منتبهاً، حتى لو كان الإنسان في المناسك وغلبة الظن أن الذي يفعل هذا ليس منتبهاً ولا يريد أن يعصي الله عز وجل في هذه الأماكن، ولكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. قال: (حتى أتى بطن محسر)، وبطن محسر: واد قريب من المزدلفة، يواجهك وأنت متوجه من مزدلفة إلى منى؛ سمي بذلك لأن الله عز وجل حسر أصحاب الفيل فيه، قال عز وجل: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:3 - 5]، وحسر الفيل في هذا المكان، يعني: أعيا وتعب وما قدر أن يمشي من هذا المكان. ففي هذا المكان عذب هؤلاء الكفار، فالنبي صلى الله عليه وسلم أحب أن يجري في المكان الذي كان فيه عذاب يوماً من الأيام، فالسنة أن الذي يصل إلى هذا المكان -بطن محسر- أن يجري بحيث إنه يتجاوزه سريعاً. قال: (فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف). الحصى الذي رمى به النبي صلى الله عليه وسلم حصى صغير قدر الفولة وأكبر من الحمص أو بقدر الباقلا التي هي حبة الفول، وقوله: (مثل حصى الخذف) لأن الغلمان أو الأطفال الصغار، يخذف أحدهم بها، فيحطها على أصبعه ويضربها بإصبعه الثانية. فمن أجل أنه يصنع شيئاً صغيراً جداً يفعل به هكذا، ولذا سميت حصى الخذف، فجمع سبع حصيات صغيرة. يقول: (رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة)، يعني: أن السنة في هذا اليوم أن ترمي جمرة العقبة التي هي الجمرة الكبرى بسبع حصيات، والسنة التكبير مع كل حصاة. قال: (رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده) عليه الصلاة والسلام ومجموع النوق التي كانت معه مائة، هذه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فنحر ثلاثاً وستين، وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك العام ثلاثاً وستين سنة؛ فكل سنة من عمره بواحدة نحرها صلوات الله وسلامه عليه. قال: (ثم أعطى علياً فنحر ما غبر) أي: أعطى علي بن أبي طالب فنحر السبع والثلاثين الباقية، وأشركه في هديه صلى الله عليه وسلم. قال: (ثم أمر من كل بدنة ببضعة) يعني: قطعة من اللحم، بحيث إنه يأكل منها؛ ليري الناس أن السنة أن تأكل من هديك. قال: (فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت). يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة، وبعد ذلك نحر صلوات الله وسلامه عليه، ذكر هنا في هذه الرواية: أنه أفاض بالبيت عليه الصلاة والسلام، ولم يذكر الحلق هنا، مع أنه قد حلق النبي صلوات الله وسلامه عليه. قال: (فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب! فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلواً فشرب منه). وفي رواية أخرى للترمذي عن علي بن أبي طالب ذكر فيها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تحرك -أي: من عرفات- نظر إلى الناس وهو يقول: يا أيها الناس! عليكم السكينة، ثم أتى جمعاً -أي: المزدلفة- فصلى بهم الصلاتين جميعاً، فلما أصبح أتى قزحاً فوقف عليه وقال: هذا قزح، وهو الموقف، وجمع كلها موقف)، وهذا للتيسير على الناس، فلو كل الناس ذهبوا يقفون على قزح يصعب عليهم ذلك، ولكن قال: المزدلفة كلها أينما تنتقل فيها فهي موقف. قال: (ثم أفاض حتى انتهى إلى وادي محسر فقرع ناقته فخبت -يعني: جرت قليلاً- ثم أتى المنحر فقال: هذا المنحر، ومنى كلها منحر، قال: واستفتته جارية شابة من خثعم، فقالت: إن أبي شيخ كبير قد أدركته فريضة الله في الحج أفيجزئ أن أحج عنه؟ قال: حجي عن أبيك، قال: ولوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله! لم لويت عنق ابن عمك؟). يعني: كأن المرأة كانت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم وكأن الفضل كان يريد أن يسمع السؤال والجواب، وخشي عليه النبي صلى الله عليه وسلم الفتنة، فوضع يده على وجهه وصرفه، فـ العباس يسأل: لماذا تفعل هذا مع ابن عمك؟ فقال: (رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما، قال: وأتاه رجل فقال: يا رسول الله! إني أفضت قبل أن أحلق؟)، يعني: أن السنة أولاً الحلق، وبعد ذلك الذهاب للطواف بالبيت طواف الإفاضة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (احلق أو قصر ولا حرج، وجاء آخر فقال: يا رسول الله! إني ذبحت قبل أن أرمي؟ فقال: ارم ولا حرج، قال: ثم أتى البيت فطاف به، ثم أتى زمزم فقال: يا بني عبد المطلب! لولا أن يغلبكم الناس عنه لنزعت). هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صفة حجة الوداع، وبقي تفصيل في صفة الحج، نذكره في حديث آخر إن شاء الله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ما جاء في الإحرام والتلبية

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - ما جاء في الإحرام والتلبية لكل عبادة ما يميزها ويصبغها بصبغة شرعية، فالحج والعمرة صبغت بالتجرد لله ظاهراً من كل لباس إلا إزار ورداء، وباطناً من كل شيء سوى الله تعالى، فيأتي العبد نسكه طاهراً غير متطيب أو متزين، إلا ما كان قبل إحرامه، ومن فعل شيئاً من ذلك حتى بعذر لزمته فدية له وإن سقط عنه الإثم، وللإحرام مستحبات ينبغي عليه مراعاتها والعمل بها.

مستحبات الإحرام

مستحبات الإحرام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. الإحرام وما يستحب وما يحرم على المحرم فيه. الإحرام معناه: عقد النية بالإحرام مع رفع الصوت بالتلبية، فيقول: لبيك عمرة، أو لبيك حجة، أو لبيك حجة وعمرة، بحسب ما نواه في ذلك. فما الذي يستحب عند إرادة الإحرام؟ وما الذي يصنعه من أراد ذلك؟

الاغتسال

الاغتسال الغسل للإحرام من المستحبات، فمن أراد أن يحرم يستحب له أن يغتسل، وهذا سنة وليس فرضاً، فإذا أحرم من غير غسل فإحرامه صحيح، ويكون الاغتسال من الميقات الشرعي عند الإحرام، ولو أنه وجد مكاناً آخر قبل الميقات، فالاغتسال عند إرادة الإحرام في المكان الذي سيحرم سنة من السنن. روى زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل). (تجرد) أي: نزع ثيابه صلى الله عليه وسلم، (لإهلاله) أي: لإرادة أن يلبي بحجه عليه الصلاة والسلام، (واغتسل) عليه الصلاة والسلام عند ذلك. ويستحب الاغتسال للرجل والمرأة، سواء كانت المرأة طاهراً أو حائضاً أو نفساء؛ لأنه اغتسال للتنظف. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (نفست أسماء بنت عميس بـ محمد بن أبي بكر بالشجرة) موضع اسمه الشجرة، و (نفست) أي: وضعت حملها بـ محمد بن أبي بكر (فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يأمرها أن تغتسل وتهل)، أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكانت قبل ذلك زوجة لـ جعفر بن أبي طالب، وقد قتل شهيداً رضي الله عنه في غزوة مؤتة، ثم تزوجها أبو بكر رضي الله عنه بعد ذلك، ومات عنها وتزوجها علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه بعد ذلك. وفي الحديث: أن هذا الغسل غسل تنظف؛ لأنه لن يرفع عنها الحكم بأنها نفساء. قال ابن المنذر: (أجمع عوام أهل العلم على أن الإحرام بغير غسل جائز)، فلو أن إنساناً أحرم، وقال: لبيك حجة، أو لبيك عمرة، ولبس إحرامه ولم يغتسل فلا شيء عليه وإحرامه صحيح.

السنة فيما يلبسه المحرم من الثياب

السنة فيما يلبسه المحرم من الثياب السنة أن يحرم الرجل في إزار ورداء ونعلين -والمرأة سيأتي الكلام عليها- سواء كان صغيراً أو كبيراً، وهذا مجمع على استحبابه. وفي أي شيء أحرم جاز إلا الخف ونحوه والمخيط، فليس له أن يلبس الخف، وهو الحذاء الذي له رقبة عالية تتجاوز الكعبين، وكعب الإنسان هو المكان البارز أسفل الساق، ففي نهاية كل ساق توجد عظمة في الشمال وأخرى في اليمين وهذان هما الكعبان، فإذا لبس حذاء ما دون هاتين العظمتين فهو نعل، فإذا جاوز وارتفع عنهما فهو خف، وليس له أن يحرم في الخف طالما أنه قادر على النعل. كذلك المخيط لا يلبسه الإنسان، وهو: ما فصل على الموضع أو العضو الذي جعل عليه، مثل: العمامة على قدر رأس الإنسان، والثوب والقميص، والفنيلة والشورت، هذه كلها أشياء مخيطة، وليس شرطاً أن تكون كلها مخاطة خياطة؛ لأن هذا اللفظ لم يأت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لما ضرب الأمثلة بالأشياء التي لا يلبسها المحرم على ذلك، كما في حديث ابن عمر: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! ما يجتنب المحرم من الثياب؟ فقال: لا يلبس السراويل، ولا القميص، ولا البرنس، ولا العمامة، ولا ثوباً مسه زعفران ولا ورس، وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين، فإن لم يجد نعلين فليلبس خفين، وليقطعهما حتى يكونا أسفل من العقبين)، فذكر في الحديث أنه لا يلبس كذا، ويلبس كذا، فأخذ الفقهاء من ذلك أنه لا يلبس المخيط. إذاً: كلمة (المخيط) لم تأت في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما استنبط الفقهاء ذلك مما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم مما يلبسه المحرم وما لا يلبسه، فقيدوا وقالوا: المخيط هو كل ما كان مقطوعاً ومفصلاً على قدر بدن الإنسان أو عضو من أعضائه، ولا يشترط أن يكون بالخيط، فقد يكون ملصوقاً بصمغ مثلاً، أو مدبساً بدبابيس، فهذا كله داخل تحت معنى المخيط، فلا يشترط أن يكون مخيطاً بخيط. والعكس كذلك: فلو أنه لبس ثوباً غير مفصل وغير مخيط على قدر عضو فيه كملاءة ليست على مقاسه فوصلها بشيء آخر وخيطها أو دبسها فهذه مخيطة، ولكن لا تدخل تحت هذا المعنى الذي ذكره الفقهاء. فلأجل ذلك نقول: إن لفظ (المخيط) ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو استنباط من الفقهاء. إذاً: لو أن ثوب الإحرام الذي ستلبسه قصير عليك وأتيت بآخر فخطت الاثنين معاً فأصبحا ملاءة كبيرة، فليس هذا مخيطاً على المعنى الذي يقصده الفقهاء؛ لأنه ما زال إزاراً أو ما زال رداءً.

الترجل والادهان قبل الإحرام

الترجل والادهان قبل الإحرام روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما ترجل وادهن)، وهذا كان قبل إحرامه، فقد صلى الظهر في المدينة أربع ركعات، ثم انطلق إلى ذي الحليفة، وبين المدينة وذي الحليفة ستة أميال، فمشط شعره صلى الله عليه وسلم، والترجل: هو مشط الشعر، (وادهن) وضع دهناً وطيباً، ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه عليه الصلاة والسلام، قال: (ولم ينه عن شيء من الأزر والأردية) يعني: أي نوع من أنواع القماش يجوز لبسه، إلا أن يكون محرماً كالحرير مثلاً، وكذلك أي نوع من الألوان يجوز، إلا أن يكون ثوب شهرة فليجتنب الحاج مثل ذلك، قال: (إلا المزعفرة) أي: الموضوع عليها زعفران، وكانوا يتطيبون بذلك، والزعفران له رائحة طيبة، ولكنه إذا وضع على جلد الإنسان ينضح على الجلد، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس المزعفر، قال: (حتى أصبح بذي الحليفة ركب راحلته صلى الله عليه وسلم حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه)، وذكر هنا أنه لما ركب الراحلة لبى صلى الله عليه وسلم بالحج.

لبس النعل دون الخف

لبس النعل دون الخف في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن لم يجد النعلين: (فليلبس خفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين). وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يجد الإزار فليلبس السراويل، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين). هذا كله كان من النبي صلى الله عليه وسلم تعليماً لهم وهم خارجون من المدينة: أن الإنسان إذا لم يجد النعلين يلبس الخفين بشرط أن يقطعهما أسفل من الكعبين، وسيأتي بعد ذلك أن المعذور يجوز له أن يلبس الخفين بدون قطعهما.

لبس الثياب البيضاء والتطيب للرجال والنساء

لبس الثياب البيضاء والتطيب للرجال والنساء يستحب كون الإزار والرداء أبيضين، والثوب الجديد أفضل من الثوب القديم أو المغسول؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خيار ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم). إذاً: الثوب الأبيض أفضل ما يكون في لبس الإحرام، ويجوز غيره من الألوان. ويستحب أن يتطيب في بدنه عند إرادة الإحرام، سواء الرجل أو المرأة، ولكن المرأة مقيد تطيبها بألا تكون في مجمع من الرجال، أو لن تختلط بهم، ولعله في الماضي عندما نقول: حج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه من أصحابه مائة وثلاثون ألفاً كان هذا العدد بالنسبة لهم كبيراً، ولكن الأرض واسعة فلن يحصل اختلاط بين الرجال والنساء في هذه الأماكن، وتستطيع المرأة أن تحترز إذا كانت متطيبة فتكون بعيدة، أما الآن فإن الأمر صعب، ففي كل مكان سيتحرك فيه الرجل أو المرأة سيكون حوله رجال ونساء كثر، فيصعب جداً أن تضع المرأة الطيب وتكون في هذا المكان، فرجع الحكم لمنع النبي صلى الله عليه وسلم النساء من التطيب في المساجد. لكن إذا كان زمن العمرة ولا زحام، فمن الممكن أن تضع المرأة الطيب وتكون بعيدة عن الرجال؛ لفعل نساء النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قالت عائشة رضي الله عنها: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، كأنما أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم)، وبيص الطيب: هو لمعانه، فتقول: إنها كانت تضع للنبي صلى الله عليه وسلم طيباً في مفرق رأسه عليه الصلاة والسلام، والطيب إذا جاءت الشمس عليه ظهر له بريق ولمعان، فتقول: كأني أنظر إليه. إذاً: فقد كان له جرم موجود في رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: أنه لم يزله بعد إحرامه صلى الله عليه وسلم، فدل على جواز وضع الطيب قبل الإحرام، وأن يستديمه بعد الإحرام ولا يزيل أثره. والرجل والمرأة في التطيب سواء فقد روى أبو داود عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الإحرام)، والسك: نوع من أنواع الطيب، قالت: (فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها، فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها)، فدل هذا على أن المرأة يجوز لها في الإحرام أن تضع الطيب حتى ولو سال على وجهها، ولكن بقيد: ألا تختلط وهي متطيبة بالرجال، فإذا كان ثمة زحام كما هو اليوم في الحج والعمرة فلا داعي أن تضع المرأة الطيب عليها. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم النساء أن يتطيبن عند الخروج إلى المسجد، وأمر المرأة التي تتطيب وتخرج من بيتها إلى المسجد أن ترجع إلى بيتها فتغسل عنها هذا الأثر، وجوز النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحج والعمرة، والفرق بينه وبين الجمعة: أنه يكره للنساء الخروج متطيبات؛ لأن مكان الجمعة في المسجد يضيق على الرجال وعلى النساء، فيفوح من النساء رائحة الطيب، وفي هذا إثارة فتنة للرجال. كما أن وقت الجمعة ضيق بخلاف وقت الحج أو العمرة فهو وقت طويل والمكان متسع، فلو أن المرأة ستكون بعيدة عن الرجال جاز لها ذلك، وإلا فلتجتنبه عند كثرة الزحام كما هو الحال الآن. وإذا تطيب الرجل فله استدامته بعد الإحرام، والفرق بين الابتداء والاستدامة يشبه نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح الحاج المحرم أو أن يكون ولياً في نكاح، ولا يخطب المحرم، ولكن إذا كان متزوجاً فله استدامة ذلك على ما هو فيه، وكذلك وضع الطيب، فإذا كان متطيباً قبل الإحرام جاز له الاستدامة، ولكن ليس له أن يبدأ وضع الطيب بعدما لبس ثوب الإحرام وقال: لبيك عمرة أو لبيك حجة. والإحرام هنا معناه عقد النية، فلو فرضنا أن المحرم لبس ثوب الإحرام، لكنه لم يقل: لبيك حجة، أو لبيك عمرة، فلا يدخله هذا في كونه محرماً، وإنما يصير محرماً بعقد النية وبالتلفظ بالتلبية. إذاً: لا مانع أن يلبس الإحرام قبل الميقات، فإذا جاء عند الميقات قال: لبيك حجة، أو لبيك عمرة، كما يجوز له وهو لابس الإحرام أن يضع الطيب في شعره أو بدنه أو ثيابه، ولو انتقل الطيب أثناء إحرامه من مكان إلى مكان، كما لو وضعه في شعره فسال العرق من شعره على بدنه وفيه هذا الطيب فلا شيء عليه، أما لو أحرم ثم تعمد وضع يده على رأسه، ومسح بالطيب ثيابه فلا يجوز له ذلك؛ لحديث السيدة عائشة رضي الله عنها: (فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها، فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا)، ولو مس الطيب بيده عمداً فعليه الفدية؛ لأنه تعمد أن يطيب يده. ولا يستحب تطييب ثوب المحرم عند إرادة الإحرام، وإذا طيبه قبل أن يقول: لبيك عمرة أو لبيك حجة فلا شيء عليه، فوضع الطيب على الرأس والثياب لا مانع منه، لكن نقول: لا يستحب أن يضع الطيب على ثيابه؛ لأن العادة في المحرم أن معه إزاراً واحداً ورداء واحداً ليس معه غيرهما، فإذا وضع في ثيابه الطيب فلابد أن يأتي عليه وقت يدخل الحمام ويخلع هذه الثياب، وإذا خلعها فأكثر الفقهاء على أنه لا يجوز له أن يلبسها مرة ثانية؛ لأنها تأخذ حكم الثياب المطيبة، وليس لك أن تلبس هذه الثياب، فخروجاً من الخلاف لا يضع في ثوبه شيئاً من الطيب، فإذا وضع في ثوب ونزعه لغسل أو غيره فليلبس ثوباً آخر غير هذا الثوب الذي فيه الطيب.

استحباب الخضاب للمرأة

استحباب الخضاب للمرأة ويستحب للمرأة أن تختضب للإحرام، سواء كان لها زوج أم لا، والخضاب هو وضع الحناء على اليدين، وليس يقصد منه أن تكون اليد ملفتة للنظر بأن تضعه وتنقش يديها، ولكن تضعه على امتداد جلد اليد، فإن البعض يضعن الحناء على اليدين بطريقة معينة ملفتة للنظر، بأن تنقش يديها وترسم عليها حتى إن الناظر يعجبه ذلك، ولكن الخضاب هو تغيير لون جلد المرأة، فيجوز لها أن تضع الخضاب على يديها سواء كانت شابة أو عجوزاً، وحيث اختضبت فتخضب كفيها ولا تزيد على ذلك. جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعي عمرتك، وانقضي رأسك وامتشطي، وأهلي بالحج). وقالت: (كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها؛ فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا). والغرض: أن هذا الخضاب للمرأة هو من الطيب لها، وإن كان لا ريح له، فعلى ذلك يجوز لها أن تضع ذلك عند الإحرام سواء كانت شابة أو كبيرة، ولكن ليس على الهيئة التي تلفت النظر، وإذا اختضبت المرأة في الإحرام فهذا من ضمن الطيب، ولكن لا رائحة له، ولو خضبت يديها بالحناء لفتهما بخرقة لأجل الحناء، وهي بفعلها هذا الراجح أنه ليس عليها فدية في ذلك؛ لأنه طيب لا رائحة له، والمقصود في الفدية ما له رائحة. ويستحب أن يتأهب للإحرام مع ما سبق بحلق العانة، ونتف الإبط، وقص الشارب، وقلم الأظفار. فعلى الإنسان أن يتنظف؛ لأن فترة الحج قد تطول، فعليه أن يتنظف بمثل ذلك؛ لأنه أمر يسن له الاغتسال والطيب، فيسن له ذلك كالجمعة، ولأن الإحرام يمنع قص الشعر وقلم الأظفار، فاستحب فعله قبله لأجل ألا يحتاج إليه، وخاصة إذا طال الإحرام، والبعض قد يذهب إلى هناك من نصف ذي القعدة، وينوي الحج من هذا الوقت إلى أن ينتهي من أعمال الحج، فالأفضل أن يستعد لهذا العمل بمثل ذلك.

استحباب الإحرام عقب صلاة

استحباب الإحرام عقب صلاة يستحب أن يحرم عقيب صلاة، والأفضل أن تكون صلاة مكتوبة، فيصلي الظهر أو العصر ثم بعد ذلك يحرم، أو يقول: لبيك حجة، أو عمرة، كصنع النبي صلوات الله وسلامه عليه، ففي حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة، ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج عليه الصلاة والسلام). وفي رواية: (أنه صلى الظهر في المدينة أربعاً، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين ثم أهل بالإحرام)، فكان إحرامه بعد صلاة العصر أو بعد صلاة فريضة. وجاء أن ابن عمر كان يأتي مسجد ذي الحليفة، فيصلي ركعتين، ثم يركب دابته، فإذا استوت به راحلته قائماً أهل، ثم قال: (هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك). فـ ابن عمر كان يأتي ذا الحليفة ويصلي ركعتين، ولم يذكر صلاة فريضة ولا نافلة، وعلى ذلك جمهور أهل العلم: أنه يصلي صلاة فريضة إذا كان وقت فريضة، وإذا لم تكن فريضة فيصلي ركعتين نافلة، ثم يحرم بعدهما. وهل للمحرم أن يصلي ركعتين مخصوصتين للإحرام؟ أم يصلي أي صلاة سواء كانت فريضة أو نافلة؟ أم لا بد من كونها صلاة فريضة فقط وإذا لم يكن وقت فريضة فليحرم؟ في المسألة أقوال لأهل العلم، وجمهور أهل العلم على أنه يصلي ركعتين، وإذا كان الوقت وقت صلاة فريضة فيصلي الفريضة، ثم يصلي ركعتين نافلة، ثم يحرم بعدها. هذا ما ذكره الإمام النووي رحمه الله، فقد ذكر أنه يستحب أن يصلي ركعتين عند إرادة الإحرام، قال: وهذه الصلاة مجمع على استحبابها، وإن كان الإجماع على العموم سواء كانت فريضة أو غير فريضة. وذكر ابن تيمية المسألة ففصل، وقال: يستحب أن يكون إحرامه بعد صلاة إما فرض وإما تطوع، يقول: إن كان وقت تطوع في أحد القولين عند أحمد رحمه الله، وفي الآخر إن كان يصلي فرضاً أحرم عقيبه، وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه، وهذا أرجح. شيخ الإسلام كلامه جميل وطيب وفقهه جميل، وليس عنده عصبية في شيء، فقد ذكر القولين ولم يقل هذا باطل، وهذا بدعة، وهذه ضلالة، ولكن قال: فيها قولان عند الإمام أحمد: أن يصلي فريضة ثم يحرم بعدها إذا كان وقت فريضة، وذكر في البداية أنه يستحب أن يحرم عقب صلاة إما فرض وإما تطوع، فإذا كان في وقت صلاة تطوع صلى وأحرم بعدها. إذاً: لو لم يكن سيصلي الفريضة والوقت وقت تطوع فهل يستحب له أن يصلي الركعتين؟ ابن تيمية يقول: الأرجح أنه ليس للإحرام صلاة تخصه، وعندما يقول: الأرجح فهناك قول آخر مرجوح، وقد نقل النووي الإجماع على استحبابه، فعلى ذلك لا ينكر على من يفعل ذلك. ودليل الإجماع: القياس؛ إذ لا توجد صلاة مفروضة نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم، إنما القياس على فعله صلاة يعقبها إحرام، فعلى ذلك من كان عليه فريضة فليصلها ويعقبها بالإحرام، ومن ليست عليه فريضة جاز له أن يصنع مثل صنيع النبي صلى الله عليه وسلم، وماذا سنقول له؟ صلِ فريضة مرة أخرى؟ لا يجوز ذلك، فلم يبق إلا أن يتطوع وبعدها يحرم بالحج أو بالعمرة؛ هذا قياساً على ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الإحرام عقيب فريضة، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: إن الإحرام لابد أن يكون بعد فريضة، لكن فعله لما صلى فريضة وقت فريضة. ولمَ لم يصل نافلة في هذا المكان؟ لأنه ليست عليه نافلة، والصلاة الحاضرة الآن صلاة العصر، والمسافر لا يصلي نافلة، والصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم كانت صلاة العصر، فصلى الركعتين ثم أحرم بعدها. وعلى هذا فمن كان في هذا المكان ليس عليه فريضة، أو في وقت غير وقت الفريضة؛ فله أن يصلي النافلة، فإذا فعل فقد شابه النبي صلى الله عليه وسلم في أنه صلى صلاة وأحرم بعدها، وهذا ما فعله ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي ركعتين ثم يركب، فإذا استوت به راحلته قائمة أهل ثم قال: (هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك). وإذا كان في ذي الحليفة فهناك وادي العقيق، ويستحب له في هذا الوادي أن يصلي ركعتين، سواء قلنا بأنه يستحب الإحرام بعد ركعتين أو لا يستحب؛ لما ثبت عنه صلوات الله وسلامه عليه في حديث ابن عباس عن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: (أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة)، فإذا أتى هذا المكان فيستحب له أن يصلي كما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم.

التلبية في الإحرام

التلبية في الإحرام في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل رجله في الغرز)، والغرز: هو شيء يضع الراكب رجله عليه ثم يركب ويصعد حتى يستوي فوق الجمل، قال: (كان صلى الله عليه وسلم إذا أدخل رجله في الغرز واستوت به ناقته أهل من مسجد ذي الحليفة) إذاً هنا إهلاله عليه الصلاة والسلام بعدما صلى ثم ركب على الدابة ثم قال: لبيك حجة. وروى البخاري عن أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحليفة، فلما أصبح واستوت به راحلته أهل عليه الصلاة والسلام)، أي: رفع صوته بالتلبية. وينبغي لمريد الإحرام أن ينوي الإحرام بقلبه ويلبي بلسانه، فيعزم النية في القلب، والإحرام هو النية، وإذا لبى فيستحب أن يقول: اللهم هذه عمرة لا رياء فيها ولا سمعة. إذا كانت عمرة، وإذا كان حجاً يقول: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه ابن ماجة عن أنس رضي الله عنه قال: (حج النبي صلى الله عليه وسلم على رحل رث، وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي) عليه الصلاة والسلام. (رحل رث) قديم بالي، والرحل هو شيء من الكساء يوضع فوق البعير لكي يجلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الرحل كان قديماً، (وقطيفة): قطعة قماش وضعت فوق ناقته يجلس عليها صلى الله عليه وسلم ثمنها أربعة دراهم أو لا تساوي الأربعة الدراهم، والأربعة الدراهم تساوي اثني عشر جراماً من الفضة أو لا تساوي، وجرام الفضة عندما يكون غالياً جداً سيكون ثمنه جنيهاً واحداً، فهذه القطيفة التي جلس عليها صلى الله عليه وسلم قد لا تساوي هذا الثمن. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة، اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة)، هذا النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، فنحن أولى أن نقول ما قال صلى الله عليه وسلم. ويؤخذ من ذلك أن يذكر الإنسان نفسه، فأنت تحج لله سبحانه، فاحذر من الرياء، فأنت لا تحج ليرى الناس أنك حججت، ولا تريد التسميع، وأن يسمع الناس عنك أنك حججت، وترجع ويقال: الحاج فلان والحاج فلان بل حجة لا رياء فيها ولا سمعة. ثم يقول: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).

استحباب رفع الصوت بالتلبية

استحباب رفع الصوت بالتلبية وينبغي أن يرفع صوته بالتلبية، فقد صار الآن محرماً، فقد عقد وعزم في قلبه على الإحرام، ولبى بلسانه، وأظهر ما في قلبه على لسانه. ولو فرضنا أنه حج ولم يلب، فهو هنا ترك شيئاً واجباً أمر به، ولكن الإحرام صحيح، سواء لبى أو لم يلب، فهو قد عقد العزم، وصار محرماً بعقده العزم على ذلك. وينبغي أن يرفع صوته بالتلبية؛ لحديث خلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال أو بالتلبية). إذاً: جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم، فالمستحب رفع الصوت بالتلبية. في الصحيحين عن ابن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها: لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل. فهنا تجوز الزيادة، ولكن الأفضل أن يقتصر على ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه. وعن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الحج العج والثج)، رواه الترمذي وابن ماجة وغيرهما، والعج: هو رفع الصوت بالتلبية، والثج: هو إراقة الدماء. إذاً: التقرب إلى الله عز وجل بالهدي في الحج هو من أفضل أعمال الحج.

معنى التلبية

معنى التلبية والتلبية معناها: أجيب ربي مرة بعد مرة، والمقصد التثنية، وليس معناه أنه مرتين فقط، ولكن كأنه مرة بعد مرة، وعلى ذلك نقول: لبيك أي: إني مقيم على طاعتك. وفيها معان كلها صحيحة، منها: اتجاهي وقصدي إليك، أي: توجهي وقصدي إلى ربي سبحانه وتعالى، مأخوذ من قولهم: داري تلب دارك، أي: مواجهة لها، كأنك تقول: يا رب! أنا متوجه إليك. وقيل: معناها: محبتي لك، مأخوذ من قولهم: هذه امرأة لبة، أي: محبة لزوجها، أو محبة لولدها وعاطفة عليه، وقيل: معناها: أخلص لك إخلاصاً بعد إخلاص، مأخوذ من قولهم: حب لباب، إذا كان خالصاً محضاً، ومن ذلك لب الطعام، أي: الخالص من الطعام وما في داخل الطعام. وقيل: معنى اللب: الإقامة، من لب الرجل بالمكان وألب به، بقي فيه وأقام فيه ولزمه. هذه كلها معان مقصودة في قولك: لبيك، أي: أنا مقيم على طاعتك، مخلص لك، متوجه إليك، مستجيب لك. (إن الحمد والنعمة لك)، يجوز أن يقول: (إن) بكسر الهمزة، ويجوز (أن) بفتح الهمزة، والجمهور على أن الكسر أجود وهو الصواب. قال الخطابي: الفتح رواية العامة، أي: أن الأكثر رووه بذلك، وفتحها كأنها تعليلية؛ لأن معناها: أنا ملب لك لأنك تستحق الحمد. أما من قال بالكسر فهو الأوجه ومعناه: أنا ملب لك في كل حال، وأنت مستحق للحمد في كل حال، كأنه يؤكد ذلك، وكأن الفرق بين المعنيين: على الفتح: أنا ألبي لأنك مستحق للحمد، وعلى كسر الهمزة كأنها للاستئناف، والمعنى: أنت مستحق للحمد في كل حال سواء لبى الإنسان أو لم يلب، فالله مستحق للحمد في كل حال. (لبيك وسعديك)، هذا الأثر عن ابن عمر، وقد كان يزيد ذلك، والسعد والإسعاد بمعنى: المساعدة، أي: أنا مساعد في طاعتك بعد مساعدة، ومتوجه للطاعة مساعد فيها شيئاً وراء شيء، (والخير بيديك) وكله من فضل الله سبحانه، (والرغباء إليك والعمل) أي: توجهي إليك راغباً فيما عندك، فرغبتي فيما تعطيه من الفضل الجزيل، وسؤالي لك أسألك وحدك، والعمل متوجه مخلص لك. وكان ابن عمر يزيد: (إن العيش عيش الآخرة)، والمعنى: أن الحياة الهنية المطلوبة هي الحياة في الآخرة.

استحباب التلبية في كل وقت

استحباب التلبية في كل وقت وقد استحب العلماء التلبية في كل وقت، بحيث لا يشق على نفسه، فتلبي وأنت متوجه، وتلبي وأنت قائم، وأنت ذاهب في الطريق، وأنت جالس في الفندق، وفي كل مكان يجوز لك أن تلبي، ولكن لا تشق على نفسك برفع الصوت، فتستحب لك التلبية قائماً وقاعداً وراكباً وماشياً وجنباً وحائضاً، ويتأكد مع كل صعود أو هبوط، وحدوث أمر من ركوب أو نزول أو اجتماع رفقة، أو فراغ من صلاة، وعند إقبال الليل والنهار، وفي وقت السحر وغير ذلك، ففي كل وقت يجوز له أن يلبي. ويستحب رفع الصوت بحيث لا يشق على نفسه، فلا يصيح حتى يبح صوته ثم لا يستطيع أن يلبي بعد ذلك، ولكن يرفق بنفسه، والمرأة ترفع صوتها ولكن لا تسمع الرجال، فإن فعلت ففعلها صحيح، ولكن لا يستحب لها أن تسمع الرجال صوتها. والخنثى حكمه حكم المرأة في ذلك، فلا يرفع صوته، والكل إذا رفعوا فلا شيء عليهم. ويستحب ألا يزاد على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها، ويلبي إلى أن يستلم الحجر، فإذا استلم الحجر جاز له أن يلبي وهو يستلم الحجر وهو يطوف، والأفضل أن ينشغل بذكر آخر من دعاء الله سبحانه وتعالى وقراءة قرآن، وتسبيح وغير ذلك، وهو قول الإمام أحمد رحمه الله وغيره، ويجوز له أن يستمر ملبياً، وإن كان الأفضل أن يقطع التلبية ويبدأ بالذكر ودعاء الله سبحانه في أثناء الطواف.

محظورات الإحرام [1]

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - محظورات الإحرام [1] إذا أحرم المحرم حرمت عليه أشياء؛ وذلك لأن المقصود من الإحرام البعد عن الترفه الموجود في الحل، فلا يلبس المحرم قميصاً ولا عمامة ولا سراويل ولا برنساً ولا خفاً ولا ثوباً مسه زعفران أو ورس، ولا يتطيب، ولا يقلع شعراً أو ظفراً، والمرأة تلبس ما شاءت من الثياب، إلا أنها لا تنتقب ولا تلبس القفازين، ولا ما مسه زعفران أو ورس، وباقي المحظورات مثل الرجل.

ما يحرم في الإحرام

ما يحرم في الإحرام الحاج هو الشعث الأغبر، إنسان عليه تراب الطريق، إنسان أشعث ليس ذاهباً للزينة، بل ذاهب لله سبحانه وتعالى، يري من نفسه أنه متجرد للعبادة. والحاج وهو ذاهب إلى الحج يلبس الإزار والرداء، هيئته هيئة الميت عليه الكفن، ليس له ثياب من تحت، ولا عمامة على رأسه، ولا قميص، وكل الحجيج يستوون في ذلك، فتنظر إلى الحاج وهو في عرفة، وهو يطوف بالبيت، وهو عند الصفا والمروة فتتذكر الموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، ففي الحج يستوي جميع الناس، الغني والفقير، الصغير والكبير، العظيم والحقير، فهذا الإنسان يحج وهو تارك للزينة، ناسٍ للحياة الدنيا ومقبل على الله سبحانه وتعالى بعبادته. فعلى ذلك لا مجال للترفه بأن يحلق شعره، أو يأخذ من أظفاره، أو يحلق من بدنه، قال الله عز وجل: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، فيحرم على الحاج أن يحلق شعره، أو أن يقص شيئاً منه في إحرامه، والرجل والمرأة سواء، فالمرأة ليس لها أن تقص من شعرها وهي محرمة، أو أن تأخذ من أظفارها.

حلق الشعر وإزالة الظفر

حلق الشعر وإزالة الظفر أجمع المسلمون على تحريم حلق شعر الرأس للمحرم، والرجل والمرأة في ذلك سواء، وكذلك يجب على ولي الصبي المحرم أن يمنعه من إزالة شعره، فإذا كان هناك صبي صغير مع أبيه في الحج أو العمرة فإنه يمنعه من ارتكاب محظورات الإحرام، كقص الأظفار وقص الشعر. لا يختص التحريم بالحلق ولا بالرأس، فهنا قال: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة:196]، وإجماع أهل العلم على أنه لا يحلق شعر رأسه ولا شعر بدنه، فلا يأخذ من إبطه ولا عانته ولا أظفاره، هذا كله ممنوع منه، وإزالة الظفر كإزالة الشعر، سواء حلق الشعر بالموسى، أو قصه بالمقص، أو وضع مزيلاً أو أزال الشعر كل هذا ممنوع منه، فإزالة الشعر بأي صورة من الصور ممنوع منها بعد الإحرام. وإزالة الظفر كإزالة الشعر، سواء قلمه أو كسره أو قطعه كل ذلك حرام، وتجب به الفدية، فسواء أتى بالمقص وقص ظفره، أو كسر ظفره، أو قرض ظفره بأسنانه، كل هذا ممنوع منه في الإحرام وعليه الفدية إذا فعل ذلك. ولو كشط المحرم جلدة الرأس، كما لو كان يحك شعره فكشط جلدة الرأس وعليها شعر، فهناك فرق بين تعمد قص الشعر أو نتفه، وبين كشط الجلدة؛ إذ لا يمكن أن إنساناً يتعمد ويحك حتى يكشط الجلد من رأسه وعليها شيء من الشعر، والراجح: أنه لا شيء عليه؛ لأن هذا ليس تعمداً لإزالة الشعر، ولكن لما حدث الكشط في الرأس أزيل الشعر بسبب ذلك، فهو تابع وليس مقصوداً. ولو مشط رأسه ولحيته فنتف شعرات متعمداً لزمته الفدية: والإنسان قد يترجل في إحرامه بالمشط، وإن كان شعره طويلاً فلينتبه لنفسه، ويحترز أن يقطع شعره، فإذا فرضنا أنه امتشط فقطع شعره، أو امرأة تسرح شعرها متعمدة فقطعت شيئاً من شعرها، فعليه وعليها فدية في ذلك. ولو أنه لم ينتبه، فأخذ المشط وسرح لحيته فسقط منها شعرات فلا شيء عليه، لكن التعمد هو الذي يلزم صاحبه الفدية. وإن جهل المحرم أو نسي فأخذ من شعره أو أظفاره فلا فدية: فالجاهل إن لم يعرف الحكم، أو الناسي لهذا الحكم، فعلى الراجح من أقوال أهل العلم أنه إذا نسي أو جهل فلا شيء عليه. ولو حلق المحرم رأس الحلال جاز ولا فدية: لو فرضنا أن هذا المحرم يعمل حلاقاً، وفي أثناء الإحرام بعض الناس الذين أنهوا عمرتهم وهو لا زال محرماً أرادوا أن يحلقوا فحلق لهم وهو محرم وهم قد صاروا حلالاً الآن، جاز له أن يحلق لهم، ولا شيء عليه في ذلك. ويحرم على المحرم قلم أظفاره، ويجري مجرى حلق الرأس: فيحرم عليه أن يقلم من أظفاره، وهذا جارٍ مجرى حلق الرأس، وعليه الفدية إذا فعل ذلك. ويجوز للمحرم أن يحك رأسه: إنسان احتاج أن يحك رأسه فإنه يجوز له في أثناء إحرامه أن يفعل ذلك. والحك نقل فيه ابن المنذر الجواز عن ابن عمر وجابر وسعيد بن جبير والثوري وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق وغيرهم من العلماء، وقالوا: برفق. أي: إذا كان يحك شعره أو لحيته فليكن برفق حتى لا يقلع شيئاً من شعره.

تغطية الرأس

تغطية الرأس من الأحاديث التي ذكرت فيها محظورات الإحرام ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته) والوقص: هو دق العنق، فقد كان الرجل محرماً، وراكباً على ناقته، فرمت به من فوقها، كأن يدها غرزت في شيء أو نحوه فسقط الرجل واندق عنقه فوقصته. قال: (فقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، إذاً: المحرم يوم القيامة يبعث ملبياً، فنهاهم أن يخمروا رأسه. إذاً: ليس لك أن تغطي رأسك في الإحرام، وكذلك إذا كان الإنسان محرماً وتوفي فلا يجوز أن يغطى رأسه، فالحي والميت ممنوع من ذلك، والأحياء الذين يغسلونه ويكفونه ممنوعون من أن يغطوا رأسه، لكن جاء في رواية لهذا الحديث: (ولا تخمروا رأسه ولا وجهه)، فذكر الوجه، فهل الحي لا يجوز له تخمير وجهه؟ الراجح: أن هناك فرقاً بين الحي والميت، فالحي إذا غطى وجهه فإنه يستطيع أن يمتنع من تغطية رأسه، فلو جاءت رياح في الطريق فرفع ثوبه على وجهه فمن الممكن ألا يغطي رأسه بذلك، أما الميت فإنه يدرج في كفنه، ولو أنهم غطوا وجهه فسيغطي رأسه أيضاً، أو جزء من رأسه، فنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تغطية الوجه كأنه احتراز من تغطية شعره ورأسه. ولذلك جاء عن الصحابة أن بعضهم كان يغطي وجهه في الإحرام، فلو علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من ذلك لما فعلوه، وكونه ينهى عن تغطية وجه الميت لهذه العلة، وهي أن الميت كيف سيغطى وجهه ثم يدرج ويلف في كفنه؟ فإنهم إذا لفوا الميت في كفنه سيغطون وجهه ورأسه من الوراء كله كذلك، فنهاهم أن يفعلوا ذلك. أما الحي فقد جاء عن عثمان رضي الله عنه أنه كان يغطي وجهه في أثناء الإحرام.

لبس القميص والسراويل والبرنس والعمامة والخف ومامسه ورس أو زعفران

لبس القميص والسراويل والبرنس والعمامة والخف ومامسه ورس أو زعفران وقوله: (لا تحنطوه)، الحنوط طيب الميت، يسمى للحي طيباً، وللميت حنوطاً. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يلبس المحرم القميص ولا السراويل ولا البرنس ولا العمامة). قوله: (القميص) هو كل ما لبس على بدن الإنسان. (ولا السراويل) هو البنطلون يلبسه الإنسان، والسراويل هو الواسع. (ولا البرنس) هو القميص الذي رأسه منه، مثل لبس المغاربة، فإنهم يلبسون ثوباً رأسه منه، عليه طاقية ملتصقة به. (ولا العمامة) العمامة معروفة. قال: (ولا الخف، إلا ألا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران). هذه أنواع من أنواع الطيب: الورس وهو ثمر شجر يكون باليمن، ولون الثمر عندما يصبغ به أصفر، فكأنه يعطي طيباً ولوناً، فنهى عن الاثنين.

حكم قطع الخفين من أسفل من الكعبين لمن لم يجد النعلين

حكم قطع الخفين من أسفل من الكعبين لمن لم يجد النعلين في حديث ابن عباس في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين) وفي رواية: أنه قال هذا في عرفات، فالراجح: أن الحاج إذا لم يجد الإزار، وليس معه ما يشتري به، ولا يجد أحداً يعطيه هدية أو يسلفه من غير أن يكون له منة عليه، فإذا لم يجد فيجوز له أن يلبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين جاز له أن يلبس الخفين. لكن في حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع الخفين حتى يكونا أسفل من الكعبين)، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما كان في المدينة، وحديث ابن عباس كان في عرفات. وفي المدينة كان التشريع كذلك لأن الإنسان يسهل عليك فعل ما طلب منه؛ لأنه بجوار بيته، فيأتي بلباس الإحرام الذي يلائم حاله ويناسبه، لكن لما صاروا في عرفات كان الأمر صعباً، والعدد الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة قليل، ولما صاروا في عرفات كانوا مائة وثلاثين ألفاً، وهذا عدد ضخم بالنسبة لهم في ذلك الوقت، فمن أين يأتي الإنسان بما أمر به من مقص ويقص الخفين لكي تكونا تحت الكعبين، أو يأتي بإزار يلبسه؟ فكانت الرخصة في عرفات. والإمام الشافعي رحمه الله حمل أحد الحديثين على الآخر، فقال: حديث ابن عباس فيه إطلاق: (فليلبس خفين)، وحديث ابن عمر قيد هذا الإطلاق: (وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين). إذاً: يحمل المطلق على المقيد، وهذه قاعدة صحيحة. ولكن لا نقدر أن نحملها على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة أمر الصحابة وكانوا عدداً قليلاً، فلما كانوا في عرفات جاء وقت العمل. وهنا قاعدة أخرى عند الفقهاء، يقولون: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، والآن وقت الحاجة والعمل، والناس موجودون في عرفات، وفي المدينة عندما قال لهم ذلك أخبر أناساً قليلين، والإحرام من ذي الحليفة، لكن وهم في عرفات ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم لهذا العدد الضخم قطع الخفين أسفل من الكعبين دليل على أن الأمر بقطع الخفين صار منسوخاً، ورخص الله عز وجل للحاج الذي لا يجد النعلين في هذا الموقف أن يلبس الخفين ولا يقطعهما.

حكم لبس القفازين والنقاب للمحرمة

حكم لبس القفازين والنقاب للمحرمة جاء في حديث ابن عمر: (نهي النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب). شرع النبي صلى الله عليه وسلم أن تلبس المرأة ما شاءت من الثياب الشرعية، وفي الماضي كنا نقول: تلبس المرأة ما شاءت؛ لأنها مقيدة بالشرع، أما الآن فقد نسي شرع الله تبارك وتعالى، ويمكن أن المرأة ببساطة بنطال في بطال لكي تحج أو تعتمر، فهنا نقول: ما شاءت من ثياب شرعية تسترها ولا تصفها، ولكن الممنوع منه أن تضع النقاب على وجهها، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب. والقفاز هو ما كان على قدر اليد، والنقاب: هو الخرقة التي تكون على قدر الوجه مشدودة على وجه المرأة، لكن يجوز لها أن تسدلها، وتطول كمها بحيث يغطي اليدين، وتسدل الطرحة وتنزلها على وجهها إذا كانت أمام الرجال، وإذا لم يوجد رجال فلا بد أن تكشف وجهها وليس لها أن تستر وجهها في أثناء الإحرام إلا أمام الرجال. قال: (نهي النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب)، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حرير أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف، فللمرأة أن تلبس ما شاءت من الثياب طالما أنها مقيدة بالقيود الشرعية، ولكن ليس لها أن تلبس ما مسه ورس أو زعفران، والورس والزعفران نوعان من النبات لهما رائحة طيبة وصبغ يصبغان، فنهى المرأة عن ذلك وكذلك الرجل.

ما يحرم على الرجال في الإحرام

ما يحرم على الرجال في الإحرام المحرم على الرجل من اللباس في الإحرام قسمان: قسم يتعلق بالرأس، وقسم في غير الرأس. فالذي يتعلق بالرأس: القلنسوة، والعمامة، والطاقية، والملاءة -الخرقة- يجعل شيئاً منها على رأسه أو عصابة، فأي شيء يجعله على رأسه فهو ممنوع منه، وكل ما يعد ساتراً للرأس؛ فإن ستر رأسه لزمته الفدية، إن تعمد ذلك، ولو توسد وسادة، أو وضع يده على رأسه، أو انغمس في ماء، أو استظل بمظلة جاز ولا فدية في ذلك، فهذه لا تجري مجرى العمامة أو القلنسوة. ولو وضع على رأسه زنبيلاً أو حملاً جاز ولا فدية: فلو حمل شيئاً على رأسه، أو حمل حمولة ومشى بها؛ لأن العادة أنه لا يلبس مثل ذلك. القسم الثاني: في غير الرأس. فيجوز للرجل ستر ما عدا الرأس من بدنه في الجملة، وإنما يحرم عليه لبس المخيط وما هو في معناه، أي: ما فصل على قدر أعضائه أو على قدر بدنه، هذا هو الممنوع منه. ومما يحرم عليه: لبس القميص والسراويل والتبان والخف، وما كان مثل ذلك مفصلاً على قدر البدن أو جزء من البدن، مثل الفنيلة والقميص والبنطلون، فكل هذا ممنوع منه. وكذلك التبان ممنوع منه، وبعض الشركات تتحايل على ذلك وتصنع للحاج ثوباً عبارة عن قطعة من القماش ويدبسها من شمال ويمين حين تكون على هيئة (الشورت)، وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وكونه وضع فيها دبابيس ليس معناه أنه خرج عن أمر المخيط؛ لأنهم لا يفهمون معنى المخيط الذي أطلقه الفقهاء، فالفقهاء لم يقصدوا ذلك القميص الذي تلبسه فقط، فسواء خيط أو دبس فلا فرق، هو هو نفسه، ولفظة (المخيط) لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم لكي نأخذ منها كلمة جامعة مانعة، بل هي من كلام الفقهاء، إنما النبي صلى الله عليه وسلم ضرب الأمثلة التي تقيس عليها غيرها، وتعرف ما الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم، فعندما يقول: (العمامة) فغطاء الرأس الذي تلبسه، وتسميه عمامة، أو برنساً، أو قلنسوة، أو طاقية، أو بشكيراً، أو غترة، المهم أنه غطاء على الرأس نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. وعندما يذكر القميص فأي شيء يشبه القميص ويفصل على قدر البدن سواء كان طويلاً أو قصيراً فهو داخل في هذا المعنى. إذاً: ليس له أن يلبس ذلك في الإحرام سواء كان فيه دبابيس أو صمغ أو غراء أو نحو ذلك هذا كله ممنوع منه. فليس له أن يلبس القميص ولا السراويل ولا التبان -وهو الشورت القصير- ولا الخف ونحو ذلك، فإن لبس شيئاً من ذلك مختاراً عامداً أثم ولزمه المبادرة إلى إزالته، ولزمته الفدية إذا تعمد، وإذا نسي ولبس ذلك فلينزعه حالاً ولا شيء عليه. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على منع المحرم من لبس القميص والعمامة والقلنسوة والسراويل والبرنس والخف.

ضابط ما يحرم لبسه على المحرم

ضابط ما يحرم لبسه على المحرم واللبس الحرام الموجب للفدية محمول على ما يعتاد في كل ملبوس. فلو فرضنا أن بنطلونه واسع ووضعه على أكتافه بدل الرداء، فلا نقول: إنه لبسه؛ لأن البنطلون يلبس في الرجلين، وعلى ذلك لا شيء عليه لو أنه وضعه كهيئة البشكير على منكبيه. إذاً: اللبس الحرام الموجب للفدية محمول على ما يعتاد في كل ملبوس، فلو التحف بقميص أو عباءة أو ارتدى بهما فلا شيء عليه، وفرق بين قولنا: ارتدى بهما، وارتداهما، فارتداهما بمعنى لبسهما، وارتدى بهما بمعنى: وضعهما رداء، فلو أخذ قميصه ووضعه بدل البشكير فوق أكتافه فلا شيء عليه، لكن لو أدخل يديه فيه ولبسه، فهذا قد ارتداه، أما ارتدى به أي: جعله كهيئة الرداء على منكبيه. كذلك لو أنه أخذ قميصه ولفه حول نفسه ولم يلبسه فلا شيء عليه في ذلك، إنما الممنوع منه أن يلبس القميص؛ لأنه ليس لبساً في العادة، فهو كمن لفق إزاراً من خرق وطبقها وخاطها فلا فدية عليه، بمعنى: لو أتى بخرقة وخرقة وخرقة وخاطها في المكينة وجعلهم بشكيراً كبيراً ولفه على وسطه وعمله إزاراً فلا شيء في ذلك. وكذا لو التحف بقميص أو بعباءة أو إزار ونحوها فلا فدية؛ لأنه كهيئة اللحاف، أو وضع الملاءة عليه نائماً أو يقظاناً، أو أخذ قميصاً واسعاً أو عباءة واسعة وغطى بها نفسه في أثناء جلوسه على الأرض فلا شيء عليه، والممنوع هو أن يلبس ذلك. وله أن يعلق المصحف وحافظة نقوده وأوراقه وحقيبته بحمالة في رقبته أو على كتفه كما ترى الحجاج يفعلون ذلك، فمثلاً: الشنطة لها يد كبيرة فعلقها على رقبته أو كتفه، أو لبس حزاماً ووضع فيه أشياءه أيضاً لا شيء في ذلك، سواء كان الحزام مدبساً بمسمار أو مخيطاً، ويجوز له أن يضع الحزام على وسطه، ولا يعتبر من الثياب المفصلة على قدر العضو، وله أن يلبس الخاتم والساعة والنظارة وطقم الأسنان، ولا شيء عليه لا في حج ولا عمرة ولا صيام. ولا يتوقف التحريم والفدية على المخيط، بل سواء المخيط وما في معناه، كما ذكرنا أن المخيط يقصد به الفقهاء المفصل، فالشراب مثلاً ليس فيه خياط وهو مصنوع هكذا كله من غير أن يكون فيه أي خياط، ولكن هو مخيط؛ لأنه مفصل على قدر رجل الإنسان، فليس له أن يلبس الجورب في أثناء إحرامه.

هيئة لبس الإزار والرداء

هيئة لبس الإزار والرداء يجوز أن يعقد الإزار ويشد عليه خيطاً، وأن يجعل له مثل الحجزة: إذا جعل لإزاره حزاماً من داخله يربطه ويشده فلا شيء في ذلك، ولا يخرج عن كونه إزاراً، ويلبسه على هذه الهيئة، فهذا من مصلحة الإزار حتى لا ينكشف صاحبه. أو كان لإزاره غرز في طرف ردائه، وضع الرداء على منكبيه، وطرف الرداء وضعه داخل الإزار، والطرف الثاني وضعه داخل الإزار، فلا شيء عليه في ذلك. ولا يحرم خلع الرداء وشكه بدبوس ونحوه، كما لا يحرم عقد الإزار، والأولى عدمه، مراعاة للخلاف، لكن الراجح من حيث الدليل: أنه لم يمنع من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يحتاج الإنسان إلى شد الإزار أثناء الإحرام، وقد يضع الرداء على كتفه، فيأتي هواء شديد، وغير المعتاد على ذلك أول مرة يعتمر أو يحج صعب عليه أن يضبط على نفسه الرداء، فإذا وضع عليه دبوساً بحيث أنه يستمسك حتى يكمل مناسكه، فالراجح أنه لا شيء فيه. وإذا شق الإزار نصفين، وجعل له ذيلين، ولف على كل ساق نصفاً وشده وجبت الفدية: وهذه من الحيل التي تعمل من قبل الشركات لتبيع شيئاً جديداً، فتجد أن المعرض الفلاني عنده لبس الحجاج الحديث، وهو شورت مدبس بحيث إنه يربط هذا على رجل، وهذا على رجل كهيئة الشورت تماماً في أثناء الإحرام، ويقولون: ليس فيه شيء؛ لأنه ليس مخيطاً، وهذا خطأ، فهذا هو المخيط الممنوع منه. ولذلك يقول الفقهاء: شق الخرقة -أي: الإزار- ولبسه على وسطه، ثم شقه من الأمام ومن الخلف، ثم ربط هذه على هذه، وربط هذه على هذه، فأصبح الاثنان كهيئة البنطلون، فهذا ممنوع منه، وعليه الفدية في ذلك؛ لأنه صار كالسراويل.

حكم لبس الرجل القفازين والخفين

حكم لبس الرجل القفازين والخفين يحرم على الرجل لبس القفازين، وإذا كانت المرأة ممنوعة منه فالرجل أولى. ولبس الخف حرام على الرجل المحرم سواء كان الخف صحيحاً أو مخرقاً، والخف هو الحذاء الذي له رقبة. أما لبس الخف المقطوع أسفل من الكعبين فالراجح أنه يجوز حتى ولو مع وجود النعلين؛ لأن لا يسمى خفاً بعد قطع الزائد فيه، وهذا غير المعذور. أما المعذور كمن ضاع حذاؤه أثناء الإحرام ولم يجده، والآن هو في عرفة، وإما أن يمشي حافياً، وإما أن يلبس الخف الموجود فهذا معذور في أن يلبس ذلك، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم. أو اشتد عليه البرد في أثناء الإحرام، واحتاج أن يفعل ذلك، فهو معذور في ذلك، ولكن عليه الفدية؛ لقول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]. إذاً: المعذور ليس عليه إثم، بخلاف المتعمد لفعل الشيء المنهي عنه فإنه يأثم بذلك ويعاقب بالفدية، لكن المعذور ليس عليه إثم وعليه الفدية، فقد اشتركوا في الفدية وافترقوا في الإثم وعدمه. الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196].

حكم من لم يجد رداء وإزارا ووجد قميصا وسراويل

حكم من لم يجد رداء وإزاراً ووجد قميصاً وسراويل إذا لم يجد رداء لم يجز له لبس القميص بل يرتدي به، كما قلنا في السراويل: إذا لم يجد الإزار واحتاج فهل نقول له: قطع السراويل التي عندك واعملها على هيئة الإزار؟ لا، ولكن نقول هنا: البسه على هذه الحالة أنت معذور، لكن هذا الحكم هل ينسحب على من لم يجد الرداء ووجد القميص؛ لأن الإزار المقصود به ستر العورة، فلو أنا قلنا له: شق بنطلونك لم يكف أن يستر عورته بذلك، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلبسه على ذلك. أما الجزء العلوي الذي عليه الرداء فلو أنه وضع عليه قميصه ستر كثيراً منه، وليس هو عورة يجب عليه أنه يستره. إذاً: إذا لم يجد إزاراً فليس له لبس القميص بل يرتدي به. والمحتاج بسبب العذر: كإنسان في أثناء الإحرام في رجليه شيء، ويحتاج مع هذا الشيء أن يلبس الخف، ولا يستطع المشي من دونه، أو يحتاج إلى أن يلبس شراباً سميكاً، ولا يستطيع المشي بدونه، فهذا معذور ولكن عليه الفدية. وإذا وجد السراويل ووجد إزاراً يباع ولا ثمن معه، أو كان يباع بأكثر من ثمن المثل، جاز له لبس السراويل، وليس شرطاً ألا يجده يباع، فقد يباع لكن ليس معه مال ليشتريه، أو قد يعطيه أحد المال وفيه منة من هذا الذي يعطيه، فهنا لا يفضل أن يأخذ من أحد، وحكمه حكم الفاقد. إذاً: جاز له أن يلبس السراويل وجاز له أن يلبس الخفين وهو معذور في ذلك.

حكم من لبس الخفين ثم وجد النعلين

حكم من لبس الخفين ثم وجد النعلين لو لبس الخفين المقطوعين لفقد النعلين ثم وجد النعلين وجب نزعهما في الحال؛ فإن أخر وجبت الفدية. هذا على قول بعض الفقهاء في ذلك، وهذا إذا قطع الخف إلى أن أصبح قصيراً، والأفضل أنه لا يقطع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في عرفة لم يأمر بالقطع. فهذا الإنسان الآن لابس للخف في أثناء إحرامه، وعندما لبس الخف بعد فترة وجد النعلين، فيجب عليه أن يخلع الخفين ويلبس النعلين، فإذا أصر وأكمل على ذلك وأخر خلع الخفين وجبت عليه الفدية. ولو لبس الخفين غير المقطوعين لفقد النعلين، أو لبس الخفين المقطوعين فمذهب الشافعي رحمه الله: أن الخف سواء كان مقطوعاً أو غير مقطوع اسمه في الحالتين خف، فإذا وجد النعل وجب عليه أن يخلع الخف ويلبس النعل. لكن الراجح: أنه إذا لبس الخف ولو كان غير مقطوع، ثم بعد ذلك وجد النعل وجب عليه أن يخلع الخف ويلبس النعل. ولو أنه قطع الخف أسفل من الكعبين فالراجح أنه صار نعلاً. إذاً: لو لبس الخفين غير المقطوعين ثم وجد النعلين وجب نزعه في الحال؛ فإن أخر وجبت الفدية.

حكم لبس المرأة النقاب وتغطيتها لوجهها

حكم لبس المرأة النقاب وتغطيتها لوجهها يحرم على المرأة أن تنتقب في إحرامها، فقد جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة عن النقاب وعن لبس القفازين)، والنقاب: هو الخرقة المشدودة تحت محجر العين تستر أسفل العينين إلى أسفل الذقن، خرقة مخصوصة توضع على وجه المرأة، فلو وضعتها من الوراء وربطتها برباط من الوراء، فتسمى بالنقاب. لكن السدل من فوق الرأس مثل الطرحة فليست نقاباً، وعلى ذلك فهناك فرق بين النقاب فليس للمرأة أن تلبسه، وبين السدل فلها أن تسدل مع الحاجة، أما لغير الحاجة فلا. إذاً: النقاب هو الخرقة المشدودة تحت محجر العين تستر أسفل العينين إلى أسفل الذقن، وللمرأة أن تستر رأسها وسائر بدنها بالمخيط وغير المخيط، ولها أن تسدل على وجهها. ودليل السدل ما جاء عن السيدة عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها، وعن أسماء رضي الله تبارك وتعالى عنها في هذا المعنى، تقول فاطمة بنت المنذر: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر) يعني: جدتها، فهذا فعلته أسماء رضي الله تبارك وتعالى عنها، وأخبرت أنها كانت تصنع ذلك مع النبي صلوات الله وسلامه عليه. وجاء عن عائشة رضي الله عنها بإسناد فيه ضعف: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بنا ركب سدلنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات، فإذا جاوزنا رفعنا)، تقصد السيدة عائشة رضي الله عنها: أنه في وجود الرجال كانت الواحدة تسدل وتنزل الطرحة على وجهها، فإذا مر الرجال رفعت المرأة الثوب عن وجهها، وهذا في الإحرام. إذاً: الأصل أن المرأة لا تضع نقاباً على وجهها، ولا تستر وجهها إلا أن يكون في حضرة الأجانب من الرجال فتفعل ذلك، فإذا مروا رفعت السدل. أما الخنثى المشكل فإن ستر وجهه فلا فدية عليه، والخنثى هو الذي له عضو الذكورة والأنوثة، وهو مشكل ليس معروفاً أهو ذكر أو أنثى؟ فهذا المشكل يحتمل أنه امرأة ويحتمل أنه رجل، فعلى ذلك لو أنه ستر وجهه نقول: لعله أن يكون رجلاً، والرجل لا يحرم عليه أن يستر وجهه، ولو ستر رأسه نقول: لعله أن يكون امرأة والمرأة لا يحرم عليها أن تستر رأسها، فعلى ذلك لا فدية عليه في الحالين، وإن ستر الوجه والرأس فنقول: عليه الفدية؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون ذكراً أو أنثى؛ فيحرم عليه واحد من الاثنين. ويكره للرجل المحرم ستر وجهه، وقد قدمنا الكلام عليه، ويحرم على الرجل والمرأة استعمال الطيب. وفرق بين الحي والميت؛ لحديث: (لا تخمروا رأسه ولا وجهه)، وذكرنا توجيهه. وفي حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران)، فعلى المحرم ألا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران، وهو نوع طيب، فيحرم على الرجل والمرأة أن يضعا الطيب في أثناء الإحرام. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

محظورات الإحرام [2]

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - محظورات الإحرام [2] للإحرام محظورات يجب على المحرم اجتنابها، فيحرم عليه لبس القميص والسراويل، وأن يستر رأسه سواء بعمامة أو قلنسوة أو غير ذلك، أما المرأة فيجوز لها أن تلبس ما شاءت من الثياب الشرعية التي تستر بدنها. وإن تعمد الطيب فعليه الفدية، ولا يجوز للمحرم أن ينكح أو يخطب أو يزوج، والوطء في الفرج أو المباشرة بشهوة وغير ذلك، ويحرم عليه صيد البر دون صيد البحر، وهناك أشياء يستحب للمحرم أن يقتلها لأنها مؤذية، وأشياء لا يجوز للمحرم قتلها، ودفع المحرم للصائل من صيد ونحوه لا جزاء عليه فيه، وهناك مكروهات للمحرم ومستحبات ينبغي عليه معرفتها.

تابع محظورات الإحرام

تابع محظورات الإحرام الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. وبعد: فقد تكلمنا عن المحرمات في الإحرام، وذكرنا أنه يحرم على الرجل من اللباس: أن يستر رأسه، سواء بعمامة أو بقلنسوة أو بغير ذلك. ويحرم عليه في بدنه: أن يلبس القميص، والسراويل، والكتان، والخف، ونحو ذلك مما يسميه الفقهاء: بالمخيط، وبينا معنى كلمة المخيط أنها: الثياب التي تكون مقدرة مفصلة على قدر البدن، أو على قدر عضو من أعضاء البدن، ولا يشترط أن تكون مخيطة بخيط، بل سواء كانت مخيطة بخيط، أو كانت فيها دبابيس، أو كانت ممشوقة أو غير ذلك، طالما أنها ثياب على قدر عضو، أو على قدر الأعضاء فهذا هو المخيط الذي منعنا من لبسه في الإحرام. ولو أن رجلاً كان عنده عذر في لبس المخيط، كإنسان في رجليه ألم أو مرض، ويحتاج لأن يلبس الخف، أو لأن يلبس نوعاً معيناً من الجوارب في قدميه، فيجوز أن يلبس ولكن عليه الفدية؛ لقول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فإذا كان مريضاً، أو به أذى من رأسه، فهو معذور في أن يزيل هذا الأذى، أو أن يحلق رأسه، أو أن يلبس ثياباً، ولكن عليه الفدية التي ذكرها الله سبحانه وتعالى. أما المرأة فيجوز لها أن تلبس ما شاءت من الثياب الشرعية التي لا تصف بدنها، ولا تشف عما تحتها، والتي تغطيها وتسترها ما عدا الوجه والكفين، فإذا كانت في وسط الرجال فإنها تسدل ما على رأسها من طرحة وغيرها على وجهها، من أجل أن تواري وجهها، وكذلك الكفين ليس لها أن تلبس القفازين؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولكن إذا كانت في أثناء الطواف أو غيره وحاذت الرجال جاز لها أن تستر يديها بثيابها، ولكن لا تلبس القفازين؛ لمنع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك. وكذلك منع لبس الثياب التي مسها الورس والزعفران، والورس والزعفران: نوعان من النبات لهما رائحة طيبة، وتصبغ الثياب بهما فيغيران اللون الأصفر أو اللون الأحمر، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء من لبس ذلك.

استعمال الطيب للمحرم

استعمال الطيب للمحرم وأيضاً المحرم ممنوع من استعمال الطيب، أما قبل الإحرام فيجوز له أن يضع الطيب، فإذا أحرم جاز له أن يستديمه ويبقيه، ولكن لا يجوز له بعد الإحرام أن يضع الطيب، فإذا فعل ذلك ناسياً وجب عليه أن يزيله وأن يغسل أثره، وإن فعل ذلك متعمداً فعليه الفدية، سواء طيب رأسه أو طيب بدنه، أو طيب ثيابه، ولو لبس ثوباً مبخراً بالطيب، أو ثوباً مصبوغاً بالطيب، أو علق بنعله طيب لزمه أن يزيل ذلك، فإذا استدامه لزمته الفدية. إذاً: لا تلزم الفدية إلا من علم واستدام هذا الشيء، فمثلاً: لو أن محرماً وجد طيباً على الأرض فوضع رجله عليه حتى صار في نعله من الطيب، فإنه يجب عليه أن يغسل أثر الطيب، أو ينزع عنه النعل ويلبس غيره، فإن استدام ذلك وتعمده وجب عليه الفدية، لكنه إذا أزاله فلا شيء عليه. ولو علقت رائحة الطيب دون عينه بأن جلس في دكان عطار، أو عند الكعبة وهي تبخر، فجاءت رائحة الطيب في أنفه فشم الطيب، فلا شيء عليه. ومثله إذا مر بالسوق الذي فيه الطيب فشم منه رائحة الطيب فلا شيء عليه في ذلك. لكن الممنوع منه هو أن يلصق الطيب ببدنه، أو ملبوسه، فإذا أخذ الطيب ووضعه على ثوبه، سواء كان متعمداً أو ناسياً فعليه الفدية، وإذا جاء إنسان ووضع على المحرم طيباً وجب عليه أن يزيل ذلك الطيب، فإذا استدامه لزمته الفدية. ولو أنه جلس على فراش مطيب، أو أرض مطيبة، أو نام عليها مفضياً إليها ببدنه أو ملبوسه لزمته الفدية، فلو فرضنا أنه ذهب إلى الفندق ووجدهم قد وضعوا على سريره طيباً، فهنا لا يجوز له أن ينام على السرير الذي عليه الطيب؛ خشية أن ينتقل الطيب إلى بدنه، أو إلى ثيابه، فإذا تعمد وانتقل الطيب إلى ثيابه فإن عليه الفدية، وإذا أراد أن ينام على السرير الذي فيه الطيب فعليه أن يضع فوقه ثياباً ليس فيها رائحة الطيب، ثم ينام فوق تلك الثياب التي فوق السرير، وليس عليه شيء في ذلك. ولو خفيت رائحة الطيب أو الثوب المطيب لمرور الزمان أو لغبار وغيره، فإن كانت بحيث لو أصابه الماء فاحت رائحته حرم استعماله، أي: لو فرضنا أن مع المحرم إزاراً أو رداءً غير الذي يلبسه، ثم أراد أن يلبسه وهو يعلم أن فيه نوعاً من الطيب، وأنه إن لبسه وأصابه العرق ظهرت منه رائحة الطيب، فلو تعمد أن يلبسه فإن عليه الفدية بذلك. وقد ذكر البخاري عن ابن عباس تعليقاً أنه قال: (يشم المحرم الريحان، ويتداوى بأكل الزيت والسمن)، ومعنى كلامه: أن هذا لا شيء فيه، فإذا شم رائحة الريحان، أو أكل زيتاً أو سمناً من أجل أن يتداوى فلا شيء عليه في ذلك، والريحان نبات وليس من أنواع الطيب، والطيب: هو ما يلصق بالبدن، والريحان لو اعتصر حتى صار طيباً، ووضعه على بدنه فسيخرج من بدنه رائحة ريحان، وهذا هو الطيب الممنوع من الريحان. ويجوز أن يجلس المحرم عند عطار في موضع مبخر، والأولى أن يجتنب ذلك؛ لخلاف الفقهاء فيه، ومتى لصق الطيب في بدنه أو ثوبه على وجه لا يوجب الفدية -أي بغير قصد- كرجل مر وفي يده طيب وسلم على المحرم وانتقل الطيب إلى يد المحرم؛ وجب عليه أن يغسل يده حالاً، وإن تعمد أن يترك الطيب وألا يغسله لزمته الفدية. ولا يكره للمحرم شراء الطيب، فلو أن المحرم أثناء الإحرام مر بالسوق الذي يبيعون فيه الطيب، واشترى زجاجة عطر فليس عليه شيء، وإنما الممنوع هو أن يضع الطيب على بدنه أو ثيابه. ويحرم عليه أن يكتحل بما فيه طيب، فإذا كان الكحل أو الدواء الذي يضعه فيه نوع من أنواع الطيب فإنه لا يجوز له أن يضعه، فإن احتاج إلى ذلك جاز أنه يضعه وعليه الفدية؛ لقول الله سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]. وله الاكتحال في أثناء الإحرام، لكن بالشيء الذي لا طيب فيه. واستخدام الصابون في الإحرام جائز، فله أن يستخدم أي نوع من أنواع الصابون، إلا أن يكون الصابون فيه نوع من الطيب بحيث أنه إذا غسل يده اشتم منها رائحة الطيب، كرائحة مسك، أو رائحة ريحان، أو رائحة ورد، ويستمر ولا يخرج، لكن العادة في الصابون أن الإنسان إذا غسل يده بالماء بعد الانتهاء من استعماله زالت رائحته، فإن كان هذا الصابون كذلك فلا شيء عليه، أما إذا كانت رائحته تستدام فمثله مثل الطيب وحكمه حكم طيب، فليجتنب مثل هذا الصابون.

النكاح والخطبة

النكاح والخطبة يحرم على المحرم أن ينكح أو ينكح أو يخطب، فلا يجوز له ذلك؛ لما روى مسلم عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب) فذكرها بصيغة النفي، والمقصود منها: النهي، أي: أن المحرم لا يفعل ذلك، فلا ينكح ولا ينكح ولا يخطب. (يَنكح): أي يتزوج، (ويُنكح): أي: يزوج، بأن يكون ولياً في النكاح، فلا ينكح، أي: لا يتزوج، ولا ينكح، أي: لا يعرض ابنته على إنسان ويزوجه، ويقول: زوجتك ابنتي مثلاً أو أختي، ولا يخطب كأن يقول لآخر: أريد أن أتزوج ابنتك، أو أريد أن أخطب ابنتك، فلا يجوز له ذلك؛ لأن المحرم مشغول بطاعة الله وعبادته الله سبحانه وتعالى. وبعد أن تنتهي فترة الإحرام سواء كانت عمرة أو حجاً جاز له أن يخطب وأن يتزوج، لكن أثناء الإحرام يحرم ذلك، فإن فعل أثم، ولا ينعقد نكاحه. ويحرم على المحرم: أن يتزوج، ويحرم أن يزوج موليته بالولاية الخاصة، وهي: العصوبة والولاء؛ لأنه ولي خاص، وفرق بين الولاية العامة وبين الولاية الخاصة. فالولاية الخاصة: كأن يكون أبا العروس، أو أخاها، أو ابن عمها وهكذا، فهذه تسمى: العصبة والولاء، مثل أن يوجد إنسان له أمة وأعتقها، فله عليها ولاء، أو هي ما زالت تحت يده يملكها فهو وليها وهو مولاها، وهو مالكها؛ فإذا زوجها جاز له ذلك في أثناء الإحرام. ويحرم على المحرم أن يتزوج، فإن كان الزوج، أو الزوجة، أو الولي، أو وكيل الزوج، أو وكيل الولي محرماً فالنكاح باطل بلا خلاف. إذاً: إن كان الزوج، أو الزوجة، أو ولي الزوجة، أو ولي الزوج صغيراً أو مجنوناً، أو وكيل الزوج، أو وكيل الولي -ولي الزوجة- أو ولي الصغير أو المجنون ونحو ذلك محرماً فالنكاح باطل بلا خلاف بين أهل العلم. ويجوز أن يراجع المحرم المحرمة والمحلة، سواء أطلقها في الإحرام أم قبله، فهناك فرق بين ابتداء النكاح، وبين استدامة النكاح، فالذي يبتدئ النكاح كأن يخطب، أو يتزوج، أو يعقد، لا يجوز له ذلك بله حرام عليه، لكن رجل متزوج ثم طلق طلاقاً رجعياً يجوز له أن يراجع امرأته، فالمراجعة في أثناء الإحرام جائزة وليس في ذلك خلاف، لكن الممنوع منه أن ينشئ عقداً جديداً.

تحريم الجماع والمباشرة بشهوة على المحرم

تحريم الجماع والمباشرة بشهوة على المحرم ويحرم عليه الوطء في الفرج؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] قال ابن عباس: الرفث: الجماع. ويجب بالجماع الكفارة، وهذا مروي عن علي بن أبي طالب وعن ابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عن الجميع، فقد جاء عنهم أنهم أوجبوا الكفارة في ذلك، وإذا كانت الكفارة تجب في حلق الشعر فمن باب أولى في الجماع الذي نص الله عز وجل على تحريمه في الحج. وأجمعت الأمة على تحريم الجماع في الإحرام، سواء كان الإحرام صحيحاً أم فاسداً، فلو أن إنساناً أحرم إحراماً صحيحاً، وإنساناً أحرم إحراماً فاسدا، كما لو بطل أو فسد بالجماع فيه، وقلنا له استمر في الحج، فلا يجوز له أن يترك الحج، وإن كان فاسداً فإنه لا يجوز له أن يطأ زوجته مرة ثانية، ولكن يلزمه أن يستمر في الإحرام حتى ينتهي من مناسك عمرته، أو من مناسك حجه. وتجب به الكفارة والقضاء إذا كان قبل التحللين في الحج، وأما العمرة فليس لها إلا تحلل واحد. وسواء كان الوطء في القبل أو الدبر، من الرجل، والمرأة، والصبي، والبهيمة، وسواء وطء الزوجة والزنا والعياذ بالله. ويحرم على المحرم أيضاً: المباشرة بشهوة، لأنه قال: (فلا رفث)، أي: لا جماع ولا مقدمات جماع، فيحرم عليه أن يمس أهله بشهوة، وهذا قيد، فلو أنه سلم على امرأته فهنا لا توجد شهوة، لكن الاحتضان، والتقبيل بشهوة هو الذي يحرم عليه أثناء الإحرام. ومتى باشر عمداً بشهوة لزمته الفدية، والمباشرة ليست جماعاً، فالجماع ينص عليه أنه وطء أو جماع، لكن المباشرة مأخوذة من البشرة، والبشرة: الجلد، وسميت بذلك لأنه مس جلده جلدها بشهوة، فمتى فعل ذلك وجبت عليه الفدية، والفدية في ذلك: شاة، أو بدل الشاة من الإطعام أو الصيام. ولا يفسد نسكه بالمباشرة بشهوة بلا خلاف، وإنما الذي يفسد النسك هو الجماع، والردة والكفر والعياذ بالله، فالمباشرة بشهوة لا تفسد النسك، سواء أنزل أم لا. وهذا كله إذا باشر عالماً ذاكراً الإحرام، أما إذا كان ناسياً فالراجح أنه لا شيء عليه؛ لأنه استمتاع محض فلا تجب فيه فدية مع النسيان. أما اللمس بغير شهوة فليس بحرام، فإذا سلم على امرأته أو لمسها ونحو ذلك فليس فه شيء ولا هو حرام أصلاً. أما الاستمناء باليد أثناء الإحرام فهو أصلاً في غير الإحرام حرام، فيكون في الإحرام حراماً من باب أولى، وإذا فعل ذلك فنزل منه المني فعليه الفدية: وهي أن يذبح شاة ويفرقها على مساكين الحرم. وكذلك تلزمه الفدية إذا قبل امرأته بشهوة، ولو أنه قبل صبياً أمرد جميلاً بشهوة في أثناء إحرامه وجبت عليه الفدية، لأنه حرام كحرمة تقبيل المرأة بشهوة.

تحريم الصيد على المحرم

تحريم الصيد على المحرم ويحرم عليه الصيد، أي: الصيد المأكول من الوحش والطير وغيره، قال الله عز وجل: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96]، أما صيد البحر فليس محرماً في أثناء الإحرام، ولو أن المحرم وجد صيداً كغزالة في أثناء إحرامه وأمسكها فإنه لا يملكها بذلك؛ لأنه يحرم عليه أن يأخذها في إحرامه، فإذا كان في الحرم سواء كان حلالاً أو محرماً فإنه يحرم عليه أن يمسك أو أن يصيد الصيد، وإن هلك عنده هذا الصيد وجب عليه جزاء الصيد كما سيأتي. أما صيد البحر فحلال، سواء للحلال أو للمحرم، قال الله عز وجل {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة:96] فصيد البحر حلال، وصيد البر حرام، قال تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96]. والمراد بصيد البحر: ما يعيش في البحر كالسمك وغيره، فإذا كان يعيش في البر وفي البحر كبعض الطيور التي تنزل في البحر فإنه يغلب عليه التحريم، فيحرم على المحرم أن يصيد الطير الذي يطير في الهواء وينزل على الماء؛ لأنه من صيد البر، فإذا كان بحرياً فقط جاز له أن يصيده طالما أن عيشه كله في البحر. وإذا تلف الصيد بسبب المحرم أو تلف الصيد بسبب شيء في يد المحرم -لأن المحرم إما أن يتلف الصيد، أو يتسبب في ذلك- فلو كان في يده عصا يلعب بها، ثم جاء طائر فقتلته، فعليه جزاء الصيد؛ لأنه هو الذي فعل ذلك، وكذلك لو كان راكباً سيارته يسوقها في مكان فظهرت غزالة أو حماراً وحشي فقتله فإنه يكون عليه جزاء الصيد في ذلك. إذاً: إذا كان يقود سيارة، أو كان راكباً دابة أو سائقها أو قائدها فتلف الصيد بعضها أو برفسها ضمنه، وإذا كان راكباً على حصان وعض صيداً فقتله، أو داس عليه فقتله لزمه الجزاء. وإذا نفر المحرم صيداً فعثر وهلك بالعثار، أو أخذه في مغارة سبع، أو صدم بشجرة أو جبل أو غير ذلك لزمه الضمان، وهذا كله لأنه تسبب في قتل الصيد، فهو لم يتعمد في هذه الحالة أن يهلك الصيد، لكنه تسبب في ذلك، ولو أنه وجد طائراً على شجرة فجلس ينفره حتى طار الطائر من مكان إلى مكان آخر كان فيه ثعبان فأكله، فهذا المحرم هو الذي تسبب في ذلك، فعليه الجزاء. وإذا دل الحلال محرماً على صيد فقتله وجب الجزاء على المحرم، ولا ضمان على الحلال. وإذا كان المحرم في مكان في الحل كعرفات -وهي من الحل- وإنسان حلال موجود في هذا المكان، ودل المحرم على الصيد وأشار إليه فإذا بالمحرم يقتل هذا الصيد فإن الحلال يأثم؛ لأنه دله على ذلك، والمحرم عليه جزاء الصيد فضلاً عن الإثم فإنه آثم. والعامد والمخطئ والناسي والجاهل في ضمان الصيد سواء، أي: ليس هناك فرق بين من تعمد قتل الصيد أو أخطأ فقتله، أو نسي أنه محرم فقتله؛ لأنه في النهاية قتله. إذاًَ: ما قتل في الحرم يلزم الإنسان أن يدفع ثمنه، والذي يأثم في ذلك إنما هو العامد دون المخطئ والناسي، لكن على الجميع إذا فعلوا ذلك الجزاء.

