شرح كتاب التوحيد لابن خزيمة - محمد حسن عبد الغفار

محمد حسن عبد الغفار

نبذة عن سيرة الإمام ابن خزيمة

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - نبذة عن سيرة الإمام ابن خزيمة إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة هو الإمام الحافظ الحجة الفقيه، كان بحراً من بحور العلم، طاف البلاد ورحل إلى الآفاق في طلب الحديث والعلم، فكتب الكثير، وصنف وجمع، وهو من المجتهدين في دين الإسلام، جاهد أهل البدع بلسانه وبنانه، وبين بطلان عقائدهم الزائفة، وفصل عقائد السلف وبينها وأظهرها بدلائل القرآن والسنن والآثار.

فضل العلماء وطلب العلم

فضل العلماء وطلب العلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فأشرف الناس على الإطلاق هم العلماء الذين هم واسطة بين الخالق وبين المخلوق، قال ابن عيينة: أفضل البشر على الإطلاق هم الواسطة بين رب البشر وبين البشر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر). العلم العلم، والطلب الطلب، فإن شمس البدعة قد بزغت، ولا تخمد نار الفتنة إلا بالطلب، ولما ظهرت البدع في القرون الخيرية في القرن الثالث انبرى لها أساطين العلم، ومن أفاضل الأمة على الإطلاق هذا الإمام العظيم إمام الأئمة ابن خزيمة. وعلم التوحيد هو أشرف العلوم على الإطلاق، إذ شرف العلم من شرف المعلوم، ولا أحد أشرف من الله جل وعلا، بل قال ابن القيم: لن ترسخ معرفة أحد ولا قدم أحد في الإيمان ولن يستقيم إيمان أحد حتى يتعرف على رب البرية جل وعلا في صفاته وأسمائه جل وعلا. والعلم علمان: علم بالله، وعلم بأمر الله ونهيه، والعلم بالله هو الأصل، والعلم بأمر الله ونهيه هو علم الفروع كالفقه وغيره، فعلم الأصول هو العلم بالله جل وعلا وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وتوحيد ربوبيته، وتوحيد الإلهية. وأشرف الناس هم العلماء، وطلبة العلم الذين يسيرون على درب العلماء، ولن يستقيم إيمان عبد إلا بالعلم، قال الله تعالى في مطلع الوحي: ((اقْرَأْ))، ما قال الله: بلغ، ولا قال: تعبد، ولا قال: وحد، بل قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وفي التوحيد قال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، لأنك لن توحد الله حتى تعلم. وطلب العلم هو أشرف العبادات، كما قال الإمام أحمد: لا أرى عبادة مثل طلب العلم لمن خلصت نيته.

أهمية كتاب التوحيد لابن خزيمة

أهمية كتاب التوحيد لابن خزيمة سندرس بإذن الله في هذا الكتاب العظيم: كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل لـ ابن خزيمة، وهذا كتاب جليل مهم جداً, فوائده جليلة وقيمة، تناول مؤلفه فيه صفات الله جل وعلا وأسمائه الحسنى، وتناول الكلام عن الإيمان بالغيبيات والقبر ومنازل الآخرة، وتناول أيضاً الكلام عن القدر. وقد ألفه مؤلفه رداً على أهل البدعة والضلالة، إذ في عصره بزغت شمس البدعة من الخوارج والشيعة والجبرية والقدرية والمعتزلة والجهمية، فقام هذا العالم الجليل يرد على أهل الأهواء وأهل البدع، ومن ضمن المصنفات التي كانت نوراً في سماء العلم هذا الكتاب العظيم الخاص بالتوحيد، كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل.

التعريف بابن خزيمة

التعريف بابن خزيمة مؤلف هذا الكتاب هو أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري الحافظ الحجة الفقيه، جمع الله له العلمين، فكان فارساً في ميدان الحديث أستاذاً في علم النقد والجرح والتعديل، وأيضاً كان فقيهاً مستنبطاً، ولا عجب أن يكون كذلك وقد أخذ العلم عن أكابر علماء الشافعية عن المزني والربيع، وكان يروي عنهما كتب الشافعي، وكان حافظاً حجة فقيهاً، وكان على فقه الإمام الشافعي، ولقب بإمام الأئمة صاحب التصانيف.

مولده ونشأته

مولده ونشأته ولد إمام الأئمة في شهر صفر من عام 223 في نيسابور، ونشأ بها وطلب الحديث منذ حداثة سنه، فسمع من عالم خراسان ومحدثها الإمام إسحاق بن راهويه. كان تقياً زاهداً عابداً، وثمرة العلم تظهر عند التطبيق، فالعلم وسيلة لا غاية، والغاية من العلم هي التطبيق، وكان كثير من طلبة العلم لا يأخذون عن أحد العلم حتى ينظروا في صلاته وفي ذكره وفي تعبده، وينظروا في تقواه وفي ورعه، فكان هذا الإمام ممن تعلم ليعمل، فكان تقياً زاهداً ورعاً قواماً صواماً، وكان كريماً سخياً شجاعاً رضي الله عنه وأرضاه، ورضي عن السلف أجمعين الذين حملوا لنا هذا العلم العظيم. سلك الإمام ابن خزيمة طريقة طلاب العلم في عصره وهي تلقي العلم أولاً عن شيوخ بلده ثم الرحلة في الطلب، والرحلة هذه كأنها سنة أميتت، وهي لم تمت بحمد لله، لكن الله جل وعلا عوضنا بكسلنا وبقلة همتنا وضعف الوازع عندنا بأن العلماء وإن كانوا في مشارق الأرض ومغاربها يصل إلينا علمهم عن طريق الاسطوانات أو عن طريق شرائط الكاسيت. سمع في صغره كما أسلفنا من علماء نيسابور مثل ابن راهويه ومحمد بن حميد، وكان يرغب في الذهاب إلى قتيبة فاستأذن أباه فأجابه: اقرأ القرآن أولاً، وأنا أهيب بكل طالب علم أنه لا بد أولاً أن يصبر نفسه في الحفظ، أنا جلست مع بعض مشايخي وسألته عن الجد في الطلب فقال: لا تسأل عن شيء حتى تحفظ القرآن، أصل العلم في القرآن، والشيخ محمد بن إسماعيل دائماً يقول: احفظ القرآن ثم بعد ذلك تكلم عن الطلب، وهذا تأصيل أصله الشيخ أسامة العظيم من مشايخ القاهرة، لو قلنا: إنه حلية زهاد هذا العصر فهو كذلك، فهو دكتور في الأزهر متخصص في أصول الفقه، وقد درس وأخذ بكالوريوس هندسة، ثم بكالوريوس شريعة، ثم ماجستير، ثم دكتوراه في أصول الفقه، رجل عابد يقيم الليل، نسأل الله جل وعلا أن يرفعه في عليين مع الصحابة الكرام مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قام الليل بالإخوة في رمضان لا ينتهي إلا قرب الفجر، الذين يصلون خلفه يريدون السحور وهو ما يفكر إلا بالعبادة. رأيته في الحج وقد اسودت الوجوه من شدة حر الشمس، فرأيته ورب السماوات والأرض وكأن وجهه يشع نوراً! فالرجل متعبد جداً وزاهد، وهو شافعي المذهب، فـ الشافعي كان يقول: تفقهوا قبل أن تسودوا، وكان هو يبين هذا ويقول: لا يتزوج أحد حتى يطلب العلم؛ حتى تكون امرأته تحته، فمن كان ذا علم سيستطيع أن يسير امرأته خلفه، فكان يقول: ما يتزوج أحد حتى يحفظ القرآن. وكان السلف لهم منهج في طلب العلم، يقول العالم لمن أراد العلم: احفظ القرآن، فإذا حفظ القرآن وجاء إلى مجلس التحديث، قالوا: لا تجلس مجلس التحديث حتى تتعلم الفرائض، لأن هذا أول علم يندثر، فيتعلم علم المواريث ثم بعد ذلك يبدأ بطلب الحديث. هنا الأب فعل ذلك مع الابن فقال له: لن تذهب إلى قتيبة لتسمع عنه وتروي عنه حتى تحفظ القرآن، والآن في عصرنا هذا لا تستطيع أن تقول لرجل كبر سنه: لا تطلب العلم حتى تحفظ القرآن؛ فتضيعه، الآن نحن نقول لمن كبر سنه وما استطاع أن يستدرك هذه المسألة: اطلب علم التوحيد، فعلم التوحيد هو أهم العلوم، وإن لم يستطع أن يجمع بين حفظ القرآن وعلم التوحيد فعلم التوحيد يقدم؛ لأنك لن تصل إلى ربك إلا بتوحيد خالص، ولن تخلد في الجنة وتنجو من نار جهنم إلا بتوحيد خالص. يقول ابن خزيمة: فاستظهرت القرآن، يعني: حفظته عن ظهر قلب، فقال لي: امكث حتى تصلي بالختمة، ففعلت، فلما عيدنا أذن لي، فخرجت إلى مرو وسمعت بمرو من محمد بن هشام وغيره. ثم واصل رحلاته في طلب العلم ورحل إلى بلدان كثيرة، رحل إلى بغداد، والري، والشام، والبصرة، والكوفة، والجزيرة، ومصر، وواسط، وفي هذه المدن سمع من علماء أعلام في السنة والفقه وغيرها من العلوم.

شيوخه

شيوخه كان ابن خزيمة من قرناء البخاري ومسلم، وأعظم الشيوخ الذين سمع منهم: محمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري، وأيضاً إسحاق بن راهويه. أما مكانته العلمية فكانت مرموقة جداً بين أهل العلم، وكفاه فخراً أن لقب بإمام الأئمة. كان يجمع بين علم الحديث والفقه، وقد قلنا: من طلب الحديث دون الفقه زل في المسائل الفقهية وضعف، ومن طلب الفقه دون الحديث احتج بالضعيف ولم يستطع أن يتقوى، ولا بد من الجمع بين الحديث والفقه، وأنا أسأل ربي أن ييسر علي إتمام بحث معين سميته فقهاء المحدثين، فهؤلاء هم أفاضل الناس، هؤلاء الشموس هم العلماء بحق الذين يحتذى حذوهم، قال الإمام أحمد: كنا نسمي أهل الحديث صيادلة، وكنا نسمي أهل الفقه أطباء، فخرج علينا الشافعي، فكان طبيباً صيدلانياً جمع بين الفقه وبين الحديث. والعلماء يعيبون جداً على يحيى بن معين الناقد الجهبذ الذي كانت ترتعد فرائص أي عالم من علماء الحديث إذا وجد يحيى بن معين؛ لأنه كان نقاداً في علم الجرح والتعديل، ومع هذا كانوا يعيبون عليه عدم علمه بفقه الحديث، جاءته امرأة تسأله: هل لي أن أغسل زوجي الذي مات وأنا حائض؟ وكان قد وصى أن تغسله، فوقف يحيى بن معين حائراً يضرب أخماساً في أسداس كما يقولون، ثم مر أبو ثور الكلبي صاحب الشافعي، فقال يحيى: اسألي هذا الرجل، فقال أبو ثور: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه لـ عائشة فترجله وهي حائض، وهذا قياس الأولى، فلما أبيح للحائض أن تفعل ذلك، والمعتكف يمكنه ذلك، فالذي هو أحوج إلى التغسيل والتنظيف فالحائض يحل لها أن تغسله. فقال يحيى بن معين: نعم هذا الحديث جاءنا من طريق فلان عن فلان عن فلان، وطريق فلان وفلان، وأتى بكل الطرق، فقالت المرأة: ولماذا لم تجبني لما سألت؟! وأين فلان وفلان التي تتحدث عنهم عندما سألتك؟! فعابوا عليه ذلك. والإمام أحمد بن حنبل اشتد على يحيى بن معين؛ لأنه كان يتكلم في الشافعي، والشافعي جبل لا يؤثر فيه كلام أحد، حتى وإن كان يحيى بن معين، فـ الشافعي إمام كالشمس، فكان يتكلم فيه يحيى بن معين فعابوا عليه ذلك، واشتكوا إلى أحمد بن حنبل ذلك وقالوا: أما تسمع صاحبك يتكلم في الشافعي؟! فقال أحمد بن حنبل: أما إن يحيى بن معين يجهل ما يقوله الشافعي، ومن جهل شيئاً عاداه. أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية كان يجلس مع مناظريه وهم مقلدة، يحفظون الفروع من الفقه فقط، ولا يعرفون فقه الأدلة، بينما شيخ الإسلام ابن تيمية أعطاه الله قوة في العلم وبسط له، فكان يقف يناظرهم، فيقولون: هذا رجل ما يفقه شيئاً! نسأله عن الشمال فيتكلم عن الجنوب والشرق والغرب ويبعد عن المسألة، قال ابن القيم: هذا من سعة علمه وفقهه وغوصه في الأدلة، ومن شدة جهلهم وضيق أفقهم، فأي إنسان يجهل ما يقال يعادي صاحب المقولة.