حكم أكل المحرم من الصيد

حكم أكل المحرم من الصيد ويحرم على المحرم أكل صيد صاده هو أو أعان على اصطياده أو أعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة، سواء دل عليه دلالة ظاهرة أو خفية، وسواء إعارة ما يستغني عنه القاتل أم لا. والدلالة: مثل أن يكون المحرم في مكان حل، ومعه إنسان حلال في هذا المكان، وفي أثناء الطريق وجد المحرم صيداً فدل الحلال عليه فقتل الصيد هو، فلا يجوز للمحرم أن يشير إلى الصيد، فيحرم على المحرم أن يأكل من لحم ذلك الصيد. فقد جاء في حديث أبي قتادة قال: (انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فأحرم أصحابه ولم أحرم، فبصر أصحابنا بحمار وحش فجعل بعضهم يضحك إلى بعض، فنظرت فرأيته هنا) أبو قتادة لم يحرم، والصحابة أحرموا، وبعد أن أحرموا نظروا فوجدوا أمامهم صيداً، فضحكوا، وقد ظهر لهم بعدما أحرموا، فانتبه أبو قتادة فوجد الصيد فذهب إليه ليقتله، يقول رضي الله عنه: (فحملت عليه الفرس، فطعنته فأثبته، واستعنت بهم فلم يعينوني) أي: أنه طعنه فجرحه جراحة مثبته وقف في مكانه، وثبت فيه، فقال: أعينوني، ناولوني شيئاً حتى أذبحه فرفضوا، قال رضي الله عنه: (فأكلنا منه، ثم لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إنا اصطدنا حمار وحش وإنا عندنا فضلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا، وهم محرمون). وفي رواية قالوا: (لا نعينك عليه بشيء إنا محرمون، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كلوه حلال). وفي رواية (أنه سألهم هل منكم أحد أمره أن يحمل عليه، أو أشار إليه؟)، وأما كونهم ضحكوا فهو شيء غلبهم، ولم يتعمدوا أن يضحكوا حتى ينتبه إلى أن هذا صيد، فـ أبو قتادة رضي الله عنه اصطاد الصيد، ولما أكلوا منه قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: كلوه حلال. وأيضاً جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طيب نفوسهم بأن أكل هو أيضاً منه عليه الصلاة والسلام، ففي رواية في صحيح البخاري قال: (هل معكم منه شيء؟ قال: فناولته العضد فأكلها حتى تعرقها وهو محرم) والصيد الذي وجدوه ذكر في رواية أنه حمار وحشي، والحمار الوحشي يجوز أكله. إذاً: إذا كان المحرمون لم يدلوا الحلال على الصيد جاز لهم أن يأكلوا منه، فإذا كانوا هم الذين دلوه فلا يجوز لهم ذلك، فإذا فعلوا فلا يجوز لهم أن يأكلوا منه. وكذلك لو أن الإنسان شك هل هذا الذي صاد الصيد صاده من أجلي لأني محرم؟ أو حتى يأكل منه المحرمون؟ فإنه لا يجوز أن يأكل منه؛ لما سيأتي من حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كسر المحرم بيض صيد وقلاه فإنه يحرم عليه، فإذا وجد طائراً من الطيور في الحرم أو في غير الحرم وهو محرم، وقد باض الطير بيضاً فجاء المحرم وأخذ البيض وكسره وقلاه، فإنه لا يجوز له أن يأكله، ويكون قد أتلف شيئاً وعليه الجزاء، فيخرج قيمة البيض ويتصدق به لفقراء الحرم. ويحرم عليه أن يشتري الصيد أو أن يتهبه، أي: أن المحرم إذا وجد إنساناً معه صيد فأراد أن يشتريه فإنه لا يجوز له ذلك، وكذلك لا يجوز له أن يطلب الصيد هدية أو هبة أيضاً. فقد جاء أن الصعب بن جثامة (أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمار وحش، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم)، فـ الصعب بن جثامة رضي الله عنه صاد حمار وحش، فأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم شكك، هل الصعب صاد هذا الحمار من أجلنا؟ لأنه إذا صاده من أجل المحرمين فلا يجوز لهم أن يأكلوا منه، فالمحرم يحرم عليه أن يصيد الصيد أو أن يأكل منه، فإذا صاده الحلال من أجل المحرمين امتنعوا، فليس لهم أن يأكلوا منه، فلذلك هنا في قصة الصعب بن جثامة أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش، فرده النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه شك أنه صاده من أجلهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم)، ففرق بين قصة الصعب بن جثامة وبين قصة أبي قتادة. وقصة أبي قتادة واضحة في أنه لم يصده من أجلهم، ولكنه صاده ثم دعاهم إلى أن يأكلوا منه، ولم يعنه أحد عليه. وفي قصة الصعب بن جثامة: خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون صاده من أجل المحرمين.

الأشياء التي يجوز للمحرم قتلها

الأشياء التي يجوز للمحرم قتلها وفي أثناء الإحرام يجوز قتل أشياء مؤذية، تؤذي الحجيج وغيرهم، سواء كان محرماً في الحل، أو كان في الحرم. فيستحب قتل المؤذيات: كالحية، والفأرة، والعقرب، والخنزير، والكلب العقور، والغراب، والحدأة، والذئب، والأسد، والنمر، والدب، والنسر، والعقاب، والبرغوث، والبق، والزنبور وأشباه هذه الأشياء، فكل شيء يؤذي الإنسان فيجوز له أن يقتله، سواء في الحل أو في الحرم؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خمس من الدواب كلهن فاسق)، فسماهن فواسق، والفسق: هو الخروج عن الطاعة، أو الخروج عن الشيء، ومتى خرج الإنسان عن طاعة الله سبحانه فهو فاسق. والفاسق في الحيوان هو الذي خرج عن المعهود والمألوف من كونه أليفاً، ومطيعاً إلى أن صار مؤذياً، ومنه أن يقال: فسقت الرطبة، فأنت حين تأتي بالرطب ثم تضغط عليها فتتزحلق البلحة من قشرتها، فيقال: فسقت أي: خرجت من قشرتها، فهنا كأنه خرج عن المألوف في أمثاله. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأشياء: (خمس من الدواب كلهن فاسق، يقتلن في الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور)، فكل هذه الأشياء مؤذيات، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها سواء في الحل أو في الحرم. ونحن نعرف عن بعضها أنها مؤذية، وبعضها لا نعرف عنها ذلك، فيقول لنا: يقتل الغراب، ومنه غراب الزرع، وليس مؤذياً، ومنه الغراب الأبقع، والغراب الأبيض وغير ذلك، مما يؤذي الحجيج، فقد كانوا يأتون راكبين على الجمال، فينزل الغراب وينقر في ظهر الجمل فينفر الجمل حتى يقع صاحبه على الأرض، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل مثل هذا الغراب، إذا إذاً: إذا كان الغراب غير مؤذ كغراب الزرع فلا يقتل، وأما إذا كان مؤذياً كبقية الغربان فيجوز قتله. وكذلك الحدأة فهي تخطف على الحجيج طعامهم وخاصة اللحوم. والعقرب يؤذي ويلدغ، والفأرة، والكلب العقور هذه كلها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها. وإذا كان بعض الحيوانات يمكن أن يؤخذ فيستأنس، مثل: الفهد، والبازي، والصقر، بحيث إنه يصير أداة للصيد بعد ذلك، فلا يستحب قتله، وأما إذا كان يؤذي فيقتله المحرم ولا فدية عليه؛ لأنه ليس صيداً. وفي حديث آخر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الخمس يقتلن في الحل والحرم، وجاء في حديث عائشة: (الوزغ فويسق)، فيكون السادس، إذاً مفهوم العدد الذي في هذا الحديث غير معمول به؛ فقد ذكر خمسة في هذا الحديث، وذكر في حديث آخر الوزغ أنه يقتل، فصار سادساً، فيجوز قتل الوزغ، وهي دابة من الدواب تشبه البرص، ولكنه نوع سام، فيجوز قتل الوزغ، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر أن الوزغ كان ينفخ النار على إبراهيم من أجل أن يحرق، على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وعن طارق بن شهاب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر المحرم بقتل الزنبور، والزنبور: ذبابة كانت تقرص الحجيج فأمر بقتلها في الحرم. وجاء عن ربيعة بن أبي عبد الله بن هدير: أنه رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرد بعيراً له في طين بالسقيا وهو محرم، (يقرد): أي: ينزع القراد عنه، والقراد نوع من الدواب التي تؤذي البعير، فكان يخرجه ويزيله، ولا شك أنه بإزالتها سيحصل قتل لبعضها. ويجوز قتل الخنافس، والدود، والجعلان، والأبراص، والذباب، والبعوض، وكل هذه الأشياء التي تؤذي لا فدية فيها، ولا يحرم قتلها.

الدواب التي لا يجوز قتلها

الدواب التي لا يجوز قتلها لكن الممنوع من قتله هو ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدد، والصرد)، فهذه الأشياء طالما أنها لا تؤذيك فلا تتعرض لها، فإذا كنت محرماً ووجدت نملة أو مجموعة من النمل في الأرض فلا تتعرض لها، لكن لو أن النمل لدغك فقتلت التي لدغتك جاز ذلك، والنمل قد يكون فيه نفع، وقد يكون فيه أذى، لكن هذا الحديث فيه أنه نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد، ولم يقل في الإحرام ولا في غير الإحرام، فهو على العموم. والنمل أمة من الأمم خلقها الله سبحانه وتعالى، والله لا يخلق شيئاً إلا لحكمة، فلو أن الإنسان حاول أن يقضي على كل النمل الموجود في الكون لأخل بالتوازن البيئي، فالنملة فيها منافع، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله. وفي بعض البلاد يبيعون النمل ويشترونه، كاليمن فإنهم يحتاجون إليه من أجل أن بعض الفطريات التي تظهر على أشجار الموالح كالبرتقال،، واليوسفي وغيره، فالذي يقضي على هذه الأشياء هو النمل، فيحضرون النمل من الغابة ويضعون أغصاناً مليئة بالنمل فوق الجمال، ثم ينقلونها إلى السوق ويبيعونها، فمن اشترى منها شيئاً ذهب به إلى مزرعته فيدخل النمل على الأشجار فيقضي على الفطريات الموجودة عليها. ولذلك لم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل بعض الأشياء إلا لأن فيها منافع قد يجهلها الكثير من الناس، وقد يعلمها البعض، فالله عز وجل حين ذكر النمل، وذكر وادي النمل، فيه دليل على أن له وادياً وله مكان فيه، وقد ذكر العلماء في النمل أشياء عجيبة جداً، فقالوا: إنه يشبه الإنسان في أشياء كثيرة في حياته، فهو يعيش في مجموعات فيها الملكة، وفيها الشغالة، وعندما يموت يدفن بعضه بعضاً بجنازة، وهذا عجيب جداً! فكما أن الإنسان يزرع فالنمل يزرع، وكما أن الإنسان يحلب فالنمل لها حيوانات تحلبها، تحضر لها السكر وغيره ثم تتأنى، كالإنسان يخرج بماشيته في الصباح من أجل أن ترعى ثم يحلبها في الليل، وكذلك تصنع النملة، فلم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها إلا لسبب من الأسباب. فلا يقتل النمل إلا إذا كان مؤذياً، كالنمل الأبيض الذي انتشر في الإسكندرية في هذه الأيام، وخاصة في بعض الأماكن يدمر البيوت، ويأكل الخشب، فهذا مؤذ فيقتل. فالنمل الذي يدخل البيوت ويأكل مدخرات الإنسان ويؤذيه بالقرص يجوز قتله، أما إذا كان الإنسان في أثناء الحرم فيدع النمل ولا يتعرض له؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. ونهى أيضاً عن قتل النحلة، والنحلة النافعة للإنسان قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69]. وكذلك الهدهد؛ لأنه صديق للفلاح، وليس مؤذياً للإنسان وفيه نفع، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، وكذلك الصرد، والهدهد لا ينتفع بلحمه، فلحمه ليس بطيب. والصرد: نوع من أنواع العصافير يقولون: إن منقاره أحمر أو أرجله حمراء، وكان العرب يتشاءمون منه، فكانوا بمجرد أن يروه يقتلونه للتشاؤم، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فالقدر بيد الله عز وجل وحده. وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن نملة قرصت نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فأمر النبي بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله تعالى إليه: أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح؟)، ففيه إشارة إلى أن قتل نملة واحدة كان كافياً. وفي رواية أخرى: (فهلا نملة واحدة؟!) أي: التي قرصتك. إذاً: فكل ما يؤذي الإنسان يجوز للإنسان أن يدفعه أو يقتله في الحل والحرم. وإذا احتاج المحرم إلى لبس ثياب أثناء الإحرام بسبب الحر، أو البرد، أو المرض، أو بسبب القتال، حتى يدافع عن نفسه، جاز له ذلك، وعليه الفدية. وإذا أراد حلق الشعر من رأسه أو غيره لأذى في رأسه، كقمل ملأ رأسه، ولا يستطيع أن يزيله إلا بحلق شعره كله، أو وسخ، أو غيره في شعره، أو في بدنه، أو حصلت مجاعة في أثناء الطريق ولم يجدوا شيئاً وخافوا أن يموتوا من الجوع وهم حجاج، جاز لهم أن يأخذوا صيداً فيقتلوه ويذبحوه ويأكلوه للضرورة، فإن الضرورات تبيح المحظورات، وعليهم جزاء الصيد بعد ذلك. وإذا نبت في عينه شعرة أو شعرات داخل الجفن، وتأذى بها، جاز قلعها، فلو أن شعرة من جفنه دخلت في عينه، وتأذى منها جاز أن يقلعها ولا شيء عليه. وكذلك لو كسر ظفره وبقي منه شيء يؤذيه جاز له أن يزيله، ولكن لا يقص باقي الأظفار.

دفع المحرم للصائل من صيد أو غيره

دفع المحرم للصائل من صيد أو غيره ولو صال عليه صيد وهو محرم أو في الحرم، ولم يمكن دفعه إلا بقتله فقتله للدفع فلا جزاء عليه، فمن صال عليك سواء كان حيواناً أو آدمياً جاز لك أن تدفعه عن نفسك، حتى ولو كنت في الحرم، فلو صال عليه صيد وهو محرم في أثناء الإحرام، كبقر وحشي أو غيره فإنه يدافع عن نفسه بأن يبتعد عن طريقه إذا استطاع، أو يقتله إذا كان لا يقدر إلا على ذلك. ولو أنه كان في الحرم وهجم عليه طير وآذاه جاز له أن يدفعه عن نفسه ولو بقتله، ولا شيء عليه. ولو أن إنساناً صال على المحرمين، سواء في الحل أو في الحرم، جاز أن يدفعوه بالأقل فالأكثر ولو وصل إلى القتل، ولو أنهم في الحرم وفي أثناء الصلاة وجاء إنسان يضربهم فيدفعون عن أنفسهم، كأن يأخذوه إلى الشرطة، أو يمنعوه، وإن لم يستطيعوا أن يمنعوه إلا بالضرب القاسي فعلوا ولا شيء عليهم. فالإنسان يدفع عن نفسه بالأقل فالأكثر، يقول أحد الإخوة: بينما نحن نصلي إذ جاء شخص يضرب المصلين في الحرم، حتى إنه أوقع أحدهم على الأرض ودرس عليه، ولم يدفعه أحد من الناس لكونهم في الحرم، وهذا من جهلهم، والأصل أنه إذا آذى أحدهم أو توقع منه ذلك وجب عليهم أن يدفعوه ويمنعوه من ذلك، ويخرجوه خارج المسجد الحرام، ويسلموه للشرطة ونحو ذلك، ولكن قد يجهل الإنسان بعض الأحكام الشرعية، فيترك مثل هذا الإنسان يؤذي الناس في الحرم، ولو أنه قتل إنساناً بسبب ترك الناس له لكانوا آثمين، ثم يقول هذا الأخ: فاضطررت أن أدفعه وقد خشيت أن يكون علي إثم، فنقول: ليس عليك إثم، فقد قال الله عز وجل في الحرم: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، أي: من حدث نفسه أن يؤذي أهل الحرم فإن الله عز وجل توعده أن يذيقه من عذاب أليم، فكيف بمن فعل ذلك في الحرم. وإذا انبسط الجراد في طريقه وعم المساجد فلم يجد عنه معدلاً إلا بالمشي عليه فقتله فلا ضمان، فلو فرضنا أن الجراد كثر في الحرم، ولا يوجد طريق إليه إلا بالمشي على الجراد جاز أن يمشي عليه، ولا شيء عليه.

ما يجب على من أتى محظورا من محظورات الإحرام

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - ما يجب على من أتى محظوراً من محظورات الإحرام إن من كرم الله تعالى ورحمته بعباده أن فتح لهم أبواباً يجبرون من خلالها النقص الحاصل منهم في أداء عبادة ما. فالحج مثلاً فيه محظورات يجب على الحاج اجتنابها، حتى يعطى أجره كاملاً، ويسلم من الوزر، ثم لما كان الخطأ وصمة لازمة للإنسان شرعت عدة كفارات لكل محظور بحسبه، فاللهم لك الحمد على فضلك العظيم.

حكم من ارتكب محظورا من محظورات الإحرام ناسيا أو جاهلا

حكم من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام ناسياً أو جاهلاً الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. روى البخاري ومسلم عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل بالجعرانة وعليه جبة وهو مصفر رأسه ولحيته، فقال: يا رسول الله! أحرمت بعمرة وأنا كما ترى، فقال: اغسل عنك الصفرة وانزع عنك الجبة، وما كنت صانعاً في حجك فاصنع في عمرتك). فهذا الرجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة، والجعرانة: ميقات للإحرام بالعمرة، وهي من الحل وقد أحرم منها النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة في عام حنين عام فتح مكة. والتنعيم: مكان آخر من الحل أحرمت منه أم المؤمنين عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها بالعمرة، فهذا الرجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الجعرانة، وكان عليه جبة، والمحرم لا يجوز له أن يلبس الجبة، ولذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم بنزعها، وكان مصفراً رأسه ولحيته، أي: كان واضعاً طيباً على رأسه ولحيته مما جعل اللحية والرأس صفراء وفيها رائحة الطيب، فقال له: (اغسل عنك الصفرة، وانزع عنك الجبة، وما كنت صانعاً في حجك فاصنع في عمرتك)، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإزالة هذه الأشياء التي لا يجوز له أن يلبسها في الإحرام. فهذا الرجل كان جاهلاً، فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفدية لجهله، إذاً إذا فعل الإنسان شيئاً من محظورات الإحرام جاهلاً بتحريم ذلك، كأن تطيب، أو لبس، أو دهن رأسه أو لحيته جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه، إلا أنه ينزع عنه هذه الأشياء التي وضعها. فإن ذكر ما فعله ناسياً، أو علم ما فعله جاهلاً لزمه المبادرة حالاً فينزع عنه الجبة التي يلبسها، ويزيل عنه أثر الطيب ويغسله، ولا شيء عليه، فإذا شرع في الإزالة وطال الزمن فلا شيء عليه، فلو فرضنا أنه استمر في غسل الطيب ولم تزل الرائحة موجودة وأخذت منه وقتاً فلا شيء عليه. لكن إذا أخر الإزالة فيحرم عليه ذلك، كأن يقول: عندما أعود سوف أخلع الجبة، فيكون بهذا قد تعمد اللبس مع معرفته بالحرمة، أو أخر إزالة الطيب كأن قال: عندما أعود سوف أزيل الطيب، مع إمكان إزالته حالاً، ففي هذه الحالة تلزمه الفدية؛ لأنه أخر الإزالة بلا عذر، وإن تعذر عليه إزالة الطيب أو اللباس -أي: أنه مع وجود العذر- فلا شيء عليه، فإذ أبطأ إنسان أو كان بيده علة أو غير ذلك، فلم يستطع أن يغسل أثر الطيب، كأن تكون يده مقطوعة، أو كلتا يديه مقطوعة، فإن انتظر حتى يفعل له شخص آخر ذلك فهو معذور ولا شيء عليه، ومتى تمكن ولو بأجرة لزمه أن يبادر إلى ذلك. ولو علم تحريم الطيب وجهل كون الممسوس طيباً فلا شيء عليه، أي: أنه يعرف أن وضع الطيب في الإحرام حرام، لكنه وجد زجاجة ولا يعرف ما بداخلها، فإذا أمسكها وشمها فخرج منها طيب على أنفه أو يده فلا شيء عليه، إلا أنه يلزمه إزالته في الحال. وإذا مس طيباً يظنه يابساً فكان رطباً فلا فدية، أي: لو أن رجلاً رأى قطعة طيب فظنها يابسة فأراد أن ينقلها من مكان إلى مكان آخر، فلزق بيده الطيب غسله حالاً ولا شيء عليه. وإذا حلق الشعر أو قلم الظفر ناسياً الإحرام أو جاهلاً تحريمه فلا فدية على الأرجح في ذلك، أي: أن الإنسان إذا نسي فأخذ الشفرة وحلق شعره ناسياً لإحرامه، أو جاهلاً لحكمه، ومثله يجهل ذلك، كرجل لا يعرف أحكام الإحرام، ومع جعله يجهل أن قص الشعر حرام في أثناء الإحرام، فإن كان جاهلاً حقاً فالراجح أنه لا شيء عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). والمغمى عليه والمجنون والصبي الذي لا يميز إذا أزالوا في إحرامهم شعراً أو ظفراً فلا فدية، وفرق بين الصبي الذي لا يميز والصبي المميز، فالمميز نقول: عليه الفدية احتياطاً لخلاف العلماء في ذلك، أما غير المميز فحكمه حكم المجنون. وإذا جامع المحرم قبل التحلل من العمرة، أو قبل التحلل الأول من الحج ناسياً لإحرامه أو جاهلاً فالراجح أنه لا يفسد نسكه، مثاله: لو أن رجلاً في أثناء إحرامه بالعمرة أو في أثناء إحرامه بالحج رجع إلى الفندق ونسي، فجامع أهله، أو فعله وهو جاهل لتحريمه، ومثله يجهل ذلك، فعلى الراجح أنه لا شيء عليه، ولا يفسد نسكه. وإذا حلق الحلال أو المحرم شعر محرم بغير إذنه، كأن جاء رجل حلال فقص شعره، أو جاء محرم آخر فقص شعره، فإن كان نائماً أو مكرهاً أو مجنوناً أو مغمى عليه فالفدية تجب على من حلقه، أي: على من فعل به ذلك؛ لأنه انتهك الإحرام وعصى الله عز وجل بما صنع، فالفدية على الفاعل، سواء كان محرماً أو كان حلالاً. ولو حلق محرم رأس حلال جاز ذلك، فلو فرضنا أن محرماً أثناء الإحرام حلق لحلال شعره جاز له ذلك؛ لأنه لم يفعل معصية.

أمور يجوز للمحرم فعلها ولا شيء عليه

أمور يجوز للمحرم فعلها ولا شيء عليه ويكره حك الشعر، ويكره مشط رأسه ولحيته، فالحاج هو الإنسان الأشعث الأغبر لا يحتاج إلى مثل ذلك، لكن إن احتاج وفعل فلا يتعمد أن ينزع شيئاً من الشعر، فله أن يحك بدنه أو رأسه عند الحاجة، ولكن برفق؛ لئلا ينزع شيئاً من الشعر. ولو أنه احتاج أن يحتجم في أثناء إحرامه من أجل التداوي مثلاً، مع أنه توجد الآن أدوية تغني عن ذلك، فليجعل الحجامة بعد أن ينهي الإحرام، لكن لو احتاج في أثناء الإحرام وكانت هذه هي الوسيلة لهذا العلاج وأراد أن يحلق شيئاً من الشعر من أجل أن يحتجم جاز ولا شيء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في وسط رأسه وهو محرم صلوات الله وسلامه عليه، ولن يتم هذا الاحتجام إلا بأن يزيل بعضاً من الشعر. وكذلك إذا اغتسل وسقط شيء من شعره، أي: لو أنه دلك شعر رأسه فسقط شيء من شعره فلا شيء عليه، سواء في ذلك الرجل والمرأة. ويفتصد إذا احتاج إلى ذلك، والفصاد: هو أخذ الدم من العرق، وله أن يغتسل من الجنابة بالاتفاق، وكذلك لغير الجنابة، وجاء عن عائشة رضي الله عنها وكانت تسأل عن المحرم: أيحك جسده؟ فتقول: (نعم فليحككه وليشدد، ولو ربطت يداي ولم أجد إلا رجليّ لحككته) أي: أنه جائز ولا شيء في ذلك. ويحرم الاكتحال بكحل فيه طيب، أما الاكتحال بما لا طيب فيه فلا يحرم، ويكره للمحرمة الاكتحال بالإثمد أشد من كراهته للرجال؛ لأن المرأة تضع الكحل في عينيها زينة، فيكون فيه فتنة للرجال، وخاصة إذا كانت بغير نقاب، وإذا كانت في الإحرام في وسط الرجال فإنها تسدل على وجهها، ولعلها في أثناء رفع ما سدلته على وجهها يراها أحد فتكون فتنة، فعلى ذلك يكره لها ذلك، فإذا صارت فتنة فلا يبعد أن يحرم عليها ذلك. فإن اكتحل رجل أو امرأة فلا فدية، وقد جاء عن عثمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المحرم يشتكي عينيه: (يضمدها بالصبر) أي: يضعه في العين، أما الآن فتوجد مراهم وقطرات وغيرها تغني عنه. وعن شميسة قالت: اشتكت عيناي وأنا محرمة، فسألت عائشة أم المؤمنين عن الكحل فقالت: اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد، أو قالت: غير كل كحل أسود، أي: خشية الزينة، أما إنه ليس بحرام، ولكنه زينة. عائشة تقول ذلك، ونحن نكرهه، وقالت: إن شئت كحلتك بصبر، قالت: فأبيت. وللمحرم أن يغتسل في الحمام وغيره، وقد جاء في الصحيحين عن أبي أيوب قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو محرم)، فالاغتسال جائز أثناء الإحرام، وله أن يغسل رأسه بالصابون؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي خر من ناقته قال: (اغسلوه بماء وسدر) والسدر مثل الصابون، وهو ورق النبق، فعندما يطحن ويدق ويوضع في الماء تكون له رغوة مثل الصابون، وينظف، فيجوز استخدام السدر، والصابون يشبهه، فجاز استخدام أي نوع من الصابون، إلا أن يكون فيه نوع من الطيب الذي يلصق ولا يذهب إذا غسل يده بالماء، فلا يستخدمه المحرم لذلك. وللمحرم أن يحتجم ويتداوى ولا فدية؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. وله أن يستظل سائراً ونازلاً في أثناء إحرامه، بأن يضع شمسية على رأسه، وهذا جائز، ففي الحديث تقول أم الحصين: (رأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر، رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة)، إذاًَ: فالنبي صلى الله عليه وسلم أثناء الإحرام كان يستظل من حر الشمس.

أمور ينبغي للمحرم تركها والابتعاد عنها

أمور ينبغي للمحرم تركها والابتعاد عنها وينبغي أن ينزه إحرامه من الشتم، والكلام القبيح، والخصومة، والمراء والجدال، ومخاطبة النساء بما يتعلق بالجماع، والقبلة ونحو ذلك من أنواع الاستمتاع. ويستحب للمحرم الإكثار من ذكر الله، فلا يضيع الوقت؛ لأنه عظيم جداً، وإن كانت أيام العمرة قليلة، إلا أنها لو استغلت في ذكر الله سبحانه وتعالى وفي العمل الصالح لكان أولى وأجمل من أن تضيع في اللهو والعبث، قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] قال ابن عباس: الفسوق: المنابزة بالألقاب، فهي من الفسوق، والفسوق هو المعصية والخروج عن الطاعة، ومن ذلك المنابزة بالألقاب، وهي أن تدعو أخاك باسم يكرهه. قال: وأن تقول لأخيك: يا ظالم! يا فاسق! والجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه، والمراء: هو الجدال، وبعض الناس، يكثر من الجدال في الحج بحجة أنه يظهر مسائل علمية، فيجادل بها للجدال فقط، فالحج ليس لمثل هذا، أما إذا احتجت للجدل دفاعاً عن الدين واحتاج الناس إلى ذلك فافعل، أما المراء للمراء فلا يجوز. وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كهيئته يوم ولدته أمه). وفي الحديث الآخر: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) أي: فليقل كلاماً فيه خير، أو ليسكت، ولا بأس بالكلام المباح من شعر وغيره، وإذا تكلم بكلام يسلي نفسه في أثناء إحرامه كأشعار تهيج على الحج، وعلى عبادة الله سبحانه وتعالى، وغير ذلك، فإنه جائز، وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من الشعر لحكمة) وقال: (الشعر كلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيحه)، ولا بأس بنظر المحرم في المرآة، فإذا احتاج أن ينظر في المرآة لكي يصلح ثيابه ونحو ذلك فلا شيء عليه، سواء في ذلك الرجل والمرأة. ويستحب كون الحاج أشعث؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29] والتفث: هو ما في رءوسهم وثيابهم من أوساخ وغير ذلك، وشعث الرأس: هو تفرق شعر الرأس، وكذلك الأشعث هو الذي لا يهتم بترجيل شعره لانشغاله بالمناسك. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (إن الله عز وجل يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً) وأيضاً الأشعث هو الذي لا يهتم بالزينة، والأغبر: هو الذي عليه غبار السفر، والمرأة كالرجل في ذلك إلا ما أمرت به من الستر، والأستر لها أن تخفض صوتها بالتلبية، ولها أن تلبس الجلباب والقميص ونحو ذلك.

الفروق بين الرجال والنساء في هيئة الإحرام

الفروق بين الرجال والنساء في هيئة الإحرام أركان الحج والعمرة هي للرجال والنساء، ولكن هيئة الإحرام يختلف فيها الرجل عن المرأة في أشياء: فالمرأة تخالف الرجل في أنها مأمورة بلبس المخيط؛ لأنه أستر لها، فعليها أن تستر جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين، إلا إذا مرت بالرجال الأجانب فإنها تسدل على وجهها وتغطي يديها بثوبها. الثاني في مخالفتها للرجل: أنها مأمورة بخفض صوتها بالتلبية، بعكس الرجل فإنه يرفع صوته، والمرأة ترفع شيئاً، ولكن لا ترفع حتى يسمع الرجال. الثالث: أن إحرامها في وجهها، ومعنى الإحرام في الوجه: أنها لا تلبس نقاباً على الوجه، وإنما غايتها إذا كانت أمام الرجال سترت وجهها بشيء، كالطرحة وغيرها حتى يمضي الرجال، أو حتى تنصرف إلى مكان ليس فيه رجال. وإن سترت وجهها لغير سبب لزمتها الفدية، ولو أن المرأة جلست في الفندق مع النساء ووضعت النقاب على وجهها لزمها الفدية؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولو أنها لبست القفازين في يديها لزمتها الفدية، أما أمام الرجال فلا تضع نقاباً ولا قفازين، وإنما تستر بالسدل على الاثنين. الرابع فيما تخالف فيه المرأة الرجل: أنها يستحب لها الخضاب، وهو وضع الحناء على يديها بحيث تستر جلد اليدين بذلك، فلو انكشفت يدها كان الحناء كساتر رقيق عليها، والرجل منهي عن ذلك.

الفروق بين الرجل والمرأة في الطواف والسعي

الفروق بين الرجل والمرأة في الطواف والسعي وكذلك المرأة تخالف الرجل في هيئات الطواف والسعي، ومنها: أولاً: الرمل، ومعناه: أنه يسعى قليلاً كهيئة الذي يجري، فهذا يشرع للرجل ولا يشرع للمرأة. ثانياً: الاضطباع، وهو أن يكشف الرجل عن منكبه الأيمن، أما المرأة فلا يجوز لها ذلك، لكن لا تنتقب ولا تلبس القفازين. ثالثاً: يستحب للمرأة أن تطوف في الوقت الذي تظن خلو الحرم فيه، سواء كان بالليل أو بالنهار، لكن إذا كان الليل مثل النهار في الزحام طافت في أي وقت حتى لا يفوتها. رابعاً: يستحب للرجل أن يدنو من الكعبة، أما المرأة فإذا كان دنوها من الكعبة سيجعلها تختلط بالرجال فلا تفعل. خامساً: تمشي المرأة بين الصفا والمروة ولا تسعى، أما الرجل فيسعى بين الميلين. سادساً: الحلق في حق الرجل أفضل، بينما التقصير في حق المرأة أفضل، ولا يجوز لها أن تحلق شعرها.

المحظورات التي تلزم فيها الفدية

المحظورات التي تلزم فيها الفدية والفدية لازمة لمن حلق شعره، أو قلم أظفاره، قال الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] أي: هو مخير بين هذه الأشياء: فإذا أنسك بشاة ذبحها وتصدق بها على فقراء الحرم. وإذا تصدق بطعام فإنه يتصدق بثلاثة آصع على ستة مساكين، والصاع اثنان كيلو ونصف، والثلاثة الآصع سبعة كيلو ونصف، فيتصدق بهذه الثلاثة الآصع على ستة مساكين، بحيث يعطي كل مسكين كيلو وسدساً. وإذا أنسك بصيام فإنه يصوم ثلاثة أيام. وفي الصحيحين عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: (نزلت في خاصة -يعني: هذه الآية- وهي لكم عامة، حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى) أي: ما كنت أظن أن الوجع وصل بك إلى هذا الأمر؛ لأنه مع كثافة شعره دخل القمل فيه وكثر حتى آذاه، فحمل حملاً إلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى، هل تجد شاة؟ فقلت: لا، قال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع) أي: أعط كل مسكين نصف صاع. فإذا تصدق بطعام وجب عليه أن يعطي كل مسكين نصف صاع، فإذا فعل أكثر من ذلك كان أفضل، وإذا أطعم المسكين وجبة كاملة من الطعام الذي يأكل منه فهو أفضل من إعطائه نصف الصاع، لكنه أقل ما يعطي للفقير. فإذا حلق شعرة واحدة أو شعرتين فيجب في شعرة مد، أي: لو أنه قطع شعرة من رأسه فيجب فيها مد، أي: قبضة من طعام، فيملأ يديه الاثنتين بشيء من الطعام ويعطيه للفقراء، وفي شعرتين مدان، وفي ثلاث شاة. والظفر كالشعرة والظفران كالشعرتين، أي: إذا قص ظفراً واحداً وجب عليه أن يعطي لمسكين مداً من طعام، وإذا قص ظفرين وجب أن يعطي لمسكينين مدين من طعام، وإذا قص ثلاثة أظفار فعليه شاة في ذلك. وإذا حلق شعر رأسه وبدنه فتجب فدية واحدة. إذاً: قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة:196] معناه: أن من كان مريضاً فارتكب محظوراً كأن لبس ثياباً؛ عمامة، أو قميصاً أو سروالاً، أو فانيلة، أو رداءً بسبب مرضه، فإن عليه فدية واحدة في ذلك؛ لأنه من جنس واحد. ولو حلق شعر رأسه وشعر بدنه لم تلزمه إلا فدية واحدة. وتجب الفدية بتعمد إزالة ثلاث شعرات متواليات، سواء شعر الرأس أو البدن، وسواء فعل ذلك بالنتف، أو الإحراق، أو الحلق، أو التقصير، أو الإزالة، أو غير ذلك. وإذا تطيب في بدنه أو ثوبه، أو لبس المخيط في بدنه، أو غطى رأسه أو شيئاً منه، أو دهن رأسه أو لحيته، أو باشر فيما دون الفرج فعليه الفدية. ولو أن رجلاً لبس مخيطاً، أو غطى رأسه، أو دهن لحيته ورأسه بطيب، أو باشر أهله بشهوة من غير جماع فإنها تلزمه الفدية، سواء طيب عضواً كاملاً أو بعضه، وسواء استدام اللبس كأن لبسه يوماً أو لبسه لحظة. والفدية: إما ذبح شاة فيذبحها ويتصدق بها على فقراء الحرم، وسواء ذبح الشاة، أو وكل من يقوم بذلك، فالذي يذهب إلى بنك الراجحي مثلاً ويدفع شيكاً ثمن الشاة ويذبحونها عنه فيجوز له ذلك. وإما صيام ثلاثة أيام، وإما التصدق بثلاثة آصع على ستة مساكين. والله أعلم.

ما جاء في صفة العمرة

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - ما جاء في صفة العمرة حرم إبراهيم خليل الرحمن مكة فجعله الله تشريعاً، وحرم نبينا عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن المدينة، فلا يعضد شوكها، ولا يختلى خلالها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. وقد وردت الأحاديث العديدة في فضل هاتين البقعتين من الأرض، فكان لزاماً على المسلم التأدب بآداب الشرع فيهما، وعدم انتهاك ما حرمه الله ورسوله فيهما.

حرم المدينة

حرم المدينة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. وصلنا في الحديث السابق إلى حرم مكة، وذكرنا ما فيه من أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها: أن الله عز وجل حرم مكة ولم يحرمها أحد من خلقه، وأنها لم يحل فيها القتال لأحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحل لأحد من بعده عليه الصلاة والسلام، وأنه ما حل له إلا ساعة من نهار صلوات الله وسلامه عليه، وأن التحريم من الله سبحانه حين خلق السماوات والأرض، وأظهر هذا التحريم إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام في دعائه لمكة. وكذلك الله سبحانه تبارك وتعالى حرم المدينة على لسان النبي صلوات الله وسلامه عليه بدعائه، فشرفها وحرم ما بين جبليها طولاً، وما بين لابتيها عرضاً، ولابتا المدينة -لابة عن اليمين ولابة عن الشمال- أرض مكسوة بحجارة سوداء، توجد واحدة في شرق المدينة والأخرى في غربها، فحرم المدينة ما بين جبلي المدينة من عير إلى ثور، وهما جبلان: جبل في شمال المدينة، وجبل في جنوبها، ومن الشرق والغرب ما بين اللابتين المذكورتين في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، لابة شرقاً، ولابة غرباً. فقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك محصلها، أنه يحرم صيد المدينة، وقطع شجرها، مثل حرم مكة، فلا يجوز الصيد فيها، ولا قطع شجر الحرم، وكذلك حرم المدينة لا يجوز الصيد فيها، ولا قطع شجرها.

ما جاء في حرم المدينة

ما جاء في حرم المدينة من الأحاديث الواردة في ذلك: ما ورد في الصحيحين عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرام ما بين عير إلى ثور) وعير: جبل في المدينة. قال أبو عبيد وغيره: عير، ويقال: عائر؛ جبل معروف في المدينة، قالوا: وأما ثور فلا يعرف أهل المدينة جبلاً يقال له: ثور، إنما ثور جبل بمكة، وكونهم لا يعرفون جبلاً بهذا الاسم في هذا الوقت لا يمنع أن يكون معروفاً قبل ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، إذاً كان هناك جبل اسمه ثور وكأن هذا الجبل تغير اسمه بعد ذلك، فصار أهل المدينة لا يعرفون جبلاً فيها بهذا الاسم، الذي هو اسم ثور، لكن ذكره من قبل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث دليل على أنه كان معروفاً قبل ذلك. وجاء في حديث آخر متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين لابتيها حرام)، وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد مرفوعاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرماً، وإني أحرم ما بين مأزميها ألا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف)، إذاً وضح النبي صلى الله عليه وسلم أن المدينة حرام ما بين مأزميها، وفي رواية أخرى: (ما بين لابتيها) وفي الثالثة: (ما بين عير إلى ثور)، ولذلك ذكر العلماء حدها بأربعة حدود: حد من المشرق وحد من المغرب، وهما اللابتان، وحد من الشمال وحد من الجنوب، وهما الجبلان اللذان ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم عيراً وثوراً. ثم قال صلى الله عليه وسلم يظهر هذا التحريم: (ألا يهراق فيها دم)، فإذا كان هذا دم صيد فإن دم الآدمي من باب أولى. (ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف) إذاً شجر المدينة لا يخبط، وخبط الشجر بمعنى: أن يضرب على أغصان الشجر من أجل أن تتساقط الأوراق فتأكل منه الدواب، فالجائز هو أن يخبط لإطعام البهائم، أما أن تكسر الأشجار أو أغصانها، فمثلما هو حرام في مكة كذلك هو حرام في المدينة، ولكن في مكة جزاء الصيد، هو أن ينحر أو يهدي هدياً، وأما في المدينة فالجزاء شيء آخر، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد)، فإبراهيم عليه السلام أظهر التحريم في مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، فدعا ربه وأظهر هذا التحريم الذي أراده الله سبحانه في المدينة. قال: (لا ينفر صيدها)، إذاً صيد المدينة آمن مثل صيد مكة. (ولا يعضد شجرها)، إذاً لا يكسر الشجر الذي في المدينة، كما لا يكسر الذي في مكة. (ولا يختلى خلاها)، الخلا: هو الحشيش الذي على الأرض، وهو العشب، والكلأ، فلا يجوز لأحد أن يقطعه لغير سبب، إنما يجوز أن يرعى ويرتع فيه دواب الحرم. (ولا تحل لقطتها إلا لمنشد) إذاً اللقطة في المدينة لا تتملك مثل لقطة مكة، وإنما يلتقطها ليعرفها بأن يرفع صوته بالمناداة، أو بأي نوع من التعريف.

جزاء من انتهك حرمة المدينة

جزاء من انتهك حرمة المدينة في مكة إذا صاد أحدهم صيداً فإنه ينظر في هذا الصيد ويذبح مثله إن كان له مثل، يقول الله سبحانه تبارك وتعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] فيذبح ما هو مثله من بهيمة الأنعام كالبقرة أو الشاة أو المعز، أو نحو ذلك مما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو جاء عن الصحابة أنهم أفتوا في ذلك، وحكموا به، فإذا كان غير ذلك فالقيمة كالبيض ونحوها. أما في المدينة فلا يوجد هدي، وإنما من فعل ذلك فيها فإنه يسلب، أي: يؤخذ ما معه من نقود وثياب، ويترك له ما يستر به عورته فقط، جزاء له؛ لأنه انتهك حرمة المدينة، ويأخذ هذا السلب ويستحقه من أنكر عليه. ففي حديث رواه مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن سعداً ركب إلى قصره بالعقيق -وهو واد في ذي الحليفة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه- فوجد عبداً يقطع شجراً أو يخبطه، فسلبه، أي: أخذ ما معه من أشياء وما عليه من ثياب، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ منه؛ لأن الذي على العبد ليس له وإنما لسادته؛ ولذلك جاءوا إلى سعد وطلبوا منه: أن رد علينا الذي أخذته من عبدنا، فقال: معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرد عليهم. فبين سعد بن أبي وقاص هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قال ذلك وأمر به. إذاً: فالمدينة حرم آمن، والنبي صلى الله عليه وسلم أظهر هذا التحريم، وأخبر أن المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، وما بين لابتيها، فمن أحدث فيها حدثاً استحق أن يسلب.

أسماء مكة والمدينة

أسماء مكة والمدينة مكة والمدينة لهما أسماء، وكثرة الأسماء للشيء أو المكان تدل على شرف هذا المكان.

أسماء مكة

أسماء مكة فمكة لها حوالي ستة عشر اسماً تطلق عليها، فمن أسمائها: الأول: مكة: وقيل سميت كذلك لقلة مائها، وبكة أيضاً بالباء قيل: لقلة الماء الذي فيها. وقيل: سميت مكة لأنها تمك الذنوب، بمعنى: تذهب الذنوب؛ لأن الذي يذهب إلى هناك في حج أو عمرة فإن الله عز وجل ينفي عنه ذنوبه، وهو مأخوذ من امتك الفصيل ضرع أمه، أي: امتص وأخذ منه. الثاني: بكة، قيل: لازدحام الناس فيها، أي: يبك بعضهم بعضاً، ويزحم ويدفع بعضهم بعضاً في زحمة الطواف. وقيل: لأنها تبك أعناق الجبابرة، أي: تدق أعناق الجبابرة. وقيل: مكة وبكة اسمان للبلدة. الثالث: تسمى أم القرى، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك في التسمية، والله سبحانه تبارك وتعالى ذكرها بهذا الاسم، وكلمة (قرية) معناها: مجتمع الناس، فتطلق القرية على البلدة التي اجتمع الناس بداخلها، فأم القرى أي: أم البلدان. الرابع: تسمى أيضاً: البلد الأمين، وقد ذكره الله عز وجل في كتابه. الخامس: تسمى برحم، وكأنها من المراحمة، ففيها يتراحم الناس ويتآلفون ولا يقاتلون. السادس: تسمى أيضاً: صلاح، وهو مبني على الكسر كقطام ونحوها، وسميت بذلك لأنها مكان الصلاح الذي فيه الأمن. السابع والثامن والتاسع: تسمى: الباسة، والناسة، والنساسة. الباسة: لأنها تبس من ألحد فيها، بمعنى: تحطم من ألحد فيها؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، فالذي يريد الحرم بأذى فالله عز وجل يعذبه في الدنيا قبل الآخرة، فالباسة بمعنى المحطمة، كما قال تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:5] بمعنى: حطمت وفتت وذرت. وتسمى: الناسة والنساسة، وكأنها تطرد من جاء إليها يلحد ويعصي الله سبحانه تبارك وتعالى، وقيل: إنها سميت بذلك لقلة مائها، من نس بمعنى: يبس لقلة الماء الذي فيه. العاشر: تسمى: الحاطمة؛ لكونها تحطم الملحدين. الحادي عشر: تسمى: الرأس؛ لشرفها فإنها أم القرى ورأس البلدان. الثاني عشر: تسمى: كوثا، وهذه تسمية قديمة كانت تسمى بها، وهي تسمية موجودة في كتب التواريخ. الثالث عشر: تسمى أيضاً: العرش، وكأنها مأخوذة من العريش؛ لأن أكثر بيوتها في الماضي كانت مبنية من أخشاب منصوبة وعليها أقمشة وستائر، فكانت مكة تسمى بالعرش، وبيوتها عرش مكة. الرابع عشر: تسمى: القادس والمقدسة، وهذا من التقديس أي: البلدة المطهرة. الخامس عشر: تسمى أيضاً: البلدة، وهو علم عليها.

أسماء المدينة

أسماء المدينة تسمى المدينة بأسماء منها: المدينة، وطيبة، وطابة، والدار. قال الله عز وجل: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ} [التوبة:120]. وقال: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} [المنافقون:8]، ويقال عنها: بلد النبي صلى الله عليه وسلم، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى سمى المدينة طابا)، وجاء في مسند أحمد (أنه سماها طيبة)، وطابا وطيبة أصلهما من التطييب، وهو: الطاهر، لخلوصها من الشرك وطهارتها، أي: ليس فيها شرك بالله عز وجل، أو من طيب العيش بها، أو من الطيب وهو الرائحة الحسنة. وسميت أيضاً: الدار، فأهل الدار والإيمان الذين نزلوا فيها هم أهلها أهل المدينة من الأنصار رضوان الله تبارك وتعالى عليهم. وكان لها اسم في الماضي، فقد كانت تسمى يثرب، وهو من التثريب: وهو التوبيخ، فكأنها كانت بلداً فيه شيء من الوباء ونحوه، فكان من ينزل بها يصاب بهذا الوباء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره هذا الاسم، فلم يكن يحب أن يسميها به.

صفة العمرة

صفة العمرة ندخل الآن في صفة العمرة؛ لأن الذاهب إلى هناك إما أن يذهب للعمرة فقط، أو يذهب ليعتمر ثم يتمتع بالعمرة إلى الحج، ويأتي بالحج بعد ذلك، فالذاهب إلى هناك الغالب أنه يبدأ بالعمرة، فقدمنا الكلام عن العمرة على الكلام عن الحج.

دخول مكة والمسجد الحرام

دخول مكة والمسجد الحرام عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مكة من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السفلى) والثنية: هي الطريق الذي بين الجبلين، أو الطريق الذي في الجبل، والثنية العليا في مكة تسمى: كداء، وهي مكان عالٍ مرتفع عن سطح الأرض، والثنية السفلى فيها تسمى: كدى. وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم مقصد وهدف من الدخول من الثنية العليا؛ لأن الثنية العليا مكان مرتفع، وكان أهل مكة لا يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يدخل منها، ولذلك فإن حسان بن ثابت في هجائه لأهل مكة ذكر أنهم يدخلون عليهم من أعلاها، وذلك لأن الذي يفتح بلداً من البلدان ويدخل إليها من طريق وعر وصعب، فمعناه: أنه قوي مقاتل شرس؛ لأن العادة أن الغريب القادم من مكان بعيد أن يدخل من المكان السهل، ولا يدخل من المكان الصعب. فكداء: كانت أعلاها، فكأن حسان في هجائه للمشركين يتوعدهم أنا سنذلكم يوماً من الأيام، وسندخل عليكم ليس من المكان السهل، بل من أصعب مكان عندكم، وهذا دليل على تمكن الذل من هؤلاء. ولذلك لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الدخول جاء في سنن البيهقي (أنه سأل أبا بكر رضي الله عنه: كيف قال حسان؟ فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: إن حسان قال: عدمت بنيتي إن لم تروها تثير النقع من كنفي كداء يقول: حسان أعدم بنتي إن لم ترونا ونحن داخلون عليكم مكة من أعلى مكان فيها وأوعر مكان وأصعب مكان فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالدخول من هذا المكان). وجاء أيضاً عن العباس رضي الله عنه لما حبس أبا سفيان في ممر الجيش حين فتح مكة، وأمره أن يسلم، فلم يسلم أبو سفيان وقال: حتى أرى الخيل تدخل من ههنا، أي: كأنه أمر صعب جداً أن تدخل الخيل من على الجبال التي هي في أعلى مكة، فقال له العباس: لم قلت ذلك؟ قال: لا أدري، ولكن شيئاً حاك في صدري أني لن أدخل في الإسلام حتى أرى ذلك، وفعلاً دخلت خيل النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكان في مكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يدخلها من كداء، ويخرج من كدى. روى البخاري ومسلم عن نافع قال: وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي بها الصبح ويغتسل، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. إذاً في الدخول إلى مكة كان ابن عمر رضي الله عنه يبيت بذي طوى، وذو طوى فيه ثلاث لغات، وهو واد بباب مكة، ثم يصلي به الصبح، ويغتسل، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك صلوات الله وسلامه عليه. فيستحب للمحرم أن يغتسل عند دخوله مكة، فإن عجز عن الغسل تيمم، وهذا إذا قلنا: إن سبب الغسل هو العبادة وليس النظافة، وأما إذا قلنا: إن سبب الغسل هو النظافة فالغسل أولى، فإن لم يجد ماء جاز له أن يتيمم، وجاز له ألا يفعل ذلك. ويستحب إذا وصل إلى الحرم أن يستحضر في قلبه ما أمكنه من الخشوع والخضوع، ظاهراً وباطناً، ويتذكر جلالة الحرم ومزيته على غيره. ويستحب له دخول مكة -كما ذكرنا- من ثنية كداء، التي في أعلى مكة، وإذا خرج خرج من ثنية كدى، وهي بأسفل مكة، قرب جبل قعيقعان، وهذا إلى صوب ذي طوى. وله دخول مكة ليلاً ونهاراً، فلا يشترط وقت معين للدخول، ولكن ابن عمر كان يحب أن يدخل بعد أن يصلي الصبح في ذي طوى ثم يدخل بعد ذلك إلى مكة، فكل هذا جائز، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أولى، وما تيسر للذاهب المعتمر أن يفعله فعله؛ لأنه في أغلب الأحيان لا يكون الأمر في يده وخاصة إذا كان ذاهباً مع رحلة في سفر، فيكون مقيداً بمن معه في الرحلة. ودخول مكة نهاراً أفضل؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بات النبي صلى الله عليه وسلم بذي طوى حتى أصبح ثم دخل مكة)، وكان ابن عمر يفعله. وينبغي على الحاج أو المعتمر أو الإنسان المحرم أن يتجنب إيذاء الناس في الزحمة عند دخوله، ويتلطف بمن يزاحمه، ويلحظ بقلبه جلالة البقعة التي هو فيها، والكعبة التي هو متوجه إليها، ويمهد عذر من زاحمهم، فكل إنسان يزعم أنه يحب الله، ويحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحب الحرم، وقد يرى في نفسه أنه من أفضل الناس خلقاً، ولكن هذا كله يظهر هنالك، فالإنسان الحسن الخلق تظهر أخلاقه مع رفقته. مع الناس، في معاملاته، وفي حرصه على التواجد في الحرم، والإنسان الذي هو ذاهب لغير ذلك تظهر شراسة الأخلاق هنالك، فتجد أنه لا يستحي أن يرفع صوته في الحرم، ويتشاجر مع الناس، ويشتم ويسب، فكل إنسان بحسب ما في قلبه من حب لله عز وجل ومن خشوع وخوف تظهر أخلاقه في هذا المكان. فإذا رأى البيت استحب أن يرفع يديه ويقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام، وهذا مروي عن عمر رضي الله عنه، ومروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إسناده ضعيف، فيقول ذلك ويدعو بما أحب من أمور الدين والدنيا والآخرة، وأهم أمر أن يسأل الله المغفرة. ويستحب للمحرم أن يدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وهذا كله بحسب ما يتيسر له، فقد يكون الإنسان قادماً من سفر فيكون متعباً ولا يعرف هذا الباب من غيره لكثرة الأبواب في الحرم، فهذا يفعل ما يتيسر له ويدخل من أي الأبواب شاء، ومن تيسر له ذلك فعل اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودخل من هذا الباب، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل إلى باب بني شيبة ولم يكن على طريقه؛ فلذلك على الشخص الذي يعرف هذا الباب ويقدر على الذهاب إليه أن يفعل ذلك فهو الأفضل.

دعاء دخول المسجد الحرام وغيره من المساجد

دعاء دخول المسجد الحرام وغيره من المساجد ثم يقول الأذكار المشروعة في دخول المساجد، فعند التوجه إلى المسجد، سواء المسجد الحرام، أو المسجد النبوي، أو أي مسجد من المساجد، وأنت خارج من بيتك متوجهاً إلى بيت الله سبحانه تدعو وتقول: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهم أعطني نوراً. فإذا أراد الدخول إلى المسجد الحرام -وكذلك أي مسجد من المساجد- فيدعو بهذا الدعاء: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، ثم يدخل رجله اليمنى ويقول: باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم! اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. وإذا أراد الخروج بعد أن ينتهي من الأعمال التي فيه، يخرج من المسجد ويقول: بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك، اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم. وقد صحت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى. فإذا دخل المسجد الحرام فينبغي أن يستحضر عند رؤية الكعبة ما أمكنه من الخشوع والتذلل، والخضوع والمهابة والإجلال، فهذه هي عادة الصالحين في هذا المكان، فإن رؤية البيت تشوق إلى صاحبه، إلى ربه سبحانه تبارك وتعالى، والإنسان يذهب إلى هنالك ليظهر توحيده لله سبحانه، فيقول: لبيك اللهم لبيك! ويظهر شوقه إلى الله، ويتذكر الموقف العظيم بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى، فالذكريات تجول بخاطر الإنسان حين ينظر إلى البيت، ويرى الطائفين، وكم منهم يتقبلهم الله سبحانه تبارك وتعالى، ويغفر لهم ذنوبهم، ويتمنى أن يكون هو كذلك.

طواف العمرة

طواف العمرة وإذا دخل المسجد فلأنه ذهب ليعتمر فلن يصلي تحية المسجد، ولكن تحية البيت الطواف، وهذا الطواف للمعتمر -طواف العمرة- هو طواف الركن، فليس له طواف قدوم؛ لأن طواف القدوم سنة للذي يذهب إلى الحج، فإذا نوى الإفراد أو نوى القران بين الحج والعمرة فهذا له طواف قدوم، لكن الذاهب إلى العمرة ليس له طواف قدوم، وإنما عليه طواف الفريضة أو الركن، فيطوف بالبيت هذا الطواف. ففي حديث عائشة رضي الله عنها: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت)، فإذا دخل المعتمر المسجد الحرام قصد الحجر الأسود، وبدأ الطواف من عنده، فإذا لم يكن عند الركن الذي فيه الحجر الأسود فإنه يمشي حتى يصل إلى الحجر الأسود، ويقف هنالك ويبدأ الطواف من عند الحجر الأسود. والابتداء بالطواف مستحب لكل داخل، فكل إنسان يدخل إلى المسجد الحرام يستحب له أن يبدأ بالطواف، سواء كان محرماً، أو غير محرم، حتى لو أن إنساناً داخل للصلاة في وقت من الأوقات فإنه يستحب له أن يبدأ بالطواف بالبيت، وهذا بحسب ما يتيسر له، فلعله مع الزحام الشديد في مواسم العمرة والحج يكون صعباً أنه كلما يدخل المسجد يبدأ بالطواف، ولعله يتعذر عليه ذلك، فبحسب ما يتيسر له، إلا إذا خاف فوات صلاة مكتوبة، أو سنة راتبة، أو مؤكدة، أو فوات الجماعة المكتوبة، أو كان عليه فائتة مكتوبة؛ فإنه يقدم كل هذا على الطواف، ثم يطوف بالبيت، وهذا لغير المعتمر، أما المعتمر فأول شيء يبدأ به الطواف الذي هو طواف العمرة، إلا إذا كان المعتمر عليه صلاة ووقت الصلاة سيضيع، كما لو ذهب إلى هناك ودخل البيت قبل غروب الشمس ولم يكن قد صلى العصر، فهنا يبدأ بصلاة الفريضة، ثم يطوف بالبيت. والعمرة ليس لها طواف قدوم كما ذكرنا، وإنما فيها طواف واحد، وهو طواف الفرض، أو طواف الركن. والمحرم بالعمرة لا يتصور في حقه طواف القدوم؛ لأن أول طواف يفعله هو طواف الركن، وليس طواف القدوم، بل إذا طاف للعمرة أجزأه عنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه طاف طوافاً للعمرة، وبعد ذلك طاف طوافاً آخر للقدوم، لم يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم، ولكن أول شيء أتى به هو طواف العمرة. ولكن إذا طاف المعتمر بنية طواف القدوم وقع عن طواف العمرة؛ لأن هذا الطواف هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم، كما أنه لو كان عليه حجة الإسلام فأحرم بحجة تطوع، فإنها تقع عن حجة الإسلام. إذاً: إذا خرج ونوى العمرة وشرع في الطواف فالمستحب في حقه أن ينوي أن هذا طواف العمرة، لكن إذا لم ينو ذلك، وطاف مع الناس كما يطوفون، فهذا يجزئ عن طواف العمرة؛ لأن نية العمرة تأتي على كل ما يفعله بعد ذلك، فإذا طاف فهذا طواف العمرة، فإذا سعى فهذا سعي العمرة، سواء نوى بداية الطواف أو اكتفى بالنية الأولى التي كان عليها.

الطواف صفته وشروطه وسننه

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - الطواف صفته وشروطه وسننه للطواف بالبيت شروط وواجبات وسنن وردت في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فلابد على من يريد قصد البيت الحرام لأداء الحج أو العمرة أن يتعلمها حتى يقع طوافه موافقاً لما جاء في الشرع المطهر، ومن ثم يصح حجه وعمرته.

شروط وواجبات وسنن الطواف

شروط وواجبات وسنن الطواف الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الطواف الصحيح هو الطواف الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الطواف له شروط وواجبات وسنن. فالشروط والواجبات خمسة: أحدها: الطهارة من الحدث، ومن النجس في الثوب والبدن والمكان الذي يطؤه في مشيه، فالطواف بالبيت صلاة، فكما تصلي وثيابك طاهرة كذلك في الطواف بالبيت تكون الثياب والبدن طاهرة أيضاً. الثاني: كون الطواف داخل المسجد، أي: تطوف وأنت في صحن المسجد، تطوف وأنت في المسجد نفسه سواء في الدور الأول أو في الثاني أو فوق السطوح، كل هذا جائز، أما الطواف خارج المسجد فلا يصح، فلا بد أن يكون الطواف داخل المسجد. الشرط الثالث: إكمال سبعة أشواط. الرابع: الترتيب، فيبدأ طوافه بالحجر الأسود، وينتهي بالحجر الأسود، ويجعل أيضاً الحجر الأسود والبيت عن يساره. الخامس: أن يكون جميع بدنه خارجاً عن جميع البيت، أي: يكون الطواف على أرض صحن المسجد، فلا يكون فوق شذروان الكعبة، ولا فوق السور الذي بجوار الكعبة، ولا يدخل بين بابي الحجر، فيدخل من باب ويخرج من الآخر، فهذا لا يصح طوافه؛ لأن الطواف لا بد أن يكون من وراء الحجر. وأما سنن الطواف فهي: السنة الأولى: أن يكون ماشياً. السنة الثانية: أن يضطبع، وهذا في الطواف الأول الذي يأتي به، سواء كان طواف العمرة، أو كان في حج وسيكون في طواف القدوم، والاضطباع معناه: كشف المنكب الأيمن. السنة الثالثة: الرمل، ويكون في الثلاثة الأشواط الأولى، والأربعة الباقية يمشي فيها. السنة الرابعة: استلام الحجر الأسود وتقبيله، ووضع الجبهة عليه، واستلام الركن اليماني باليد اليمنى دون تقبيل. هذه من السنن، فإذا تيسر له ذلك فعل، وإذا لم يتيسر له فلا شيء عليه، والاستلام معناه: أن يضع يده عليه إن استطاع، ثم يضع جبهته كهيئة الساجد عليه، ويقبل الحجر الأسود، كل هذا يفعله إن استطاع ودون أن يؤذي أحداً من الناس. والركن اليماني السنة فيه الاستلام، فالكعبة لها أربعة أركان: ركنان يمانيان جهة اليمن، وركنان شاميان جهة الشام، فالركن الأول: هو الركن اليماني الذي فيه الحجر الأسود، وهو أول ركن في الطواف، فالبداية تكون من عنده. والركن الثاني: هو الركن الشامي، ثم تدور من وراء الحجر وتصل إلى الركن الثالث، وهو الركن الشامي الثاني، ثم تصل بعد ذلك إلى الركن الرابع، وهو الركن اليماني، فهذه الأربعة الأركان التي حول البيت. فالركنان الشاميان ليس فيهما استلام ولا تقبيل، والركن الذي فيه الحجر الأسود فإنك تستلم الحجر وتقبله وتسجد عليه، والركن اليماني الآخر السنة فيه المسح فقط، أي: الاستلام باليد من غير تقبيل، وهذا كله من سنن النبي صلوات الله وسلامه عليه. السنة الخامسة: الأذكار المستحبة في الطواف خاصة بين الركنين فيقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. السنة السادسة: الموالاة بين الأشواط، أي: أن تطوف الطواف الأول، والطواف الثاني بعده، والثالث بعده وهكذا، ولا تطوف ثم تجلس لترتاح فترة، ثم ترجع مرة ثانية، فإن السنة: أن يكون الطواف متتالياً بعضه بعد بعض ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. السنة السابعة: الصلاة بعد الطواف ركعتين خلف مقام إبراهيم. السنة الثامنة: أن يكون في طوافه خاشعاً، خاضعاً، متذللاً، خاضع القلب، ملازم الأدب بظاهره وباطنه، وفي حركته ونظره، وهيئته، يستشعر أنه في بيت الله سبحانه، فيكون جم الأدب في هذا المكان، في غاية الاحترام لهذا المكان، ويكون متواضعاً لخلق الله سبحانه، فلا يؤذي أحداً حتى لو آذاه الناس في هذا المكان.

الطهارة شرط لصحة الطواف

الطهارة شرط لصحة الطواف يشترط لصحة الطواف الطهارة من الحدث والنجس في الثوب والبدن والمكان الذي يطؤه في طوافه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام)، إذاً فهذه صلاة مخصوصة، صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود، ولكن فيها ذكر الله سبحانه، وليس فيها تسليم، وإنما تطوف تبدأ بالحجر وتنتهي بالحجر، إذاً هي كهيئة الصلاة في كونك لا بد أن تكون على طهارة، ولذلك لا يجوز لامرأة حائض أن تطوف بالبيت، ولا يجوز لإنسان على غير طهارة أن يفعل ذلك، فلا يجوز للجنب، ولا للنفساء، كل هؤلاء لا يجوز لهم الطواف. فإذا كان هذا الذي يطوف بالبيت محدثاً فعليه أن يخرج ويتوضأ ويرجع يطوف بالبيت، وإذا كان هذا الحدث حدثاً أكبر ذكره وهو يطوف، فعليه أن يخرج ويغتسل ويرجع، ثم يستأنف الطواف. أما مباشرة النجاسة فهناك نجاسة معفو عنها ونجاسة غير معفو عنها: فالنجاسة المعفو عنها مثل: إنسان به سلس بول، أو سلس غائط، فهذا يضع حفاظة أو أي شيء يمنع تلويث المكان، ويطوف على هيئته هذه وهو معذور. أما النجاسة غير المعفو عنها: فمثل البول والدم الكثير، أما لو كان قطرة أو شيئاً يسيراً فإنه يعفى عنه، فلو وقع شيء في ثوبه من دم أو بول أو نحو ذلك من غير عذر فلابد أن يبدل ثيابه ويطوف بثياب طاهرة. ومما تعم به البلوى في الطواف: ملامسة النساء مع الزحام الشديد، فينبغي على الإنسان أن يتوقى ذلك قدر المستطاع، والنساء يتقين الله سبحانه وتعالى في ذلك، فتجد كثيراً من النساء تريد أن تقبل الحجر الأسود، حتى لو كلفها ذلك أن يقع حجابها من على رأسها، فتنكشف وتختلط بالرجال، وتزدحم بهم زحمة شديدة جداً، فهذا لا ينبغي أن تفعله النساء، وأيضاً الرجال لا ينبغي أن يزاحموا النساء في ذلك، بل على الإنسان أن يجتنب ملامسة النساء إلا مضطراً إلى ذلك.

ستر العورة شرط لصحة الطواف

ستر العورة شرط لصحة الطواف ستر العورة شرط لصحة الطواف، والرجل عورته ما بين السرة إلى الركبة، والمرأة كلها عورة، ولا يجوز لها أن تنتقب أو تلبس القفازين، فلو أن امرأة تطوف بالبيت وزاحمت الرجال فسقط حجابها من على رأسها، وظلت تمشي على هذا الحال وهي تطوف، فإن طوافها غير صحيح، لكن لو حدث منها هذا الشيء فغطت رأسها بسرعة، فطوافها صحيح؛ لأنه يعفى عن اليسير في ذلك. وكذلك الرجل، فلو أنه كان يطوف فسقط منه إزاره فلبسه حالاً فلا شيء عليه، ولكن لو رفع إزاره حتى ظهرت عورته فإن طوافه يبطل بذلك. جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن أبا بكر رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع، وهذا كان في سنة تسع، حين كان الأمير على الحج أبا بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه، فأرسل أبا هريرة في رهط يؤذن في الناس يوم النحر: ألا يحج بعد العام هذا مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، أي: لا يجوز أن يطوف بالبيت عريان، فقد كان المشركون يصنعون ذلك، فيطوفون بالبيت وهم عراة، فأرسل إليهم صلى الله عليه وسلم هذا التحذير، وهذا السبب كان هو العلة في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج في ذلك العام، مع أنه فرض عليه صلى الله عليه وسلم في سورة آل عمران: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] وهذه السورة نزلت في عام الوفود، في العام التاسع، ومع ذلك لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم لهذا السبب، فما كان له أن يطوف وحوله رجال ونساء من المشركين، وهم عراة، فلم يفعل في ذلك العام، وأخر الحج إلى العام الذي يليه، حتى صار المكان ليس فيه أحد من المشركين، ولا أحد من العراة، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. إذاً: متى انكشف جزء من عورة أحدهما -الرجل أو المرأة- بتفريط بطل ما يأتي بعده من الطواف، فلو طاف ثلاثة أطواف ثم انكشفت عورته بتفريط منه ولم يبال بذلك، فعلى ذلك لا يصح ما يأتي به من طواف بعد ذلك وهو على هذه الحال، إلا أن يستر نفسه في الحال ويكمل ما بقي من طوافه، وإذا انكشفت بلا تفريط وستر في الحال صح طوافه.

النية في الطواف

النية في الطواف إن كان الطواف في غير حج ولا عمرة لم يصح بغير نية، مثل: إنسان داخل الحرم، وأراد أن يطوف بالبيت في غير حج ولا عمرة، فهذا لابد له من نية الطواف قبل الشروع فيه، وللإنسان هنالك أن يكثر من الطواف بالبيت ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فيطوف بالليل ويطوف بالنهار، فهذا فيه ثواب عظيم جداً، أما الحاج والمعتمر فإن نية الحج أو العمرة تأتي على الأفعال التي يفعلها بعد ذلك، فلو أنه في حجه طاف بالبيت ونسي قبل طوافه النية، أو سعى بين الصفا والمروة ونسي أن يستحضر النية ولكن هو يعلم أنه يسعى، أو ذهب إلى منى، أو إلى عرفات ونسي النية، فالراجح أن نية الحج تأتي على جميع الأعمال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمع حاجاً يقول: (لبيك عن شبرمة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: فحج عن نفسك ثم حج عن شبرمة)، فتغيرت نيته من حج عن غيره إلى حج عن نفسه، وتسري بعد ذلك هذه النية التي في إحرامه إلى ما يفعل من أفعال بعد ذلك إن كان في حج أو عمرة. وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، وقال به أبو حنيفة والثوري، وذهب الإمام أحمد وإسحاق وأبو ثور وابن القاسم المالكي وابن المنذر إلى أنه لا يصح منه عمل إلا بنية، فحتى لو نوى في البداية أن هذا حج له، أو أن هذه عمرة، فلابد له عند الطواف أن ينوي الطواف، وعند السعي ينوي السعي، وهذا الذي ذكرنا أنه ينبغي أن يفعله خروجاً من الخلاف، وإن كان الراجح أنه لو نسي النية في أول الطواف فتكفيه النية التي كانت قبل ذلك.

الاضطباع والرمل من سنن الطواف

الاضطباع والرمل من سنن الطواف الاضطباع: مشتق من الضبع، وضبع الإنسان هو عضده، وقيل: هو النصف الأعلى من العضد، إذاً: النصف الأعلى من العضد يسمى ضبع الإنسان، والاضطباع أن يكشف هذا المكان، فقولنا: اضطبع بمعنى: كشف المنكب الأيمن. ويقال للاضطباع أيضاً: التوشح، والتأبط؛ لأنه يجعل رداءه تحت إبطه، فيسمى اضطباعاً؛ لأنه كشف ضبع الإنسان، ويسمى تأبطاً؛ لأنه يجعل رداءه تحت إبطه. فاضطباع المحرم: هو أن يدخل رداءه تحت إبطه الأيمن، ويرد طرفه على يساره، ويبدي منكبه الأيمن، ويغطي الأيسر. والاضطباع مستحب في الطواف، ولا يستحب في غير طواف القدوم في الحج وطواف العمرة، إذاً المعتمر يسن له ذلك، وهذا من السنن وليس من الفروض ولا الواجبات، فإذا نسي فلا شيء عليه، وإذا تعمد ألا يفعله فلا شيء عليه كذلك، ولكن السنة أن يفعل ذلك، فهو مستحب. وقد جاءت في ذلك أحاديث منها: ما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة)، وهذا كان سنة ثمان عندما اعتمر صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، حيث توجه صلى الله عليه وسلم إلى حنين ثم رجع فاعتمر من الجعرانة، قال: (اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت، فجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى). أيضاً روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شراً، فأطلع الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوه، فأمرهم أن يرملوا في الأشواط الثلاثة وأن يمشوا بين الركنين)، وكأن هذا كان في عمرة القضاء، وقد كانت سنة سبع، وكان المشركون يراقبون يريدون أن يشمتوا بالمسلمين الذين أتوا يعتمرون، فقد صدوهم في العام الماضي سنة ست في الحديبية، والآن في سنة سبع في عمرة القضاء يريدون أن يتفرجوا عليهم، فقالوا: هؤلاء قوم وهنتهم حمى يثرب، فقد كانت المدينة تسمى بيثرب، وكان كل من قدم إليها يصاب بالحمى، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله سبحانه أن ينقل هذه الحمى من المدينة إلى مهيعة، فاستجاب له ربه سبحانه. فلما قدموا في عمرة القضاء فلا شك أنهم قد تعبوا، فالطريق طويل جداً، وأيام وليالٍ قضوها في الطريق، ولذلك أراد المشركون أن يشتموا بالمسلمين القادمين، فقالوا: إنهم قد وهنتهم حمى يثرب، وسترون كيف سيسقطون حول البيت، ولن يستطيعوا الطواف، فأخبر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بما قالوه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا بين الركنين، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم رأى الكفار جالسين فوق الجبل يشاهدون المسلمين، والمكان المخفي عنهم من الكعبة هو الذي بين الركنين، فأمر المسلمين أن يمشوا بين الركنين ثم يرملوا من الحجر إلى الركن اليماني، والرمل هو: المشي السريع كهيئة الذي يجري، ففعل الصحابة ذلك، فلما رأوهم رملوا قالوا: هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى وهنتهم، هم أجلد منا، ولقد قدموا من هذا السفر كله، ويطوفون حول البيت بهذه الكيفية، فهم أجلد وأقوى منا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ولم يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاء عليهم)، فلو أمرهم أن يرملوا الأشواط السبعة كلها لوقعوا من التعب ولشمت بهم المشركون، ولكن أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط فقط. وهذا الأمر كان لعلة، ثم فعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لغير علة لما فتحت مكة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في حجة الوداع فرمل واضطبع صلوات الله وسلامه عليه، فدل على أنه كان السبب هذه العلة، واستمر الأمر على أنه سنة بعد ذلك، سواء وجدت العلة أم لم توجد. وجاء عن ابن عباس أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطبع، فاستلم وكبر، ثم رمل ثلاثة أطواف)، وكانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيبوا عن قريش مشوا؛ لأن القرشيين لا يرونهم وهم عند الركن اليماني، ثم إذا طلعوا عليهم رملوا، تقول قريش: كأنهم الغزلان، قال ابن عباس: فكانت سنة، أي: صارت هذه سنة بعد ذلك: الرمل والاضطباع. واضطباعه صلى الله عليه وسلم كأنه إظهار للقوة، فالإنسان يكشف يده اليمنى عندما يتعاطى صنعة معينة، أو يكشف ذراعي لتعاطي الشيء إظهاراً للقوة على الصنع، فكأنه كذلك يظهر يده اليمنى إظهاراً للقوة في ذلك، وكذلك الرمل هو لإظهار القوة على المشي وعلى العبادة، وأيضاً حتى لا يشمت بهم المشركون، أو يظنوا أنهم يقدرون عليهم. وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم ببرد أخضر)، كان النبي صلى الله عليه وسلم مرتدياً رداءه برداً لونه أخضر عليه الصلاة والسلام. وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (فيم الرملان اليوم؟ والكشف عن المناكب؟ وقد أطأ الله الإسلام ونفى الكفر وأهله -أطأ الإسلام بمعنى: وطأ له، ومهد له، وأتم الله سبحانه وتعالى ما أراد من هذا الدين العظيم- ثم قال: ومع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، إذاً السؤال ليس استفهاماً يستفهم من الناس، وليس إنكاراً لهذا الذي يصنعونه الآن، وإنما الاستفهام حتى يشوق السامع إلى الجواب الصحيح: لماذا نحن نرمل حول البيت؟ ولماذا نحن نبدي المناكب؟ ثم قال لهم: سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي فعل فلا نتركها. ويسن الاضطباع للذكر صغيراً وكبيراً، في طواف العمرة، وفي طواف القدوم في الحج، سواء سعى بعده أم لا، ويسن معه الرمل، لكن يفترق الرمل والاضطباع في أن الرمل يكون في الثلاثة الأشواط الأولى فقط، وبعد ذلك تمشي كل المسافة من الحجر إلى الحجر مشياً عادياً خلال الأربعة الأشواط الباقية كلها، فالثلاثة الأولى ترمل فيها ما بين الركن الذي فيه الحجر إلى الركن اليماني الذي بعد ذلك، وبعدها بين الركنين تكون ماشياً. بينما الاضطباع يكون في جميع الطواف، فإنك لا تستر منكبك الأيمن إلا بعدما تنهي الطواف كله ثم تذهب لتصلي خلف مقام إبراهيم. إذاً: الرمل يسن في الثلاثة الأول ثم يمشي في الأربعة الأواخر، ولا يسن الاضطباع في السعي، ولا في ركعتي الطواف، فعندما تطوف بالبيت تضطبع، وتكشف المنكب الأيمن، لكن عندما تصلي لا تفعل ذلك، بل تستر المنكب، وتأخذ الزينة في الصلاة، فتصلي وأنت متزين للصلاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد، ليس على عاتقيه شيء)، إذاً الثوب لا بد أن يكون على العاتق، فلا يصلي وليس على العاتقين شيء، وهذا الحديث متفق عليه، وعند النسائي بلفظ: (لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء). فالاضطباع كما قلنا: يكون في كل طواف قدوم، في السبعة الأشواط، فلو فرضنا أنك نسيت وبعدما طفت أربعة أشواط أو خمسة تذكرت فإنك تأتي به فيما بقي. لكن الرمل يكون في الثلاثة الأول، فلو أنه نسي الرمل في الثلاثة الأول فلا يسن ولا يشرع أن يتداركه بعد ذلك؛ لأن وقته وهيئته في الثلاثة الأشواط الأول، أما الأربعة الباقية فالسنة فيها أن تكون ماشياً، فلا تفعل فيها ما هو سنة في الأشواط التي قبلها.

اشتراط السبعة الأشواط لمن يطوف بالبيت

اشتراط السبعة الأشواط لمن يطوف بالبيت شرط الطواف أن يكون سبعة أشواط، كل مرة من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، ولا بد أن يكون من خلف الحجر، ولا يكون بين بابي الحجر؛ لأن هيئة الكعبة التي أمامك هي ناقصة، فإن الحجر يعتبر تابعاً للكعبة، فلا بد أن يكون الطواف من خلف الكعبة جميعها، بما فيها الجزء الذي في الحطيم. روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف). وروى مسلم عن جابر قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم نفر إلى مقام إبراهيم وقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]) إذاً: فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعة أطواف، الثلاثة الأول كان فيها يسعى عليه الصلاة والسلام، أي: يرمل فيها ما عدا ما بين الركنين، فقد كان يمشي، وفي هذا المكان من السنة أنه يدعو: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم خرج إلى الصفا) فالسنة أن يصلي ركعتين خلف المقام. فلو بقي من السبعة شيء لزمه أن يأتي به، فلا يصح طوافه إلا أن يأتي بالسبعة الأشواط كاملة، لا يصح فإذا خرج فليرجع حتى يكمل السبعة.

الشك في عدد الطواف

الشك في عدد الطواف ولو شك في عدد الطواف أو السعي لزمه الأخذ بالأقل، حتى يطمئن أنه أتى بالجميع. ولو أخبره عدل أو عدلان بأنه طاف أو سعى ستة، وكان يعتقد أنه أكمل السبعة، لم يلزمه العمل بقولهما، لكن يستحب، وذلك لأن اليقين ما استيقنته أنت في نفسك، ولكن يستحب أن تأتي بما نقص حسب قولهما، لكن إذا كنت غير مستيقن فيلزمك أن ترجع إلى قولهما، وتأتي بالباقي. وإذا كنت مستيقناً استحب لك أن تأتي بالباقي كما قلنا؛ وذلك لأنك قد تكون نسيت، وبعدما تخرج تتذكر فترجع. أما إذا شك بعد فراغه فلا شيء عليه، كالشك بعد الانتهاء من العبادة؛ لأنه لو فتح باب الشك بعد الانتهاء من العبادة لدخلت الوساوس الكثيرة للإنسان، فلو أنك صليت صلاة العشاء مثلاً، وكنت مستيقناً في نفسك أنك صليتها أربع ركعات، وبعد ساعة أو ساعتين شككت أنك صليتها ثلاثاً فقط، فهذه الوسوسة لا قيمة لها ولا يلتفت إليها إلا أن تستيقن، فإذا استيقنت النقص فحينئذ عليك أن تكمل هذه الصلاة. إذاً: الشك إذا وقع في أثناء العبادة من صلاة وطواف وغيرها ففي هذه الحالة يبني على اليقين، أما إذا كان الشك بعد الانتهاء من العبادة فلا يلتفت إليه، إلا أن يستيقن.