ثناء العلماء على ابن خزيمة

ثناء العلماء على ابن خزيمة ابن خزيمة شهد له فحول العلماء بالحفظ والفقه، والقدرة على الاستنباط والفهم، وقد جاء هذا الاعتراف والثناء من تلاميذه الذين أخذوا عنه العلم، ومن شيوخه الذين تلقى عنهم، مثل أبي حاتم الرازي الذي قيل: إنه أحفظ من البخاري، ومثل أبي زرعة الذي كان أيضاً أحفظ من البخاري، لكن البخاري كان أتقن منهما في العلل وغير ذلك، سئل أبو حاتم عن محمد بن خزيمة فقال: ويحكم! هو يسأل عنا ولا نسأل عنه، هو إمام يقتدى به، وهذا كما سئل يحيى بن معين عن أحمد بن حنبل فقال: أو أحمد يسأل عنه؟! هو يسأل عنا، أحمد إمام الدنيا. والربيع صاحب الشافعي حامل فقهه، هو أحد من تفقه عليه ابن خزيمة، قال لبعض تلاميذه: هل تعرفون ابن خزيمة؟ قلنا: نعم، قال: استفدنا منه أكثر مما استفاد هو منا. قال الدارقطني: كان ابن خزيمة إماماً عديم النظير. قال الذهبي: كان هذا الإمام جهبذاً عالماً بالحديث، بصيراً بالرجال. وقال أيضاً: ابن خزيمة الإمام الحافظ الحجة الفقيه. وقال ابن حبان: ما رأيت من يحسن صناعة السنن ويحفظ ألفاظها الصحاح وزيادتها حتى كأن السنن كلها بين عينيه إلا ابن خزيمة. قال ابن كثير عنه: كان بحراً من بحور العلم، طاف البلاد ورحل إلى الآفاق في الحديث وطلب العلم، فكتب الكثير وصنف وجمع، وهو من المجتهدين في دين الإسلام. قال أبو علي: لم أر مثل محمد بن إسحاق كان يحفظ الفقهيات من حديثه كما يحفظ القارئ السورة، وهذا معناه أنه كان يذكر الحديث وأيضاً يفقه متن هذا الحديث. فقد كان محدثاً وفقيهاً مثل البخاري جبل الحفظ، فكتاب البخاري يدلك على فهم دقيق واستنباط بديع من الأحاديث، كان يقطع الأحاديث ويبوبها على أبواب، فتراجم أبواب البخاري تثبت لك أنه كان فقيهاً؛ ولذلك تنازعه الحنابلة والشافعية فكل ينسبه إلى مذهبه، فالشافعية كتبوا: البخاري شافعي المذهب، وفي تراجمه كثيراً ما يرجح مذهب الشافعي، وقال الحنابلة: حدث عن شيخه الإمام أحمد بن حنبل في الصحيح، والراجح أنه إمام مجتهد مطلق. قال الذهبي: كان لـ ابن خزيمة عظمة في النفوس وجلالة في القلوب؛ لعلمه ودينه، ولاتباعه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

عقيدة ابن خزيمة

عقيدة ابن خزيمة كان ابن خزيمة سلفي العقيدة على طريقة أهل الحديث، يقول بما قاله الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعون وتابعوهم، ومما يبين هذا قوله في هذا الكتاب: فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر مذهبنا: أنا نثبت لله جل وعلا ما أثبته لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا ونطبق بذلك بقلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، وعز ربنا عن أن نشبهه بالمخلوقين، وجل ربنا عن مقالة المعطلين، وعز أن يكون عدماً كما قاله المبطلون. والفرق بين التشبيه والتمثيل أن التشبيه هو المطابقة في أغلب الصفات، والتمثيل: في كل الصفات، قال الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَي} [الشورى:11]. فكل معطل مشبه باللزوم؛ لأنه شبه أولاً فخشي من إثبات التشبيه فقال: يد الله كيد البشر، عين الله كعين البشر، لا، ليس له يد ولا عين؛ فعطل خوفاً من التشبيه. والتعطيل تعطيلان: تعطيل كلي وجزئي، تعطيل بنفي الاسم والصفة، وهو تعطيل غلاة الجهمية، يقولون: لا عليم ولا علم، ولا كريم ولا كرم، ولا عزيز ولا عزة، أعوذ بالله من هذا الضلال المبين والكفر الفاحش، فغلاة الجهمية ينفون عن الله الاسم والصفة، هذا هو التعطيل الكلي، نفي الاسم والصفة. والتعطيل الجزئي: نفي الصفة دون الاسم، يثبتون الاسم فيقولون: الله من أسمائه الحسنى العليم، لكن لا يثبتون العلم، ولذلك كثير من القدرية يقولون: الله لا يعلم أفعال العباد حتى يعملوها، فهؤلاء عطلوا الصفة دون الاسم. وهم في تعطيل الصفة متفاوتون، فمنهم من يعطل جميع الصفات، ومنهم من يعطل أغلب الصفات وهم الأشاعرة الذين أثبتوا السبع الصفات التي يدل عليها العقل كما زعموا. وقال ابن خزيمة أيضاً: نحن نقول: إن الله سميع بصير كما أعلمنا خالقنا وبارئنا، ونقول: من له سمع وبصر من بني آدم فهو سميع وبصير، ولا نقول: إن هذا تشبيه المخلوق بالخالق، ونقول: إن لله عز وجل يدين يمينين لا شمال فيهما، ونقول: إن من كان في بني آدم سليم الجوارح والأعضاء فله يدان يمين وشمال، ولا نقول: إن يد المخلوق كيد الخالق عز ربنا عن أن تكون يده كيد خلقه. ومعنى كلامه أن الأسماء والصفات توقيفية، يعني: لا بد من وجود نص من كتاب أو من سنة حتى نقول: هذا اسم لله أو هذه صفة من صفات الله جل وعلا. والله جل وعلا اسمه السميع البصير، ويوصف المرء بالسمع والبصر، فيقال: إنه سميع بصير، فاتفقا في التسمية لكن يختلفان في الكيفية، قال الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. وأسماء الله تتضمن صفات كمال، لكن الإنسان قد يسمى باسم لا يتضمن الصفة، فمثلاً: يسمى كريماً وهو أبخل البشر، أو شجاعاً وهو أجبن الناس. وهنا قال ابن خزيمة: إن لله جل وعلا يدين لا شمال فيهما، والدليل على أن لله يدين اثنتين قول الله جل وعلا: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] فهو من باب التعظيم، والعظمة كلها لله، فحق لله أن يعظم نفسه، أما ترى أن الملك مثلاً يقول لأتباعه: إن الملك يأمر بكذا، وما يقول: أنا، يعظم نفسه. أما قوله: لا شمال فيهما فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: لله يد يمين ويد شمال؛ بدليل الحديث الذي في صحيح مسلم قال: (ثم يأخذ السماوات بشماله) فصرح بالشمال. القول الثاني: قالوا: في الحديث: (كلتا يدي ربي يمين)، فلا نثبت لله يد شمال. ونحن نقول: إذا ثبت أن لله شمالاً سمعنا وأطعنا، وأثبتنا ما أثبته الله لنفسه، وأثبتنا ما أثبته له رسوله، لكن الزيادة في هذا الحديث ضعيفة، إذ إن الثقة خالف الثقات وذكر لفظة (الشمال)، فلا شمال لله جل وعلا؛ لضعف هذا الحديث، ولو ثبت لأثبتا الشمال لله. قال ابن خزيمة: ونحن نقول: لربنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى وتحت الأرض السابعة السفلى، وما في السماوات العلى، وما بينهما من صغير وكبير لا يخفى على خالقنا خافية في السماوات السبع والأرضين السبع، ولا ما بينهما ولا فوقهن ولا أسفل منهن، لا يغيب عن بصره من ذلك شيء، يرى ما في جوف البحار كما يرى عرشه الذي هو مستو عليه، وبنو آدم وإن كانت لهم عيون يبصرون بها فإنهم إنما يرون ما قرب من أبصارهم، مما لا حجاب ولا ستر بين المرء وبين أبصارهم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

المقدمة

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - المقدمة أمر التوحيد أمر عظيم، فهو أول ما يجب على العبد في الإسلام، وهو آخر مطلوب من العبد، وهو المدخل إلى الجنة والمنقذ من النار، وقد قسمه العلماء إلى أقسام؛ كي يسهل فهمه وتتيسر دراسته، وهذا التقسيم له ما يشهد له من الأدلة.

أقسام التوحيد

أقسام التوحيد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام! بمناسبة افتتاح هذا الكتاب الكريم العظيم؛ كتاب التوحيد لـ ابن خزيمة سنذكر مقدمة أصيلة وتأصيلاً كاملاً لعلم التوحيد؛ حتى يظهر جلياً لطلبة العلم ما يأسسون عليه بنيانهم، ثم يسيرون على نهجه. إن التوحيد هو أشرف العلوم على الإطلاق، فشرف العلم -كما بينا سابقاً- من شرف المعلوم، ولا أحد أشرف من الله جل وعلا، والناس حاجتهم إلى التوحيد أشد من حاجتهم إلى الماء والهواء، فلا يستقيم إيمان عبد، ولا يقبل عند ربه جل وعلا، ولا ينجيه الله من الخلود في نار جهنم إلا بالتوحيد الخالص من الشرك. والتوحيد قسمه بعض المتأخرين تقسيماً استنباطياً اجتهادياً، وقد استنبط هذا شيخ الإسلام، وهذا التقسيم هو تقسيم التوحيد إلى قسمين: القسم الأول: هو التوحيد العلمي الخبري. القسم الثاني: التوحيد الإرادي الطلبي. أو بتقسيم آخر: توحيد العبادة، أو توحيد الله جل وعلا بأفعاله. القسم الثاني: توحيد الله بأفعال العباد.

توحيد المعرفة والإثبات

توحيد المعرفة والإثبات القسم الأول من التوحيد هو توحيد المعرفة والإثبات، وهو نوعان: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات. وتوحيد الربوبية: هو أن تعتقد اعتقاداً جازماً لا شك فيه أن الله هو الرب الخالق الرازق المدبر السيد الآمر الناهي، وأن له مطلق السيادة ومطلق الحكم والأمر والنهي، فأما الخالق فقال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، وأما الرازق فقال: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57 - 58]، فالرزق المطلق هو من قبل الله جل وعلا، والخلق المطلق هو من قبل الله، وهناك خلق آخر ناقص وليس بكامل، يقوم به الإنسان كما قال الله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، فالخلق المطلق وهو الإيجاد من العدم يتفرد به الله جل وعلا. وأما الخلق الناقص وهو النقل من صورة إلى صورة، كنقل الحديد إلى سيارة، والخشب إلى باب، فهذا يسمى خلقاً لكنه خلق ناقص وليس بخلق مطلق. وهو المدبر، قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، وقال الله تعالى مبيناً ذلك بياناً جلياً: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]. قال ابن مسعود: يرفع أقواماً ويخفض آخرين، ويعطي هذا ويمنع هذا، ويميت هذا ويحيي هذا. وكل ذلك من لوازم الربوبية. وله الحكم المطلق، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]، وقال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]. فالخلق إن كان من لوازم الربوبية فالأمر أيضاً والتشريع من لوازم الربوبية، فالأمر كله لله جل وعلا. فهذا هو معنى توحيد الربوبية: أن تعتقد اعتقاداً جازماً بهذه الصفات التي هي من لوازم الربوبية. ولم يشرك أحد في الربوبية، بل إن كل المشركين إلا النزر اليسير كانوا يؤمنون بالربوبية ولم يشككوا فيها، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أتى بشريعته إلى مشركي العرب ما عارضوه في ربوبية الله جل وعلا، وإنما عارضوه في الإلهية، فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، وقال الله تعالى مبيناً أنهم يقرون بالربوبية: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38]، وهذا يدلك على خطأ بعض العلماء المعاصرين الذين فسروا قول الله تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] لا رب إلا الله، فهذا ليس بصحيح. وقالوا أيضاً: إذا أتى بلوازم الربوبية واعتقد اعتقاداً جازماً أن الخالق والمكون والمدبر هو الله فقد تم توحيده، ودخل الجنة، وهذا خطأ فاحش، إذ إن المشركين يقرون بذلك، والفارق بين المشرك والمؤمن هو توحيد الإلهية كما سنبين. فلم يشرك إلا النزر اليسير في توحيد الربوبية، وجحد به من جحد وهو عالم به كفرعون، {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]. وأيضاً المانوية والثانوية، فهم يقولون: إن للكون خالقين، خالق للنور وخالق للظلمة، فهؤلاء أشركوا في الربوبية، وأيضاً الشيوعيون الدهريون في عصرنا الذين يقولون: ما يهلكنا إلا الدهر، ويقولون: هكذا خلقت، والناس خلقوا صدفة، والطبيعة هي التي أوجدتهم! فهؤلاء نزر يسير، وأما المشركون قاطبة فهم مقرون بربوبية الله جل وعلا. والنوع الثاني من القسم الأول وهو من أهم وأجل أقسام التوحيد، وهو الذي زلت فيه الأقدام، وظهرت فيه البدعة على أوجها، ألا وهو: توحيد الأسماء والصفات. ومعنى توحيد الأسماء والصفات: أن تعتقد اعتقاداً جازماً أن لله جل وعلا أسماء حسنى وصفات علا، هذه الأسماء أعلام على ذات الله جل وعلا، وكلها حسنى؛ لأنها تتضمن صفات كمال، فالله اسم من أسماء الذات الإلهية، وعلم على ذات الله جل وعلا، وهو يتضمن صفة كمال ألا وهي الإلهية، والكريم اسم من أسماء الله جل وعلا، وهو من الأسماء الحسنى؛ لأنه يتضمن صفة الكمال وهي الكرم، والقدير اسم من أسماء الله الحسنى، وهو علم على ذات الله، وإذا قيل لك: العليم القدير فذهنك ينصرف إلى الذات الإلهية المقدسة، فكل اسم يتضمن صفة كمال.