وصف الحجر والشذروان

وصف الحجر والشذروان الحجر: هو محيط مدور على نصف دائرة، وهو خارج عن جدار البيت في صوب الشام، وقد قلنا: أن الكعبة هيئة مكعبة لها أربعة أركان: ركنان يمانيان جهة اليمن، وركنان شاميان جهة الشام، فالركن اليماني الأول فيه الحجر الأسود، ثم يأتي الركن الشامي، ثم الركن الشامي الثاني أو العراقي، ثم الركن اليماني الثاني. إذاً: فالكعبة على هذا الوصف تأخذ هيئة مربعة، لكن أصلها ليس كذلك؛ لأن جزءاً منها خارج هذا البناء -وهو ما بين الركنين الشاميين- وذلك لأن نفقة قريش تقاصرت أن يبنوا البيت على قواعد إبراهيم، فقل بناء البيت، فجعلوا جزءاً من البيت في الخارج، وبنوا الكعبة على أقل من قواعد إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ولذلك ينبغي إذا أردت الطواف أن يكون طوافك من وراء هذه الأجزاء التي تركوها، والتي تسمى الحطيم، أي: الجزء المحطوم للكعبة الذي ليس داخلاً في البناء؛ ولذلك بني وراءه هذا السور الدائري الذي نسميه: الحجر، فالحجر كأنه المانع الذي يمنع الداخل، أو أنه المكان المحيط على هذا الجزء الباقي من الكعبة. إذاً: تبدأ الطواف من الركن اليماني الذي فيه الحجر الأسود، ثم تصل إلى الركن الشامي وستجد بعده الحجر الذي هو السور المستدير الذي حول هذين الركنين، وحينئذ تطوف من خلف هذا السور، ولا يجوز أن تأتي عند الركن الشامي ثم تدخل من الباب الذي بين الركن الشامي وبين الحجر وتخرج من الباب الثاني وتكمل، ففي هذه الحالة أنت طفت حول البناء ولم تطف حول الكعبة؛ لأن هناك جزءاً من الكعبة طفت بداخله، والمفترض عليك أن تطوف خارج الكعبة. إذاً: فالحجر الذي هو البناء المدور الخارج عن البيت في صوب الشام تركته قريش حين بنت البيت فأخرجته عن بناء إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. والشذروان: عبارة عن مسافة صغيرة تركوها من عرض أساس البيت، فكأن أساس البيت كان سميكاً، فلما بنوا فوقه ضيقوا من عرض البناء وتركوا مسافة صغيرة من الأساس تكفي لأن يقف عليها إنسان، فهذه تسمى: الشذروان، وهي من الكعبة على قول جمهور أهل العلم، فالذي يطوف فوقها كأنه يطوف داخل الكعبة وليس خارجها، فيجب أن يكون الطواف على أرض صحن الكعبة أو الحرم وليس فوق الكعبة، ولا فوق الشذروان. والشذروان: قدر ثلثي ذراع، ثلاثون سنتيمتراً تقريباً أو نحوها، وهو جزء من البيت نقصته قريش من أصل الجدار حين بنوا البيت، وأكثر أهل العلم على ذلك، وإن كان شيخ الإسلام ابن تيمية له كلام فيه: أن الشذروان هذا ليس من داخل البيت، وليس من الكعبة، ولكنه بني ليدعم البيت، فكأنه حجر بنوه من أجل أن يشد البيت ويقويه البيت وليس منه، ولكن جمهور أهل العلم على أن الشذروان من الكعبة، فلا ينبغي لأحد أن يطوف لا الطواف كله ولا جزءاً من الطواف فوق هذا المكان، فإن فعل فإن طوافه يكون باطلاً.

الأحاديث التي جاء فيها وصف الحجر

الأحاديث التي جاء فيها وصف الحجر روى البخاري عن جرير بن حازم عن يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (يا عائشة! لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألصقته بالأرض، وجعلت لها بابين: باباً شرقياً، وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم). وهذا هو الذي حمل ابن الزبير رضي الله عنهما على هدمه، قال يزيد بن رومان الراوي عن عروة: وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه من الحجر، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل، وقد ذكرنا إسناد البخاري الأول حتى نعلم أن راوة الأثر الأخير هما من رجال البخاري فلا يقال فيهما شيء. إذاً: كأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمنى أن يهدم الكعبة ويعيد بناءها مرة أخرى من أجل أن يدخل فيها كل ما كان من الحطيم. قال: (وألصقته بالأرض) أي: باب الكعبة، كان يتمنى أن يجعله على الأرض بدلاً من الارتفاع الذي هو عليه الآن. قال: (وجعلت لها بابين) أي: يجعل للكعبة بابين: باباً من الأمام وباباً من الخلف، حتى لا يحدث زحام عند الدخول والخروج منها لمن أراد أن يصلي فيها، فيكون باب للدخول وباب للخروج. قال: (وجعلت لها بابين، باباً شرقيا وباباً غربيا فبلغت به أساس إبراهيم) على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فذلك الذي حمل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ابن أخت السيدة عائشة رضي الله عنها على هدم الكعبة لما سمع هذا الحديث وبناها على ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه، وأدخل فيه من الحجر، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل)، إذاً: يقول: إنه حفر في الأرض حتى وصل إلى أساس إبراهيم، وهي القواعد التي رفع عليها إبراهيم هذا البيت، ووجدوها كهيئة أسنمة الإبل، أي: حجارة مثل سنام الجمل، على هيئة مخروطية. قال جرير بن حازم: فقلت له -أي: يزيد بن رومان - أين موضعه؟ قال: أريكه الآن، فدخلت معه الحجر، فأشار إلى مكان، فقال: ههنا، قال جرير: فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها. إذاً: الجزء الذي من المفروض أن يكون داخلاً في البيت وهو في الحجر الآن هو بمقدار ستة أذرع، والذراع يساوي أربعين سم تقريباً، إذاً الستة الأذرع تساوي تقريباً مترين ونصفاً، إذاً: هذه المسافة من وراء الكعبة صارت من صحن المسجد، وهي في الحقيقة جزء من الكعبة، فكان من المفترض أن تكون داخلة فيها. وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر -أي: الحجر أو الحطيم- أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا). إذاً: الأمر كان بحسب المزاج والهوى؛ لأنهم أرادوا أن يبنوا الكعبة من المال الحلال، فلما جمعت قريش المال الحلال الذي لديها لم يكف لبناء الكعبة على قواعد إبراهيم، فتقاصرت النفقة، فنقصوا البناء وأخرجوا جزءاً من الكعبة الذي هو الحطيم، أو الحجر، أو الجدر، وجعلوا بابها عالياً لسبب عندهم وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا)؛ لأن الباب المنخفض يكون سهل الدخول على عكس الباب المرتفع. لكن لماذا لم يغير النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟ لقد أراد ذلك ولكنه لم يفعل عليه الصلاة والسلام، وقال: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر بالبيت وأن ألصق بابه بالأرض)، هذه هي العلة في عدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وهي أن هؤلاء مازال إسلامهم جديداً، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك فلن يأمن أن تقول مجموعة من هؤلاء: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل هذا إلا من أجل أن يأخذ شرف بناء الكعبة لوحده، فقد كانوا يقتتلون في الجاهلية على من يضع الحجر الأسود في مكانه، ومن الذي يرفع حجراً من أحجار الكعبة، والقبائل تتقاتل على ذلك، فإذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم وصنع ذلك فقد يأتي بعض ضعاف العقول الذين ما زال إسلامهم قريباً ويقولون: انظروا! كل هذا الجهاد، وكل الذي فعل ليس إلا من أجل أن يبني الكعبة لوحده عليه الصلاة والسلام، فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم دفع هذه الذريعة لهؤلاء فلم يفعل عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الذي نسميه: سد الذرائع، فإن هدم الكعبة سيكون ذريعة في أن يتكلموا فيقعوا في الكفر بكلامهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فسد هذه الذريعة ولم يفعل عليه الصلاة والسلام. أيضاً جاء في حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: (ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحجر). وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: (لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لنقضت الكعبة فألصقتها بالأرض وجعلت لها بابين: باباً شرقيا، وباباً غربيا، ورددت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشاً اقتصرتها حين بنت الكعبة). ففي رواية جاء ذكر ستة أذرع، وفي أخرى خمسة أذرع، وراوية ثالثة سبعة أذرع، ولذلك فإن الذي يطوف لا بد أن يكون خارجاً عن هذه الأذرع التي أصلها من البيت، فلو دخل أحد بابي الحجر وخرج من الآخر لم يحسب له هذا الطواف، فلا بد أن يكون الطواف من وراء الحجر. ويشترط كون الطائف خارجاً عن الشذروان كما ذكرنا، فإن طاف ماشياً عليه ولو خطوة لم تصح هذه الطوفة. ومتى فعل في طوافه ما يقتضي بطلانه فإنما يبطل ما يأتي به بعد ذلك، ولا يبطل ما طاف قبل ذلك، فلو أنه طاف أربعة أشواط ثم انكشفت عورته فلم يستر نفسه وظل يطوف على هذه الحال، فإن كل ما طاف بعد انكشاف عورته باطل، إلا أن يستر نفسه، فإذا ستر نفسه فإنه يبني على ما سبق من الأطواف الصحيحة ويكمل الثلاثة الباقية.

استحباب الطواف ماشيا

استحباب الطواف ماشياً الأفضل أن يطوف ماشياً ولا يركب ولا يحمل إلا لعذر من مرض أو نحوه، فالأجر على قدر مشقة الإنسان، وقد يقول قائل: لماذا طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وهو على بعير؟ فنقول: إن الناس أتوا للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت من كل مكان يريدون أن يسألوه ويتعلموا، فلذلك ركب على بعير صلى الله عليه وسلم حتى يروه ويجيبهم صلوات الله وسلامه عليه. ولو طاف زحفاً مع قدرته على المشي فطوافه صحيح، لكن يكره ذلك، فلو أن إنساناً مريضاً ولكنه يقدر أن يمشي، جلس وطاف بعض الطواف وهو زاحف، فالصواب: أن طوافه صحيح، ولكنه مسيء في ذلك طالما أنه يقدر على المشي، فعليه أن يفعل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

مسائل تتعلق بطواف الحامل والمحمول

مسائل تتعلق بطواف الحامل والمحمول وإن حمل محرم محرماً لعذر وطاف به، ونوى كل واحد منهما عن نفسه، وقع الطواف عنهما عند الأحناف، وعن المحمول وحده عند الجمهور، والأحوط أن يطوف الحامل طوافاً عن نفسه ثم يحمل المعذور ويطوف به، فأما إن كان المحمول صبياً فيجب طوافان. صورة في المسألة: إنسان حمل إنساناً آخر وطاف به بالبيت، ذكرنا أن الأحوط أن يطوف به فيكون هذا الطواف عن المحمول، ثم يطوف عن نفسه بعد ذلك. وكوننا نقول: الأحوط، فذلك خروجاً من الخلاف فقط؛ لأن الجمهور على ذلك، لكن الراجح من حيث الدليل أنه لو طاف إنسان بالبيت وحمل إنساناً آخر عاقلاً له نية، فهذا نوى، وهذا نوى، فهذه نية منفصلة عن هذه، فالصواب فيها: أن الطواف صحيح عن الاثنين، فكل واحد طوافه بنيته، فالمحمول هنا إنسان عاقل، وله نية في ذلك، فلو أنه طاف فوق جمل أو أي شيء آخر فطوافه صحيح، فلو ركب على إنسان آخر فطوافه أيضاً صحيح، وهكذا الحامل له نية، وله فعل، وهو المشي على رجليه والطواف بالبيت، فكل واحد منهما له نية منفصلة. فلذلك الصواب في هذه المسألة والراجح فيها: أنه إذا حمل من يعقل وله نية فطواف كل إنسان عن نفسه، ويكفي طواف واحد للحامل وللمحمول على الراجح من كلام أهل العلم. لكن إذا حمل من لا نية له، كأن حمل طفلاً صغيراً لا نية له وطاف به، فهنا الصبي ليس له نية، بل النية نية الحامل، ولن ينوي هو عن هذا المحمول وإنما ينوي عن نفسه، فإذا فعل ذلك فقد جمع نيتين بفعل واحد، وهذا لا يصح، فعلى ذلك عليه أن يطوف عن الصبي ثم يطوف بعد ذلك عن نفسه، أو يعكس بأن يطوف عن نفسه ثم يحمل الصبي ويطوف وينوي عنه.

صفة الطواف الكاملة

صفة الطواف الكاملة إذا دخل المسجد فليقصد الحجر الأسود، وهو في الركن الذي يلي باب البيت من جانب المشرق، ويسمى: الركن الأسود، ويقال له وللركن اليماني: الركنان اليمانيان، فأول ما يبدأ به هو استلام الحجر الأسود، فيستحب أن يستقبل الحجر الأسود بوجهه، ويدنو منه، ومن لم يستطع أن يدنو من الحجر الأسود ويستلمه فيستقبله بوجهه من أي مكان هو فيه في محاذاة الخط الأسود، حيث قد وضع خط أسود أمام الحجر الأسود إلى نهاية صحن المسجد، بحيث من يكون واقفاً عليه يعلم أنه يستقبل الحجر الأسود. وبالطبع فإن هذا الخط ليس له أي فضيلة، وللأسف فإن بعض الناس من الجهلة يظن فيه ذلك، ويصر أن يصلي ركعتين فوق هذا الخط، وهذا من البدع الكثيرة التي وقع فيها كثير من الناس؛ ولذلك فالإنسان المؤمن ينبغي عليه أن ينصح وهو في هذا المكان، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يجادل. إذاً: يستقبل الحجر الأسود من دون أن يؤذي أحداً بالمزاحمة، فإذا دنا منه كان خيراً، وإن لم يستطع أن يدنو منه فيشير إليه من المكان الذي هو فيه، وإذا كان قريباً منه استلمه، والاستلام: هو وضع اليدين عليه، ويقول: باسم الله، والله أكبر، ثم يقبله من غير صوت، أي: لا يرفع الصوت بالتقبيل؛ لأن هذا من الاحترام والخشوع في ذلك المكان، ثم إذا استطاع أن يسجد برأسه فوق الحجر فعل ذلك. ثم يبتدئ الطواف ويقطع التلبية عند شروعه فيه، وله أن يذكر الله عز وجل بما شاء، بقراءة قرآن، أو تسبيح، أو تحميد، أو دعاء، ولكن ليحذر من رفع الصوت، فكثير من الناس وهو يطوف بالبيت تجده يدعو ممسكاً في يده كتاب أدعية، ويدعو بصوت مرتفع، ويصيح، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال لأصحابه: (اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعاً بصيراً، وهو معكم سبحانه وتعالى)، فهنا لا ترفع صوتك، ولا تشوش على غيرك، فإنك ستجد أناساً يدعون ربهم سبحانه، وآخرين يريدون أن ينتبهوا لما يقولون، ولكن لا يستطيعون بسبب صياح الناس ورفع الأصوات، فلا ينبغي أن تشوش على الناس في هذا المكان، ودع كل واحد يدعو من غير أن تشوش عليه برفع الصوت. أيضاً: تجد بعض الناس في أيديهم أدعية، ويقولون: هذا دعاء الشوط الأول، وهذا دعاء الشوط الثاني وهكذا، فهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل لكل طواف دعاء، ولكن ادع بما شئت في كل طواف، إنما الثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه بين الركنين كان يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وكما قلنا: يبتدئ الطواف ويقطع التلبية، ويضطبع مع دخوله في الطواف، فإن اضطبع قبله بقليل فلا بأس، فلعله يصعب عليك أن تبتدئ الاضطباع وأنت عند الحجر وذلك بسبب زحمة الناس، فلا تستطيع أن تفعل ذلك، ففي هذه الحالة تفعل ذلك عند دخولك المسجد فهذا جائز، والاضطباع قد عرفنا أنه كشف المنكب الأيمن. وعليه فصفة الطواف: أن يستقبل الحجر الأسود، وينوي الطواف لله سبحانه، وهذه النية هنا مستحبة، ثم يمشي إلى جهة يمينه حتى يجاوز الحجر، إذاً يستقبل البيت بوجهه، ولو استقبل البيت بجانبه فطوافه صحيح، ولكنه خالف السنة؛ لأن السنة أن تستقبل البيت، ثم بعد ذلك تجعل شمالك باتجاه البيت. ولو أنه في طوافه جعل وجهه للبيت وظل يطوف على هذه الهيئة، فهذا مخطئ في ذلك، وليس هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن طوافه صحيح. فإذا جاوز الحجر جعل يساره إلى البيت ويمينه إلى الخارج -كما قلنا- وهذه الهيئة كهيئة الإمام مع المأموم، كأن البيت إمام لك، وأنت المأموم. فلو فعل هذا من البداية، أي: ترك استقبال الحجر، بمعنى أنه بدأ من عند الحجر وشماله للبيت وبدأ الطواف فوراً، فطوافه صحيح، ولكنه خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وترك الفضيلة في ذلك. ثم يمشي هكذا تلقاء وجهه طائفاً حول البيت، شماله للبيت ويمشي للأمام، فيمر على الملتزم، وهو المكان الذي بين الحجر وباب البيت، وسمي الملتزم لأن الناس يلتزمونه للدعاء، أي: يحتضنونه ويلتزمونه التزاماً، تقول: التزمت فلاناً، أي: احتضنته، فكأنهم يلتزمون هذا المكان للدعاء، وفيه فضيلة. ثم يمر إلى الركن الثاني بعد الحجر الأسود، ثم يمر وراء الحجر، فهنا يكون قد وصل إلى الركن الشامي، ثم يمشي من وراء السور -الحجر- إلى أن يصل إلى الركن الشامي الآخر، وهو الركن الثالث، ويقال لهذا الركن مع الذي قبله: الركنان الشاميان. وقد عرفنا أن الكعبة على هذه الهيئة: فيها الحجر الأسود في الركن اليماني الأول، ثم الركن الشامي، ثم الركن الشامي الثاني، ثم الركن اليماني الثاني. فالركن اليماني الذي لا يوجد فيه الحجر الأسود هو الذي يشرع أن تستلمه فقط من غير تقبل، والركن اليماني الذي فيه الحجر الأسود هو الذي يشرع فيه الاستلام والتقبيل والسجود عليه بحسب المستطاع أو الإشارة إليه. ثم يدور حول الكعبة حتى ينتهي إلى الركن الرابع المسمى بالركن اليماني، ثم يمر منه إلى الحجر الأسود فيصل إلى الموضع الذي بدأ منه، فيكمل له حينئذ طوفة واحدة، ثم يكمل السبعة على هذه الصفة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أحكام الطواف وواجبات السعي

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - أحكام الطواف وواجبات السعي للحج أركان وواجبات ومن أهمها الطواف والسعي بين الصفا والمروة، وللطواف والسعي شروط وواجبات وآداب ينبغي للعبد معرفتها حتى يكون حجه صحيحاً كاملاً موافقاً للشرع.

صفة الطواف وأحكامه

صفة الطواف وأحكامه

ابتداء الطواف من الحجر الأسود

ابتداء الطواف من الحجر الأسود الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. وبعد: يجب ابتداء الطواف من الحجر الأسود؛ حتى يحسب لك شوط كامل لابد من البدء من الحجر الأسود, فلو بدأ بعده بالركن الشامي مثلاً، ثم أكمل الركن الشامي الآخر، ثم الركن اليماني، ثم وصل إلى الحجر الأسود كل هذا غير معتد به, فإذا وصل إلى الحجر الأسود بدأ يعد على نفسه هذا الشوط الأول. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف يخب ثلاثة أطواف من السبعة) , فهنا أول ما يطوف يستلم صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود أو الركن الأسود، ثم يخب, والخب: هو الإسراع في المشي، وهو الرمل, فيرمل ثلاثة أطواف كما ذكرنا في الحديث السابق, فإن ابتدأ من غيره لم يعتد بما فعله حتى يصل إلى الحجر الأسود, فإذا وصله نكان ذلك أول طوافه, ويستحب أن يستقبل الحجر الأسود في أول طوافه بوجهه، ويدنو منه، بشرط ألا يؤذي أحداً, ولو أنه وقف إليه وأعطاه وجهه فهذه هي السنة, أما لو أنه أعطاه جانبه الأيسر مثلاً ولم يقف ومر مباشرة فطوافه صحيح، ولكن الأكمل أن يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فيستقبل الحجر الأسود بوجهه ولا يؤذي أحداً عندما يزاحم على الحجر الأسود، ويمر عن يمينه حتى يجاوز الحجر الأسود, ثم بعد ذلك يجعل جانبه الأيسر إلى البيت ويطوف حول البيت, فيجعل يساره إلى البيت ويمينه إلى الخارج، ولو فعل هذا من أول أمره وترك الاستقبال لجاز.

جعل الطائف البيت عن يساره

جعل الطائف البيت عن يساره وينبغي في طوافه أن يجعل البيت عن يساره ويمينه إلى الخارج، ويدور حول الكعبة، وهنا الطائف بالبيت يكون كهيئة المأموم مع الإمام، كأن البيت إمامك فهو عن يسارك وأنت عن يمين البيت، وتطوف على هذه الهيئة, فلو خالف فجعل البيت عن يمينه ومر من الحجر الأسود إلى الركن اليماني لم يصح طوافه، وهذا صعب جداً أن يصنعه إنسان، لأنه يفعل عكس ما يفعله الناس، فالطائف يطوف مع الناس في حجه وعمرته وغير ذلك, لكن هذه مسألة مفترضة، فلو أن إنساناً فعل ذلك فلا يعتبر طوافه ولا يعتد به. وإذا لم يجعل البيت عن يمينه ولا عن يساره, كأن طاف بالبيت ووجهه إلى البيت مستقبله, فكذلك هذا مكروه، ولكن الطواف صحيح, فعلى الإنسان ألا يقلب الهيئة حتى ولو ظن في نفسه أنه ينظر إلى البيت فيملأ عينه من البيت فهذا خطأ, والصواب: أن يجعل البيت عن يساره، ويكون متجهاً إلى أمامه جاعلاً البيت عن يساره, فإذا وصل إلى الحجر الأسود استقبله, ولو جعل البيت عن يمينه ومشى إلى خلفه مخالفاً هذا الذي يفعله فقد خالف فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح منه هذا الطواف. إذاً: كأن الصورة هنا: أنه أعطى يمينه إلى البيت ومشى جهة ظهره، فلو فعل وطاف على هذه الصورة فالطواف باطل، وسبب البطلان أنه منابذ لما ورد الشرع به.

استحباب استلام الحجر باليد في أول الطواف وتقبيله

استحباب استلام الحجر باليد في أول الطواف وتقبيله ويستحب استلام الحجر بيده في أول الطواف, يقول الإمام النووي: قال الأزهري: الاستلام هو التحية, ولذلك يسمي أهل اليمن الركن الأسود: المحيا، أي: المكان الذي يحييه الناس, وقال ابن قتيبة: هو من السِلام, وكأنه يستلم بمعنى: يضع يده على الحجر، فكأنه مأخوذ إما من السلام الذي هو التحية للبيت, وإما من السِلام بمعنى: مس الحجر نفسه, فالحجارة هي السِلام وواحدتها سلمة, تقول: استلمت الحجر، أي: وضعت يدك عليه. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)، وفي رواية قال: (أما والله لقد علمت أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)، فهذا من عمر -كما ذكرنا قبل ذلك- يريد أن يعلم الناس شيئاً، والتعليم قد يكون بالشرح مباشرة أنه يقبل الحجر الأسود من أجل كذا وكذا, وقد يكون التعليم عن طريق المسألة، فيسأل المسألة ويجيب عنها عن طريق الاستفهام, أو عن طريق إظهار التعجب من الشيء، حتى يشوق السامع ليسمع الجواب, وليس في هذا اعتراض من عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه على هذا الذي يصنعه, ولكن إرادة إعلام الناس, فلذلك يقول: إن هذا الحجر لا ينفع ولا يضر, يقول الإمام النووي رحمه الله: إنما قال عمر رضي الله عنه ذلك ليسمع الناس هذا الكلام، ويشيع بينهم، وقد كان كثير منهم حديث عهد بعبادة الأحجار, فهذا هو السبب: أنهم كانوا قريبين في عهدهم من عبادة الأصنام، ولذلك أحب عمر رضي الله عنه أن يقول: نحن لا نعبد الحجر ولا نرجو من الحجر نفعاً ولا ضراً؛ حتى لا يظن الناس أن العبادة من أجل ذلك، أو يظنون أن هذا مشابه لما كانوا يصنعونه بالأصنام، يقول: إن هذه التحية أمرنا بها، وليست عبادة للحجر، ونحن نستيقن أن الحجر لا ينفع ولا يضر، وإنما نفعل ذلك اقتداء بالنبي صلوات الله وسلامه عليه, قال: (ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)، فخاف أن يغتر البعض فقال ما قال، والله أعلم.

استحباب السجود على الحجر

استحباب السجود على الحجر ويستحب السجود عليه, فإذا وصلت إلى الحجر الأسود فاستلمه بيديك، واجعل وجهك عليه كهيئة الساجد عليه؛ لما روى البيهقي بإسناده عن ابن عباس: (أنه قبله وسجد عليه)، فيقبل الحجر الأسود ويسجد عليه إن استطاع, وقال ابن عباس: (رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا ففعلته)، إذاً: هذا مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنك تسجد على الحجر الأسود وتقبله وتستلمه بيديك.

مراحل استلام الحجر عند الزحام

مراحل استلام الحجر عند الزحام وإذا قبل الحجر الأسود فلا يرفع صوته بالتقبيل بل يقبل بغير صوت، فلا يظهر للقبلة صوتاً, وإذا منعته الزحمة ونحوها من السجود عليه وأمكنه الاستلام استلم, فلا يزاحم الناس ولا يدفعهم، ولا يؤذي أحداً من الناس، ولكن إن قدر على أن يفعل ما ذكرنا فعل، فيستلم من بعيد، ويضع يده إن استطاع فيمرها على الحجر الأسود, وإذا استلم بيده فيقبلها، وهذا من السنة، أنك تقبل الحجر أو تقبل ما يلمس الحجر سواء بيدك أو بشيء في يدك, فإن لم يمكنه سواء كان قريباً أو بعيداً أشار بيده، فإذا كان بعيداً يرى الحجر الأسود ويقبله من بعيد مثلاً فهذه ليست سنة، ولا يستلم الحجر بمحجن أو عصا، وهذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان سهلاً، أما الآن فلا يفعل؛ لأن الزحام شديد فقد يمد العصا فيخذف بها عين إنسان، فلا يفعل ذلك، ولكن إذا استطاع بيده فعل، وإذا لم يستطع من شدة الزحام أشار بيده. إذاً: إما أن يقبل بفمه، فإن لم يقدر فيستلمه بيده، وإن كان المكان يسمح له بأن يمد شيئاً إلى الحجر ويقبله فعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا أشار من بعيد باليد إلى الحجر فهل يقبل يده أو لا؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: فالجمهور على أنه لا يقبل يده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار بمحجن في يده ثبتت عنه أنه كان يقبل المحجن عليه الصلاة والسلام، فذكروا أن المحجن لمس الحجر ولذلك قبله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يمس الحجر فلا يقبل, والإمام النووي اختار أنه إذا أشار بيده قبل يده، وإذا أشار من بعيد أيضاً قبل يده؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)، فقال: إن لم يتمكن من الاستلام أشار بيده أو بشيء في يده للاستلام, ثم قبل ما أشار به، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم). واحتج الجمهور بما جاء في الصحيحين عن ابن عباس قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن)، وفي صحيح مسلم عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن)، فالجمهور على أن الشيء الذي يلمس الحجر هو الذي يقبل، سواء كانت اليد أو المحجن والأمر في ذلك يسير، فإن لم يتمكن قلنا: إنه يشير بيده أو يشير بشيء في يده. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده) فالسنة أنه كلما أتيت إلى الركن تشير إليه إذا كنت بعيداً، وإذا كنت قريباً قبلته, ولـ مسلم عن سويد بن غفلة قال: (رأيت عمر رضي الله عنه قبل الحجر والتزمه وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفياً)، أي: مكرماً لك, وقال صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، فبحسب ما يتيسر له من أنه يقبل الحجر أو يشير إليه بيده فيقبل يده, أو يشير بشيء في يده ويقبل هذا الشيء إذا لمس الحجر, وعن نافع قال: (رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده، ثم قبل يده وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله).

ما يقوله الحاج والمعتمر عند استلام الحجر

ما يقوله الحاج والمعتمر عند استلام الحجر ويستحب أن يقول عند الاستلام: باسم الله والله أكبر, فإذا جاء عند الحجر واستلم الحجر يقول ذلك؛ لما روى الإمام أحمد عن نافع قال: (كان ابن عمر إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، فإذا انتهى إلى ذي طوى بات فيه حتى يصبح ثم يصلي الغداة - يعني: الصبح - ويغتسل، ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله، ثم يدخل مكة ضحى، فيأتي البيت ويستلم الحجر ويقول: باسم الله والله أكبر). والشاهد منه: أنه إذا استلم الحجر قال: باسم الله والله أكبر, قال (ثم يرمل ثلاثة أشواط يمشي ما بين الركنين، فإذا أتى على الحجر استلمه وكبر) فمن السنة: أنه يضع اليد إذا استلم ويقول: باسم الله والله أكبر. ولا يستحب للنساء تقبيل الحجر ولا استلامه إلا عند خلو المطاف, وعندما تصل المرأة في الزحام إلى الحجر سيكون في ذلك مشقة شديدة عليها، وحرج شديد جداً على الرجال الموجودين, عندما تتنازع مع الرجال وتحتك بهم فيزحمونها وتزحمهم, ولعلها تتكشف في ذلك, فلا يستحب لها أن تصنع ذلك إلا إذا كان هناك فراغ فيستحب لها أن تصنعه, أما مزاحمة الرجال فكم تقع فيه من ملامسة ومزاحمة وضغط مع الرجال وتكشف, فلا تصل إلى تطبيق شيء مستحب حتى تقع في حرام كبير, فلا يستحب للمرأة إلا إذا كان المكان فارغاً وتقدر أن تصل دون أن تؤذي أو تؤذى.

بيان أركان الكعبة وما يستحب استلامه منها

بيان أركان الكعبة وما يستحب استلامه منها عرفنا أن للكعبة أربعة أركان، وأن جزءاً من الكعبة هو الحجر، فهو من الكعبة وبني على قواعد إبراهيم, والكعبة لها أربعة أركان كما ذكرنا: الركن اليماني الذي فيه الحجر الأسود, والركن الذي بعده هو الركن الشامي، ونحن نقول: ركنان شاميان لأنهما في اتجاه الشام, وركنان يمانيان لأنهما في ناحية اليمن, والركنان الشاميان أحدهما: يسمى بالركن العراقي، الذي هو من ناحية العراق, والآخر: الركن الشامي وهو إلى ناحية فلسطين وناحية الشام, والركن الثالث هو الركن اليماني, والرابع هو الحجر الأسود, إذاً: هناك ركنان في ناحية الشام، وركنان في ناحية اليمن. والركن الأسود له فضيلتان: أنه مبني على قواعد إبراهيم، وفيه الحجر الأسود, فيشرع فيه التقبيل والمسح باليدين أو المس والسجود عليه. والركن اليماني الآخر مبني على قواعد إبراهيم, فالمستحب فيه أن يمسح باليد، وفيه فضل وثواب، فإن الله عز وجل يحط الذنوب حطاً بهذا المسح. والركنان الشاميان قصرت النفقة بقريش أن يبنوهما على قواعد إبراهيم, فدخلوا إلى الكعبة قليلاً، فتوجد ستة أو سبعة أذرع من البيت هي خارج البيت, فلذلك لا يستحب في الركنين الشاميين لا المسح ولا التقبيل. وجاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (ما تركت استلام هذين الركنين: اليماني والحجر الأسود منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما في شدة ولا رخاء)، أي: أنه كان يحاول دائماً أن يستلم الحجر الأسود والركن اليماني في الشدة والرخاء, وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني) , وجاء عن ابن الزبير أنه كان يستلم الأربعة الأركان, ولعله لما هدم الكعبة في عهده وبناها مرة أخرى على قواعد إبراهيم فقال: ليس شيء من البيت مهجور, فالركنان اليمانيان الآن على قواعد إبراهيم، فكان يستلمهما, ولكن الركنين الشاميين هما على ما كانا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فليسا على قواعد إبراهيم, وسنة النبي صلى الله عليه وسلم استلام الركنين اليمانيين دون الركنين الشاميين.

من فضائل الحجر الأسود

من فضائل الحجر الأسود والحجر الأسود له فضيلة، وكذلك الركن اليماني ومقام إبراهيم, فهذه الأماكن قد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضيلتها في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضاً من اللبن، فسودته خطايا بني آدم)، هذا الحديث الصحيح فيه بيان فضيلة الحجر الأسود، فذكر أنه من الجنة, وكان أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بني آدم من شركهم وفعلهم المنكر في هذا المكان, من إقامة الأصنام ونحوها. وفي حديث آخر رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما، ولولا ذلك لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب)، الركن: هو الحجر الأسود, والمقام: هو مقام إبراهيم الذي قام عليه وهو يبني الكعبة, فجاء في هذا الحديث الصحيح أن (الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة, لولا أن الله طمس نورهما لأضاءتا -أي: هاتان الياقوتتان- لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب, ولولا ما مسهما من خطايا بني آدم لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب, وما مسهما من ذي عاهة ولا سقيم إلا شفي)، فلو أن الله تركهما على حالتهما لم يطمس نورهما لكان أي إنسان يمسهما شفاه الله عز وجل, أي إنسان سقيم أو ذي عاهة, قال: (وما مسهما من ذي عاهة ولا سقيم إلا شفي) فهنا طمس الله عز وجل نورهما بسبب خطايا بني آدم, وفي رواية: (لولا ما مسهما من أنجاس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا شفي, وما على الأرض شيء من الجنة غيره) أي: غير ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث. وروى النسائي عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن مسحهما يحطان الخطيئة)، وسمعته يقول: (من طاف سبعاً فهو كعتق رقبة)، فذكر هنا مس الاثنين: الحجر الأسود والركن اليماني فقال: (إن مسحهما يحطان الخطيئة) أي: بهذا المسح كل من الاثنين يحطان الخطيئة عمن مسهما؛ ولذلك فالسنة أن تفعل ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم وما أرشد إليه, فالحجر الأسود تمسه بيدك وتقبله, والركن اليماني تمسه بيدك, وهذا المسح باليد يحط الخطيئات كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية لـ أحمد: (إن استلام الركنين يحطان الذنوب) والمنطوق منه: استلام الركنين, والمفهوم منه: أن غير الركنين ليس فيه هذه الفضيلة, فالإنسان الذي يتعب نفسه فيمسح البيت كله عندما يمر فهذا خطأ، ولم يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فعل ذلك مع الركنين, وجاءت الفضيلة في مسح الركنين دون غيرهما. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر: (والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما، وله لسان ينطق به، يشهد على من استلمه بالحق)، فهنا يكون النفع أن الله سبحانه يجعل له ما ينطق به, فيقول الحجر الأسود: فلان قبلني, وفلان مسني, وفلان وحد الله عز وجل عندي, قال صلى الله عليه وسلم: (والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بالحق) وهنا قيد: (من استلمه بالحق)، وكأن هناك من يستلمه بحق ومن يستلمه بغير حق, فالذي يستلمه بالحق ذهب موحداً لربه سبحانه وتعالى، ولم يظلم أحداً, ولم يبغ منكراً في هذا المكان, استلمه لا لسمعة ولا رياء, ولا يقال: فلان استلم وفلان حج، ولم يزاحم ولم يؤذ الخلق في هذا المكان، فاستلم الحجر بحق فإنه يشهد له يوم القيامة, أما الذي يؤذي الخلق ويضرب الناس حتى يستلمه فهذا استلمه بغير حق, فقد آذى الخلق في صنيعه، فالحجر يشهد على من استلمه بحق فقط.

استحباب الدعاء بين الركن اليماني والحجر الأسود

استحباب الدعاء بين الركن اليماني والحجر الأسود والدعاء بين الركن اليماني والركن الذي فيه الحجر الأسود مستحب, وبأي دعاء دعا جاز وحصل الاستحباب, لكن أفضل ما يدعى به في هذا المكان ما جاء في القرآن: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، وكذا قال النبي صلوات الله وسلامه عليه في حديث عبد الله بن السائب عند أبي داود قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند الركنين: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا كان من أكثر دعائه صلوات الله وسلامه عليه, يقول أنس: (كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))، فهذا كان من أكثر دعاء النبي صلوات الله وسلامه عليه.

استحباب الدنو من البيت عند الطواف

استحباب الدنو من البيت عند الطواف والدنو من البيت مستحب, فإذا خيرت بين أن تطوف بجوار البيت وبين أن تطوف في المسجد أو في الدور الثاني فالأفضل أن تطوف في صحن المسجد قريباً من البيت, مع أنك لو نظرت بالعقل فستقول: التعب فوق أكثر؛ لأن المسافة قصيرة حول البيت, لكن لو طفت في المسجد أو في الدور الثالث فإن التعب فيها أكثر, بل يمكن أن يكون الشوط الواحد بسبعة, ولكن مع ذلك إذا كنت بجوار بيت الله سبحانه وتعالى فهو أفضل, وكلما دنوت من البيت كان أفضل حتى لو كان المشي أقل في ذلك, فعلى ذلك نقول: لو دنوت من البيت فهذا مستحب بشرط ألا تؤذي أحداً، ولا ينظر إلى كثرة الخطى في البعد؛ لأن المقصود هو إكرام البيت بكثرة الاقتراب منه، والعلة في ذلك أنك تكرم بيت الله بإعماره، فكلما كنت قريباً كان هذا أفضل ممن يكون بعيداً عنه ويترك الساحة فارغة. أما المرأة فيستحب لها ألا تدنو في حال طواف الرجال، بل تكون في حاشية المطاف, أي: خلف الرجال متأخرة ولا تكون قريبة حتى لا تؤذى ولا تختلط بالرجال فتتأذى. ويستحب لها أن تطوف في الليل إذا كان الليل أهون في الطواف وأقل في العدد؛ فإنه أصون لها ولغيرها من الملامسة والفتنة, فإن كان المطاف خالياً من الرجال فيستحب لها أن تدنو. والمحافظة على الرمل مع البعد من البيت أفضل من القرب بلا رمل, وهنا التخيير بين أن تكون قريباً من البيت أو بعيداً من البيت, فنقول: القرب من البيت أفضل, ولكن أن تبتعد قليلاً وتأتي بالسنن أفضل من ترك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم مع القرب, فإذا كنت بعيداً قليلاً وتقدر على الرمل فهو أفضل، والرمل معناه: الإسراع في المشي كهيئة الذي يجري، فهذا يسمى بالخبب أيضاً. وشرط الطواف وقوعه في المسجد الحرام, فلو أن إنساناً طاف خارج المسجد الحرام فلا يجزئ, والمسجد الحرام كلما وسع كان ما بداخله يعد من المسجد الحرام, وقد وسع المسجد حتى صار أضعاف ما كان عليه قبل، لكن لو كان في نفس المكان الآن وهو خارج المسجد الحرام من غير توسيع ولا شيء فهذا يسمى خارجاً منه, فالطواف لابد أن يكون داخل المسجد. ولا بأس بالحائل في المسجد الحرام بين الطائف والبيت, فإن الذي يطوف في الدور الثاني أو يطوف وراء المسجد يمكن أثناء الطواف أن يكون هناك حوائل تمنعه من النظر إلى البيت ولا يرى البيت، فالطواف صحيح. ويجوز الطواف في أخريات المسجد وعلى سطوح المسجد كما ذكرنا, فإن جعل سطح المسجد أعلى من سطح الكعبة وطاف على سطح المسجد صح وإن ارتفع عن محاذاة الكعبة, بمعنى: لو فرضنا أنه يوجد دوران، ثم أصبحت أربعة أدوار، ثم وصلت إلى عشرة أدوار مثلاً، وهو يطوف في الدور المرتفع, فطالما أنه داخل المسجد فالطواف صحيح حتى لو كان أعلى من سطح الكعبة.

سنية الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى وكيفيته

سنية الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى وكيفيته والرمل في أثناء الطواف سنة من السنن كما ذكرنا، وهو سرعة المشي مع تقارب الخطى, فليس الرمل جرياً ولكنه مشي فيه إسراع وحركة بالمنكبين واليدين كهيئة الذي يجري، وقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثاً ومشى أربعاً) (خب ثلاثاً) أي: أسرع في المشي كهيئة الجري, فيستحب ذلك في الأشواط الثلاثة، ولا يعدو عدواً، أي: لا تكون هيئته كأنه ينط أو يجري, فليس الخب جرياً وإنما هو مشي سريع مع تقارب الخطا, وهو فوق سجية المشي ودون العدو. والرمل يكون في الأشواط الثلاثة الأولى، وهي السنة، ويسن أن يمشي في الأربعة الأشواط الأخيرة، فلو فاته الرمل فقد ذكرنا في الحديث السابق أنه لا يشرع قضاؤه؛ لأن الثلاثة الأشواط الأولى هي التي فيها الرمل, والأربعة التي بعد ذلك السنة فيها المشي, فلو أنه نسي الرمل في الأولى فلا يقضيه في الثانية؛ لأنه ضيع السنة في الأشواط الأولى فلم يفعلها، وسيضيع السنة في الأشواط الأخيرة فلا يفعلها وهي المشي, فكل شيء سنته في حينه. ويستوعب البيت بالرمل فيرمل من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، ولا يقف إلا في حال الاستلام والتقبيل والسجود على الحجر, وإن كان الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه أنهم رملوا ما بين الركنين فقط, فعلى ذلك يرمل حتى يصل إلى الركن اليماني فإن أكمل رملاً جاز، وإن وقف كان مع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم, وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم ما منعه أن يأمرهم بالرمل حول البيت كله إلا الإبقاء عليهم، فقد كانوا في هذا المكان مختفين عن الكفار, والكفار لم يكونوا يرون المسلمين، فأمرهم بالمشي إبقاءً عليهم, ولذلك استحب من استحب من العلماء أن يرمل في الثلاثة الأشواط بجميع البيت من الحجر إلى الحجر، وقالوا: لأن الصحابة رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا لأنهم كانوا يختبئون من الكفار, فطالما أنه لا يوجد كفار ولا شيء من ذلك فيرجع إلى العادة، فإن أول ثلاثة أشواط يكون فيها الرمل، والأربعة بعد ذلك يكون فيها المشي حول البيت كله, فلو أنه فعل ذلك كله فرمل، أو وصل إلى الركن اليماني ثم مشى ودعا ربه جاز ذلك. عن جابر رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف) وجابر هنا يروي هذا الحديث في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا معروف أنه كان بعد العمرة التي كان فيها الرمل على هذه الهيئة, فـ جابر لم يقل: إنه ما بين الركنين مشى عليه الصلاة والسلام, فعلى ذلك إذا مشى بين الركنين ودعا جاز، ولكن الأولى أن يستوعب الثلاثة الأشواط الأولى بالخب أو بالرمل؛ لحديث جابر، وقد جاء عن ابن عمر مثل ذلك، وهذا كان في حجة الوداع. فيسن الرمل في طواف القدوم مطلقاً، والاضطباع ملازم للرمل, أي: أن الطواف الذي فيه الرمل سيكون فيه اضطباع، وطواف ليس فيه رمل ليس فيه اضطباع. وطواف القدوم هو أول طواف تطوفه بالبيت، فإذا كنت حاجاً فتطوف طواف القدوم, وإذا كنت قارناً طفت طواف القدوم, وإذا كنت معتمراً فتطوف طواف العمرة, فعلى ذلك الطواف الذي تقدم فيه وتطوف بالبيت سيكون فيه رمل واضطباع. ولو كان في حاشية المطاف نساء ولم يأمن ملامستهن لو تباعد فالقرب بلا رمل أولى من البعد مع الرمل, أي: لو كان النساء يطفن متأخرات في الخلف في حاشية المطاف, وهو أراد أن يرمل وتأخر من أجل أن يأتي بهذه السنة، فإذا كان سيخالط النساء وسيكون هناك شيء من الأذى أو الاختلاط فعلى ذلك يقرب من البيت حتى ولو لم يكن يقدر على الرمل. ومتى تعذر الرمل استحب أن يتحرك في مشيه ويري من نفسه أنه لو أمكنه الرمل لرمل, والنبي صلى الله عليه وسلم إذا أمرنا بشيء فنأتي منه ما استطعنا, فالذي يطوف بالبيت طواف القدوم قلنا: يشرع له الرمل, فإذا كان في شدة الزحام كموسم الحج مثلاً أو في العمرة في رمضان ونحو ذلك، فلعلك لا تقدر على الرمل فتكون ماشياً مثل هيئة المحمول من شدة الزحام الذي حولك, فهنا يستحب أن يري من نفسه ذلك، أي: أنه لو لم يكن هناك زحام لكان رمل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. ولو طاف راكباً أو محمولاً فيستحب أن يحرك الدابة فيسرع كإسراع الرامل, والمريض الذي يكون يطوف كرسي أو محمولاً في محمل فيستحب لمن يمر به أن يسرع في الوقت الذي فيه الرمل ويرمل به.

استحباب الدعاء في الطواف

استحباب الدعاء في الطواف ويستحب أن يدعو في رمله بما أحب من أمر الدين والدنيا, وأثناء الطواف بالبيت يدعو بما شاء، فالمستحب هو الدعاء, فلو أنه قال هذا الدعاء الذي جاء عن بعض الصحابة: (اللهم اجعله نسكاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً) لو قال ذلك فحسن، ولم يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مرفوع. ويستحب أن يدعو أيضاً في الأشواط الأربعة الأخيرة التي يمشيها, وفي كل طواف بين الركنين يدعو بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] وفي باقي الطواف يدعو بما شاء من غير أن يؤذي أحداً برفع الصوت بالدعاء. وأفضل الدعاء أن يقول: اللهم اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم، فكأنه أفضل الدعاء لأنه دعاء بالمغفرة والرحمة ودعاء بالعفو, والإنسان يسأل ربه سبحانه العفو والعافية كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما سأل عبد ربه خيراً له من سؤاله العفو والعافية)، فيدعو بالمغفرة والرحمة والعفو، وهذا أيضاً ليس ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما ثبت عن ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما أنه كان يدعو بذلك: (اللهم اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم) كذلك دعاء القرآن: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].

استحباب قراءة القرآن في الطواف

استحباب قراءة القرآن في الطواف ويستحب قراءة القرآن في الطواف, فهو من أفضل الذكر، والطواف بالبيت صلاة، فليكن فيه شيء من قراءة القرآن إذا أردت أو الدعاء أو الذكر, وما استطعت من ذكر الله عز وجل صنعت. ولو ترك الاضطباع والرمل والاستلام والتقبيل والدعاء في الطواف فما الحكم؟ كل هذه سنن لو تركها عمداً أو ناسياً فلاشيء عليه، ولكن فاتته الفضيلة.

جواز الكلام في الطواف

جواز الكلام في الطواف ويجوز الكلام في الطواف, كما ذكرنا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله سبحانه أباح فيه الكلام)، فيجوز فيه الكلام, وليس الكلام في أمور الدنيا، ولكن يتكلم بما يحتاج إليه من أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر، أما غير ذلك فلا، فليس هذا وقت كلام مع الناس بما لا ينفع، فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان ربط يده إلى إنسان بخيط أو بشيء غير ذلك، فقطعه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: قده بيده)، أحياناً الإنسان يبالغ في الشيء, فهذا رجل معه ابنه، وهو رابط يده في يد ابنه، وكأنه يريد أن يري أنه متذلل بين يدي الله عز وجل كهيئة الدابة المربوطة وواحد يجره، فلعله يريد أن يظهر التواضع، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمر ابنه أن يقوده بيده ولا يقوده مثل الدابة بحبل. ولعله لم يقصد ذلك ولكن يقصد أنه لا يبعد عنه ابنه فيضيع منه, فهنا أيضاً الحبل الذي يكون ممدوداً بينه وبين ابنه سيمنع الناس من المرور، فإذا أردت ذلك فأمسك الإنسان بيده.

ما يكره ويحرم فعله في الطواف

ما يكره ويحرم فعله في الطواف وينبغي أن يكون في طوافه خاشعاً متخشعاً حاضر القلب، ملازم الأدب بظاهره وباطنه في هيئته وحركته ونظره, فإن الطواف صلاة فيتأدب بآدابها، ويستشعر في قلبه عظمة من يطوف ببيته. ويكره له الأكل والشرب أثناء الطواف، ولو فعل ذلك فطوافه صحيح, وكراهة الشرب أخف من كراهة الأكل في طوافه, ولا يبطل الطواف بواحد منهما. ويكره للطائف أن يشبك أصابعه أو يفرقعها, فالطائف مشغول بالدعاء وليس مشغولاً بالتسلية بحيث يفرقع أصابعه أو يتمطى أو يشبك بين أصابعه في الطواف. ويكره أن يطوف وهو يدافع البول أو الغائط, كما يكره ذلك في الصلاة، والعلة في ذلك: أن المصلي مشغول بذكر الله عز وجل، فإذا انشغل ببطنه ببول أو غائط فلن ينتبه لما يدعو به أو لما يقوله, فهو يريد أن ينتهي من الصلاة من أجل أن يخرج، وكذلك في الطواف. والطواف عبادة وتوحيد لله سبحانه وتعالى، وإظهار للتضرع والخشوع بين يديه سبحانه, وهذا كله ينافيه أن الإنسان يدافعه البول أو الغائط، فيريد أن ينتهي بسرعة من غير دعاء ولا خشوع حتى يذهب إلى قضاء حاجته، فنقول: اذهب واقض حاجتك، ثم بعد ذلك طف بالبيت. ويلزمه أن يصون نظره عمن لا يحل له النظر إليه, وليس هذا للطائف فقط، بل الطائف وغير الطائف, فالمؤمن يصون نظره عن أن ينظر إلى الحرام، أو أن ينظر إلى النساء والمردان، فيحرم عليه أن ينظر نظرة توقعه في النار, فإذا كان هذا في غير الحج والعمرة فيكون في بيت الله الحرام من باب أولى أن يجتنب ما حرم الله سبحانه وتعالى. ويصون نظره وقلبه عن احتقار من يراهم من الضعفاء وغيرهم, فلعل الإنسان في أثناء الطواف وهو في حرم الله يرى إنساناً ضعيفاًً عاجزاً فينظر إليه بنظرة الاحتقار, والذي جعله كذلك هو الله سبحانه القادر على أن يجعلنا مثله, فالإنسان لا يحتقر إنساناً ضعيفاً أو إنساناً عاجزاً، سواء أوقعه هذا في أشياء من الخطأ أو أنه أوقعه في شيء مما يبغض الناس, فعلى ذلك ارحم خلق الله سبحانه وتعالى، ومر بالمعروف وانه عن المنكر من غير أن تزدري إنساناً, والإنسان الذي ترى فيه شيئاً من الضعف في عمله وجسده، أو جهل شيئاً من المناسك علمه برفق، ولا داعي لأن تستكبر عليه، وأن تنظر إليه أنه جاهل وأحمق وكذا, ولكن علم الإنسان الجاهل في مثل هذا الموسم.

لزوم الموالاة بين الأشواط في الطواف إلا لحاجة

لزوم الموالاة بين الأشواط في الطواف إلا لحاجة وينبغي للطائف أن يوالي بين طوافه؛ والموالاة في العبادات: أن يأتي بالعمل ويعقبه العمل الآخر، وهو مثل الموالاة في الوضوء، فتغسل العضو ثم يليه غسل العضو الثاني, ولا تفصل بينهما بوقت طويل، وكذلك الموالاة بين الطواف فنقول: ينبغي ذلك ولا يجب؛ لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم, لكن لو فرضنا أن الموالاة مع تعب الإنسان لم يقدر عليها, فطاف ثلاثة أشواط ثم تعب، فقعد يستريح، ثم أكمل، فالطواف صحيح, فعلى ذلك لو كان التفريق كثيراً بغير عذر فلا يبطل طوافه، بل يبني على ما مضى وإن طال الزمان بينهما, ويكون الطواف صحيحاً. ولو أقيمت الصلاة المكتوبة وهو في أثناء الطواف استحب له قطعه ليصليها ثم يبني على الأول, فهنا إذا أقيمت الصلاة المكتوبة فلا يقل: سأكمل الطواف، وإلى أن يقرأ الإمام الفاتحة أكون قد انتهيت، بل المستحب أن تقف في هذه الحالة عندما تقام الصلاة وتصلي مع الناس، ثم بعد ذلك أكمل, لكن لا يجوز له أن يسمع الإمام يصلي بالناس ويقول: أكمل الطواف حتى ولو فاتتني الصلاة, ولكن يجب عليه أن يقطع طوافه ويصلي، ثم يكمل طوافه بعد الصلاة؛ لأنه يجب عليه أن يصلي مع الجماعة.

حكم من أحدث في الطواف

حكم من أحدث في الطواف الطواف بالبيت صلاة، فلابد من أن يكون على وضوء وهو يطوف بالبيت, ولو أنه أحدث في طوافه فخرج وتوضأ ورجع فهنا يستحب له أن يعيد فيبدأ من جديد، والراجح من حيث الدليل أنه يجوز أن يبني, فلو أنه طاف مثلاً ثلاثة أطواف بالبيت، ثم أحدث فخرج وتوضأ فيكون بقي له أربعة، فيأتي ليكمل الأربعة فقط، وخاصة الآن في الزحام الشديد في مواسم الحج والعمرة، فيصعب على الطائف أن يعيد، فلو ألزمنا كل إنسان أن يعيد الطواف من جديد لعله يصعب عليه، وخاصة من ينفلت منه الريح فلا يقدر على إمساك نفسه، فبناءً على ذلك إذا رجع بنى على ما مضى, ولو أنه أعاد من جديد لكان هذا أحسن وخروجاً من الخلاف, فمتى قطع الطواف في أثنائه بحدث أو بغيره بنى على ما مضى، فيبني من الموضع الذي وصل إليه, وهو يعرف أين وصل، فلو فرضنا أنه وصل عند الركن الشامي مثلاً وبعد ذلك أحدث وخرج فتوضأ فليكمل من هذا المكان, لكن الأفضل أن يبدأ الشوط الذي قطعه من جديد.

استحباب صلاة ركعتي الطواف خلف المقام

استحباب صلاة ركعتي الطواف خلف المقام وإذا انتهى من الطواف بالبيت فيتوجه إلى مقام إبراهيم ليصلي ركعتين, وأجمع المسلمون على أنه ينبغي لمن طاف أن يصلي بعده ركعتي الطواف, وركعات الطواف سنة وليستا فريضة، ودليلها ما جاء في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتينا البيت، فاستلم الركن، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم نفر إلى مقام إبراهيم فقرأ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] فجعل المقام بينه وبين البيت) , وهنا سنة أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من الطواف بالبيت توجه إلى مقام إبراهيم، ولما توجه قرأ هذه الآية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ثم صلى خلفه صلى الله عليه وسلم ركعتينن، يقول في الحديث: (وكان يقرأ في الركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، ثم رجع إلى الركن فاستلمه)، فالسنة أنك تقرأ بهاتين السورتين, مثل صلاة سنة الفجر، فتقرأ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] , وجاء في بعض الروايات أنه بدأ بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وفي بعضها أنه بدأ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وكله جائز، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم, وإن بدأت في الركعة الأولى بـ (قل هو الله أحد) و (قل يا أيها الكافرون) في الركعة الثانية فلا مانع من ذلك. والمستحب أن يصليهما خلف مقام إبراهيم, وإذا كان قريباً فهذا هو الأفضل، لكن لو فرضنا أن قربك مع ازدحام الطواف سيؤذي الطائفين ويعطل الطواف، فترجع وتتأخر قليلاً بحيث يكون أمامك مقام إبراهيم فتصلي وتتوجه إليه, لكن لو فرضنا أنك كنت في الداخل وبعدما انتهيت من الطواف يصعب عليك أن ترجع إلى مقام إبراهيم، فيجوز لك أن تصلي ركعتين داخل الحجر, وفي أي مكان من المسجد صليتهما جاز لك ذلك, فإن صلاهما خارج الحرم في وطنه أو غيره من أقطار الأرض صحت وأجزأته, فيكون قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] ليس على الوجوب، فإذا فاته أن يصلي خلف مقام إبراهيم لشدة الزحام وخرج حتى صار خارج الحرم أو خارج المسجد الحرام فصلاهما جاز له, وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه صلاهما بذي طوى كما سيأتي. ولو أنه نسيهما فلم يصلهما وتذكرهما بعدما رجع إلى فندقه أو إلى بلده فليصليهما قضاءً, وليستا واجبتين. ويصح السعي قبل صلاة ركعتي الطواف, فلو أنه طاف بالبيت وخرج إلى المسعى فسعا، ثم تذكر أنه لم يصل الركعتين فليصليهما وهو في ذلك المكان. وإذا أراد أن يطوف في الحال طوافين أو أكثر استحب له أن يصلي عقب كل طواف ركعتين, وقد قلنا: من السنة للذي يذهب إلى بيت الله الحرام أن يكثر من الطواف, فإذا انتهيت من طواف العمرة أو طواف الحج وأنت موجود هناك في مكة فالسنة أنك كلما توجهت إلى البيت تطوف بالبيت كلما قدرت على ذلك. ولو أن إنساناً طاف بالبيت وأحب أن يطوف طوافاً أو طوافين أو ثلاثة أطوفة فيجوز له ذلك, ولكن يستحب هنا إذا طفت سبعة أطواف بالبيت أن تصلي ركعتين, وإذا طفت ثانيةً فصل ركعتين أخرى, ولو فرضنا أنه جمع هذا كله فطاف ثلاث مرات في كل مرة سبع أشواط، ثم صلى ركعتين عن الجميع, أو صلى لكل طواف ركعتين فإنه يصح ذلك, ولو طاف أسابيع متصلة ثم ركع ركعتين جاز له, والأسابيع: جمع أسبوع، وكل أسبوع منها سبعة أطواف بالبيت, يقال: طاف أسبوعياً بالبيت، ومعناه: طاف سبعة أشواط، فيصلي بعدها ركعتين, وإذا لم يفعل وطاف سبعة أشواط أخرى ثم سبعة أشواط ثالثة فهنا طاف ثلاثة أسابيع فهذا هو معنى الأسابيع. وتمتاز هذه الصلاة عن غيرها بأنه يدخلها النيابة, وذلك عندما يأتي إنسان يحج عن إنسان آخر فيصلي ركعتي الطواف، فهذه سنة يصليها عن المحجوج عنه, فهنا دخلت النيابة في هذه الحالة, أو يعتمر عن إنسان ميت فهنا هذه الصلاة تكون لهذا الإنسان المتوفى, فإن الأجير في الحج يصليهما عنه، وليس في الشرع صلاة تدخلها النيابة غير هذه, ويلتحق بالأجير ولي الصبي، فلو أنه كان معه صبي صغير دون التمييز فطاف بالصبي سبعة أطواف، فلن يقول للصبي: صل ركعتين عن نفسك؛ لأن الصبي يؤمر بالصلاة إذا كان له سبع سنوات, وإذا كان دون ذلك فإن الولي يصلي الركعتين, فإن كان الصبي مميزاً فهذا المحرم يطوف به ويصلي ركعتين، وإلا صلى عنه الولي إذا كان دون ذلك. ويستحب أن يدعو عقب صلاته هذه خلف المقام بما أحب من أمر الآخرة والدنيا, فبعدما يصلي ركعتين خلف المقام يستحب أن يدعو بالدعاء الذي كان يدعو به ابن عمر وسيأتي.

استحباب استلام الحجر عند التوجه إلى المسعى

استحباب استلام الحجر عند التوجه إلى المسعى وإذا فرغ من الصلاة هنا فيتوجه إلى المسعى ليسعى بين الصفا والمروة, فيستحب قبل أن يخرج أن يستلم الحجر الأسود مرة ثانية, وليس بالسهولة استلام الحجر الأسود الآن كما كان في الماضي, ففي الماضي كان يسهل عليه بعدما يصلي ركعتين أن يرجع إلى الحجر الأسود ويستلمه, والآن يصعب عليه أن يرجع مرة ثانية فيستلم الحجر الأسود, فإذا استطاع ذلك فعل، وإذا لم يستطع فلا شيء عليه في ذلك. ولو طاف المحرم وهو لابس المخيط ونحوه صح طوافه، وتحريم لبس المخيط لا يختص بالطواف, فعلى ذلك لو أنه نسي أو تعمد فطاف بالبيت وهو محرم ولابس الثياب أو المخيط فالطواف صحيح، ولكن عليه دم لتقصيره في الواجب.

حكم الطواف والصلاة في الأوقات المنهي عنها

حكم الطواف والصلاة في الأوقات المنهي عنها أجمع العلماء على أن الطواف في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها جائز, فيجوز لك أن تطوف بالبيت في أي وقت وفي أي ساعة من ليل أو نهار، في أوقات التحريم أو غيرها، فهذا كله جائز, إنما الخلاف في ركعتي الطواف, فهل من الممكن أن تصلى في أوقات التحريم أو ليس من الممكن ذلك؟ نقول: يجوز أن يصلي ركعتي الطواف في كل الأوقات، ولكن ليجتنب الأوقات اليسيرة التي هي أوقات التحريم. وأوقات النهي المحرمة ثلاثة: وقت طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، وهو حوالي ربع ساعة من وقت طلوع الشمس إلى أن ترتفع تقريباً, وكذلك وقت غروب الشمس حتى تغيب، فإنها تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان، فيجتنب في هذين الوقتين من ربع ساعة إلى عشر دقائق فلا يصلي فيها ركعتي الطواف, فيؤخرها قليلاً ثم يصلي بعد ذلك, وقبل غروب الشمس إذا طاف وبقي عشر دقائق على غروب الشمس فلا يصلي، وإنما ينتظر, فإذا غربت الشمس صلى ركعتين بعد ذلك. وكذلك قبيل صلاة الظهر بقدر يسير جداً لا يكفي لركعتين، وهو وقت استقلال الظل بالرمح قبل صلاة الظهر مباشرة, فلا يصلي في هذا الوقت. فأوقات المنع يسيرة جداً وسهلة، وعليه أن ينتظر إلى أن تعدي الشمس ويخرج من الخلاف ثم يصلي, وغير ذلك في باقي الأوقات من ليل أو نهار فله أن يصلي في ذلك, وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع)، فمن وقت طلوع الشمس إلى أن ترتفع في نظر الناظر، حيث إذا نظر إلى الأفق يجد الشمس طالعة من تحت الأفق, وبدأ حاجب الشمس المنحنى العلوي للشمس يطلع إلى أن يصبح قرص الشمس فوق الأرض، هذا الوقت كله أنت ممنوع من الصلاة في, وهو حوالي ربع ساعة فهو مقدار يسير, فتكون الشمس ليست ملامسة للأرض، فتجوز الصلاة بعد ذلك, قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع, وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس, وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب)، فالشمس عندما تبدأ تشرق كانت تحت الأفق, ويبدأ حاجب الشمس المنحنى العلوي لقرص الشمس يظهر, والعكس في ذلك: الشمس في وقت الغروب تكون فوق الأرض، ويبدأ المنحنى السفلي لها ينزل إلى تحت, وهنا في وقت الطلوع تطلع الشمس شيئاً فشيئاً إلى أن تكون فوق الأرض, وفي الغروب تنزل الشمس شيئاً فشيئاً إلى أن تكون تحت خط الأفق في الأرض, ففي هذين الوقتين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة؛ لأنها تطلع بين قرني شيطان، وتغرب بين قرني شيطان, فهذه أوقات يسيرة, وفي الظهر ذكر هنا في الحديث: (حين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس)، فالشمس في وقت الظهر تكون فوق الرءوس، وبعد ذلك ستميل إلى ناحية الغرب, وعندما تكون الشمس فوق رأسك سيكون ظلك كله على جسدك، وحين يقوم قائم الظهيرة تكون الشمس فوقك مستقيمة حتى تميل, فإذا مالت الشمس شيئاً إلى ناحية الغرب يبدأ ظلك يذهب إلى ناحية الشرق، ففي هذا الوقت لك أن تصلي، وهذا وقت يسير حوالي دقيقة أو نحو ذلك, فهذا هو الوقت الممنوع من الصلاة فيه وهو قبل صلاة الظهر. وجاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز, وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب, ولا تحينوا بصلاتكم) قوله: (لا تحينوا) فيه إدغام، والأصل: لا تتحينوا, فلا تختار هذا الوقت لتصلي فيه, قال: (ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان). وكذلك جاء في صحيح مسلم عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! هل من ساعة يبتغى ذكرها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم, إن أقرب ما يكون الرب عز وجل من العبد جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله عز وجل في تلك الساعة فكن؛ فإن الصلاة محضورة مشهودة إلى طلوع الشمس، فإنها تطلع بين قرني الشيطان, وهي ساعة صلاة الكفار، فدع الصلاة حتى ترتفع قيد رمح, ويذهب شعاعها, ثم الصلاة محضورة مشهودة حتى تعتدل الشمس اعتدال الرمح بنصف النهار؛ فإنها ساعة تفتح فيها أبواب جهنم وتسجر)، فالعلة في المنع من الصلاة قبيل الظهر مباشرة أنها تسجر فيها جهنم والعياذ بالله، أي: تسعر فيها نار جهنم, قال: (فدع الصلاة حتى يفيء الفيء) أي: حتى يرجع الظل إلى المكان الآخر، قال: (ثم الصلاة محضورة مشهودة حتى تغيب الشمس؛ فإنها تغيب بين قرني شيطان، وهي صلاة الكفار)، هذا الحديث رواه الإمام مسلم والنسائي، وهذا النص الذي رواه النسائي. فبعدما تطوف بالبيت تصلي في أي وقت, فقد جاء في سنن الترمذي عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار)، هذا الحديث فيه العموم في الناس، والحديث الآخر فيه العموم في الزمان, فكأنه تعارض عمومان: الأول: أنه نهى عن الصلاة في ثلاثة أوقات، فهو عموم في الزمان, ولكل الناس المصلين في هذه الأوقات الثلاثة, فممنوع أن تصلي فيها صلاة النافلة أو أن تؤخر الفريضة إليها, فهذا الحديث الذي وجهه لبني عبد مناف فيه العموم في هذا المكان لجميع الناس، فكل من أتى إلى هذا البيت من الناس يريد الطواف والصلاة في أي وقت شاء فله ذلك، وعموم الأوقات أيضاً في أي وقت في أي ساعة من ليل أو نهار, والحديث الأول فيه: أنه ثلاث ساعات مخصوصات لا تصلوا فيها, فهل يحمل أحد العمومين على الآخر فيخص به أو يترك كل على حاله؟ فيقال: إن عموم الزمان خص بمكة وحدها في الطواف بالبيت, وفي هذه الحالة من طاف وأراد أن يصلي فليصل، وهذا مخصوص من عموم النهي, أو يقال: لا، هنا أي ساعة من ليل أو نهار عموم، وهو مخصوص بالنهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات, فهنا تعارض النهي عن الصلاة مع الأمر بها، وقوله: (اتركوا) هنا النهي يكون جانبه أقوى, فعلى ذلك اخترنا فيها جانب النهي (اتركوا)، خاصة أن النهي سيكون في أوقات يسيرة قليلة سهلة على من كان هنالك أن يترك الصلاة فيها, ولو أخذ بهذا العموم وصلى في أي وقت فلا ينكر عليه, ولكن الأولى ما ذكرنا: أنه لو طاف بالبيت في أي ساعة من ليل أو نهار وأراد الصلاة صلى في أي ساعة من ليل أو نهار، سواء صلاة ركعتي الطواف وغيرها، إلا أن تكون في هذه الأوقات اليسيرة, قبل الظهر بدقيقة, وبعد طلوع الشمس بحوالي عشر دقائق أو ربع ساعة، وعند غروب الشمس إلى أن تغرب حوالي عشر دقائق أو ربع ساعة, فليؤخر الصلاة حتى يصليها بعد ذلك. ولذلك جاء عن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه كان يصنع ذلك, فجاء أنه طاف بعد صلاة الصبح فلم يصل، وخرج من مكة حتى نزل بذي طوى فصلى بعد ما طلعت الشمس, وهذا رواه الإمام مالك في موطئه بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن عبد القاري: (أنه طاف بالبيت مع عمر رضي الله عنه بعد صلاة الصبح، فلما قضى عمر طوافه نظر فلم ير الشمس طلعت فركب حتى أناخ بذي طوى فصلى ركعتين سنة الطواف وفيه أنه يجوز تأخير الركعتين لسبب من الأسباب.

حكم السعي بين الصفا والمروة وصفته

حكم السعي بين الصفا والمروة وصفته السعي بين الصفا والمروة على الراجح من كلام أهل العلم أنه ركن من أركان في الحج والعمرة، وفيه خلاف: هل هو ركن من الأركان أم هو سنة من السنن أم واجب من الواجبات؟ على ثلاثة أقوال لأهل العلم في ذلك، والراجح من هذه الأقوال: أنه ركن من الأركان, واختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله, فروي عنه أنه ركن لا يتم الحج إلا به وكذلك العمرة, وروي أنه سنة ولا يجب بتركه دم؛ لقول الله عز وجل: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]، وجاء عن الحنابلة أيضاً أنه واجب، وهذا قول القاضي أبي يعلى، قال: هو واجب وليس بركن، فإذا تركه وجب عليه دم، وهذا هو الذي مال إليه أبو محمد بن قدامة رحمه الله, ولكن ما جاء من أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومداومته على ذلك وأصحابه معه في الحج وفي عمرات النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أصحابه, وكذلك ما جاء من قوله في أمره صلى الله عليه وسلم بذلك, ولهذا نميل معه إلى أن السعي ركن من أركان الحج والعمرة. وروى أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس! اسعوا فإن السعي كتب عليكم)، فجاء في القرآن {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] لكن التعبير بقوله سبحانه: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} وإذا قال: لا حرج عليك أن تصنع كذا, فيكون لا حرج أن أصنع أو لا أصنع، إلا أن يكون نفي الحرج نزل لسبب من الأسباب، فإذا قال ابتداءً: لا حرج أن تصنع كذا، فهذا الفعل مباح أن تصنعه، ولك أن تتركه, لكن إذا سئل الشارع الحكيم: نحن كنا نفعل كذا في الجاهلية فهل نفعله الآن في الإسلام؟ فقال: لا حرج, فليس معناه: أنه مباح يستوي فيه الفعل والترك, وإنما دليل الفعل يؤخذ من دليل آخر، وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم فعله وأمر به، فيكون هذا الدليل فيه: أن ما صنعتموه في الجاهلية ستصنعون مثله في الإسلام ولا إثم عليكم من مشابهة أفعال الجاهلية؛ فإنها كان المقصود بها الشرك، والآن أفعال الإسلام المقصود بها التوحيد، فلا حرج عليكم في مشابهة الفعل للفعل، ولكن النية غير النية في ذلك. تقول عائشة رضي الله عنها: (طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون -تقصد بين الصفا والمروة- فكانت سنة -أي: سنة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك- فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة)، وهذا في صحيح مسلم , فـ عائشة ترى أنه لا يتم حج إنسان لم يسع بين الصفا والمروة, فيكون الحج الذي يتعمد صاحبه أن يكون ناقصاً ليس بحج، فيلزمه أن يتم ذلك. وعن حبيبة بنت أبي تجراة مرفوعاً: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي)، وهذا من الأدلة على وجوب السعي, فقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك, وسعى في عمره كلها، وسعى في حجه صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة, وكذلك قال في الحديث: (إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا)، فيكون قد سعى فنفذ ما أمر الله عز وجل به, وأخبر أن هذا مكتوب، والمكتوب فرض من الفرائض, وقد النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني نسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا)، ففعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم, وطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، فدل فعله صلى الله عليه وسلم على أن هذا من لوازم الحج والعمرة. وجمهور أهل العلم على أن السعي بين الصفا والمروة ركن من الأركان, وعند أبي حنيفة أنه واجب. والفرق بين الركن والواجب: أنه لو قلنا لأنه ركن فمن لم يأت بالسعي بين الصفا والمروة فيلزمه أن يرجع مرة ثانية ليأتي به، وإذا كان هذا الإنسان محرماً بالحج أو بالعمرة ولم يأت بهذا الركن فما زال محرماً عليه أن يأتي النساء حتى يسعى بين الصفا والمروة ويكمل حجه, وكذلك الذي اعتمر فطاف بالبيت ولم يسع وذهب إلى بيته نقول له: إنه فرض عليك أن ترجع وتأتي بالسعي بين الصفا والمروة, وما زلت محرماً، فلا يجوز لك أن تأتي النساء. وإن قلنا: إن السعي بين الصفا والمروة واجب فيرى الأحناف أنه يجبر بدم, فلو أنه تركه وانصرف فيأتي ويذبح شاة أو يهدي هدياً، ولا شيء عليه أكثر من ذلك, لكن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) وقوله: (إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا)، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يتعلموا منه, وفعل ذلك في حجه وعمرته, كل هذا يدل على أنه ركن، ولذلك نميل في ذلك إلى قول الجمهور: أنه لابد منه، وأنه من أركان الحج والعمرة.

صفة السعي بين الصفا والمروة

صفة السعي بين الصفا والمروة إذا فرغ من ركعتي الطواف قلنا: السنة أن يرجع إلى الحجر الأسود، ثم يذهب إلى باب الصفا ويخرج منه، حتى إذا دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] فالسنة أن يتوجه إلى الصفا بحيث يصعد عليها, ولا يتوجه إلى المسعى فيكون في نصف المسعى، وبعد ذلك يمشي من غير أن يكون ساعياً بين الصفا والمروة، بل يتوجه من المسجد الحرام إلى أن يصعد على الصفا مباشرة ويبدأ من عنده بالنسك. فيبدأ بالصفا فيرقى عليه قدر قامة, أي: أنه يصعد على الصفا قليلاً حتى إذا رأى البيت كبر الله وهلله وحمده, فينظر ويتوجه إلى البيت وهو فوق الصفا، وهذا بحسب الاستطاعة, فالزحام أحياناً يكون شديداً فيصعب عليه أن يقف في مكان يرى البيت وخاصة مع الأبنية الموجودة، ومع السلالم التي تمنع الرؤية من جهة وتسمح بها من جهة أخرى, فعلى ذلك بحسب ما يتيسر للإنسان أن يقف ويستقبل البيت وينظر إلى الكعبة، ثم يكبر الله: الله أكبر, ويهلل الله: لا إله إلا الله, ويحمد الله: الحمد لله, ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله وحده لا شريك له, أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده, ثم يدعو بما أحب من خير الدين والدنيا والآخرة لنفسه ولمن شاء. واستحب العلماء أن يدعو بما دعا به ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه, فقد كان له دعاء يدعو به بعد أن ينتهي من الركعتين خلف مقام إبراهيم، وأيضاً وهو واقف على الصفا والمروة, فعن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول على الصفا: (اللهم إنك قلت {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وإنك لا تخلف الميعاد، وإني أسألك كما هديتني إلى الإسلام ألا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا مسلم, اللهم اعصمنا بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك، وجنبنا حدودك, اللهم اجعلنا نحبك ونحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك ونحب عبادك الصالحين, اللهم حببنا إليك وإلى ملائكتك وإلى أنبيائك ورسلك وإلى عبادك الصالحين, اللهم يسرنا لليسرى وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، واجعلنا من أئمة المتقين)، فإذا قال هذا الدعاء الذي كان يدعو به عبد الله بن عمر فحسن, وإذا قال أي دعاء آخر فجائز. ولا يلبي فوق الصفا والمروة, فقد انقطعت التلبية بالبدء بالطواف بالبيت، فلا يلبي على الصفا ولا على المروة، ولكن المستحب أن يدعو كما ذكرنا, وأن يقول هذا الذكر الذي ذكرناه ويكرر ذلك ثلاث مرات، يحمد الله سبحانه ويكبر الله ويوحده, ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله وحده لا شريك له, أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده, ثم يدعو بما شاء ويكرر ذلك مرة ثالثة. وإذا فرغ من هذا الذكر والدعاء نزل من الصفا متوجهاً إلى المروة، فيمشي على سجية مشيه المعتادة, إلى أن ينتهي إلى الميل الأخضر على ما هو معلم وموجود على بلاط الأرض وعلى الجدران، فسيرى عموداً ملوناً باللون الأخضر، وفوق سيرى كاميرا باللون الأخضر ليعرف أن هذا المكان يبدأ منه السعي, وهو المكان الذي كانت تسعى فيه هاجر وهي تطلب الغوث من الله سبحانه وتعالى، فتتذكر ذلك وأنت تسعى في هذا المكان, حتى يبقى بينه وبين الميل الأخضر المعلق بركن المسجد على يساره قدر ستة أذرع، ثم يسعى سعياً شديداً حتى يتوسط بين الميلين الأخضرين اللذين أحدهما في ركن المسجد والآخر متصل بدار العباس, وهو معروف الآن هذا المكان، فسترى جميع الناس في هذا المكان يبدءون بالسعي الشديد إلى أن يصلوا إلى الميل الآخر, ثم يتركون شدة السعي ويمشون على عادتهم. ولو أنه نسي وبقي ماشياً ما بين الميلين بعد ذلك فلا يشرع له أن يستدرك, ففي مكان المشي يمشي فيه، وفي مكان السعي يسعى فيه, حتى يأتي المروة فيصعد عليها حتى يظهر له البيت إن ظهر؛ لأنه فوق المروة الآن شبه مستحيل أن ترى البيت، فسابقاً كان من الممكن أن تقف في مكان معين وتنظر منه حتى ترى البيت, ولكن الآن مع الأبنية لن ترى البيت، ولكن تتوجه تجاه البيت وتدعو ربك سبحانه وتعالى بهذا الذكر الذي ذكرناه ثلاث مرات, ثم ترجع من المروة إلى الصفا، فإذا وصلت بين الميلين أيضاً تسعى، وبعدما تنتهي من الميل الثاني تبدأ تمشي إلى أن تصل إلى الصفا, فترقى فوق الصفا وتقف وتتوجه إلى البيت، وتدعو في ذهابك من الصفا إلى المروة مرة, ثم ترجع إلى الصفا في الثانية, ثم ترجع إلى المروة في الثالثة, وهكذا حتى ينتهي الشوط السابع وأنت على المروة. فيستحب أن يدعو بين الصفا والمروة في مشيه وسعيه, ويستحب له قراءة القرآن، وهو من أفضل الذكر, وعلى ذلك تكون قد انتهيت من السعي بين الصفا والمروة.

واجبات وسنن السعي

واجبات وسنن السعي واجبات السعي أربعة: أن يقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة, ولا يصح أن يرجع إلى الصف قبل أن يصل إلى المروة ويعتبر هذا شوطاً, فلابد أن يكمل الطريق إلى أن يصل إلى المروة ويضع عليه قدمه, هذا هو الواجب عليه, وإن صعد فهو الأكمل، لكن لو تقدم فوقف على أول الصفا فهذا جائز. الواجب الثاني: الترتيب, فتبدأ بالصفا ثم تذهب إلى المروة وهكذا, فلو أن إنساناً بدأ بالمروة وتوجه إلى الصفا فهذا غير محسوب, فلا بد أن يكون البدء من الصفا, ويعد الأطواف من بعد ذلك, فيشترط أيضاً في المرة الثانية أن يكون ابتداؤها من المروة, وفي الثالثة أن يكون من الصفا وهكذا. والواجب الثالث: إكمال الأشواط سبع مرات بين الصفا والمروة, فيحسب الذهاب مرة والرجوع مرة, ولو سعى وطاف وشك في العدد قبل الفراغ لزمه الأخذ بالأقل, فلو فرضنا أنه الآن عند الصفا وقد نسي هل هو في الشوط الثالث أو الرابع، فيبني على الأقل ويأتي بالزائد حتى ينتهي وهو على يقين أنه أكمل. الواجب الرابع: أن يكون السعي بعد طواف صحيح للذاكر, فمن لم يذكر ونسي الطواف بالبيت وبدأ بالسعي، فالراجح أنه يطوف بعد ذلك ولا شيء عليه, فلو سعى ثم تيقن أنه ترك شيئاً من الطواف لزمه أن يأتي ببقية الطواف, وقد قلنا: إذا شككت أثناء الطواف فتبني على اليقين, فلو شككت أنها ستة أشواط أو خمسة أشواط فتبني على أنها خمسة. وإذا انتهيت من الطواف بالبيت وشككت في أثناء السعي فلا تلق بالاً لهذا الشك, ولكن أثناء السعي استيقنت أنه بقي عليك شيء من الطواف فترجع لتأتي بالطواف ثم ارجع لتكمل السعي بعد ذلك. والموالاة بين أشواط السعي سنة وليست فرضاً, وإذا سعيت فلا يشترط أن تكون على وضوء وأنت تسعى, والموالاة سعي وراء سعي آخر, والموالاة ليست شرطاً لصحة السعي، إنما هي مستحبة, فإذا تعذر على الإنسان فسعى مثلاً ثلاثة أشواط ثم تعب ولم يقدر أن يكمل, فرجع إلى الفندق فنام واستراح، ثم بعد ذلك رجع، فله أن يكمل الأشواط سواء في نفس اليوم أو في اليوم الذي يليه، فإن الموالاة في السعي ليست واجبة ولا شرطاً لصحته, فلو فرق بين الطواف والسعي تفريقاً طويلاً أو قصيراً فلا شيء عليه, ولو فرق بين أشواط السعي تفريقاً طويلاً أو قصيراً فلا شيء عليه في ذلك. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم, وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المبيت بمنى يوم التروية والوقوف بعرفة يوم التاسع

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - المبيت بمنى يوم التروية والوقوف بعرفة يوم التاسع من أعمال الحج المهمة التي ينبغي للحاج معرفتها: الإحرام وواجباته وسننه، والوقوف بعرفة وواجباته وسننه، والدفع إلى مزدلفة، وغير ذلك من الأحكام والآداب التي ينبغي معرفتها في الحج.

مشروعية فسخ الحج إلى عمرة لمن لم يسق الهدي

مشروعية فسخ الحج إلى عمرة لمن لم يسق الهدي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: صفة الحج: يستحب للمحرم بالحج أن يدخل مكة قبل الوقوف بعرفات، وهذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر السلف والخلف. ويستحب إذا وصل إلى الحرم أن يستحضر في قلبه ما أمكنه من الخشوع والخضوع بظاهره وباطنه، ويتذكر جلالة الحرم ومزيته على غيره، ثم يأتي بمناسك العمرة على ما فصلناه في كتاب العمرة. والمتوجه إلى الحج في أشهر الحج: إما أن ينوي أن يتمتع بالعمرة إلى الحج، أو ينوي الإفراد -إفراد الحج- أو ينوي القران بين العمرة والحج، فالمتوجه إلى هنالك يحرم من مكان الإحرام، ويلبي بما أراد أن يهل به: لبيك عمرة، أو لبيك حجة وعمرة، أو لبيك حجة، فيحرم بهذا النسك عن نفسه أو عن غيره، فيقول: لبيك عمرة عن فلان، أو لبيك عمرة ويقصد بها عن نفسه. فيفعل أفعال العمرة إذا كان متمتعاً، والمتمتع سيصل إلى البيت فيطوف بالبيت ثم يسعى بين الصفا والمروة، ويتحلل بمناسك العمرة كما قدمنا قبل ذلك. إذا انتهى المحرم من السعي بين الصفا والمروة، فإن كان معتمراً متمتعاً فليحلق رأسه أو يقصر، فإذا فعل ذلك صار حلالاً تحل له النساء وكل شيء كان يحرم عليه بالإحرام، سواء ساق هدياً أم لا، والقيد هنا: لا بد أن يسوق الهدي وينوي عمرة، بخلاف ما لو ساق الهدي ونوى حجاً ولبى بالحج: لبيك اللهم حجاً، فهنا لا يجوز له أن يفسخ إلى عمرة طالما أنه ساق معه الهدي ولبى بحجة مفردة، وإذا كان قارناً بين العمرة والحج، وساق معه الهدي فليس له أن يفسخ، إنما الذي يجوز له أن يفسخ الحج إلى عمرة هو الذي لم يسق الهدي. كذلك من ساق الهدي ولبى بالعمرة، فهذا لم ينو أصلاً حجاً إنما نوى عمرة، فعلى ذلك بعدما ينتهي من مناسك العمرة له أن يتحلل. إذاً: يجوز للمفرد والقارن اللذين لم يسوقا الهدي أن يفسخا الحج إلى عمرة، فيتحللان فيصيران متمتعين بالعمرة إلى الحج، والمفرد والقارن إذا لم يكن معهما الهدي سواء طافا بالبيت أو لم يطوفا، فالأفضل إذا كانا ينويان الفسخ فليكن قبل الطواف بالبيت. وإذا أراد أن يعتمر ما بين عمرته وحجته فالراجح أنه يجوز له ذلك، فلو فرضنا أنه قدم بعمرة في شهر شوال مثلاً، ثم اعتمر ونوى أن يمكث حتى الحج، وبعدما مكث أسبوعاً أو أسبوعين أو ثلاثة أسابيع أحب أن يعتمر، فالراجح أن له أن يعتمر إذا طال شعره بحيث إنه يمكن أن يقصر منه، أو يمكن أن يحلق شعره، فيجوز له أن يعتمر مرة أو أكثر على الراجح في ذلك.

الإحرام بالحج يوم التروية وما يتعلق به

الإحرام بالحج يوم التروية وما يتعلق به أما إن كان الذي فرغ من السعي حاجاً مفرداً أو قارناً، فإن وقع سعيه بعد طواف القدوم فليمكث في مكة محرماً إلى وقت خروجهم إلى منى، بمعنى: أن القارن والمفرد طافا بالبيت طواف القدوم، وهذا مفرد للحج، فأول ما يصل إلى البيت يحيي البيت، وتحية البيت طواف القدوم، وهذا بالنسبة له يعتبر سنة وليس فرضاً، فإذا طاف بالبيت فيجوز له أن يسعى سعي الحج، وهذا السعي من مناسك الحج، فيجوز له أن يقدمه كما فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإنه بعد طواف القدوم سعى سعيه للحج، وسيمكث هذا محرماً من هذا الحين حتى ينتهي من المناسك ويرمي جمرة العقبة فيتحلل التحلل الأول، إذاً يمكث بمكة محرماً إلى وقت خروجهم إلى منى، فإذا كان يوم التروية -وهو اليوم الثامن من ذي الحجة- أحرم من مكة بالحج وكذا من أراد الحج من أهل مكة يحرم به يوم التروية. إذاً: في يوم التروية الجميع يخرج؛ الذي لم يكن محرماً سيحرم الآن، والذي كان محرماً أصلاً ويفك إحرامه سيهل ويقول: لبيك حجاً ويتوجه إلى منى. كذلك من أتى إلى مكة من الغرباء وغيرهم يحرمون في هذا اليوم، ويستحب أن يقول عند إحرامه: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة، فقد قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة، لبيك اللهم لبيك، ومحلي حيث حبستني، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). وروى ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (حج النبي صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، ثم قال: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة). وهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل على هذه الصورة، وفيها تواضعه عليه الصلاة والسلام، وهو تواضع عظيم جداً، وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك حج على رحل رث، والرحل: هو الجهاز الذي يوضع على ظهر البعير ليجلس عليه صاحب البعير، والرث بمعنى: قديم بالٍ خلق، فلم يكن شيئاً جديداً، بل كان قديماً بالياً، وحج صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة). وهذا الرحل الموضوع على ظهر البعير كان ثمنه يساوي أربعة دراهم أو لا يساوي، هذا ثمن الرحل الذي كان على ظهر بعير أو ناقة النبي صلى الله عليه وسلم! وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).

حكم الاشتراط في الحج

حكم الاشتراط في الحج وله أن يشترط، فالاشتراط ينفعه إذا اضطر وتحلل فلا دم عليه، وإذا صد أو منع فلا شيء عليه. والاشتراط دليله ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير - ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وهي بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم- فقال لها: لعلك أردت الحج، قالت: والله لا أجدني إلا وجعة، فقال لها: حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني)، (اللهم محلي) أي: أتحلل في المكان الذي تصدني وتمنعني من المواصلة والإتمام، سواء كان المنع بمرض أو بغيره. وروى الشافعي عن سويد بن غفلة قال: قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أبا أمية! حج واشترط، فإن لك ما اشترطت، ولله عليك ما اشترطت. إذاً: الذي يحج ويشترط فله ما اشترط، كما جاء في الحديث.

قصر الصلاة للحاج

قصر الصلاة للحاج وإذا دخل الحجاج مكة ونووا أن يقيموا بها أكثر من أربعة أيام لزمهم إتمام الصلاة، وهذا راجع للمسائل التي ذكرناها قبل ذلك في القصر والجمع في صلاة المسافر، فأحوط أقوال أهل العلم: أن الذي ينزل في مكان وينوي إقامة أربعة أيام أو دون ذلك فله أن يقصر خلال هذه الأيام، وإذا نوى فوق ذلك فالراجح أنه يتم الصلاة. ودليل الأربعة الأيام فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا قلنا: إن الاحتياط في ذلك الأخذ بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في مكان وقصر الصلاة، فاعتبر أن له حكم المسافر. والنبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة مكث بها، فقدم لصبح رابعة، إذاً: صبح اليوم الرابع كان في مكة، فمكث الرابع والخامس والسادس والسابع، والثامن سيخرج إلى منى، فمكث أربعة أيام ينتظر يوم التروية حتى يخرج إلى منى، فهو لم يكن في خلال هذه الفترة ينوي أن يذهب إلى أي مكان آخر عليه الصلاة والسلام. وهنا كان يقصر عليه الصلاة والسلام وهو في مكة، فدل على أن الأربعة الأيام إذا مكثها المسافر في مكان سفره وليس في مكان إقامته فله أن يقصر فيها. فخرج صلى الله عليه وسلم من مكة وتوجه إلى منى، وهناك قصر الصلاة، ثم خرج من منى وتوجه إلى عرفات وقصر الصلاة، وفي المزدلفة صلى العشاء قصراً، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى فكان في تحركه صلى الله عليه وسلم يقصر من الصلاة، وجمع في عرفات والمزدلفة كما قدمنا. إذاً: لو أن إنساناً سافر إلى الحج في أول ذي القعدة مثلاً؛ فسيبقى أمامه على يوم التروية فترة طويلة، فإذا مكث في مكة فليتم الصلاة، وليحرص أن يصلي مع الإمام، وسواء كان سيمكث فترة بسيطة أو طويلة فليحرص على الصلاة مع الجماعة، وإذا صلى مع الجماعة فيلزمه الإتمام مع الإمام، فلا يصح أن يصلي الإمام ويتم وهذا يقصر خلفه. فإذا مكث فترة طويلة أو قصيرة وصلى مع الإمام فيلزمه الإتمام، لكن إذا كان ينوي أقل من أربعة أيام وأدركته الصلاة وهو وحده مثلاً، أو في جماعة وقد فاتته الصلاة مع الإمام، فله أن يقصر الصلاة؛ لأنه رجع بحكم المسافر، هذا إذا كان سفره أو مكثه في مكة أقل من أربعة أيام. وإذا خرج الحجاج إلى منى في يوم التروية فلهم القصر من حيث خرجوا؛ لأنهم أنشئوا سفراً تقصر فيه الصلاة، وإن كان سفراً قصيراً، فإن الذي سيخرج من مكة متوجهاً إلى منى فالمسافة ثلاثة أميال، حوالي ستة كيلو أو نحو ذلك، فهذا أقل ما يكون من مسافات السفر، وله القصر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصر هنالك. فيخرج من منى متوجهاً إلى عرفات أيضاً، والمسافة مثل هذا الحد حوالي ستة كيلو أو نحوها، وكذلك سيقصر في عرفات. ويتوجه الحجيج إلى منى بعد صلاة الصبح من مكة بحيث يصلون الظهر في أول وقتها بمنى، ثم يصلون بها العصر والمغرب والعشاء كل صلاة في وقتها. وفي منى أنت ذاهب للعبادة، فلا معنى للجمع بين الصلوات، ولم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في منى، فالماكث في منى متفرغ للعبادة، فيصلي كل صلاة على وقتها، ولكن يترخص بما ترخص به النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قصر صلاة الظهر والعصر والعشاء فتترخص بما فعل صلوات الله وسلامه عليه.

ما يستحب لمن أحرم من مكة

ما يستحب لمن أحرم من مكة ويستحب لمن أحرم من مكة وأراد الخروج إلى عرفات أن يطوف بالبيت ويصلي ركعتين ثم يخرج، ولا يجب عليه ذلك؛ لأنه خارج من مكة إلى عرفات، فيستحب له إذا فارق البيت أن يطوف بالبيت، وإذا لم يفعل فلا شيء عليه.

المبيت بمنى ليلة عرفة

المبيت بمنى ليلة عرفة والسنة أن يبيتوا بمنى ليلة التاسع، وهذا المبيت سنة وليس بركن ولا واجب من الواجبات، ففي ليلة عرفة السنة أن يبيت في منى، ولو أنه مكث في مكة إلى يوم عرفة وخرج إلى عرفة مباشرة فحجه صحيح، ولم يقصر في الأركان، ولكنه فرط في سنة من السنن، وكل بحسب ما يتيسر له. وفي الصحيحين عن عبد العزيز بن رفيع قال: سألت أنس بن مالك: (أخبرني بشيء عقلته عن النبي صلى الله عليه وسلم: أين صلى الظهر يوم التروية؟ قال: بمنى، قلت: فأين صلى العصر يوم النفر؟ قال: بالأبطح) إذاً صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية بمنى، فالسنة أن تخرج من مكة في يوم التروية في وقت يسمح لك أن تصل إلى منى عند وقت الظهر أو قبل ذلك بحيث تصلي الظهر في منى. نفر النبي صلى الله عليه وسلم في يوم النفر الثاني، وهو آخر أيام العيد، وهو اليوم الرابع من أيام العيد، وصلى العصر بالأبطح الذي ذكر في الحديث السابق، واسمه المحصب، والمعرس، والبطحاء من هنالك على حدود مكة، فالنبي صلى الله عليه وسلم صلى هنالك صلاة العصر، وهذا المكان يكون أسمح في صلاة النبي صلوات الله وسلامه عليه. والأصل أن كلمة (البطحاء) من انبطح الوادي واتسع، ويقال لها: المحصب والمعرس، وهي قريبة من مقبرة الحجون في مكة. وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية والفجر يوم عرفة بمنى) يوم التروية يوم الثامن، فصلى الظهر في منى، ويوم عرفة صلى الفجر في منى، أي: أنه صلى الفجر وخرج من منى بحيث إنه كان في نمرة قبل صلاة الظهر، وهنالك خطب بالناس كما ذكرنا. وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش إلا أنه واقف على المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس). إذاً: خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس خارج عرفة في نمرة، ونمرة ليست من عرفة، فهو نزل في عرنة، وخطب الناس في نمرة، والآن المسجد الذي هنالك -مسجد نمرة- الجزء الذي يخطب فيه الإمام هو من نمرة، وكأن المسجد جزءان: جزء منه من نمرة الذي هو مقدمة المسجد، وهنالك علامات موضوعة تبين للناس أن هذا الحد ليس من عرفة، والثلثان المتأخران في المسجد داخلان في عرفة.

أيام المناسك الستة وأسماؤها

أيام المناسك الستة وأسماؤها الذي سيؤدي مناسك الحج كاملة فعدد أيامه ستة أيام، وهي من يوم التروية إلى آخر أيام العيد، وأسماؤها ذكرناها قبل ذلك، وهي: اليوم الثامن، واسمه: يوم التروية، مأخوذ من الري؛ لأنهم كانوا يحملون الماء إلى منى وعرفة، واليوم التاسع وهو يوم عرفة؛ لأنهم يذهبون فيه إلى عرفة، واليوم العاشر، وهو يوم النحر، واليوم الحادي عشر، وهو يوم القر؛ لأنهم يستقرون بمنى وليس لأحد أن ينفر في هذا اليوم، واليوم الثاني عشر يوم النفرة الأولى لمن أراد أن يتعجل فيخرج في هذا اليوم بعدما يرمي الجمرات، واليوم الثالث عشر، وهو يوم النفر الثاني. إذاً: هذه عدد الأيام التي يكمل الحجاج فيها حجهم، ولكن يمكن أن تقل عن ذلك فتصير خمسة أيام مثلاً إذا نفر في يوم النفرة الأولى، وقد تقل عن ذلك أيضاً لو أنه ذهب يوم عرفة إلى عرفة، فتصير أربعة أيام مع النفرة الأولى، ولو أنه ذهب ليلة العيد قبل الفجر إلى عرفة فسيبقى يوم العيد، ويوم القر، وينفر في اليوم الثاني، فتكون يومين ونصفاً أو يومين وقليلاً، وهذا أقل ما يكون في أيام الحج.

التوجه إلى عرفة والوقوف بها

التوجه إلى عرفة والوقوف بها وإذا بات الحاج بمنى ليلة التاسع وصلى بها الصبح فالسنة أن يمكث بها حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت عليه صار متوجهاً إلى عرفات، ويستحب الإكثار من التلبية من ساعة ما يحرم إلى أن يرمي جمرة العقبة. جاء في الصحيحين عن محمد بن أبي بكر الثقفي قال: إنه سأل أنس بن مالك وهما غاديان من منى إلى عرفة: (كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان يهل منها المهل فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر منا فلا ينكر عليه). الذين هم ذاهبون إلى عرفة منهم من يهل بالتوحيد، ومنهم من يلبي، ومنهم من يكبر، ولا أحد ينكر على أحد في ذلك.

استحباب دخول عرفات بعد الزوال

استحباب دخول عرفات بعد الزوال ويستحب أن يدخل عرفات في وقت الوقوف بعد الزوال وبعد صلاة الظهر والعصر مجموعة بنمرة، وهذا فعل الرسول عليه الصلاة والسلام، ولعله الآن يصعب هذا الأمر، وخاصة إذا كنت ستصلي في مسجد نمرة فإن أبواب المسجد من الخلف، فستدخل عرفة أولاً، فلا بد أن تدخل عرفة حتى تصل إلى نمرة في المكان الذي سيخطب فيه الإمام، وستكون قد دخلت عرفة قبلهم، وهذا حسب الاستطاعة، فإذا استطاع مع الزحام أن يكون في نمرة إلى وقت الزوال ويسمع خطبة الإمام هنالك فله ذلك، والأمر أمر تطبيق سنة، ولكن الأفضل للإنسان أن يحضر خطبة الإمام ويدخل ليسمع الإمام وهو يخطب، وهذا لا يكون إلا بالدخول إلى المسجد، ويكون في الخلف بحيث يدخل من عرفات أولاً قبل نمرة.

خطبة الإمام في نمرة

خطبة الإمام في نمرة فإذا زالت الشمس ذهب الإمام والناس إلى مسجد نمرة، فيخطب الإمام فيه قبل صلاة الظهر خطبتين، وهذا على الأحوط، وإن كانت خطبة واحدة فإنها تكفي، فيجوز في خطبة عرفة أن تكون خطبة واحدة، وهذا مذهب الحنابلة في هذه المسألة، وخطبتان في مذهب الشافعية، والأمر يسير، حسب مذهب الإمام الذي يخطب، والأمر واسع، فالذين قالوا خطبتين أخذوا بحديث ضعيف، وقاسوها على خطبة الجمعة، والذين قالوا خطبة واحدة قالوا: خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فالأصل أن الخطبة تكون واحدة، والأمر واسع في ذلك. وفي الخطبة يبين لهم الإمام كيفية الوقوف، وشرطه، وآدابه، والدفع من عرفات إلى مزدلفة وغير ذلك من المناسك التي بين أيديهم، ويحرضهم فيها على إكثار الدعاء والتهليل وغيرهما من الأذكار والتلبية في الموقف، ويخفف هذه الخطبة، أي: أن الخطبة بعرفة تكون خطبة خفيفة وليست طويلة جداً بحيث يشق على الناس، ولعله هناك يتعذر على الناس الوضوء، فإذا كانت الخطبة طويلة جداً فلعل أحدهم يحدث ولا يقدر على أن يصل إلى دورات المياه، فعلى ذلك تكون بحيث لا يشق على الناس ولا يطيل بهم.

استحباب الجمع بين الظهر والعصر في عرفة

استحباب الجمع بين الظهر والعصر في عرفة فإذا فرغ الإمام من هذه الخطبة جلس جلسة قصيرة، ثم يقوم إلى الخطبة الثانية فيخففها، وهذا على القول بأنها خطبتان، وإذا كان الإمام لا يأخذ بها أصلاً فيؤذن المؤذن وينزل الإمام ويصلي بالناس. وفي حديث جابر في حجة الوداع: (ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف)، فبعدما خطب الناس في نمرة ركب صلى الله عليه وسلم وتوجه إلى الموقف بعرفة. والسنة إذا فرغ من الخطبتين أو الخطبة أن ينزل فيصلي بالناس الظهر ثم العصر جامعاً بينهما، فالصلاة الآن صلاة جمع بين الظهر والعصر، فيجمعهما جمع تقديم ويقصرهما، وهذا من أدلة جواز جمع التقديم. ويسر الإمام بالقراءة؛ لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهر، فلم يجهر في هذه الصلاة، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المكان بين الصلاتين بسبب النسك في هذا اليوم، وإلا فاليوم السابق لم يجمع صلى الله عليه وسلم فيه، وما يأتي من أيام بعد ذلك لم يجمع فيها النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً كان الجمع في عرفة والمزدلفة بسبب النسك، حتى يكون هناك وقت طويل للدعاء ما بين صلاة الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فيكون هناك وقت طويل للمناسك والدعاء. وهذا الجمع يجوز لكل أحد هناك سواء كان من أهل مكة أو عرفات أو المزدلفة، حتى أهل مكة فهم في عرفات سيصلون مع الإمام هذه الصلاة، ويجمعون فيها، وحتى لو كانوا ساكنين في عرفة نفسها فلهم أن يجمعوا أيضاً مع الإمام في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بنمرة، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة، ومعهم حينئذ أهل مكة وغيرهم. روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة، حتى أتى عرفة فنزل بنمرة، وهي منزل الإمام الذي ينزل فيه بعرفة، حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجراً) ووقت الهجير: قبل وقت الظهر، فذهب في الوقت الذي يشتد فيه الحر، ويطلق أيضاً على أنه ذهب مبكراً إليها، وهو وقت الهجير أيضاً، قال: (فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح فوقف على الموقف من عرفة)، فيكون بعدما انتهى من الخطبة صلى الله عليه وسلم توجه إلى عرفة فوقف فيها. والسنة الجمع بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر مقصورتين، وهذا جمع تقديم، ولا يلزم المأمومين نية الجمع، والأفضل أن يكون الإنسان مستحضراً ذلك، ولكن هل يجب بحيث نقول: لا تصح الصلاة إلا بهذه النية؟ هذا أمر صعب، ولو كان هذا فرضاً لبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصلي ولقال: انووا الجمع، فلم يقل ذلك صلى الله عليه وسلم، وإنما صلى بهم الظهر، ثم أقام المؤذن فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم العصر، فدل على أن نية الجمع ليست شرطاً لصحة الصلاة. إذاً: لا يلزم المأمومين نية الجمع للمشقة في إعلام جميعهم؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع هناك من غير أن ينادي بالجمع، ولا أخبرهم بأن نيته واجبة، وقد كان فيهم من هو قريب العهد بالإسلام، ومن لا يعلم وجوب هذه النية، فلو فاتت إنساناً الصلاة مع الإمام لجاز له الجمع والقصر في صلاته وحده. بمعنى: لو فرضنا أنك لم تدرك الصلاة مع الإمام هنالك، وكثير من الحجاج لا يدركون الصلاة مع الإمام، والذي لا يدرك الصلاة يصلي في المكان الذي هو فيه، فله أن يصلي جماعة، وله أن يصلي منفرداً بحسب ما يتيسر له في ذلك، وإذا صلى فيصلي الظهر والعصر جمعاً وقصراً أيضاً على هذه الهيئة. مسألة: لو أنه صلى الظهر فأتم، وصلى العصر فأتم، أو صلى الظهر على وقتها والعصر على وقتها هل تصح منه؟ نعم، صلاته صحيحة، ولكنه خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن السنة أن يجمع بين الظهر والعصر، سواء تيسر له أن يصلي مع الإمام أو أنه لم يقدر على ذلك فصلى منفرداً أو في جماعة أخرى، فيصلي جمع تقديم الظهر والعصر ويقصر الصلاة. ولو جمع بعض الناس قبل الإمام منفرداً أو في جماعة أخرى، أو صلى إحدى الصلاتين مع الإمام والأخرى منفرداً جمعاً وقصراً جاز، وكذلك القول في الجمع بين المغرب والعشاء في مزدلفة، ففي عرفة من الممكن أن تذهب فتصلي مع الإمام، وفي مزدلفة يصعب أن تصلي مع الإمام، فبحسب ما ينزل الحجاج يصلون في المكان الذي هم فيه، فتجدهم جماعات متفرقين، فهذه المجموعة يصلون هنا، وهؤلاء يصلون هنا، فعلى ذلك صلوا المغرب والعشاء في المزدلفة، وقبل ذلك صلوا الظهر والعصر في عرفة، بحسب ما يتيسر لهم.

إذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة

إذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة ولو وافق يوم عرفة يوم الجمعة لم يصلوا الجمعة هناك؛ لأن الصلاة في عرفة هي هذه صلاة اليوم للظهر والعصر، ولا يوجد صلاة جمعة؛ فهؤلاء مسافرون ولا جمعة عليهم، ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم جمعة، ولم يذكر أن هذه صلاة جمعة أو خطبة جمعة، إنما هي صلاة الظهر والعصر مجموعتين صلاهما صلى الله عليه وسلم هناك. وفي الصحيحين عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فقال عمر رضي الله عنه: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم جمعة. إذاً: يوم الجمعة هو يوم عيد أصلاً للمسلمين، ونزلت الآية في يوم عرفة وهو أعظم أيام السنة، فهذه الآية من أعظم الآيات التي أنزل الله سبحانه وتعالى وذكر الله فيها إتمام الدين وإكماله، فنزلت في يوم عرفة أعظم أيام العام وفي يوم جمعة وهو يوم عيد للمسلمين.

استحباب تعجيل المسير إلى الموقف بعرفة

استحباب تعجيل المسير إلى الموقف بعرفة فإذا فرغوا من صلاتي الظهر والعصر فالسنة أن يسيروا في الحال إلى الموقف ويعجلوا المسير، فيتوجهوا إلى الموقف في عرفة، وهذا باعتبار أنهم كانوا في نمرة، وإذا كانوا في عرفة فيقفون في المكان الذي هم فيه، إلا أن يتوجهوا إلى المكان الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أفضل، فمن تيسر له فعل، ومن لم يتيسر له وقف في أي موقف من عرفة، فكل عرفة موقف. روى البخاري عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: كتب عبد الملك إلى الحجاج: ألا يخالف ابن عمر في الحج، فجاء ابن عمر رضي الله عنه وأنا معه يوم عرفة حين زالت الشمس، فصاح عند سرادق الحجاج، فخرج وعليه ملحفة معصفرة فقال: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟! قال: الرواح إن كنت تريد السنة، قال: هذه الساعة؟! قال: نعم، قال: فأنظرني حتى أفيض على رأسي ثم أخرج، فنزل حتى خرج الحجاج فسار بيني وبين أبي. إذاً: هنا عبد الملك بن مروان أمر الحجاج بن يوسف أن يسمع لـ عبد الله بن عمر، ويتعلم منه سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الحج. يقول سالم بن عبد الله بن عمر: (فسار بيني وبين أبي) يعني: سالم يمشي مع أبيه والحجاج في الوسط بينهما، قال: فقلت -هذا سالم يقول وكان عالماً من العلماء رضي الله عنه-: إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة وعجل الوقوف، إذا كنت تريد سنة النبي صلى الله عليه وسلم اقصر الخطبة، وعجل الوقوف بعرفة، قال: فجعل ينظر إلى عبد الله، فلما رأى ذلك عبد الله قال: صدق، يعني: فعلاً هذه هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أن تقصر الخطبة وألا تطول، وأن تعجل الوقوف ولا تشق على الناس ولا تملهم.

وقت الوقوف بعرفة وحكم المخالف بعذر

وقت الوقوف بعرفة وحكم المخالف بعذر جاء في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر ثم أتى الموقف)، ووقت الوقوف: ما بين زوال الشمس يوم عرفة وطلوع الفجر الثاني من يوم النحر، فهذا هو وقت الوقوف، فمن وقف في عرفة في أي وقت من هذه الأوقات فقد تم حجه، فإذا وقف الواقف بعرفة فترة بسيطة بعد صلاة الظهر فحجه صحيح، ولكن عليه دم؛ لأنه مقصر في ذلك، ولو وقف بالليل ولم يتيسر له الوقوف بالنهار فحجه صحيح، ولا دم عليه بسبب ذلك، ولو وقف جزءاً من النهار فلما انصرف رجع مرة ثانية حتى شهد الغروب، فلا شيء عليه. إذاً: وقت الوقوف ما بين الزوال عند الظهر إلى طلوع الفجر الثاني ليوم النحر، فمن وقف بعرفات لحظة من هذا الوقت وهو من أهل الوقوف صح وقوفه، وأدرك بذلك الحج، ومن فاته هذا الزمان فقد فاته الحج. هذا هو وقت الوقوف، وفيه خلاف بين الجمهور وبين الإمام أحمد رحمه الله، فالإمام أحمد مذهبه أن الوقوف من فجر يوم عرفة حتى طلوع الفجر من يوم العيد، فكأن الوقت سيشمل حوالي أربعة وعشرين ساعة، فمن وقف خلال هذا الوقت فحجه صحيح، والراجح هو قول الجمهور في هذه المسألة. إذاً: وعليه فمن كان غير معذور، وتمكن من الوقوف فذهب في يوم عرفة بعد الفجر ووقف بعرفة ثم انصرف على ذلك مع قدرته على أن يقف بعد الزوال، فهذا خالف ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وما فعله الخلفاء الراشدون من بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا بخلاف المعذور، فنقول: لو أن إنساناً ذهب إلى عرفة من بعد الفجر ونيته أن يمكث في عرفة إلى غروب الشمس، ثم حدث له حادث فاضطروا أن يأخذوه وينقلوه إلى المستشفى فلا شيء عليه، فهنا نفرق بين المعذور وعدم المعذور على قول الإمام أحمد رحمه الله، أما غير المعذور فلابد أن يكون وقوفه بعد الزوال بعرفة، والأفضل أن يقف من حين يفرغ من صلاتي الظهر والعصر المجموعتين إلى أن تغرب الشمس، ثم يدفع عقب الغروب إلى مزدلفة، فلو وقف بعد الزوال ثم أفاض قبل الغروب فحجه صحيح، هذا الذي وقف بعد الزوال وأفاض بعد العصر مثلاً، فإن رجع إلى عرفة بحيث تغرب عليه الشمس هنالك ومكث جزءاً من الليل هنالك ثم أفاض إلى المزدلفة فلا شيء عليه، فإن لم يرجع إلى عرفة بحيث جاء وقت غروب الشمس أو وقت الليل ولم يكن هنالك فعليه دم. والوقوف بعرفة ركن من أركان الحج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث: (وقد أتى عرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) فهنا نكر صلى الله عليه وسلم في سياق الإثبات، ومعناه: أقل قدر وقف بعرفات ليلاً أو نهاراً. وهذا احتج به الإمام أحمد رحمه الله على أنه لو وقف بعرفة نهاراً في أي وقت بالنهار فحجه صحيح، وإن كان سيلزمه دم إذا لم يقف إلى أن تغرب الشمس هناك.

المعتبر في الوقوف بعرفة

المعتبر في الوقوف بعرفة والمعتبر في الوقوف في عرفة الحضور في أي موضع من عرفات، المهم أن يكون بها وليس خارجاً منها ولو في لحظة لطيفة، بشرط: كونه أهلاً للعبادة في هذا الوقت، سواء حضرها عمداً أو وقف مع الغفلة والبيع والشراء والتحدث واللهو، أو في حالة النوم، أو اجتاز بها في وقت الوقوف وهو لا يعلم أنها عرفات، فلو فرضنا أنه لا يعرف أنها عرفات، فذهب ووقف بها، ثم انطلق منها، وهو لا يزال يبحث عن عرفات إلى أن غربت الشمس، فقيل له: أنت كنت في عرفات، فهو واقف فيها ولم يكن يعرف أنها عرفات، ولكنه كان بها، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (وقد أتى عرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) إذاً: هذا ممن شهد ووقف. ولو لم يمكث أصلاً فيها، بل مر مسرعاً في طرف أو طريق من طرقها، أو كان نائماً على بعير فانتهى البعير إلى عرفات، فمر بها البعير ولم يستيقظ راكبه حتى فارقها، أو اجتازها في طلب غريم هارب بين يديه، أو بهيمة شاردة، أو غير ذلك مما هو في معناه، فيصح وقوفه في جميع هذه الصور ونحوها. وهذه الصور ليس شرطاً أن تكون هي فقط، فقد يوجد غيرها، فلو أن إنساناً عاقلاً ليس مجنوناً ولا مغمى عليه وقف في عرفات ولو لحظة، وأدرك الوقت الذي هو وقت الوقوف، وبعد ذلك انطلق من هذا المكان، فله حجة كاملة، وحجته صحيحة. لكن الخلاف في أنه لو أدرك هذا الجزء قبل وقت الزوال، والخلاف بين الحنابلة والجمهور: فالجمهور على أنه لا يحسب له شيء، والحنابلة على أنه لو كان قبل وقت الزوال فقد أدرك جزءاً من النهار فتحسب له حجة. وقد ذكرنا أن الأرجح في ذلك: أن هناك فرقاً بين المعذور وبين غيره، ويحسب له الوقوف بعرفة سواء عرف أن هذه عرفة أو لم يعرف، وقد كنت راكباً باصاً مع الناس ووصلوا إلى عرفة ووقفوا في الباص وهم لا يعرفون هذا المكان أنه عرفة، فهم وقفوا مع الناس، ومكثوا فترة طويلة لم يعرفوا أنها عرفة إلى أن انصرفوا منها، ووصل بهم الباص إلى عرفة بعد غروب الشمس، وصاحب الباص مر بعرفة وهو لا يعرف أنهم دخلوا ولا أنهم خرجوا، فهم قد أدركوا عرفة في هذا اليوم، سواء بنية أو بغير نية، طالما أنه دخل ومر بها فحجه صحيح. إذاً نقول: من وقف بعرفة وهو من أهل الوقوف، وعقله حاضر، وليس مغمى عليه مثلاً، فإذا وقف بها وهو مغمى عليه أو مجنون أو سكران فلا يصح حجه؛ لذهاب عقله في ذلك، فلا بد من حضور عقله في وقت وقوفه بعرفة. ولو تخلل الجنون بين الإحرام والوقوف، أو بينه وبين الطواف، أو بين الطواف والوقوف، وكان عاقلاً في حال فعله فلا يضر ذلك، كالإنسان الذي تأتيه نوبات صرع مثلاً، فإذا كان في عرفات قبل أن يصل إلى عرفات جاءته نوبات صرع، ولم يدر نهائياً إلى أن طلع الفجر وهو على هذه الحال، فلا حج لهذا الإنسان، لكن إن كان يفيق ويصرع، فهذا حجه صحيح طالما أنه أدرك ولو لحظات أو لحظة في عرفة، وهو من أهل الوقوف وعقله معه.

حدود عرفة ومكان الوقوف فيها

حدود عرفة ومكان الوقوف فيها والوقوف في أي جزء كان من أرض عرفات صحيح بإجماع العلماء؛ لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عرفة كلها موقف)، ولكن أفضل مكان في عرفات سيكون الموقف الذي وقف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الموقف عند الصخرات الكبار المفترشة في أسفل جبل الرحمة، وجبل الرحمة معروف، فكل الحجاج يذهبون إلى هناك فيصعدوا فوق جبل الرحمة، والراجح أنه لم يأت في فضل الصعود إليه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي مشقة زائدة، وإن استحبها بعض أهل العلم كالإمام الطبري وغيره، ولكن لا دليل على استحباب الصعود على جبل الرحمة، وإنما وقف النبي صلى الله عليه وسلم أسفل جبل الرحمة، وهو موضع فيه صخرات، فهنالك وقف النبي صلى الله عليه وسلم ووجه ناقته إلى القبلة وبطن الناقة إلى الجبل، ووقف إلى نهاية الغروب صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: السنة الوقوف في أي مكان في عرفة، خاصة الموقف الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وجبل الرحمة ليس من السنة الصعود عليه، لكن لو صعد إنسان ووجد مكاناً فوق الجبل بحيث يكون بعيداً عن الناس فلن نقول له: إنه حرام عليه، ولكن لا تشق على نفسك؛ فإن الشمس شديدة الحرارة جداً والإنسان يمكن أن يتأذى بالمسير والصعود إلى الجبل، وإلى أن يصعد الجبل قد يظل ساعة أو ساعتين، وتضييع هذا الوقت في ترك الدعاء خسارة، وبعد أن تصعد يمكن أن تتعب وتنام بقية اليوم، وعلى ذلك فاجلس في المكان الأسهل عليك لتنتبه للدعاء في هذا اليوم. وجبل الرحمة يقال له: ألال، وهذا اسم من أسمائه. أما حد عرفات فقد قال الشافعي رحمه الله: هي ما جاوز وادي عرنة، ونحن قلنا: إن وادي عرنة بجوار عرفة، ونمرة أيضاً هنالك، فلا عرنة ولا نمرة من عرفات، يقول الإمام الشافعي: ما جاوز وادي عرنة إلى الجبال القابلة مما يلي بساتين ابن عامر، وقد وضعت الآن علامات حول أرض عرفة، ولا توجد البساتين التي يذكرها، ولكن هناك علامات تحدد مكان عرفة.

شروط الوقوف الواجب

شروط الوقوف الواجب والوقوف الواجب له شرطان: أحدهما: كونه في أرض عرفات وفي وقت الوقوف. والثاني: كون الواقف أهلاً للعبادة كما قدمنا. ولهذا يشترط لصحة الوقوف: أن تقف في عرفة، والثاني: أن يكون هذا الواقف أهلاً للعبادة، لا مجنوناً ولا مغمى عليه، ولا سكران. وهناك فرق بين الذي يحج بإنسان مجنون، فالنية نية العاقل الذي يحج به كالذي يحج بالطفل الصغير، أو بين مجنون يكون وحده، أو من يجن، فإذا ذهب الإنسان لوحده وهناك ذهب عقله فوقف في عرفات وهو لا يدري ما عرفات، ولا يدري ما هي المناسك، فهذا لا حج له.

سنن وآداب الوقوف بعرفة

سنن وآداب الوقوف بعرفة وللوقوف بعرفة سنن وآداب: أحدها: أن يدخل أرض عرفات بعد صلاتي الظهر والعصر إن تيسر ذلك، وهنا لن يستطيع كل إنسان أن يأتي بجميع السنن مع الزحام الشديد، فعلى ذلك كل إنسان بحسب ما يتيسر له. الثاني: سماع الخطبة أو الخطبتين، والجمع بين الصلاتين. الثالث: تعجيل الوقوف عقب الصلاتين، فإذا أنهى صلاة الظهر والعصر فليعجل الوقوف، ويمكن للإنسان أن يقدر على ذلك، فيمكث في المسجد هنالك ويدعو الله عز وجل فترة طويلة إلى أن تنكسر حدة الشمس ثم يخرج ويقف في الخارج، حتى ولو مكث في المسجد الذي هو في الجزء من عرفة إلى غروب الشمس فلا شيء عليه، المهم أن يستغل وقته في الدعاء وذكر الله؛ لأن هذا أعظم أيام السنة. الرابع: من السنة أن يكون مفطراً، سواء أطاق الصوم أم لا، وسواء ضعف به أم لا؛ لأن الفطر أعون له على الدعاء، وهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم، إلا أن يكون عليه الهدي ولم يجده فصام ثلاثة أيام ويوم عرفة من ضمن الثلاثة الأيام، والأفضل أن يقدم الصيام قبل ذلك. وفي حديث أم الفضل رضي الله عنها أنهم شكوا في صوم النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فبعثت إليه بقدح من لبن فشربه عليه الصلاة والسلام، وهنا أرادت أن تعرف هل هو صائم صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة أم ل، فأرسلت إليه بقدح من لبن، فشرب أمام الناس ليبين أنه ليس صائماً. الخامس: أن يكون متطهراً؛ لأنه أكمل، فلو وقف وهو محدث أو جنب أو حائض أو نفساء أو عليه نجاسة أو انكشفت عورته صح وقوفه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها حين حاضت: (ما لك أنفست؟ قالت: نعم، قال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت). إذاً: في الوقوف الإنسان سيذكر الله ويقرأ القرآن، والأفضل أن يكون على وضوء، ولكن لا يتهيأ الوضوء لكل إنسان، وأحياناً يصعب أن يتوضأ، وأن يمسك نفسه، والشريعة قد رخصت للإنسان في هذا اليوم، فيجمع الظهر والعصر؛ لأنه يصعب عليه أن يتوضأ للظهر ومن ثم ينتظر حتى العصر ويتوضأ مرة أخرى، فشرع له أن يجمع بين الصلوات في سائر هذا اليوم، ولو أنه كان متوضئاً في هذا الوقت ليذكر الله عز وجل على أكمل أحواله فهذا حسن، ولو لم يقدر فلا شيء عليه. ولا تشترط الطهارة في شيء من أعمال الحج والعمرة إلا في الطواف وركعتي الطواف فقط. السادس من السنن: أن يقف مستقبل الكعبة، فأفضل الهيئات أنك إذا أردت الدعاء تتوجه إلى الكعبة، وسواء توجهت إليها أو إلى غيرها فلا شيء عليك فالدعاء صحيح، ولكن أفضل الهيئات وأكملها ما كان في الصلاة. السابع: أن يقف حاضر القلب فارغاً من الأمور الشاغلة عن الدعاء. الثامن: إن كان يشق عليه الوقوف، أو كان يضعف به عن الدعاء، أو كان ممن يقتدى به ويحتاج الناس إلى ظهوره ليستفتى ويقتدى به فليفعل ما تيسر له، فقد ثبت في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف راكباً)، فسواء وقف على قدميه، أو ركب على ناقة، أو قعد في الباص أو في السيارة، أو جلس في المسجد، أو جلس على الأرض، كل هذا جائز، فإذا كان بعض وقته واقفاً يدعو الله كان أحسن. التاسع: أن يحرص على الوقوف في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسب الإمكان، وهو عند الصخرات في أسفل جبل الرحمة بحيث لا يؤذي ولا يتأذى. العاشر: أن يكثر من الدعاء والتهليل والتلبية والاستغفار والتضرع، وقراءة القرآن، فهذه وظيفة هذا اليوم، ولا يقصر في ذلك، وهو لب الحج ومطلوبه. يوم عرفة قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، ولذلك يحرص المؤمن على أن يكون هذا اليوم كله خاصاً لذكر الله سبحانه وتعالى، فيذكر الله عز وجل، ويحرص على أن ينام جيداً في الليلة السابقة، وهذا شيء يقصر فيه الكثيرون، فتجد الناس في ليلة عرفة ساهرين: تعال نشرب شاي تعال نتسامر تعال كذا، غداً عرفة ماذا سنعمل غداً؟! فيضيعوا الليل، ومهما نصحت الناس في هذا اليوم تجد أن الكثير يقصر فيه، فيكون صاحياً إلى أن يأتي يوم عرفة ويسمع الخطبة ثم ينام إلى غروب الشمس، فيضيع على نفسه شيئاً عظيماً في هذا اليوم، الذي هو يوم الدعاء؛ ولذلك احرص على أن تأخذ قسطاً من النوم والراحة ليلة عرفة حتى تنشغل بالدعاء يوم عرفة، فتدعو وأنت مستيقظ ومنتبه، وإذا دعوت ربك وأنت نائم فبدلاً من أن تدعو لنفسك تدعو عليها، فهنا تنتبه لهذا اليوم، ولا تشغل غيرك، فلا تشغل الناس في هذا اليوم. وبعض الناس يحب أن يتعرف على الآخرين، ويستمر في الكلام ويحكي معهم في يوم عرفة، فيضيع هذا اليوم في ذلك، وإلى قبل الغروب بقليل يقول: تعال ندعو! فلابد أن تحرص على هذا اليوم من وقت الزوال إلى غروب الشمس، فتحرص فيه على الإكثار من ذكر الله سبحانه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. لكن هل معناه: أنه يحرم أن تنام قليلاً مثلاً في اليوم نصف ساعة أو ساعة؟ نقول: لا يحرم، ولكن بقدر المستطاع الإنسان يستغل وقته، فهذا اليوم أعظم أيام السنة وأكثرها بركة.

فضل الدعاء يوم عرفة وآدابه

فضل الدعاء يوم عرفة وآدابه فيكثر من الذكر والدعاء قائماً وقاعداً، ويرفع يديه بالدعاء، ولا يجاوز بهما رأسه، فلو رفع يديه فوق جداً ربما يتعب من ذلك، ولكن يرفع اليدين بالدعاء وهو مستريح، ويكثر من الدعاء ما استطاع. ولا يتكلف السجع في الدعاء، فهو يوم تظهر فيه المسكنة والتواضع والخشوع، وليس وقتاً تظهر فيه البلاغة بين يدي الله عز وجل ولا الفصاحة، فتدعو ربك سبحانه وتعالى على أنك فقير إليه، ومحتاج إليه، والفقير عندما يسأل ويطلب لا يسجع في الكلام، ولا يترنم ولا يتغنى بالدعاء، ولكن الإنسان يدعو ربه كهيئة المسكين الفقير المتخشع المتذلل المحتاج إلى ربه سبحانه؛ فيكون أقرب إلى الإجابة. ولا بأس بالدعاء المسجوع إذا كان محفوظاً، والإنسان لا بد أن يحفظ دعاء من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، مثل قوله: (اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وأن تتوب علي)، فلك أن تدعو بما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه، حتى وإن كان الدعاء فيه سجع. ولو أن الإنسان اصطحب معه مذكرة أو كتاباً فيه أدعية النبي صلى الله عليه وسلم كان أفضل، فتدعو بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا اليوم تدعو لنفسك ولأهلك ولإخوانك، ولمن علمك، ولمن أهدى أو أسدى إليك جميلاً. ويستحب أن يخفض صوته بالدعاء، ويكره الإفراط في رفع الصوت، واعلم أن الموقف مليء بالناس، فأنت عندما ترفع صوتك وتصرخ، والثاني يرفع صوته ويصرخ، والثالث لا ينتبه لما يقول من الدعاء، فهذا من الأخطاء التي يقع فيها الكثيرون من الحجاج، فكل يهتم بنفسه وغيره لا دخل له فيه، فلعل غيرك يتأذى بصوتك المرتفع، وفي هذا اليوم تجد كثيراً من الناس معهم مكبرات صوت، كل خيمة معهم مكبر يمسكه أحدهم ويدعو ويصرخ والناس يصرخون وراءه، والذين في الخيمة الثانية كذلك، والثالثة كذلك، فتكون الأدعية مختلطة، والذي يريد أن يدعو بشيء لا يعرف ما يقول؛ لأن الأصوات مزعجة ومختلطة. فلذلك ينبغي للإنسان الذي يدعو حتى وإن كان في جماعة ويريد أن يعلمهم أو يدعو وهم يؤمنون فليكن على قدر ما يسمعهم فقط بدون مكبرات صوت، حتى لا تتداخل أصواتهم، ويزعج الناس بعضهم بعضاً. فقد جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا وارتفعت أصواتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس! اربعوا على أنفسكم)، أي: ارفقوا بأنفسكم، (اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنه معكم إنه سميع قريب)، تبارك اسمه وتعالى جده سبحانه وتعالى. ويستحب أن يكثر من التضرع والخشوع والتذلل والخضوع، وإظهار الضعف والافتقار، ويلح في الدعاء ولا يستبطئ الإجابة، بل يكون قوي الرجاء للإجابة؛ لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي)، فادع كثيراً وألح في الدعاء على ربك تبارك وتعالى، ويقيناً سوف يستجيب الله سبحانه لك: إما بأن يعطيك هذا الذي سألته، أو أنه يكف عنك من الشر بقدر ما سألت من الخير، أو أنه يدخر ذلك لك ليوم القيامة حسنات كأمثال الجبال، فكله خير من الله سبحانه، فادع وأنت واثق في إجابة الكريم سبحانه. وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم). (ما على الأرض) أي: كل إنسان على وجه الأرض يدعو ربه سبحانه بهذا القيد، (ما على الأرض مسلم يدعو الله سبحانه بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها)، بشرط: (ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) لم يدع على أبيه، ولا على أمه، ولا على أخيه، ولا يدعو بإثم، أي: يطلب من الله عز وجل ما هو محرم ولا يجوز له أن يطلبه، فلا يسأل شيئاً فيه إثم، ولا يدعو بقطيعة رحم، فهذا الإنسان الذي أتى بالدعاء بشرطه يستجاب له. ففرح الصحابي بذلك وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إذاً نكثر)، طالما أن الأمر هكذا، والله يعطي لكل إنسان فنحن سندعو الله كثيراً، قال: (إذاً نكثر، قال: الله أكثر)، فمهما أكثرت أنت من الدعاء فالله يعطيك على ما تسأل الأكثر والأكثر بفضله وكرمه سبحانه. وفي رواية أخرى قال: (وإما أن يدخر له في الآخرة)، فالإجابة على ثلاثة أنواع، قال: (إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخرها له في الآخرة). والدعاء له آداب، فتفتتح دعاءك بتحميد الله وتمجيده تبارك وتعالى وتسبيحه، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليكن لك عبرة في فاتحة الكتاب، فأنت تقرأ الفاتحة في كل صلاة من أجل أن تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، فلا تقرأ مباشرة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وإنما تبدأ الفاتحة بالبسملة في سرك، وتحمد الله سبحانه، وتمجده وتثني عليه، وفي النهاية تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ثم تطلب من الله سبحانه، فليكن ذلك لك موعظة فيما إذا دعوت الله سبحانه، فلتبدأ بذكره وبحمده وتبجيله وتمجيده والثناء عليه سبحانه، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سل ربك ما تريد. فيفتتح دعاءه بالتحميد والتمجيد لله تعالى، والتسبيح، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويختم دعاءه بمثل ذلك، وليكن متطهراً متباعداً عن الحرام والشبهة في طعامه وشرابه ولباسه ومركوبه وغير ذلك مما معه، فإن هذه آداب الدعاء في جميع الدعوات. وليحذر الإنسان من الحرام، فلا تأتي في يوم عرفة فتجد شيئاً مرمياً في الأرض فتأخذه، ولعل الإنسان يحدثه الشيطان: خذها ولن تجد لها أحداً فتكون لك بعد ذلك، فيأخذ شيئاً ليس من حقه أن يأخذه، فهنا احذر أن تأخذ من الناس أشياء ليست لك، فيجد إنسان مع آخر شراباً فيخطفه ويشربه في يوم عرفة، يمزح معه بذلك، والآخر غير راضٍ بذلك، ومن ثم سيرفع يده ويقول: يا رب! يا رب! ويجد إنساناً يأكل فيأخذ منه طعامه فيأكله ويتركه بغير طعام، ويدخل المسجد فيطأ الناس ويؤذيهم، ويضرب هذا، ويلكم هذا، ثم يجلس يدعو بعد ذلك!! وتجد مجموعة آخرين مع بعض مولعين الشيشة والسجائر، ومعهم راديو يسمعون الموسيقى والأغاني! وقبل غروب الشمس يقول لك: تعال يا شيخ ادع لنا قليلاً من أجل أن ندعو معك، وهو يدعو وهم يؤمنون! فهذا يوم عظيم، يوم العبودية لله والخشوع بين يديه سبحانه، فاحذر من الحرام في هذا اليوم وفي غيره. وليكثر من التسبيح والتهليل والتكبير ونحوها من الأذكار، وأفضله ما رواه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير). فهذا من الأذكار التي تحرص عليها وتقولها كثيراً، وإذا كان خير ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وخير ما قاله الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، فليكثر منها الحاج، وخاصة في هذا اليوم. وليكثر من التلبية رافعاً بها صوته، ومن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يأتي بهذه الأذكار كلها، فاليوم طويل، والوقت واسع، فليقل شيئاً من الدعاء والذكر والتسبيح والتحميد والتهليل والتلبية والتكبير والاستغفار وغير ذلك. ويدعو منفرداً وفي جماعة، وإذا كان يدعو وحده فهذا حسن، وإذا كنت في الدعاء سواء في يوم عرفة، أو وأنت تطوف بالبيت، أو وأنت على الصفا والمروة فلتخفض صوتك، فقد أسمعت من ناجيت، ودعوت ربك سبحانه وأسمعته. فيدعو العبد لنفسه ولوالديه ولمشايخه وأقاربه وأصحابه وأصدقائه وأحبابه، وسائر من أحسن إليه، وسائر المسلمين، والإنسان الذي يدعو للمؤمنين الله عز وجل يثيبه على ذلك، وقد جاء في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: اللهم اغفر لي وللمؤمنين أعطي بكل واحد منهم حسنة) فتدعو لنفسك وتقول: اللهم اغفر لي وللمؤمنين، وسوف تعطى على كل واحد منهم حسنة. وكذلك دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب يؤمن عليه الملك، ويقول: آمين، ولك بالمثل، فأنت إذا دعوت لأخيك دعا لك الملك فكان أعظم، فلذلك المؤمن يدعو لنفسه ولا ينسى إخوانه وأهله، فيدعو لإخوانه وأحبابه. وينبغي أن يكرر الاستغفار والتلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الندم بالقلب، فيتوب إلى الله عز وجل في هذا اليوم وغيره، ويكثر من البكاء مع الذكر والدعاء، فهناك تسكب العبرات، وتستقال العثرات، وترتجى الطلبات، وإنه لمجمع عظيم وموقف جسيم، فيجتمع فيه خيار عباد الله الصالحين، وأوليائه المخلصين، والخواص من المقربين، وهو أعظم مجامع الدنيا. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟)، يوم عرفة أعظم الأيام التي يرتجى فيها العتق من النار، فهو أعظم يوم يعتق الله عز وجل فيه عباده من النار. وليكثر من أعمال الخير في يوم عرفة وسائر أيام عشر ذي الحجة، فهي أيام عظيمة، ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما العمل في أيام أفضل منها في هذه -يعني: الأيام العشر- قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء). إذاً: يوم عرفة أعظم أيام العام، فالإنسان المؤمن يعرف فضل هذا اليوم وقدره، سواء كان في عرفة -وهذا أفضل ما يكون- أو في غيرها، فله أن

حكم التعريف يوم عرفة بغير عرفات

حكم التعريف يوم عرفة بغير عرفات وقد اختلف العلماء في حكم التعريف بغير عرفات، وهو اجتماع الناس في المساجد بعد العصر يوم عرفة للدعاء ولذكر الله تعالى، اختلف فيه السلف رضوان الله تبارك وتعالى عليهم: فالبعض منهم رأوا أن هذا لا بأس به، فجاء عن الحسن أنه قال: أول من عرف بالبصرة ابن عباس رضي الله عنهما، أي: أنه أول من أظهر ذلك في يوم عرفة، فكان يذهب إلى المسجد ويدعو ويجلس فيه لذكر الله سبحانه وتعالى. وقال الإمام أحمد: أول من فعله ابن عباس وعمرو بن حريث، وقال الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع: كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة، وقال الإمام أحمد: لا بأس به، إنما هو دعاء وذكر لله، فقيل له: تفعله أنت؟ يقال للإمام أحمد ولم ينكر على من يفعله: أتفعله أنت؟ قال: أما أنا فلا. وروي عن يحيى بن معين: أنه حضر مع الناس عشية عرفة، وفي سنن البيهقي عن أبي عوانة قال: رأيت الحسن البصري يوم عرفة بعد العصر جلس فدعا وذكر الله عز وجل، فدخل الناس المسجد واجتمعوا. وعن شعبة قال: سألت الحكم وحماداً عن اجتماع الناس يوم عرفة في المساجد؟ فقال: هو محدث. وعن إبراهيم النخعي قال: هو محدث. وعن الحسن قال: أول من صنع ذلك ابن عباس، كأنه يصوب ذلك. ففيه خلاف فكرهه جماعات منهم: نافع مولى ابن عمر، وإبراهيم النخعي والحكم وحماد ومالك بن أنس رحمهم الله، واستحبه غيرهم. والراجح: أنه إذا مكث في المسجد فيجوز في أي وقت من العام، وفي أي وقت من اليوم، ويوم عرفة هو من هذه الأيام، والإنسان يكون في المسجد محبوساً على طاعة الله طالما أنه لم يحدث حدثاً، فلم يكن في بيت الله عز وجل ليبتدع بدعة من البدع، فهو جالس للاعتكاف ولدعاء الله عز وجل، وقد فعل ذلك ابن عباس رضي الله عنه، ولا مانع من ذلك أن يرجو رحمة الله في هذا اليوم.

حكم من انصرف من عرفة قبل الغروب ولم يرجع إليها ليلا

حكم من انصرف من عرفة قبل الغروب ولم يرجع إليها ليلاً وإذا دفع الحاج بالنهار من عرفات ولم يعد إليها أجزأه وقوفه، وحجه صحيح، أي: إذا وقف في عرفة من الظهر للعصر، وانصرف إلى المزدلفة، فإما أن يرجع إلى عرفة بحيث تغرب عليه الشمس هناك، وإما أن يرجع فيمكث بها جزءاً من الليل أو أنه لم يفعل، فإذا فعل أو لم يفعل فالحج صحيح، ولكن إذا لم يمكث إلى غروب الشمس أو لم يرجع إليها فقد ترك واجباً من الواجبات، فعليه دم، وحجه صحيح. ووقت الوقوف بين زوال الشمس يوم عرفة وطلوع الفجر ليلة النحر، ولو وقف ببطن عرنة لم يصح وقوفه، والدليل على وقت الوقوف: ما جاء في حديث رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وأحمد من حديث عروة بن مضرس الطائي قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله! إني جئت من جبل طيء، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه)، فالرجل جاء من جبل طيء وهو لا يدري أين يقف، والوقوف في عرفة له شرط معين، فيجلس على جبل معين ويقف في مكان معين، فلذلك الرجل مر بالجبال كلها، بحيث إنه لا يفوته شيء، قال: (ما تركت من حبل) يعني: مكاناً مرتفعاً (إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه -يعني: صلاة الفجر في المزدلفة- ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً. فقد أتم حجه وقضى تفثه)، فقوله: (ووقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) هذه نكرة، فهو يدل على أنه لو وقف أقل الأوقات ليلاً أو نهاراً فقد تم وقوف هذا الإنسان، وصح حجه، وقضى تفثه. وفيه بيان أن المعذور له أن يقف ولو جزءاً من الليل ولو لحظة قبل الفجر، وحجه صحيح، أما غير المعذور فلا بد من الوقوف من الظهر إلى غروب الشمس، وهذا الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم، أو بحسب ما يصل إلى هنالك، فتغرب عليه الشمس هنالك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أحكام المبيت بمزدلفة ورمي جمرة العقبة

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - أحكام المبيت بمزدلفة ورمي جمرة العقبة من أعمال الحج المبيت بمنى ليلة التاسع من ذي الحجة، ثم الذهاب إلى عرفة في اليوم التاسع، وبعد غروب الشمس يدفع الحجاج من عرفة إلى مزدلفة، فيبيتون بها إلى الفجر، والمبيت بها واجب من واجبات الحج، وقبل طلوع الشمس يدفعون إلى منى لرمي جمرة العقبة يوم العيد، وهناك خلاف بين العلماء في وقت رميها.

الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة

الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ذكرنا في الحديث السابق كيفية الإهلال بالحج والبدء في مناسك الحج، فبعد أن تحلل المعتمر من عمرته، ومكث متحللاً حتى يوم التروية، يبدأ في مناسك الحج من يوم التروية، فيلبي الحاج بعد إحرامه، ثم يتوجه إلى في منى اليوم الثامن ويمكث فيها فيصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر هناك. والذهاب إلى منى والمبيت بها في هذه الليلة سنة، ثم يتوجه إلى عرفة حيث يكون هناك وقت الزوال فيصلي مع الإمام صلاة الظهر والعصر قصراً وجمعاً، وكان قبل ذلك يصلي بمنى كل صلاة على وقتها ولكنه يقصر من الصلوات. ثم يمكث من وقت الزوال حتى غروب الشمس يدعو الله سبحانه تبارك وتعالى واقفاً في عرفة، وفي أي موقف وفي أي موضع من مواضع عرفة وقف جاز له ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف). فإذا غابت الشمس أفاضوا من عرفات متوجهين إلى المزدلفة، وسميت المزدلفة بهذا الاسم وكأنهم حين يخرجون من عرفات متقربين مزدلفين إلى المزدلفة، وأيضاً تسمى: جمعاً؛ وذلك لاجتماع الناس فيها. والذهاب إلى المزدلفة والمبيت بها من واجبات الحج، والراجح أنه ليس ركناً من الأركان، وتسمى مزدلفة أيضاً بالمشعر الحرام، أما عرفات فتسمى بالمشعر الحلال؛ لأنها من الحل وليست من الحرم، والموقف الذي وقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة هو أسفل جبل الرحمة عند الصخرة، وهذا الجبل يسمى بإلال، ولذلك يطلق على عرفات (إلال) ويطلق عليه عرفة وعرفات، ويطلق عليه المشعر الحلال، أما المشعر الحرام فهو المزدلفة؛ لأن المزدلفة من الحرم مثل منى ومكة فهما من الحرم، لكن عرفات من الحل، وعرفات أبعد أماكن المناسك عن مكة، فهي تبعد بحوالي 22 كيلو تقريباً بين عرفات وبين مكة، فهي أبعد المناسك عن مكة. والمزدلفة أقرب ومنى أقرب منها. فإذا خرج الحجاج إلى مزدلفة باتوا ثم توجهوا بعد ذلك راجعين إلى منى لرمي الجمرات، وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم في المزدلفة ودعا الله سبحانه تبارك وتعالى فيها بعد الفجر. وفي حديث علي بن أبي طالب الذي رواه الترمذي قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال: (هذه عرفة وهذا هو الموقف وعرفة كلها موقف، ثم أفاض حين غربت الشمس، وأردف أسامة بن زيد وجعل يشير بيده على هنيته)، أي: يشير للناس أن امشوا بالسكينة، (والناس يضربون يميناً وشمالاً فيلتفت إليهم ويقول: يا أيها الناس! عليكم بالسكينة، ثم أتى جمعاً) وجمع هي المزدلفة، وهي المشعر الحرام، والمشعر مأخوذ من الشعائر، وفيها من شعائر الحج ما يقام في هذا المكان، قال: (فصلى بهم الصلاتين جميعاً المغرب والعشاء، فلما أصبح أتى قزح)، وهو جبل اسمه قزح، (فوقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف)، فلأجل ألا يظن الحجيج أنه لابد أن يقفوا على جبل قزح في نفس المكان الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم -وإن كان أفضل- بين لهم أن المزدلفة كلها موقف ففي أي مكان وقف فيها أجزأه. قال: (ثم أفاض حتى انتهى إلى وادي محسر فقرع ناقته فخبت حتى جاوز الوادي)، وهذا الحديث فيه اختصار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر ووقف على جبل قزح يدعو ربه سبحانه دعاءً طويلاً إلى قبل طلوع الشمس بوقت يسير، فانطلق صلى الله عليه وسلم في وقت الاصفرار من جبل قزح راجعاً إلى منى، ثم أفاض حتى انتهى إلى وادي محسر وهو الوادي الذي حسر فيه الفيل وأصحاب الفيل، والتحسير بمعنى: الإعياء والإكلال، وكأنه كل وأعيا في هذا المكان، فالنبي صلى الله عليه وسلم تحرك سريعاً في هذا المكان -فالمستحب في أماكن نزول عذاب الله عز وجل على قوم ألا يقف الإنسان فيها، ولكن يسرع في المرور في هذا المكان، وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم حيث قرع ناقته فخبت حتى جاوز وادي محسر. قال: (فوقف وأردف الفضل، ثم أتى الجمرة فرماها، ثم أتى المنحر فقال: هذا المنحر ومنى كلها منحر واستفتته جارية شابة) وذكر الحديث الذي ذكرناه قبل ذلك. والسنة إذا غربت الشمس وتحقق غروبها أن يفيض الإمام من عرفات ويفيض الناس معه، والجمع بين الليل والنهار في عرفات واجب لمن تمكن بالوقوف في النهار، وإلا فالليل وحده يكفي للمعذور.

ما يستحب فعله في الإفاضة

ما يستحب فعله في الإفاضة ثم ينطلق من عرفة إلى مزدلفة، ويؤخر صلاة المغرب بنية الجمع إلى العشاء، ويكثر من ذكر الله سبحانه والتلبية لقوله سبحانه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة:200]، والإفاضة: هي الخروج من عرفات والتوجه إلى المزدلفة، فقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} [البقرة:198] أي: انطلقتم جماعات من عرفات ومتوجهين إلى المزدلفة فأكثروا من ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى. فاليوم كله ذكر لله، والليل أيضاً ذكر لله سبحانه تبارك وتعالى بعد الغروب بأمر الله سبحانه وتعالى، والسنة أن يسلك في ذهابه إلى المزدلفة طريق المأزمين، والمأزم هو الطريق الذي بين الجبلين، وهي طرق معروفة يمشي فيها أكثر أو كل الحجيج. فيسير الحاج إلى المزدلفة وعليه السكينة والوقار على عادة سيره، سواء كان راكباً أو ماشياً، ويحترز عن إيذاء الناس في المزاحمة، فإن وجد فرجة فالسنة الإسراع فيها ولا بأس أن يتقدم الناس على الإمام أو يتأخروا عنه.

استحباب جمع المغرب والعشاء جمع تأخير في المزدلفة

استحباب جمع المغرب والعشاء جمع تأخير في المزدلفة والسنة أن يؤخروا صلاة المغرب حتى يصلوها مع العشاء جمعاً في المزدلفة وقت العشاء، فيؤخروا المغرب ما لم يخشوا فوت وقت الاختيار للعشاء، وهنا نقطة لم تكن في الماضي موجودة، فقد كانت الأعداد قليلة، أما الآن فالأعداد كبيرة جداً، فيمكن أن يخرج من عرفة والسيارات تتوجه إلى المزدلفة ولا تصل إلا الساعة الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل، أو يتأخر فلا يصل إلا الفجر فتضيع منه صلاة العشاء، فصلاة العشاء لها وقت أول ووقت آخر، فعليه ألا يؤخر العشاء إلى الفجر؛ لأن آخر وقت العشاء منتصف الليل، فعليه أن ينزل في المكان الذي هو فيه ويتوضأ ويصلي المغرب والعشاء حتى لا يضيع صلاة العشاء وصلاة المغرب، لكن السنة لمن يصل مبكراً إلى مزدلفة قبل نصف الليل أن يؤخر صلاة المغرب والعشاء حتى يصليها هناك. ولذلك احترزنا هنا بالقول أنه إذا كان الإنسان لا يخاف فوت وقت الاختيار للعشاء، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء)، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع من عرفة إلى أن وصل إلى مكان اسمه الشعب، والشعب هو الطريق الذي بين الجبلين، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته في هذا المكان وأسامة كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (الصلاة يا رسول الله!) أي: صلاة المغرب ستفوتنا، فقال: (الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلى ولم يصل بينهما)، فلم يصل سنة بين المغرب والعشاء، وأيضاً لم يترك وقتاً كبيراً، بل نزل وتوضأ في المزدلفة عليه الصلاة والسلام، وصلى صلاة المغرب، وترك فرصة يسيرة لكي ينزل الناس عن جمالهم وينيخوا دوابهم، ورجعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فصلوا وأقيمت صلاة العشاء. وقوله: (فصلى ولم يصل بينهما)، أي: أن الوقت بين المغرب والعشاء كان وقتاً يسيراً، فجمع هنا بين صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير، ولو ترك الجمع بينهما وصلى كل واحدة في وقتها فالصلاة صحيحة، ولكنه خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالسنة أن يجمع جمع تقديم للظهر والعصر في عرفة، ويؤخر المغرب إلى أن يجمعها جمع تأخير مع العشاء في المزدلفة، فلو خالف فقد خالف السنة، وصلاته صحيحة، وكذلك لو جمع وحده ولم يصل مع الإمام ولا مع الجماعة بل صلى وحده، أو صلى إحداهما مع الإمام والأخرى وحده جامعاً بينهما، أو صلاهما في عرفات أو في الطريق قبل المزدلفة فكل هذا جائز له فعله، ولكن فاتته الفضيلة، والفضيلة ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في جمع التأخير بين المغرب والعشاء في المزدلفة. وإن جمع في المزدلفة وقت العشاء أقام لكل واحدة منهما ويؤذن للأولى ولا يؤذن للثانية، وذلك مثل صلاة الظهر والعصر في عرفة، فإنهما يصليان بأذان واحد وإقامتين، روى مسلم عن جابر وذكر رواية الحديث وفيه: (حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة)، فقبل ليلة المزدلفة فيها تعب النهار من دعاء وانشغال بالذكر، والمسير من عرفة إلى المزدلفة مسير طويل يأخذ وقتاً، فلا يصل الحجيج إلى هناك إلا وقد تعبوا، فسنة النبي صلى الله عليه وسلم الراحة هنا، فقد صلى المغرب والعشاء ونام صلوات الله وسلامه عليه، ثم قام لصلاة الفجر عليه الصلاة والسلام. وقد قدمنا قبل ذلك أنه لم يذكر هنا أنه صلى الوتر أو لم يصلها، فأخذنا من عموم حاله صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يضيع الوتر لا في سفر ولا في حضر، وكذلك سنة الفجر هل صلاها أم لم يصلها؟ أخذنا من عموم فعله صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يترك سنة الفجر التي هي رغيبة الفجر.

حكم المبيت بمزدلفة

حكم المبيت بمزدلفة اختلف العلماء هل هذا النسك سنة أم واجب أم ركن من الأركان؟ والخلاف هنا مع الاتفاق على أن هذا شعيرة من شعائر الحج ونسك من مناسك الحج وعبادة من العبادات. والصحيح أنه واجب على غير المعذور، وليس بركن، فلو تركه صح حجه وعليه دم، فكل من يترك واجباً من الواجبات فعليه دم، أما المعذور فله عذره، فلو خرج الحجيج من عرفات راكبين السيارات وهم مرضى وضعاف وتعطلت بهم سياراتهم في الطريق وما وصلت المزدلفة إلا مع الفجر، فنقول: هؤلاء معذورون. ومثال آخر: إنسان أحرم بالحج وتاه في الطريق ولم يصل إلى عرفات إلا قبل الفجر بلحظات، فنقول: هذا معذور ولا شيء عليه. إذاً: المبيت بمزدلفة ليس بركن على الراجح، ولو تركه بدون عذر صح حجه وعليه دم، قال ابن قدامة: المبيت بمزدلفة واجب من تركه عليه دم، وهو قول عطاء، والزهري، وقتادة، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور وأصحاب الرأي، فجمهور العلماء على أن المبيت في مزدلفة واجب وأن من تركه فعليه دم. وقال بعض أهل العلم ومنهم علقمة والنخعي والشعبي: من فاته جمع فاته الحج، فهؤلاء ذهبوا إلى أنه ركن من أركان الحج، فمن فاته جمع فاته ركن من أركان الحج وفاته الحج؛ لأن من الأركان ما يستدرك ومنها ما لا يستدرك، فالوقوف بعرفة ركن لا يستدرك، فإذا فات عرفة فات الحج، ومن فات عليه الحج فعليه أن يهدي وعليه الحج بعد ذلك، والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ركن يستدرك، فمن فاته لزمه أن يرجع مرة أخرى ليأتي بهذا الركن، والمزدلفة على القول بأنها ركن تفوت ولا تستدرك.

أدلة القائلين بركنية المبيت بمزدلفة

أدلة القائلين بركنية المبيت بمزدلفة والذين قالوا بأنه ركن من الأركان وأن من فاته المبيت فاته الحج يحتجون بقول الله عز وجل: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] قالوا: فأمر الله بأن إذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، بمعنى: اذهبوا إلى المشعر الحرام واذكروا الله عند المشعر الحرام، فالآية تفيد الركنية. وورد حديث للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه)، فالحديث فيه: (من شهد صلاتنا هذه) وكانت صلاة الفجر في المزدلفة، وقال: (ووقف معنا حتى ندفع) يعني: من المزدلفة، وقال: (وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه)، قالوا: فالمفهوم من الحديث أنه من لم يفعل ذلك لم يتم حجه ولم يقض تفثه، فحجه ناقص، وطالما الحج ناقص فهذا ليس بالحج الذي أمر به، فيلزمه أن يعيد حجه.

الرد على القائلين بركنية المبيت بمزدلفة

الرد على القائلين بركنية المبيت بمزدلفة لكن جمهور العلماء أبوا ذلك وقالوا: الآية التي احتجوا بها ليست دليلاً على ذلك، فقول الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة:198] لا يدل على وجوب المبيت بمزدلفة، فإن الله تعالى قال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198]، ولو أن الإنسان كان عند المشعر الحرام بمزدلفة ونام الليل كله ولم يذكر الله عز وجل فيها، ثم ذهب إلى منى؛ صح حجه باتفاق العلماء، فإذا كان منطوق الآية لم تعملوا به، فكيف بالمفهوم الذي من ورائه، فالآية لها منطوق ومفهوم من وراء ذلك، فالمنطوق هو قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] وهو الذكر، وهذا المنطوق لم يعمل به مما يدل على أن هناك كلمة محذوفة، فيكون المعنى: توجهوا إلى المزدلفة حتى تذكروا الله عز وجل هناك، فكيف يقال عن الذكر في مزدلفة ليس ركناً وهو منطوق الآية والمبيت بها ركن وهو مفهوم الآية؟! وهذا صحيح في الاحتجاج بهذه الآية. أما حديث: (من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه) فقوله: (وقف) إثبات و (ليلاً) نكرة بمعنى: أي جزء من الليل ولو يسيراً، فالنكرة هنا في سياق الإثبات فيكون المعنى ولو أقل القليل. والحديث له سبب وهو عروة بن مضرس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله! إني جئت من جبل طي، أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، والله! ما تركت من حبل إلا وقفت عليه)، والحبل مثل الجبل إلا أن الجبل صخر والحبل رمال، فهنا يقول: ما تركت أي مرتفع ولا كثيب من الأرض إلا وقفت عليه، (فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف في عرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد أتم حجه وقضى تفثه). وهؤلاء الذين قالوا: إن المبيت بمزدلفة ركن يفوت الحج بتركه واحتجوا بهذا الحديث، وقالوا: في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد صلاتنا هذه)، قال لهم الجمهور: وهل شهود الصلاة الذي هو منطوق الحديث ركن من الأركان حتى تقولوا: إن المبيت بمزدلفة الذي هو مفهوم الحديث ركن أيضاً؟ فيلزمكم أن تقولوا: إن هذه الصلاة يجب أن يشهدها مع الإمام، وهي من الأركان، وأنتم تقولون بذلك. وممن ألزم بذلك الإمام الطحاوي، فقد ألزم به ابن حزم رحمة الله عليهما، فالتزمه ابن حزم، وأخذ بذلك العلامة الألباني رحمة الله عليه، وهذا لم يقله العلماء السابقون، بل هذا التزام ألزمهم العلماء بشيء فقالوا بهذا الذي ألزمهم العلماء به. والراجح: أن الصلاة هنالك ليست من الواجبات، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر قصة هذا الرجل، ويقول: أنت وقفت معنا، وطالما أننا صلينا الفجر في هذا المكان، وصلينا الفجر على أول وقته، وأنت قد وقفت قبل ذلك في عرفة، وعليه فقد كنت في مزدلفة ليلاً، وبهذا يكون حجك صحيحاً، وقد أتيت بالوقوف الواجب عليك. بل أخذ الجمهور من قوله صلى الله عليه وسلم: (وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) دليلاً لهم، فإن ليلاً هنا نكرة في سياق الإثبات، فيصح على أقل شيء من الليل، فلو أنه وقف بعرفة قبل الفجر بخمس دقائق، ثم طلع عليه الفجر في هذا المكان فإنه لن يستطيع الذهاب إلى مزدلفة ليصلي الصبح مع الناس، فالحديث دليل للجمهور على أنه إذا أدرك بعرفة آخر الليل ولو آخر دقيقة من الليل فقد أدرك الحج، مع أن هذا الإنسان الذي سيقف بعرفة في هذا الوقت يستحيل يصلي الفجر مع الناس في المزدلفة. وعلى ذلك لم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بعينها أنها واجبة أو أنها ركن في هذا المكان من الأركان التي في الحج، وإنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم بيان أنك تدرك عرفة ولو للحظات يسيرة قبل أن يطلع عليك الفجر، ويدل على ذلك الحديث الجامع في قوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، فهذا هو الركن الذي يضيع الحج بتركه، فإذا وقف بعرفة ولو للحظة من آخر الليل فقد أدرك الحج، والباقي الذي عليه من الواجبات تجبر بدم إن لم يتمكن منها، وكذلك الطواف والسعي بالبيت فهذا لا يفوت، سواء أدرك الطواف في هذه الأيام، أو لم يطف وأدرك الطواف بعد ذلك في أيام العيد، أو مرت عليه أيام العيد فلم يزل الطواف واجباً ركناً عليه، ولابد أن يأتي به حتى ولو سافر فيلزمه أن يرجع، ولا يتحلل التحلل الأكبر حتى يطوف بالبيت.

الراجح في حكم المبيت بمزدلفة ودليله

الراجح في حكم المبيت بمزدلفة ودليله وخلاصة القول أن المبيت بالمزدلفة نسك بالإجماع، وهو واجب على غير المعذور وليس بركن، فلو تركه صح حجه وعليه دم. ودليل الوجوب قول الله عز وجل: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] فهنا أمر بالذكر الذي يستلزم أن يكون هنالك عند المشعر الحرام، ولم يذكر أنه إذا لم يفعل ذلك بطل حجه، فدل على أن هذا واجب وليس ركناً من الأركان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه)، فقوله: (من شهد صلاتنا هذه) أثبت أن الذي يقف في المزدلفة قد أتم حجه، والذي وقف قبل ذلك بعرفة جزءاً من الليل أو من النهار وشهد معنا الآن دليل على أنه شهد عرفات في جزء من الوقت المشروع للوقوف فيها. ودليل عدم الركنية قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة فمن جاء قبل ليلة جمع فقد تم حجه)، وهذا الحديث الصحيح رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، وأحمد وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن يعمر، وذكر القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة فمن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج) ثم قال: (أيام منى ثلاث فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه)، قال: (الحج عرفة فمن جاء قبل ليلة جمع فقد تم حجه)، يعني قبل انقضاء ليلة جمع التي هي ليلة المزدلفة، فمن جاء إلى عرفات قبل أن تنقضي هذه الليلة فقد تم حجه.

مقدار المبيت بمزدلفة ووقته ومكانه

مقدار المبيت بمزدلفة ووقته ومكانه اختلف الفقهاء في مقدار المبيت ووقته: فذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى أن زمن الوجوب هو المكث بالمزدلفة من الليل، واختلفوا في هذا المقدار الذي يكون من الليل، فقالت المالكية: النزول بالمزدلفة قدر حط الرحال في ليلة النحر واجب، والمبيت بها سنة، أي: أنه إذا مر بالمزدلفة وبمقدار ما نزل فيها وحط رحله فيها ثم ركب ثانياً وانصرف فهذا يقال له: بات بالليل، فهذا عند المالكية، لكن أن يمكث فيها من وقت أن يصلي العشاء إلى الفجر فهذا سنة وليس فرضاً، هذا عند المالكية. وقال الشافعية والحنابلة: يجب الوجود بمزدلفة بعد نصف الليل ولو ساعة لطيفة، فلابد أن يكون الحاج في النصف الثاني من الليل موجوداً في هذا المكان ولو بعضاً من الوقت فيه حتى يقال: بات بهذا المكان. وذهب الحنفية إلى أنه ما بين طلوع فجر يوم النحر وطلوع الشمس، فمن أدرك بمزدلفة في هذا الوقت فترة من الزمن فقد أدرك الوقوف سواء بات بها أم لا. والمختار ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة، فقولهم أوجه، وهو الموافق لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو: أن النزول يكون نزولاً بالليل فلا يكفي أول الليل، بل لابد أن يمر عليه نصف الليل ويدخل في النصف الثاني من الليل حتى يقال قد بات في هذا المكان، فكأنه على هذا القول لو أدرك النصف الأول من الليل ثم انصرف قبل أن يدخل عليه النصف الثاني من الليل فهذا لم يبت، فحتى يقال: بات، لابد أن يحصل جزءاً من النصف الثاني من الليل، وحتى يقيم سنة النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يمكث الليل كله وأن يقف بعد صلاة الفجر عند المشعر الحرام يذكر الله ويدعو إلى قبل الإسفار ثم ينطلق. فلو دفع قبل نصف الليل بيسير ولم يعد إلى المزدلفة فقد ترك المبيت وعليه دم لتركه واجباً، ولو دفع قبل نصف الليل وعاد إليها قبل طلوع الفجر أجزأه، أما من انتهى إلى عرفات ليلة النحر واشتغل بالوقوف عن المبيت بمزدلفة فلا شيء عليه فهذا معذور وداخل تحت نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه أدرك من عرفة جزءاً من الليل أو من النهار، فالذي يدرك جزءاً من الليل ولو آخره يستحيل أن يدرك الليل بمزدلفة وهو موجود آخر الليل بعرفة، فعلى ذلك هذا معذور ولا شيء عليه. ويحصل هذا المبيت بالحضور في أي بقعة كانت من مزدلفة فقد روى مسلم عن جابر في حديث طويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف) وجمع هي المزدلفة، يستحب أن يبقى بالمزدلفة حتى يطلع الفجر، فيصلي الفجر هنالك وينتظر حتى وقت الإسفار ثم ينصرف. وذلك لما في حديث جابر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصوى حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس).