قواعد في الأسماء والصفات

قواعد في الأسماء والصفات هنا قواعد مهمة تضبط لنا هذه الأسماء: أولها: كل هذه الأسماء حسنى؛ لأنها تتضمن صفات كمال، وباب الأسماء أضيق من باب الصفات، وباب الصفات أوسع؛ لأن كل اسم يحمل صفة ولا عكس، فليست كل صفة تحمل اسماً، فالعزيز يتضمن صفة العزة، والرءوف يتضمن صفة الرأفة، وهكذا الكريم والرحيم والرحمن، وأما الصفات فلا تستطيع أن تشتق من كل صفة اسماً، قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فصفة الاستواء لا نستطيع أن نشتق منها اسماً وهو المستوى، وهذا يدلك على أن باب الأسماء أضيق من باب الصفات. ثانيها: أسماء الله لا تنحصر، فهي كثيرة وعديدة ولا تنحصر في عدد، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك). إذاً: فهناك بعض الخلق يعلمون من أسماء لله ما لا يعرفها الآخرون. ثم قال: (أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، فهناك أسماء لله كثيرة يعلمها الله ولا يعلمها أحد من خلقه، فهذه دلالة على أن أسماء الله كثيرة جداً وليست محصورة بعدد. وأيضاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة العظمى وفيه: أن آدم يقول: اذهبوا إلى نوح، اذهبوا إلى إبراهيم، اذهبوا إلى موسى، حتى تحال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها أنا لها، فيذهب تحت العرش فيسجد يقول: فيعلمني الله جل وعلا محامد أحمده بها) أي: محامد الآن تعلمتها، والحمد ثناء على الله جل وعلا بما هو أهل له، فيثني على الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، إذاً: ففيها أسماء لا يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم إلا عندما يسجد عند العرش، ويدلك ذلك على أن أسماء الله لا تنحصر. ولا يشكل علينا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، فالإجابة يسيرة جداً وهي: أن هذه الأسماء التسعة والتسعين لها ميزة خاصة عن بقية الأسماء كلها، وهذه الميزة هي: (من أحصاها دخل الجنة)، ومعنى أحصاها أي: حفظها عن ظهر قلب، وتعبد بها لله، يعني: ما يتوسل إلا بها، فقد حفظ اسم الكريم فيقول: يا كريم! أكرمني برضاك عني، وحفظ اسم القدير فيقول: يا قدير! أنجني من الظالمين، يا عزيز أعزني بطاعتك، فيتعبد لله بهذه الأسماء. وأيضاً أن يتخلق بآثار هذه الصفات، فالله جل وعلا رءوف يحب كل رءوف، وكريم يحب كل كريم، فأنت من تعبدك لله بالاسم أو بالصفة أن تتخلق بأثر هذا الاسم، فاسم الله الكريم فأنت تكون كريماً، واسم الله العفو، فهو عند المقدرة يعفو، فأنت إن كنت قادراً على ظالم فاعف عنه إلا أن يكون في هذه مساءة، أو يكون هذا فيه زيادة كبر لهم، وإن كنت تعلم أن الله عزيز فاعتز أنت بطاعته، وتخلق بآثار هذه الصفات. فالتسعة والتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة، فهذه هي الميزة لها، ولا يخفى علينا أن لله أسماء كثيرة كما في هذه الأحاديث. وقبل أن ننتقل إلى الكلام في الصفات أضبط لطالب العلم قاعدة مهمة جداً وهي: أن الاشتراك في الاسم لا يستلزم الاشتراك في المسمى، فإذا قلت: الله الرحيم، أو الله الكريم، وسمي أحد الناس كريماً، فهذا الاشتراك هو بالنسبة للاسم والصفة، وهو لا يدل على الاستواء، فكرم الله جل وعلا فيه الكمال المطلق، وكرم هذا المخلوق ناقص ولو كان كرمه ككرم حاتم الطائي. وأيضاً قال الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] فالله له يد، والإنسان له يد، فاشتركا في الاسم، فهذه يد وهذه يد، لكن لا يلزم من ذلك أن تتساوى يد الله ويد المخلوق أبداً، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].

صفات الله تعالى

صفات الله تعالى الصفات تنقسم إلى قسمين: صفات ثبوتية، وصفات سلبية. فالصفات الثبوتية: هي الصفات التي أثبتها الله لنفسه في كتابه، وأثبتها له رسوله في سنته. وهذا يعني: أن أسماء الله كلها توقيفية، وهذا فيه رد على النصارى الذين يسمون الله جل وعلا بالأب. وأما الصفات السلبية فهي الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه، ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته. والصفات الثبوتية قد ذكرها الله بنفسه في كتابه ورسوله في سنته، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:8]، فأثبت لنفسه صفة العلم والحكمة، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم إنكم تدعون سميعاً بصيراً)، فأثبت له السمع والبصر. إذاً: الصفات الثبوتية أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم.

الصفات الثبوتية

الصفات الثبوتية الصفات الثبوتية تنقسم إلى أقسام ثلاثة: صفات ذاتية، وصفات فعلية، وصفات خبرية. فالصفات الذاتية هي الصفات التي لا تنفك عن الله بحال من الأحوال، فهي أزلية أبدية لم يزل متصفاً بها ولا يزال، مثل العلم، فالله لم يزل متصفاً به ولا يزال، فليس هناك لحظة لا يعلم الله جل وعلا فيها كما قالت القدرية، فهم يقولون: إن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعدما تفعل! وهذا غير صحيح، فهذا علم أزلي لم يزل الله ولا يزال متصفاً به. وأيضاً العزة والقدرة والحياة فكل هذه صفات ذاتية أزلية أبدية لا تنفك عن الله بحال من الأحوال. النوع الثاني: الصفات الفعلية، وهي الصفات التي تتجدد وتتعلق بالمشيئة، مثال ذلك: النزول، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربكم إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر)، فالله ينزل نزولاً يليق بجلاله وكماله جل وعلا، وأما البشر فنزولهم يليق بنقصهم. وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يضحك ربكم من رجلين يقتل أحدهما الآخر ويدخلان الجنة)، فالله يضحك ضحكاً يليق بكماله، كما قال الصحابي للرسول صلى الله عليه وسلم: (أيضحك ربنا؟ قال: نعم، قال: إذاً لم نعدم خيراً من رب يضحك)؛ لأن لازم هذا الضحك أن يرحمنا، وأنت لو دخلت على صديق لك مسرور وطلبت منه أي شيء فإنه يعطيك إياه برحابة صدر، ولله المثل الأعلى، فإن كان ربك يضحك فلازم ذلك أن يغدق عليك النعم ويرحمك رحمة واسعة، فهذه الصفات تسمى صفات فعلية. النوع الثالث: الصفات الخبرية وهي: الصفات التي لا مدخل للعقل فيها، وأما الصفات الأزلية الأبدية فالعقل يثبتها ويقبلها وإن كانت توقيفية، فالعقل يثبتها ولا يعارضها، كالعلم، فهذا الكون وهذه البحار وهذه الجبال وهذه الأشجار والنجوم والشمس التي تطلع في الصباح وتغرب في المساء، كل هذا الكون المدبَّر لابد أن يكون نابعاً عن علم وعن حكمة، فهذه تدلك على إثبات العلم والحكمة عقلاً. وأما الصفات الخبرية فلا مدخل للعقل فيها، وضابطها: أن مسماها بالنسبة لنا أجزاء وأبعاض، كاليد والساق والعين، فاليد جزء مني لكنها بالنسبة لله تسمى صفة خبرية، ولا يقال: جزء من الله، بل هي صفة من صفات الخبرية. فلله يد {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، ولله ساق {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]، ولله عين {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، وهذا كله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. إذاً: فهذه الصفات الثبوتية تضبطها قاعدة مهمة جداً وهي: أنها كل ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله بلا تمثيل؛ لأن الله جل وعلا قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وننزه الله بلا تعطيل.

الصفات السلبية

الصفات السلبية القسم الثاني من الصفات: الصفات السلبية، أي الصفات المنفية عن الله، وهي الصفات التي نفاها الله عن نفسه ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، فنفى اللغوب، واللغوب: هو الإعياء والتعب، أي: ما مسنا من تعب ولا إعياء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)، فنفى عنه صفة النوم. إذاً: الصفات المنفية هي التي نفاها الله عن نفسه أو نفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وضابط هذه الصفات أن يتقدمها (ما) أو (لا) أو أي حرف من حروف النفي، ولا نتعبد لله بها بالنفي المحض، فالنفي المحض ليس فيه كمال، ونحن قد قعدنا قاعدة وهي: أن لله أسماء حسنى وصفات علا، فهي كلها كاملة، والنفي المحض لا كمال فيه، فتنفي لتثبت كمال الضد، فأقول: إن الله لا ينام؛ لكمال حياته وكمال قيوميته. والله خلق السموات والأرض ولم يمسه تعب ولا لغوب؛ لكمال قوته وكمال قدرته، إذاً فتنفي هذه الصفات عن الله مع إثبات كمال الضد. وأيضاً من الأدب عند النفي أن تنفي نفياً مجملاً ولا تفصل، فلا تقول: الله ليس بعرض ولا بجوهر ولا بكذا ولا بكذا؛ لأن تعدد النفي فيه إساءة أدب مع الله جل وعلا، وأما تعدد صفات الإثبات ففيه أدب مع الله ومدح وثناء عليه جل وعلا.

توحيد العبادة

توحيد العبادة القسم الثاني: توحيد العبادة، أو توحيد الله في أفعال العباد، وهذا هو الذي من أجله أنزل الله الكتب، وخلق الخلق، ومن أجله ضرب الصراط، ومن أجله جعل الجنة والنار، وهو توحيد الإلهية. ومعناه: إفراد الله جل وعلا بالعبادة، والقاعدة: أن كل عبادة ثبتت بالكتاب والسنة أنها عبادة فصرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك، وأيضاً: كل سبب شرعه الله فالأخذ به توحيد، والأخذ بالأسباب التي لم يشرعها الله جل وعلا ولا رسوله شرك. وتفسير ذلك مثلاً: أن تأتي إلى سبب شرعه الله جل وعلا كالتبرك بشرب ماء زمزم، فهذا سبب في الشفاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له)، فهذا توحيد، وأما إذا أخذت سبباً لم يسببه الله جل وعلا، ولم يشرعه في كتابه ولا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دخلت في باب من أبواب الشرك، مثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فهذا مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فهذا كافر بي مؤمن بالكوكب). وهذا فيه تفصيل، فإن اعتقد أن النجم يتحكم في الكون من دون الله، وهو الذي ينزل المطر، فهذا الاعتقاد كفر يخرج من الملة؛ لأنه اعتقد الربوبية في غير الله جل وعلا، فإن اعتقد أن هناك من يدبر الأمر غير الله كالذين يدعون في الأولياء وأرواح الأولياء فكل هذه الشركيات تخرج من الملة. وأما إذا اعتقد أن النجوم سبب في نزول المطر كالسحاب فهذا من الشرك الأصغر؛ لأنك جعلت سبباً لم يشرعه الله، والله جل وعلا يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فالله جل وعلا قد بين لك سبب المطر وهو: أنه يثير سحاباً، وهذا السحاب يتراكم وينزل بسببه المطر. إذاً فتوحيد الإلهية هو إفراد الله بالعبادة، فكل عبادة تصرفها لله بعد ثبوتها بالشرع فهي توحيد، وصرفها لغير الله شرك.