وقت الدفع من مزدلفة

وقت الدفع من مزدلفة ويباح الدفع من مزدلفة بعد نصف الليل؛ لما ورد من الرخصة في ذلك، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله)، أي: أن ابن عباس كان مع ضعفة أهل النبي صلى الله عليه وسلم الذين انطلقوا بعد نصف الليل من المزدلفة عائدين إلى منى، ورواه النسائي بلفظ: (أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله فصلينا الصبح بمنى فرمينا الجمرة)، أي: أنهم وصلوا إلى منى فصلوا الصبح ورموا الجمرة. وفي الصحيحين عن عبد الله مولى أسماء عن أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين رضي الله عنها أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي، وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا جواز أن يصلي الإنسان من الليل، فهي صلت المغرب والعشاء وأيضاً صلت جزءاً من الليل، فصلت ساعة ثم قالت: يا بني! هل غاب القمر؟ تسأل من معها وكانت قد عميت رضي الله عنها، فقال عبد الله مولاها: -ومولاها أي: أنه كان عبداً لها وأعتقته هي فهو مولى لها-، فقال: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني! هل غاب القمر؟ وغياب القمر في هذا الوقت يكون بعد منتصف الليل، فسألت عن غياب القمر أي: هل جاوزت نصف الليل؟ فلما قال: نعم، قالت: فارتحلوا، فارتحلنا بعد منتصف الليل ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح. فرمت الجمرة قبل أن تصلي الصبح، ويستحيل أن تؤخر صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس، فكأنها أخذت برخصة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فرمت الجمرة قبل أن تصلي الصبح ثم صلت الصبح رضي الله عنها، قال: فقلت لها يا هنتاه! ما أرانا إلا قد غلسنا، قالت: يا بني! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للضعن، والضعن جمع ضعينة، والضعينة هي المرأة المسافرة الراكبة على البعير، والمقصود أنه أذن للنساء. فالإذن فيما فعلته هي رضي الله تبارك وتعالى عنها، والذي فعلته أنها انصرفت بعد منتصف الليل، مما يدل على إذن النبي صلى الله عليه وسلم للضعفاء بالانصراف بعد منتصف الليل، أما الأقوياء فالسنة أن يبيتوا حتى الفجر ويصلوا الفجر في المزدلفة ويقفوا عند المشعر الحرام.

رمي جمرة العقبة ووقته

رمي جمرة العقبة ووقته وخلاصة القول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للضعن، وهذا الحديث احتج به الجمهور على جواز الرمي قبل طلوع الشمس، وسواء خصصوا الذي يعجل بالليل من الضعفاء أو لم يخصصوا، فالجمهور عمموا الحكم في النساء الضعيفات وغيرهن؛ لأن العذر موجود سواء في النساء أو غيرهن. فالرمي في الليل سيخفف من العدد ويكون هناك تيسير على الناس في ذلك. وقال الأحناف: لا يرمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس، فأخذوا بالأحوط، ولكن لا إنكار على من رمى قبل ذلك، فـ أسماء رضي الله تبارك وتعالى عنها رمت الجمرة بالليل وصلت الصبح بعدها، فدل على أنه يجوز أن ترمي بعد طلوع الفجر وتصلي الصبح بعد الرمي. وقد رأى جواز ذلك قبل طلوع الفجر عطاء وطاوس والشافعي. أما الأحناف فمنعوا وقالوا: إنه لا يجوز رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس، فإن رمى قبل طلوع الشمس وبعد طلوع الفجر جاز، وإن رماها قبل الفجر أعادها. فعند الأحناف أنه لو رمى هذه الجمرة قبل الفجر وجب عليه أن يعيدها مرة ثانية، فإذا رماها بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس صح رميه وخالف السنة. والجمهور على أنه لو رماها بالليل فالرمي صحيح، فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للضعفاء من النساء، فمن كان هذا حاله أو وجد أصحاب أعذار فرموا قبل ذلك -أي: من الليل عند وصولهم إلى منى -فالرمي صحيح. واحتج الجمهور بحديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام من مزدلفة بليل، وعبد الله بن عمر كان يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله، بل كان من أشد الصحابة مواظبة وحرصاً على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أرسل غلمان بني عبد المطلب قال: (أبيني! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس). وفي حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله وأمرني أن أرمي مع الفجر)، فحديث ابن عباس أخرجه الطحاوي من طريق شعبة مولى ابن عباس، وشعبة كان سيء الحفظ، وحديث: (لا ترموا الجمرة قبل أن تطلع الشمس) ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من رمي الجمرة قبل طلوع الشمس، وهذا الاحتياط فيها أنه لا ترمى الجمرة إلا بعد طلوع الشمس، لكن في قصة أسماء أنها رمت مع الصبح، وفي قصة عبد الله بن عمر ذكر أنه أرخص في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعليه لا يوجد تناقض بين الحديثين، فكأنه قال: لا ترموا إلا بعد طلوع الشمس، وهذا على وجه الإرشاد منه صلى الله عليه وسلم وعلى وجه الندب، فإذا فعلوا قبل ذلك جاز لقصة أسماء وقصة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وخلاصة القول: أن الذي يصل إلى منى عند طلوع الصبح له أن يرمي ثم يصلي الصبح، وله أن ينتظر -وهذا الأفضل- إلى أن يصلي الصبح ثم يرمي الجمرات بعد طلوع الشمس. فإذا وصل الضعفاء من النساء وغيرهن إلى منى قبل طلوع الفجر وبعد نصف الليل فالمستحب أن ينتظروا حتى تطلع الشمس ثم يرموا جمرة العقبة خروجاً من الخلاف الذي بين الأحناف وبين الجمهور في ذلك؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات، فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أبيني! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس). فهذا نهي من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الإرشاد، بمعنى: يكره لكم ذلك، فلا تفعلوا إلا بعد طلوع الشمس، والسبب في قولنا يكره ذلك، أو وجه أنه يندب أن يرمى بعد طلوع الشمس ما جاء في قصة أسماء، وقصة عبد الله بن عمر المتقدمتين. ولا بأس أن يرموا جمرة العقبة بعد صلاة الصبح وقبل زحمة الناس؛ لأن الزحام يكون شديداً بعد ذلك، فيحطم الناس بعضهم بعضاً عند الرمي، فمن التيسير في الشريعة أنه إذا وصل إلى جمرة العقبة بعد صلاة الصبح بسبب الزحام وخاصة في زماننا هذا فله أن يرميها. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (وددت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة فأصلي الصبح بمنى فأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس)، فالسيدة عائشة تتمنى أن لو كانت فعلت كما فعلت السيدة سودة رضي الله عنها، ولم تقل: بعد طلوع الشمس ولا غيره، بل قالت: أصلي الصبح فأرمي قبل أن يأتي الناس، فهنا ترتيب وتعقيب، فالناس سيخرجون من المزدلفة متوجهين إلى منى، فمنهم من صلى الصبح وانطلق، ومنهم من مشى قبل ذلك وصلى في الطريق أو صلى هنالك، فقيل لـ عائشة: (فكانت سودة استأذنته؟ قالت: نعم، إنها كانت امرأة ثقيلة ثبطة) أي: إن جسمها ثقيل وكانت بطيئة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لها صلوات الله وسلامه عليه، فالسيدة عائشة كأنها علمت من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز لمن يصل إلى هنالك وقت الصبح أن يصلي الصبح ويرمي الجمرة. وفي رواية أخرى للنسائي (وددت أني استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة فصليت الفجر بمنى قبل أن يأتي الناس، وكانت سودة امرأة ثقيلة ثبطة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لها، فصلت بمنى ورمت قبل أن يأتي الناس). وفي الصحيحين عن سالم قال: (كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعاف أهله فيقفون عند المشعر الحرام بمزدلفة بليل فيذكرون الله ما بدا لهم، ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منىً لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرات). فالذي يقدم قبل صلاة الفجر عليه أن يرمي الجمرة قبل أن يصلي، والذي يقدم بعد ذلك عليه أن يرمي الجمرة ويصلي، (وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فهذا حكم الضعفاء، فأما غيرهم فالسنة في حقهم أن يمكثوا بمزدلفة حتى يصلوا الصبح هنالك ثم يقفون عند المشعر الحرام ويدعون الله، وقبل الإسفار ينطلقون إلى منى. فإذا طلع الفجر بادر الإمام والناس بصلاة الصبح في أول وقتها والمبالغة في التبكير بها في هذا اليوم آكد من باقي الأيام، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين: جمع بين المغرب والعشاء، وصلى الفجر قبل ميقاته)، وليس المقصود أنه غير وقت الصلاة وصلاها في وقت آخر، ولكن المقصود هنا أنه ليس من عادته أن يصلي الفجر بعد الأذان وركعتي السنة مباشرة، فهذا لم يحصل من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا في هذا الوقت، ولا تظن أن قوله: (قبل ميقاتها) أي: أنه صلى الفجر بليل، فهذا ينافي معنى الفجر، فالفجر بمعني: انفجر شعاع الشمس فخرج فوق الأفق فكان وقت الفجر، فهو صلى الفجر على أول وقتها عليه الصلاة والسلام؛ ليتسع الوقت لوظائف هذا اليوم من المناسك فإنها كثيرة، فليس في أيام الحج أكثر عملاً منه، فلو أنه أطال صلاة الفجر وصلاها كعادته وانتظر حتى يجتمع الناس من كل مكان إلى أن ينظر الإنسان إلى جليسه، يضاق الوقت على المناسك المشروعة في ذلك اليوم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أعمال يوم النحر [1]

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - أعمال يوم النحر [1] في يوم النحر يرمي الحجاج جمرة العقبة، ثم يذبحون الهدي، ثم يحلقون أو يقصرون، ثم يطوفون طواف الإفاضة، هكذا رتبها النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أتى بها مرتبة هكذا فقد أصاب السنة، ومن قدم شيئاً على شيء فلا حرج عليه وحجه صحيح.

أعمال يوم الثامن والتاسع

أعمال يوم الثامن والتاسع الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. وصلنا في الكلام على مناسك الحج إلى مسألة ذكر الله سبحانه عند المشعر الحرام، وذكرنا أن مناسك الحج يبدأ بها الحاج من يوم التروية، فيبدأ بالإحرام للحج إذا كان متمتعاً بالعمرة إلى الحج، أو جاء في هذا اليوم محرماً بالحج، فيتوجه إلى منى في يوم التروية، ويصلي هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيت تلك الليلة وهي ليلة عرفة فيصلي الفجر بمنى، ثم يخرج من منى إلى عرفات، وهناك يصلي الظهر والعصر ويشهد خطبة عرفة، ويمكث في عرفات من الزوال حتى غروب الشمس في ذكرٍ لله سبحانه وتعالى، ويكثر من الدعاء والتلبية، ومن الانشغال بعبادة الله سبحانه في هذا اليوم. وإذا غربت الشمس يفيض الحجيج من عرفات إلى المزدلفة، فمتى وصل إلى المزدلفة صلى هنالك المغرب والعشاء جمع تأخير، وكان قد صلى الظهر والعصر مع الإمام في عرفات وجمعهما جمع تقديم، وأما المغرب والعشاء فيصليها في المزدلفة جمع تأخير، ثم يبيت هذه الليلة في المزدلفة، والسنة أن يبيت فيها حتى الفجر، ثم بعد أن يصلي الفجر يقف عند المشعر الحرام، ويذكر الله سبحانه وتعالى إلى وقت الإسفار. ويجوز للضعفاء من النساء ومن معهم أن يخرجوا في هذه الليلة بعد منتصف الليل، فهم قد أمضوا نصف الليل الأول في الطريق وفي المزدلفة، وبعد نصف الليل بفترة يخرجون إلى منى، والأفضل أن يبيت الجميع هنالك بحسب ما يتيسر لهم، لكن المهم أن الحاج إذا بات بمزدلفة فلا يخرج منها قبل نصف الليل الثاني، وهنا لا بد أن يكون الخروج بعد منتصف الليل الأول، فإذا تعجل في الانصراف فليكن قد مضى عليه على الأقل نصف الليل الأول، ودخل في النصف الثاني من الليل، ثم بعد ذلك ينصرف إلى منى.

الوقوف عند المشعر الحرام ووقته

الوقوف عند المشعر الحرام ووقته وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت في المزدلفة إلى الفجر، ويصلي الفجر في أول وقتها، ثم يقف عند المشعر الحرام، وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم على جبل قزح وذكر الله سبحانه وتعالى. فإذا صلوا الصبح توجهوا إلى المشعر الحرام عند جبل اسمه (قزح)، وهو جبل صغير معروف في آخر المزدلفة، فيتوجه إليه حتى يصعد عليه إن أمكنه وإلا وقف عنده أو تحته، ويقف مستقبل الكعبة، فيدعو ويحمد الله ويكبره ويهلله ويوحده، ويكثر من التلبية. وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر في المزدلفة في أول وقتها؛ لأنه سيخرج قبل الشروق من المزدلفة متوجهاً إلى منى، فيجد وقتاً للدعاء بين صلاة الفجر وبين الإسفار، وحتى يخرج صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى منى مخالفاً لما كان عليه المشركون، إذ كانوا يخرجون إلى منى بعد طلوع الشمس، فخالفهم وخرج قبل طلوع الشمس عليه الصلاة والسلام. ووقوف الرسول عند المشعر الحرام حيث أمكنه ينطبق عليه في حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف). والغرض: بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا وقف في مكان فلا يشترط أن كل الحجاج يقفون في المكان نفسه، فإنه لا يكفيهم ذلك الموضع، وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم أسفل جبل الرحمة، وقال لنا: (عرفة كلها موقف)، أي: في أي موقف من عرفة وقفت فيه أجزأك. كذلك وقف النبي صلى الله عليه وسلم في جمع على جبل قزح، وقال: (وجمع كلها موقف). وجمع: هي المزدلفة، والمراد: وقفت على قزح وجميع المزدلفة موقف، لكن أفضلها قزح، كما أن عرفات كلها موقف، وأفضلها موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن السنة أن يبقوا واقفين على قزح للذكر والدعاء إلى أن يسفر الصبح جداً، أي: إلى أن يتحول لون السماء من لون السواد إلى اللون الأزرق، ويصبح كل إنسان يرى من بجواره، فقبل أن تطلع الشمس وقبيل طلوع الشمس ينصرفون إلى منى. ولو تركوا هذا الوقوف فاتتهم الفضيلة، ولكن هذا الوقوف ليس من واجبات الحج، وليس من أركان الحج، فلا إثم عليهم في الترك، ولكن خالفوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا تركوا هذا الوقوف.

الدفع إلى منى ووقته

الدفع إلى منى ووقته إذا أسفر الفجر فالسنة أن يدفعوا من المشعر الحرام متوجهين إلى منى، ويكون ذلك قبل طلوع الشمس، ولهم أن يدفعوا بعد طلوع الشمس، فلو أنهم فعلوا ذلك فلا إثم عليهم ولكن يكره؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يصنعون ذلك. يقول عمرو بن ميمون: شهدت عمر رضي الله عنه بجمع يصلي الصبح، ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير، وإن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم فأفاض قبل أن تطلع الشمس. وجبل ثبير هو جبل في المزدلفة على يسار الذاهب إلى منى، وكان الكفار ينتظرون طلوع الشمس على هذا الجبل، ويقولون: (أشرق ثبير كيما نغير)، فينصرفون، وكأن الإغارة بمعنى: الإسراع في العَدوْ، أو الإغارة بمعنى: النهب والمعنى: ينهبون لحوم الأضاحي واللحوم المنحورة في هذه الأيام، فكأنهم يتعجلون لأكل اللحم أو للتوجه إلى منى، فالنبي صلى الله عليه وسلم خالفهم في ذلك، وأفاض قبل طلوع الشمس صلوات الله وسلامه عليه. ويندفع الحاج إلى منى وعليه السكينة والوقار، فإن وجد فرجة أسرع، ويكون شعاره في دفعه التلبية والذكر خصوصاً في أماكن المشاعر، ويرفع صوته بذكر الله سبحانه والتلبية والتكبير لله سبحانه وتعالى. وليجتنب الإيذاء والمزاحمة، وليمش وعليه السكينة؛ لما روى الفضل بن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس عشية عرفة وغداة جمع حين دفعوا: عليكم بالسكينة). وقد كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يسير العنق، وفي ذلك يقول أسامة رضي الله عنه: (كان يسير العنق)، أي: يمشي بلطف وسكينة، قال: (فإذا وجد فجوة أو فرجة نص)، أي: أسرع، وهذا بحسب المكان، فإذا كان المكان واسعاً فيسرع، وإذا كان المكان ضيقاً فيمشي بلطف وتمهل عليه الصلاة والسلام. قال: (فإذا بلغ وادي محسر فحرك قليلاً)، ووادي محسر هو الوادي الذي حسر فيه الفيل وأصحابه وأهلكهم الله عز وجل هنالك، ولذا فإن السنة في أماكن العذاب أن يسرع الإنسان فيها. ويستحب في هذا المكان أن يحرك الحاج الدابة قدر رمية حجر، بمعنى: لو أمسكنا بحجر وخذفنا به فوصل إلى مكان، فتكون المسافة من مكان الرمي إلى مكان وصول الحجر هي مسافة بقدر رمية حجر. ووادي محسر ليس من مزدلفة ولا من منى، بل هو واد بين الاثنين، ويستحب الإسراع فيه كما ذكرنا.

رمي جمرة العقبة في منى يوم النحر

رمي جمرة العقبة في منى يوم النحر وفي حديث جابر الذي في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بطن محسر فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى)؛ لأنه في هذا اليوم سيرمي الجمرة الكبرى. والجمرات ثلاث: الصغرى، والوسطى، والكبرى، فهو سيسلك هنا الطريق التي يأتي منها على الجمرة الكبرى، فيرمي الجمرة الكبرى فقط في هذا اليوم وهو يوم النحر. فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها، وتكون الحصى مثل حصى الخذف، ويأخذ حجر الرمي من بطن الوادي وبعدها ينصرف إلى المنحر. إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المزدلفة متوجهاً إلى منى، ووصل إلى الجمرة الكبرى، ورمى هذه الجمرة في هذا اليوم فقط بسبع حصيات من بطن الوادي. ولذا فقد روى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى وادي محسر قرع ناقته فخبت حتى جاوز الوادي). ثم يخرج من وادي محسر سائراً إلى منىً؛ لحديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بطن محسر فحرك قليلاً ثم سلك الطريق التي تخرج إلى الجمرة الكبرى). فمن وادي المحسر سيصل إلى منى ويرمي الجمرة الكبرى. يقول جابر فيما رواه مسلم: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر وهو يقول: لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه). فالنبي صلى الله عليه وسلم علمهم ماذا يفعلون فقال: (خذوا عني مناسككم)، فكما يفعل صلى الله عليه وسلم يفعلون، وهو بدأ برمي جمرة العقبة، وهذا الرمي واجب من واجبات الحج. وقد ذكرنا قبل ذلك أركان الإحرام وهي: عقد النية أو عزمها، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة. ولكن السعي بين الصفا والمروة فيه خلاف: هل هو ركن من الأركان، أو هو واجب من الواجبات؟ وأما رمي الجمرات فهو واجب من الواجبات، فيجبر هذا الواجب بدم، فإذا ترك رمي الجمرات كلها فعليه دم، وإذا ترك بعضها فعليه جزء من الدم.

عدد حصى الرمي والسنة فيها

عدد حصى الرمي والسنة فيها وأما حصى الرمي فيجوز أن يأخذ من المزدلفة سبع حصيات لرمي جمرة العقبة يوم النحر، ويجوز من أي موضع ومن أي مكان يتيسر له، فإن تيسر له جمعه من المزدلفة جمع، وإن تيسر له جمعه من منى جمع، ويجوز من أي مكان يأخذ هذا الحصى ويرمي به كما سيأتي. والسنة أن تكون الحصى صغاراً بقدر حبة الفول لا أكبر ولا أصغر، ويكره أن تكون الحصى أكبر من ذلك. يقول الإمام النووي رحمه الله: إن رمي هذه الجمرات يكون بحصى قدر حصاة الخذف أصغر من الأنملة طولاً وعرضاً. وذلك بقدر حبة الفول أو أصغر منها، هذا هو المستحب فيها. وأخذ الحصى -كما قلنا-: يكون من أي موضع، ولكن ذكر الإمام النووي أنه يكره من أربعة مواضع -يكره ولا يحرم- فيكره أن يأخذ من حصيات المسجد، ويكره أن يأخذ من الحل وهو في الحرم، وكذلك يكره أن يأخذ من موضع فيه نجاسة فينجس نفسه ويلوثها، ويكره أيضاً أن يأخذ من الجمار التي رماها هو أو غيره، والراجح أن هذا لا يحرم، ولكن لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم كانوا يرمون الجمرات ثم يأخذون من الحصى المجموعة ويخذفونها مرة ثانية، بل يأتي بها من الخارج أو من مكان بعيد. فهذه تكره ولا تحرم، ولو أنه فعل ذلك ورمى فرميه صحيح. روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته -والغداة: وقت الصباح- هات القط لي)، فهذا الأمر لـ عبد الله بن عباس رضي الله عنه، قال: (فلقطت له حصيات هن حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده. قال: بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين). وهذه الحصى هي كالتي يلعب بها الأطفال، ولا يرمي بحصيات كبار بحيث لا يجرح الناس بعضهم بعضاً.

وقت رمي جمرة العقبة

وقت رمي جمرة العقبة والمستحب ألا يرمي إلا بعد طلوع الشمس؛ وذلك لما روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله وقال: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس)، وقد قدمنا في الحديث السابق الخلاف في ذلك، وعليه فالمستحب أن يرمي الجمرات بعد طلوع الشمس. ولو أنه رمى قبل طلوع الشمس ما بين الفجر وبين طلوع الشمس فذلك عند الأئمة الأربعة جائز ولا شيء عليه. ولو أنه رمى بالليل فعند الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد أن هذا مجزئ طالما أنه بعد النصف الثاني. وعند أبي حنيفة أنه لو رمى بالليل فإنه يعيد حتى يرميها بعد طلوع الفجر، أو بعد طلوع الشمس. وأما عند الأئمة الثلاثة فإنه يجزئ أن يرميها بالليل طالما أنه مضى عليه نصف الليل الأول، وكان هذا الرمي في النصف الثاني من الليل.

صفة الرمي

صفة الرمي والمستحب أن يرمي من بطن الوادي وأن يكبر مع كل حصاة، وكلمة (الوادي) المراد بها: المكان الذي بين الجبلين، أو المكان المتسع المنفسح الذي يقال: هذا فيه مسيل الوادي، أو مسيل الماء الذي فيه. وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه (أنه رمى جمرة العقبة فاستبطن الوادي)، واستبطن الشيء بمعنى: دخل في بطنه، والمعنى: أنه لم يكن في مكان بعيد من الوادي، أو على حرفه، بل من داخله قريباً من الجمرات، فاستبطن الوادي بمعنى: دخل في بطنه. (حتى إذا حاذى الشجرة اعترضها، أي: جعلها أمامه بالعرض، فرمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم قال: من هاهنا والذي لا إله غيره قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم). وفي رواية أخرى: (أن عبد الرحمن بن يزيد حج مع ابن مسعود رضي الله عنه، فرآه يرمي الجمرة الكبرى بسبع حصيات، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة)، فالجمرة الكبرى أقرب إلى مكة. وأما عند رمي الجمرتين الأولى والثانية في الأيام الآتية فسيكون مستقبلاً للقبلة وهو يرميها، لكن لو رمى جمرة العقبة فستكون القبلة عن يساره ومنى عن يمينه، فمنى سيكون بجوارها وليس مستقبلاً لها من أمامها؛ إذ لو أنه استقبلها من أمامها فسيكون ظهره لمكة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يساره لمكة وجعل يمينه لمنى، وجاء من جانبها ورماها بسبع حصيات، ومن أي موضع رمى أجزأ طالما أنه رمى إلى داخلها. قال: (لما أتى عبد الله جمرة العقبة استبطن الوادي واستقبل القبلة، وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن، ثم رمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم قال: والله الذي لا إله إلا هو من هاهنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم). وفي حديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الجمرة التي عند الشجرة -أي: يوم النحر- فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها، والحصى مثل حصى الخذف، فرمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر). وعندما يرمي جمرة العقبة الكبرى فلا يقف للدعاء عندها في اليوم الأول من أيام التشريق واليوم الثاني واليوم الثالث، لكن عندما يرمي الجمرة الأولى والثانية فسيقف عندها للدعاء، ويستحب أن يكبر مع رمي كل حصاة. ويستحب أن يرفع يده؛ لأن هذا رمي وليس وضعاً، فيرفع يده ويكون كهيئة الرامي. ويسن أن يكون الرمي بيده اليمنى، فلو رمى بيده اليسرى أجزأ؛ لحصول الرمي، ولكنه خلاف السنة.

انتهاء التلبية عند الرمي

انتهاء التلبية عند الرمي ويقطع التلبية مع أول حصاة يرمي بها الجمرات، فقد كان الرسول يلبي إلى الوقت الذي هو ذاهب فيه لرمي الجمرات ولا يزال يلبي، فإذا بدأ يرمي فيكبر الله عز وجل ويقطع التلبية عند ذلك. ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن أسامة رضي الله عنه كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، قال: فكلاهما قال: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة)، والمفهوم أنه قطع التلبية بعدما رمى عليه الصلاة والسلام؛ لأن التلبية للإحرام، فإذا رمى فقد شرع في التحلل، فتنتهي التلبية ويبدأ في التكبير. ولا يجوز الرمي للجمار إلا بالحصى والأحجار، فإن رمى بغير الأحجار من طين يابس أو خزف لم يجزئ؛ لأنه لا يقع عليه اسم الحجر، فإن رمى بحجر كبير أجزأه؛ لأنه يقع عليه اسم الحجر، ويكره له ذلك. ولا يجزئ أخذ قطعة حديد لرمي الجمرات بها؛ لأن رمي النبي صلى الله عليه وسلم كان بالحصى وقال: (بمثل هذا فارموا)، فلابد من الرمي بمثل ما رمى به النبي صلى الله عليه وسلم.

أعمال يوم النحر

أعمال يوم النحر الأعمال المشروعة للحاج بعد وصوله منى أربعة أعمال: رمي جمرة العقبة، وذبح الهدي، وحلق الشعر، وطواف الإفاضة، فهذه الأربعة الأعمال التي يفعلها في هذا اليوم. وقد ذكرها هنا على الترتيب، وأما الذبح فإن أكثر الحجاج اليوم لا يذبحون بأيديهم، بل يشترون، وهذا جائز، وهو من التوسعة في هذا المكان، فلضيق المكان وكثرة الحجيج يصعب على كل واحد أن يذبح في مكانه، وإن كان هذا ممكناً في الماضي لكل أحد أن يذبح، ويضع الذبائح في مكانها، والذي يأخذ منها شيئاً يأخذ ما يشاء، وقد لا ينتفع بالشيء الآخر، وأما الآن فالأمر أسهل، فإن الحاج يدفع ثمن الشيكات، والبنك يأخذ الثمن ويشتري الأنعام ويذبحها وينظفها، ويوزع على المحتاجين من أهل مكة، ويعطيها المحتاجين من المسلمين، فيكون الأمر كأنه وكل غيره في الذبح عنه. إن الحاج سيرمي جمرة العقبة، وبعد ذلك يذبح إذا تيسر، والآن دفع شيكاً فيصير لا ذبح عليه؛ لأن وكيله يذبح عنه، ثم يحلق شعره، وهذا من السنة، ويجوز له أن يقصر، ثم يطوف طواف الإفاضة وهو طواف الركن.

عدم وجوب ترتيب أعمال يوم النحر

عدم وجوب ترتيب أعمال يوم النحر وترتيب هذه الأربعة الأفعال من السنة، فيبدأ برمي جمرة العقبة، فلو خالف وبدأ بحلق شعره، أو بدأ بطواف الإفاضة، أو بدأ بالذبح، فهذا الترتيب سنة وليس فرضاً، فلا يلزمه شيء بالمخالفة في الترتيب. ولو طاف قبل أن يرمي، أو ذبح في وقت الذبح قبل أن يرمي جاز ولا فدية عليه، ولكن فاته الأفضل. ولو حلق قبل الرمي والطواف لم يلزمه الدم؛ لأن الحلق نسك. والسنة أن يرمي بعد ارتفاع الشمس قدر رمح، أي: في وقت صلاة الضحى، ثم يذبح ثم يحلق، ثم يذهب إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، ويكون الطواف بالبيت في وقت الضحى. ولا حد لنهاية وقت الطواف والحلق، فلو لم يطف في اليوم الأول فإنه سيطوف في اليوم الثاني، أو في اليوم الثالث، بل لو أنه تعسر عليه ومرض ونقل إلى مستشفى ومكث فيه مدة، فإن الطواف ما زال يلزمه، فلا حد لوقت الطواف، وكذلك الحلق، فلو أنه نسي الحلق حتى رجع إلى بلده فتذكر أنه لم يحلق فيلزمه أن يحلق، فيمتد وقتهما ما دام حياً، وإن مضى عليه سنون متطاولة، وكذلك السعي.

حكم الرمي ووقته

حكم الرمي ووقته رمي جمرة العقبة واجب وليس ركناً، فلو تركه حتى فات وقته صح حجه ولزمه دم. ويمتد وقت الرمي إلى الليل، وهذا من التيسير في الشريعة، فلو أن الوقت ضاق على الحجاج بسبب شدة الزحام فقد جعلت الشريعة الأمر واسعاً في هذا اليوم، فيمتد وقت الرمي من وقت الضحى إلى المساء، وكلمة (مساء) جاءت في الحديث الذي عند البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فيقول: لا حرج، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ فقال: لا حرج، اذبح ولا حرج. قال: رميت بعدما أمسيت. قال: لا حرج)، فالسائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمى بعد أن دخل عليه وقت المساء. والمساء يطلق في اللغة على الوقت الذي هو من بعد الظهر حتى المغرب، وقال بعضهم: بل يمتد إلى نصف الليل، فعلى هذا فالأمر واسع في الرمي بحسب ما يتيسر للإنسان، فإن تيسر له في النهار رمى، فإن لم يتيسر رمى في الليل، المهم أنه يرمي بعد الوقت المشروع في يوم العيد، أما وقت الرمي بالنسبة للإنسان المعذور من نساء وغيرهم فعلى قول جمهور أهل العلم: أن الضعفاء من النساء وغيرهم إذا انصرفوا من مزدلفة وأفاضوا إلى منى وقت وصولهم بعد منتصف الليل فلهم أن يرموا بمجرد الوصول، وهذا الأمر فيه سعة؛ لشدة الزحام الموجود في هذه الأيام.

شروط الرمي وآدابه

شروط الرمي وآدابه ويشترط في الرمي أن يفعله على وجه يسمى رمياً؛ لأنه مأمور بالرمي، فاشترط فيه ما يقع عليه اسم الرمي، فلو أن إنساناً وصل إلى أمام المرمى وأخذ الحصى ووضعها فهذا ليس رمياً. ويشترط في الرمي أن يقع في المرمى نفسه، وأحياناً بعض الناس يكلف نفسه ويرمي في العمود الذي أمامه، والرمي إنما يكون في الجمرة الكبرى، وبعضهم عند رمي الجمرة الصغرى والوسطى يرى عموداً ويشغل نفسه برميه، وهذا ليس بسنة؛ بل السنة أن يرمي في المرمى نفسه وليس في هذا العمود الذي أمامه. ولا يشترط بقاء الحجر في المرمى، ولا يكلف نفسه عند رمي الحصى أن ينظر إلى الحصى التي رماها هل وقعت في المرمى أو لا، بل يكفي أنه فعل الذي عليه ولا شيء عليه بعد ذلك، مع أنه يستحيل أن يرى الحصى الآن من شدة الزحام. ولو صدمت الحصى المرمية بالأرض خارج الجمرة أو في الطريق، أو عنق بعير، أو ثوب إنسان، ثم ارتدت فوقعت في المرمى أجزأه، وكذلك لو فرضنا أن الحصى وقع في شيء ثم طار منه ونزل إلى المرمى أجزأه أيضاً. وهذا مفيد الآن، مع أنه كان في الماضي تقع الحصى في رأس إنسان وتطير وتنزل في المرمى، والآن الذي يرمي من الدور الثاني فيمكن أن تقع في مكان أو تطير إلى مرمى الذي هو فوق، ومنه سترد في مكان آخر وتنزل إلى المرمى. ولو رمى حصاة إلى المرمى وشك هل وقعت فيه أم لا، فيعمل على الأصل وهو أنها لم تقع فيه، وكثير من الحجاج يكلف أن يعرف هل وقعت في المرمى أو لا وبينه وبين المرمى خمسون متراً، ويمسك الحصى ويخذفها. وفي السنة التي مضت رأيت شخصاً يمسك حصى في يده، وهو مغمض عينيه ويحذف بالحصى وبينه وبين المرمى مكان بعيد يستحيل أن تصل إليه، وهذا خطأ، وللأسف عندما تنبه البعض على هذا الخطأ يقول لك: ربنا غفور رحيم، هذا قد عمل الذي عليه، مع أن هذا خطأ، ولابد أن يقرب من المرمى ويرمي، ويحرص على ألا يؤذي الناس، فربما تأتي في رأس إنسان أمامه، وهذا حرام. وكذلك لا يجزئه الرمي عن قوس، ولا الدفع بالرجل؛ لأنه لا ينطبق عليه اسم الرمي. والرمي عبادة، فيجب على الذي يفعلها ألا يستهين بالعبادة أو يفعل أفعال المستهزئين، وتلك الأماكن أماكن عبادة، فلا بد للإنسان أن يكون فيها في غاية التواضع وفي غاية الخشوع، ولا يفعل أفعالاً تدل على أنه من المستهزئين. وبعضهم يظن أن هذا الأفعال التي يفعلها يرمي بها الشيطان أو أنه يهينه، وهذا من الخطأ، فأنت في الرمي إنما تتبع ملة إبراهيم كما أمرنا ربنا سبحانه وتعالى في رمي الجمرات، وأما أنك ترمي بشيء لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم فهذا خطأ. ويشترط أن يرمي الحصيات متفرقات، فلو رمى حصاتين أو سبعاً دفعة فإن وقعن في المرمى في حالة واحدة، أو ترتبن في الوقوع حسبت حصاة واحدة، أي: أن الرمي محسوب بأنك حركت يدك، فإن حركتها بالرمي مرة واحدة فهذه رمية، أو حركتها ورميت بحصى واحدة دفعة فهي رمية، أو رميت بعشرين حصاة دفعة فهي أيضاً واحدة. فيجب في الرمي سبع حصيات في سبع مرات، كل مرة بحصاة واحدة. ولا تشترط الموالاة بين الحصيات، ولا الموالاة بين جمرات أيام التشريق، ولكن تستحب الموالاة، فلو رمى أربع حصيات، ثم تعب من الزحام فخرج ليستريح وبعدها رجع وبقي عليه ثلاث، فليرم بها ولا شيء عليه، حتى لو أخر هذه الثلاث من وقت الظهر مثلاً إلى وقت العصر أكمل الباقي ولا تشترط الموالاة. وكذلك الموالاة بين الجمرات، فلو أنه في ثاني يوم من أيام العيد رمى الجمرة الصغرى، فتعب ورجع إلى الخيمة ثم جاء لرمي الجمرتين الوسطى والأخرى وقت المغرب أو العصر ورمى الباقي فلا شيء عليه. وإذا فرغ من رمي الجمرة يوم النحر لم يقف عندها؛ لأنه في اليوم الثاني والثالث والرابع سيرمي الجمرة الأولى ويقف للدعاء عندها وكذلك الجمرة الثانية. وأما الجمرة الثالثة فلا يقف عندها للدعاء، وهي التي يرميها في أول يوم، وهي جمرة العقبة الكبرى.

نحر الهدي

نحر الهدي بعد أن يكل الحاج الرمي ينحر الهدي إذا كان معه هدي وكان هو الذي سينحر؛ لما روى مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الجمرة التي عند الشجرة -أي: يوم النحر- فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها، والحصى مثل حصى الخذف، فرمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر). ويجوز النحر في جميع منى وفي أي موضع من منى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (منىً كلها منحر). فإن لم يكن معه هدي وعليه هدي واجب اشترى من مكانه، ولا يشترط أن يسوق الهدي من بلده إلى مكان النحر، بل يشتري من هنالك إن تيسر، وإذا لم يتيسر فليدفع الثمن إلى البنك في شيك من الشيكات. وإن لم يكن عليه هدي واجب فأحب أن يضحي، كأن يكون قام بعمرة في رمضان، وبعد ذلك حج في أيام الحج، فهذا يعتبر مفرداً للحج، وليس عليه هدي واجب، بل يستحب أن يضحي أضحية، فهنا يجوز له أن يفعل، وقد قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان الواجب عليه في قرانه أن يذبح شاة واحدة، ومع ذلك نحر النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة تجزئ عن سبعمائة، فهذه المائة بدنة كسبعمائة شاة، فكل بدنة بسبع شياه. روى مسلم عن جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده)، أي: بيده الكريمة عليه الصلاة والسلام نحر ثلاثاً وستين بدنة، قال: (ثم أعطى علياً فنحر ما غبر، وأشركه في هديه)، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرك علياً معه عليه الصلاة والسلام. ويستحب للرجل أن يتولى ذبح هديه وأضحيته بنفسه وينوي عند ذبحها، فإن كان منذوراً نوى الذبح عن هديه أو أضحيته المنذورة، وإن كان تطوعاً نوى التقرب، ولو استناب في ذبحه جاز، وهذه الاستنابة أو التوكيل في الذبح قد تكون لإنسان يذبح لك، أو أن توكل البنك في أن يقوم مكانك بذلك.

وقت ذبح الهدي

وقت ذبح الهدي وقت ذبح الهدي هو وقت الأضحية، ووقت الأضحية هو بعد صلاة العيد، وإن كان الحجيج لا يوجد صلاة عيد بالنسبة لهم، ففي هذا الوقت يكونون قد رموا الجمرة، وبعد ذلك يكون النحر. ويختص النحر بيوم العيد وأيام التشريق، ويدخل وقته بعد طلوع شمس يوم النحر ومضي صلاة العيد والخطبتين، ويخرج بخروج أيام التشريق، أما الحاج فليس عليه صلاة عيد، ولكن يضبط دخول وقت النحر بمثل هذا القدر. وأما إن خرجت أيام التشريق ولم يذبح وعليه نذر أضحية، أو نذر هدي فعليه أن يذبح قضاء؛ لأن هذا نذر واجب. وأما إذا كان تطوعاً فالأفضل أن يذبح، سواء كانت الأضحية تطوعاً أو الهدي تطوعاً أيضاً، فيستحب أن يذبح فيطعم الفقراء، ولكن في الأضحية لا تعتبر أضحية.

مكان النحر

مكان النحر وذبح الهدي يختص بالحرم ولا يجوز في غيره، والهدي: هو ما يهدى إلى الكعبة، فلا يكون ذلك بأن يذبحها خارج الحرم، بل هذا يختص بالحرم. والحرم كله منحر، فحيث نحر منه أجزأه في الحج والعمرة، ولكن السنة في الحج أن ينحر بمنى، ولو نحر بمكة جاز ذلك، وكذلك إن نحر في المزدلفة فهو جائز، ولكن الأفضل أن ينحر في منى.

الحلق أو التقصير

الحلق أو التقصير إذا فرغ الحاج من الرمي والذبح فليحلق رأسه أو يقصر، والحلق والتقصير ثابتان بالكتاب والسنة، فربنا سبحانه وتعالى يقول: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27]. وفي الصحيحين عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين فقال: اللهم ارحم المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين)، ذكرها في الثالثة أو في الرابعة. والأفضل أن يحلق جميع الرأس، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلق جميع شعره، وإذا قصر كان أيضاً يقصر من جميع شعره عليه الصلاة والسلام، فنحن نفعل كما فعل صلى الله عليه وسلم. وإن كان العلماء اختلفوا فقالوا: إن حَلْق جميع الشعر هو السنة، وأما الذي يجزئ في الفرض فقد اختلفوا فيه على أقوال: فـ الشافعي عنده أن أقل ما يجزئه في الحلق أن يحلق ثلاث شعرات، وأخذ هذا من الدلالة اللغوية في قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح:27]، أي: شعر رءوسكم، والشعر جمع والمفرد منه شعرة واحدة، وأقل الجمع ثلاث شعرات، فإذا حلق ثلاث شعرات وسمي حلقاً فيكون هذا هو الواجب، وما كان أكثر من ذلك فيكون سنة، هذا عند الشافعي. أما عند مالك، وأحمد: فالواجب حلق أكثر الرأس. وأما عند أبي حنيفة فالواجب حلق ربع الرأس. وعند أبي يوسف صاحب أبي حنيفة أن الواجب حلق نصف الرأس. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حلق شعره وقال: (لتأخذوا عني مناسككم). وجوز ربنا سبحانه وتعالى لهم التقصير، فلما حلق جميع رأسه عليه الصلاة والسلام ولم يحلق البعض تبين أن المنسك أن يحلق الشعر كله، أو أن يقصر من رأسه كله إذا كان مقصراً. إذاً: الأفضل أن يحلق جميع الرأس إن أراد الحلق، أو يقصر من جميعه إن أراد التقصير. وقد جاء في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (لما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة، ونحر نسكه، وحلق ناول الحالق شقه الأيمن فحلق)، أي: حلق الشق الأيمن كله، قال: (ثم دعا أبا طلحة الأنصاري رضي الله عنه فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر، فقال: احلق، فحلقه فأعطاه أبا طلحة وقال: اقسمه بين الناس)، والصحابة أخذوا ذلك الشعر تبركاً بشعر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهو صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، فهذا هو فعله وهو أنه حلق شعره كله صلى الله عليه وسلم.

هل الحلق والتقصير نسك أو تحلل من الإحرام؟

هل الحلق والتقصير نسك أو تحلل من الإحرام؟ والحلق والتقصير نسك في الحج والعمرة، وهناك خلاف يسير هل هو نسك أم هو تحلل من الإحرام؟ فذكر النووي أنه لم يقل أحد من العلماء أنه تحلل من الإحرام إلا الشافعي، فهذا نقل النووي رحمه الله، والظاهر أن قول الإمام أحمد أيضاً أنه تحلل من الإحرام. والصواب في هذه المسألة: أن الحلق نسك من المناسك وليس مجرد تحلل من الإحرام. وبناءً على ذلك: فلو أنه قدم الحلق قبل رمي الجمرة فلا شيء عليه، إلا أن نقول: إنه تحلل من الإحرام وهنا حلق قبل رمي الجمرة، والتحلل لا يكون إلا برمي الجمرة، فيكون عليه دم؛ لأنه تحلل من الإحرام قبل الأمر الشرعي وهو رمي الجمرة، لكن الصواب في ذلك أن الحلق نسك من المناسك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين. ولو كان الحلق مجرد تحلل من الإحرام وليس نسكاً لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لمن حلق، ولما ذكره الله عز وجل في كتابه: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27]. وقد جاء في الحديث: (من لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر، وليحلل، ثم ليهل بالحج)، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة عندما كانوا متمتعين أن يطوفوا بالبيت وأن يسعوا بين الصفا والمروة، قال: (وليقصر وليحلق)، فأمر بالتقصير. وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا). وأمر النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الوجوب، فيجب تنفيذ ما أمر به صلى الله عليه وسلم. وكذلك الآية: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27]، والتحليق لولا أنه من المناسك لقال ربنا سبحانه وتعالى لهم أن اصطادوا، أو البسوا ثيابكم، وإنما قال: {مُحَلِّقِينَ} [الفتح:27]، وهذا يدل أنه من المناسك أن يكون محلقاً، أو يكون مقصراً، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ترحم على المحلقين ثلاثاً، فدل على أن هذا الفعل عبادة، ولولا أنه عبادة لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لهم، ولأنه أمر أصحابه ففعلوه في جميع حججهم وعمرهم ولم يتركوه، فلو لم يكن من ضمن المناسك لكان على الأقل قد تركه بعضهم.

كيف يفعل من لا شعر له

كيف يفعل من لا شعر له فإن كان الشخص لا يوجد على رأسه شعر، بأن كان أصلعاً أو محلوقاً، أو اعتمر وحلق شعره، وجاء في يوم العيد ولا شعر في رأسه، فهذا يستحب له أن يمر بالموسى على رأسه كهيئة الحلق ولا يجب عليه ذلك؛ لأنه قربة تتعلق بمحلها، والمحل هنا هو الرأس والقربة تتعلق به، والمحل الآن لا يوجد فيه شعر، فسقطت هذه القربة بفوات المحل، كغسل اليد إذا قطعت، فعندما يتوضأ فالقربة تتعلق بمكان هذه اليد، والغسل لليد يتعلق بالعضو، والعضو هنا غير موجود، فيصبح الإمرار بالماء على مكان العضو سنة، ولو نبت شعره بعد ذلك لم يلزمه حلق ولا تقصير، وهذا بخلاف من كان فيه شعر ونسي يوم العيد فلم يحلق، ومضت عليه أيام التشريق ولم يحلق، فهذا في الوقت الذي يذكر فيه ذلك فيلزمه أن يفعله.

تقصير المرأة من شعرها

تقصير المرأة من شعرها وأما المرأة فيلزمها التقصير ولا يجوز لها أن تحلق شعرها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس على النساء حلق إنما على النساء تقصير). ويستحب للمرأة أن تقصر قدر أنملة، والأنملة طرف الأصبع، فتجمع شعرها في يدها، وتأخذ من آخره مقدار أنملة أو نحو ذلك.

حكم تقديم بعض أعمال يوم النحر على البعض الآخر

حكم تقديم بعض أعمال يوم النحر على البعض الآخر فإن حلق قبل الرمي فلا حرج، وكذلك إن قدم شيئاً من أعمال يوم النحر على غيره فلا حرج؛ لما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عمن حلق قبل أن يذبح ونحوه؟ فقال: لا حرج لا حرج). وفي رواية: (قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير. فقال: لا حرج). وفي رواية أخرى: (سئل يوم النحر عن رجل حلق قبل أن يرمي، أو نحر أو ذبح وأشباه هذا في التقديم والتأخير؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حرج لا حرج). وجاء أيضاً في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح. فقال: اذبح ولا حرج. فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ فقال: ارم ولا حرج. فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج). فكان ذلك اليوم يسمى يوم لا حرج؛ لأنه يوم رخص النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ورفع عن الناس بأمر الله سبحانه. وفي حديث آخر رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة)، أي: يوم النحر عند الجمرة الكبرى، (قال: يا رسول الله! إني حلقت قبل أن أرمي)، أي: وكان الأصل أن يرمي أولاً، ولكنه حلق قبل ذلك. فقال: (ارم ولا حرج)، فدل ذلك على أن الحلق نسك، وأنه لو كان تحللاً من الإحرام فيكون قد تحلل من حجه قبل أن يرمي، وهذا لا يجوز له، فكونه يقول له: (ارم ولا حرج)، فهذا فيه دليل على أن أياً من المناسك قدم على الآخر فلا حرج عليه، وفيه دليل أيضاً على أن الحلق والتقصير نسك، قال: (وأتاه آخر فقال: إني ذبحت قبل أن أرمي؟ فقال: ارم ولا حرج. وأتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج. فما رأيته سئل يومئذ عن شيء إلا قال: افعلوا ولا حرج). فجملة الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنهم سألوا عن الحلق قبل الذبح، فقال: (لا حرج)، وسألوا عن الحلق قبل الرمي فقال: (لا حرج)، وسألوا عن النحر قبل الرمي فقال: (لا حرج)، وسألوا عن الإفاضة قبل الرمي، فهذه أربعة أشياء سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم قدموا أشياء على أشياء، وفي كل ذلك يقول: (افعلوا ولا حرج). ولا يحصل الحلق إلا بشعر الرأس، فلو أن الإنسان لم يحلق شعر رأسه بل حلق شعر لحيته مثلاً فهذا حرام لا يجوز له، وليس هذا تحللاً من الإحرام، فلا يحصل له تحلل من الإحرام بهذه المعصية التي يفعلها، وإنما يجب عليه أن يفعل نسكاً من المناسك بأن يحلق شعر رأسه. وكذلك إذا حلق شعر بدنه أو شعر إبطه أو عانته فهذا ليس داخلاً في التحلل من المناسك، وإن كان يجوز له أن يفعل ذلك بعد أن يحلق شعر رأسه، لكن الحلق المقصود في الحديث والمقصود في الآية هو حلق شعر الرأس. والمراد بالحلق والتقصير: إزالة الشعر، فيقوم مقامه النتف، أو إذا عمل طلاءً مزيلاً للشعر، أي: أن الإنسان يحلق بالموسى، أو بوضع كريم على رأسه مزيل للشعر، فيجزئ ذلك ولكن السنة هي الحلق، فإذا أزاله بأي شيء قام مقام الحلق. ويستحب أن يبدأ في حلق رأسه بحلق شق رأسه الأيمن من أوله إلى آخره، ثم الأيسر، ويستحب أن يستقبل المحلوق القبلة أثناء الحلق فيكون وجهه للقبلة، والحلاق يبدأ بالشق الأيمن قبل الشق الأيسر.

أعمال يوم النحر [2]

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - أعمال يوم النحر [2] من أعمال يوم النحر طواف الإفاضة، وهو ركن من أركان الحج لا يتم إلا به، وقد اختلف العلماء في وقته، وأن يكون في وقت الضحى كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والأفضل أن يكون بعد الرمي والذبح والحلق، وصفته كصفة طواف القدوم، إلا أنه لا رمل فيه ولا اضطباع، وطواف الوداع يغني عن طواف الإفاضة على القول الراجح، والسعي بين الصفاء والمروة ركن من أركان الحج على الراجح، ويكون السعي بعد طواف الإفاضة، ويستحب الشرب من ماء زمزم بعد الطواف.

طواف الإفاضة

طواف الإفاضة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ذكرنا مناسك الحج، وكيف أنه يبدأ الحاج بأول ركن من الأركان وهو الإحرام، والحج له أربعة أركان: الإحرام، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة. والحاج إما أن يكون مفرداً بالحج، وإما أن يكون قارناً بين الحج والعمرة، وإما أن يكون متمتعاً بالعمرة إلى الحج. فإذا كان مفرداً وبدأ بالإحرام فيظل على إحرامه حتى ينتهي من الطواف بالبيت، ويتحلل التحلل الأكبر بعد أن يرمي الجمرات ويطوف بالبيت. وإذا كان متمتعاً بالعمرة إلى الحج بدأ بمناسك العمرة حتى ينتهي منها فيصير حلالاً بعد ذلك، ويبدأ في إحرامه بالحج بعد ذلك في يوم التروية على تفصيل ذكرناه لمن يجد الهدي ومن لم يجد الهدي. والقارن شأنه شأن المفرد، فيحرم بالعمرة مع الحج، ويظل محرماً، فإذا أتى البيت وطاف فيكون طواف القدوم، وإذا سعى بين الصفا والمروة يكون السعي للعمرة وللحج معاً، ثم إذا جاء في يوم التروية أهل مع الناس وأدى مناسك الحج، ويتحلل إذا رمى الجمرة ثم طاف بالبيت كما سيأتي. وقد وقفنا في كلامنا على طواف الإفاضة، وطواف الإفاضة يكون في يوم العيد وهو يوم النحر. وقبله يوم التروية الذي ذهب فيه الحاج إلى منى، فيصلي بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، يقصر الرباعية ويصلي كل صلاة على وقتها، ويبيت في منى، والذهاب إلى منى في اليوم الثامن من سنن الحج وليس من فروضه ولا من أركانه. والمبيت ليلة عرفة بمنى من السنن، فإذا بات الحاج بمنى وأصبح صلى الفجر وانطلق إلى عرفات قبل صلاة الظهر فيدركه الوقت وهو في عرفات، فيصلي مع الإمام الظهر والعصر جمعاً وقصراً ويسمع خطبة عرفة ويظل من بعد الظهر حتى غروب الشمس يدعو الله سبحانه وتعالى على ما ذكرنا من تفصيل. فإذا غربت الشمس أفاض الحجيج من عرفة إلى المزدلفة، وصلوا بها المغرب والعشاء جمعاً ويقصرون العشاء ويبيتون في المزدلفة، والمبيت واجب في المزدلفة، والواجب منه حتى بعد منتصف الليل، ويرخص للضعفاء في الانطلاق من المزدلفة بعد منتصف الليل إلى منى. وإذا باتوا بالمزدلفة صلوا الفجر في أول وقتها، ثم يقفون عند المشعر الحرام عند جبل قزح أو في أي موقف من المزدلفة يدعون الله سبحانه حتى وقت الإسفار قبل شروق الشمس، فينطلقون مع وقت الإسفار إلى منى ويفيضون من هذا المكان إلى البيت. وإذا وصلوا إلى منى أول ما يبدءون به رمي جمرة العقبة الكبرى بسبع حصيات، ولا يرمون الصغرى ولا الوسطى. ومتى رموا جمرة العقبة الكبرى فقد شرعوا في التحلل الأصغر، فيحلقون شعورهم، وينحرون هديهم، ثم يتوجهون إلى البيت ليطوفوا طواف الإفاضة.

أسماء طواف الإفاضة

أسماء طواف الإفاضة والمستحب للحاج أن يذهب إلى البيت في وقت الضحى إن استطاع، فهذا طواف الإفاضة الذي أثني عليه، ويسمى بطواف الإفاضة، وطواف الركن، وطواف الصب، كل هذه من أسمائه. وكأنه مأخوذ من فاض الماء بمعنى: سال؛ لأن الحجيج يندفعون، وكل الحجيج يفعلون هذه المناسك، (فإذا أفضتم من عرفات) أي: اندفعتم وسرتم من عرفات جماعات كبيرة، ولذلك يقولون: إن الإفاضة هي الزحف والدفع في السير بكثرة، ولا يكون إلا عن تفرق عن جمع، فإذا اجتمع جمع ثم تفرق هذا الجمع إلى مكان فإنه يسمى إفاضة. وأصلها: من الصب، وأفاض الماء أي: صبه، فكأن الحجيج يفيضون كما يفيض الماء، فهم يندفعون من المزدلفة إلى منى، ومن منى يفيضون إلى البيت ليطوفوا طواف الإفاضة.

حكم طواف الإفاضة

حكم طواف الإفاضة إذا رمى الحاج ونحر وحلق أفاض إلى مكة، أي: توجه إلى مكة لطواف الإفاضة، وهو ركن في الحج للمفرد وللقارن وللمتمتع بالعمرة إلى الحج، ويسمى هذا الطواف: طواف الزيارة، وطواف الركن، وطواف الصدر؛ وسمي طواف الإفاضة بهذا الاسم لأن الحجاج اندفعوا من منى إلى البيت. ويسمى بطواف الزيارة لأن الحاج يزور البيت ثم يرجع إلى منى. ويسمى طواف الركن لأنه ركن في الحج. ويسمى طواف الصدر لأن الحاج يصدر عن البيت ولا يعود إليه. وهو ركن في الحج لا يتم الحج إلا به؛ لقول الله عز وجل: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] (وليطوفوا) بصيغة الأمر، وقرئت: (وليطُوفوا بالبيت العتيق) وفيها معنى الأمر أيضاً. قال ابن عبد البر: وهو من فرائض الحج، ولا خلاف في ذلك بين العلماء. فقد يوجد خلاف في السعي بين الصفا والمروة هل هو ركن أو واجب أو سنة، لكن طواف الإفاضة ركن اتفاقاً بين العلماء. وفي الصحيحين: (أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرت النبي أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم حاضت في حجة الوداع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحابستنا هي؟ فقلت: إنها قد أفاضت يا رسول الله). وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحابستنا هي؟) فيه دلالة على أنه لو لم تكن طافت طواف الإفاضة لحبسته حتى تطوف، أي: حتى تنقضي حيضتها، ففيه دليل على أنه لا يجوز أن ينفر الحاج حتى يطوف طواف الإفاضة. قالت عائشة رضي الله عنها: (إنها قد أفاضت يا رسول الله! وطافت بالبيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فلتنفر إذاً). وفيه دليل على أن طواف الوداع ليس واجباً على الحائض.

وقت طواف الإفاضة

وقت طواف الإفاضة ويدخل وقت هذا الطواف من نصف ليلة النحر، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، أو من بعد الفجر وهو مذهب الأحناف والمالكية، ولا شك أن أفضل الوقت وقت الضحى الذي طاف فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما رخص للضعفاء أن ينفروا بعد نصف الليل ليكملوا مناسك أخرى بعد ذلك، كالرمي وغيره، فإذا رموا الجمرة ذهبوا فطافوا بالبيت سواء كان قبل الفجر أو بعد الفجر، ولكن الأفضل أن يكون في وقت الضحى لمن استطاع، ويدخل وقت طواف الإفاضة من نصف ليلة النحر.

حكم من نسي طواف الإفاضة أو جهله

حكم من نسي طواف الإفاضة أو جهله ويبقى إلى آخر العمر لمن نسيه أو جهل حكمه فسافر إلى بلده ولم يأت به، ومن فعل ذلك لم يزل محرماً لم يتحلل التحلل الأكبر، فتحرم عليه النساء حتى يرجع إلى البيت فيطوف طواف الإفاضة؛ لأنه ركن من أركان الحج. والأفضل طوافه يوم النحر قبل الزوال في الضحى، وقلنا: يوم النحر، احترازاً من ليلة النحر، ويرخص للحاج أن يطوف ليلة النحر، ولكن الأفضل أن يطوف في اليوم نفسه بعد الفجر، أو بعد طلوع الشمس وقبل الزوال؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون بعد فراغه من الأعمال الثلاثة التي هي: الرمي، والذبح، والحلق.

حكم تأخير طواف الإفاضة

حكم تأخير طواف الإفاضة ويكره تأخير الطواف عن يوم النحر، ولا يحرم، فللإنسان أن يطوف في يوم النحر أو في اليوم التالي وهكذا. وتأخيره عن أيام التشريق أشد كراهة. وخروجه من مكة بلا طواف أشد من ذلك؛ لأنه إذا كان طواف الوداع واجباً فكيف بطواف الإفاضة؟ ومن لم يطف فلا يحل له النساء وإن مضت عليه سنون.

صفة طواف الإفاضة

صفة طواف الإفاضة وصفة هذا الطواف كصفة طواف القدوم، فمثلما طاف في القدوم يطوف في الإفاضة وينوي به طواف الزيارة، ويرمل الحاج في طواف القدوم ولا يرمل في الإفاضة، ويكون محرماً في طواف القدوم، أما في طواف الإفاضة فقد تحلل ولبس الثياب، ويطوف سبعة أشواط يقف في كل شوط عند الحجر ويقبله، أو يستلمه، أو يشير إليه، كما فعل في طواف القدوم. وله أن يطوف في أي طابق من طوابق المسجد الحرام، سواء كان الطابق الأرضي أو الثاني أو على سطح المسجد، فهذا كله جائز طالما أنه داخل المسجد. والسعي كذلك، فله أن يسعى بين الصفا والمروة في الدور الأرضي، أو في الدور الثاني، أو على السطوح إذا كان فيه مكان للمسعى، وعلى هذا فالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة في أي طابق من الطوابق جائز. والأفضل في الطواف أن يكون قريباً من الكعبة كما فصلنا قبل ذلك. وقد روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه) أي: لم يرمل في طواف الإفاضة، والرمل: هو الإسراع، فيمد بحيث تكون هيئته كهيئة الذي يجري ولكن لا يجري.

حكم من طاف للوداع ولم يطف للإفاضة

حكم من طاف للوداع ولم يطف للإفاضة ولو طاف للوداع ولم يكن قد طاف الإفاضة فقد اختلف العلماء: هل يغني عن طواف الإفاضة أو لا بد من طواف الإفاضة؟ ولو رجع خرج من الخلاف، ولو لم يرجع فقول الجمهور: أنه يغني، وهو الراجح؛ لأن أعمال الحج تغني فيها النية الأولى، فالرجل الذي حج عن شبرمة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعل هذه عنك ثم حج عن شبرمة)، فتحول الحج إليه ويحرم عن شبرمة في سنة أخرى. فمناسك الحج تختلف عن باقي العبادات، فالإنسان قد يعمل في البداية بنية ثم تتحول إلى نية أخرى ولا يبطل نسكه، كالوقوف بعرفة وغير ذلك. فلو أنه طاف ونيته طواف الوداع ونسي طواف الإفاضة كان هذا مكان هذا، وهذا قول الجمهور. لكن الحنابلة قالوا: لا بد أن يأتي بطواف الإفاضة، وهذا أحوط في المسألة. وقال الجمهور: إنه يغني؛ لحديث الذي لبى عن شبرمة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعل هذه عنك ثم حج عن شبرمة).

حكم من أخر طواف الإفاضة إلى مساء يوم النحر

حكم من أخر طواف الإفاضة إلى مساء يوم النحر ومن أمسى يوم النحر ولم يكن قد طاف للإفاضة طاف ولم يلزمه شيء، وقد ذكرنا في الحديث السابق أن الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (طفت بعدما أمسيت) أي: بعد دخول وقت المساء، فقالوا: يدخل المساء من بعد الظهر إلى المغرب، وقال بعضهم: بل يكون المساء إلى منتصف الليل، فكأن وقت المساء يعم هذا كله، فالرجل الذي قال: (رميت بعدما أمسيت، قال: لا حرج) فلعله رمى بعد الظهر أو رمى بالليل فقال: (لا حرج) فيكون الوقت واسع في ذلك. وكذلك لو أنه أمسى يوم النحر ولم يكن قد طاف بالبيت فجماهير أهل العلم بل يذكر الإمام البيهقي الإجماع على ذلك؛ أنه لا شيء عليه في ذلك، وأنه لا يلزمه أن يرجع محرماً مرة ثانية. وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت)، فذكرت أنها كانت تطيب النبي صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم عليه الصلاة والسلام، أي: قبل الإحرام، أما بعد الإحرام فلا، ثم طيبته مرة ثانية لحله قبل أن يطوف بالبيت صلى الله عليه وسلم، وهي لا تعرف هل سيطوف بالبيت الآن أو في المساء أو في الصباح، فقالت: (قبل أن يطوف بالبيت) فكأن التحلل وقع قبل أن يطوف صلى الله عليه وسلم بالبيت فطيبته عائشة، وبذلك يقول الإمام النووي: أن هذه الجملة وهي قولها: (حله قبل أن يطوف) فيها دلالة على أنه حصل له تحلل قبل الطواف. قال: وهذا مجمع عليه، أي: أنه حصل التحلل الأصغر وليس التحلل الأكبر. وهذه المسألة استمر فيها الخلاف فترة طويلة، وقد ذكرها العلامة الشيخ الألباني رحمة الله عليه في كتبه وذهب إلى أنه صح الحديث بأنه قد عاد محرماً، والشيخ الألباني رحمه الله كان من أتبع الناس لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما صح عنده الحديث قال بما لم يقله قبله أحد من العلماء حتى عهد عروة بن الزبير أو عهد ابن خزيمة رحمة الله على الجميع، فقال: إنه ثبت حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا لم يطف بالبيت وأمسى فإنه يرجع محرماً مرة ثانية. وهذا الحديث تكلم فيه العلماء، فمن صححه قال: إنه منسوخ، ومن ضعفه قال: لو صح لقلنا به مثل ابن حزم وغيره، والحديث الذي سيلزم الأمة لا بد أن يكون حديثاً صحيحاً بحيث تعمل به الأمة، لكن كونه قد صح الحديث والإجماع على عدم العمل به فيقال: إن الإجماع دل على وجود ناسخ لهذا الحديث. فالإجماع لا ينسخ الحديث ولكنه يدل على وجود ناسخ لهذا الحديث؛ لأنه من غير المعقول أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحكم من الأحكام الشرعية ثم تتفق الأمة كلها على عدم العمل به، فهذا مستحيل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، وإذا اجتمعوا على خلاف الحديث فإما أنهم مجتمعون على ضلالة، وهذا يخالف الحديث الآنف، أو أنه وجد ما ينسخ هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يرو لنا، ولكن دل الإجماع على وجوده. فهذا الذي يقال به، وهذا الحديث إما أن يكون ضعيفاً، ومن صحح الحديث أو حسنه فقد صححه أو حسنه من باب الحسن لغيره مثلاً؛ فبناء على ذلك قال بهذا الحديث، أو أنه مؤول فله تأويل آخر، أو أنه صح لكن الإجماع على خلافه. والحديث طرقه كلها ترجع إلى أحد الرواة، فقد جاء في سنن أبي داود عن أم سلمة مرفوعاً: (فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرماً كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به)، والحديث يقول عنه النووي: هذا حديث صحيح، وروي عن البيهقي أنه قال: لا أعلم أحداً من الفقهاء قال به. قال النووي: فيكون الحديث منسوخاً دل الإجماع على نسخه؛ فإن الإجماع لا ينسخ ولا يُنسخ ولكن يدل على الناسخ. قال البيهقي: ويستدل بالإجماع على جواز لبس المخيط بعد التحلل الأول على نسخه. ويقول البيهقي في الخلافيات: يشبه إن كان قد حفظه ابن يسار أنه منسوخ، ويستدل بالإجماع على جواز لبس المخيط بعد التحلل الأول على النسخ. يعني: إجماع العلماء على جواز لبس المخيط بعد التحلل الأول من غير تفصيل دليل على نسخ هذا الحديث، هكذا يقول الإمام البيهقي. وابن المنذر يذكر أنه يوجد في هذه المسألة قول خامس وهو: أن المحرم إذا رمى الجمرة فيكون في ثوبيه حتى يطوف بالبيت، قال: وكذلك قال أبو قلابة. وهو من التابعين. وقال عروة بن الزبير: من أخر الطواف بالبيت يوم النحر إلى يوم النفل فإنه لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا يتطيب، وقد اختلف فيه عن الحسن البصري وعطاء والثوري. أي: أنه قد جاء عنهم القول به وبعدمه، فيكون الذي قال به أبو قلابة وعروة بن الزبير. والحديث رواه أبو داود وأحمد من طريق محمد بن إسحاق بن يسار قال: حدثنا أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن أبيه وعن أمه زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة يحدثانه جميعاً بذاك، قالت: (كانت ليلتي التي يصير إلي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مساء يوم النحر، فصار إلي، ودخل علي وهب بن زمعة ومعه رجل آخر من آل أبي أمية متقمصين -أي: لابسين قمصاً- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ وهب: هل أفضت أبا عبد الله؟ قال: لا والله يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: انزع عنك القميص، قالت: فنزعه من رأسه، ونزع صاحبه قميصه من رأسه، ثم قال: ولم يا رسول الله؟ قال: إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا -يعني: من كل ما حرمتم منه- إلا النساء، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرماً كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به) فكأنه مقيد بالطواف إما أن تطوفوا قبل أن يدخل عليكم المساء، وإلا رجعتم حرماً مرة أخرى. زاد أحمد: قال محمد بن إسحاق: قال أبو عبيدة: وحدثتني أم قيس ابنة محصن -وكانت جارة لهم- قالت: خرج من عندي عكاشة بن محصن في نفر من بني أسد متقمصين عشية يوم النحر، ثم رجعوا إلي عشاءً قمصهم على أيديهم يحملونها، قالت: فقلت: أي عكاشة! ما لكم خرجتم متقمصين ثم رجعتم وقمصكم على أيديكم تحملونها؟ فقال: كان هذا يوماً قد رخص لنا فيه إذا نحن رمينا الجمرة حللنا من كل ما حرمنا منه إلا ما كان من النساء حتى نطوف بالبيت، فإذا أمسينا ولم نطف به صرنا حرماً كهيئتنا قبل أن نرمي الجمرة حتى نطوف بالبيت، ولم نطف فجعلنا قمصنا كما ترين. والحديث له طريق آخر، فقد رواه الطبراني عن ابن إسحاق أيضاً عن محمد بن جعفر بن الزبير عن يزيد بن رومان عن خالد مولى الزبير عن زينب عن أم سلمة. إذاً: فللحديث طريقان: طريق أبي داود: محمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو عبيدة، قال عنه الحافظ ابن حجر: مقبول، يعني: عند المتابعة إذا تابعه أحد، ولم يوثقه إلا الإمام الذهبي فقط، ولعله اعتمد على أن ابن حبان ذكره في الثقات، ولو وثقه أحد لذكر الحافظ ابن حجر ذلك، فقد تتبع من وثقه فلم يجد. وابن حزم بحث فيه وقال: هو على جلالته لم يوثقه أحد. فقول الذهبي أنه ثقة يحتاج إلى نظر؛ لكونه لم يوثقه من العلماء السابقين أحد، فهو وإن كان رجلاً جليلاً وشريفاً له شرف وذكر في الناس إلا أنه لم يوثقه أحد. وأما الطريق الأخرى التي ذكرها ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن يزيد بن رومان عن خالد مولى الزبير، فقد قال الحافظ في خالد: إنه لا يدرى من هو. أي: أنه مجهول فلعله يكون مدلساً، وراويه ارجع طريقه لـ أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة مرة ثانية فلعله عن آخر غيره، لكن لا ينبغي أن نقول: إنه قد توبع، خاصة في هذا الحكم الخطير؛ لأنه سيضيق على الحجاج تضييقاً شديداً جداً؛ لأن الأمر صعب جداً وليس سهلاً أن يعود جميع الحجاج محرمين مرة ثانية، بل هو غاية في الصعوبة، فهذا الحكم يحتاج إلى حديث أصح من هذا الحديث حتى يقال به؛ لأن رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة الذي ذكر الحافظ أنه مقبول -أي: عند المتابعة- لن نجد من يتابعه إلا هذه الرواية التي رواها ابن لهيعة، فقد ذكر أبو جعفر الطحاوي من طريق ابن لهيعة، وذكر عن عروة عن جدامة بنت وهب أخت عكاشة بن وهب وهي صحابية، وعروة لم يسمع ممن روى عنه، وذكر عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن أم قيس بنت محصن، فاختلف ابن لهيعة في روايته، فمرة يذكر شيئاً ومرة يذكر غيره، فقد ذكر جدامة بنت وهب مرة، ومرة أم قيس بنت محصن، وهذه غير الأولى، ولم يذكر لـ عروة بن الزبير أنه سمع لا من هذه ولا من هذه، ولعل الحديث يرجع إلى أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة فيكون في النهاية واحد فقط هو الذي روى هذا الحكم، وهذا الواحد ذكر العلماء عنه أن له شرفاً وأنه مشهور ولكن لم يذكروا

السعي بين الصفا والمروة وحكمه

السعي بين الصفا والمروة وحكمه السعي بين الصفا والمروة هو الركن الرابع من أركان الحج، وهو مختلف فيه هل هو ركن من الأركان، أو هو واجب من الواجبات، أو هو سنة من السنن؟ وقد ذكرنا أن الأحوط القول بأنه ركن من أركان الحج. ومال ابن قدامة رحمه الله إلى أنه واجب من الواجبات كما في كتابه المغني. ويلزم المتمتع السعي عن حجته بعد طواف الإفاضة، ولا يزال محرماً حتى يسعى، ولا يحصل التحلل الثاني بدونه، هذا على القول بأنه ركن من الأركان، فلا بد أن ينتهي من الحج ثم يتحلل التحلل الأكبر ليأتي أهله. وأما من أفرد أو قرن فلا سعي عليه؛ لأنه قدم السعي بعد طواف القدوم؛ لأن السعي بين الصفا والمروة إما أن يكون عن حج أو عن عمرة، وهو هنا للمفرد أو القارن عن حج، أما المتمتع فلا يجزيه السعي الذي سعاه قبل ذلك، لأنه كان للعمرة، وبقي عليه السعي للحج، فيلزمه السعي عن حجته بعد طواف الإفاضة، ولا يزال محرماً حتى يسعى، ولا يحصل التحلل الثاني بدونه. والمفرد والقارن إذا لم يكن قد سعى بعد طواف القدوم لزمه السعي بعد طواف الإفاضة، وإن كان سعى بعد طواف القدوم لم يعده بل تكره إعادته؛ لأن الركن لا يعاد مرتين.

استحباب الشرب من ماء زمزم بعد الطواف

استحباب الشرب من ماء زمزم بعد الطواف ويستحب للحاج إذا فرغ من طوافه بالبيت أن يشرب من زمزم، لأنها من السنة فقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث: (أنه ركب صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب! فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلواً فشرب منه صلى الله عليه وسلم).

جواز رجوع الحاج إلى منى بعد الإفاضة وقت الظهر

جواز رجوع الحاج إلى منى بعد الإفاضة وقت الظهر وله أن يطوف الإفاضة قبل الزوال ويرجع إلى منى فيصلي بها الظهر؛ لأنه ثبت الأمران عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى البعض أنه صلى الظهر بمنى، والبعض روى أنه صلى الظهر بمكة، وكأنه صلى بمكة بالناس، فلما رجع إلى منى صلى بهم تطوعاً صلى الله عليه وسلم فنقل البعض ذلك. ففي حديث جابر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر إلى البيت فصلى بمكة الظهر) وهذا في صحيح مسلم. وفي صحيح مسلم أيضاً عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى)، فـ جابر ذكر أنه صلى الظهر بمكة وعبد الله بن عمر ذكر أنه صلى الظهر بمنى، والجمع بينها: أنه صلى بمكة بالناس صلاة الظهر، ثم رجع فصلى بأصحابه بمنى فكانت له تطوعاً ولهم فريضة.

التحلل من الإحرام

التحلل من الإحرام للحاج تحللان: تحلل أول وتحلل ثاني. التحلل الأول: يسمى التحلل الأصغر، ويباح له فيه كل شيء إلا النساء. والتحلل الثاني: التحلل الأكبر، ويباح له إتيان النساء وغير ذلك. وهما يتعلقان برمي جمرة العقبة، والحلق، وطواف الإفاضة، وأما النحر فلا مدخل له في التحلل.

التحلل الأول

التحلل الأول ويحصل التحلل الأول برمي جمرة العقبة، فإذا رمى جمرة العقبة تحلل التحلل الأول، والأفضل أن يضيف إليه الحلق أو الطواف، فيكون لبس الثياب وقد عمل عملين، وهو قول الجمهور، بمعنى: أنه يبدأ فيرمي جمرة العقبة ثم يحلق شعره أو يطوف بالبيت، يقول الإمام النووي: يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة، فأي اثنين منهما أتى بهما حصل التحلل الأول، سواء كان رمياً وحلقاً، أو رمياً وطوافاً، أو طوافاً وحلقاً. يريد أنها ثلاثة أفعال بدون النحر، فأي فعلين تتحلل بهما التحلل الأول. وإن كانت أكثر الأحاديث التي وردت ذكر فيها الرمي، فقد روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء)، فبرمي جمرة العقبة يتحلل التحلل الأول. وفي حديث ابن عباس الذي رواه أحمد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء. فقال رجل: والطيب؟ فقال ابن عباس: أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك أفطيب ذاك أم لا؟). وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين حين أحرم ولحله حين أحل قبل أن يطوف وبسطت يديها) رضي الله عنها. ورواه أحمد والنسائي بلفظ: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين أحرم ولحله بعدما رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت)، فهو رمى جمرة العقبة ثم إن عائشة رضي الله عنها طيبته، وكان قد رمى الجمرة وحلق شعره ونحر وحلق ثم طاف بالبيت عليه الصلاة والسلام. وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ عن نافع وعبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس بعرفة وعلمهم أمر الحج وقال لهم فيما قال: إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب، ولا يمس أحد نساءً ولا طيباً حتى يطوف بالبيت. وأيضاً ذكر عمر أنه إذا رمى الجمرة فقد حل، وإن كان مذهب عمر رضي الله عنه أنه لا يضع الطيب على بدنه أو ثوبه حتى يطوف بالبيت، لكن روت عائشة ما يخالف ذلك، والحجة في المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمرفوع: أن عائشة طيبت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يطوف بالبيت، فدل على أن الصواب هو أنه إذا رمى جمرة العقبة فله بعد ذلك أن يتطيب. وبالإسناد نفسه أن عمر رضي الله عنه قال: من رمى الجمرة ثم حلق أو قصر ونحر هدياً إن كان معه فقد حل له ما عليه حرم إلا النساء والطيب حتى يطوف بالبيت. فكأن مذهب عمر رضي الله عنه أن الطيب من لوازم الجماع، فجعل الطيب مع الجماع، فلا يجوز له أن يضع الطيب لأنه يدعوه إلى الجماع، وهذا رأيه رضي الله تبارك وتعالى عنه يخالفه ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالصواب أنه يجوز له التطيب لحديث عائشة السابق. ولو لم يرم جمرة العقبة حتى خرجت أيام التشريق فقد فات الرمي ولزمه بفواته الدم، أي: إذا فاته الرمي لزمه بفواته الدم، ويتوقف تحلله على الإتيان ببدل الرمي احتياطاً، أما إذا لم يرم ولم تخرج أيام التشريق فلا يجعل دخول وقت الرمي كالرمي في حصول التحلل، أي: أنه إذا دخل وقت الرمي فلا يتحلل حتى يرمي، أما إذا لم يرم فلا؛ لأن نص الحديث دل على ذلك. ويحل بالتحلل الأول في الحج: اللبس، والقلم، وستر الرأس، والحلق، ولو لم يطف. أي: إذا رمى جمرة العقبة، وحلق شعره أو نحر هديه أو وكل في النحر فيجوز له أن يلبس ثيابه، ويستر رأسه، ويحلق شعره، والحلق منسك من المناسك حتى ولو لم يطف بالبيت، ولا يحل الجماع إلا بالتحلل الثاني.

التحلل الثاني

التحلل الثاني يحصل التحلل الثاني بالطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة للمتمتع، وللقارن والمفرد إذا لم يكونا قد سعيا بعد طواف القدوم، فإذا كانا قد سعيا بعد طواف القدوم فليس عليهما إلا الطواف بالبيت فقط. فإذا تحلل التحللين صار حلالاً في كل شيء، ويجب عليه الإتيان بما بقي من الحج وهو الرمي في أيام التشريق والمبيت لياليها، أي: أنه يجب على الحاج ليالي أيام التشريق المبيت بمنى، ويجب عليه في أيامها الرمي، ويجوز له أن يرمي بالليل. وإذا ترك طواف الزيارة بعد رمي جمرة العقبة فلم يبق محرماً إلا على النساء خاصة؛ لأنه قد حصل له التحلل الأول برمي جمرة العقبة.

حكم من وطئ قبل طواف الإفاضة

حكم من وطئ قبل طواف الإفاضة فإن وطئ قبل طواف الزيارة وجب عليه الدم؛ لأن الصواب: أن فساد الحج يكون قبل التحلل الأول، فلو أنه جامع قبل رمي الجمرة فسد حجه، ولكن لو أنه جامع بعد ذلك فإن عليه دماً، فإذا وطئ قبل طواف الزيارة وبعد رمي جمرة العقبة لم يفسد حجه، ولم تجب عليه بدنة، ولكن عليه دم، وإذا قصدنا بدنة فلا بد من التصريح بها، وأما إذا قال: دم ولم يذكر بدنة، فإن أقل ما فيه الشاة أو سبع بدنة. ويجدد إحرامه حتى يطوف بالبيت في إحرام صحيح، وهذا اختيار الإمام أحمد رحمه الله، قال: من طاف للزيارة واخترق الحجر في طوافه ورجع إلى بغداد فإنه يرجع؛ لأنه على بقية من إحرامه، فإن وطئ النساء أحرم من التنعيم على حديث ابن عباس، يعني: على اختيار ابن عباس رضي الله عنه أنه يحرم من التنعيم، فكأنه يدخل بعمرة ليطوف بالبيت وهو محرم، والله أعلم.

أحكام الأضحية والهدي

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - أحكام الأضحية والهدي الأضحية مشروعة لمن قدر عليها، وينبغي أن تسمن، وأن تكون سليمة من العيوب المانعة من الإجزاء التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، وللذبح آداب وسنن ينبغي مراعاتها حتى يكون الذبح على ما ورد في الشريعة المطهرة.