الإسلام والإيمان

الإسلام والإيمان الإسلام والإيمان من التوحيد، والإسلام معناه: الاستسلام التام والخضوع والإذعان لله جل وعلا، وقد مدح الله إبراهيم فقال: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131] أي: لأوامر الله، وهذا لما أمره أن يذبح ابنه، فقام ليذبحه استسلاماً لأوامر الله جل وعلا. وأركان الإسلام خمسة كما في الحديث: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً). والإيمان في اللغة معناه: التصديق، وفي الشرع: هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان، فلا ينفع التصديق فقط، ولابد من تصديق مستلزم للخضوع والمسكنة، ومستلزم للقبول والإذعان. وهو يتعدى بنفسه ويتعدى باللام ويتعدى بالباء، فإذا تعدى بنفسه فإنه يكون بمعنى الأمان، تقول: أمنته، أي: أعطيته الأمان ضد الخوف، قال الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4]، وإذا تعدى بالباء مثل: آمنت بالله وآمنت برسول الله، فمعناه: صدقت بربوبية الله وبإلهية الله جل وعلا، وصدقت برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا تعدى بالباء فيكون معناه التصديق. وإذا تعدى باللام فيكون معناه الاستسلام والخضوع والانقياد، مثل: آمنت لله، أي: انقدت وخضعت واستسلمت لأوامر الله، ومثل آمنت لرسول الله، أي: استسلمت في اتباعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] يعني: اتبعه واستسلم له. فالذي يتعدى باللام معناه الاتباع والانقياد التام.

العلاقة بين الإسلام والإيمان

العلاقة بين الإسلام والإيمان العلاقة بين الإسلام والإيمان أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، بمعنى أنه إذا اجتمع الإسلام والإيمان في الذكر افترقا في المعنى، فيكون الإسلام معناه الأفعال الظاهرة، والإيمان معناه الأفعال الباطنة، وأظهر مثال لذلك حديث جبريل عليه الصلاة والسلام قال: (أخبرني عن الإسلام، قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة) إلى آخر هذه الأفعال الظاهرة، وسأله عن الإيمان -فاجتمع في الذكر هنا مع الإسلام- فقال: (أخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته) أي: أن تقر في قلبك كما سنبين أنه قول وعمل، فتقر في قلبك بالله وملائكته وكتابه ورسله إلى آخر الحديث. إذاً: إذا اجتمعا في الذكر افترقا في المعنى، فيكون الإسلام بمعنى الفعل الظاهر، وكان الإيمان بمعنى الفعل الباطن، قال الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] يعني: في الظاهر {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]. وإذا افترقا في الذكر اجتمعا في المعنى، فإذا ذكر الإسلام وحده دخل تحته الإيمان، وإذا ذكر الإيمان وحده دخل تحته الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، فكل الأفعال الظاهرة والأفعال الباطنة هي الدين المذكور في هذه الآية: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، فيدخل معه الإيمان والإحسان، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم). والإيمان: قول وعمل، فهو قول باللسان وقول بالقلب، وعمل بالجوارح وعمل بالقلب. قول باللسان، أي: أن تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقول بالقلب، أي: أن تصدق وتقر بأن الله جل وعلا هو الخالق الرازق المدبر إلى آخر هذه المعاني التي شرحناها، وعمل بالأركان أي: أن تصلي وتزكي وتجاهد وتحج، وعمل بالقلب ومعناه المحبة والرجاء والخوف والتوكل واليقين والخشية والإنابة، فهذا هو عمل القلب، وكل ذلك مترابط، والإيمان كل متكامل.

حكم صاحب الكبيرة

حكم صاحب الكبيرة وهنا مسألة وهي: من فعل كبيرة من الكبائر فهل ينسحب الإيمان منه؟ وهل يخرج من الملة ويخلد في نار جهنم؟ الخوارج غلوا وقالوا: إنه يخرج من الملة ويخلد في النار، وأهل السنة والجماعة يقولون: فاعل الكبيرة تحت مشيئة الله، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له ورحمه. ولا يشكل علينا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله)، وقوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقوله: (من غشنا فليس منا)، وقوله: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين)، فلا يشكل علينا ذلك؛ لأنه مؤول، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) نفى عنه الإيمان المطلق، أي: كمال الإيمان، وأما أصل الإيمان وهو الإسلام فهو موجود في القلب لا يرتفع عنه، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل جاءني فبشرني أن من مات من أمتي وهو يقول: لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال أبو ذر: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، وعلى رغم أنف أبي ذر)، فهذا فيه دلالة على أن الزاني والسارق وشارب الخمر تحت مشيئة الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن النعيمان: (ما أراه إلا يحب الله ورسوله)، وكان معتاداً على شرب الخمر، ومع ذلك لم ينزع من قلبه حب الله والرسول صلى الله عليه وسلم.

أنواع الكفر

أنواع الكفر الكفر كفران: كفر أكبر وكفر أصغر، كما أن الشرك شركان: شرك أكبر وشرك أصغر. فالكفر الأكبر: هو الذي يخرج به صاحبه من الملة، ويخلد في نار جهنم، والكفر الأصغر صاحبه على شفا هلكة لكنه أيضاً تحت مشيئة الله جل وعلا، والكفر الأصغر: مثل الحلف بغير الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، أو من اتخذ سبباً لم يشرعه الله كالتمائم، وإذا اعتقد أن السبب ينفع ويضر من دون الله فهذا شرك أكبر وكفر أكبر. والفرق بينهما أن صاحب الشرك الأكبر والكفر الأكبر في نار جهنم خالد مخلداً، وأما صاحب الشرك الأصغر والكفر الأصغر فهو تحت المشيئة، فقد يدخل الجنة من أول وهلة، وقد يعذب بخطيئته ثم بعد ذلك يدخل الجنة. ولا يمكن لإنسان بحال من الأحوال أن يكفر أحداً إلا الجهال المتجرئون، فهم الذين يطلقون التكفير، فلا يمكن لأحد أياً كان أن يكفر أحداً من المسلمين حتى يكون معه دليل أوضح من شمس النهار، خوفاً على نفسه من أن يقع في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، فإن كان كافراً بحق ثبتت عليه، وإن لم يكن حارت ورجعت على هذا المكفر الجاهل الذي تكلم بما لا يعي ولا يعلم، فلا يصح لأي إنسان أن يتجرأ على مسألة التكفير، فإذا كان هناك دليل كشمس النهار على التكفير فهذا مخرج. ولا يلزم من الوقوع في الكفر تكفير الفاعل، فالقول قد يكون كفراً، والفعل قد يكون كفراً، ومع ذلك لا يكون القائل والفاعل كافراً حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، إلا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، كرجل يقوم في وسط الطريق فيسب الله جهاراً نعوذ بالله من ذلك، فهذا كفر وفاعله كافر ولا يلزم إقامة الحجة عليه ولا إزالة الشبهة؛ إذ إن هذا معلوم من الدين بالضرورة، أو رجل يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لابد أن يقتل، وهو كافر، ولابد على ولي الأمر أن يقتله، وحتى ولو تاب فلابد على ولي الأمر أن يقتله، فهذا كفر معلوم من الدين بالضرورة. وهنا أمر وهو: أن المعلوم من الدين بالضرورة أمر متفاوت، فقد يكون الحكم معلوماً من الدين بالضرورة في بلد، ولا يكون معلوماً من الدين بالضرورة في بلد آخر، فالذي نشأ ببادية بعيدة ولم يعلم من أحكام الشرع شيئاً لا نطبق عليه هذه القاعدة.

الكلام في القدر

الكلام في القدر القدر إجمالاً: هو قدرة الله، وهو فعل الله، فالله فعال لما يريد، ولا يستقيم إيمان عبد حتى يؤمن بالقدر، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فكل شيء بقدر كما قال الله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52 - 53]. فكل شيء مقدر، والقدر هو فعل الله جل وعلا وقدرته، وهو من لوازم ربوبية الله جل وعلا.

مراتب القدر

مراتب القدر الإيمان بالقدر يستقيم عندما تؤمن بأربع مراتب: علم فكتابة فإرادة فخلق، فتؤمن بعلم الله جل وعلا، وهو يشمل كل شيء، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهكذا كما قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا} [الأنعام:27] أي: الكفار، {إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:27 - 28]. المرتبة الثانية: الكتابة، فكل شيء مكتوب {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52 - 53] يعني: في اللوح المحفوظ. والكتابة أربع كتابات: كتابة أزلية، كتابة عمرية، كتابة عامية، كتابة يومية. فالكتابة الأزلية في اللوح المحفوظ كانت قبل أن يخلق الله الخلق بخمسين ألف سنة، فكتب كل شيء، كتب هذا المجلس الذي سنجلس فيه، وكتب ما نتكلم به، وكتب حركاتنا وسكناتنا ونومنا وقيامنا، فكل ذلك مكتوب قبل أن يخلق الله السموات والأرض بخمسين ألف سنة. والكتابة الثانية: كتابة عمرية، أي: في عمرك، وهذه الكتابة هي التي في صحف الملائكة، فعندما يأتي الملك بعد مائة وعشرين يوماً يقول: أي رب! أذكر أم أنثى؟ أي رب! الرزق؟ أي رب! الأجل؟ أي رب! أشقي أم سعيد؟ فيكتب. كتابة عامية: وهي في ليلة القدر، {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]، قال ابن عباس: يكتب الحاج والمعتمر، ويكتب الميت والحي، والذي يرزق، والذي يولد له، والذي يتزوج إلى آخره. الرابعة: كتابة يومية، فالملائكة الذين يتعاقبون ويتقابلون في العصر والفجر يكتبون ما يجري في اليوم. وكل هذه الكتابات التي في صحف الملائكة يمكن أن يبدلها الله جل وعلا إلا التي كتبت في اللوح المحفوظ، فالكتابة العمرية والعامية واليومية يمكن أن تبدل، ويدل على ذلك عمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يطوف بالكعبة ويقول: اللهم إن كنت قد كتبتني شقياً فامحها واكتبني عندك سعيداً، ثم يتلو {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]. إذاً: الذي يتبدل ويتغير ويمحى هو ما في صحف الملائكة، وأما اللوح المحفوظ فلا يتبدل فيه شيء بحال من الأحوال، وفهم هذا يخرج المرء من إشكال عظيم وهو: إذا كان القدر نازلاً لا محالة فكيف يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القدر والدعاء يعتلجان، وأن القوي منهما يدفع الآخر، فكيف يكون ذلك والقدر قد قدر وانتهى الأمر؟ و A أن في اللوح المحفوظ أن هنا الرجل سيدعو الله والله يقبل دعاءه فيرد القدر بهذا الدعاء، لكن ليس هذا مكتوباً في صحف الملائكة، فالملائكة القدر الذي في صحفهم سينزل عليه ولكنه يأتي الدعاء فيرفعه، فيمحى من صحف الملائكة، والله تعالى أعلى وأعلم. المرتبة الثالثة: الإرادة، فما من شيء في هذا الكون إلا وهو بإرادة الله جل وعلا، {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] سبحانه وتعالى، وإرادة الله إرادتان: إرادة كونية وإرادة شرعية. فالإرادة الكونية: هي المشيئة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهذه ضابطها أنها تقع لا محالة، فلا مرد لها، وتكون فيما يحبه الله وما لا يحبه الله، فكفر أبي جهل أراده الله كوناً، وكفر أبي لهب أراده الله كوناً، هو لا يحبه لكن أراده كوناً لحكمة عنده، قال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام:125] يعني: يريد إرادة كونية، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. والإرادة الثانية: الإرادة الشرعية، وهي المحبة، وهذه فيما يحبه الله فقط، وقد تقع وقد لا تقع، وهذه خاصة بالإيمان والتيسير للطاعات، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] فقد تقع وقد لا تقع، فكثير من الناس أشركوا بالله جل وعلا وكفروا به، فالإرادة الشرعية هي المحبة. وقد يكون الشيء مراداً شرعاً وكوناً كإيمان أبي بكر. وأما غير المراد كوناً ولا شرعاً فمثل كفر المؤمن، فالله لا يرضاه شرعاً وأيضاً لم يقدره كوناً. المرتبة الرابعة: الخلق، والخلق المطلق لله جل وعلا، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، ومن الخلق أن الله خلق أفعال العباد، خلق العبد وخلق أفعاله، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق كل صانع وصنعته).

خلق الله تعالى للمعاصي والشرور

خلق الله تعالى للمعاصي والشرور هنا مسألة في القدر وهي: هل المعاصي خلقها الله أم لم يخلقها؟ A الله خلقها، فهو خالق كل شيء، لكن الشر لا ينسب إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك) أي: لا ينسب الشر إليك بحال من الأحوال؛ تأدباً مع الله، فالذي يمرض والذي يشفي هو الله سبحانه، لكن انظر إلى التأدب مع الله من نبيه إبراهيم عليه السلام حيث قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:80] فأضاف المرض إلى نفسه؛ لأن الله هو الذي خلق فيه المرض، {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] تأدباً مع الله فلا تنسبه إلى لله مع أن الله جل وعلا هو الذي خلقه وأوجده. والله لم يخلق شراً محضاً، لكن خلق الشر نسبياً إضافياً، فهو يضاف إلى المخلوق لا إلى الخالق. إذاً: يكتنف الشر فعلان: فعل الله وفعل العبد، فأما بالنسبة لله فكل أفعال الله جل وعلا كمال، وهي خارجة عن صفات كمال وأسماء حسنى، فكل فعل الله جل وعلا ممدوح، وكل فعل لله جل وعلا خير، وأما بالنسبة للعبد فهو على حسب فعله إن كان معصية أو كان طاعة. فمثال ذلك: أن الله جل وعلا خلق زيداً، فذهب زيد فشرب الخمر، فالله خلق فيه هذا الفعل، فإذا نسبته إلى الله جل وعلا فإنك ستنسبه إليه خلقاً وإيجاداً، وستنسبه إلى العبد فعلاً واكتساباً فهو الذي شرب الخمر.