ذكر ما لا يجزئ من الأضاحي وأحكامها

ذكر ما لا يجزئ من الأضاحي وأحكامها بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. روى أصحاب السنن عن عبيد بن فيروز قال: سألت البراء بن عازب رضي الله عنه ما لا يجوز في الأضاحي فقال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابعي أقصر من أصابعه، وأناملي أقصر من أنامله، فقال: أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء بين عورها، والمريضة بين مرضها، والعرجاء بين ضلعها، والكسير التي لا تنقي، قال: قلت: فإني أكره أن يكون في السن نقص، قال: ما كرهت فدعه ولا تحرمه على أحد). وفي لفظ للنسائي (لا يجوز من الضحايا العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقي)، وقد وردت أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم فيها بيان ما الذي لا يجوز من الأضاحي، فإذا أردت أن تضحي فخذ الشيء الذي يرضي ربك سبحانه لتتقرب به إليه. وهذا الشيء الذي تتقرب به إلى الله لابد أن يكون جميلاً في منظره، سيمناً، ويكون في السن المجزئة التي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها فيه. فهنا في حديث البراء بن عازب يذكر أربعاً لا تجوز في الأضاحي، أولها: (العوراء بين عورها)، والعور قد تبقى معه العين، لكنها تضيع، أي: لا تبصر، فالعوراء قد يكون في بصرها شيء ولكنه غير مؤثر، لكن الحديث ذكر الشيء المؤثر، وهو البين عورها، إذاً: فما فيها عور بين لا تجوز في الأضاحي، أما العور الغير بين أي: الشيء البسيط الذي ما له قيمة فتجزئ مع وجوده. ثانيها: (والمريضة البين مرضها)، المرض إما أن يكون مرضاً يسيراً فهي مجزئة معه، أما المرض الذي يؤثر فيها ويهزلها فغير جائز أن يضحى بها. ثالثها: (والعرجاء البين ضلعها)، معنى: ضعلها أي: الاعوجاج، والمعنى: العرج البين في اليد أو الرجل بحيث يبدو في مشيتها، فهذا الاعوجاج مؤثر فلا تصح في الأضاحي، والضلع يكون في اليد أو في الرجل، أما إذا كان العرج غير بين فتجزئ في الأضاحي. رابعها: (والكسير التي لا تنقي)، معناها: المنكسرة الرجل، ومعنى: لا تنقي، أي: لا نقي لها، فقد صارت هزيلة فلا لحم فيها ولا شحم، وهي التي لا مخ لها فلا شحم بداخلها، فهي هزيلة جداً ما فيها إلا جلد على عظم، فهذه لا تجزئ. وفي الرواية الأخرى قال صلى الله عليه وسلم: (لا يجوز من الضحايا: العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقي)، فذكر الكسير وذكر العجفاء، وكأن المعنى متقارب، أي: في كل هذه الحالات يراد أن تكون هزيلة لا تقدر على الأكل، فلا تجزئ في الأضحية.

حكم التضحية بمقطوعة الأذن

حكم التضحية بمقطوعة الأذن روى الترمذي عن حجية بن عدي عن علي رضي الله عنه قال: البقرة عن سبعة. فهذا من قول علي رضي الله عنه قال: قلت: فإن ولدت البقرة؟ فقال: اذبح ولدها معها. أي: طالما أنك جعلت البقرة أضحية ومعها ولد ولدته حين التضحية فابنها ضحية معها، قال: قلت: فالعرجاء؟ قال: إذا بلغت المنسب. والمعنى: إذا كان هذا العرج طرأ عليها في المكان التي تذبح فيه فصاحبها معذور في ذلك، قال: قلت: فمكسورة القرن؟ قال: لا بأس. هذا كله من قول علي رضي الله تعالى عنه، ثم رفع الحديث للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أمرنا أو أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العينين والأذنين)، والاستشراف أن تنظر إلى الشيء من علو، فعندما تنظره تقول: أستشرف على كذا، أي: أنك تنظر إليه من بعيد، أو تدقق النظر على الشيء البعيد. وكأن المعنى هنا: أنك تنظر إليها وتجيد النظر وتبحث فيها عن هذه الأشياء والصفات في العينين والأذنين، أي: ينظر إلى العين أعوراء هي أم لا؟ أما العمياء فترد من باب أولى، وكذلك تنظر إلى الأذنين حتى لا تكون مشقوقة أو مقطوعة الأذن، فيستشرف لذلك. وهذا الحديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت رواية أخرى توضحه وإن كان إسنادها ضعيفاً، وفيها: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العينين والأذنين)، إلى هنا صحيح، ثم قال: (ولا نضحي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء، ولا شرقاء)، هذه الأشياء تكون في الأضحية فنهي عنها، وإن كان هذا الجزء -أي: الثاني- من الحديث ضعيف الإسناد، ولكن يستحب للإنسان أن يراعي هذه الأشياء، أي: ألا يضحي بعوراء، وهي التي بعين واحدة. قوله: (ولا مقابلة)، المقابلة: التي طرف أذنها مقطوع، قوله: (والمدابرة)، أي: التي آخر أذنها مقطوع، إذاً: فالمقابلة: مقطوعة الأذن من الأمام، والمدابرة: مقطوعة الأذن من الخلف. قوله: (الشرقاء)، أي: مشقوقة، فإذا كانت الأذن مشقوقة فهي الشرقاء. قوله: (والخرقاء)، وهي التي فيها خرق، أي: أنها مثقوبة الأذن على هيئة كبيرة، بحيث يكون وسماً بكي ونحوه ليعرفوا أن هذه أضحية من غيرها. وهذا الجزء الزائد من الرواية هذا الذي فيه التفصيل ضعيف إسناده، لكن الحديث الذي عند الترمذي أمرنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العينين والأذنين، أي: ننظر لسلامة العينين والأذنين، فما كان من مرض أو عاهة بسيطة غير مؤثرة فلا تؤثر، أما إذا كانت بينة كما في الحديث الآخر فإنها تؤثر. قال الخطابي: في الحديث دليل على أن العيب الخفيف في الضحايا معفو عنه، إلا أن الحديث قال لنا: البين، إذاً: يوجد فرق بين البين الواضح الجلي وبين غير البين، الذي هو غير الواضح وهو الخفي؛ لأن في الحديث: بين عورها، وبين مرضها، وبين ضلعها، فالقليل منه غير بين فكان معفواً عنه.

حكم التضحية بالمعيبة

حكم التضحية بالمعيبة قال النووي: أجمعوا على أن العيوب الأربعة المذكورة في حديث البراء لا تجزئ التضحية بها، وكذا ما كان في معناها، أو أقبح منها. بمعنى: إذا كان الحديث يذكر لنا لا يجوز التضحية بالعوراء بين عورها، فالعمياء لا تجزئ من باب أولى. فالأضاحي فيها تقرب إلى الله عز وجل بهذه اللحوم، فتخرج الشيء الجميل المنظر، التي لحمها كثير، وكذا شحمها أيضاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يتقرب إلى الله عز وجل بما كان على هذه الصفات. وقوله: (فالعوراء البين عورها)، العادة في الحيوان إذا عورت إحدى عينيه أن يصير نظره في جهة واحدة، أي: في العين الأخرى، ولعل الطعام موضوع للشاة في مكان وعينها التي في اتجاهه عوراء، فلا يرى الطعام، فيكون الطعام موضوعاً لها جاهزاً وهي لا تذهب إليه بسبب العور، فالغالب أن تكون العوراء هزيلة، ولا يمنع أن تكون العوراء غير هزيلة، فقد تكون العوراء أو العمياء يعلفها صاحبها ويهتم بها أن تبقى أفضل من غيرها، ولكن فيها عيب من العيوب، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحب أن يضحي بما فيها عيب من العيوب، وإنما يضحي بالشيء السليم. وكأنه استبشار أن هذه الأضحية لله عز وجل؛ لعل الله عز وجل أن يعتق بها صاحبها، فإذا تقرب إلى الله تقرب بسليمة الأعضاء، أي: التي أعضاؤها كلها سليمة؛ لعل الله أن يعتق أعضاء صاحبها من النار بما قربه لله تبارك وتعالى. وهناك ما يمكن أن تكون عرجاء وصاحبها يهتم بها لكونها عرجاء، وهذا ممكن أن يكون، ولكن في النهاية فيها عيب، فلا تتقرب إلى الله بما فيه عيب، وهذه الأشياء المعيبة عندما تبيعها من يشتريها سيقول لك: هذه فيها عيب، فتباع بثمن أقل، فيبخس الثمن فيها، فإذا كان هذا في الناس فكيف تتقرب لرب الناس بما فيه عيب يراه الناس؟! إذاً: فالعرج إذا كان يسيراً بحيث لا يجعلها تتخلف عن الماشية لا يضر، لكن إذا كان كثيراً فهو يضر. وكذلك إذا كانت الأضحية عوراء فالتضحية بها ممنوع، والعمياء من باب أولى.

إذا عين أضحية أو نذرها ثم تعيبت

إذا عين أضحية أو نذرها ثم تعيبت أما إذا أوجب أضحية سليمة من العيوب، ثم حدث بها عيب يمنع الإجزاء ذبحها صاحبها وأجزأته، وقولنا: (إذا أوجب أضحية) الإيجاب يكون بالنذر، أي: أن يقول: لله علي نذر أن أذبح هذه الأضحية، فهذا أوجبها على نفسه، أو على قول آخر أن الإيجاب أن يعين ويقول: هذه أضحية، كما لو اشترى الأضحية، وما اشتراها إلا للتضحية بها، فهذا لا يلزمه أن يذبحها إلا إذا تلفظ وقال: هذه أضحية، فهذا ملحق بالنذر على ما ذكره بعض أهل العلم، وهذا الأحوط في ذلك، أي: إذا عين فقال: هذه أضحية صارت أضحية بهذا القول الذي قاله. فإذا عينها إما بالنذر أو بالتحديد بالقول ثم حدث بها عيب بعد ذلك فلا شيء عليه، وجاز له أن يضحي بها، لكن إذا كان العيب قبل أن يشتريها، فيختار العجفاء أو المريضة لأن ثمنها قليل، فهذه لا تجزئ في التضحية. والعيب قد يكون بقضاء الله وقدره وهي في وسط الغنم، كأن وطأتها الغنم فصارت عجفاء، أو انكسرت فصارت عرجاء، أو صار فيها عور أو نحو ذلك، وقد تكون تعيبت بفعل صاحبها، بأن أتى بهذه الأضحية وربطها ربطاً شديداً بحيث انكسرت رجلها من شدة الربط، أو أنه دفعها من السيارة على الأرض فانكسرت رجلها، إذاً: فصاحبها هو الذي تسبب في ذلك فيلزمه بدلها.

حكم الأضحية إذا تعيبت وقت الذبح

حكم الأضحية إذا تعيبت وقت الذبح ولو حدث هذا العيب وقت الذبح بأن أتى بالأضحية ثم نومها من أجل أن يذبحها فتحركت واضطربت فحدث هذا العيب بسبب منها، ففي هذه الحالة لا شيء على صاحبها، ويكمل ذبحها. وهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم -أي: أنه لو حدث هذا العيب وقد أضجعها لذبحها-: فذهب البعض من الأحناف إلى أنها لا تجزئه؛ باعتبار أن الأضحية عندهم واجبة، وهذا نقله ابن قدامة عنهم فقال: قال أصحاب الرأي: لا تجزئه؛ لأن الأضحية عندهم واجبة، فلا يبرأ منها إلا بإراقة دمها. وهذا الكلام ليس على إطلاقه، فليس كل الأحناف قالوا بهذا، ولكن هناك خلاف عندهم لو أضجعها ليذبحها فحدث بها هذا العيب، فعند البعض منهم أنها تجزئه، وعند البعض الآخر: لا تجزئه. فمن قال من الأحناف أنها تجزئه: عثمان بن علي الزيلعي الحنفي، يقول: لو أضجعها ليذبحها يوم النحر فاضطربت فانكسرت رجلها فذبحت أجزأته استحساناً، ولهذا قالوا: كأن الأصل أنها لا تجزئ، فمعنى (استحساناً) أي: أن هنا مخالفة للنص؛ لأن النص قال: لا تجزئ لو جاء البين ضلعها والكسير التي لا تنقي، ولا تجزئ العرجاء البين ضلعها، فهم قالوا: استحساناً، أي: كأننا خالفنا النص لنص آخر، أو خالفناه لعلة أخرى؛ لأن حالة الذبح ومقدماته ملحق بالذبح، فصار كأنه تعيب للذبح حكماً، إذاً: دليل الاستحسان عندهم: أن المضحي سيقطع رقبتها، فإذا كان قطع الرقبة ليس عيباً لها فكسر عضو من أعضائها ملحق بذلك؛ لأنها ستذبح الآن، ولا يوجد وقت للجمال وهو يذبحها، فاستحسنوا ذلك. وعند الشافعي لا تجزئ إذا تعيبت عند أن يذبحها صاحبها؛ وكذا لو تعيبت في هذه الحالة فانفلتت ثم أخذت من فورها وشدها صاحبها من أجل أن يذبحها وهي تقاوم فانكسرت رجلها، ثم فلتت منه أخرى فأدركها وذبحها، قالوا: المسافة بين ما حدث لها وبين ذبحها بسيطة، وعلى ذلك فلا شيء على المضحي بها، وهذا عند محمد بن الحسن خلافاً لـ أبي يوسف. يقول النووي في المجموع: إذا أضجعها ليذبحها فعالجها فأعورت حال الذبح -أي: صارت عوراء حال الذبح- فلا تجزئ، وقال أبو حنيفة وأحمد: تجزئ، وقد عرفنا أن في مذهب الأحناف خلافاً، فليس على الإطلاق المذكور هنا. إذاً: فعند بعض العلماء: أنها لا تجزئ إذا تعيبت في حال ذبحها، وعند البعض الآخر: أنها مجزئة، وهو الراجح؛ لأن المضحي عمل ما عليه، طالما أنه ليس هو المتسبب في ذلك بتفريط، أما إذا تسبب في ذلك بتفريط منه فهي غير مجزئة، فلابد أن نفرق في تعيب الأضحية حال ذبحها بسبب تفريط وتقصير من الرجل، كأن نزعها ورماها على الأرض فانكسرت رجلها أو نحوها، فهي في هذه الحالة غير مجزئة في الأضحية، أما إذا كان يشدها وهي تقاوم فحدث فيها شيء، كأن رفعت رأسها مثلاً فجاءت السكينة في عينها، ففي هذه الحالة يعذر المضحي، والأضحية مجزئة. إذاً: إن تعيبت بفعله وبتقصيره فعليه بدلها إذا كان عينها بالنذر أو نحوه.

حكم العشواء والثولاء والفحل

حكم العشواء والثولاء والفحل وقد سبق معنا: أنها لا تجزئ العمياء ولا العوراء، وتجزئ العشواء، والعشى: هو عدم الإبصار بالليل، فالعشواء التي لا تأكل بالليل، وإنما تأكل بالنهار، فعلى ذلك تكون مجزئة؛ لأنها تبصر في النهار طعامها. وكذا مر معنا: أن العجفاء التي ذهب مخها من الهزال وبقي الشحم موجوداً داخل عظم اليدين والرجلين، فهذه العجفاء لا تجزئ، إذاً: كلمة (مخ) هنا بمعنى الشحم الذي داخل عظم اليدين والرجلين، هذا العجف. والثولاء: وهي المجنونة، فإذا كانت مجنونة، فلا تجزئ؛ لأنها تضطرب كثيراً، فالعادة: أن مثل هذه الحالة لا تأكل، فيؤدي بها الأمر إلى الهزال، إذاً التي تستدبر الرعي ولا ترعى إلا قليلاً فتهزل لا تجزئ. ويجزئ الفحل من الغنم والبقر والإبل، والفحل: هو الشديد النزوان على الأنثى، حتى وإن كثر ذلك منه، والغالب: أنه إن كثر ذلك يضعفه، ولكن لن يصل إلى درجة الهزال.

حكم التضحية بمقطوعة الأذن والمخلوقة بلا ضرع

حكم التضحية بمقطوعة الأذن والمخلوقة بلا ضرع ولا تجزئ مقطوعة الأذن؛ لقول علي رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العينين والأذنين)، ومعنى نستشرف: ننظر، فإذا كان في العين أو في الأذن عيب فهي غير مجزئة، فإن قطع بعض أذنها فلم تنفصل بل شق طرفها وبقي متدلياً لم يمنع من التضحية بها وإن أبين منه. فإن الأذن إذا شقت من الأمام أو من الخلف فهي غير مجزئة، لكن المسألة فيها خلاف، والراجح: أن الحديث الذي ذكر في المقابلة والمدابرة ضعيف، وعلى ذلك إذا كانت الأذن موجودة لكن فيها شق بسيط لم يجاوز النصف ولم يعيبها فالراجح أنها تجزئ مع ذلك. أما إذا كانت الأضحية صغيرة الأذن، أو ليس لها أذن أصلاً فهنا يفرق بين التي تعيبت والتي هي مخلوقة على هذه الهيئة، فالتي هي مخلوقة على هذه الهيئة لا شيء فيها، فيجوز التضحية بها. كذلك المخلوقة بلا ضرع إذا كانت أنثى من الغنم وغيرها، أي: خلقت ليس لها ضروع أو بلا ألية مثل: الخرفان الاسترالية التي تكون إليتها صغيرة، وفيها هيئة الذيل فقط، فالراجح: أن هذه خلقة فتكون مجزئة.

حكم التضحية بمكسورة القرن

حكم التضحية بمكسورة القرن وتجزئ التي لا قرن لها، وكذا مكسورة القرن، فالتي لا قرن لها هي الجماء كما جاء في الحديث، فإذا كانت الجماء مجزئة فالمكسورة القرن أيضاً مجزئة؛ لما جاء في السنن عن حجية بن عدي عن علي رضي الله عنه قال: (البقرة عن سبعة، قال: قلت: فإن ولدت؟ قال: اذبح ولدها معها، قلت: فالعرجاء؟ قال: إذا بلغت المنسك؟ قال: قلت: فمكسورة القرن؟ قال: لا بأس، أمرنا أو أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العينين والأذنين). وذهب جمهور أهل العلم إلى أن المكسورة القرن غير مجزئة، فإذا أردت أن تشتري أضحية فلا تشتري مكسورة القرن خروجاً من الخلاف في ذلك، فالجمهور يمنعون؛ لحديث جري بن كليب عن علي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضحى بعضباء الأذن والقرن)، ومعنى: (عضباء) أي: مقطوعة الأذن والقرن، ولكن الحديث في إسناده ضعف، فعلى ذلك فالأولى للإنسان أن يضحي بالسليمة التي ليست مكسورة القرن، لكن إذا كان المقطوع بعض القرن فالراجح أنها مجزئة، وذات القرن أفضل؛ لما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده صلى الله عليه وسلم وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما)، والأملح: هو الأبيض الذي هو ليس خالص البياض، لكن فيه بعض طبقات من سواد أو من حمرة، ومعنى: (أقرنين)، أي: مستويا القرنين، ذبحهما بيده، عليه الصلاة والسلام، وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما، والصفحة: هي الجانب، والمعنى: على صفحة العنق جانب العنق، وصفحة الوجه جانبه، فكأنه مدد الخروف على الأرض وأمسك بيده اليسرى صلى الله عليه وسلم رأسه، ووضع رجله على صفحته على جانبه الأيمن، أو من ناحية رقبته؛ من أجل أن يثبته على الأرض، وذبحه بيده صلوات الله وسلامه عليه، وقال في رواية: (ورأيته واضعاً قدمه على صفاحهما وسمى وكبر عليه الصلاة والسلام).

حكم التضحية بما ليس لها أسنان ومن أخذ الذئب شيئا منها

حكم التضحية بما ليس لها أسنان ومن أخذ الذئب شيئاً منها وتجزئ ذاهبة بعض الأسنان، لكن لو انكسرت جميع أسنانها فهذا معناه: أنها لا تأكل، وكيف تأكل وهي مكسورة كل الأسنان؟! فالغالب أن تكون هذه عجفاء وهذا يكون عيباً فيها فلا تجزئ في الأضحية. ولا تجزئ التي أخذ الذئب مقداراً بيناً من فخذها، أي: لو أن الذئب عدى عليها فأكل شيئاً منها، وكان هذا الشيء يسيراً غير بين فلا شيء في ذلك، لكن إذا أخذ جزءاً بيناً من فخذها فتكون غير مجزئة. ولا يمنع قطع الفلقة اليسيرة من العضو الكبير، فإذا كان العضو كبيراً كالفخذ وأخذ منه مقدار صغير إما بفم الذئب أو الكلب العقور ونحوهما فهذا مجزئ، لكن إذا كان المأخوذ شيئاً بيناً فهذا غير مجزئ، والشيء البين كما لو قطع الذئب أو نحوه إليتها كلها أو ضرعها أو عضواً منها فهي غير مجزئة.

حكم التضحية بالجرباء ومقطوعة بعض اللسان والموجوء والخصي

حكم التضحية بالجرباء ومقطوعة بعض اللسان والموجوء والخصي ولا تجزئ الجرباء، فلو أن الشاة فيها جرب أو الناقة أو العجل أو البقرة، فلا تجزئ في الأضاحي؛ لأن العادة أن الجرب إن كثر فيها أفسد لحمها، لكن إن كان شيئاً يسيراً فلا شيء فيه؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (البين عورها البين مرضها)، وهكذا. ولا تجزئ مقطوعة بعض اللسان؛ لأن الغالب أنها لا تستطيع الأكل إلا به. ويجزئ الموجوء والخصي، أي: إذا كان الخروف أو العجل أو الجمل خصياً أو موجوءاً فالراجح: أنه يجزئ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين، فليس هو صلى الله عليه وسلم الذي فعل بهما ذلك، بل قد جاء عنه أنه نهى عن ذلك، وإنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون، وهو عليه الصلاة والسلام اشتراه على هذه الهيئة، فدل ذلك على أن هذا ليس عيباً يمنع شراء الأضحية التي فيها ذلك. فذبح أحدهما عليه الصلاة والسلام عن أمته، لمن شهد لله بالتوحيد وشهد له بالبلاغ عليه الصلاة والسلام، وذبح الآخر عنه وعن آله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث من الأدلة على عدم وجوب الأضحية، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم لرحمته وحنانه رفع عن الأمة جميعها الحرج، فضحى بكبشين وقال: (هذا عن محمد وآله عليه الصلاة والسلام)، فدل على أن الخروف يجزئ عن الرجل وعن أهل بيته، ثم إنه عليه الصلاة والسلام ذبح كبشاً آخر وقال: (هذا عمن لم يضح من أمتي). إذاً: فالأمة فيها من يضحي وفيها من لم يضح، سواء بعذر أو بغير عذر؛ ولذا قال: (هذا عمن لم يضح من أمتي).

حكم من نذر التضحية بالمعيبة

حكم من نذر التضحية بالمعيبة وإذا نذر التضحية بحيوان معين فيه عيب يمنع الإجزاء لزمه، أي: لو كان عنده خروف مقطوع الأذن أو مكسور القرن، أو كان فيه عجف، ففيه شيء مما لا يجزئ، فهذا الكبش لا ينفع للأضحية، ولكنه نذر أن هذا بعينه سأذبحه أضحية، فلو قال: إن شفى الله مريضي فلله علي نذر أن أذبح الخروف الموجود عندي في البيت، والموجود عنده على هذه الصورة، وجاء النذر على هذه الصورة، فهذا يلزمه أن يذبحه في الأضحية. إذاً: إن نذر التضحية بحيوان معين فيه عيب يمنع الإجزاء لزمه، أو قال: جعلت هذه أضحية، لزمه ذبحها للالتزام، ويثاب على ذلك، ويكون ذبحها قربة، وتفرقة لحمها صدقة، ولا تجزئ عن الهدايا والضحايا المشروعة. إذاً: فهذا من أجل النذر فقط، فأصبح مجزئاً، لكن ليس هو الأضحية التي أمرنا بها النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلابد أن نفرق بين من وجب عليه أن يذبح هذا نذراً وله أجره في ذلك، وليس له أجر الأضحية التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الأضحية المشروعة؛ لأن الضحايا المشروعة من شروطها السلامة، أما النذر: فلو أشار إلى ضبية أو دجاجة وقال: هذه لله علي أن أذبحها أضحية، فيكون نذراً، لكن ليست أضحية؛ لأن الأضحية لابد أن تكون من بهيمة الأنعام. إذاً: فلو قال: علي دجاجة أن أذبحها أضحية، فهذا له أن يذبحه، ويتصدق به، لكنها ليست أضحية شرعية؛ لأنه لابد في الأضحية أن تكون من بهيمة الأنعام، من الإبل، أو البقر، أو الغنم، وإذا قلنا: الغنم فسيدخل فيها الماعز؛ لأن الله عز وجل ذكر أن بهيمة الأنعام ثمانية أزواج: من الضأن اثنين، ومن الماعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، فهذه هي بهيمة الأنعام.

أحكام ذبح الأضحية

أحكام ذبح الأضحية ويستحب أن يذبح أضحيته بنفسه إذا كان يجيد الذبح والقطع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في الحديث المتقدم، وينوي عند ذبحها أن هذه أضحية، وتجزئ النية المتقدمة قبل ذلك، وإذا كان قد اشتراها للأضحية وجاء العيد فذبحها ولم يستحضر النية في الذبح، وإنما كبر وسمى أو سمى وكبر وذبح، فتجزئ بالنية السابقة، فإن كان منذوراً نوى الذبح عن أضحيته المنذورة، وإن كان تطوعاً نوى التقرب بها.

جواز التوكيل في ذبح الأضاحي

جواز التوكيل في ذبح الأضاحي ويجوز الذبح للرجل وللمرأة، ويجوز أيضاً أن يوكلا فيه، فقد روى جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نحر ثلاثاً وستين بدنة بيده الكريمة عليه الصلاة والسلام، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر -أي: ما بقي- وأشركه في هديه). وإذا أراد أن يوكل في الذبح فليوكل رجلاً مسلماً فقيهاً، أي: يفهم فقه الذبح، وعنده علم بالأضاحي، أو فقيهاً بباب الذبائح والضحايا، وما يتعلق بذلك؛ لأنه أعرف بشروطه وسننه. ولو أنه وكل امرأة تقوم بذلك فالراجح أنه يجزئ ويجوز، ولو وكل كتابياً -يهودياً أو نصرانياً- وهو الموجود عنده ولا يوجد أحد غيره، فالصحيح: أنه يجوز ذلك، أي: أن يوكل، وإن كان الأفضل ألا يفعل، وأن يوكل مسلماً، لكن إذا احتاج إلى ذلك فله أن يوكل كتابياً. وكذلك الصبي يجوز له أن يذبح إذا كان يجيده، ويوكله صاحب الأضحية في الذبح إذا كان لا يجيد الذبح. والمرأة الحائض والنفساء والصبي أولى من الكتابي، فلو كنت مخيراً فيمن يذبح له، فالمرأة أولى من الكتابي حتى ولو كانت حائضاً أو نفساء، والصبي أولى منه، ولو كان مخيراً بين صبي عمره عشر سنوات أو تسع ويجيد الذبح، وبين كتابي -يهودي أو نصراني- فيختار الصبي فهو أولى في ذلك. ويستحضر النية صاحب الهدي أو الأضحية أو النذر عند الدفع إلى الوكيل الذي يقوم بالذبح، ويستحب إذا وكل أن يحضر ذبحها، ويجوز ألا يحضر، سواء ذهب بضحيته إلى جزار ليذبحها عنده ويعطيه لحمها فيما بعد أو أنه يحضر وقت الذبح، والأولى أن يكون حاضراً، لكن إذا لم يفعل فهذا شيء يرجع إليه. ويستحب أن يتولى توزيع اللحم بنفسه، ويجوز أن يوكل من يقوم بذلك.

النية في الأضحية

النية في الأضحية والنية شرط لصحة التضحية، ويجوز تقديمها على وقت الذبح، فسواء نوى وقت الذبح أن هذه أضحية أو قبل الذبح بساعة أو عندما اشتراها نوى ذلك فلا حرج، ولو وكل غيره ونوى عند ذبح الوكيل كفى ذلك، ولا حاجة إلى نية الوكيل، أي: أن صاحبها أعطاها للوكيل وهو ينوي أنها أضحية، والوكيل لا توجد عنده نية ولا غيرها، ولكن قال: باسم الله، الله أكبر وذبح، فنية الموكل مجزئة في هذا الأمر، أي: أنه نوى بها أضحية.

التضحية عن الغير وعن الميت

التضحية عن الغير وعن الميت ولو ضحى عن غيره بغير إذنه لم يقع عنه التضحية، فلو فرضنا أنك أتيت بشاة وتريد أن تذبحها عن فلان، فلابد من إذنه وموافقته على هذه العبادة، وإذا ذهبت لفعل ذلك فسيكون لك منة عليه، وقد لا يقبل منك هذه المنة، إذاً: فلا تذبح عن إنسان إلا مع نيته ذلك، وإنما تذبح عن نفسك أو من يلزمك أن تذبح عنه. وتجوز التضحية عن الميت، وهذه فيها خلاف بين أهل العلم، أي: هل يمكن أن أذبح أضحية وأقول: هذه عن والدي المتوفى؟ هذه المسألة مبنية على مسألة الصدقة عن الميت، وهل يصل الثواب للميت أو لا يصل؟ والراجح: أنه يجوز لإنسان أن يتصدق عن آخر ميت، والأضحية لا تخرج عن ذلك، أي: أنها صدقة عن الميت، فإذا ثبت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن سأله: (إن أمي انفلتت نفسها وأراها لو نطقت لتصدقت، أفيجزئ أن أتصدق عنها؟ قال: نعم)، إذاً: فالأضحية كذلك؛ لأنها باب من أبواب الصدقة، فيجوز للإنسان أنه يذبح الأضحية ويقول: هذه عن فلان المتوفى. وقد ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى جواز التضحية عن الإنسان المتوفى، إلا أن المالكية أجازوا ذلك مع الكراهة، والشافعية يقولون أيضاً بالجواز فيها، فإنه يتصدق عن الميت حتى ولو كان الأمر أضحية، أما ما جاء أن علياً كان يضحي عن النبي صلى الله عليه وسلم فإسناده ضعيف، وفيه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه)، لكن عموم جواز الصدقة عن الميت يدل على ذلك، وما الأضحية إلا باب من أبواب الصدقة.

آداب الذبح

آداب الذبح عندما تذبح الأضحية أو يذبحها الجزار فهناك آداب وسنن في ذلك، من هذه الآداب ما يلي:

حد السكين وإراحة الذبيحة

حد السكين وإراحة الذبيحة الأول: يستحب تحديد السكين وإراحة الذبيحة؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تحسن الذبح، وأخبر أن الله سبحانه أمر بذلك، أي: أمر الله بالإحسان في كل شيء، فإذا قتلت -أي: في الجهاد في سبيل الله عز وجل- فلا تعذب أحداً من خلق الله بالتمثيل ونحوه، وإنما تجاهد وتقاتل لإعلاء كلمة الله على وفق شرع الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح) أو (أحسنوا الذبحة)، كما هي في رواية أخرى، ثم قال: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، إذاً: فتحد الشفرة التي هي السكين وتريح ذبيحتك. وجاء في حديث السيدة عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (هلمي المدية، ثم قال: اشحذيها بحجر)، فأمر بسن المدية التي هي السكين، قالت: (ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبح). إذاً: فيستحب أن يحد السكين عند إرادة الذبح، وهذا من الآداب العظيمة الجميلة في ديننا الذي يقتضي الرحمة بالحيوان، والرحمة في ديننا شيء حقيقي ينبع من قلب المؤمن، وليست أموراً إعلامية فنظهر لأجلها في التلفزيون، أو من أجل أن نقول: نحن عندنا رحمة، وعندنا ديمقراطية، وعندنا كذا، وإنما هي آداب عظيمة من ديننا، نتقرب إلى الله عز وجل بها، ليس كما يفعل من إذا كان أمام الناس يظهر الرحمة وأنه من أسمح الناس خلقاً، وإذا كان بعيداً عنهم يعذب ويقتل ويفعل ما يشاء، إذاً: فنستفيد من هذا الرحمة بالحيوان. وانظر في الحديث الذي رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته)، الرجل كان مضجعاً للشاة ووضع رجله عليها، ويسن السكين وهي تلحظ إليه ببصرها، وتعرف أنه سيذبحها بهذه السكين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلا قبل هذا؟!)، أي: هلا سننت السكين قبل إضجاعك لها بعيداً عنها؟! (أتريد أن تميتها موتتين؟!)، أي: بهذا الذي تفعل، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أنه يسن سكينه أمام الذبيحة. وفي رواية قال: (أتريد أن تميتها موتات؟! هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها؟!)، أي: فتسن السكين قبل أن تضجعها. إذاً: فيستحب ألا يحد السكين بحضرة الذبيحة، وألا يذبح واحدة بحضرة أخرى، إلا أن يضيق المكان، أما إذا كثرت الذبائح وضاق المكان فلا بأس، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح أو نحر ست أو سبع بدنات وكلهن يزدلفن -أي: يتقربن- بأيتهن يبدأ، وكذلك نحر إبله فما كان يجعل واحدة وراء الثانية، ولكن إذا تيسر للإنسان أن يذبح الذبيحة وليست أمام الأخرى فهذا الأفضل.

سرعة الذبح

سرعة الذبح الثاني: يستحب ألا يجرها إلى مذبحها بعنف وشدة، ويستحب إمرار السكين بقوة وتحامل ذهاباً وعودة، وتعجيل إمرارها؛ ليكون أسرع وأسهل في ذبحها. الثالث: يستحب أن يكون الذابح متمرساً متدرباً على ذلك، فيذبح بيد قوية وينزل بالسكين مرة واحدة.

استقبال القبلة عند الذبح وتوجيه الذبيحة إليها

استقبال القبلة عند الذبح وتوجيه الذبيحة إليها الرابع: يستحب استقبال الذابح القبلة، وتوجيه الذبيحة إليها، وهذا مستحب في كل ذبيحة، لكنه في الهدي والأضحية أشد استحباباً، أن تكون الذبيحة موجهة إلى القبلة، وهذا بحسب ما يتيسر للإنسان الذي يذبح، فقد تكون الذبيحة سهلة، وقد تكون صعبة لا يقدر الذابح أن يذبحها بهذه الصورة المستحبة، إذاً: فحسبما يتيسر، لكن إن تيسر له استقبال القبلة فهو السنة وهو أفضل.

نحر الإبل وذبح البقر والغنم

نحر الإبل وذبح البقر والغنم الخامس: يسن نحر الإبل وذبح البقر والغنم، وإن نحر البقر والغنم أو ذبح الإبل كره ذلك وأجزأ عنه، ودليل النحر قول الله عز وجل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، ونحر الإنسان معروف، فينحر الذابح بأن يطعن في لبة الذبيحة، والذبح من الأشياء التي فيها الرحمة بهذا الحيوان، أي: مجرد أن يذبح الحيوان أو ينحره فالدم ينقطع عن المخ، فيذهب الإحساس من الحيوان، ولذلك العلماء الذين يتكلمون في أمر الإعدام بأن يكون إما بأن يأخذ المعدوم الإبرة التي فيها سم فيموت، أو أن يضرب بالرصاص، أو نحو ذلك، يقولون: أفضل شيء -وهذا باعتراف الغربيين والأمريكان وغيرهم- في الإعدام وأرحم شيء فيه هو الذبح؛ لأن الذبح مجرد أن تنقطع منه العروق فليس هناك دم يصل إلى المخ فيذهب الإحساس. أما الخنق بأن يشد الحبل على رقبة الإنسان فما زال الدم يصل فيه إلى المخ، فينتظر عشر دقائق أو ربع ساعة وقلبه ما زال ينبض ويتألم ألماً شديداً. والسم الذي يوضع للإنسان -أي: حقنة سم- ينتظر الإنسان نصف ساعة وروحه ما زالت تخرج، إلى غاية أن تذهب في النهاية، ويتعذب عذاباً شديداً. وكلما فكروا في خلاف ما ذكره الله عز وجل كان شيئاً باطلاً باعترافهم هم، وإن كانوا يعاندون في مسألة الذبح الإسلامي، يعاندون وهم أكثر من يعرف أن هذا الذبح أرحم بالحيوان من غيره، وإن كان الآن -على استحياء- يقولون: نحن نذبح فقط بعدما نضربها بالرصاص أولاً، فإما أن تضرب بطلقة في دماغها لتخديرها ثم تذبح، أو نحو ذلك، ولما ناقشهم بعض المسلمين من الأطباء قالوا: نحن يمكننا أن نذبح مباشرة، لكن ما الذي يعرفنا أنها هي الذبيحة، وقد تتخلص من يد الذابح وتقتل أحداً من الموجودين. إذاً: كأن نظراتهم ليست لرحمة الذبيحة، وإنما من أجل ألا تهلك أحد الناس، وكانوا في الماضي يمنعون الذبح أبداً، ثم نظروا نظرة اقتصادية مالية نظرة طمع، فقالوا: الحيوان بدمه وزنه أثقل، وإذا ذبحناها نخرج دمها فتصير خفيفة، إذاً: فنجعلها أثقل من أجل أن تأتي لنا بمال أكثر، فهذه نظرتهم، فأخزاهم الله عز وجل بأن جعل الدم الذي بداخلها يعفن فيها ويفسد اللحم، ولا يبقى اللحم صالحاً الزمن الذي يريدونه، فتراجعوا قليلاً قليلاً ثم قالوا: دعنا نذبح، لكن قبل الذبح الذي فيه رحمة نطلق عليها رصاصاً ثم نذبح بعد ذلك. والإسلام ليس فيه هذه التمثيليات وهذه الخيالات التي يزعمونها، وفي النهاية يقرون بأن الحق في الإسلام، وأن الذبح أسهل ما يكون، والإسلام يقول لنا: إما أن تذبح وإما أن تنحر، فإما الذبح الذي هو قطع وفري الأوداج، فهناك عرقان عرق في الشمال وعرق في اليمين، وهما الاثنان في الرقبة، ومهمتهما: أن يوصلا الدم إلى مخ الإنسان والحيوان، وهناك في نصف الرقبة القصبة الهوائية التي توصل الهواء والأكسجين، ووراءها المريء الذي يبتلع به الطعام. فمن إكمال الذبح أن تقطع هذه الأربعة الأشياء، فإذا قطعت بعضها جاز الذبح، فإذا قطعت العرقين اللذين يوصلان الدم، أو قطعت الحنجرة التي توصل النفس فقد زهقت روح البهيمة، ولا شعور لها بعد ذلك بشيء، وإن كان فيها حركة واضطراب فإنما هي لدفع الدم الذي بداخلها للخروج إلى الخارج، ومن رحمة رب العالمين أن تقطع أكبر العروق الموجودة بحيث إن الدم الذي بالداخل يخرج كله أو أكثره بهذه الطريقة. والنحر: هو الطعن في اللبة، واللبة: ثغرة العنق في الحيوان الذي تنحره وهو الجمل، فتكون السكينة لها نصل طويل تطعن به داخل اللبة، فيصل إما للقلب مباشرة، أو إلى الشرايين الرئيسية التي تخرج من القلب، بحيث إنه يقطع الشرايين، فلا يوجد دم يصل إلى المخ في هذه الحالة وتستريح الذبيحة بذلك. فهذه الطريقتان في الإسلام: طريقة النحر، وطريقة الذبح للبهيمة، فيستحب في الإبل أن تنحر، ويستحب في البقر والغنم أن تذبح، وإذا عكس فالراجح أن ذلك صحيح.

استحباب نحر البعير قائما معقولا اليد اليسرى وإضجاع البقرة والشاة

استحباب نحر البعير قائماً معقولاً اليد اليسرى وإضجاع البقرة والشاة السادس: يستحب أن ينحر البعير قائماً على ثلاث قوائم معقول اليد اليسرى، قال الله عز وجل: {وَالْبُدْنَ} [الحج:36]، أي: الإبل {جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36]، إذاً: فتنحر الإبل وهي قائمة؛ لقوله تعالى: (صَوَافَّ)، أي: قائمة على أيديها وأرجلها، وقال ابن عباس (صَوَافَّ)، قياماً وكلمة (صواف) أو (صافنة) بمعنى: قائمة أيضاً، ولكن معقولة اليد اليسرى، قائمة على ثلاث أرجل أو ثلاث قوائم واليد اليسرى معقولة مربوطة. جاء في سنن أبي داود عن جابر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى، قائمة على ما بقي من قوائمها)، إذاً: فهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما ينحرون الجمال أو الإبل ينحرونها وهي واقفة على القوائم، ثم يأتي على يدها اليسرى فيثنيها ويربطها، فتبقى على هذه الحالة، أي: واقفة على اليد اليمنى وعلى الرجلين الخلفيتين، فإذا نحره على هذه الحالة فلعل الجمل يثور عليه فيقع، إذاً: فالسنة في نحر الجمل أن يكون على هذه الحالة، وجاء عن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها فقال: (ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم). فإن لم يتيسر نحرها قائمة فباركة، فينظر الإنسان الأيسر فيها، وقد ذكر بعض العلماء ومنهم الخرشي المالكي: أن السنة أخذ الشاة برفق، وتضجع على شقها الأيسر، ورأسها مشرف، وتأخذ بيدك اليسرى جلدة حلقها من اللحي الأسفل بالصوف أو غيره، فتمده حتى تتبين البشرة، وتضع السكين في المذبحة، ثم تسمي الله، وتمر السكينة مراً مجهزاً من غير ترديد، ثم ترفع، ولا تنخع ولا تضرب بها الأرض. فقد جمع الآداب في هذه الجملة في شرحه لمختصر خليل في صفة الذكاة، قال: والسنة أخذ الشاة برفق، فيأخذ الشاة ومن ثم يضجعها على جانبها الأيسر، ويوجهها إلى القبلة، ورأسها مشرف، أي: مرتفع من أجل أن يطول لكي تذبح بسهولة. وتأخذ بيدك اليسرى جلدة حلقها من اللحي الأسفل ذي الصوف أو غيره -واللحي: هو عظم الفك الأسفل- بحيث يشد الجلد حتى يبعد الصوف ويتبين الجلد الذي الصوف موجود فيه، وقول الخرشي: وتضع السكين في المذبح، أي: تحت الحلق، وفوق الجوزاء، وسواء كان فوق الجوزاء أو تحتها فالراجح أنه مجزئ في الحالتين. وقوله: ثم ترفع ولا تنخع، النخع معناه: قطع العمود الفقري الذي يصل الرقبة كلها على بعضها، والنخع: مخ أبيض في فقرات العنق، أي: الأعصاب الموجودة داخل فقرات عنق الإنسان. ثم قال: وإلا كنت قد قتلتها قبل ذكاتها، وهذا محمول على العكس، أي: على أنه من ظهرها، فلو أنه أمسك الشاة وبدأ الذبح من قفاها فقد بدأ الذبح، ويكون قد قطع فقرات رقبتها من الخلف، فلن يصل إلى الأمام إلا وقد ماتت على هذه الحال، وحكم هذه الحالة ما قاله الخرشي: تكون قتلتها، إلا أن يكون المر مراً سريعاً فيكون قد ذبحها بذلك، وهذا خطأ، أي: أن يبدأ بالقفا قبل أن يبدأ من الأمام، ولو فرضنا أن السكين كانت حامية جداً فمجرد أن نزل بها من على الرقبة قطعت الرقبة كلها، فالراجح: أن الذبح صحيح، وقد أساء في ذلك. السابع: يستحب أن يضجع البقرة والشاة على جنبها الأيسر؛ لما جاء في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.

التسمية عند الذبح

التسمية عند الذبح الثامن: يجب أن يسمي عند الذبح؛ لحديث أنس: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما)، أي: على جانب كل واحد منهما. فيجب أن يسمي عند الذبح والنحر مع التذكر والقدرة، ومعنى القدرة: أي: أنه يمكن أن يكون الذابح متذكراً لكنه أخرس، أي: لا ينطق، فعلى هذا يكون غير مستطيع لذلك، وذبحه صحيح. ومما يدل على تحتم التسمية قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ * وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:118 - 119]، وقوله سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121]، فلا تأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، أي: الذي تعمد ألا يذكر اسم الله فذكر اسم غيره سبحانه وتعالى. أما اليهودي أو النصراني إذا ذبحا ولم يذكرا اسم الله عز وجل، فهل تصح الذبيحة؟ الراجح: أنها تصح ذبيحته، ويؤكل منها، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سم أنت وكل)، فالإنسان الذي يذبح وهو متذكر للتسمية غير متأول فيها -على مذهب من المذاهب- ورفض أن يذكر اسم الله عز وجل فلا تؤكل ذبيحته. أما الذي نسي فذبح، أو الذي له مذهب في ذلك كمذهب الشافعي رحمه الله: أن التسمية سنة وليست فرضاً، أو أنه يرى أنه لو سمى على ذبح شاة واحدة فيجزئ؛ لأنه سيذبح مائة مثلاً، فبدأ بالأولى وقال: باسم الله والله أكبر، ولم يسم بعد ذلك، فالراجح: صحة الذبح؛ لأنه متأول في ذلك. ولا عذر لمن يذبح غير متأول وهو متعمد ألا يذكر اسم الله سبحانه ويذكر اسم غيره، فهذا لا تؤكل ذبيحته.

استحباب عرض الماء على الذبيحة قبل ذبحها

استحباب عرض الماء على الذبيحة قبل ذبحها التاسع: استحب العلماء عرض الماء عليها قبل ذبحها؛ فلعلها أن تكون عطشانة فتشرب في هذه الحالة، وذكروا علة في ذلك فقالوا: هذا أعون على سهولة سلخ جلدها، فعندما تكون شاربة للماء تنتفخ قليلاً وهذا يساعد على سهولة سلخ الجلد.

سلخها بعد أن تبرد

سلخها بعد أن تبرد العاشر: يستحب ألا يقطع أعمق من الودجين والحلقوم، وألا يكسر العنق، ولا يقطع شيئاً منها قبل أن تخرج روحها، أي: إذا ذبحت فاصبر عليها إلى أن يخرج كل الدم الذي فيها، فلا تسلخ إلا عندما يكمل خروج الدم الذي فيها، فانتظر إلى أن تسكن الذبيحة، ثم ابدأ في السلخ بعد الذبح.

استحباب الأكل والتصدق من الأضحية

استحباب الأكل والتصدق من الأضحية الحادي عشر: بعدما ذبحت وقطعت فوزعها على من يستحقها، وقسمة الهدي والأضاحي قال الله عز وجل فيها: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:36]. فأمر الله عز وجل فيها: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36]، و {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]. إذاً: فالسنة أن تأكل منها وتطعم القانع والمعتر، كما قال الله سبحانه، وأكثر أهل العلم على أن الأكل منها مستحب، فلو لم تأكل منها فلا شيء عليك. وجاء في صحيح مسلم عن ثوبان قال: (ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحيته ثم قال: يا ثوبان! أصلح لحم هذه، فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة)، فهذا فيه أنه ذبح أضحية وأكل منها صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك جاء في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: (كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث، فرخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا وتزودوا وادخروا فأكلنا وتزودنا). فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم منعهم من أجل أن جماعة من الأعراب نزلوا المدينة دافة، وكانوا في غاية المسكنة والضعف وكانوا محتاجين إلى الطعام، فلو أن كل واحد من أهل المدينة ذبح أضحيته وأكل وادخر فلن يأكل الأعراب شيئاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة نهاهم أن يتزودوا منها فوق ثلاث، فحدد ثلاثة أيام للأكل من الأضحية، وما زاد عن ذلك يعطي لهؤلاء الأعراب، ثم نسخ ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلوا منها وتزودوا). ومن لم يأكل من هديه وأضحيته فلا شيء عليه؛ فالأمر في الآية ليس للوجوب، وثبت في سنن أبي داود عن عبد الله بن قرط أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يوم النحر، ثم يوم القر)، إذاً: يوم النحر أعظم الأيام؛ لأن فيه أغلب المناسك، من صلاة الفجر في المزدلفة، والوقوف عند المشعر الحرام، ورمي الجمرة، والحلق وهو نسك، والذبح والنحر، والطواف بالبيت، وهي كلها مناسك تكون في يوم العيد، فهو أعظم الأيام عند الله عز وجل، ثم يليه يوم القر الذي هو أول أيام التشريق وثاني أيام العيد. قال: (وقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمس أو ست)، أي: في هذا اليوم يوم النحر قرب للنبي صلى الله عليه وسلم بدنات خمس أو ست بدن (فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ)، وهذه كرامة من كراماته صلى الله عليه وسلم، ومعجزة من معجزاته، فالبدن أو الجمال كل منها يقرب للنبي رافع رقبته من أجل أن يبتدئ النبي صلى الله عليه وسلم بذبحه أو بنحره، (فلما وجبت جنوبها قال: فتكلم كلمة خفية لم أفهمهما)، يقول الراوي ذلك، (فقلت: ما قال؟ قال: من شاء اقتطع)، فكأنه نحر هذه الجمال وتركها ولم يأخذ منها شيئاً، وهذا دليل على أنه لا يجب أن يأكل من لحم الأضحية، فقد نحرها النبي صلى الله عليه وسلم وتركها للناس، وقال بصوت خفيف أو منخفض: (من شاء اقتطع)، أي: من يريد أن يأخذ فليأخذ، ولماذا ما قال بصوت عال؟ لعله خشي أن يحصل هجوم عليها، فلعله خفض صوته ليأخذ كل واحد منهم شيئاً بسيطاً فيكفي الجميع. إذاً: فلا يلزم الأكل منها سواء من الأضحية أو من الهدي، بل يجوز التصدق بالجميع وألا يأكل منها شيئاً، والأفضل: أن يتصدق بأكثرها، فإن تصدق بأدنى جزء منها كفاه؛ لأن اسم الإطعام والتصدق يقع عليه، فإن أراد الأكل من الأضحية أو من المنذورة أو من المتطوع بها فنقول: لك أن تأكل منها الثلث، وأن تهدي الثلث، وأن تعطي الفقراء البعض منها الذي يطلق عليه أنه صدقة، فإن لم تجد ما تعطي الفقراء فتأتي بلحم مثل القدر الذي أكلته وتوزعه على الفقراء. فأدنى الكمال: أن يأكل الثلث ويتصدق بالثلثين، وأكمله أن يأكل شيئاً ويتصدق بالباقي، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نحر مائة بدنة في حجة الوداع أخذ من كل جمل قطعة لحم، وكان المجموع الذي أخذه شيئاً يسيراً أمام ما ذبح، إذ تصدق بالجميع وأخذ من كل جمل قطعة بحيث وضعها في قدر، وهي للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن معه، فأكلوه، والباقي كله للناس، فهذا هو الكمال. أما أدنى الكمال: فهو أن يأخذ شيئاً ويتصدق بشيء، فيأكل الثلث ويتصدق بالثلثين، أو يأكل الثلث ويتصدق بالثلث على المساكين ويهدي الثلث إلى الأغنياء، ولا يوجد حديث ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم هذا التقسيم، أي: ثلث للمضحي وثلث يتصدق به وثلث يهديه، ولكن أخذ من معنى هذه الآية، قال الله عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]، فقوله: (فَكُلُوا مِنْهَا)، أي: يأكل جزءاً منها، وقوله: (وأطعموا القانع) وهو المسكين السائل، وهذا جزء ثانٍ، وقوله: (وَالْمُعْتَرَّ)، أي: الذي لم يسأل فتهدي إليه، فجعلها أثلاثاً، وإن كان لا يشترط قسمة ثلاثية بالعدل، فقد تقل نصيبك أنت وتزيد في الباقي.

مسائل متفرقة في الأضاحي

مسائل متفرقة في الأضاحي الأولى: ليس له أن يتلف من لحم المتطوع بها شيئاً؛ بل يأكل ويطعم، فإذا تعمد إتلاف شيء غرم ما أتلفه؛ لأن هذه يتقرب بها لله عز وجل، فليس له أن يتلف شيئاً منها، فإذا تعمد أن يبيع شيئاً منها غرم ما باعه، فيتصدق بثمن الذي أخذه، أو يغرم مكان ما باعه منها. الثانية: يجوز أن يصرف القدر الذي لا بد من التصدق به ولو إلى مسكين واحد، فلو فرضنا أنه ذبح ووجد مسكيناً عنده عشرون ولداً فيعطيه ثلث الأضحية، وإن أعطى الأضحية كلها لهذا الفقير فله أن يفعل ذلك، فيعطي المساكين ولو حتى المسكين الواحد جميع الواجب الذي عليه. الثالثة: إن أعطى الجازر من الأضحية شيئاً أجرة له ضمنه؛ لأن الأجرة لا تعطى منها ولا حتى الجلد، ولذلك في حديث علي رضي الله عنه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها وألا أعطي الجزار منها، قال: نحن نعطيه من عندنا). إذاً: إذا كان على وجه الإجارة فلا يجوز، لكن إذا أعطاه على وجه الهدية وقد دفع له الأجرة جاز، ولو أعطى له الجلد هدية منها فجائز، وكذا لو أعطى له صدقة لفقره جاز، لكن أن يعطي الجزار منها على وجه الإجارة مقابل ما ذبح فهذا غير جائز. الرابعة: إن أطعم غنياً منها على سبيل الهدية جاز، وإن أتلف أجنبي منها شيئاً ضمنه، أي: يدفع قيمتها، ولو جاء إنسان أجنبي وأتلف جزءاً منها بأن رماه ونحو ذلك فأتلفه فعليه أن يضمن هذا الجزء الذي أتلفه. الخامسة: يجوز أن يدخر من لحم الأضحية، وقد كان ادخارها فوق ثلاثة أيام منهياً عنه؛ لما قلناه سابقاً: أن جماعة من الأعراب نزلوا عند النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وكانوا فقراء، فلو أن أهل المدينة ادخروا من لحوم الأضحية فالأعراب لن يحصلوا شيئاً، فنهاهم في هذه السنة عن الادخار، ثم أباح لهم بعد ذلك صلوات الله وسلامه عليه. وإن أراد الادخار فالمستحب أن يكون من نصيب الأكل لا من نصيب الصدقة والهدية. أما بالنسبة للأضحية فالراجح: أنه إذا نذر أضحية فله أن يأكل منها، سواء كانت أضحية أو نذراً، فإن ضحى بها فيجوز له أن يصرفها مصرف الأضحية، لكنه أوجب على نفسه ذلك بكلمة النذر، فالأصح إذاً أنه يأكل منها ويطعم غيره؛ لأن النذر محمول على المعهود، والمعهود من الأضحية الشرعية ذبحها والأكل منها، والنذر لا يغير من صفة المنذور، إلا إذا كان نذره أن هذا لله وليس أضحية، فمثلاً: إذا قال: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أذبح الشاة الفلانية، فذبح هذه الشاة، فعليه أن يتصدق بجميعها، فإن قال: أذبحها أضحية، فمصرفها مصرف الأضحية. السادسة: الهدي الواجب له أن يأكل منه، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكلوا من هدي التمتع الذي ذبحوه، لكن ليس له أن يأكل من الهدي المنذور، ولا من هدي الكفارة، ولا من جزاء الصيد. فمثلاً: إذا كان لبس الثياب في أثناء الإحرام فعليه دم في ذلك، فإذا ذبح فليس له أن يأكل منه، وكذلك إذا صاد صيداً في الحرم، كأن صاد حمامة في الحرم فقتلها، فعليه أن يطعم فقراء الحرم، فيذبح لهم شاة ويطعمهم، وليس له أن يأكل من ذلك. إذاً: هدي القران ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الجمال التي ذبحها، وهدي التمتع أهدى النبي صلى الله عليه وسلم عن أزواجه -وكن متمتعات- البقر، وأرسل إليهن من لحمها عليه الصلاة والسلام. ولا يجوز بيع شيء من الهدي والأضحية نذراً كان أو تطوعاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من باع جلد أضحيته فلا أضحية له)، فالذي يبيع الجلد فلا أضحية له، حتى ولو زعم أنه سيبيع ويتصدق بالمال، ولكن لك أن تنتفع بهذا الجلد أو أن تهديه أو تتصدق به، ومن تصدقت بالجلد عليه فله أن ينتفع به بأي شيء، حتى ولو بالبيع، إذاً: فلو تصدقت به لمسجد من المساجد يجمع جلود الأضاحي فلك ذلك، ولك أن تعطيه الإسعاف ليأخذوه ويبيعوه ثم يصنعوا بثمنه للفقراء في المستشفيات أشياء يشفون بها، فهذا يجوز، إذاً: فإذا تصدقت به فإنه يكفي، والذي أعطيته صدقة له أن يتصرف به بما يشاء ولو ببيعه. السابعة: يستحب أن يتصدق بجلال الهدي -أو الجلال: هي الأكسية التي تبقى موجودة على الهدي-؛ لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا يكفي التصدق بالجلد والقرن، أي: لو أتى بأضحية كخروف وذبحه، وقال: علي أن أتصدق بشيء منه وسأتصدق بجلده وقرنه، فهذا لا ينفع؛ لأن الله عز وجل قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج:28]، وأنت لم تطعم بهذه الصورة. الثامنة: يجوز أن ينتفع بجلدها، فيصنع منه النعال والخفاف والفراء، ومن نذر الأضحية في عام فأخر عصى، أي: إذا نذر بقوله: لله علي أن أضحي هذا العام، وقدر، إن أخرها فيعصي بذلك ويلزمه القضاء، كمن أخر الصلاة. موضع الأضحية هو البلد الذي أنت فيه، ولكن الراجح: أنه يجوز لو كنت في بلد ووكلت إنساناً في بلد آخر أن يضحي عنك جاز لك ذلك، كبعض الناس يكون مسافراً في بلد ما، ثم يتصل بأهله في مصر مثلاً: اذبحوا الأضحية في العيد ووزعوا على الفقراء، فهذا جائز. والأفضل أن يضحي في داره بمشهد أهله، ويجوز نقل الأضحية بحسب الحاجة، والأفضل للإمام أن يضحي في المصلى، والإمام المراد به إمام المسلمين الذي هو الحاكم أو أمير الناس، فإذا صلى بهم فيستحب له أنه يضحي في مكان الصلاة. ويجوز للوصي أن يشتري لليتيم أضحية، أي: لو كان هناك يتيم وأنت تربيه وهو غني وله مال فيجوز أن تشتري له أضحية من ماله، ففيها جبر لقلبه وتطييب لخاطره. ويجوز إطعام الجيران من أهل الذمة من أضحية التطوع دون الواجب، فصدقة التطوع يجوز أن تعطي منها ولو للفقراء من أهل الذمة من اليهود أو النصارى من الجيران، وهذا في التطوع، أما الصدقة الواجبة كالزكاة والأضحية الواجبة والمنذورة فلا يجوز أن تعطى إلا للمسلمين، وجاء في حديث عند الترمذي عن مجاهد أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: ذبحت له شاة في أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). إذاً: ففهم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجوز أن يهدى لأهل الذمة، لكن أهل العلم على أن الصدقة الواجبة كالزكاة أو النذر الواجب لا يجوز أن يعطى منها إلا للمسلمين، والله أعلم. نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أحكام الفرع والعتيرة والعقيقة

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - أحكام الفرع والعتيرة والعقيقة الفرع والعتيرة نوعان من أنواع الذبائح المعروفة في الجاهلية، وقد عرفها العلماء بعدة تعاريف واختلفوا في حكمها بين مجيز لهما ومحرم. والعقيقة: هي ما يذبح عن المولود في اليوم السابع، وهي سنة نبوية متأكدة، ولها أحكامها وتفاصيلها المعروفة في كتب الفقه.

حكم الفرع والعتيرة في الشرع

حكم الفرع والعتيرة في الشرع

تعريف الفرع والعتيرة

تعريف الفرع والعتيرة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. نتحدث اليوم عن حكم الفرع والعتيرة والعقيقة حتى نستكمل كتاب: الجامع لأحكام الحج في باب الفرع والعتيرة. الفرع والعتيرة: نوع من الذبائح التي تذبح، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في شأنها، فالفرع يفسره أهل العلم بأنه: أول نتاج الإبل والغنم، فصاحب الإبل، أول ما ينتج عنده من الإبل وتلد له هذه الإبل أول النتاج يسمى بالفرع. وكذلك إذا كان عنده أغنام ومواشي فأول النتاج هذا يسمى: الفَرَع أو الفرْع، وكان هذا معروفاً في الجاهلية، فقد كانوا يذبحون أول النتاج رجاء البركة من الله لهم في الأموال التي عندهم، وأن الأم يكثر نسلها، وكان أكثرهم يذبحون هذا الذبح لأصنامهم، فأهل الجاهلية كانوا يذبحون للأصنام ويرجون البركة من وراء ذلك، وكثرة النسل. وهناك تفسير آخر للفرع: وهو ما يذبحه صاحب الإبل إذا بلغت مائة. فيكون الفرع: هو أول النتاج، أي: مجرد ما تلد الإبل يذبح هذا الفرع، وكذلك إذا بلغ عدد الإبل ما يتمناه الرجل من مائة ناقة فبمجرد ما تصل إبله إلى مائة يذبح واحداً منها، فهذا هو معنى الفرع. والعتيرة أيضاً ذبيحة كانت تذبح في الجاهلية، وكان أهل الجاهلية يعظمون شهر رجب تعظيماً عجيباً، وكانوا يعظمون أشهر الحرم التي هي: ذو القعدة وذو الحجة وشهر المحرم، فهذه ثلاثة سرد، وواحد فرد وهو شهر رجب، فكانوا يعظمون شهر رجب أشد من تعظيمهم لباقي الأشهر، وكانت هذه البقية ينسئونها ويسمون المحرم صفراً بحيث يقاتل بعضهم بعضاً فيه، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة:37]. فهذه الأشهر الحرم كان أعظمها عندهم شهر رجب، وكانوا يذبحون فيه الذبيحة التي يسمونها بالعتيرة في أول عشرة أيام من رجب، ويسمونها أيضاً الرجبية.

حكم الفرع والعتيرة

حكم الفرع والعتيرة ولا يجب لا الفرع ولا العتيرة، والتقرب إلى الله عز وجل هذا شيء عظيم، فتتقرب إلى الله عز وجل في أي شهر من الشهور، وليس شرطاً في هذه الأشهر، فتتقرب إلى الله بالصدقة، وتتقرب إلى الله بالنسك والذبح، هذا كله جائز، لكن هل لابد أن تفعل هذه الأشياء التي كان يفعلها أهل الجاهلية ثم فعلها بعض المسلمين بعد ذلك، أم أن أمرها قد نسخ، أم ما هو حكمها؟ جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا فرع ولا عتيرة)، وهذا نفي للجنس، (لا فرع) أي: ليس في الإسلام فرع ولا عتيرة؛ لأنه كان من فعل أهل الجاهلية، أو المعنى: ليس في الإسلام ما كان يصنعه أهل الجاهلية؛ لأنهم كانوا يذبحون لأصنامهم، وفي الإسلام لا يوجد مثل ذلك، ولكن اذبح لله في أي شهر. ومعنى آخر: (لا فرع ولا عتيرة) أي: واجبة، وقد بين الله عز وجل لنا الصدقات الواجبة، وكيف تقسم، وكيف توزع على أصحابها، فالمال ليس فيه حق إلا الزكاة التي فرضها الله سبحانه إلا أن يحتاج الناس فيتكافلون فيما بينهم. فتكون الزكاة بينت الواجبات الأخرى، فما كان واجباً قبل ذلك من أشياء فقد جاءت الزكاة وبينت النصاب الذي يكون في المال، وفي أجناس المال وأنواعه، وكيف تخرج هذه الزكاة، وعلى من توزع. ولذلك نقول: لا بأس بالفرع والعتيرة في رجب وفي غيره شكراً لله وتعبداً, فهذا كله لا بأس به طالما أنه فعل لله سبحانه، فتشكر الله عز وجل على ذلك، والدليل: ما رواه أبو داود وأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل خمسين شاة شاة)، فقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وقد ذكرنا قبل ذلك زكاة المال وزكاة بهيمة الأنعام، وأن الأغنام من بهيمة الأنعام التي جعل النبي صلى الله عليه وسلم فيها قدراً معيناً، وقوله: (في كل خمسين شاة شاة) يحتمل الزكاة ويحتمل غيرها، وفي لفظ لـ أحمد: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرع)، وعليه فليس المراد به الزكاة. وأيهما يكون متقدماً حديث أبي هريرة أم حديث عائشة؟ لو قلنا: حديث أبي هريرة هو الأول، فيكون معناه: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما كان يفعل في الجاهلية من فرع وعتيرة، ثم بعد ذلك نسخ هذا الحكم بحديث عائشة رضي الله عنها، فقد كانوا في الجاهلية يفعلونه، ثم منع، ثم أبيح وهذا محتمل، ولكن الاحتمال الأقرب: أن يكون حديث عائشة رضي الله عنها جرى على ما كانوا عليه، ثم بعد ذلك جاء حديث أبي هريرة فمنع، وهذا هو الأرجح؛ لأن أبا هريرة كان إسلامه متأخراً، بعد العام السابع في خيبر، ومعناه: أنه سمع الشيء المتأخر، وأخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا فرع ولا عتيرة). فقد كانوا في الجاهلية يفرعون ويعترون، فجاء الإسلام وبين لهم: اعملوا كذا واعملوا كذا لكن ليس على هيئة الوجوب، وإنما لبيان ما يصنعونه في ذلك، ثم لما ظنوا أن هذا واجب وأنه لابد أن يفعلوه، فقد يكونون فهموا ذلك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: (الفرع حق)، فبين لهم أنه: (لا فرع) واجب عليكم، فلا يجب عليكم ذلك. وفي رواية الإمام أحمد رحمه الله: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرع من كل خمس شياه شاة)، والحديث الأول هو حديث عائشة، وهو قوله: (من كل خمسين) فيحمل على الزكاة، وفي رواية الإمام أحمد قال: (أمرنا بالفرع)، وبينت عائشة فقالت: (من كل خمس شياه شاة)، وهذا قدر كبير جداً، والزكاة لم تأتِ بذلك، فغايته أن يكون هذا مستحباً ولا يجب. قالت: (وأمرنا أن نعق عن الجارية شاةً وعن الغلام شاتين)، وباقي الحديث: (أمرنا بذلك صلى الله عليه وسلم) أي: بالعقيقة. وروى أبو داود عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه -وهذا الحديث صحيح- أنه قال: (نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب فما تأمرنا؟ قال: اذبحوا لله في أي شهر كان، وبروا الله عز وجل، وأطعموا). نقول: الأمر هنا على الوجوب، ولكن إذا كان الأمر جواباً للسائل فلا يدل على الوجوب، فإن الأمر يدل على الوجوب ابتداءً، ولكن عندما يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل نفعل كذا؟ فيقول: افعلوا، فيكون ورد جواباً على السائل، ولا يكون الجواب إلا كذلك، فلا يقال: هذا أمر على الوجوب، فعلى ذلك: هنا السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم: كنا نذبح، فقال: (اذبحوا لله في أي شهر كان، وبروا الله عز وجل، وأطعموا)، وقال الرجل: (إنا كنا نفرع فرعاً في الجاهلية، فما تأمرنا؟). فقد كانوا يَعترون، والعتيرة: ذبيحة رجب، قال: (كنا نفرع فرعاً في الجاهلية فما تأمرنا؟) يعني: نحن في الجاهلية عندما تكثر غنمنا أو إبلنا نذبح واحدةً منها، أو عندما يأتي أول النتاج من الإبل نذبحه على حاله، من غير أن نطعمه ولا نمسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (في كل سائمة فرع تغدوه ماشيتك)، السائمة: بهيمة الأنعام التي تسوم ولا تعلف، أي: تأكل من المراعي التي خلقها الله سبحانه وتعالى، قال: (في كل سائمة فرع تغدوه ماشيتك حتى إذا استحمل للحجيج ذبحته فتصدقت بلحمه على ابن السبيل، فإن ذلك خير). فقوله: (إذا) بينت في آخر الحديث أن هذا من الخير الذي تفعله وليس هذا فرضاً واجباً عليك. فيكون حديث نبيشة فيه: أنهم كانوا يذبحون في رجب فقال لهم: اذبحوا لله في أي شهر، في أي شهر من الشهور، ولا تخصصوا رجب ولا غيره، ولكن اذبحوا لله عز وجل. وقوله: (كنا نفرع في الجاهلية فما تأمرنا؟ قال: في كل سائمة فرع تغدوه ماشيتك)، تغدوه أي: تطعمه كما تطعم ماشيتك؛ لأنه كان في الجاهلية أول ما تلد الناقة وهو ما ليس له لحم إلا يسير جداً، وجلدة على عظم يذهب ويذبحه على هذه الحال. وعندما تذبحه على هذه الصورة فمن الذي سيستفيد منه؟ فحد الاستفادة من ورائه شيء يسير جداً، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: (في كل سائمة فرع تغدوه ماشيتك) أي: كما تغدو ماشيتك، كذلك تغدو هذا، (حتى إذا استحمل للحجيج) أي: صار قوياً يستطيع أن يحمل الأحمال ويذبحه الإنسان في هدي ونحو ذلك، فهنا يجوز لك أن تذبحه، وقوله: (استحمل) أي: أطاق أن يحمل فوقه، ولم يعد صغيراً. وفي رواية أخرى أيضاً صحيحة عن مخنف بن سليم قال: (بينما نحن وقوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات إذ قال: يا أيها الناس! إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، أتدرون ما العتيرة؟ هذه التي يقول الناس: الرجبية). ولو كان هذا الحديث لوحده فيمكن أن يدل على أن كل أهل بيت يجب عليهم ذلك، ولكن عرفنا من الأحاديث السابقة: أن الأضحية عند جماهير أهل العلم سنة مستحبة، وليست فريضة واجبة، ولذلك كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما لا يضحيان؛ مخافة أن يظن الناس أنها واجبة. فيحمل هذا الحديث على استحباب الأضحية إذا قدر عليها، والعكس من باب أولى، إذا كانت الأضحية مستحبة فكذلك العتيرة تكون مستحبة. وهناك حديث آخر رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرع؟ قال: والفرع حق). أي: ما كانوا يفعلونه في الجاهلية كان باطلاً، فقد كانوا يذبحون للأصنام، ولكن في الإسلام يذبحون لله سبحانه وتعالى، فهذا من الحق، ومن الصدقة. قال: (وإن تتركوه حتى يكون بكراً ابن مخاض أو ابن لبون فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبره، وتكفأ إناءك وتوله ناقتك) هنا في الحديث: يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الفرع حق، فيكون المعنى: لكم أن تفرعوا بالفرع الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال لهم: هذا حق، فكونك تذبح لله عز وجل هذا من الحق، ولكن بدل أن تذبحه وهو ما زال صغيراً اصبر عليه حتى يكبر قليلاً واذبحه أو تصدق به على الحاج، ولهذا قال: (والفرع حق، وأن تتركوه حتى يكون بكراً شغزباً ابن مخاض)، كلمة (شُغْزُباً) بعض علماء اللغة يخطئون في هذه الكلمة، فقالوا: والصواب أن يقول: (زُخْرُب) ومعناه: سميناً أو غليظاً اشتد لحمه، والله أعلم. لكن الغرض: أن الحديث قد يكون الراوي رواه بمعناه وعلى لغة من اللغات فذكره هكذا، فقال: (حتى يكون بكراً شغزباً ابن مخاض أو ابن لبون)، ابن مخاض: هو ما له سنة، وابن لبون: ما له سنتان، (فتعطيه أرملة) فليس شرطاً أن تذبحه، ولكن تعطيه وهو حي لامرأة أرملة، (أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه)، وإذا ذبحه على هذه الاحل وهو ليس فيه لحم فما الذي سيستفيد منه؟ قال: (فيلزق لحمه بوبره وتكفأ إناءك وقوله ناقتك) أي: عندما يذبح وهو صغير على ما كانوا يفعلون في الجاهلية يلزق اللحم بالوبر، فلا تستطيع أن تخرج منه لحماً، ويكون جلده على عظمه، فلا توجد فائدة كبيرة من ورائه. (وتكفأ إناءك) وهنا يبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه عندما يذبح الجمل وهو صغير، فلو ترك ترضعه أمه فإنه يبقى فيها اللبن، فهو يشرب من اللبن ويبقى لك منه، فأنت كسبت اللبن الذي أتى، لكن عندما تذبحه وهو صغير ستكفئ إناءك فلا يبقى لك اللبن. قال: (وتوله ناقتك) أي: تحزن وتفجع الناقة، فالناقة عندما يكون ابنها صغيراً فإنه يجعل الله عز وجل فيها الحنان والرحمة على صغيرها، فإذا كبر واستغنى عنها انفصل، وكان سهلاً أن تذبحه بعد ذلك عندما يكبر، فلذلك قال: (وهو صغير) إذا ذبحته فقد لا تجد

العقيقة وأحكامها

العقيقة وأحكامها

تعريف العقيقة ومشروعيتها

تعريف العقيقة ومشروعيتها العقيقة: هي اسم لما يذبح عن المولود، فإذا ولد لك مولود فتذبح عن هذا المولود ما يسمى بالعقيقة. والعقيقة سنة متأكدة، حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم وفعلها، وبينها عليه الصلاة والسلام، فروى البخاري تعليقاً عن سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى). قوله: (مع الغلام عقيقة) أي: مع مولد الغلام عقيقة تعق عنه. (فأهريقوا عنه دماً) أهرق بمعنى: أراق، وإما أن تذبح عنه من الغنم أو من غيرها من بهيمة الأنعام. (وأميطوا عنه الأذى) وجاء في حديث آخر: أنه يحلق شعره في يوم سابعه. وفي السنن عن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه)، فالسنة أن تذبح هذه العقيقة في اليوم السابع (ويحلق ويسمى) ويحلق في يوم سابعه ويسمى كذلك، وكلمة (العقيقة) ذكرنا أنها اسم لما يذبح عن المولود، واستحب بعض أهل العلم أن يقال: النسيكة. وكلمة (العقيقة) قالوا: مشتقة من العق وهو بمعنى: القطع أو الشق؛ لأن العقيقة ذبح، ولذا لا يصح أن نشتري لحماً من السوق بالكيلو، فالعقيقة لابد فيها من الذبح؛ ولذلك اختار الإمام أحمد رحمه الله: أنها مأخوذة من العق وهو الشق والقطع؛ لأنك تقطعها وتشقها عندما تذبحها، فتقطع أوداجها ومريئها وحلقها. وذكر بعض أهل العلم ومنهم أبو عبيد الأصمعي أنه سميت الشاة التي تذبح عنه في هذه الحال بالعقيقة؛ لأنها تذبح في الوقت الذي يُحلق عنه شعره. قال في الحديث: (كل غلام رهينة)، و (كل) لفظ مطلق، فسواء ذكراً كان أو أنثى، ولفظ (الغلام) يطلق على الذكر، ولكن أطلق هنا من باب التغليب، والمقصود منه: كل من يولد له ذكر أو أنثى فعليه هذه العقيقة. وقوله: (رهينة) بمعنى: مرهون، يقال: هذا مال راهن بمعنى: باق قاعد، ومنه (الرهن) عندما يكون عليك دين لإنسان يقول لك: هات رهناً، أي: ضع عندي شيئاً أثبته عندي حتى تقضي هذا المال وإلا أخذت مالي من هذا الذي أودعته إياي. فقوله: (مرهون) كأنه ثابت وواقف لا يتحرك إلا بهذه العقيقة، وفسر الإمام أحمد هذا فقال: إن الغلام لو مات وهو صغير فإنه يسبق أبويه إلى الجنة ويشفع لهما، ولا يزال يأخذ بأيديهما ويحاج عنهما حتى يدخلهما الجنة، فقال: هذا الغلام مرتهن في شفاعته للوالدين بهذه العقيقة حتى تذبح عنه، هذا اختيار الإمام أحمد رحمه الله. وقال ابن الأثير في (النهاية): العقيقة لازمة لابد منها؛ لحديث: (كل غلام رهين بعقيقته) بمعنى: أنها ملازمة له، فهذه العقيقة لابد منها، والمقصد: التأكيد، فكما الرهن لابد أنك تفك رهنك، كذلك الغلام لابد أن تعق عنه، فقال: إن العقيقة لازمة له، ولابد منها، فشبه المولود في لزومها له وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن. قال التربشتي: أي: أنه كالشيء المرهون لا يتم الانتفاع به دون فكه، فمثلما يكون عندك مال مرهون عند شخص، فتأتي وتقول له: أريد أن أشتغل بهذا، فيقول لك: لا، حتى تدفع الثمن الأول، وكذلك الغلام إذا أردت أن تنتفع به وينالك من بركة الله عز وجل عليه ونفعه لك لابد أن تعق عنه هذه العقيقة، فتستفيد من شكر النعمة، والبركة من وراء هذا الغلام. كذلك قالوا من معانيها: أنه أراد بذلك أن سلامة المولود ونشأه على الخصال المحمودة مرتهن بهذه العقيقة، أي: أن ينشئه الله عز وجل تنشئة سليمة وفاضلة، فيكون مرهوناً بهذه العقيقة، وأنه يكون على خير بعد ذلك. وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً). ورواه النسائي بلفظ: (عق رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحسن والحسين رضي الله عنهما بكبشين كبشين)، هذا صحيح وهذا صحيح، والحسن والحسين هذا وجد مرة وهذا وجد مرة، فيكون إما هذا وإما ذاك. أو يجمع بينهما فيقال: كلا الأمرين صحيح، أنه وجد مالاً يسيراً فعق عن هذا بكبش وعن هذا بكبش، فلما رزقه الله عز وجل أكمل العقيقة فعق عن هذا كبشين، وعن هذا كبشين، وهذا الجمع أولى من رد أحد الحديثين. الخلاصة: أن الكبش الواحد يجزئ، والأفضل الكبشان؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنته وقوله عليه الصلاة والسلام.

من تلزمه العقيقة عن المولود

من تلزمه العقيقة عن المولود إذا جاء لك مولود فمن يعق عنه؟ قالوا: من تلزمه نفقته من ماله لا من مال المولود، فيكون الذي تلزمه النفقة هو الأب، ولو فرضنا أن هذا المولود كان قد ورث مالاً من إنسان فتوفي هذا الشخص، أو ورث مال أمه التي ولدته وماتت فتركت له مالاً، فصار وارثاً من مالها وله مال كثير، فهل يقال: يعق عنه من ماله الذي صار إليه؟ قالوا: لا، الذي يعق عنه هو من ينتفع بهذه العقيقة بسبب هذا الغلام، وهو أبوه أو من يقوم بتربيته والنفقة عليه إن كان أبوه ميتاً.

حكم العقيقة

حكم العقيقة والعقيقة سنة ولا تجب، هذا ما عليه جماهير أهل العلم، أن العقيقة سنة مؤكدة وليست فرضاً واجباً؛ لما روى أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة، فقال: لا يحب الله العقوق)، وكأنه كره الاسم؛ لأنه كان شائعاً بينهم ذلك، ولكن كأن هذا ذكره بعقوق الوالدين فقال: (لا يحب الله العقوق)، ولم يقل: لا يحب الله العقيقة، ولكن الاسم ذكره بشيء، فذكر هذا الشيء، فقال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما نسألك عن أحدنا يولد له) كأن الرجل وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم صار ذهنه إلى شيء آخر، وهو العقوق فقال: نحن لم نسأل عن العقوق، ولكنا نسأل عن المولود الذي يولد لنا ماذا نعمل له؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن ينسك عن ولده فلينسك عنه، عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة)، وهنا ذكر النسك، والنسك معناه: الذبح. ولاحظ أنه صلى الله عليه وسلم عبر بلفظ العقيقة في الأحاديث السابقة، فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري تعليقاً: (مع الغلام عقيقة)، وقال في حديث سمرة في السنن: (كل غلام رهينة بعقيقته)، فعبر بكلمة (العقيقة)، فليس في التعبير بكلمة (العقيقة) تحريم ولا كراهة ولا منع، أما الذي في الحديث فهو الكراهة للعقوق؛ ولذلك الرجل وضح للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنا لا أسأل عن العقوق، وإنما أسأل عن العقيقة التي مع المولود؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن ينسك عن ولده فلينسك عنه) وقوله: (من أحب) لا يدل على الوجوب، فهو يقول: إذا أحببت افعل كذا، من أحب فليفعل كذا، وهذا صارف للأمر عن الوجوب في جملة الأحاديث، فدل الحديث على أن العقيقة ليست فريضة، وإنما هي سنة متأكدة. قال: (من أحب أن ينسك عن ولده فلينسك عنه، عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة) قوله: (شاتان مكافئتان) يعني: متشابهتان في نفس الحجم والسن ويقال: (مكافِئتان) أي: تكافئ كل واحدة الأخرى. (وعن الجارية شاة) فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في الغلام الذكر شاتين، وفي الجارية شاة، وهذه أشياء تعبدية، نتعبد لله عز وجل بذلك، وقد قال الله عز وجل في الإرث: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في العقيقة عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة، فنفعل ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولا معنى لأن يعقد الإنسان وينظر ما هو الفرق بين الاثنين؟ هل نفع هذا أكثر ونفع هذا أقل؟ نقول: هكذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة واحدة. يقول الإمام النووي في (المجموع): العقيقة مستحبة عند الشافعي ومالك وأبي ثور وجمهور العلماء، وهو الصحيح المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله. وبعض أهل العلم ذكروا أنها واجبة، وهذا قول بريدة بن الحصيب الأسلمي والحسن البصري، وأبي الزناد وداود الظاهري، ورواية عن أحمد، وإن كان الراجح في مذهب الإمام أحمد أن العقيقة سنة وليست فريضة. والإمام أبو حنيفة رحمه الله رأى أن العقيقة ليست واجبة ولا سنة، بل اعتبرها بدعة من البدع. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: أفرط في حكم العقيقة رجلان: رجل قال: إنها واجبة، ورجل قال: إنها بدعة، أي: الذي قال: إنها واجبة أفرط في ذلك، والذي قال: إنها بدعة أفرط في ذلك، والصحيح أنها سنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن ينسك عن ولده فلينسك عنه، عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة). وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الجارية شاة، -يجوز تقول: أن نَعُق، وأن نَعِق- وعن الغلام شاتين، وأمرنا بالفرع من كل خمس شياه شاة)، وهنا الأمر بالفرع ليس على الوجوب، وكذلك الأمر بالعقيقة ليس على الوجوب.