عدم جواز الاحتجاج بالقدر على المعاصي

عدم جواز الاحتجاج بالقدر على المعاصي هل يجوز الاحتجاج بالقدر؟ مثل أن يذهب رجل فيزني، فإذا أنكرت عليه قال: هذا قضاء وقدر، وقد جاء أن رجلاً من الجبرية دخل على امرأته فوجد رجلاً يزني بها فقال: ما هذا يا فاعلة الفاحشة؟ فقالت: مهلاً فإن هذا بقدر الله، قال: نعم بقدر الله، وسكت هذا الغبي، فلما رأت ذلك قالت: والله ما هذا بدين بحال من الأحوال، أصبح الرجل ديوثاً بسبب فقهه بهذه العقيدة الخربة. فالمعصية لا يحتج عليها بالقدر لكن القاعدة: أن القدر يحتج به في المصائب لا في المعايب، فأي مصيبة تنزل عليك فإنك تقول: قدر الله وما شاء فعل، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، فيؤمن بها ويرضى بها قلبه، فالله جل وعلا يسلم قلبه ويزيده على ذلك إيماناً، وتنزل عليه برداً وسلاماً. ففي المصائب لك أن تحتج بالقدر وأما في المعايب فلا تحتج بالقدر بحال من الأحوال، والحديث الذي يبين لنا هذا جلياً هو حديث احتجاج موسى مع آدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا أن آدم عليه السلام كانت معه الحجة القوية: (قال موسى لآدم: أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قد قدره الله علي قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى). وللعلماء تأويلات كثيرة جداً لهذا الحديث، والراجح أن موسى احتج على آدم بخروجه من الجنة، وهذه مصيبة كبرى أنّا خرجنا من الجنة، ولم يحتج على آدم بمعصيته وأكله من الشجرة، فلما احتج عليه في المصيبة كانت الحجة مع آدم، فقال: قدر الله علي هذه المصيبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فحج آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى).

مراتب الصحابة في الأفضلية وحكم من سبهم

مراتب الصحابة في الأفضلية وحكم من سبهم أختم هذا الدرس بهذه المسألة وهي: أن الصحابة أفضل البشر على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين، وأفضلهم على الإطلاق بعد محمد صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر، وهم في الفضل على ترتيب الخلافة، فأفضل هذه الأمة بعد نبينا أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ولا يقدم علي على عثمان أبداً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوص لأحد، وأبو بكر فقط هو الذي خلافته إما بالنص الصريح أو بالتلميح، والصحيح الراجح أنها بالاستنباط والتلميح وليست بالنص الصريح. وأما حكم من سب الصحابة فقد قسمنا من سب الصحابة إلى أربعة أقسام، فثلاثة منهم كفرة خرجوا من الملة، وقسم واحد ليسوا بكفرة. فالأول: هم الذين يسبون الصحابة ويقولون: هم كفرة كفروا بعد رسول الله، فهؤلاء الغلاة يدخلون في حيز الكفر؛ لأنهم كذبوا الله ورسوله، فقد عدلهم الله في كتابه وهم يقولون: هم كفرة. الثاني: الذين يسبونهم من أجل دينهم، فيسبون أبا بكر أو عمر أو عثمان من أجل دينه، فهذا أيضاً يكفر. الثالث: الذين يسبون عائشة بالذات في شرفها، فيقولون: لم يبرئها الله، وهذه فعلت كذا وكذا. الرابع: الذين يسبون بعضهم من أجل ميلهم إلى أحدهم وتركهم للآخر، كالذين يسبون مثلاً: عماراً ويسبون علياً من أجل معاوية مثلاً، أو يسبون معاوية من أجل علي، فهذا ليس بكفر؛ لأنهم لم يسبونهم لدينهم، لكن هذا من الميل الأعمى مع الجهل المطبق، فيجعله من الفسقة لا من الكفرة. وكما بينا أن منهج أهل السنة والجماعة أنهم يترضون عن جميع الصحابة رضي الله عنهم المصيب منهم والمخطئ، والذي أصاب له أجران والذي أخطأ له أجر. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً.

ضوابط مهمة في التفريق بين الاسم والصفة

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - ضوابط مهمة في التفريق بين الاسم والصفة ذكر العلماء ضوابط في أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وهذه الضوابط مستنبطة من الأدلة، ومنها أن كل اسم فيه صفة ولا عكس، وباب الصفات أوسع من باب الأسماء، وأسماء الله توقيفية، وهي بالغة الغاية في الحسن.

العلاقة بين اسم الله وصفته

العلاقة بين اسم الله وصفته إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: الاسم مشتق من السمة، والسمة هي العلامة، واسم الله علامة على ذات الله جل وعلا. وهو مشتق من السمو والعلو وهذا في حق الله حق، وأسماء الله جل في علاه في غاية الحسن والكمال والجلال والعظمة، فكل اسم من أسماء الله يتضمن صفة من صفات الكمال، وهذه دلالة على غاية الحسن في أسماء الله جل في علاه. فإذا قلنا: الكريم اسم من أسماء الله، فهو يتضمن صفة من صفات الكمال والجلال وهي الكرم. ومن كمال الحسن أن الاسم الذي يتضمن صفة من صفات الكمال يستلزم بعض صفات الكمال أيضاً، فتزيد الكمال كمالاً فإذا قلنا: اسم الله القدير، فالقدير اسم من أسماء الله جل وعلا يتضمن صفة كمال وهي: القدرة. ومن الصفات التي تستلزمها القدرة: الإرادة فلا أحد يقدر على شيء وهو لا يريده؟ ومنها: الحياة؛ لأن القدير لا يمكن أن يكون قديراً إلا وهو حي. فهي أعلام وأوصاف تتضمن صفات كمال، وأسماء الله جل في علاه ليست محصورة في عدد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن أصابه هم أو غم أن يقول: (اللهم! إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، وهذه دلالة على أن هناك أسماء استأثر الله بها في علم الغيب ولم يعلمها أحد إلا هو سبحانه جل في علاه، وهذه فيها دلالة كبيرة جداً على أن أسماء الله لا تنحصر في عدد. وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة قال: (فأذهب تحت العرش فأخر ساجداً لربي فأحمده بمحامد يعلمنيها) يعني: يعلمني محامد ما كنت أعلمها في الدنيا، والمحامد من الحمد، والحمد هو: الثناء الجميل على المحمود بصفات الكمال والأسماء الحسنى، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم يحمد الله بمحامد ما كان يعلمها في الدنيا وعلمها عندما يخر ساجداً قبل الشفاعة، فإنه يتعلمها في ذلك الوقت فقط، فأسماء الله جل وعلا في علم الغيب خبأها الله عن عباده، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهي غير محصورة في عدد، لكن يشكل علينا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، فحصرها في تسعة وتسعين، والإجابة على ذلك كما هو مشهور أن التسعة والتسعين لهم ميزة، وهذه الميزة هي: أن من حفظها، وأحصاها، وعدها، وتعبد بها لله جل في علاه، وتخلق بآثارها فإنه يدخل الجنة، أما أن يقال: هذه دلالة على أن الله جل وعلا ليس له أسماء غيرها فهذا خطأ، كأن تقول: أعددت خمسة دراهم للصدقة، فهل في هذا دلالة أنني ليس معي غير هذه الخمس؟ A لا، وإنما الخمس الدراهم لها ميزة وهي أنها للنفقة، ولي مال آخر فهذا الحديث ليس فيه حصر لأسماء الله جل في علاه.

كل اسم فيه صفة ولا عكس

كل اسم فيه صفة ولا عكس العلاقة بين الأسماء والصفات: كل اسم صفة ولا عكس، فيمكن أن تشتق من الاسم صفة ولا عكس، فالله اسم من أسماء الله جل في علاه، وهو أعظم الأسماء وهو الاسم الأعظم لله جل في علاه، وإذا قلت: الله الكريم، فإعراب الكريم: صفة لله، مع أن الكريم منفرد هو اسم من أسماء الله فلما أضيف إلى الله أضيف على أنه صفة للموصوف، إذاً الاسم يصح أن يكون صفة، والصفات ليست أسماء فقد قال الله جل وعلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فالمستوى ليس من أسماء الله، فليس كل صفة اسماً من أسماء الله؛ لأن القاعدة عند العلماء: أن الصفات لا يشتق منها الأسماء إلا بالتوقيف.

باب الصفات أوسع من باب الأسماء

باب الصفات أوسع من باب الأسماء باب الصفات أوسع من باب الأسماء؛ لأن هذه هي التي تفرق بين الاسم وبين الصفة. فصفات الله تتعلق بأفعاله وأفعال الله لا تنحصر، فإذا رأيت فعلاً قلت: إن هذا ليس باسم ولكنه صفة، وباب صفات الله أوسع من باب أسمائه لأنها تتعلق بالأخبار.

أسماء الله توقيفية

أسماء الله توقيفية أسماء الله توقيفية يعني: لا يمكن أن أعلمها إلا عن طريق السمع من الكتاب أو السنة أو القياس. أي أنها مستقاة من الكتاب والسنة، أما القياس فلا يدخل في أمر التوقيف، إذاً اسم الله لا بد أن تتلى فيه آية أو ينص عليه الحديث. واختلف العلماء في ذلك على قولين: جمهور أهل السنة والجماعة حتى الأشاعرة قالوا: إن أسماء الله توقيفية لا نعلمها إلا من الكتاب أو من السنة، أما المعتزلة فقالوا: كل اسم استحسناه فإننا نطلقه على الله جل في علاه؛ لأنهم يقدمون العقل على النقل. وهذا كلام فيه خطر عظيم، فمن يفعل ذلك يكون قد تقول على الله بغير علم، وقد حذر الله أيما تحذير من ذلك فقال: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، وقال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].

ضوابط الاسم الوارد في الكتاب والسنة

ضوابط الاسم الوارد في الكتاب والسنة ضوابط الاسم ما يلي: أولاً: أن يقبل العلامات التي تدخل على الاسم، كأن يقبل الألف واللام، ويقبل التنوين والخفض، وتدخل عليه علامات الجر، وبالمثال يتضح المقال: فالله جل وعلا سمى نفسه في كتابه الحكيم الخبير. وهذان الاسمان يقبلان التنوين فصح أن تقول: حكيمٌ خبيرٌ، ويقبل الألف واللام: الحكيم الخبير، وتدخل عليه أدوات الجر قال تعالى: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] الضابط الثاني: أن يكون في غاية الحسن وغاية الكمال، فانظر للاسم إذا وجدت فيه ممدحة ومحمدة لربك جل في علاه فهو اسم فالعزيز: يقبل علامات الاسم، وهو يتضمن كمال. الحميد: كل المحامد لله جل وعلا فهو حميد يحمد عباده ويشكر صنيعهم من الطاعات، وهو محمود بصفات الكمال والجلال والبهاء والعظمة سبحانه جل في علاه، فما دامت فيه صفة كمال فيها غاية الحسن فهو اسم له. الكبير فيه غاية الكمال، فإن الكبرياء كله والعظمة كلها لله جل في علاه، فالله أكبر من كل شيء، والله أكبر من أن يتصوره أو يتفكر في ذاته الإنسان. والبيهقي يقول: إن القديم اسم من أسماء الله، والقديم ليس غاية في الحسن، ومعنى ذلك أنه ليس باسم من أسماء الله، فقد سقط منه ضابط من الضوابط لمعرفة أسماء الله جل في علاه. وجاء في الحديث القدسي: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر)، وعند إطلاق الدهر نجد أنه لم يتوفر فيه ضابط من الضوابط، وهو أنه ليس في غاية الحسن والكمال، فدل ذلك على أنه ليس باسم من أسماء الله جل في علاه. وقال الله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، نجد أن هذا الاسم ينطبق عليه جميع ضوابط أسماء الله، فهو يقبل علامات الاسم، وهو كذلك في غاية الحسن والكمال، لكن الصحيح الراجح أنه ليس باسم، للقرائن المحتفة التي أثبتت أنه ليس اسماً من أسماء الله، فأسماء الله جل وعلا لا تضاف، وهنا قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، ولم يقل: الله النور، قال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]. والذي جعلنا نقول: إنه ليس اسماً من أسماء الله أن في قراءة لـ زيد بن علي رضي الله عنه وأرضاه، قال: (الله نّوَّرَ السماوات والأرض). فمعنى ذلك أن الله جل وعلا بقدرته وعظمته وبهائه هو الذي نوَّرَ السماوات والأرض كما فسرها ابن عباس وابن مسعود قال: هو نور، ونوَّرَ السماوات والأرض بالشمس والقمر والكواكب وغيرها، فهذه القراءة الثانية جعلتنا نقول: إنه ليس من أسماء الله عز وجل. فهذه القرينة التي أثبتت أن النور ليس من أسماء الله جل في علاه؛ لأنه فعل من أفعاله، والمقصود بالنور هنا: نور الحجاب، فقد وردت أحاديث في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)، ثم قال: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره) أي: أنوار وجه الله، إذاً هي صفة: النور، فكل هذه آثار وقرائن محتفة تثبت لنا أن هذه صفة من صفات الله جل في علاه، ولا عتب ولا إنكار على من جعله اسماً من أسماء الله؛ لأنه لو طبق القاعدة لظهر له أنه من الأسماء، إلا أننا أخذنا الأدلة كلها ودرنا معها حيث دارت. فالقرائن المحتفة: أثبتت لنا الفعل، والفعل يكون من باب الصفات وليس من باب الأسماء؛ لأن الله نوّر السماوات والأرض. وقال الله حاكياً عن إبراهيم أنه قال: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]، لو طبقنا عليه الضوابط لوجدنا أنه يقبل علامات الاسم، وفيه الكمال والحسن؛ لهذا عدّه بعض العلماء من الأسماء، وبعض العلماء قال: في نفسي تردد من هذا الاسم؛ لأنه جاء مقيداً وما جاء مطلقاً، وثبوت الأسماء أنها تأتي مطلقة، مثل: الرحمن، الرحيم، الكريم، العليم.

الكلام على صفة النفس لله جل وعلا

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - الكلام على صفة النفس لله جل وعلا صفة النفس ثابتة لله تعالى بالكتاب والسنة، ولا يمكن إدراكها بالعقل؛ لأنها صفة خبرية، وأهل السنة والجماعة يثبتون الصفات لله تعالى بلا تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف، وإذا ذكر العبد ربه في نفسه ذكره ربه في نفسه، وإذا ذكره في ملأ ذكره في ملأ خير منه.

إثبات الصفات لله تعالى على طريقة أهل السنة والجماعة

إثبات الصفات لله تعالى على طريقة أهل السنة والجماعة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: أنا مع عبدي حينما يذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم). حدثنا عبد الله بن سعيد الأشج قال: حدثنا ابن نمير قال: حدثنا الأعمش بهذا السند مثله عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله: عبدي عند ظنه بي، وأنا معه إذا دعاني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وأطيب). عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: ابن آدم! اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، فإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة، أو قال: في ملأ خير منهم) قال عبد الرحمن: (ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي)]. إن صفات الله تنقسم إلى قسمين: صفات ثبوتية وصفات سلبية، والصفات الثبوتية: هي الصفات التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم. أما الصفات المنفية أو السلبية فهي الصفات التي نفاها الله عن نفسه ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. والصفات الثبوتية ثلاثة أنواع: صفات ذاتية لا تنفك عن الله، فهي أزلية أبدية. صفات فعلية تتعلق بالمشيئة وهي متجددة كالكلام والضحك والغضب. صفات خبرية وهذه الصفات المسماة عندنا أجزاء وأبعاض، ولولا السمع لما أمكن للعقل أن يدركها، والفرق بينها وبين سابقتيها من الصفات: أن الصفات الذاتية والصفات الفعلية للعقل مجال أن يدركها ويمكن أن يكون عاضداً في الاستدلال عليها، وهذا الذي ننطلق منه ونقول: طريقة إثبات صفات الله جل وعلا بطريقتين: الطريقة الأولى: طريقة السمع. الطريقة الثانية: طريقة الصنعة، أو طريقة التدبر، كما قال ابن القيم. طريقة السمع: أي طريقة الوحي من الكتاب والسنة. فالصفة يثبتها الله في كتابه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58]، أثبت لنفسه السمع والبصر سبحانه وتعالى. وقال جل وعلا: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]. وقال جل وعلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. وقال جل وعلا: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]. وقال جل وعلا: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]. وقال جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، فيعلم أنها من عند الله، وأن الله حكيم خبير، ويضع الشيء في موضعه، فإذا علم ذلك هدى الله قلب العبد إلى الإيمان، فأثبتها الله في كتابه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم وحياً، وحي كتاب أو سنة، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إني قد أوتيت القرآن ومثله معه) وقال رسول الله صلى عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً). وكان يقول: (يا حي! يا قيوم! برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين). وكان يقول: (وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي، وأعوذ بعزتك) فيثبت لله العزة والعظمة. هذه هي الطريقة الأولى طريقة الوحي. أما الطريقة الثانية فهي طريقة الاستدلال بالصنعة أو بالتدبر والتفكر، إذا نظرت إلى هذا الكون البديع، وإلى هذا التناسق العجيب، فهذه السماوات ذو النجوم المتلألئة الباهرات، وهذه الأنهار والأشجار، وهذه الأرض التي سطحها الله جل وعلا، تدل على حكيم خبير قوي عزيز، تقول: هذا الكون المترابط المتناسق، ما نسقه وما أبدعه إلا قوي ذو علم وذو إرادة وهو كبير سبحانه وتعالى، وأيضاً إذا نظرت إلى الكمالات في الإنسان فتقول: أن صفة الكرم أو صفة الشجاعة أو صفة الجود كمال في الرجل أو في المخلوق، فالخالق أولى بهذا الكمال؛ لأنه إذا كانت صفات الكمال في المخلوق من باب أولى أن تقول: الذي خلقه وأبدعه له هذه الصفات، هذا من طريق العقل، وهي تختص بالذاتية والفعلية، أما الصفات الخبرية لا مدخل للعقل فيها، لولا أن الشرع والسمع جاء بها لا يمكن لك أن تدركها بالعقل، يعني: اليد في الإنسان من الممكن أن تكون كمالاً، لكن لا تكون لله كمالاً؛ لأن القاعدة: ليس كل كمال في الإنسان يكون كمالاً في الرب جل وعلا، وليس كل ما يوصف به الرب يكون كمالاً للإنسان، أقول لك بالتصريح مثلاً: الكبر في الإنسان نقص، ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) فالكبر نقص في الإنسان، أما في الخالق فهو كمال، وكذلك الكبرياء والعظمة لله جل وعلا، قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما ألقيته في النار) يقذفه الله في النار لو نازعه في هذه الصفات. والإنجاب في الإنسان كمال، ومعلوم أن عدم الإنجاب عند العقيم نقص، وهو يبحث بحثاً حثيثاً أن يرزقه الله من شتى الطرق ولداً، فعدم الإنجاب أو أن يكون عاقراً أو عقيماً نقص فيه، لكن هو بالنسبة لله جل وعلا كمال، {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111]، فالقاعدة: أنه ليس كل كمال في الإنسان يكون كمالاً لله جل وعلا. فلذلك نقول: الصفات الخبرية بالذات لا مدخل للعقل فيها، الشرع هو الذي يبين لنا ذلك، وهي للإنسان جزء منه وهي كمال، لكن أنت لا تستطيع أن تقول: اليد كمال لله جل وعلا، فلولا أن الشرع جاءنا بأن لله يد، كما قال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، لما قلنا بها، أيضاً الساق، أيضاً الأنامل، كل ذلك هي صفات خبرية لا يمكن أن ندركها بالعقول، ولكن بالشرع ندركها، هذه طريقة إثبات الصفة بالكتاب والسنة، ويدركها العقل إن كانت ذاتية أو فعلية.

تحريم التشبيه والتمثيل في صفات الله تعالى

تحريم التشبيه والتمثيل في صفات الله تعالى طريقة السلف هي أحكم وأعلم، لا على كلام أهل البدع، وهم يثبتون الصفة بلا تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف، أي صفة جاءت عن الرب جل وعلا يثبتونها كما جاءت بظاهر الدلالة بلا تمثيل ولا تكييف ولا تشبيه. التمثيل معناه: أن يعتقد المرء صفة لله وهي مماثلة لصفة المخلوق بالمطابقة، دون أدنى فرق، كأن يجعل اليد اليمنى إذا جاءت على اليسرى مطابقة لها، دون أدنى فرق، تقول الكف الأيمن يماثل الكف الأيسر، فالمشبه يعتقد أن صفة الله جل وعلا في الاستواء على العرش، هي الاستقرار على سرير الملك، فيماثل هذه الصفة بصفة المخلوق، أو يقول يد الله مثل يد المخلوق دون أدنى فرق، هذا معنى التمثيل، فالتمثيل: المطابقة في كلية الصفة. أما التشبيه فهو كالتمثيل لكنه أقل درجة منه، فهو تشبيه بأكثر الصفة، لا بكل الصفة، فالمطابقة في التماثل والأغلبية في التشبيه. إذاً: لا مطابقة في التشبيه، فالتمثيل مطابقة، وأما التشبيه في الأكثرية والأغلب. أما التكييف: فهو أن يثبت لله صفة ويكيف هذه الصفة ويتخيل لها صورة دون أن يقدر لها مماثلاً، كأن يقول: يد الله جل وعلا لها كيفية كذا وأصابع كذا أو أنامل كذا، فيكيف له كيفية دون أن يقدر ويماثل، هذا معنى التكييف. والسلف بطريقتهم الأحكم والأعلم يثبتون لله الصفة بلا تمثيل، يد الله لا تماثل يد البشر، ودون تشبيه، استواء الله على العرش لا يشابه استواء البشر على سرير الملك، ودون تكييف يقولون: إن هذه صفة، لكن لا نعلمها والله يعلمها، ويدل على ذلك الأثر والنظر، أما من الأثر فلنفي المماثلة قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فأثبت لنفسه صفات وأخبر بنفي المماثلة، وهذا الخبر يتضمن عدم المماثلة، يعني: ينهاكم أن تماثلوا صفاته بصفات المخلوق. وقال الله تعالى مصرحاً بالنهي: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]. إذاً: نثبت الصفة {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، دون المماثلة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، و {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] هذا من الأثر. ومن النظر أيضاً ننفي المماثلة والمشابهة، فإن لله ذاتاً -حتى عند أهل البدع- لا تشبه ولا تماثل ذات المخلوق، فنقول لهم: الذات أصل والصفة فرع، وحكم الأصل ينتقل إلى حكم الفرع، والصفة تابعة للموصوف، والقول في الصفات كالقول في الذات، وأنتم توافقون وتقولون: لله ذات لا تماثل ذات المخلوق، إذاً: هذا أصل والفرع عليه الصفة، فقولوا مثلما قلتم في الذات: لله صفات لا تماثل صفات المخلوق، إذاً: ألزمناهم نحن بما أقروا به، هذا الدليل الأول بالنظر. الدليل الثاني نظراً: أننا إذا قلنا بأن صفات الخالق تماثل صفات المخلوق لازم ذلك أننا نثبت لله النقص، إذ إن صفات المخلوق لازمها يعتريه النقص، والأصل في المخلوق الجهل والنقص، فلو ماثلنا صفات الخالق بصفات المخلوق يلزمنا أن ننسب النقص لله جل وعلا، وقد نزه الله جل وعلا نفسه عن ذلك، ونزهه رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: التمثيل والتشبيه منفي، لا يجوز ويحرم أثراً ونظراً.

تحريم تكييف صفات الله تعالى

تحريم تكييف صفات الله تعالى التكييف يحرم أثراً ونظراً، أما أثراً فقد قال الله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، الذي يكيف صفة الله جل وعلا، يكيف يد الله جل وعلا، كأنه أدرك يد الله جل وعلا، وكأنه أحاط بها علماً، وهو كاذب في دعواه؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، وأيضاً قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، وأنت إذا قلت بكيفية صفة من صفات الله جل وعلا دون أن تراها، ودون أن يخبرك رسولك صلى الله عليه وسلم قد قلت على الله بغير علم، ووقعت في مخالفة هذه الآية: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، هذا أثراً. أما نظراً فنقول: المكيف إذا أراد أن يكيف الصفة له في هذا التكييف مسالك ثلاثة: المسلك الأول: أن يرى صاحب هذه الصفة، فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى بيت المقدس عندما أسري به إليه، فلما سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم: صف لنا بيت المقدس، وصفه لهم بكل كيفياته، فالذي يكيف صفة الله نلزمه ونقول: أنت رأيت الله؟ إذا قال: نعم، فهذا إما مجنون وإما يكفر بهذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى الله على التحقيق، وعند أهل التحقيق ما رأى الله في الدنيا، ولن يرى الله أحد إلا في الآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) إذاً: هذا المسلك الأول ينفي التكييف. المسلك الثاني: أن يخبره الصادق المصدوق بكيفية هذه الصفة، فهل ثمة دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم يكيف له صفة من صفات الله جل وعلا؟ لن يجد لذلك سبيلاً، فالمسلك الثاني أيضاً لا يمكن أن يقف به أمامنا، فننفيه عنه. المسلك الثالث: أن يرى المثيل، وهل لله مثيل؟ والله يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، إذاً: يبطل نظراً أن يكيف هذه الصفة. بل نحن نلزمه بما هو أدنى ونقف معه ونقول: كيف لنا ثلاثة أجنحة من أجنحة جبريل الستمائة، لا يستطيع أن يأتي بجناح واحد ليكفيه، فإن لم يستطع أن يكيف صفة لمخلوق، فهو أعجز أن يأتي بكيفية صفة للخالق، ولذلك ورد في الآثار: (لا تتفكروا في ذات الله) يعني: كيفيات صفات الله، فإن الله لا تصل إليه فكرة، سبحانه وتعالى، مهما يصل بك الفكر إلى كيفية من كيفيات صفات الله جل وعلا فالله أعظم وأجل، سبحانه وتعالى، فكبر وسبح ونزه ربك. إذاً: فالتكييف باطل أثراً ونظراً. فطريقة السلف إثبات الصفة بلا تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف.