يعق عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة

يعق عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة والسنة: أن يعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة، روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة)، وعنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الجارية شاة، وعن الغلام شاتين، وأمرنا بالفرع من كل خمس شياه شاة). وروى الترمذي عن أم كرز: (أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة؟ فقال: عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحدة، ولا يضركم ذكراناً كن أم إناثاً). فيجوز أن يذبح شاة سواء كانت ذكراً أو أنثى، فيذبح خروفاً أو نعجة، فهذا كله جائز فيها، فإن عق عن الغلام شاة حصل بذلك أصل السنة. ولو أن شخصاً ولد له ولدان فذبح عنهما شاة واحدة لم تحصل العقيقة، وكأنه عق عن كل غلام بنصف شاة، فلا يصلح هذا.

ما تشرع منه العقيقة

ما تشرع منه العقيقة لابد أن تكون العقيقة من بهيمة الأنعام، بل بعض أهل العلم ألزم أن تكون من الأغنام لا من غيرها، وهذا كان رأي سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنها تكون من الغنم. وعند جمهور العلماء أنه يجوز أن تكون العقيقة من الغنم ومن البقر، ويجوز أن تكون من الإبل، ولكن ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أنها إذا كانت من البقر فلابد أن تكون بقرة كاملة عن الغلام، ومن الإبل يكون جملاً كاملاً عن الواحد، فلا يشاركه فيها سبعة في البقرة أو في الإبل كما يشاركون في الهدي، فرأى أنها تكون واحدة عن الواحد، وسننظر كلام أهل العلم في ذلك. مسألة: لو ذبح بقرة أو بدنة عن سبعة أولاد أو اشترك فيها جماعة جاز، وهذا اختيار الجمهور: أنه يجوز أن يذبح البقرة عقيقة عن سبعة أولاد، وكأن السبع مكان الخروف وسواء أرادوا كلهم العقيقة أو أراد بعضهم العقيقة وبعضهم اللحم كما سبق في الأضحية. وهنا نقول: إن الإمام أحمد رأى أن تكون البدنة أو البقرة عن الواحد، أي: من الإبل أو البقر أو الغنم تكون الواحدة عن الواحد ولا يكون أكثر من ذلك، ففي الغنم اتفق الجميع على ذلك، وهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره. فالأفضل أن يذبح من الغنم، وهذا أفضل من أن يشارك في البقر أو في الإبل، لكن لو ذبح بقرة كاملة أو جملاً كاملاً عن واحد، فهذا أفضل من أن يذبح كبشاً واحداً، فذبح الشاة أفضل من الاشتراك في بقرة أو ناقة.

ما يجزئ في العقيقة

ما يجزئ في العقيقة والمجزئ في العقيقة هو المجزئ في الأضحية، أي: مثلما ذكرنا في الأضحية، فقد ذكرنا السن، وذكرنا أنها لابد أن تكون خالية من عيوب الأضحية، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أربع لا تجزئ -أو لا تجوز- في الأضاحي: العرجاء البين عرجها، والعور البين عورها، والمريضة البيِّن مرضها، والعجفاء التي لا تنقي)، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم عيوباً فيها، فعلى ذلك التي فيها مثل هذه العيوب لا تنفع في الأضحية، وكذلك لا تنفع في العقيقة، فلا تجزئ دون الجذعة من الضأن أو الثنية من المعز والإبل والبقر، والجذع من الضأن: ما له ستة أشهر وما له سنة أفضل، والثني من المعز: التي أكملت سنة ودخلت في الثانية، ومن البقر ما أكملت سنتين ودخلت في الثالثة، ومن الإبل ما أكملت أربع سنوات أو خمس سنوات ودخلت في التي تليها. وعلى ذلك: فالمجزئ في العقيقة هو الذي يجزئ في الأضحية. وكذلك يشترط سلامتها من العيوب كما يشترط سلامة الأضحية منها، فلا تكون عوراء، ولا هزيلة، ولا عرجاء، ولا مريضة، ويكون منظرها منظراً جميلاً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أضحيته، فكذلك يفعل في العقيقة. ويستحب أن يأكل منها ويتصدق ويهدي كما في الأضحية، فيذبح العقيقة ويأكل منها، ويهدي منها، ويتصدق منها، فهذا كله جائز.

وقت ذبح العقيقة

وقت ذبح العقيقة متى تذبح هذه العقيقة؟ السنة أن تذبح العقيقة في اليوم السابع من الولادة، ولو ذبحها قبل ذلك أو بعد ذلك فهو مجزئ، ولكن الأفضل التقيد بالسنة، فيحسب يوم الولادة، وهذا فيه خلاف بين العلماء: هل يوم الولادة محسوب من ضمنها أو أنه يلغى ويعد سبعة أيام بعده؟ الراجح أن يوم الولادة محسوب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سمرة بن جندب: (كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه) فاليوم الذي يولد فيه المولود هذا أول الأسبوع من يوم الولادة، فإن ولد في الليل حسب اليوم الذي يلي تلك الليلة، ولو ذبح العقيقة بعد السابع أو قبله وبعد الولادة أجزأه، وسواء ذبح أول ما يولد الغلام أو أخر إلى اليوم العاشر، أو إلى اليوم العشرين فكله مجزئ، ولكن الأفضل أن تكون في اليوم السابع. وإن ذبح العقيقة قبل الولادة كأن تكون زوجته حاملاً فيستعجل ويذبح العقيقة، فلا تجزئ عنه، فليست هذه عقيقة في هذه الحال، بل تكون شاة لحم؛ لأن وقتها بعد الولادة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود رهين -أو كل غلام رهين- بعقيقته). ولا تفوت العقيقة بتأخيرها عن السابع، فلو جاء اليوم الثامن وهو لم يذبح، كأن يكون ليس عنده نقود، وانتظر إلى الشهر القادم حتى تتيسر له النقود، ولو ذبح بعد سنة أو سنتين، أو ما ذبح عنه فعق عن نفسه بعد ذلك حين ملك مالاً فكل هذا يجزئ في العقيقة، وتكون العقيقة مجزئة في ذلك، فلا تفوت بتأخيرهما عن السبعة الأيام، لكن يستحب ألا تؤخر عن سن البلوغ. يقول الإمام الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم، فيستحبون أن يذبح عن الغلام العقيقة يوم السابع، فإن لم يتهيأ يوم السابع فيوم الرابع عشر، فإن لم يتهيأ عق عنه يوم إحدى وعشرين، وهذا نسبه لأهل العلم فقال: أهل العلم قالوا ذلك. والراجح: أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، يقول الحافظ ابن حجر: لم أرَ هذا صريحاً إلا عن أبي عبد الله البوشنجي، ونقله صالح بن أحمد عن أبيه، وورد فيه حديث أخرجه الطبراني من رواية إسماعيل بن مسلم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، وإسماعيل بن مسلم ضعيف، ولذلك قال: إنه تفرد به، وذكر الطبراني أنه تفرد بهذا الحديث، فلا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أخر العقيقة عن السابع ينتظر إلى يوم أربعة عشر، ثم إلى اليوم الواحد والعشرين، فلا يصح في هذا حديث. ولو فرضنا أن الإنسان فعل ذلك أجزأ، فنقول: إنها تجزئ في أي وقت حتى البلوغ، ويستحب ألا يتجاوز فيها سن البلوغ، وإذا لم يعق عن الغلام أبوه جاز أن يعق عن نفسه بعد ذلك. كذلك جاء حديث ضعيف عن النبي صلى الله عليه وسلم -ونريد أن نبين ضعفه فقط- عن جعفر بن محمد عن أبيه، وقد رواه أبو داود في المراسيل ورواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين رضي الله عنهما: (أن ابعثوا إلى بيت القابلة بِرِجْلٍ، وكلوا وأطعموا، ولا تكسروا منها عظماً)، فذكر كثير من العلماء أنه يستحب ألا تكسر العقيقة، ولكن لم يصح الحديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكروا أن السنة أن يهدى إلى القابلة أو الطبيبة التي ولدتها، فيهدون لها رجل العقيقة، وهذا أيضاً لم يصح في ذلك، وكونه لم يصح فهل معناه: أنه لا يهدي للقابلة منها شيئاً؟ لا، بل اهدِ ما شئت، اهد الرجل أو غيرها فليس في ذلك سنة، فلا ننسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يصح عنه صلوات الله وسلامه عليه.

استحباب حلق رأس المولود يوم سابعه

استحباب حلق رأس المولود يوم سابعه ويستحب حلق رأس المولود يوم سابعه سواء كان ذكراً أو أنثى، وهذا ليس فرضاً واجباً، والذي يقوم بذلك هو من يتقن هذا العمل، وليس أي إنسان يحلق، فإن جلد الرأس يكون رقيقاً جداً، فربما يجرحه من لا يتقن الحلاقة، ففي اليوم السابع يحلق رأس المولود سواء كان ذكراً أو أنثى، استحباباً وليس فرضاً، وشعر المولود يكون شعراً ضعيفاً، وعندما يحلق بالموسى فإن الجلد يتفتح فينشأ شعر آخر أقوى من هذا الشعر، فهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم به لفائدة: أنه يقوى الشعر في هذا الوقت. ويستحب أن يتصدق بوزن شعره فضة، فقد روى الترمذي عن محمد بن علي بن الحسين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن بشاة وقال: يا فاطمة! احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة، قال: فوزنته فكان وزنه درهماً أو بعض درهم)، حوالي ثلاثة جرامات من الفضة أو أقل.

حكم التصدق بثمن العقيقة

حكم التصدق بثمن العقيقة وهنا مسألة: ذبح العقيقة أفضل من التصدق بثمنها، فإن بعض الناس قد يقول: لو اشتريت لحماً صافياً فإنه يكون أفضل للناس، فنقول: لا، الذبح نفسه عبادة، فلذلك عندما تذهب إلى الحج وتكون متمتعاً أو قارناً فلا ينفع أن تقول: سآتي بلحم وأوزعه على الفقراء، ولكن لابد من الذبح، فيسمى هذا هدي التمتع وهدي القران، وهذا فرض واجب، فالله عز وجل أمر به، ولا يجزئ عن ذلك أن تشتري لحماً، وكذلك في العقيقة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى).

حكم تسمية المولود يوم مولده

حكم تسمية المولود يوم مولده ويجوز أن يسمى المولود يوم مولده، وقد جاء في الحديث هنا: (أنه يسمى) أي: في اليوم السابع، ويجوز أن يسمى قبل ذلك، وقد ثبت الحديث في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم). فلما ولد للنبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية أصبح الصبح وقال: (ولد لي الليلة -أي: الماضية- غلام وسميته باسم أبي إبراهيم)، فهو ما لم ينتظر إلى اليوم السابع بل سماه في يوم ولادته، فيجوز أن يسمى المولود في يوم الولادة، ولا يتأخر عن اليوم السابع.

استحباب تحنيك المولود عند ولادته

استحباب تحنيك المولود عند ولادته جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (ولد لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة)، فهو جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم بن أبي موسى الأشعري قال: (ودعا له بالبركة). وهنا سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يسمي المواليد بأسماء الأنبياء، فسماه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ودعا له بالبركة، وكذلك حنكه. وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: (ولد لـ أبي طلحة غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه عبد الله). وهنا حنكه النبي صلى الله عليه وسلم، وما ذكر أنه في اليوم السابع، فكان أول ما أصابه من ريق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتناله بركة ريقه الشريف الطاهر صلوات الله وسلامه عليه. والتحنيك: أن يأخذ تمرة بفمه ويمضغها مضغاً جيداً فتختلط بريقه صلوات الله وسلامه عليه، ويأخذ منها على إصبعه ويحنك الغلام، أي: يمسح حنك الغلام من الداخل بإصبعه بهذه التمرة، فيبتلع الغلام هذا الريق مع هذه التمرة أو الجزء من التمرة فتناله بركة ريق النبي صلوات الله وسلامه عليه. وقد قلنا: إنه يجوز تأخير التسمية إلى اليوم السابع، وجاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق ويسمى)، فذكر التسمية أنها في اليوم السابع، وفعله صلى الله عليه وسلم كان بعدما ولد الغلام مباشرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

العقيقة وما يتعلق بها من أحكام والنهي عن معاقرة الأعراب

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - العقيقة وما يتعلق بها من أحكام والنهي عن معاقرة الأعراب يسن أن يعق عن المولود الذكر شاتان وعن الأنثى شاة في يوم سابعه، ويحلق شعره ويتصدق بوزنه فضة، ويسمى اسماً حسناً، ويتجنب في ذلك الأسماء القبيحة، أو التي يتشاءم الناس من سماعها، وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم أسماء بعض أصحابه القبيحة إلى أسماء حسنة، ويجوز أن يكنى المولود. وقد نهى الشرع عما يفعله العرب من معاقرة ومفاخرة بذبح الإبل ليعلم من أكثر ذبحاً من الآخر؛ لأنها مما أهل لغير الله به.

أحكام العقيقة

أحكام العقيقة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. تكلمنا في الحديث السابق عن أحكام العقيقة، وبلغنا إلى ما يتعلق بهذه الأحكام من التسمية، وذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث سمرة: (كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى)، فهذه سنن تتعلق بهذه المسألة، فكأنه مرتهن النفع بهذا الغلام في الدنيا والآخرة حتى تؤدى عنه العقيقة. ولو أن الغلام توفي وهو صغير فهو يشفع لأبيه وأمه يوم القيامة، وشفاعته مرتهنة بأن يكون الأب قد عق عن هذا الغلام، هذا تفسير الإمام أحمد رحمه الله. وذكر غيره أنه مرتهن أي: محبوس عن النفع حتى يفعل والده هذه العقيقة، ويجوز للوالد أن يعق عن الغلام بشاتين، وبشاة عن الأنثى، وإذا لم يتيسر الأمر جاز أن يعق بشاة عن الأنثى أو الذكر، لكن السنة شاتان عن الذكر وشاة عن الأنثى، كما قدمنا في الحديث السابق.

حكم العقيقة

حكم العقيقة العقيقة سنة وليست فريضة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ولد له غلام فأحب أن ينسك عنه فلينسك)، فأرجع محبة أبيه لذلك، وهذا يصرف من الوجوب إلى محبة الإنسان، فكونه أرجع الأمر إلى المحبة دليل على أنها سنة ولست فريضة واجبة.

حكم تسمية العقيقة بذلك

حكم تسمية العقيقة بذلك يجوز أن نقول: عقيقة، وقد ثبتت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، ويجوز أن نقول: نسيكة، وإن كانت الأحاديث فيها قليلة جداً، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله الرجل عن العقيقة قال: (لا يحب الله العقوق)، ليس معناه: لا يحب الله العقيقة، ولا أنه كره لكم هذه التسمية، ولكن الرجل قال يوضح للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أسأل عن العقوق، ولكن الرجل منا يولد له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (من ولد له غلام فأحب أن ينسك فلينسك بشاتين عن الغلام وبشاة عن الجارية)، فكأن الرجل ذكر اللفظ بشيء وهو العقوق، فقال له: (لا يحب الله العقوق)، لكن لم يقل: لا يحب الله أن تسمى العقيقة عقيقة، بل هذا ينافي ما ذكر من ألفاظ في أحاديث أخرى بتسميتها عقيقة، مثل: (كل غلام رهينة بعقيقته)، فسماها عقيقة صلى الله عليه وسلم، فلا يكره أن يقال: عقيقة فلان، وإنما المكروه العقوق كراهة تحريم.

وقت ذبح العقيقة

وقت ذبح العقيقة يتعلق بالعقيقة: أنها تذبح في اليوم السابع، وإذا لم تكن في اليوم السابع ففي أي وقت، والمستحب أنه لا يتجاوز الغلام البلوغ إلا وقد ذبحت العقيقة بحسب ما تيسر للإنسان، فإذا لم يذبح عنه شيء من بهيمة الأنعام جاز له هو أن يعق عن نفسه بعد ذلك. وفي الحديث أنه: يعق عنه في السابع، وإن لم يكن ففي الرابع عشر، وإن لم يكن ففي الحادي والعشرين، وهذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى ذلك إذا لم يتمكن في اليوم السابع من مولد الغلام، ففي أي وقت بعده.

حلق رأس المولود

حلق رأس المولود قال: (ويحلق)، من السنة حلق رأس الغلام في اليوم السابع، وكذلك الجارية، وليست فريضة. أيضاً من السنة: أنه إذا حلق رأس الغلام أن يتصدق بوزنه فضة، وقد فعلت ذلك السيدة فاطمة رضي الله عنها، فكان وزن الشعر حوالي مثقال الدرهم، والدرهم وزنه حوالي ثلاثة غرامات تقريباً.

أحكام تسمية المولود

أحكام تسمية المولود قال في الحديث: (ويحلق ويسمى في اليوم السابع)، وهذا لا ينافي ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من التسمية في يوم الولادة، فكله جائز ولا يستحب أن تؤخر التسمية عن اليوم السابع. فيجوز أن يسمى أول ما يولد، ويجوز أن يسمى في اليوم السابع، ويكره بعد ذلك.

اختيار أفضل الأسماء وأحسنها

اختيار أفضل الأسماء وأحسنها يستحب تحسين الاسم، وأفضل الأسماء وأحبها إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن -هذا ذكرناه استطراداً لتعلقه بالعقيقة- ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن)، فالمسلم ينظر إلى أحب الأسماء إلى الله فيسمي بها، وما هي الأسماء التي كان يختارها النبي صلى الله عليه وسلم فيسمي بمثلها، فهذه من أفضل الأسماء. كما يجوز أن يسمي بما كانت العرب تسمي به، وما كان الصحابة يسمون به أولادهم، ولكن لاحظ أن أسماء الصحابة ليسوا هم الذين اختاروها لأنفسهم، إنما اختارها لهم آباؤهم، وكانوا جاهليين، وكانوا يختارون الأسماء كيفما اتفق، سواء كان اسماً قبيحاً أو غيره، والقبيح غيره النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يرضى صاحبه عن التغيير وقد لا يرضى فيسكت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يسمون بأسماء بحسب الطبيعة التي أمامهم، وبحسب المعيشة التي يعيشونها، وليس معنى هذا أن هذه الأسماء جيدة، ولكن اختر لابنك الاسم الحسن الذي لا يعير به، ومن الأسماء ما يكون جميلاً يحبه الله عز وجل واختاره النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولا داعي لأن يبحث الإنسان عن الأسماء المستقبحة المستبشعة غير المعروفة عند الناس ويسمي ابنه بها، فلعله يكون مثال استهزاء وسخرية عند الناس، وخاصة إذا كانت الأسماء تدل على معانٍ من البيئة الصحراوية، كسمرة وهي شجرة الشوك، وهو اسم صحابي، لكن المعنى الذي فيها: السمر هو الشوك الطلح، هذا اسم لكن اعرف معنى التسمية، أو تسمي باسم إنسان من شهداء من الصحابة رضوان الله عليهم ولا مانع أن الإنسان يتفائل بهذه التسمية، لكن على كل حال تنتقي الاسم ولا يكون مما يستقبح.

حكم التسمي باسم النبي والتكني بكنيته

حكم التسمي باسم النبي والتكني بكنيته في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم، فقلنا: لا نكنيك أبا القاسم ولا كرامة. فأبو القاسم هذه كنية النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نهاهم أن يتسمى إنسان باسمه ويتكنى بكنيته، فهو أخذ اسم النبي صلى الله عليه وسلم وله أيضاً كنيته، وعند نداء النبي فمن الأدب معه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]، فلا تقل: يا محمد تعالى، فهذا لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل هو ذلك عن نفسه، وإنما الله عز وجل قال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]، فقد كان بعضهم يفعل ذلك فينادي رجلاً ثم يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: لا أعنيك لا أعنيك، وهذا ليس من الأدب، ولذلك تسم على اسم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تتكنّ بكنيته، وهذا في حياته احتراماً له صلى الله عليه وسلم، حتى لا يأتي إنسان ينادي ويرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول: لا أقصدك، أنا أنادي على ابني، أو لعله يشتم ابنه فيسمعها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس من الأدب، ولذلك نهاهم الله عز وجل أن ينادى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بأن يقولوا: يا أبا القاسم! يا رسول الله! يا نبي الله عليه الصلاة والسلام، فإذا كنى إنسان منهم نفسه بكنية النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يحدث غلط؛ لأن الأعراب حين يأتون إلى المدينة ويسمعون المنادي يقول: يا محمد، حينها يختلط الأمر، إنسان ينادي ابنه وإنسان يناجي النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرف الأدب معه، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك. أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فيجوز للإنسان أن يتسمى باسم النبي صلى الله عليه وسلم، ويكتني بكنيته عليه الصلاة والسلام. فالصحابة لما ولد لرجل منهم غلام وسماه القاسم قالوا: لا نكنيك أبا القاسم ولا كرامة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (سم ابنك عبد الرحمن)، والنبي صلى الله عليه وسلم أبو القاسم، فالله يعطي وهو يقسم بين الناس صلوات الله وسلامه عليه. في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ابن أبي طلحة عبد الله)، يعني: ولد لـ أبي طلحة غلام، وأرسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسماه عبد الله، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم على اسم أبي الأنبياء على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإبراهيم كلمة سريانية معناها أب رحيم، فهو أبو الأنبياء والرسل من بعده عليه الصلاة والسلام، وهو غاية في الرحمة والشفقة بخلق الله عز وجل.

أصدق الأسماء وأحبها إلى الله

أصدق الأسماء وأحبها إلى الله روى أبو داود عن أبي وهب الجشمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة)، هناك أسماء يحبها الله عز وجل مثل عبد الله وعبد الرحمن، وقس على ذلك، وأصدق الأسماء الذي يصدق على صاحبه؛ لأن الأسماء فيها ما يصلح على صاحبه، وفيها ما لا يكون صادقاً على صاحبه، وغالباً لا يكون فيه ذلك، فأصدق الأسماء حارث وهمام، وحارث بمعنى كسب واكتسب، فكل إنسان يكتسب لنفسه، وهذا اسم صادق عليه، فلن يموت من الجوع، فلا بد أن يكتسب لنفسه، وليس معناه أنه اسم يحبه الله سبحانه وتعالى، ولكنه اسم على مسمى، فهو صاحب فعل، فأي إنسان يسمى بحارث فهو حارث في عمل نفسه، يكتسب لنفسه ويتعب. الاسم الآخر: همام، أي: يهم بالأمر، وما من إنسان إلا وله هم يهمه ويهتم به، ويقوم وينوي أن يفعل، فيهم به أن يفعله أو لا يفعله. قال: (وأقبحها حرب ومرة)، فهذه من الأسماء القبيحة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغير هذه الأسماء القبيحة، وتجوز التسمية بأسماء الأنبياء والملائكة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، مثل محمد وإبراهيم وعيسى وموسى وغير ذلك من الأسماء، وأسماء الملائكة كجبريل وجبرائيل وميكائيل وغيرها من أسماء الملائكة يجوز التسمي بها.

أسماء يكره التسمي بها

أسماء يكره التسمي بها تكره الأسماء القبيحة والأسماء التي يتطير بها، فتكره إذا كان من الناس من يسمع هذا الاسم فيتشاءم من الذي يقول له ذلك، وقد نهينا عن التشاؤم، ولكن الكثير من الناس في قلوبهم شيء من ذلك، فلا يساعدون على هذا الشيء، فالتسمية بأسماء تبعث على ذلك لا داعي لمثلها. روى مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم/ (لا تسمين غلامك يساراً ولا رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح، فإنك تقول: أثمة، فلا يكون، فيقول: لا)، قال سمرة: إنما هن أربع فلا تزيدن عليهن، راوي الحديث يقول له: هل هناك غير هذه الأسماء؟ وكأنه يريد: هل يقاس عليها أسماء أخرى أم لا؟ فـ سمرة توقف على الحديث، والحديث ذكر أربعة فلا تزد على ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم. والظاهر: أن النهي الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم للكراهة، وليس للتحريم؛ لما سيأتي بعد قليل. فلا تسمين غلامك يساراً، والغلام هو العبد، وكان بعض العرب في الجاهلية يسمي عبيده بالأسماء الجميلة الحسنة، وغالباً ما يسمون أبناءهم بالأسماء القبيحة، وكانوا يقولون: غلامي لي، وابني لعدوي، والمعنى: الغلام هذا ملكي يخدم عندي، فعندما أقول له: تعال يا فلان، اذهب يا فلان، سأستبشر باسمه، أما ابني فهو لعدوي، سيخرج ويقاتل ويجاهد ويحارب ويغير على القبائل الأخرى، وعندما يسألونه: ما اسمك؟ فيقول: اسمي فلان، فيفزعون من اسمه ويخافون، وكأن قصدهم من تسمية الابن بذلك الاسم أن يتشاءم الأعداء من اسمه، ويفزعون من اسمه، فكانوا يسمون أبناءهم الأسماء الغليظة، مثل العاصي، وسيأتي بعد قليل الحديث عن هذه الأسماء وما فيها، فكان أحدهم يسمي ابنه ليخيف أعداءه بهذه التسمية، ويسمي غلامه بالاسم الحسن لأنه له، فالحسن لي والقبيح لعدوي. وقوله: (لا تسمين غلامك يساراً ولا رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح)، لماذا هذه الأسماء خاصة؟ يسار من اليسر، ورباح من الربح، ونجيح من النجاح، وأفلح من الفلاح، فإنك حينما تقول: هل نجاح عندكم؟ فيقول: لا، ومثله يسار وأفلح، يتشاءم من هذا الشيء، وهذا ليس على التحريم؛ لما جاء في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى أن يسمى بيعلى أو ببركة)، إذاً: الحصر الذي في حديث سمرة رضي الله عنه هو من سمرة نفسه، ولما سأله الراوي قال: لا تزيدن عليه، فأنا كما سمعت قلت لك، لكن في حديث جابر واضح أن هناك زيادة، أي: قس على هذه الأسماء، قال: (ثم رأيته سكت بعد عنها، فلم يقل شيئاً)، لكن في حديث سمرة قال: (لا تسمين)، فدل هذا على أن النهي ليس للتحريم، لقوله: (وأراد أن يعزم في ذلك)، وينهى نهي تحريم، فلم يفعل صلوات الله وسلامه عليه، وسكت عن ذلك. وكلا الحديثين معناه صحيح، فالأول نهى صلى الله عليه وسلم فيه نهي تنزيه وكراهة، حتى لا يعتاد الناس على التشاؤم بنفي هذه الأشياء، وأراد صلى الله عليه وسلم أن يعزم على ذلك ويؤكد النهي حتى يكون تحريماً، ثم لم يفعل صلوات الله وسلامه عليه رحمة بالأمة، ولعموم البلوى، ولعموم الحرج في ذلك، وليس كل الناس سيبلغهم النهي منه صلى الله عليه وسلم، ولعله يبلغهم بعد أن يسموا أبناءهم، والناس وقد اعتادوا على هذا الشيء، فيقع الجميع في الحرج، المنادي والمسمى سواء، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، وغايته أنه نهى نهي كراهة، ولذلك لما غير اسم رجل اسمه حزن، فأبى الرجل فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وتركه، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى نهي تحريم ولم يفعل صلى الله عليه وسلم، فكأن النهي منه على الكراهة عليه الصلاة والسلام. قال: (ثم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينه عن ذلك)، ثم أراد عمر أن ينهى عن ذلك لما سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، ولكن عمر رضي الله عنه الإنسان الواعي الكيس الفطن رأى أن صلى الله عليه وسلم سكت، فلم لا يسعه السكوت كما وسع النبي؟ فأراد أن ينهى عمر ثم تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سكت، فسكت عمر رضي الله عنه وترك. وروى ابن ماجة عن جابر عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن عشت -إن شاء الله- لأنهين أن يسمى رباح ونجيح وأفلح ونافع)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أجل ذلك للسنة الآتية، ثم لم يعش صلى الله عليه وسلم، ولو كان في النهي خير على وجه التحريم لأمره الله عز وجل أن يعلنه حالاً، ولكن الله عز وجل قبضه قبل أن يفعل، وهذا دليل على أن الله اختار ذلك، وأن هذا الشيء ليس حراماً وإنما يكره فقط.

أسماء يحرم التسمي بها

أسماء يحرم التسمي بها يحرم التسمي بملك الأملاك، أو ملك الملوك، أو أن يلقب الإنسان نفسه به، أو يسمي نفسه أو ابنه بملك الملوك، سواء باللغة العربية أو الأجنبية، وهو شاهنشاه، ومعناها: ملك الملوك، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهذا النهي نهي تحريم؛ لأنه علله بما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمي بملك الأملاك)، قوله: (أضنع) من الخنوع والضعة أي: أوضع وأرذل وأحقر اسم يتسمى به إنسان رجل تسمى ملك الأملاك، وملك الملوك هو الله سبحانه وتعالى، وليس لأحد أن يصف نفسه بصفة هي لله سبحانه، وتفرد بها سبحانه وتعالى. ومن صفات الله ما سمح لعباده أن يتصفوا بمثلها، مثل: الرحيم، فللعبد أن يقال عنه: فلان رحيم، على وجه التنكير، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم عليه الصلاة والسلام، فهذه من صفات الله عزوجل التي أذن لعباده أن يتصفوا بها، وأمرهم أيضاً أن تكون فيهم هذه الصفات بحسب ما يليق بالمخلوق، فهذه الصفة تليق بالخالق على وجه، وتليق بالمخلوق على وجه آخر، لكن من الصفات ما تفرد الله عز وجل بها، ولا يجوز لأحد أن يتصف بها، كصفة الكبر، فهذه لا تليق إلا بالله سبحانه وتعالى، وإذا كانت هذه الصفة في إنسان حجب الله عز وجل عنه الجنة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث. كذلك ملك الملوك هو الله سبحانه وتعالى، فلا يجوز لإنسان أن يتصف به، والله عز وجل هو الملك القدوس سبحانه وتعالى، فهو الملك المطلق، أما غيره فيقال عنه: ملك البلاد على وجه الإضافة، أو الملك الفلاني على الوجه المعهود والمعروف، فلا مانع من ذلك، ولكن الملك مطلقاً هو الله سبحانه وتعالى. وفي لفظ آخر لـ مسلم قال: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه وأغيظه)، إذاً: الإنسان الذي يتغيظ عليه ربنا سبحانه وتعالى، ومن بلغ هذه الدرجة فسيعذب عذاباً شديداً والعياذ بالله، هذا الذي يرضى لنفسه أن ينازع ربه سبحانه في صفة من صفاته وهي أنه ملك الملوك سبحانه، قال: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه وأغيظه عليه رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله) سبحانه وتعالى.

أسماء غيرها النبي صلى الله عليه وسلم

أسماء غيرها النبي صلى الله عليه وسلم من السنة تغيير الاسم القبيح، فقد روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية وقال: أنت جميلة)، ولاحظ أن جميلة ليس عكس عاصية، فلا يشترط أنه إذا سمي باسم قبيح أن يغير إلى عكسه، ولكن يغير باسم آخر، والعاص وعاصية كانت من الأسماء المشهورة عند أهل الجاهلية، وليس له علاقة بأنه عاصٍ لله سبحانه وتعالى، إنما يقصد عاصي على الخلق، والعصا سميت عصا لكونها قوية لا تنثني، وفلان عاصٍ أي: أنه يعصي على الخلق، ولا أحد يثنيه، ولا أحد يدوس له على جانب، ولا يأخذ أوامر من أحد، والعرب كان فيهم العصبية والعنجهية وحب النفس، وانظروا إلى بلاد الروم والفرس، هؤلاء أناس أذلة، فالذي يصلح للملك فيهم هي عائلة واحدة فقط عائلة كسرى وعائلة قيصر، أما نحن العرب فكل واحد منا يصلح أن يكون ملكاً من الملوك، فنظرتهم لأنفسهم نظرة غرور، ولذلك ما كانوا يتحدون أبداً، بل يضرب بعضهم بعضاً، فهذا معنى عاصي، أي: أنا لا أطيق أن أسمع كلام أحد، ولذلك رفضوا أن يقبلوا من النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، وقال قائلهم: هو نبي ونحن سنأتي بنبوة من أين؟ لن نؤمن به، غيرة وحسداً له صلوات الله وسلامه عليه أن الله يهبه هذه النبوة العظيمة، فكل واحد منهم يريد أن يكون ملكاً، فكانوا يتباهون بمثل ذلك، فكلمة عاصي وعاصية، معناه: أنه لا يخضع لأحد من الخلق، فالنبي صلى الله عليه وسلم منع من هذه التسمية، وغير اسم عاصية إلى جملية. وروى ابن ماجة هذا الحديث وأن ابنة لـ عمر رضي الله عنه هي من كانت مسماة بذلك فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة. وفي صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حزن: أن أباه حزناً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما اسمك؟ قال: حزن)، وحزن معناه: المرتفع والناشز من الأرض، والوعر من الأرض والجبل، تقول: هذه الأرض منها السهل وهو الوادي تمشي فيه، ومنها الحزن المرتفع الوعر، الذي يصعب المشي فيه، فالرجل اسمه وعر، فلما قال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل أنت سهل، فقال: لا أغير اسماً سمانيه أبي)، قال ابن المسيب الحفيد: فما زالت الحزونة فينا بعد، بمعنى: الصعوبة وغلظ الطبائع والشدة، وسعيد بن المسيب كان من سادة التابعين وهو فقهائهم، وأعلم الناس بقضايا عمر رضي الله تعالى عنهم، ولكن يقول: بسبب هذا الذي فعله جدي صارت الحزونة في العائلة كلها متوازنة فينا؛ لأنه لم يغير هذا الاسم الذي غيره النبي صلى الله عليه وسلم. وروى أبو داود هذا الحديث، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما اسمك؟ قال: حزن، قال: أنت سهل، قال: لا، السهل يوطأ ويمتهن)، فكان السبب في امتناعه هو أنه يعلم أن السهل كل الناس يطئون عليه، وهو يريد أن يكون مرتفعاً عن هذا الشيء، كأن اسم الوعر أعجبه، ليس أي أحد يدوس عليه، قال: سعيد: فظننت أنه سيصيبنا بعده حزونة، كأنه يقول: غالب ظني أو يقيني أننا أصابتنا الحزونة، وليست من الحزن، ولكن من الوعورة، وصعوبة الأخلاق. قال أبو داود في سننه: وغير النبي صلى الله عليه وسلم اسم العاصي وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وحباب وشهاب، أي: هذه أسماء كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والعرب كانوا يتسمون بهذه الأسماء. فاسم عزيز اسم لله عز وجل، ولا يليق بإنسان أن يتسمى به، فلذا غيره النبي صلى الله عليه وسلم. أما عتلة ففيه معنى الغلظة والشدة ولذا غيره النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أبو الحكم كما سيأتي في الحديث بعد ذلك. واسم غراب لم يعجب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ الغراب يسقط على الجيف ويأكل النتانة، فغيره النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك تقول للإنسان: اغرب عن وجهي، أي: ابتعد، والغراب معناه البعد؛ لأنه بعيد، فهنا حتى لا يتشاءم الناس بمثل هذا الاسم غيره النبي صلى الله عليه وسلم اسم غراب لأنه أخبث الطيور، وأيضاً يقع على الجيف ونحوها. أما حباب فهو اسم شيطان؛ ولذا غيره النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من أسماء الحية، المتحبى فغيره النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان هذا الاسم أيضاً يطلق على غير ذلك، لوجود بعض التسمية فيه، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وله معانٍ حلوة، فيأتي بمعنى الحب والحبيب والحباب، ولكن لما كان مشتركاً بين الخبيث والطيب غيره النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أول ما يتوهم منه هو المعنى القبيح. كذلك غير اسم شهاب {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10]، فهو اسم يدل على النار والنارية، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، والشهاب شعلة من النار فكره أن يتسمى المؤمن بذلك. وغير صلوات الله وسلامه عليه أسماء قبيحة مثل: حرب وسماه سلماً، وشهاب غيره إلى هشام، وهشام وهاشم كأنها مأخوذة من الكرم، والهاشم والهشام كانوا يهشمون الثريد ويطعمون الحجيج ذلك، فسمي هاشماً هاشماً لذلك؛ لأنه يقدم للناس الثريد، يهشم لهم الخبز ويضع عليه الطعام واللحم وغيره ويقدم للحجيج، وغير اسم المضطجع إلى المنبعث. وأرض كان اسمها عفرة، أي: مجدبة، فغير اسمها صلى الله عليه وسلم وسماها: خضرة، وكان هناك شعب -وهو الطريق بين الجبلين- كان اسمه شعب الضلالة، فغير اسمه صلى الله عليه وسلم وسماه: شعب الهدى، وشعب بني الزنية، وهي قبيلة كانت تسمى بذلك، والزنية من الزنا والعياذ بالله، فغير النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاسم، فلا يليق بإنسان مسلم أن يلقب بذلك فسماهم: بني الرشدة، فغير الاسم القبيح إلى مستحسن. وقبيلة كانت تمسى ببني موغويه، من الغي والضلال، فسماهم بني رشدة. وفي سنن أبي داود عن أسامة بن أغدري رضي الله عنه أن رجلاً يقال له: أصرم كان في النفر الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما اسمك؟ قال: أنا أصرم)، وصرم النخل معناه: الحصاد، فكأن معناه من الحصاد، فكره النبي صلى الله عليه وسلم الاسم وسماه زرعة، وقال: (بل أنت زرعة). وفي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بـ المنذر بن أبي أسيد حين ولد، فوضعه النبي صلى الله عليه وسلم على فخذه وأبو أسيد جالس، فلها النبي صلى الله عليه وسلم بشيء بين يديه -أي: انشغل به- والغلام على حجره، فأمر أبو أسيد بابنه فاحتمل من على فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبوه)، وهذا من أدب الصحابة، لما وجد النبي صلى الله عليه وسلم مشغولاً بشيء أخذ ابنه وأمرهم أن يعيدوه إلى البيت، (فاستفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يشغله، فقال: أين الصبي؟ فقال: أبو أسيد: قلبناه يا رسول الله وأعدناه إلى البيت، فقال: ما اسمه؟ قال: فلان -وكأن اسم الغلام كان اسماً قبيحاً- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، ولكن اسمه المنذر، فسماه يومئذ المنذر). وفي صحيح مسلم عن زينب بنت أبي سلمة قالت: (كان اسمي برة)، ومعناه: البارة العظيمة البر، وهو اسم فيه تزكية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كره ذلك، وغير هذا الاسم الذي يدل على التزكية، قالت: (فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، قالت: ودخلت عليه زينب بنت جحش، واسمها برة فسماها زينب)، فهذه زينب بنت أبي سلمة غير اسمها فسماها زينب، وكان اسمها برة، وكذلك زينب بنت جحش كان اسمها برة فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمها وسماها زينب. وروى أبو داود عن محمد بن عمرو بن عطاء: أن زينب بنت أبي سلمة سألت محمد بن عمرو بن عطاء: ما سميت ابنتك؟ قال: سميتها برة، فقالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وحكت عن نفسها أنه كان اسمي برة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزكوا أنفسكم)، أي: دعوا من الأسماء التي فيها معاني التزكية، وإن كان كل اسم فيه من هذا، ولكن برة كأنها الجامعة لخصال البر، العظيمة البر، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وهذا كله على وجه الكراهة، قالت: (وقال: الله أعلم بأهل البر منكم، قال: ما نسميها؟ قال: سموها زينب). أيضاً روى أبو داود والنسائي عن مقدام بن شريح، عن أبي شريح عن أبيه هانئ: (أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بـ أبي الحكم فدعاه، فقال: إن الله هو الحكم، وإليه الحكم)، أي: كيف يلقبونك أو يكنونك بـ أبي الحكم؟ وهذا من تلطفه صلى الله عليه وسلم معه -وكان يمكنه بداية أن يغير اسمه- لأن له شأناً في قومه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تكنى بـ أبي الحكم؟ فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين)، كان له شأن في قومه بحيث إذا اختلفوا مع بعض يذهبون إليه فيحكم بينهم ويرضي الجميع بحكمه، (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا!)، وهذا من أدبه الجم وتلطفه صلى الله عليه وسلم، قال: (فما لك من الولد؟ قال: لي شريح و

أحكام الكنى

أحكام الكنى يجوز التكني، أن تكني إنساناً وتكتني أنت، ويستحب تكنية أهل الفضل من الكبار من الرجال والنساء، سواء كان لهم أولاد أو لم يكن لهم أولاد، فقد يكون للرجل ولد ويكنى بأبي فلان، وقد لا يكون له ولد أيضاً ويكنى بأبي فلان. ففي سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله! كل صواحبي لهن كنى)، أي: كل نساء النبي صلى الله عليه وسلم لهن كنى وأنا ليس لي كنية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتكني بابنك عبد الله)، يعني: عبد الله بن الزبير وهو ابن أختها أسماء، فكانت تكنى بـ أم عبد الله، وهي ليس عندها ولد، ولكن اكتنت باسم ابن أختها، والخالة بمنزلة الوالدة كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز التكنية بغير أسماء الآدميين، فيقال: أبو هريرة، وهريرة تصغير الهرة وهي القطة، وكذلك أبو المكارم، والمكارم صفة معنوية من الصفات، وكذلك أبو الفضائل، وأبو المحاسن ونحو ذلك. ويجوز تكنية الصغير أيضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في حديث أنس رضي الله عنه قال: (إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير -أخ لـ أنس - يا أبا عمير ما فعل النغير؟)، وهو صبي صغير كان يلعب بعصفور، فالنبي صلى الله عليه وسلم يكنيه يا أبا عمير!! إذاً: يجوز التكنية للصغير وللكبير. ولا بأس بمخاطبة الكافر والفاسق والمبتدع بكنيته، ولا تؤلف له اسماً آخر، فإذا كان له كنية فناده بها، والقرآن يفيد ذلك، فهذا أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم كانت كنيته أبا لهب لشدة جماله، كأن وجهه يتلهب من جماله، فكان يكنى بذلك، ونزل القرآن يتوعده بالنار: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1]، ولم يأت باسمه الحقيقي ولكن ذكره بكنيته لأنه مشهور بها، وهذا دليل على أنه يجوز أن يخاطب الكافر والفاسق والمبتدع باسمه وبكنيته التي يعرف بها. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ سعد بن عبادة: (ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب؟) وهو رأس النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول، فقد كانت كنيته أبا حباب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ سعد بن عبادة: (ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب)، وكان قد قال كلاماً بذيئاً كريهاً مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنف أن يمر النبي صلى الله عليه وسلم راكباً حماره به، وأمره أن يبتعد عنه، وأنه زعم أن رائحة الشم تؤذيه، حتى إن بعض الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: والله لريح حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب عندنا من ريحك، وكادوا يقتتلون بعضهم مع بعض، فهدأهم النبي صلى الله عليه وسلم وشكاه لسيد قبيلته سعد بن عبادة رضي الله عنه، فلما ذكره ذكره بكنيته. وعبد الله بن أبي ابن سلول لابد أن تكتب (ابن سلول) بألف، وإذا لم تكتب فسيكون سلول جده، لكن سلولاً أمه، ولذلك إذا قلت: فلان بن فلان بن فلان ابن فلانة فلا أن تضع الألف لتبين أن هذه أمه وليس جده.

استحباب التأذين في أذن المولود وتحنيكه

استحباب التأذين في أذن المولود وتحنيكه السنة أن يؤذن في أذن المولود عند ولادته ذكراً كان أو أنثى. فإذا ولد لك مولود ذكراً أو أثنى فأذن في أذنه، فقد روى أبو داود عن أبي رافع رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة)، وجاء حديث: (أنه يؤذن في اليمنى ويقيم الصلاة في اليسرى) ولكنه ضعيف، فيكتفى بالتأذين. والسنة أن يحنك المولود عند ولادته بتمر، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم، ويحنكهم)، أي: يدعو لهم بالبركة عليه الصلاة والسلام، ويحنكهم بالتمر الممزوج بريقه الكريم الطاهر صلى الله عليه وسلم ويجعله في فم الصبي، ويحنكه بأصبعه، أي: يدوره ويمسح به داخل فم الصبي بهذا الريق الطاهر مع التمر، قالت: (فأتي بصبي فبال عليه، فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله)، صلوات الله وسلامه عليه، هذا لفظ مسلم. وفي الصحيحين عن أسماء رضي الله عنها أنها حملت بـ عبد الله بن الزبير، قلت: فخرجت وأنا متم -أي: في الشهر التاسع- فأتيت المدينة فنزلت بقباء فولدته بقباء، ثم أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم. وولادة عبد الله بن الزبير كانت لها فرحة خاصة عند المسلمين؛ لأنه لما قدم اليهود المدينة زعموا -وهم كاذبون كفار مجرمون- أن المسلمين لا يولد لهم مولود، وقالوا: للمسلمين: إننا قد سحرناكم، ولن يولد لكم مولود في المدينة، فلما قدمت وولدت في المدينة فرح المسلمون، وعرفوا أن اليهود كاذبون، وأن أمر الله سبحانه لا يرده أحد أبداً. قالت: (ثم أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حنكه بتمرة)، أي: أول شيء وضع ريقه الكريم في فمه، ثم أخذ تمرة ومضغها ثم مسح بها فم الغلام، وبرك عليه، أي: دعا له بالبركة وأن الله يبارك له وعليه. وكان أول مولود ولد في الإسلام بعد الهجرة في المدينة هو عبد الله بن الزبير رضي الله عنه.

النهي عن معاقرة الأعراب

النهي عن معاقرة الأعراب مما يتعلق بهذا الباب: النهي عن معاقرة الأعراب، فما هي معاقرة الأعراب؟ المعاقرة: من العقر، والعقر هو الذبح، وكان الأعراب يتبارون فيما بينهم ليعلم من أكرم وخاصة الشعراء، فكان كل منهم يقول قصيدة يمدح نفسه أنه أكرم الناس، وأن أباه كان كذا وكذا، وجده كان كذا، فيتفاخرون ثم يدفعهم هذا التفاخر وهم يسوقون الأنعام إلى الماء -وهم على الماء- إلى أن يبدأ أحدهم ويضرب بالسيف رقبة جمله، والثاني يضرب رقبة جمله، حتى يضرب الأول مائة، والثاني لم يقدر إلا على خمسين فقط، فنهى الشرع عن الأكل من هذه الذبائح؛ لأنها لم تذبح لله، وإنما للفخر وليقال: فلان أكرم من فلان، فيعاقب الاثنان بألا نأكل من هذا وكلوها أنتم أو اتركوها حتى تعفن، فهكذا أنت خسرت مالك، وهذا تأديب عظيم من الشريعة للإنسان الذي يتباهى ويفتخر بنفسه، فيصل الأمر إلى الذبح، ويفعل هذا الأمر رياءً وسمعة وليس لله سبحانه وتعالى، فشبه ذلك بما ذبح لغير الله؛ لأن النية هنا بالذبح وجدت لأنك ذبحت، ولو لم يذبح الأول لما ذبح الثاني، فهي لغير الله سبحانه وتعالى. روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب)، وفي الحديث الآخر عن أنس: (لا عقر في الإسلام)، وروى أحمد عن أنس: (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على النساء حين بايعهن ألا ينحن)، نهى عن النياحة، وأخذ البيعة على المرأة ألا تنوح على أحد، قال: فقلن: (يا رسول الله! إن نساءً أسعدننا في الجاهلية)، الإسعاد هنا كأنه من الألفاظ التي يراد بها العكس، أي: المرأة جاءت تبكي وتنوح معي على الذي مات عندي، فأنا أريد أن أسعدها إذا مات لها أحد (أفنسعدهن في الإسلام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا إسعاد في الإسلام)، فليس في الإسلام أن امرأة تنوح مع أخرى وتبكي معها لكي تشجعها على البكاء والنياحة فهذا حرام. قال: (لا إسعاد في الإسلام ولا شغار)، والشغار نوع من أنواع الأنكحة التي كانت في الجاهلية، وهو: أن يتزوج الرجل أخت الرجل، والآخر يتزوج بأخت الأول أو ابنته على أن يجعل مهر الأولى هو مهر الثانية، فنهى الإسلام عن ذلك، فالمهر حق المرأة وليس حقاً لوليها، قال: (ولا عقر في الإسلام)، وهو على المعنى الذي ذكرناه من ذبح الأعراب على وجه الرياء والسمعة، قال: (ولا جلبة في الإسلام ولا جنبة)، الجلب والجنب أشياء من أبواب الخديعة، وهو خداع في السباق، فالإسلام يحث على تدريب الخيل وإعداد القوة للعدو، ولكن من غير خداع وخيانة، فشرع سباقاً بين الخيل ليرى من الذي درب خيله وجعلها قوية ويستحق أن يأخذ مكافئة على ذلك، فكان السباق موجوداً في الإسلام، وليس هو الرهان المعروف عند الناس فهذا قمار منهي عنه، وهو من الكبائر، ولكن السباق المشروع هو أن يضع الحاكم جائزة للفرس ولصاحبه؛ لأنه رباه وأدبه وعلمه ليستعين به على الجهاد، فكانوا يحدثون أشياء من الخديعة في ذلك، ففي أثناء السباق يركب الواحد فرسه، ويجهز فرساً آخر في الطريق يسمي الجنب أو المجنبة، ويكون عبده واقفاً به في وسط الطريق، وعندما يصل السيد إلى مكان العبد يكون فرسه الأول قد تعب فيأخذ ما مع العبد ويكمل السباق به ليغلب، وهذا خداع، وأحياناً عندما يصل إلى مكان معين يكون هناك أناس يصيحون بحيث إن الحصان يجري أسرع، وهذا يسمى تشجيعاً، لكن هناك حصان يتشجع وآخر يفزع، وربما يخاف ويفر بصاحبه ولا يكمل السباق، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فلا خداع في المسابقات بين المسلمين ولا خيانة فيها. قال: (ومن انتهب فليس منا)، النهبة كإنسان يجد المال أمامه ويخطفه ويهرب، كرجل كان يذبح أضحيته، وقطع منها قطعة وأخذها ذلك وهرب بها، فلا نهبة في الإسلام، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. روى مسلم عن علي رضي الله عنه قال: (حدثني النبي صلى الله عليه وسلم بكلمات أربع، قال: لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض)، الشاهد من هذا الحديث قوله: (لعن الله من ذبح لغير الله)، فيذبح رياءً وسمعة، ونيته ليست لله سبحانه، فيعاقب هذا الإنسان بأنه لا يأكل ما ذبحه ويترك، قال: (لعن الله من لعن والديه) وهذا على وجه الإطلاق، والمعنى الوالد أو الوالدة. وقوله: (ولعن الله من ذبح لغير الله)، من ذبح لغير الله داخل في هذا الباب. (ولعن الله من آوى محدثاً)، وهو الإنسان الذي يحدث معصية يستوجب بسببها الحد ثم يهرب، ثم يقوم آخر ويؤيه ويخبئه، كإنسان يلزمه القصاص ويبحثون عنه لأنه ظالم، ورجل يخبئه، وهو كذلك بمعنى أن يعينه على بدعة، فمن يخترع بدعة أو يعين صاحبها عليها فهذا ملعون. (ولعن الله من غير منار الأرض)، التي هي علامات الطريق، وعلامات الأرض، أو علامات إرشادية في الطريق فيقلب اللوحة للجهة الأخرى ويضيع الناس في الطريق، فهذا ملعون. وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يأكلا)، يعني: داخلين في مباراة من يذبح أكثر، فقال: لا هذا ولا هذا، لا تأكلوا من أحد، وعاقبوا الاثنين حتى لا يفعل الناس مثل ذلك. يذكر هذه الأحاديث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ويقول: روى ابن أبي شيبة في تفسيره عن أبي ريحانة: سئل ابن عباس عن معاقرة الأعراب، فقال: إني أخاف أن تكون مما أهل لغير الله به. إذاً: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها قد يكون سببه أنها مما أهل لغير الله به، وحكمها حكم الذبح للأصنام. روى دحيم في تفسيره عن الجارود بن أبي سبرة قال: كان من بني رباح رجل يقال له: ابن وائل، وكان شاعراً نافر الفرزدق بماء بظاهر الكوفة، والفرزدق شاعر معروف وهذا شاعر آخر نافره، أي: قال: أنا أقول شعراً أحسن منك، ونذبح ونرى من أكرم، أنت تزعم أنك كريم وأنا أزعم ذلك، فنافره على ذلك وعمل مسابقة معه على من يذبح أكثر من الإبل. قال: على أن يعقر هذا مائة من إبله وهذا مائة من إبله إذا وردت الماء، فلما وردت الإبل الماء قاما إليها بأسيافهما، وبدأ كل منهما يذبح، فجعلا يكشفان عراقيبها، فخرج الناس على الحمير والبغال، وهذه فرصة، فكل الناس الذين سمعوا أن الفرزدق والثاني سوف يذبحان أرادوا أن يأخذوا شيئاً، قال: وعلي رضي الله عنه بالكوفة، فخرج على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وهو ينادي: يا أيها الناس! لا تأكلوا من لحومها، فإنها أهل بها لغير الله، أي: هذه كانت رياءً وسمعة، وليست نسكاً يذبح لله سبحانه، فلا أحد يأكل منها، يقول شيخ الإسلام: فهؤلاء الصحابة قد فسروا ما قصد بذبحه غير الله داخلاً فيما أهل به لغير الله، والله أعلم. وهكذا نكون قد أنهينا هذا الكتاب، نسأل الله عز وجل أن يجعله خالصاً لوجهه، وأن ينفع من قرأه ومن تعلم منه، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أحكام رمي الجمرات وطواف الوداع

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - أحكام رمي الجمرات وطواف الوداع يرمي الحاج في يوم النحر جمرة العقبة، ثم يطوف طواف الإفاضة ويحلق وينحر، ثم يرمي في أيام التشريق الجمرات الثلاث مرتبة الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى بسبع حصيات، يكبر مع كل واحدة منها، ويلزمه المبيت بمنى إلا لعذر، وإن فرط فعليه دم، ويجب أن يبيت بمنى اليوم الأول والثاني، وإن غربت شمس الثاني وهو بمنى لزمه المبيت اليوم الثالث ورمي الجمار، ثم يذهب ويطوف الوداع، وليكن آخر عهده بالبيت.

رمي الجمرات

رمي الجمرات الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ذكرنا في الحديث السابق مناسك الحج وبلغنا إلى رمي الجمرات. ففي يوم النحر يرمي الحاج جمرة العقبة الكبرى فقط، ويتحلل بها التحلل الأول، ويسمى: التحلل الأصغر، وبعد أن يرمي الجمرة ينحر هديه، ويحلق شعره، ثم يطوف طواف الإفاضة، ثم يرجع إلى منى فيبيت بها، ويرمي الجمرات الثلاث في كل يوم من أيام منى، وهي: اليوم الثاني والثالث إن تعجل، وإن بات اليوم الرابع من أيام العيد ولم يتعجل فيرمي الجمرات كذلك.

أيام رمي الجمرات

أيام رمي الجمرات إذا فرغ الحاج من طواف الإفاضة والسعي رجع إلى منى عقب فراغه، فإذا رجع صلى بها الظهر، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه أنه صلى الظهر في يوم النحر في مكة، وجاء عنه أيضاً أنه صلى في منى، وكأنه صلى بالناس في مكة، فلما رجع إلى منى صلى بأصحابه نافلة له ولهم فريضة. والله أعلم. فإذا رجع إلى منى صلى بها الظهر، ثم يقيم في منى لرمي أيام التشريق ومبيت لياليها، ومع الزحام الشديد الموجود الآن قد يصعب الوصول إلى مكة ليطوف ويسعى، ثم يرجع إلى منى ليصلي الظهر، ولكن إذا تيسر له فعل، وإذا لم يتيسر صلى الظهر بمكة، والمهم هو المبيت في منى؛ لأن ليالي منى هي الواجبة، أما الأيام فمن الممكن أن يخرج يومياً ويطوف بالبيت ثم يرجع إلى منى، ففي النهار لا يجب عليه الإقامة بمنى، ولكن يسن له ذلك، والواجب هو المبيت بالليل. واليوم الأول من أيام التشريق يسمى يوم القر، وهو مأخوذ من القرار بالمكان؛ لأنهم قارُّون بمنى. واليوم الثاني من أيام التشريق هو يوم النفر الأول. وأيام العيد أربعة: اليوم الأول: يوم النحر، وقد انتهى الكلام عليه، والحجاج في فجر هذا اليوم يصلون في مزدلفة، وبعد ذلك يقفون عند المشعر الحرام بعد صلاة الفجر حتى اصفرار الشمس قبل طلوعها، ثم يتوجهون إلى منى، وفي منى يرمون جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم ينحرون، ثم يحلقون، ثم يتوجهون إلى البيت ويطوفون طواف الإفاضة، ويسعى من كان عليه سعي، ثم يرجعون بعد ذلك إلى منى، وتكون الأيام الآتية: يوم النحر: انتهت مناسكه. اليوم الثاني: يوم القر. اليوم الثالث من أيام العيد واسمه: يوم النفر الأول. اليوم الرابع من أيام العيد واسمه: يوم النفر الثاني. وفي يوم القر وهو الثاني من أيام العيد لابد للجميع أن يمكث هناك، ولا يجوز لأحد أن ينفر من منى وينهي المناسك بذلك، وإنما اليوم الثالث هو الذي يجوز لهم أن ينفروا فيه من منى ويتعجلون.

كيفية رمي الجمرات

كيفية رمي الجمرات ولو أنهم أكملوا الرمي في الأيام الأربعة سيكون المجموع سبعون حصاة: سبع منها لجمرة العقبة في يوم العيد، وثلاث وستون حصاة للأيام الباقية وهي أيام التشريق، فيرمي كل يوم الجمرات الثلاث: جمرة العقبة الأولى وهي الصغرى، ثم الثانية الوسطى، ثم الثالثة الكبرى، ويرمي كل جمرة بسبع حصيات، ويأخذ كل يوم إحدى وعشرين حصاة، فيأتي الجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف وهي أولاهن من جهة عرفات؛ لأن مكة في الإمام ومنى في النصف بين الاثنين، إذاً: الجمرة الأولى ستكون أقرب لعرفات أو ناحية عرفات. والجمرة التالية يتقدم نحوها باتجاه مكة، وهي الجمرة الوسطى، ثم بعدها الجمرة الكبرى، وهي أقرب الجمرات إلى مكة. فيأتي الجمرة الأولى حتى يكون ما عن يساره أقل مما عن يمينه، إذاً: هو متوجه إلى الجمرة، والجمرة أمامه، واتجاهه يكون للقبلة وهو يرمي الجمرة الأولى. وموقف النبي صلى الله عليه وسلم كان ما عن يساره أقل مما عن يمينه، فلو فرضنا أن مكان الجمرة محدود بطرفين عن اليمين وعن اليسار فكأنه أقرب لليسار قليلاً، ويرمي الجمرة وهو متوجه للقبلة من أي مكان، المهم أن يرميها سواء من الدور الأرضي، أو من فوق الكوبري، أو من أي مكان رماها فكله جائز، ولكن الأفضل هو موقف النبي صلى الله عليه وسلم لمن استطاع. إذاً: الجمرة الأولى يكون أقرب لليسار منه إلى اليمين، ووجهه للقبلة، ثم يرمي الجمرة بسبع حصيات يقول مع كل حصاة: الله أكبر ويرمي. ثم يتقدم عنها وينحرف قليلاً ويجعلها خلفه، ويقف في موضع لا يصيبه المتطاير من الحصى الذي يرمى به، فيستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويكبر ويهلل ويسبح ويدعو مع حضور القلب وخضوع الجوارح، ويمكث قدر سورة البقرة -هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم- يدعو ما استطاع، لكن مع الزحام الشديد أحياناً تدفع الناس بعضها بعضاً، ولا يستطيع أن يقف، فإذا استطاع أن يقف ويدعو فترة طويلة فهذا حسن. وإذا كان وقوفه سيضيق على الناس المرور فلا يقف، والمكان قد يموت فيه أناس ويسقط فيه أناس، فلا يضيق عليهم، وفي هذا المكان كثيراً ما يحصل الزحام ووقوع وموت بعض الناس بسبب أخطاء يفعلها الحجاج. ومن أخطائهم: الكسل، فتجد الرجل يرجع للخيمة من أجل أن يأخذ ما سيذهب به إلى مكة، ويأخذ معه البطانية وحقائبه، ويمشي بها في الزحام، ثم مع الزحام لا يقدر أن يشد حقيبته ويعرقل من وراءه، وإذا سقط أحد لا يقدر أن يقف بسبب الزحام الشديد، والذي يقع يداس بالأرجل، ولذلك إذا كنت سترمي الجمرة فلا تأخذ معك أكثر من حصياتك التي سترميها، ولا تضايق أحداً بها، حتى لو سقط حذاؤك فلا تتعب نفسك لتأخذه، فقد لا تستطيع الوقوف. ومن أخطاء الحجاج أنه إذا ضاع نعله يدفع يميناً وشمالاً يريد أن ينزل ليأخذه، ثم يعرقل الذي وراءه ويؤذي الحجاج. فلابد أن يكون الإنسان رفيقاً بالناس رحيماً، ولا يؤذي من معه بالأمتعة في هذا المكان، إذ المكان ليس مكان حمل أمتعة، وإذا رميت فارجع وخذ حاجاتك التي سوف توصلها إلى مكة إذا كان لك حاجات تذهب بها إلى هناك. وبعدما وقف ودعا سيتقدم للجمرة الثانية، وهي الجمرة الوسطى، ويصنع فيها كما صنع في الأولى، ويقف للدعاء كما وقف في الأولى، ويتركها عن يمينه ويتقدم قليلاً منقطعاً عن أن يصيبه الحصى، ثم إذا رماها أيضاً وهو متوجه إلى القبلة سيتركها عن يمينه؛ لأن موقف النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة الكبرى كان على اليسار، وسيكون الطريق أسهل ليتقدم حتى يصل إلى الجمرة الثالثة بعد ذلك. ثم يأتي الجمرة الثالثة، وهي جمرة العقبة التي رماها يوم النحر، فيرميها من بطن الوادي ولا يقف عندها للذكر، ويجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه. إذاً: كل جمرة يرميها مستقبلاً للقبلة، إلا الثالثة فلا يستقبل فيها القبلة، ولو استقبلت القبلة وأنت في الدور الأرضي من أجل أن ترميها سيكون أمامك السور وليس نفس المرمى؛ لأن كل جمرة عبارة عن دائرة، والجمرة الكبرى نصف دائرة مؤخرها سور، فلو وقفت تحت ورميتها وأنت مستقبل القبلة فلن تصل إليها، فلا بد أن تكون إما أمامها وظهرك للقبلة، وإما عن يمينها أو شمالها، فموقف النبي صلى الله عليه وسلم كان على اليسار، وكانت مكة عن يساره صلى الله عليه وسلم، ومنى عن يمينه يستقبلها ويرميها من بطن الوادي صلوات الله وسلامه عليه. وبعد رمي الجمرة الثالثة لا يوجد دعاء، لكن في الجمرة الأولى وقف ودعا دعاء طويلاً، وكذلك الجمرة الثانية بعدما رمى وقف ودعا دعاء طويلاً. جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان يرمي الجمرة الدنيا -أي: القريبة- بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يسهل -أي: ينزل في السهل- فيكون مستقبلاً القبلة، فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبلاً القبلة، فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، ويقول: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل). هذه الكيفية التي ذكرناها في الرمي: أن الجمرة الأولى يجعلها عن يمينه أكثر مما هي عن يساره ويرمي، ثم يتقدم قليلاً ويقف ويدعو، ثم يتقدم إلى الثانية ويفعل مثلما فعل في الأولى، ثم يتقدم عن الشمال إلى الثالثة ويقف، ويجعل جانبه الأيسر إلى مكة وجانبه الأيمن إلى منى، ويرمي تلقاء وجهه. هذا كله من السنة، لكن الفرض الذي فيه هو رمي كل واحدة بسبع حصيات، وأن يرتبها، فيبدأ بالأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة. كما أن الدعاء والذكر وغيرهما مما زاد على أصل الرمي هو مستحب، فإذا رمى الأولى ثم انطلق إلى الثانية ولم يدع أو دعا قليلاً فقد ترك الفضيلة ولا شيء عليه. عليه أن يرمي في المرمى سواء كان بحذائه أو فوقه أو في الطوابق العليا قريباً منه أو بعيداً، والشرط أن تقع الحصيات في المرمى، وليحذر الحاج من إيذاء أحد في رميه.

وقت رمي الجمرات

وقت رمي الجمرات هذا هو اليوم الأول من أيام التشريق وهو ثاني أيام العيد الذي نسميه يوم القر. في اليوم التالي من أيام التشريق -ثالث أيام العيد وهو يوم النفر الأول- سيفعل كما فعل بالأمس، إذاً كان المبيت فرضاً عليه يبيت في منى أغلب الليل، أو النصف الثاني من الليل، فإذا بات في منى حتى أصبح سينتظر حتى وقت صلاة الظهر ليرمي بعد الزوال. وفي ثالث أيام التشريق -وهو رابع أيام العيد- يفعل كذلك، ولا يكون الرمي إلا بعد الزوال، أي: وقت صلاة الظهر، فإذا زالت الشمس يرمي الجمرات، ووقتها يمتد إلى الفجر الثاني من تلك الليلة، والوقت المستحب ينتهي قبل غروب الشمس، ويجوز الرمي إلى بعد الغروب حتى الفجر، فقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (رميت بعدما أمسيت، قال: لا حرج)، إذاً: الأمر مفتوح أمامه، وبحسب الزحام الشديد يختار الوقت الذي ليس فيه زحام ليرمي فيه الجمرات، فوقتها إلى الفجر الثاني من تلك الليلة، إلا آخر أيام التشريق وهو آخر أيام العيد، فإن الرمي سيكون فيه حتى غروب الشمس فقط، وبعد غروب الشمس لا يوجد رمي. يشترط في الرمي الترتيب بين الجمرات: فيبتدئ من الجمرة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، ولو بدأ بالثانية فلا تحسب ويرجع ليرمي الأولى، ويشترط وقته على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وإن ترك الوقوف عندها والدعاء ترك السنة ولا شيء عليه.

اشتراط العدد في الرمي

اشتراط العدد في الرمي إذاً: كل يوم سيرمي الجمرات الثلاث بإحدى وعشرين حصاة، كل جمرة بسبع حصيات إلا أن ينسى، وإذا نسي حصاة أو جهل الحكم فرمى بأقل من سبع حصيات، فالراجح أنه لا شيء عليه، وإن تصدق بشيء فحسن؛ لما روى النسائي عن مجاهد قال: قال سعد رضي الله عنه: (رجعنا في الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعضنا يقول: رميت بسبع حصيات، وبعضنا يقول: رميت بست، فلم يعب بعضهم على بعض)، فمن جهل الحكم فلا شيء عليه ولكن لا يتعمد ذلك، وإذا نسي أرمى بست أو بسبع؟ فإذا كان مازال واقفاً فيرمي السابعة، وإذا انصرف وانتهى الوقت لو تصدق بشيء فحسن، وإذا لم يفعل فلا شيء عليه. والخمس حصيات واجبة؛ لأن الصحابة قالوا: ست أو سبع وما عاب أحد على أحد، إذاً: أقل من ذلك يعاب على فاعله فإذا استدرك ورماها فقد فعل ما عليه، وإذا لم يستدرك ذلك فبحسب عدد الحصيات التي تركها جزء من الدم، كما سنفصل في ذلك. إذاً: إذا أخل بحصاة واجبة من الأولى لم يصح رمي الثانية حتى يكمل الأولى؛ فإن لم يدر من أي الجمار تركها بنى على اليقين، أي: لو أنه انتهى من الرمي وقال: الجمرة الثانية رميتها بست حصيات فقط، فلا شيء عليه؛ لأن الصحابة فعلوا ذلك ولم ينكر بعضهم على بعض، ولكن لو أنه رمى بأربع حصيات فقط فقد أخل بالواجب الذي عليه، ويرجع إلى الجمرة الثانية ويكمل الباقي، وبعد ذلك يبدأ من الجمرة الثالثة من جديد ويرميها بسبع حصيات، هذا معنى أنه يبني على اليقين. ولو فرضنا أنه رمى أربع حصيات لكن نسي في أي منها، في الأولى أو الثانية أو الثالثة؟ فنقول له: ابن على اليقين، ويعتبرها في الأولى، ويرجع ويرميها ثلاثاً ويكمل السبع، ويعيد رمي الجمرة الثانية والثالثة.

الموالاة والترتيب في رمي الجمرات

الموالاة والترتيب في رمي الجمرات ينبغي أن يوالي بين الحصيات في الجمرة الواحدة، ولا يجب، فلو رجع بعد فترة وكمل الأولى فلا شيء عليه، لكن الترتيب: الجمرة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال: (خذوا عني مناسككم). وإذا أخر الرمي كله أو بعضه إلى آخر أيام التشريق فقد ترك السنة ولا شيء عليه، إلا أنه يقدم بالنية رمي اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث، فلو أنه بسبب عذر من الأعذار مثل شدة الزحام لم يتمكن من الرمي في اليوم الأول ولا الثاني، فعليه رمي كل الجمرات الماضية، ويبدأ برمي الجمرة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة، ثم يرجع ويرمي عن اليوم الثاني وهكذا، لكن الآن صعب جداً أن يفعل هذا، فيرخص في أنه يرمي الجمرة الأولى عن أول يوم، ثم عن اليوم الذي يليه، ثم عن اليوم الذي يليه، ثم عن اليوم الذي هو فيه، والثانية كذلك، والثالثة كذلك، فينوي أن هذه السبع الحصيات عن اليوم الأول، وهذه السبع الحصيات عن اليوم الثاني، وهذه السبع الحصيات عن اليوم الثالث، ثم ينطلق إلى التي تليها وهكذا، هذا إذا كان له عذر، وإذا كان ليس له عذر فلا شيء عليه وهو مسيء في ذلك، وبعض أهل العلم يلزم في هذه الأحوال بالدم، ولكن الراجح أن وجوب الدم في ذلك فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة أن يرموا يومين في يوم، فهذا مقصر، ولكن إلزامه بالدم يحتاج إلى دليل.

حكم رمي الجمرات ليلا

حكم رمي الجمرات ليلاً يجوز الرمي بالليل؛ لما في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فيقول: لا حرج، فسأله رجل فقال: رميت بعدما أمسيت، فقال: لا حرج)، فهذا الحديث فيه ترخيص في الرمي حتى الليل، وإن كان بعض أهل العلم اعترض على ذلك، ومنهم الإمام أبو محمد ابن قدامة رحمه الله فقد قال: ليس في الحديث دليل، والمساء الأصل فيه أنه بعد الزوال، فعلى ذلك يكون المقصود أنه رمى بعد وقت الزوال، لكن هذا فيه تضييق المعنى اللغوي للمساء من بعد الزوال حتى منتصف الليل، وكلام ابن قدامة له وجهة من النظر، حيث إنه يذكر أن الرجل قال: في يوم النحر. وفي رواية قال: سأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: واليوم يكون في النهار وليس في الليل، فعلى ذلك هو رمى في عصر هذا اليوم قبل غروب الشمس؛ لأنه ذكر يوم النحر، لكن لعل راوي الحديث ذكر أن هذا في يوم النحر، وقد يطلق اليوم كله من أوله إلى آخره حتى بعد الغروب، يقول: هذا اليوم الذي نحن فيه يوم النحر، والرجل قال: رميت بعدما أمسيت، وعلى المعنى اللغوي أنه في العشاء أو المغرب، كما يقول: صليت العشاء في يوم النحر في المكان الفلاني، والعشاء هي من الليلة التالية وليست من هذا اليوم، ولكن كأنه قاله تجوزاً، وهذا فيه رخصة مع وجود الزحام الشديد، فللحاج أن يأخذ بالمعنى اللغوي في قوله: (بعدما أمسيت). إذاً: إلى منتصف الليل، أو إلى الليل، ولا يشترط نصف الليل أو أكثر من ذلك، فيرمي في النهار ويرمي بالليل، لكن لا يرمي هذه الجمرات في اليوم الثاني والثالث والرابع من أيام العيد قبل الزوال، ولو رمى في كل جمرة أربع عشرة حصاة سبعاً عن يومه وسبعاً عن أمسه جاز، أي: أنه يرمي الجمرة الأولى عن اليوم بالنية، وعن الأمس بالنية أيضاً، وبعد ذلك انتقل إلى الجمرة التي تليها، وكأنه في كل جمرة يرمي أربع عشرة حصاة، هذا الراجح الجواز فيه. ويشترط تفريق الحصيات ولا ينفع أخذ سبع حصيات ورميها مرة واحدة مهما تكن الظروف، ومهما يكن العذر فيها، فإنه أحياناً مع الزحام الشديد تريد أن تخرج الحصاة من يدك الشمال لتأخذها باليمين ومع شدة الزحام يصعب ذلك، فتضع يدك هذه على هذه وتأخذ منها الجمرة وترميها فيكون هذا صعباً جداً، فلابد من رمي كل حصاة وحدها. الحكم في رمي جمرة العقبة إذا أخرها كالحكم في رمي أيام التشريق في أنها إذا لم ترم يوم النحر رميت من الغد، ويلزمه الترتيب بنيته، فهذه عن جمرة البارحة فيذهب ويرمي سبع حصيات ثم هذه عن اليوم يرميها بسبع حصيات.

حكم من ترك رمي الجمرات

حكم من ترك رمي الجمرات من ترك الرمي في الأيام كلها فعليه دم، ومن ترك رمي أحد الأيام الثلاثة فعليه ثلث دم، ومن ترك بعض الحصيات فعليه أن يتصدق بطعام. إذاً: الرمي كله الواجب عليه يوم العيد، واليوم الذي يليه يكون يوم القر، واليوم الثالث يوم النفر الأول، ومجموع الرمي كله الراجح أنه واجب، فإذا ترك الرمي كله كان عليه دم، فإذا ترك جزءاً منه يوماً منه أو بعضاً منه كان عليه بقدر هذا الذي ترك. إذاً: يقسم الرمي الواجب عليه، والواجب عليه هو رمي ثلاثة أيام، فإذا ترك الثلاثة كان عليه دم، فإذا ترك بعضها ولم يرجع لرميه كان عليه جزء دم، فيوم العيد ثلث دم، واليوم الذي يليه ثلث دم، واليوم الذي يليه ثلث دم. فمن ترك الرمي في الأيام كلها فعليه دم، ومن ترك رمي أحد الأيام الثلاثة فعليه ثلث دم، ومن ترك بعض الحصيات فعليه أن يتصدق بطعام، وإذا انتهى ولم يرجع إلى رمي هذه الجمرات كان عليه بعض الشيء، والواجب الذي عليه إذا لم يمكث إلى ثالث أيام التشريق آخر أيام العيد ونفر مع المتعجلين، كان عليه رمي ثلاثة: يوم العيد واليوم الذي يليه والذي يليه، والثلاثة فيها دم، فإذا ترك بعضها يوماً كاملاً، أي: ترك إحدى وعشرين حصاة لم يرمها فعليه ثلث دم، وإذا رمى يوم العيد وثاني أيام التشريق وثالث يوم نفر من غير أن يرمي، أو رمى قبل الزوال وانطلق كان عليه ثلث دم أو أن يرجع ويرميها، ولو ترك الجمرة الثالثة يتصدق بشيء، وهنا لن نقول: ثلث الدم. ومتى خرج قبل رميه فات وقته واستقر عليه الفداء: الواجب في ترك الرمي إذا خرج من دون أن يرمي أي شيء من الجمرات كان عليه دم كامل في ذلك. والواجب أن يرمي بعد الزوال عند وقت صلاة الظهر ولا يجوز قبله، إلا إذا كان قضاء عن اليوم السابق؛ لأن اليوم السابق له أن يرميه حتى قبل طلوع الفجر، لكن لو لم يتمكن فرمى بعد طلوع الفجر فيكون هذا قضاء عن اليوم السابق، لكن لا يرمي لليوم الذي هو فيه إلا بعد الزوال.

وقت رمي الجمرات أيام التشريق

وقت رمي الجمرات أيام التشريق اختلف العلماء في وقت رمي الجمرات في أيام التشريق: هل هو من بعد الزوال أم لا؟ اختيار الإمام أبي حنيفة على تفصيل في مذهبه أنه قبل الزوال، وجمهور أهل العلم ومنهم صاحبا أبي حنيفة محمد بن الحسن وأبو يوسف على أنه لا يجوز الرمي في كل أيام التشريق إلا بعد الزوال، وعن أبي حنيفة قولان: قول: أنه يجوز أن يرمي في أيام التشريق كلها قبل الزوال. وقول آخر: أنه في آخر أيام التشريق يوم النفر الثاني إذا مكث في البيت يجوز أن يرمي قبل الزوال، وهذا وافقه عليه إسحاق بن راهويه. إذاً: أبو حنيفة خالفه صاحباه في أنه لا يجوز الرمي في أيام التشريق إلا بعد الزوال، وأبو حنيفة اختلف عنه القول: هل آخر يوم فقط من أيام التشريق يرخص له أن يرمي قبل الزوال وينفر؟ هذا قول وافقه عليه إسحاق، والقول الثاني: أنه في كل أيام التشريق له أن يرمي قبل الزوال، لكن خالفه صاحباه؛ لأن النص لم يأت بذلك، فلم يرم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد الزوال. والصواب قول جمهور أهل العلم: أنه لا يجوز الرمي إلا بعد الزوال. وهناك أيضاً خلاف في امتداد وقت الرمي هل يمتد إلى الليل أو لا يمتد؟ مذهب الشافعي: أنه يجوز أن يرمي حتى قبل الفجر الثاني أداء، فإذا كان بعده فيكون قضاء. ومذهب مالك: أنه لا يجوز له أن يرمي بعد غروب الشمس, وهذا الراجح في المسألة، والإمام أحمد يرى أن قوله: (رميت بعدما أمسيت) أنه في يوم العيد، فلا يرمي بالليل، لكن الراجح: أن المساء يدخل فيه الليل على مقتضى المعنى اللغوي، فعلى ذلك يجوز أن يرمي، وهذا رخصة للناس وتيسيراً عليهم في أن يرمي بالنهار وبالليل.

الحكمة من رمي الجمرات

الحكمة من رمي الجمرات الحكمة من الرمي: يذكر الإمام النووي رحمه الله ذلك ويقول: قال العلماء: أصل العبادة الطاعة، وكل عبادة فلها معنى قطعاً؛ لأن ربنا لا يأمرنا بشيء هباء، ولا يأمرنا بشيء لغير حكمة، وإنما كل شيء بحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها، فالعبادات كلها لحكم من الله سبحانه وتعالى، فالشرع لا يأمر بالعبث، فمعنى العبادة قد يفهمه المكلف وقد لا يفهمه، فالحكمة من الصلاة: التواضع، والخضوع، وإظهار الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى، والذل بين يديه سبحانه. والحكمة من الصوم: كسر النفس، وقمع الشهوات، والإحساس بإحساس الإنسان الفقير الجائع المسكين المحروم فيعطف عليه. والحكمة من الزكاة: المواساة بماله للفقير، ويستشعر أن هذا محتاج فيعطيه. والحكمة من الحج: أن يقبل العبد على ربه سبحانه أشعث أغبر من مسافات بعيدة إلى بيت الله سبحانه، كإقبال العبد إلى مولاه ذليلاً، فهو يقبل موحداً ربه سبحانه، مستشعراً يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين، فيستشعر في وقوفه بعرفة وطوافه بالبيت شعور العبد الذليل بين يدي مولاه سبحانه وتعالى، وأنه محتاج إلى ربه يدعوه ويرجو منه رحمته سبحانه وتعالى. ومن العبادات: السعي بين الصفا والمروة، وهي عبادة يستشعر بها كيف كانت هاجر تجري في هذا المكان بين الصفا والمروة تبحث عن الماء لابنها، فهذه حكمة من الحكم، ولا نقول: إنها كل الحكم، والحكمة الحقة يعلمها الله سبحانه وتعالى، فأمرنا بذلك لكي يستشعر الإنسان في ذهابه من الصفا إلى المروة ورجوعه من المروة إلى الصفا احتياجه إلى الله عز وجل، والإلحاح على ربه في الدعاء، فيقف هنا فيدعو، ويقف هنا فيدعو، فهو محتاج إلى ربه في كل وقت، ولعل هذا الدعاء لم يستجب ولن يستجاب إلا الدعاء الثاني، فيتعود على الإلحاح والله يحب من عبده أن يلح عليه في الدعاء، فيستجيب له سبحانه وتعالى. ورمي الجمرات من هذه العبادات، يرمي فيتخيل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهو يرمي الشيطان بهذه الجمرات، فالإنسان يفعل كما فعل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم لما أتى المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض)، أي: حتى دخل بداخل الأرض وغاص وهرب من إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له في الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض) قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشيطان فارجمون، وملة أبيكم فاتبعون. هذا الحديث المرفوع والموقوف فيه بيان الحكمة وهي: أنك تتشبه بإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام وأنت ترمي بهذه الحصيات، ولكن الذي يوصل ذلك هو الله سبحانه وتعالى، فلست أنت الذي ستوجع الشيطان عندما ترمي الجمرة بشدة أو ترمي بطوب أو بحديد أو برصاص، ليس هذا الذي سيؤلم الشيطان، وإنما الله عز وجل هو الذي يفعل ذلك. مثل الإشارة في الصلاة بالسبابة، فأنت تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتشير بالتوحيد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لهي أشد على الشيطان من الحديد)، إذاً: إشارتك بالتوحيد، وتحريكك للسبابة أشد على الشيطان من الحديد، فلا يقل أحد: سأحركها بشدة من أجل تكون أشد! ولكن الحركة وحدها وكونك أشرت بالتوحيد هذه أشد على الشيطان من الضرب بالحديد، والذي يفعل ذلك بالشيطان هو الله سبحانه وتعالى، إذاً نحن علينا الاتباع والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل هو الذي يفعل بالشيطان ما يريده سبحانه. إذاً: عندما نرمي الجمرات نرمي بالحصى الصغير، ونرمي مثلما رمى إبراهيم، ولا نأتي بحجر أكبر من أجل أن نؤلم الشيطان أكثر! فهذا من البدع، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وإنما نهى عن ذلك، ونهاهم أن يؤذي بعضهم بعضاً.