إثبات صفة النفس لله تعالى

إثبات صفة النفس لله تعالى ذكر المؤلف رحمه الله صفة من صفات الله جل وعلا الثبوتية، وهي صفة النفس، وهذه صفة ثبوتية، أي: أثبتها الله لنفسه في كتابه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي صفة خبرية، لا مدخل للعقل فيها، وإذا قلنا بأنها خبرية فسنثبتها بالكتاب والسنة دون العقل؛ لأن العقل لا يدرك ذلك، وقد أثبتها الله لنفسه في كتابه، قال لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]. وقال جل وعلا أيضاً على لسان عيسى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة:117]. ثم قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، وأثبت لله النفس. وأيضاً قال الله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]. إذاً: صفة النفس صفة خبرية، ثبتت لله في الكتاب، وأيضاً أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم كما في الأحاديث التي ذكرها المؤلف: (أنا مع عبدي ما ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) إثبات للنفس. وأيضاً في أحاديث أخرى: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي). وأيضاً: (كتب الله جل وعلا كتاباً عنده على نفسه أن رحمتي سبقت غضبي). فإذاً: هذه الصفة ثابتة لله جل وعلا بالكتاب وبالسنة. أقول: نعتقد اعتقاداً جازماً ونثبت لله صفة النفس، وأنها صفة كمال وجلال لله جل وعلا لا تماثل نفس المخلوق، مع أن الاسم مشترك، نفس الخالق ونفس المخلوق، والقاعدة: الاشتراك في الاسم لا يستلزم التساوي في المسمى. إذاً: نفس الخالق لا تماثل نفس المخلوق. إذاً: أثبت لله صفة خبرية ثبوتية، وهي صفة النفس بلا تمثيل، أي: لا تماثل نفس المخلوق. ولا تشبيه: ولا تشابه نفس المخلوق. ولا تكييف: ولا أقول: النفس ليس لها كيفية، أو أثبت الكيفية، لكني أفوض هذه الكيفية للخالق جل وعلا. إذاً: إثبات النفس لله جل وعلا: صفة خبرية تليق بجلال الله وكمال الله، لا تماثل نفس المخلوق، ولا تشابه نفس المخلوق، ولا نعلم كيفيتها، والكيفية أفوضها لله جل وعلا على طريقة السلف الذين هم أعلم، وطريقتهم هي أحكم وأسلم.

تحريف أهل البدع لصفة النفس لله جل وعلا

تحريف أهل البدع لصفة النفس لله جل وعلا لم يرض أهل البدعة بإثبات صفة النفس، ولم يوفقوا في هذه الصفة، بل كذب أهل الضلالة والبدعة من الجهمية النفاة المعطلة في هذه الصفة، بالتحريف تارة وبالتعطيل تارة، وبالتشبيه تارة، وهم لم يفروا إلى التعطيل إلا لأنهم شبهوا نفس الخالق بنفس المخلوق، فعطلوا الصفة وقالوا: النفس ليست صفة لله جل وعلا، بل إضافتها عندما يقول: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، وعندما يقول: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] كإضافة المخلوق للخالق، مثل قول الله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13]، فأضاف الناقة لله، إضافة المخلوق إلى الخالق، وكإضافة الكعبة لله، والكعبة بيت الله، وإضافة البيت إلى الله، إضافة المخلوق إلى الخالق، ولم يأتوا على ذلك بالأدلة.

الرد على أهل البدع في تحريف صفة النفس لله تعالى

الرد على أهل البدع في تحريف صفة النفس لله تعالى نحن نعتقد أن صفة النفس صفة كمال وجلال لله جل وعلا، ونثبتها لله بلا تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف، ونعلم أن لها كيفية، لكن لا نعلم هذه الكيفية. وفي الرد على أهل البدع الذين قالوا: هي إضافة مخلوق إلى خالق نقول: أولاً: توضيح الإضافة: المضاف إلى الله نوعان: أعيان قائمة بذاتها ومعاني. الأعيان القائمة بذاتها إذا أضيفت إلى الله هي إضافة مخلوق إلى خالق، وهذه الإضافة تسمى إضافة تشريف، كعيسى، وعيسى عين قائمة بذاتها، والكعبة عين قائمة بذاتها، والناقة عين قائمة بذاتها، فالأعيان القائمة بذواتها إضافتها إلى الخالق إضافة تشريف، تقول: عيسى روح الله، روح خلقها الله جل وعلا، وناقة الله، أي: ناقة خلقها الله جل وعلا، انفلقت الصخرة وخرجت الناقة لتكون معجزة من المعجزات. إضافة المعاني إلى الله إضافة صفة إلى موصوف، كأن تقول: رحمة الله، كرم الله، أمام البشر حتى يؤمنوا بها. وقوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180] العزة هنا ليست عيناً قائمة، وإنما صفة معنى، فإضافة المعاني إلى الخالق هي إضافة صفة إلى الموصوف. إذاً: الإضافة لله إضافتان: إضافة أعيان فهي مضافة إلى الخالق للتشريف، وإضافة معان، وهي إضافة صفة للموصوف، وإذا نظرنا إلى النفس فالنفس هي معنى من المعاني أضيفت إلى الخالق، وتساوي صفة أضيفت إلى الموصوف، فنرد عليهم بهذا ونقول: إن النفس معنى من المعاني أضيفت إلى الخالق فإضافتها إضافة صفة إلى الموصوف. ونرد عليهم بثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن الله جل وعلا قد أثبت لنفسه النفس وأن رسوله قد أثبت له النفس، أي: أثبت هذه الصفة الخبرية، فكيف تنفون عن الله جل وعلا ما أثبته لنفسه؟ ليس لكم إلى ذلك سبيل إلا أن تجحدوا قول الله وقول النبي صلى الله عليه وسلم. والوجه الثاني: أن ظاهر القرآن وظاهر السنة يثبت لله صفة خبرية وهي صفة النفس، وأنتم خالفتم بقولكم: إنها مخلوقة ظاهر القرآن وخالفهم ظاهر السنة، وقد أجمع السلف على إثبات النفس لله جل وعلا صفة خبرية، وقد خالفتم هذا الإجماع. الوجه الثالث: إن ادعاءكم بأن هذه الصفة إضافة مخلوق للخالق، لو قلنا بقولكم يلزمنا لوازم باطلة، والقاعدة: أنه إذا بطل اللازم بطل الملزوم، فننظر إلى اللوازم الباطلة: قال الله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، الله جل وعلا اصطنع موسى وخلقه ليؤدي رسالته جل وعلا، وليعبد الناس ربهم جل وعلا، وليجعل الناس يوحدوا الله توحيداً تاماً خالصاً من كل شرك، فإذا قلنا بقولكم فسيكون معنى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] يعني: اصطنعتك لغيري، فمعنى ذلك: أن موسى يجعل الناس يعبدون غير الله! وهذا لا يقوله إلا كافر، وهذا كفر مبين، والله جل وعلا يقول: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:79]، فكيف يذهب موسى يعبد الناس لغير الله جل وعلا؟! هذا أول لازم باطل وهذا كفر مبين واضح جداً. الثاني: قول الله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] يعني: أن الله جل وعلا يغفر لمن أساء، فالرحمة يستلزم منها أن الله سيغفر لكم الذنوب، من أذنب وتاب وأناب فإن الذي سيغفر هو الله جل وعلا، فاللازم الباطل على قول الجمهية: كتب ربكم على غيره الرحمة، إذاً: غير الله جل وعلا هو الذي سيغفر هذا الذنب، فينيب العبد لغير الله جل وعلا، فأنتم ضاهيتم النصارى الذين يقولون بصكوك الغفران، تدخل المرأة الزانية ويدخل الرجل الزاني إلى القس فيعطيهما صك الغفران، ولا ينيبان إلى الله جل وعلا الذي يتوب على العصاة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن المذنب الذي يستغفر ربه أن الله جل وعلا عندما يقول العبد: رب قد أذنبت ذنباً فاغفر لي، فيقول الله جل وعلا-وهذا هو الشاهد-: (عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفره، فاشهدوا أني قد غفرت له). إذاً: الرحمة والمغفرة لله جل وعلا ليست لغيره. وهذه من اللوازم الباطلة التي تجعلنا نرد قولهم على وجوههم. فقوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] أي: لنفس الله جل وعلا. وقوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] أي: على نفسه جل وعلا.

الفوائد المستنبطة من الأحاديث التي تدل على فضل الذكر

الفوائد المستنبطة من الأحاديث التي تدل على فضل الذكر الفوائد المستنبطة من هذه الأحاديث الخمسة التي ذكرناها في فضل الذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الرجل بعدما كبر سنه يستنصحه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجعل لسانك رطباً بذكر الله)، ولو لم يكن لفضل الذكر إلا أن الله سيذكرك لكفى بها نعمة وفضلاً، فيلزم من أن الله جل وعلا يذكرك أن يحبك، وإذا أحبك نادى في السماء: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فينادي جبريل بعدما يحبه: يا أهل السماء! إني أحب فلاناً فأحبوه، ثم يكتب له القبول في الأرض، ويستلزم من ذكر الله جل وعلا لك أن يرحمك، وأن يثني عليك في الملأ الأعلى. ومن الفوائد المستنبطة من هذا الحديث العظيم في فضل الذكر: المعية. يقول الله تعالى: (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)، وقال: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) ومعية الله جل وعلا معيتان: معية عامة للمؤمن والكافر، ومعية خاصة. أما المعية العامة فهي معية العلم والإحاطة، قال الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:7]، السياق والسباق بالمقدمة والنتيجة يثبت أنه معهم بعلمه وقد أحاط بكل شيء علماً. ومعية خاصة: هي معية التسديد، ومعية التوفيق، والعبد الموفق هو العبد الذاكر لله جل وعلا، فلا تجعل وقتاً يمر عليك إلا وأنت تذكر الله جل وعلا، وفي كتاب شعب الإيمان أثر ضعيف جداً أنه قال: (اذكر الله حتى يقولوا: مجنون)، والمعنى أنك لا تنشغل إلا بذكر الله جل وعلا، فالعبد الذاكر هو عبد مسدد، وعبد موفق من الله جل وعلا، عبد يستجلب معية الله، ومن كان مع الله كان الله معه، فالله جل وعلا يكون معك إذا ذكرته، وإذا ذكرته جل وعلا فإن الله جل وعلا يسددك ويوفقك، لا تسمع إلا به، ولا تبصر إلا به، ولا تبطش إلا به، فهو معك بالتسديد والتوفيق، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً لنا هذه المعية مع الله عز وجل: (يا أبا بكر! لا تحزن فإن الله معنا) فالله جل وعلا جاءه بالنص، وأيضاً موسى عليه السلام {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ} [الشعراء:62 - 63]. إذاً: معية الله هنا: معية التسديد والتوفيق والنصرة والثبات، وموسى عليه السلام وهارون خافا عندما ذهبا إلى فرعون من بطشه وجبروته، فقال الله تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، ويستلزم ذلك أن أسددكما وأكون معكما بالتوفيق والنصرة والثبات. آخر الفوائد المستنبطة من هذا الحديث: أن الملائكة خير من بني آدم، عند من يقول بذلك، وفصلنا القول فيها، واختلف العلماء فيها على قولين: القول الأول: الملائكة خير من البشر، وعمدة أدلتهم هذا الحديث؛ لأن الله جل وعلا قال (ذكرته في ملأ خير منهم) وهذا الملأ صرح به في رواية أخرى قال: (في ملأ من الملائكة) فهذا بالتنصيص أن ملأ الملائكة خير من ملأ البشر. وقوله: (ذكرني في ملأ) ليس فيه حجة لأهل البدع الذين يتحلقون ويذكرون الذكر الجماعي، فالمقصود بـ (ذكرني في ملأ) مجالس العلم، وتعليم القرآن وتعليم السنة أو الفقه، والحديث يفسر الحديث عندما تأتي الملائكة السياحة وتنظر إلى مجالس العلم وتجلس وتحفهم حتى تصعد إلى الله جل وعلا إلى آخر الحديث فالله جل وعلا يقول (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) فهنا معنى (ذكرني في ملأ) أي: مجالس العلم، فيكون في مجالس العلم الثناء في الملأ الأعلى، أنت الآن منتشر اسمك بين الملائكة، وكل ملك يعرف اسمك ويعرف اجتهادك ومجلسك في حلقات الذكر وحلقات العلم. إذاً: يستدلون بقوله: (في ملأ من الملائكة)، يعني: خير من هذا الملأ وهو نص صريح. القول الثاني: جمهور من أهل العلم قالوا: صالحوا البشر خير من الملائكة، ويستدلون بأدلة كثيرة، وعمدة هذه الأدلة تفضيل الله لآدم على الملائكة حيث أمرهم بالسجود له، وأيضاً فضله عليهم بالعلم، فتمسكوا بالعلم قدر الإمكان؛ لأن آدم ارتفع على الملائكة قاطبة بالعلم، قال تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:33]، فعلم آدم ورفعه على الملائكة. والراجح في هذه المسألة ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية بالتوفيق بين هذين القولين: قال: إذا نظرنا للأولية قلنا بقول الأولين، وإذا نظرنا للآخرية قلنا بقول الآخرين، والمعنى: إذا نظرنا للأولية يعني: في الدنيا، قلنا بقول الأولين: يعني الملائكة أفضل؛ لأنهم يسبحون ويحمدون ويركعون ويسجدون ويفعلون ما يؤمرون ولا يعصون الله جل وعلا، وهذا في الدنيا، أما الإنسان فيخطئ ويعصي ويذنب، وهو ينيب ويستغفر، لكن يفعل المعاصي وليس كالملائكة في هذه الطهارة. أما إذا نظرت إلى الأخروية فنقول: قد استوى البشر مع الملائكة فأهل الجنة يلهمون التسبيح، فإذا دخلوا الجنان ارتقوا إلى مرتقى عال جداً فتفوقوا على الملائكة، وهذا من أبدع ما يجمع به، ففي الدنيا تكون الملائكة أفضل من البشر؛ لأن الإنسان يخطئ ويذنب في الدنيا، وفي الآخرة يكون البشر الذي يدخلون الجنة أفضل من الملائكة؛ لأن البشر في الجنة يلهمون التسبيح، فيستوي الملك مع البشر في ذلك. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على محمد وصحبه أجمعين.