الإنابة في رمي الجمرات

الإنابة في رمي الجمرات العاجز عن الرمي بنفسه لمرض أو حبس ونحوهما يستنيب من يرمي عنه، إذاً: يجوز للإنسان المريض أو المرأة التي لا تقدر مع شدة الزحام، أو للعجوز، أو الشيخ الكبير أن يوكل أو يستنيب من يرمي عنه؛ لأن وقت الرمي وقت مضيق، وقد تنتهي أيام العيد من غير أن يرمي، ويكون عليه دم في ذلك، وسواء كان المرض مرجو الزوال أو غير مرجو الزوال، وسواء استناب بأجرة أو بغيرها، وسواء استناب رجلاً أو امرأة كل هذا جائز، وأحياناً مجموعة من النساء توكل إنساناً للرمي عنها؛ لأنها لا تقدر أن تذهب إلى الجمرات فترميها، فيجوز أن يرمي عن نفسه وعن هذه وعن غيرها. ولو أغمي على المحرم قبل الرمي ولم يكن أذن في الرمي عنه لم يصح؛ لأن الاستنابة إقامة الغير مقام نفسك، وأنت الآن لم تستنب إنساناً ولم توكل أحداً، فلا يصح أن يتوكل لك من غير أن توكله، فلو أن إنساناً مغمى عليه، فلا يأتي آخر ويقول: سأرمي عن فلان، فهو لم يوكلك أصلاً في ذلك. إذاً: الاستنابة تكون عن الإنسان المفيق وليس عن المغمى عليه، لكن إذا كان قد أذن له وكان مريضاً وقال: يا فلان! ارم عني في هذه الأيام فلا أقدر أن أرمي، ثم أغمي عليه في خلال هذه الأيام، فلا شيء عليه، فالآخر يرمي عنه وفي هذه الحالة لا يحتاج إلى إذن جديد. وينبغي أن يستنيب العاجز حلالاً أو من قد رمى عن نفسه، فإن استناب من لم يرم عن نفسه فينبغي أن يرمي النائب عن نفسه: مثل النيابة في الحج، فالذي يحج عن غيره لابد أن يكون قد حج عن نفسه، وكذلك الذي سيرمي عن الغير لابد أن يكون قد رمى عن نفسه، فإذا استنابك إنسان في الرمي فترمي عن نفسك أولاً، ثم ترمي عن هذا الإنسان. أيضاً لو أن الذي يرمي عن نفسه وعن غيره بدأ بالجمرة الأولى، ثم الثانية ثم الثالثة عن نفسه، ثم رجع فرمى عن الآخر فقد خرج من الخلاف الذي في المسألة. والراجح: أنه يجوز أن يرمي عن نفسه ثم عن غيره، فعند الجمرة الأولى يرمي عن نفسه بنية أنها لنفسه، ثم يرمي بنية أنها لفلان، وهذا قول الأحناف، وقول في مذهب الشافعية، وهو الذي نختاره في مثل هذا الزحام الموجود الآن، ويصعب جداً أن نأمر إنساناً بقول الجمهور: ارم الثلاث ثم ارجع للأولى وارمها حتى الثالثة، فالراجح: أنه لا يوجد دليل يمنع من أن يرمي عن نفسه ثم يرمي عن غيره وهو في مكانه ذلك، فيرمي عن نفسه الجمرة الأولى، ثم يرميها عن غيره، ثم يتقدم إلى الثانية ويرميها عن نفسه، ثم يرميها عن غيره، والثالثة كذلك.

المبيت بمنى ليالي أيام التشريق

المبيت بمنى ليالي أيام التشريق المبيت بمنى ليالي التشريق الثلاث من الواجبات في الحج وليس من أركان الحج، إلا أنه إذا نفر النفر الأول سقط مبيت الليلة الثالثة، إذاً: الليلة الأولى يبيتها وهي صباح ثاني أيام العيد، والليلة الثانية هي صباح ثالث أيام العيد، فلو أنه جلس حتى غروب الشمس في هذا اليوم بمنى فيلزمه أن يبيت الليلة الثالثة، لكن لو أنه رمى عند الزوال وانصرف قبل غروب الشمس فلا يلزمه المبيت إلا في الليلتين السابقتين. والأكمل أن يبيت بها كل الليل من المغرب حتى الفجر، لكن لو أنه كان في وقت الغروب خارج منى، ثم رجع عند العشاء أو بعده، فالنصف الثاني من الليل لابد أن يكون فيها، فالواجب أن يبيت بها معظم الليل، هذا الفرض الواجب الذي عليه.

حكم من ترك المبيت أو بعضه ليالي التشريق بمنى

حكم من ترك المبيت أو بعضه ليالي التشريق بمنى فإن ترك مبيت ليالي التشريق الثلاث لزمه دم، وإن ترك إحدى الليالي الثلاث فعليه ثلث دم: إذا ترك الثلاث كلها ونفر من غير أن يوكل من يرمي له الجمرات فعليه دم، وإذا كان معذوراً في رمي الجمرات فينصرف ولا يبيت، ثم يوكل في ذلك، فهذا لا شيء عليه، وإذا كان لا عذر له في رمي الجمرات ويقدر على الرمي فوكل من غير عذر فعليه دمان: دم من أجل ترك الرمي، ودم من أجل ترك المبيت. وإن ترك إحدى الليالي الثلاث فعليه ثلث دم، ولو ترك ليلة المزدلفة وليالي التشريق فعليه دمان، دم لليلة مزدلفة؛ لأنه واجب من الواجبات، ودم لليالي منى، هذا فيمن لا عذر له، ففي ليلة المزدلفة قد يكون معذوراً في أنه لم يبت فيها، كإنسان أحرم في يوم عرفة أو في ليلة العيد، وكان محصوراً أو ممنوعاً حتى توجه ووقف في عرفة قبل فجر العيد، فهذا لا يجب عليه المبيت بمزدلفة؛ لأنه فاته فسقط عنه، ولا يجب عليه دم. ولو خرج من عرفات راكباً السيارة ومتوجهاً إلى المزدلفة، وفي الطريق تعطلت السيارة، أو مع شدة الزحام وصلوا مزدلفة وقت الضحى، فكيف يبيت فيها؟ فهذا معذور ولا شيء عليه، لكن الذي يلزمه وهو غير المعذور إذا ترك مع قدرته التوجه إلى المزدلفة وذهب إلى منى مباشرة فعليه دم بسبب ترك المبيت.

ترك المبيت بمنى لأهل الأعذار

ترك المبيت بمنى لأهل الأعذار من ترك مبيت مزدلفة أو منى لعذر مثل رعاء الإبل وأهل السقاية فلا دم عليهم، فرعاة الإبل لا يستطيع أن يترك إبله، فقد تسرق، أو لا تأكل فتموت، أو يحدث لها أي شيء، وكذلك أهل السقاية لا دم عليهم، ويلحق بهم من كان مريضاً مرضاً شديداً واضطروا لنقله إلى المستشفى مثلاً بسبب ذلك. وقد جاء في الحديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغداة ومن بعد الغد بيومين، ويرمون يوم النفر)، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (استأذن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له)، ورواه أحمد بلفظ: (أن العباس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يبيت بمكة أيام منى من أجل السقاية، فرخص له). وفي هذا الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى، وكونه رخص لهذا فهو لغيره عزيمة وليست رخصة، وهو من مناسك الحج؛ لأن التعبير بالرخصة يقتضي ذلك، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد هذه العلة ولم يوجد معنى هذه العلة لم يحصل الإذن، ولم تحصل الرخصة. ورعاء الإبل وأهل السقاية لهم إذا رموا جمرة العقبة يوم النحر أن ينفروا ويدعوا المبيت بمنى ليالي التشريق. إذاً: المبيت في ليالي التشريق لا يكون واجباً عليهم من أجل السقاية؛ لأنهم يكونون موجودين في مكة يسقون الحجيج، وأهل الرعاء: الذي يبيعون للحجيج الإبل والشياه وغيرها في موسم الحج لا يقدر أن يبيت مع الناس؛ لأنه سيحضر غنمه وإبله ويدخلها مع الناس في هذا المكان، فعلى ذلك يحتاجون أن يبيتوا في الخارج بإبلهم وأغنامهم. وللصنفين جميعاً أن يدعوا رمي يوم القر وهو الأول من أيام التشريق، ويقضوه في اليوم الذي يليه قبل رمي ذلك اليوم، وليس لهم ترك يومين متواليين، والمعنى: إذا كانوا في يوم العيد رموا ولهم أن ينفروا، ويذهبوا عند إبلهم وغنمهم أو عند السقاية، وسيأتون في اليوم الثاني لرمي الجمرة لهذا اليوم وللغد، وإما أنهم لن يأتوا يوم القر ويمكثون هنالك ويأتون يوم النفر الأول ليرموا للبارحة ولهذا اليوم، فهم سيرمون يومين بالخيار، ويوم العيد لابد من الرمي فيه، وبعد ذلك سيخرجون لرعاية الإبل أو لسقاية الحجيج، وإما أن يأتوا في اليوم الثاني للرمي عن هذا اليوم واليوم الذي يليه، أو لا يأتون في يوم القر ويأتون في اليوم الثالث من أيام العيد يرمون عن البارحة وعن هذا اليوم. وإن تركوا رمي اليوم الثاني من أيام التشريق بأن خرجوا اليوم الأول بعد الرمي عادوا في اليوم الثالث، وإن تركوا رمي اليوم الأول بأن خرجوا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة عادوا في اليوم الثاني، ثم لهم أن ينفروا مع الناس، وإذا غربت الشمس والرعاء بمنى لزمهم المبيت تلك الليلة ورمي الغد. والراعي لابد من أن يبيت، إلا إذا تعذر الأمر في أن الإبل ستموت لو لم يكن معها بالليل فهذا أمر آخر، لكن الرخصة كانت لمن يسقي أنه لا يبيت؛ لأن السقيا يحتاجونها بالليل والنهار، ورعاء الإبل الغالب أنه لا يحتاج لذلك إلا بالنهار وقت المبيع، لكن إذا استدعى الأمر ليلاً ونهاراً فالظاهر أنه يرخص له كسقاة الحجيج. ويجوز لأهل السقاية أن ينفروا بعد الغروب؛ لأن عملهم بالليل، بخلاف الرعي، والنبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس، فنقول: غير أهل السقاية لابد لهم من المبيت إلا أصحاب الأعذار من هؤلاء، ورخصة السقاية لا تختص بـ العباس، ولكن لكل من يقوم بهذا الأمر. ومن المعذورين في ترك المبيت ليلة المزدلفة وليالي منى من أصحاب الأعذار في ذلك: من له مال يخاف ضياعه لو اشتغل بالمبيت، فلو كان له إبل أو بقر أو أغنام موجودة في مكان خارج منى، وتحتاج للحراسة، ولو دخل وبات في منى ضاعت وسرقت في هذا المكان، فيرخص له أن يبيت مع ماله ولا يلزمه شيء، أو كان يخاف على نفسه، أو كان به مرض يشق معه المبيت، ولو بات في منى قد يحدث له شيء فيحتاج إلى المبيت في المستشفى هذه الليالي، فهذا معذور. أو كان معه مريض يحتاج إلى تعاهده، كإنسان معه أبوه وهو في المستشفى، ويحتاج إلى أن يكون معه في هذا الوقت، فهذا عذر له ورخصة أشد من رخصة السقاية والرعاية، أو كانا يطلب ضالة أو تائهاً تاه منه كابنه أو أمه يبحث عنها في خارج منى، فهذا أيضاً معذور، إذ كيف سنلزمه بالمبيت وهو يبحث على التائه؟ أو يشتغل بأمر آخر يخاف فوته، فيجوز له ترك المبيت ولا شيء عليه في ذلك. وكذلك من ضاقت عنهم منى مع شدة الزحام، فهذا عذر من الأعذار الموجودة الآن، فقد يصلون إلى منى فلا يجدون مكاناً يبيتون فيه، أو لا توجد لهم خيام ومكان بمنى، أو لم يستطيعوا دخولها وضاعت الليلة وهم خارج منى، وهذا يحدث كثيراً، كمن ذهب ليرمي الجمرة وبعد ذلك ذهب وطاف بالبيت، ثم أراد الرجوع فلم يجد شيئاً يوصله، والزحام شديد جداً فظل محبوساً خارج منى فترة طويلة، وأحياناً يحولونهم على طرق أخرى، فيذهب ولا يستطيع الوصول إلى منى، فهذا معذور في ذلك، فقد ضاع عليه الليل وهو على هذه الحال، إذاً: الراجح أنه لا شيء عليه في ذلك وهو معذور. ولو ترك المبيت بمزدلفة أو بمنى ناسياً كان كتركه عامداً: هذه صورة ثانية، فالمعذور لا شيء عليه، فقد حاول أن يدخل منى ولكنه ما استطاع، لكن هذا نسي ونام في مكة، فحكمه حكم المقصر، فإذا كانت ليلة واحدة فعليه ثلث دم، وفي الليالي الثلاث دم كامل.

النفر من منى

النفر من منى إذا مكث الحجاج في منى أيام التشريق، ورموا الجمرات بعد الزوال وباتوا في منى، يأتي بعد ذلك النفر في آخر الأيام، والنفر إما أن يكون في اليوم الأول من أيام النفر وهو ثالث أيام العيد، أو في اليوم الثاني، ويجوز النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق، ويجوز في اليوم الثالث من أيام التشريق، وهذا مجمع عليه؛ لقوله سبحانه: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203]، والتأخير حتى رابع أيام العيد أفضل؛ لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أراد النفر الأول فينفر قبل غروب الشمس، وإذا غربت الشمس وهو في منى فيلزمه أن يبيت في هذه الليلة هنالك، فإذا نفر قبل غروبها سقط عنه مبيت ليلة اليوم الثالث من أيام التشريق، ورمي اليوم الثالث، ولا دم عليه، ولو لم ينفر حتى غربت الشمس وهو مازال في منى لزمه المبيت بها تلك الليلة ورمي يومها. فيجوز للحاج التعجيل في النفر من منى في اليوم الثاني ما لم تغرب الشمس، ولا يجوز بعد الغروب، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، أما مذهب أبي حنيفة فلو دخل عليه الليل فله أن ينفر حتى قبل الفجر، وإذا طلع عليه الفجر في آخر أيام العيد آخر أيام التشريق فيلزمه المكث لرمي الجمرات. والجمهور احتجوا بقول الله عز وجل: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة:203]، وهذا تعجل في اليوم الثاني فانصرف، وفي الآية ذكر اليوم ولم يذكر الليلة، هذا قول الجمهور وهو الأولى في ذلك، ويدل عليه ما جاء عن عمر رضي الله عنه قال: (من أدركه المساء في اليوم الثاني بمنى فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس). وجاء عن ابن عمر كذلك بإسناد صحيح: (من غربت عليه الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد)، وعلى ذلك من غربت عليه الشمس وهو هناك في منى فيبيت حتى آخر أيام العيد، لكن لو رحل فغربت الشمس وهو سائر، وهذا يحصل كثيراً مع الزحام الشديد، فالحجاج قد يركبون الباص، والباص لا يتحرك مع الزحام حتى تغرب الشمس وهم مازالوا في منى، فهؤلاء لهم حكم الراحل، أما الماكث في الخيمة المقيم فيلزمه أن يبيت، لكن الذي أخذ بالأسباب وركب سيارته لكن مع شدة الزحام لم يخرج، فلا شيء عليه حتى لو خرج وقت العشاء. وإذا نفر من منى النفر الأول أو الثاني انصرف من جمرة العقبة وهو يكبر ويهلل، ولا يصلي الظهر بمنى، بل يصليها بالمنزل -وهو المحصب- أو غيره، ولو صلاها بمنى جاز على حسب ما تيسر له. وهذا الكلام إذا كان المكان في آخر أيام العيد سهلاً، فمثلاً خمسة وتسعون في المائة من الحجيج نفروا في اليوم الأول، فسوف تكون منى فارغة في آخر أيام العيد، ولو رأيت الحجيج، ورأيت الزحام وشدته والعبادة لله سبحانه، فستعرف الفرق بين ثالث يوم العيد ورابع يوم العيد، ففي ثالث يوم العيد ترى منظر الحجاج والتلبية والتكبير وذكر الله سبحانه وتعالى تستشعر بالحج، أما في آخر أيام العيد ومنى فارغة تستشعر بالوحشة، وبعد ذلك عندما تذهب تزور منى تحس بالفرق بين وجود الحجيج في منى وبين فراغها، ففي أيام الحج تستشعر بمعنى العبادة، فالذي ينفر من منى في آخر أيام التشريق هذا أفضل له، والأفضل أن يرمي عند وقت الزوال، ولا يصلي الظهر في منى بل في مكة أو في المحصب، وهو مكان عند الحجون ناحية مقبرة مكة، واسمه: المحصب، أو الأبطح، أو البطحاء، أو المعرس، وهو المكان الذي توجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم بعدما نفر وصلى الظهر هنالك عليه الصلاة والسلام.

طواف الوداع

طواف الوداع ليس على الحاج بعد نفره من منى إلا طواف الوداع، وهو ليس من مناسك الحج، ولكنه تابع له، وواجب عليه أن يطوف هذا الطواف. فيستحب إذا خرج من منى أن ينزل بالمحصب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل به، وجاء عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف للوداع به)، والمحصب: داخل بيوت مكة، فيصعب أن تجري في الشارع وتنزل وتعمل هذه الأشياء، إذاً تذهب إلى مكة فتصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء هنالك في مكة. وجاء عن عائشة قالت: نزول الأبطح ليس بسنة، إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أسمح لخروجه، وجاء عن ابن عباس مثل ذلك أيضاً. وطواف الوداع سمي طواف الوداع لأنه توديع البيت، وسمي طواف الصدر لأنه يصدر من البيت، من صدور الناس من مكة عند صدورهم من منى.

وقت طواف الوداع وحكمه

وقت طواف الوداع وحكمه ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره؛ ليكون آخر عهده بالبيت، على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله، فيكون آخر شيء يودع أهله قبل أن يسافر، إذاً: البيت أولى آخر من تودعه بيت الله سبحانه وتعالى. فإذا أراد الخروج طاف للوداع، وصلى ركعتي الطواف: فمثلاً: رجل يريد أن يسافر من مكة إلى المدينة، أو من مكة إلى بلده، فيطوف طواف الوداع، وهو واجب؛ لما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه مسلم قال: (كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)، وهو عبادة مستقلة تلزم كل من حج. وفي العمرة يسن أن تطوف للوداع، ولكنه في الحج فرض؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هو من ضمن المناسك التي يقوم بها الإنسان في الحج، ولكن هذا تابع لهذا الذي أداه، لقول ابن عباس: (كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)، وفي رواية أخرى: (لا ينفرن أحد من الحاج حتى يكون آخر عهده بالبيت)، وفي رواية ثالثة عن ابن عمر: (من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت إلا الحُيض، رخص لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم). إذاً: الحاج لابد أن يطوف طواف الوداع، والراجح: أنه ليس من مناسك الحج. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث للمهاجر بعد الصدر)، أي: أنه إذا انتهى من مناسك الحج يمكث ثلاثاً، وفي رواية: (للمهاجر إقامة ثلاث بعد الصدر بمكة) كأنه يقول: لا يزيد عليها فليس له أن يمكث إلا ثلاثة أيام، وليس له أن يطوف الوداع في هذه الأيام الثلاثة في أولها، بل يطوف بعدما ينتهي. إذاً: الذي هاجر من مكة إلى المدينة ليس من حقه أن يقيم بمكة بعد ذلك، إذ الهجرة لله سبحانه، وليس له أن يرجع إلى مكة، فيحرم على المهاجر أن يرجع إلى مكة مرة أخرى، ولذلك فإن مكة كانت أحب البلاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن له صلى الله عليه وسلم أن يقيم بها، فهاجر إلى المدينة هجرة لله سبحانه وتعالى، وكذلك الصحابة الذين هاجروا معه من مكة إلى المدينة ليس لهم أن يرجعوا فيقيموا بمكة بعدما فتحت، فماذا لهم؟ لهم إذا ذهبوا لحج أو عمرة أن يمكثوا بعدما أنهوا المناسك ثلاثة أيام فقط. فهنا في هذا الحديث يقول للمهاجرين: ليس لكم أن تقيموا بمكة بعدما انتهت المناسك إلا ثلاثاً، وإذا انتهت مناسك هؤلاء فالحج انتهى، ويقيمون ثلاثة أيام، ثم نأمرهم بطواف الوداع إذا خرجوا. إذاً: طواف الوداع ليس من مناسك الحج، وإنما هو شيء تابع له، فإذا حج الإنسان البيت وانتهى من مناسكه كلها وجب عليه أن يطوف طواف الوداع، وجمهور أهل العلم على أن طواف الوداع واجب، والبعض يقول: هو من مناسك الحج، والبعض يقول: إنه ليس من المناسك، وهذا الراجح، فهو متعلق بالذهاب للحج، فيلزمه أن يطوف هذا الطواف.

حكم من ترك طواف الوداع

حكم من ترك طواف الوداع وإذا خرج بلا وداع عصى ولزمه العود للطواف؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ما لم يبلغ مسافة القصر، أي: إذا بدأ في السفر انتهى أمر طواف الوداع، فلا يجب عليه العود، وإنما يلزمه دم بتركه هذا الواجب.

حكم طواف الوداع على الحائض والنفساء

حكم طواف الوداع على الحائض والنفساء ليس على الحائض ولا على النفساء طواف وداع، فهو رخصة، فالحائض التي طافت طواف الإفاضة وحاضت بعده لا يلزمها أن تنتظر انقضاء الحيض حتى تطوف طواف الوداع، ويسقط عنها هذا الطواف. قالت عائشة رضي الله عنه: (حاضت صفية ليلة النفر، فقالت: ما أراني إلا حابستكم)، وكانت طافت طواف الإفاضة، فأخبرت عائشة بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (عقرى حلقى، أطافت يوم النحر؟!) قوله: (عقرا حلقا) كلمة تقال للتعجب، وأصلها الدعاء، كأنه دعا عليها بالعقر وأن تجرح، وحلقى بمعنى وجع الحلق، وهذا غير مقصود، لكنها كلمة تقال للتعجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتعجب منها، فقال هذه الكلمة، مثل كلمة: تربت يداك، يقولها الإنسان على وجه التعجب، وليس المعنى: أدعو عليك بالفقر، ولكن يقولها على وجه التعجب، (فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنها طافت يوم النحر، قال: فانفري).

حكم المكث بعد طواف الوداع بمكة

حكم المكث بعد طواف الوداع بمكة لو طاف يوم النحر للإفاضة وطاف بعده للوداع، ثم أتى منى ثم أراد النفر منها في وقت النفر إلى وطنه واقتصر على طواف الوداع السابق لم يجزئ؛ لأنه مازال هنالك في الحرم، ومنى حرم. إذاً: إذا طاف طواف الوداع بمكة، وذهب ومكث في منى ثلاثة أيام، وبعد ذلك أراد الرجوع إلى بلده، فنقول له: ارجع مرة ثانية للبيت وطف به ثم اخرج. وليس على المقيم بمكة الخارج إلى التنعيم وداع، فلو أن إنساناً مقيماً بمكة يريد عمرة، فإنه يخرج للتنعيم ويرجع بهذه العمرة، فلا يلزمه أن يطوف للوداع، ولو فرضنا أنه فعل هذا الأمر جاز خروجه، لكن لا يجب عليه ولا يلزمه طواف وداع. ولو ترك طوفة من السبع ورجع إلى بلده لم يحصل الوداع؛ فليزمه دم بذلك. ولو طاف للوداع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة فعليه إعادته. أما لو ترك شيئاً في الفندق وذهب ليطوف للوداع، ورجع مرة ثانية للفندق وأخذ أشياءه وانتظر السيارة فكل هذا لا شيء عليه، لكن إذا كان السفر غداً، وهذا اليوم سيطوف للوداع، وبعد ذلك في الليل سيشتري أشياء وكذا، وغداً الليل سيسافر فلا ينفع، فلابد أن يكون طواف الوداع هو آخر الأشياء، ولا تنشغل بعده إلا بسفرك، أي: تجهز حقائبك وتأخذها إلى السيارة حتى لو مكثت في السيارة ساعتين أو ثلاثاً؛ لأن حكمك حكم الراحل فلا شيء عليك، لكن إذا انشغلت بتجارة أو صناعة أو رجوع للمبيت في الفندق لكي تنام وتصبح تشتري حاجات، فنقول: ارجع مرة ثانية وودع البيت، بحيث يكون آخر الأشياء هو الوداع للبيت.

استحباب الالتزام في طواف الوداع

استحباب الالتزام في طواف الوداع إن فرغ من طواف الوداع، وصلى ركعتي الطواف خلف المقام، يستحب أن يأتي الملتزم فيلتزمه ويدعو بخيري الدنيا والآخرة، وبأي شيء دعا حصل المستحب، ويأتي بآداب الدعاء؛ من الحمد لله تعالى، والثناء عليه، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كنت تودع البيت يستحب أن تأتي الملتزم، وهو المكان الذي بين الحجر وباب البيت، وقد التزمه النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى: احتضنه وجعل صدره ويديه عليه ودعا ربه في هذا المكان؛ فيستحب ذلك، فقد جاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: (طفت مع عبد الله - شعيب طاف مع عبد الله بن عمرو بن العاص - فلما جئنا دبر الكعبة قلت له: ألا تتعوذ؟ -أي: ألا تدعو الله عز وجل متعوذاً به النار؟ - قال: نعوذ بالله من النار، ثم مضى حتى استلم الحجر، وأقام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا وبسطهما بسطاً -أي: جعل وجهه على البيت وكأنه يحتضن البيت- ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله). فآخر شيء يفعله الحاج هو طواف الوداع، ثم يصلي ركعتين، ويذهب عند الملتزم إن استطاع ويقف ليدعو، ثم ينصرف ويرجع إلى بلده. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مجمل أعمال الحج والعمرة وأحكام الفوات والإحصار

شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة - مجمل أعمال الحج والعمرة وأحكام الفوات والإحصار الحج ركن من أركان الإسلام، وفريضة عظمى تعكس عبودية المؤمن لمولاه واستكانته بين يديه، فالحج يذكره بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ويذكره بهول المحشر، ويجعله يكثر من ذكر الله، فيرجع كيوم ولدته أمه إن شاء الله. ومن رحمة الله أن جعل في أحكام الحج ما يرفع الحرج، ويفتح باب الرخصة لمستحقيها، فقد شرع في الأركان والواجبات ما يحل إشكال ما يطرأ على المؤمن من موانع تمنعه من مواصلة حجه، وذلك ما يعرف بأحكام الفوات والإحصار.

كيفية الحج والعمرة

كيفية الحج والعمرة الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. تكلمنا عن مناسك العمرة, ومناسك الحج, ونذكر هنا ملخصاً لمناسك الحج والعمرة: فمثلاً: إذا أراد الإنسان أن يحج من مصر، فالمستحب في حقه أن يتمتع بالعمرة إلى الحج, فينوي العمرة ويلبي إذا أحرم عند الميقات بقوله: لبيك اللهم عمرة.

أركان العمرة وأعمالها

أركان العمرة وأعمالها والعمرة لها أركان ثلاثة: الإحرام: وهو عقد النية على أنه صار محرماً, ثم الطواف بالبيت, ثم السعي بين الصفا والمروة, فهذه هي أركانها. فإذا وصل عند الميقات لبس ملابس الإحرام, ويجوز أن يلبسها قبل الميقات، ولكنه عند الميقات يقول: لبيك عمرة, ثم بعد أن يصل إلى البيت يطوف به، وهذا ركن من أركان العمرة, ثم يتوجه إلى الصفا، ويسعى بين الصفا والمروة. وإذا طاف بالبيت فيستحب أن يرمل في أول ثلاثة أشواط، فهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم, وليست فرضاً, والرمل: هو الإسراع في المشي كهيئة الذي يجري, وفي الأربعة الباقية يمشي مشياً حول البيت, يبدأ من الحجر الأسود، والمستحب أن يضع يديه على الحجر الأسود, فيسمي الله سبحانه وتعالى ويكبر, ثم يقبل الحجر الأسود إن استطاع ويسجد عليه, ويطوف بالبيت ذاكراً لله سبحانه وتعالى, وبين الركنين: اليماني والحجر الأسود يستحب أن يدعو بهذا الدعاء: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] , وفي كل طواف من السبعة يستحب أن يستلم الحجر الأسود إن استطاع ويقبله, وإن لم يستطع فيلمس بيده, إن لم يقدر على ذلك الاستلام وتقبيل اليد فبالإشارة إلى الحجر الأسود, فإذا أشار إليه يبدأ الطواف, فإذا أنهى الطواف بالبيت فعليه أن يصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم, يقرأ في الأولى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، أو {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] , وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] أو {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] , ففي واحدة منهما يقرأ قل هو الله أحد، وفي الأخرى بقل يا أيها الكافرون. ثم يتوجه إلى الصفا ويبدأ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نبدأ بما بدأ الله به) فيتوجه إلى الصفا فيرقى فوقه، ويستقبل الكعبة ويدعو ربه سبحانه وتعالى دعاء طويلاً, فيوحد الله سبحانه ويكبره ويسبحه ويحمده ويقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله وحده, أنجز وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده) , ثم يدعو بما شاء, ثم يدعو مرة ثانية: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله وحده, أنجز وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده) , ثم يدعو, ثم يدعو ثالثاً: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله وحده, أنجز وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده) , فتلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم, وإن لم يفعل واكتفى بالدعاء أو بالتهليل والتحميد، أو لم يفعل شيئاً، فقد أتى بالفرض الذي عليه. ثم ينزل من الصفا متوجهاً إلى المروة وهو ماش، ويسن الإسراع بين الميلين الأخضرين للرجال فقط، ويمشي في الباقي مشياً حتى يصل إلى المروة فيصعد عليها ويدعو ربه سبحانه، والإسراع بين الميلين والرمل في الطواف إنما هو للرجال فقط، وكذلك الاضطباع في الطواف للرجل فقط، والاضطباع: هو أن يكشف المنكب الأيمن، ولا اضطباع بين الصفا والمروة بل في الطواف فقط، وينتهي عند بداية صلاة ركعتين خلف المقام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)، فيكون قد ستر عاتقيه، وأخذ زينة الصلاة وصلى. قلنا: إنه إذا كان عند المروة فإنه يستقبل البيت ويحمد الله ويكبره ويوحده، ويدعو بالذكر الذي قاله عند الصفا ويكرره ثلاثاً, وينزل إلى المروة ويفعل كما صنع في المجيء, فبين الميلين يسن للرجال الإسراع, وإذا وصل إلى الصفا قام عليه مستقبل البيت، وكما فعل في الشوط الأول يفعل في البقية، حتى يصل الشوط السابع عند المروة, فيكون قد أحرم ثم طاف بالبيت ثم سعى بين الصفا والمروة, وانتهت بذلك أعمال العمرة, فليتحلل بأن يقصر شعره، وإن كان الوقت طويلاً بينه وبين الحج فله أن يحلق شعره, أما إن كان الوقت قصيراً فعليه أن يقصر شعره، ويترك الحلق للحج. وبعد تحلله من العمرة أصبح حلالاً، فيجوز له أن يقص أظفاره، وأن يأخذ من شاربه, وأن يستعمل الطيب ويلبس الثياب إلى أن يأتي يوم التروية، وهو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة.

أعمال الحج

أعمال الحج إذا جاء يوم التروية، فيبدأ المتمتع في الإحرام بمناسك الحج , وإذا كان مفرداً للحج فيكون إحرامه من الوقت الذي ذهب فيه سواء كان مفرداً أو قارناً، فيقول: لبيك حجاً إذا كان مفرداً, وإذا كان قارناً قال: لبيك حجاً وعمرة, ويطوف بالبيت كما سبق، وبعد ذلك يسعى بين الصفا والمروة, والطواف للمفرد وللقارن سيكون سنة, وهو طواف القدوم, وليس طواف الفرض, لكن للمتمتع سيكون هذا طواف الفرض، الذي هو طواف العمرة, والمفرد يكون السعي له ركن عن الحج، وعن الحج والعمرة إذا كان قارناً, أما طواف الفرض بالنسبة لهم فهو في يوم النحر، وهو طواف الإفاضة. والمتمتع إذا أنهى أعمال العمرة مكث حلالاً، ويبدأ يوم التروية بالإحرام بالحج, هذا إذا كان واجداً للهدي, أما إذا لم يكن واجداً للهدي فيستحب أن يبدأ بالإحرام قبل يوم التروية بيومين؛ لكي يصوم تلك اليومين إضافة إلى يوم التروية، فيكون صائماً ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع من الحج, فيبدأ مبكراًً خروجاً من الخلاف, فإن لم يبدأ إلا في يوم التروية، فالراجح الجواز, سواء صام قبله أو أجل الصيام إلى أيام التشريق.

المبيت بمنى

المبيت بمنى يبدأ الحاج مناسك الحج بالتوجه إلى منى, في اليوم الثامن، بحيث يكون هناك عند صلاة الظهر، فيصلي في منى الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، ويبيت إلى الفجر, ويقصر في الصلاة الرباعية، ويواظب على الصلاة مع الجماعة هنالك بقدر المستطاع. يبيت ليلة عرفة في منى, والذهاب إلى منى يوم التروية سنة وليس فرضاً, كذلك المبيت ليلة عرفة بمنى سنة وليست فرضاً, والإنسان المؤمن يحرص على السنن، ويحاول قدر المستطاع أن يأتي بجميع السنن؛ ليقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم.

الوقوف بعرفة

الوقوف بعرفة فإذا بات هناك وصلى الصبح, انتظر بعد طلوع الشمس ثم توجه إلى عرفات، فإذا وصل عرفات بدأ بصلاة الظهر والعصر على وقتها ويجمعهما جمع تقديم قصراً, والمستحب أن يصلي مع الإمام، ويسمع خطبة عرفة بحسب ما يتيسر له ذلك, وإن لم يتيسر له ذلك صلى الظهر والعصر جمع تقديم قصراً مع الجماعة التي هو فيها, ثم بعد ذلك يقف عند الموقف سواء توجه إلى جبل الرحمة فوقف أسفله عند الصخرات، حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه إلى غروب الشمس, أو يقف في أي مكان من عرفة إذا لم يتيسر له ما سبق، المهم أن لا يكون خارجاً من عرفة.

المبيت بمزدلفة

المبيت بمزدلفة فإذا غربت الشمس في يوم عرفه يبدأ الحجيج بالنفر من عرفة، ويتوجهون إلى المزدلفة. والوقوف بعرفه في هذا اليوم ركن من أركان الحج, بل هو أعظم أركان الحج, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفه). فإذا توجهوا إلى المزدلفة للمبيت فيها، وإن كان الراجح أنه ليس ركناً من أركان الحج ولكنه واجب من الواجبات, والمبيت لابد أن يتجاوز نصف الليل, فيبيت إلى ما بعد نصف الليل, وبعد نصف الليل بساعة أو بساعتين له أن ينصرف من المزدلفة بحسب الزحام إلى منى, والأفضل له أن يبيت في مزدلفة حتى الفجر. والمبيت بالمزدلفة واجب إلا لأهل الأعذار, فإذا خرجوا من عرفه ولم يصلوا إلى المزدلفة حتى طلع عليهم الفجر في ذلك, كإنسان ضل الطريق أو تعطلت سيارته فلم يصل إلى المزدلفة, فمثل هؤلاء لا يجب عليهم ذلك, بل يسقط بهذا العذر الذي هم فيه. والذي يصل إلى المزدلفة بعد نصف الليل يستحب له أن يمكث فيها إلى الفجر, لكن لو مكث فيها ساعة ثم انصرف منها بعد نصف الليل جاز له ذلك، وإن كان الأفضل أن يمكث هنالك, لكن الضعفاء والعجزة والمرضى لهم أن ينفروا بعد نصف الليل من المزدلفة إلى منى, والذي يبيت في مزدلفة يبيت فيها حتى يطلع الفجر، فيصلي الفجر في أول وقته, ثم يقف هنالك عند المشعر الحرام يدعو الله سبحانه وتعالى دعاء طويلاً إلى وقت الإسفار قبل طلوع الشمس, ثم قبل طلوع الشمس ينتقل الحجاج من هذا المكان ويفيضون إلى منى، وسواء الذين وصلوا إلى منى في النصف الثاني من الليل، أو الذين وصلوا الصباح فأول ما يصلون إلى منى فلهم أن يرموا الجمرات, ولكن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ألا يرمي الجمرات إلا في وقت الضحى, ولكن يحكمنا الآن الزحام الشديد الموجود هناك، فبحسب ما يتيسر للإنسان من الوصول إلى منى فيرمي الجمرات, والأفضل أن يكون ذلك بعد طلوع الشمس.

رمي الجمرات

رمي الجمرات وهو أن يرمي بسبع حصيات في جمرة العقبة الكبرى, والجمرات ثلاث: الصغرى، والوسطى، والكبرى, ففي يوم النحر يرمي جمرة العقبة الكبرى فقط بسبع حصيات, وله أن يأخذ هذه الحصيات من أي مكان, سواء أخذها من المزدلفة، أو من منى، أو من أي مكان آخر, ومن السنة أن يرمي ويكبر مع كل حصاة, ولا يرم خارج المرمى, بل لابد وأن تقع بداخل المرمى، سواء رماها من الطابق الأول، أو من أعلى، فله أن يرمي من أي مكان لكن لابد أن تكون في المرمى. فإذا أنهى الرمي حصل التحلل الأصغر، فيحلق شعره إذا كان قد دفع ثمن الهدي قبل ذلك, وإذا كان معه هدي فعليه أن يذبح الهدي، ثم يحلق شعره أو يقصر يتحلل, وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين مرة واحدة, ثم بعد ذلك يتوجه إلى البيت؛ ليطوف طواف الإفاضة, فيكون في يوم النحر أربعة مناسك: رمي جمرة العقبة, ونحر الهدي، والحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة. والنساء يفعلن كما يفعل الرجال إلا في ما اختلف أمر الرجل عن المرأة من الأشياء التي فصلناها قبل ذلك, فحلق الشعر يكون للرجال، أما المرأة فليس لها إلا أن تجمع ضفائرها، وتأخذ منها بقدر أنملة, وهي رأس الأصبع من كل ضفيرة من ضفائرها، فنسكها هذا التقصير لا الحلق.

الفرق بين الإفراد والقران والتمتع يوم النحر

الفرق بين الإفراد والقران والتمتع يوم النحر إن الحجيج إذا ذهبوا لطواف الإفاضة، فإذا كان الحاج مفرداً أو قارناً أو متمتعاً فهذا الطواف هو الركن للجميع, ولكن المفرد والقارن لو سعيا قبل ذلك بعد طواف القدوم فليس عليهما سعي الآن, وأما المتمتع فعليه أن يطوف ويسعى سعي الحج هنا، فيطوف بالبيت من غير رمل ولا اضطباع, بل يكون لابساً لبسه المعهود، ومن السنة أيضاً أن يستلم الحجر الأسود كما قدمنا قبل ذلك، وإذا وصل بين الركنين فيدعو ربه قائلاً: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، ولا يرفع صوته بالدعاء, ولا يؤذي أحداً أثناء الطواف, بل يخفض صوته ويدعو ربه بما شاء من دعاء، فإن الله سبحانه سميع قريب مجيب للدعاء، فإذا انتهى من هذا الطواف، فليصل خلف المقام ركعتين، ثم يتوجه إلى المسعى فيسعى بين الصفا والمروة كما سعى في عمرته، وسعيه الآن لحجه, فإذا انتهى منه فإنه يكون قد انتهى من أركان الحج الأربعة: الإحرام، والوقوف بعرفة, وطواف الركن, والسعي بين الصفا والمروة, فهذه هي الأركان التي عليه, وتبقى عليه الواجبات.

أعمال أيام التشريق

أعمال أيام التشريق يتوجه الحاج إلى منى, ويسن له المكث بمنى في النهار، ويجب عليه المبيت، فيبيت فيها أيام التشريق ويرمي الجمرات الثلاث, وفي يوم العيد ستغرب عليه الشمس وهو في منى, فإذا أصبح رمى الجمرات بعد الزوال, يعني: عند صلاة الظهر, وله أن يرمي الجمرات من هذا الوقت إلى قبل صلاة الفجر، فهذا كله وقت رمي فيرمي بحسب ما يتيسر له في هذا الزحام، وفي الجمرة الأولى السنة أن يستقبل القبلة ويرمي ويكبر مع كل حصاة, ثم ينصرف ذات الشمال متوجهاً إلى الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات مكبراً, بعد أن يقف بعد رمي الجمرة الأولى فيدعو، وبعد الجمرة الثانية كذلك يقف فيدعو، وعند رمي الجمرة الثالثة بسبع حصيات لا يقف للدعاء، وإنما ينصرف، ويكون رميه للجمرة الأولى والثانية وهو مستقبل القبلة وأما الجمرة الثالثة فيرميها وشماله ناحية القبلة, ويمينه تجاه منى، ويستقبل الجمرة فيرميها, فهذا هو موقف النبي صلى الله عليه وسلم, ومن أي مكان رمى جاز, ولكن سنة النبي صلى الله عليه وسلم من استطاع أن يفعلها فعلها. فإذا رمى الجمرات في أيام منى الثلاث فقد انتهى من الواجبات، لكنه لو نفر في ثالث أيام العيد أي: ثاني أيام التشريق فله ذلك, بشرط أن يكون عند النفر أو الخروج من منى قد رمى الجمرات في هذا اليوم، وينصرف قبل غروب الشمس, فإذا انصرف وقد غربت الشمس، وكان ماكثاً في مخيمه، وليس مستعداً للرحيل، فيلزمه المبيت, أما إذا كان مستعداً للرحيل، ومنتظراً مركوباً أو نحوه، فحكمه حكم الراحل, وإن ركب الباص وغربت عليه الشمس وهو بداخل منى فكذلك حكمه حكم الراحل.

أركان الحج والفرق بينها وبين الواجبات

أركان الحج والفرق بينها وبين الواجبات إن أعمال الحج ثلاثة أقسام: أركان وواجبات وسنن. والركن جزء من العمل نفسه, وداخل في الماهية، كما نقول: إن الصلاة فيها أركان, ومن أركان الصلاة: القيام, الركوع, السجود, وهذه الأعمال جزء من ماهية الصلاة، فالركن وجوده وجود للعمل، وعدمه عدم للعمل, وأركان الحج أي: ماهية الحج, أو الشيء الذي يتكون منه هذا الحج, كالإحرام، والوقوف بعرفة، فهذا ركن لا يكون الحج إلا به, وكذلك الطواف بالبيت, والسعي بين الصفا والمروة. فالركن جزء من ماهية العمل، أو من حقيقية العمل الشرعية. ولكن الواجبات أعمال يعملها، وإذا لم يعلمها، فحجه صحيح، ويلزمه دم بترك هذا الواجب، فيصح الحج بدونه، بخلاف الركن فلا يصح الحج إلا به، ولا تقوم مقامه الفدية، أما الواجب فإذا تركه لزمه فدية؛ لتقصيره كرمي الجمرات، فإنه واجب من الواجبات لو لم يفعله، وجب عليه أن يجبر هذا بذبح شاة، وحجه يكون صحيحاً. فأركان الحج أربعة: الإحرام, والوقوف بعرفه, وطواف الإفاضة, والسعي, وقيل: إن السعي واجب, ولكن القول بأنه ركن المختار في هذه المسألة.

أركان الحج عند الأحناف

أركان الحج عند الأحناف لقد ذهب الأحناف إلى أن الحج له ركنان فقط: الركن الأول: الوقوف بعرفه, والركن الثاني: معظم طواف الزيارة, فالطواف سبعة أشواط، فإذا أتى بأربعة أشواط، فقد جاء بالركن الذي عليه, فالفرق بينهم وبين الجمهور أن الحنفية يقولون: إن الذي يترك هذا الطواف كله يلزمه أن يأتي به, وإذا أتى بمعظمه جبر الباقي بدم, ولكن يرد هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طاف بالبيت وأمر الناس بذلك، وأمرنا ربنا سبحانه وتعالى بقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، وطاف النبي صلى الله عليه وسلم سبعاً، وقال: (خذوا عني مناسككم)، فلابد من الإتيان بالطواف كاملاً، ليكون المسلم قد أتى بما أمره الله عز وجل به.

أركان الحج عند المالكية

أركان الحج عند المالكية ذهب المالكية إلى أن أركان الحج أربعة: الإحرام, والوقوف بعرفه, والطواف اتفاقاً, والسعي على المشهور عندهم, فكأن السعي فيه خلاف عندهم، كما هو عند الحنابلة: وهو هل السعي ركن من الأركان، أو واجب من الواجبات، أو سنة من السنن, فهناك ثلاثة أقوال عند الحنابلة، والأشهر أنه ركن من الأركان, وإن مال محمد بن قدامة إلى أنه واجب من الواجبات؛ عملاً بمجموع الأدلة في المسألة. فالإحرام عند المالكية وعند الجمهور ركن من أركان الحج, ولكنه عند الأحناف شرط ابتداء، وركن انتهاء, يعني: عند الابتداء بالحج، فهو شرط؛ لكي ينتقل من حله إلى حرمه، ولا يصح حجه بدونه، والأحناف يجوز الإحرام عندهم قبل أشهر الحج, ولا يوجد حج إلا في أشهر الحج، وبناء على ذلك قالوا بجواز الإحرام قبل أشهر الحج، فالإحرام شرط في الابتداء، والشرط: هو الذي لا يوجد العمل إلا به, وإن كان وجوده ليس وجوداً للعمل, كالطهارة فإنها شرط لصحة الصلاة, وليس ركناً فيها, فليس شرطاً أن يكون المتوضئ مصلياً, ولكن عدمه عدم للفعل، فعندما قال الأحناف: إن الإحرام شرط ابتداء، أي: لو أحرم في أي وقت من السنة في غير أشهر الحج فهذا قد وجد منه الشيء الذي سيتم به الحج، ولكنه ليس حجاً, وهو ركن انتهاء أي: عندما تدخل أيام الحج ويبدأ بالمناسك يكون قد دخل فيها، وهو ركن من الأركان, هذا قولهم, أما عند الجمهور فهو ركن ابتداء وانتهاء.

أركان الحج عند الحنابلة

أركان الحج عند الحنابلة وذهب الحنابلة إلى أن أركان الحج: الوقوف بعرفه, وطواف الزيارة, والإحرام على الصحيح، وهو النية, وتوجد عندهم رواية أنه واجب مثل السعي، ولكن الصحيح عندهم أنه ركن، وحصل الخلاف عند الحنابلة في السعي بين الصفا والمروة على الأقوال الثلاثة التي ذكرناها.

أركان الحج عند الشافعية

أركان الحج عند الشافعية مذهب الشافعية أن أركان الحج ستة: الأربعة التي ذكرناها إضافة إلى الحلق أو التقصير, والترتيب بين الأركان, وهذا ليس اتفاقاً عند الشافعية، بل هم مختلفون في الحلق، فبعضهم يرى أن الحلق من المناسك، والبعض يرى أنه تحلل من الإحرام, وليس ركناً من الأركان. ونحن نفصل المذاهب بحيث نراعي الخلاف الذي بين العلماء في ذلك، وإن كنا نبهنا قبل ذلك على الصحيح من الأقوال.

الراجح في أركان الحج

الراجح في أركان الحج والراجح في المسألة أن أركان الحج أربعة: الإحرام, والوقوف بعرفة, والطواف, والسعي، هكذا هو الراجح من كلام أهل العلم.

واجبات الحج

واجبات الحج إن مما يجب فعله في الحج إما ركن وإما واجب، فأما الركن فلا بد وأن يأتي به, فلا يقال مثلاً: نترك الطواف ونفدي بدم مكانه, ولكن الواجبات لو تركها فإنه يكون مقصراً وعليه الفدية في ذلك.

الواجبات المتفق عليها

الواجبات المتفق عليها هناك واجبان متفق عليهما وهما: الإحرام من الميقات, فقد اتفق العلماء على أن الإحرام لا بد أن يكون من الميقات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك، وحدد المواقيت المكانية للحج. الثاني من الواجبات: هو رمي الجمرات، فقد اتفق العلماء على أن رمي الجمرات واجب من الواجبات.

الواجبات المختلف فيها

الواجبات المختلف فيها هناك خمسة مناسك مختلف فيها: هل هي من الواجبات أو هي من السنن؟ ومن ذلك: الجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة لغير المعذور, لكن المعذور لو وقف لحظة من آخر الليل فوقوفه صحيح, أما غير المعذور فعليه أن يجمع بين الليل والنهار، يعني: عند غروب الشمس لابد أن يكون هنالك, فلو أنه وقف بعرفة ظهراً وانصرف منها، فإما أن يرجع إلى عرفة عند الليل، فيكون قد جمع بين الليل والنهار, وإما أن يلزمه دم؛ لتقصيره، وهذا هو الراجح في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لأحد من الواقفين في عرفة بالدفع من عرفة قبل غروب الشمس, والنبي صلى الله عليه وسلم دفع منها، وقال: (خذوا عني مناسككم) فدل على أن البقاء في النهار إلى غروب الشمس في عرفة واجب، وهذا هو الراجح، وأما عند المالكية فالواجب الوقوف بالليل ولو لحظة عند الغروب, أما الوقوف في النهار فهو عندهم سنة, وعندهم أن من لم يقف بالليل فإنه لم يؤد الفرض الذي عليه. والواجب الثاني: المبيت بالمزدلفة، وهذا كذلك اختلف فيه العلماء: هل هو واجب، أو سنة، أو هو ركن من الأركان؟ والراجح أنه واجب من الواجبات, ومعنى المبيت: أن يكون قد بات جزءاً من نصف الليل الثاني في المزدلفة. والواجب الثالث: الحلق والتقصير، فقول جمهور الأئمة أن الحلق والتقصير نسك، إلا قولاً عند الشافعية بأنه تحلل من الإحرام. واختلفوا كذلك كم مقدار ما يحلقه الحاج؛ والراجح أنه لابد من الحلق لجميع الشعر، أو التقصير من جميع الشعر. الواجب الرابع: المبيت بمنى ليالي أيام التشريق، وهذه حصل فيها خلاف أيضاً بين العلماء، فذهب الجمهور إلى أن المبيت ليالي أيام التشريق واجب, وذهبت الحنفية إلى أن المبيت فيها سنة, والقدر الواجب للمبيت عند الجمهور هو أن يمكث أكثر الليل, إلا أصحاب الأعذار, فلو توجه الحاج إلى البيت لطواف الإفاضة، وفي ثاني أيام العيد لم يستطع الذهاب إلى منى؛ لشدة الزحام، فوصل ولم يستطع دخول منى, أو أن الحجاج بسبب الزحام الشديد لم يقدروا على المبيت في منى، أو ليس لهم مكان, فعلى هذا فهو معذور, وكذلك لو تاه ولم يصل إلى منى إلا بعد الفجر فهو معذور أيضاً. الواجب الخامس: طواف الوداع، ويسمى بطواف الصبر، ويسمى بطواف آخر العهد, وطواف الوداع من الواجبات، فمن تركه فعليه دم.

تقسيم آخر لواجبات الحج

تقسيم آخر لواجبات الحج واجبات الحج تنقسم أيضاً إلى قسمين: واجبات أصلية يعني: ليست تابعة لغيرها, وواجبات تابعة لغيرها. فالواجبات الأصلية مثل: المبيت بمزدلفة, ورمي الجمار, والحلق أو التقصير, والمبيت بمنى ليالي أيام التشريق, وطواف الوداع. فهذه الواجبات كلها تسقط مع العذر، فيسقط المبيت بمنى ليالي أيام التشريق إذا كان الزحام شديداً فلم يقدر المرء على الدخول إلى منى، أو أنه حجز في مستشفى، أو ضاع منه مال، فذهب يبحث عنه، فضاعت عليه ليلة ولم يصل إلى منى. أما رمي الجمرات فلا تسقط؛ لأنه قد ينيب غيره إذا كان مريضاً أو عاجزاً، أو كانت امرأة، وبسبب الزحام استنابت من يرمي عنها، فإنه يجوز ذلك. وكذلك الحلق والتقصير فلا يسقط، بل لابد منه سواء تذكر وفعله هنالك، أو أنه رجع إلى بلده ونسيه فإنه يفعله إذا تذكره. وأما طواف الوداع فإنه لو انصرف ولم يطف فيلزمه دم، أو يرجع ليطوف طواف الوداع.

سنن الحج

سنن الحج إن سنن الحج هي ما سوى أركان الحج وواجباته، كطواف القدوم للقارن أو المفرد, أما المتمتع فليس عليه طواف قدوم؛ لأن الطواف الذي سيقدم به سيكون هو طواف الركن، أي: طواف العمرة. ومن السنن: الأذكار التي تقال، والدعاء بين الركنين اليماني والحجر الأسود، وهو: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، وكذلك الوقوف على الصفا والدعاء فيه, والوقوف على المروة والدعاء فيها, والدعاء في يوم عرفة كله، ومن السنن أيضاً: استلام الحجر الأسود والسجود عليه, والرمل أي: الإسراع كهيئة الجاري في طواف القدوم للحاج والمعتمر، ومن السنن أيضاً: الاضطباع، والرمل والاضطباع للرجل فقط وهو: كشف منكبه الأيمن خلال طواف القدوم، ومن السنن كذلك: سائر ما ندب إليه من الهيئات في الطواف والسعي، وحضور الخطب وغير ذلك. والسنن في الحج يطلب فعلها ويثاب فاعلها عليها، ولكن لا يلزمه بتركها فدية أو دم أو صدقة. ومن سنن الحج أيضاً: العج والثج, والعج معناه: رفع الصوت بالتلبية، وهذا للرجال فقط، أما المرأة فإنها تدعو وتلبي بصوت منخفص، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (أي الحج أفضل؟ قال صلى الله عليه وسلم: العج والثج) والعج: رفع الصوت, والثج: الذبح والنحر, فكلما أكثر من الذبح ومن النحر كان هذا أفضل له. فالثج: هو ذبح الهدي تطوعاً؛ لما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكثر من هدي التطوع جداً, وقد كان صلى الله عليه وسلم أحياناً وهو في المدينة يرسل هدياً إلى البيت من غير أن يخرج حاجاً ولا معتمراً صلى الله عليه وسلم, وهو صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قد نحر بيده ثلاثاً وستين بدنة، ونحر الباقي علي رضي الله تبارك وتعالى عنه. قال النووي: اتفقوا على أنه يستحب لمن قصد مكة بحج أو عمرة أن يهدي هدياً من بهيمة الأنعام، سواء من الإبل أو المواشي والبقر والجواميس، أو من الأغنام، فبهيمة الأنعام تطلق على هذه الثلاثة الأصناف, ويقسمه على مساكين البلدة. ومن السنن كذلك: الغسل لدخول مكة، فالذي جاء من بعيد إذا وصل إلى مكة فيستحب أن يغتسل قبل أن يدخلها, كما يستحب الاغتسال عند الإحرام، ومن السنن: التعجيل بطواف الإفاضة يوم العيد فيستحب في وقت الضحى بحسب ما يستطيع، ومن السنن التحصيب أي: النزول بالمحصب، وهو مكان في مكة عند مقبرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل هنالك, والآن لعله يصعب هذا، فإن استطاع ذلك فعله، وإلا فلا. فهذه هي أعمال الحج، أما الأركان فلا يتم الحج ولا يجزئ حتى يأتي بجميعها: الإحرام, الوقوف بعرفة, الطواف, السعي، ولا يجبر شيء من هذه الأركان بدم، فلو أنه طاف بالبيت ستة أطواف فيلزمه أن يأتي بالسابعة، فلو نسى بنى على الأقل. والترتيب شرط في هذه الأركان إلا ما أباحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: لا حرج, كالسعي والطواف, فلو سعى قبل أن يطوف، أو طاف قبل أن يسعى ناسياً فلا شيء عليه, لكن لو أنه قدم الطواف عند مجيئه وهو مفرد بالحج، وقال: إن الطواف الذي أتيت به الآن هو طواف الحج فلا يصح ذلك؛ بل لابد أن يكون طواف الحج عند وقته في يوم العيد.

حكم القول لمن حج يا حاج

حكم القول لمن حج يا حاج يقول الإمام النووي رحمه الله: يجوز أن يقال لمن حج: حاج، بعد تحلله ولو بعد سنين, وكل الحجاج الآن ينادون بعضهم بهذا، فهذه الكلمة الراجح فيها أنها جائزة، إلا أن يكون على وجه الافتخار، أو على وجه التسميع بالعمل، كأن يحج لكي يقول له الناس: يا حاج بل قد يغضب عندما يقال له: يا فلان أو نحوها، وهذا غير جائز، ولا يجوز أن يطلب هو من الناس ذلك, لكن إذا قيل للحاج: يا حاج دون طلبه، فالراجح أنه لا كراهة في ذلك، سواء قيل له في وقتها أو بعد ذلك.

أحكام فوات الحج

أحكام فوات الحج قاصد الحج والعمرة إذا فات منه الحج، فهذه مسألة تسمى بالفوات، وإذا أحصر فيسمى ذلك إحصاراً, والفوات لا يكون إلا في الحج، أما العمرة فإنها لا تفوته ولكنه قد يحصر عنها. أما من يفوت منه الحج كأن يأتي يوم عرفة وهو محبوس، أو لم يصل إلى عرفات في يومها فهذا يكون قد فاته الحج, ولكن المحصر هو الذي يمنع بمرض أو بعدو, لذلك قلنا: إنه يستحب لمن يحرم أن يقول عند إحرامه: لبيك عمرة، ومحلي حيث حبستني, أو لبيك حجاً، ومحلي حيث حبستني, أو لبيك حجة وعمرة، ومحلي حيث حبستني, وهذا الاشتراط جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله لـ ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وهذا ليس خاصاً بها ولكنه لها ولغيرها, فإذا اشترط الإنسان نفعه ذلك إذا أحصر بمرض، أو بعدو.

تعريف الفوات

تعريف الفوات الفوات في اللغة: من فاته الشيء يفوته فوتاً وفواتاً أي: ذهب عنه. وفي اصطلاح الفقهاء: هو أن يحرم بالحج، ثم لا يدرك الوقوف بعرفة في وقته ومكانه المحدد ولو لحظة لطيفة, ولا يتخيل في العمرة الفوات؛ لأن وقت العمرة لا حدود له، أما الحج فله وقت معين، ومن فاته الحج سواء ضل المكان أو وصل متأخراً إلى عرفة وقد فات وقت الوقوف بها فإنه قد فاته الحج، والفوات يكون في الحج فقط، وأما الإحصار فقد يقع في الحج وفي العمرة، فيقال: حصر أو أحصر يجوز ذلك كله في اللغة. والإحصار اصطلاحاً: المنع من إتمام أركان الحج والعمرة. الإحصار يكون سبباً لفوات الحج, ويفوت الحج بفوات الوقوف بعرفة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة) , وقوله: (من جاء ليلة جمع -أي: ليلة المزدلفة يعني: عند غروب الشمس يوم عرفة- قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج). وروى البيهقي عن الأسود بن يزيد قال: سألت عمر عن رجل فاته الحج قال: (يهل بعمرة وعليه الحج من قابل)، فلا يخسر النسكين بل يتحلل بعمرة, فيطوف بالبيت ويسعى، فإن فاته الحج فالعمرة لا تفوته, قال: (ثم خرجت العام المقبل فلقيت زيد بن ثابت، فسألته عن رجل فاته الحج قال: يهل بعمرة وعليه الحج من قابل) أي: إن كانت الاستطاعة ما زالت فيه، فيلزمه في السنة القادمة أن يحج. وجاء عن ابن عمر أيضاً أنه قال: من أدرك ليلة النحر ولم يقف بعرفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج, فليأت البيت، فليطف به سبعاً، وليطف بين الصفا والمروة سبعاً، ثم يحلق أو يقصر إن شاء، وإن كان معه هدي فلينحر قبل أن يحلق، فإذا فرغ من طوافه وسعيه فليحلق أو يقصر، ثم ليرجع إلى أهله، فإذا أدركه الحج من القابل فليحج إن استطاع، وليهد، فإن لم يجد هدياً فليصم عنه ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. فظهر من هذه الآثار أن من أحرم بالحج ولم يقف بعرفة، فإنه يلزمه أن يتحلل بعمل عمرة، والراجح أنها تغني وتجزئ ولا يقضيها. وإن كان سعى عقب طواف القدوم كفاه ذلك، ولا يسع بعد الفوات، ولا يلزمه المبيت بمنى ولا الرمي؛ لأنه قد فاته الحج وتحلل بأعمال العمرة, ومن فاته الحج وتحلل وجب عليه القضاء على الفور في السنة الآتية ما دام مستطيعاً، ولا يلزمه قضاء العمرة؛ لأنه قد فعل هذه العمرة، هذا على الراجح من كلام أهل العلم، فيكون عليه قضاء الحج فقط.

فوات الوقوف بعرفة

فوات الوقوف بعرفة إن من فاته الوقوف بعرفة عليه أن يتحلل بعمرة، ويقضي الحج في السنة القابلة، ويجب عليه دم الفوات, وحكمه حكم المحصر إلا إذا كان اشترط بقوله: (محلي حيث حبستني) فحبس ولم يقدر على الإكمال وفاته فلا شيء عليه, وله تأخير الدم إلى سنة القضاء, أما الفوات فلا فرق فيه بين المعذور وغيره, ولو أن إنساناً أخذوه وحبسوه ظلماً، ولم يقدر على المجيء إلى عرفة، فتحلل بعمرة فهذا معذور, لكنه لو بقى قاعداً في مكة وقال: آخر الليل سأذهب إلى عرفة، وفي آخر الليل لم يجد ما يوصله ففاته الحج فهذا غير معذور، فإن الذهاب إلى عرفة يكون عند وقت الظهر, وهذا فهو آثم بتقصيره هنا، لكنه لو نوى أن يحج وبعد ذلك ألغى نيته؛ لأنه قد حج قبل ذلك فهذا لا شيء عليه, لكن الذي عليه فريضة الحج ويترك ويقصر إلى أن يفوت عليه يوم عرفة وليلة جمع فهذا آثم في ذلك, فهو والذي كان معذوراً في تأخره عليهما دم. والمكي وغير المكي سواء في الفوات ويلزمهما الدم, وفرق بين أن المكي يلزمه الدم بفوات الحج وبين أن يلزمه الدم بالتمتع، فلا يلزمه الدم بالتمتع بالعمرة إلى الحج؛ لأنه من أهل مكة, وقد قال ربنا عز وجل {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] لكن الفوات هنا تقصير فعليه الدم في ذلك, وإذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج وفرغ منها، ثم أحرم بالحج ففاته لزمه قضاء الحج دون العمرة, والذي اعتمر في أشهر الحج وانتظر متمتعاً إلى أن يأتي يوم التروية، ليبدأ بمناسك الحج، فحبس بسبب من الأسباب أو منع من الحج فعليه عمرة وتكون مجزئة, وإذا أحرم بالحج في يوم التروية ومنع من المناسك فهو معذور، وله أن يتحلل إذا استيقن أنه لا يقدر على الوصول إلى عرفة في يوم عرفة, وإذا فات القارن الحج حل، وعليه الحج من قابل, والقارن هو الذي يحرم بعمرة وحج معاً، ولكن الأفضل أن يقضي على نفس الصورة التي كان عليها، وهي القران، ولكن لو أنه تحلل بعمرة فقد أدى العمرة التي عليه، ويجوز له بعد ذلك أن يأتي بحج فقط, وإذا أتى قارناً فيلزمه هديان هدي للقران، وهدي للفوات.

حكم إفساد الحج بالجماع

حكم إفساد الحج بالجماع من أفسد حجه بالجماع وهو في إحرامه بالحج فعليه أن يكمل هذا الحج الفاسد، وعليه بدنه, وعليه الحج من قابل, لكن لو أفسد حجه بالجماع، ثم منع أو فاته الوقوف بعرفة، فهذا يتحلل وعليه دم الفوات وعليه القضاء بعد ذلك، وعليه الدم بسبب إفساده لهذا الحج, فدم الإفساد يلزمه؛ لأنه انتهك حرمة الإحرام وعليه أنه يتحلل, وهو الآن محصر وفاته الوقوف فيلزمه دم الفوات, وعليه الحج من قابل.

خطأ الحجيج في زمن الوقوف

خطأ الحجيج في زمن الوقوف في هذه المسألة لابد من تحديد أول شهر ذي الحجة برؤية الهلال، فإذا رئي الهلال، ووقف الناس في يوم عرفة فيكون ذلك الوقوف صحيحاً, لكن لو أنهم وقفوا خطأً، والحكم الآن بأن الوقوف خطأً صعب؛ لأن الدول هي التي تقوم اليوم بتحديد الأيام، وتحديد غروب الشمس وتحديد مجيء الهلال، فهذه المسألة صعبة وخاصة على ما افترضه الفقهاء في الماضي من أن يخطئون يومين في الوقوف، فهذا اليوم صعب، خاصة أنه ليس كل دولة تحدد هذا، إنما هي دولة واحدة والبقية يعملون بتحديدها، فهذا اليوم شبه نادر، ولكن إذا غلط الناس ووقفوا اليوم الثامن بدلاً من أن يقفوا اليوم التاسع، أو وقفوا اليوم العاشر بدلاً من اليوم التاسع، فالراجح أن حجهم صحيح، وأن الوقوف بعرفة هو اليوم الذي وقف فيه جميع الحجيج, وليس من حق أحد أن يقول: أنا سأذهب غداً وأقف بعرفة فأكون قد وقفت وقوفاً صحيحاً بناءً على الواقع، فيقال له: إنما يكون الوقوف مع الحجاج ومع أمير الحج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون)، وقالت عائشة رضي الله عنها: (إنما عرفة اليوم الذي يعرفه الناس) تعني: يقفون بعرفة فيه.

حكم الإحصار

حكم الإحصار قال الله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] لقد عرفنا أن الفوات قد يكون الإحصار سبباً فيه وقد لا يكون كذلك, فلو أن إنساناً ضاع عليه يوم عرفة وليلة جمع, أو منع من دخول عرفات فيكون هذا قد أحصر.

الفرق بين الإحصار والحصر

الفرق بين الإحصار والحصر الإحصار قد جاء في كتاب الله سبحانه قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة:196] هذا هو الإحصار, والحصر قريب منه، وإن كان كثير من أهل اللغة يفرقون بين الحصر والإحصار، فيقولون: إن الإحصار يكون بالعدو؛ لأن الآية تقول: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة:196] والحصر يكون بالمرض, والبعض يقول: هما بمعنى واحد، وعلى كل حتى ولو كان هناك فرق لغوي بينهما, فإنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه أذن لـ ضباعة بنت الزبير أن تقول: محلي حيث حبستني) , وهذا حبس ومرض, والآية جاءت في حصر العدو, فعلى ذلك فالحديث ذكر حصر المرض، والآية ذكرت حصر العدو، فهذا حصر وهذا حصر, وهذا هو الراجح, قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196] وجاء في الحديث الذي رواه أصحاب السنن عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كسر أو عرج فقد حل) (من كسر) أي: كسرت رجله, أو عضو منه, (أو عرج) أي: أصابه العرج (فقد حل) وعليه الحج من قابل. قال عكرمة: سألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا: صدق. وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير، فقال: لعلك أردت الحج, فقالت والله لا أجدني إلا واجعة, فقال لها حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني) أي: مكاني الذي سأحل فيه وأتحلل من إحرامي هو المكان الذي تحبسني فيه, وفي رواية (واشترطي أن محلي حيث تحبسني) فاشترطت ولكنها أدركت والحمد لله.

أنواع الحصر

أنواع الحصر الحصر ضربان: خاص وعام, إما الحصر الخاص فهو الذي يقع لشخص أو لاثنين أو لمجموعة. أما الحصر العام فهو الذي يكون على الجميع فيمنعون من الحج، وهذا نسأل الله عز وجل أن لا يكون على المسلمين أبداً, ومن الحصر الخاص أن يحبس في دين يمكنه أداؤه، فليس له تحلل؛ لأنه قد قيل له: ادفع الذي عليك أو لن تواصل حجك، وكان معه مال فيلزمه أن يدفع، لكن لو كان هذا الإنسان معذوراً، واضطر إلى ذلك وحبس فهذا محصر وله حكم المحصر, وإن تحلل الذي ليس معذوراً لا يصح تحلله، ولا يخرج من الحج بذلك, فإن فاته الحج وهو في الحبس كان كغيره ممن فاته الحج بلا إحصار، فيلزمه قصد مكة والتحلل بأفعال عمرة. أما المعذور فينفعه اشتراطه إذا قال: محلي حيث حبستني, كمن حبسه السلطان ظلماً، أو بدين لا يمكنه أداؤه فيجوز له أن يتحلل؛ لأنه معذور. والحصر العام كما قلنا يكون بعدو يمنع المحرمين، فإذا قدروا على إزالة هذا العدو مضوا في حجهم، وإن لم يقدروا فليتحللوا إذا كان الوقت ضيقاً, وإذا منعت السيارة بأكملها، وكانوا قد اشترطوا فلهم أن يتحللوا ولا شيء عليهم ضاق الوقت أو يلم يضق، وإذا لم يشترطوا وتعذر عليهم الأمر فلهم أن يتحللوا وعليهم الهدي الذي قال عنه ربنا سبحانه وتعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]. ويجوز للمحرم بالعمرة التحلل أيضاً عند الإحصار, ودليل التحلل نص القرآن، والأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الإحصار قبل أو بعد الوقوف بعرفة

الإحصار قبل أو بعد الوقوف بعرفة من صور الإحصار أو الحصر: أن يطلب منه مال ويمنع من الدخول إلى أن يدفع المال بغير حق، فله ألا يدفع وأن يتحلل؛ لأنه محصر بذلك, ولا فرق في جواز التحلل بالإحصار بين أن يكون الإحصار قبل الوقوف بعرفة أو بعده, فلو أن الحجاج وقفوا بعرفة وبعد ذلك منع إنسان من الحج وأرجع إلى بلده ولم يكمل المناسك فهذا حصر وإحصار، وكان قد أتى بأعظم الأركان وهو الوقوف بعرفة, أو كان قبل ذلك فله أن يتحلل وأن يرجع, فهو هنا قد أحصر عن باقي أعمال الحج كالطواف بالبيت، أو السعي بين الصفا والمروة وغيرهما، فإنها تجبر بدم, فإذا تيسر له أن ينتظر ويأتي بها لزمه ذلك، وإن لم يتيسر فله أن يتحلل إذا استحال الأمر، ويرجع إلى بلده، وعليه أن يأتي بعد ذلك مرة أخرى بما بقي عليه من طواف ومن سعي. وإذا كان الإحصار بعد الوقوف، فإن تحلل فذاك، وله البناء على ما مضى إذا زال الإحصار بعد ذلك, وإن لم يتحلل حتى فاته الرمي والمبيت، فيرجع إلى وجوب الدم لفواتهما كغير المحصر, وكذا لو ظل منتظراً ولم يتحلل إلى أن فاته المبيت بمنى ورمي الجمرات فيجبر ذلك بدم, وإذا تحلل بالإحصار الواقع بعد الوقوف فلا قضاء عليه؛ لأنه أتى بأعظم الأركان وهو الوقوف بعرفة, ولكن لابد أن يأتي بالطواف وبالسعي حتى لو رحل إلى بلده، فيلزمه في يوم من الأيام بعد ذلك أن يكمل ما بقي عليه منهما. أما لو صد عن عرفات فكأنه لم يأت بالحج، فيفسخ الحج إلى عمرة ويأتي بأعمال العمرة, ولو منع من العمرة والحج رجع وكان قد اشترط فلا شيء عليه, وإن لم يكن قد اشترط فيلزمه الهدي.

دم الإحصار

دم الإحصار يلزم من تحلل بالإحصار دم وهو شاة أو سبع بدنة أخذاً بالرخصة التي ذكرها ربنا: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] فإذا أحصر ولم يتمكن وأخذ بالرخصة فتحلل، فيلزمه الهدي إن لم يكن اشترط, ولا يجوز له العدول عن الشاة إلى صوم؛ لأن الأصل الهدي إذا كان يقدر عليه، لكن إذا صعب هذا عليه، ولم يمكنه الذبح فالراجح أنه يقاس على هدي التمتع، فيصوم عشرة أيام, والأولى أن يصوم قبل التحلل عشرة أيام، وإذا لم يتيسر له ذلك فالراجح أنه يجوز قبل التحلل أو بعد التحلل، وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، وكان بعض أصحابه معهم الهدي، ومع ذلك قال تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] ولم يذكر الله بدلاً للهدي, ولكن عندما ذكر التمتع ذكر البدل من الهدي، فالراجح قياس هذا على ذاك, لكن لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً ممن معه أن يصوم عشرة أيام في الحديبية، فلم يكونوا كلهم واجدين للهدي, فالنبي صلى الله عليه وسلم كان معه هدي، وغيره لم يكن معه هدي، فالراجح أن الذي يحصر في مكان فلا يتحلل حتى يصوم هذا الأفضل، وإذا لم يتيسر له ذلك تحلل وصام.

حصول التحلل

حصول التحلل يحصل التحلل بثلاثة أشياء: الذبح إن كان واجداً للهدي, ونية التحلل, والحلق؛ لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، وهذا إذا كان الحج واجباً مستقراً عليه مثل القضاء والنذر أو حجة الإسلام، فيلزمه أن يأتي بها إذا كان مستطيعاً، أما إن كان غير مستطيع فلا يجب عليه, والنبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية اعتمر، وبعد ذلك رجع في السنة التالية في عمرة القضاء أو عمرة القضية، واسمها (عمرة القضاء)؛ لأنه النبي صلى الله عليه وسلم قاضى قريشاً فيها؛ فهي لم تكن قضاء لعمرة فائتة، ولكن كان هذا ما قاضى عليه النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً في ذلك, وفي عمرة القضية كان معه صلى الله عليه وسلم حوالي خمسمائة من أصحابة، وفي عمرة الحديبية كانوا ألفاً وأربعمائة, فلو كانت هذه قضاء لهذه لوجب على من كانوا معه كلهم أن يذهبوا في العمرة التالية، ولم يحدث ذلك, فدل على أنه إذا أحصر الإنسان وتحلل وسقطت الاستطاعة فلا يجب عليه الحج، إلا أن تجتمع فيه شروط الاستطاعة بعد ذلك, ويجوز التحلل من الإحرام الفاسد كما يجوز من الصحيح.

حكم الإحصار بعد فساد الحج

حكم الإحصار بعد فساد الحج لقد ذكرنا أنه إذا أحرم بحجة، وأفسد حجه عند إحرامه، ثم أحصر، فعليه الدم بسبب إفساد الحج بالجماع، وعليه دم الفوات. وذلك أنه إذا جامع المحرم بالحج جماعاً مفسداً ثم أحصر تحلل، ويلزمه دم للإفساد، ودم للإحصار, فلو لم يتحلل حتى فاته الوقوف ولم يمكنه إتيان الكعبة تحلل في موضعه تحلل المحصر، ويلزمه ثلاثة دماء. وصورة هذه المسألة: لو أن إنساناً أحرم بالحج ثم أفسد الحج بجماع، فعليه أن يكمل الحج، وعليه دم بسبب ذلك, فإذا أحصر بعد ذلك فإما أن يتحلل أو ينتظر إلى أن تفوته عرفة، فلو تحلل وجب عليه الدم بسبب الفوات، والواجب السابق عليه البدنة بسبب الجماع, فإذا انتظر إلى يوم عرفة وفاته عرفة وفاته الحج ولم يكن قد تحلل فيكون عليه ثلاثة دماء، دم التحلل من الإحصار، ودم إفساد الحج بالجماع، فلو زاد أن فوت الحج على نفسه بعدم التحلل قبل ذلك فيجب عليه دم ثالث بسبب الفوات, فصار عليه ثلاثة دماء: دم للإفساد، ودم للفوات، ودم للإحصار, فدم الإفساد بدنة، والدمان الآخران شاتان, ويلزمه قضاء واحد. إذا خاف الرجل لضيق الوقت أن يحرم بالحج فيفوته فيلزمه القضاء ودم الفوات فله أن يحرم إحراماً مطلقاً, يعني: يحرم بقوله: لبيك اللهم لبيك, وإذا تيسر له أنه يأتي عرفة فيكون هذا إحرام بالحج، وإذا لم يتيسر له ذلك فيكون ذلك عمرة ولا شيء عليه أكثر من ذلك.

صورة لوجوب قضاء الحج في نفس عام الأداء

صورة لوجوب قضاء الحج في نفس عام الأداء لو أن إنساناً أفسد حجه بالجماع، ثم أحصر فتحلل، ثم زال الحصر والوقت واسع، فأمكنه الحج من سنته لزمه أن يقضي الفاسد من سنته, وهذه هي الصورة الوحيدة التي يكون فيها القضاء في نفس عام الأداء. ولكنه لو لم يسعه الوقت عاد من قابل لقضاء حجته، ولا يصح أن يقول: أنا سأركب طائرة، وأرجع بلدي، وأحرم مرة ثانية، والفرق أنه في الصورة الأولى أنه منع من إكمال حجه، والأصل وجوب إكمال هذه الحجة الفاسدة، والقضاء من العام القادم, ولكن إذا منع وعاد إلى بلده، ثم تيسر له بعد ذلك أن يقضي في العام نفسه بالصورة التي ذكرناها قبل قليل، ولو أحصر في الحج وفي العمرة فلم يتحلل وجامع لزمته البدنة ولزمه القضاء.

مسائل متفرقة في اشتراط المحصر عند الإحرام

مسائل متفرقة في اشتراط المحصر عند الإحرام إذا مرض المحرم ولم يكن شرع في التحلل فالأولى أن يصبر, فإن كان محرماً بعمرة أتمها إذا تيسر له, وإن كان محرماً بحج وفاته الحج فإنه يتحلل بعمرة، وعليه القضاء، لكن إذا كان قد اشترط أنه محله حيث حبس فالوقت الذي منع فيه بمرض عرف أنه يطول به لا يستطيع معه أن يؤدي المناسك فله أن يتحلل ولا شيء عليه. وكذا لو شرط التحلل لغرض آخر كضلال الطريق، ونفاذ النفقة، والخطأ في العدد ونحو ذلك فكله اشتراط صحيح، وله التحلل بسبب ذلك, أما إذا شرط التحلل بلا عذر، وذلك بأن قال: وقت ما أشاء أتحلل فلا يصح هذا، فلابد من اقتران الشرط بالإحرام, فلو أحرم ولم يشترط لا يصح في بداية المناسك أن يقول: محلي حيث حبستني، بل لابد أن يكون الاشتراط قبل ذلك عند الإحرام.

صور من الإحصار

صور من الإحصار يجوز لمستحق الدين الحال منع المدين الموسر من الخروج إلى الحج وحبسه ما لم يؤد الدين, فلو أن إنساناً أراد الحج وعليه دين، وجاء ميعاد دفع الدين، وبعده قطع التذكرة للسفر للحج، فلبس لباس الإحرام ولبى بحجة, فجاء صاحب الدين يطالبه بعدم السفر حتى يرد دينه، فيجوز لصاحب الدين أن يحلله, لأن دينه مقدم، وقد جاء موعده, فيجوز لمستحق الدين الحال منع المدين الموسر من الخروج إلى الحج, أما إذا كان المدين معسراً فليس من حق صاحب الدين أن يحبسه. إذا أجبر الزوج زوجته على التحلل، وكان قد أذن لها في الحج، فلما خرجت وأحرمت أجبرها على الرجوع, وكذلك إذا أجبر الولد على الرجوع فلهما حكم المتحلل بحصر خاص، فإذا كانا قد اشترطا عند الإحرام أن محلهما حيث حبسهما، فيتحللان ولا شيء عليهما، أما إذا لم يكونا شرطا فعليهما الهدي والله أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم, وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

§1/1