تكملة الكلام على صفة النفس لله جل وعلا

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - تكملة الكلام على صفة النفس لله جل وعلا من الصفات التي يجب أن نثبتها لله عز وجل صفة النفس، فقد دلت عليها الآيات والأحاديث الواردة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونفسه سبحانه لا تشابه نفس المخلوق، وإن اتحدا في اللفظ؛ فإنهما يختلفان في المسمى والكيفية.

ما جاء في إثبات صفة النفس لله عز وجل

ما جاء في إثبات صفة النفس لله عز وجل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: أيها الإخوة الكرام! نحن ما زلنا مع الحديث في صفة النفس في هذا الكتاب العظيم -كتاب التوحيد لـ ابن خزيمة - الذي فيه صفات رب العالمين. قال المؤلف رحمه الله: [حدثنا عبد الجبار بن العلا العطار قال: حدثنا سفيان عن محمد بن عبد الرحمن وهو مولى آل طلحة عن كريب عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى صلاة الصبح وجويرية جالسة في المسجد فرجع حين تعالى النهار قال: (لم تزالي جالسة بعدي؟ قالت: نعم، قال: قد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بهن لوزنتهن، سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ومداد كلماته، ورضا نفسه، وزنة عرشه). قال: أبو بكر: خبر شعبة عن محمد بن عبد الرحمن من هذا الباب خرجته في كتاب الدعاء. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده: أن رحمتى نالت غضبي). وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله الخلق كتب بيده على نفسه: أن رحمتي تغلب غضبي). وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التقى آدم وموسى عليهما السلام فقال له موسى: أنت الذى أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ قال آدم لموسى عليهما السلام: أنت الذى اصطفاك الله برسالاته، واصطنعك لنفسه، وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فهل وجدته كتبه لي قبل أن يخلقني؟ قال: نعم، قال: فحج آدم موسى عليهما السلام (ثلاث مرات)) يريد كرر هذا القول ثلاث مرات. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: (إني حرمت على نفسي الظلم وعلى عبادي فلا تظالموا، كل بني آدم يخطئ بالليل والنهار ثم يستغفرني فأغفر له ولا أبالي (وقال: يا بني آدم! كلكم كان ضالاً إلا من هديت، وكلكم كان جائعاً إلا من أطعمت) فذكر الحديث. وعن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)]. تكلمنا في الأسبوع الماضي على صفة النفس، وأثبتناها بالكتاب وبالسنة، وليس بالعقل؛ لأنها صفة خبريه، والصفة الخبرية هي التي لا مدخل للعقل فيها، أي: لا نعلم أن اليد لله جل وعلا تكون كمالاً. إذاً: ثبتت هذه الصفة بالكتاب والسنة، حيث قال الله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، وقال عيسى عليه السلام كما بين الله لنا ذلك: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]. ومن الأدلة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (ومداد كلماته، ورضا نفسه) فهذا نص في أن لله نفساً، وهي صفة من صفات الله جل وعلا الثبوتية الخبرية، وفيه أن بعض الذكر أفضل من بعض، إذ إنها جلست مده طويلة تذكر الله جل وعلا، فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأربع الكلمات أنه حاز ما حازته بل وأكثر من ذلك، ففيه بيان للبيب المطيع لله جل وعلا الذي يقلل من الأعمال لكنه يكثر من الثواب إذا أتقن العمل الذي يصل به إلى ربه جل وعلا. وذكر المؤلف حديثاً مهماً جداً، وهو في كتابة الله جل وعلا على نفسه الرحمة، حيث كتب على نفسه أن رحمته سبقت غضبه، وهذا من الأحاديث التي يقال فيها: إنها أرجى الأحاديث للعاصي، فالعاصي إذا علم أن الله جل وعلا قوي جبار يأخذ بالذنب ويغفر، ومع جبروته وقوته فإن رحمته سبقت غضبه، فإذا علم العاصي ذلك لم يكن له إلا أن يطمع ويرجو رحمة الله جل وعلا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته). وفي بعض الإسرائيليات أن إبليس طمع في رحمة الله عندما قال الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] فقال إبليس: أنا شيء، يعني: شيء نكرة في سياق الإثبات تفيد الإطلاق، فقال: أنا شيء أي: دخلت في رحمة الله، فأتبع الله هذه الآية ثم قال: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156]، فقال اليهود: نحن من المتقين، فقطع الله دابرهم بقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف:157] فالغرض المقصود أن رحمة الله جل وعلا وسعت كل شيء، ولذلك ترى أن بعض الناس يقول: أنت لا ترحم ولا ترضى برحمة ربنا تنزل، وهذا كلام خطأ؛ إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم الرجل قال: والله ما كهرني ولا نهرني، فنعم المعلم هو صلى الله عليه وسلم، وخرج الأعرابي الذي بال من المسجد فرفع يديه وقال: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجرت واسعاً) فرحمة الله جل وعلا أوسع مما نتصور، وهذه تجعلنا نطمع في رحمة الله ونرجوها، لكن العلماء قالوا: إذا كنت تتعبد لله جل وعلا بالخوف والرجاء فغلب الخوف من العقاب وأنت حي قادر مطيع، وإذا كنت على شفير الموت فغلب الرجاء وأحسن الظن بالله جل وعلا. وذكر المؤلف حديث محاجة آدم وموسى، وفيه فوائد جمة تشرح في مجلدات، ومنها: أن الله جل وعلا كتب التوراة بيده، ففيه إثبات اليد لله جل وعلا، وهي من الصفات الثبوتية الخبرية التي لا مدخل للعقل فيها، فالله جل وعلا له يد، والكيف مجهول لا نعلمه لكن نؤمن به، قال الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. كذلك الله جل وعلا خلق آدم بيده، ففعل جل وعلا ثلاثة أشياء بيده: كتب التوراة بيده سبحانه وتعالى، وغرس غرس الجنة والفردوس الأعلى بيده، وخلق آدم بيده، والمقصود: أن الله جل وعلا فعل ذلك بيده، ثم الكون خلقه بكن، وإذا قال لشيء: كن كان. وكذلك يستنبط من هذا الحديث أن القدر يحتج به على المصايب لا على المعايب، يعني: لا يأتي رجل يزني بامرأة ويقول: قد قدر الله علي ذلك فماذا أفعل؟! وكما بينا في المثل المضروب في المرأة التي كانت تعتقد في القدر، فدخل عليها زوجها فوجد رجلاً يزني بها؛ فجاء ليقتله ويقتل المرأة فقالت: مهلاً ما فعلت ذلك إلا بقدر الله قال: نعم أؤمن بقدر الله، فلما رأت الرجل فيه هذه الدياثة فزعت من هذا الذي يفعله وقالت: لا والله ليس هذا بمذهب. والمقصود: أنه لا يمكن للإنسان أن يحتج بالقدر على المعايب، فمثلاً: رجل نام في الساعة الثالثة وضبط ساعة التنبيه على الساعة الثامنة لأجل الذهاب إلى العمل، وترك الفجر هل له أن يقول: قدر الله علي أنني لم أستيقظ لصلاة الفجر؟ ليس له أن يحتج بهذا، فهو مديون لربه، لكن المصيبة والبلية التي تنزل على الإنسان له يحتج بها. ففي الحديث: أن موسى عاتب آدم عليه السلام بإخراجه ذريته من الجنة قال: أنت أشغلتنا وأخرجت نفسك وذريتك من الجنة فهل هذه مصيبة أم عيب؟ مصيبة هو لم يعير بالذنب، ولم يقل له موسى: أكلت من الشجرة فعصيت ربك فأخرجتنا، وإنما ذكر له المصيبة، قال له: أخرجت نفسك وذريتك من الجنة، فاحتج بالقدر قال: أترى أن الله قد كتب علي ذلك -يعني: أن أخرج من الجنة- قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنه؟ قال: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى) يعني: احتج آدم بالقدر على المصايب لا على المعايب. أما حديث: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)، ففيه نفي الظلم وإثبات كمال الضد وهو العدل، وهذا هو الذي نثبته، إني حرمت الظلم على نفسي لكمال عدلي، فالظلم منفي عن الله لكمال عدل الله جل وعلا. والظلم نوعان: ظلم للنفس، وظلم لغير. أما الظلم للنفس: فهو التعدي على حدود الله جل وعلا، والتجرؤ على محارمه، وألا يجعل المرء ربه عليه رقيباً وهذا يعالج فيه الإنسان نفسه بأن يتبع السيئة الحسنة، وهو داخل في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. الظلم الثاني: ظلم المرء لغيره، وهذا لا يتوب المرء منه حتى يعفو عنه الرجل الذي ظلمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له عند أخيه مظلمة فليتحلل منها اليوم) يذهب إليه إن سبه يخبره أنه اغتابه ويقول: سامحني أو يدعو له في مجلسه، وإن أخذ مالاً يرجع له المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إنما هي الحسنات والسيئات)، فالذي ظل

باب إثبات العلم لله جل وعلا

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - باب إثبات العلم لله جل وعلا من الصفات التي يجب أن نثبتها لله عز وجل صفة العلم، فقد دلت عليها الآيات والأحاديث الواردة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأجمع الصحابة على إثباتها، والعقل شاهد على اتصافه سبحانه بهذه الصفة.

ما جاء في إثبات صفة العلم لله عز وجل

ما جاء في إثبات صفة العلم لله عز وجل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الله جلا وعلا في محكم تنزيله: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، وقال عز وجل: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود:14]. فأعلمنا الله أنه أنزل القرآن بعلمه، وخبرنا جل ثناؤه أن أنثى لا تحمل ولا تضع إلا بعلمه، فأضاف الله جل وعلا إلى نفسه العلم الذى خبرنا أنه أنزل القرآن بعلمه، وأن أنثى لا تحمل ولا تضع إلا بعلمه. فكفرت الجهمية وأنكرت أن يكون لخالقنا علم مضاف إليه من صفات الذات تعالى الله عما يقول الطاعنون في علم الله علواً كبيراً]. العلم صفة من صفات الله جلا وعلا الثبوتية التي ثبتت في الكتاب والسنة، بل هي ثابتة أيضاً بالعقل كما سنبين بعد الإجماع، فهي صفة ثبوتية ذاتية، ومعنى ذاتية أي: لا تنفك عن الله جلا وعلا، ولا تستطيع أن تقول هي فعلية؛ لأنها لا تتجدد، فإن الله لا يزال عالماً حكيماً خبيراً جلا وعلا، فصفة العلم صفة ثبوتية أزلية أبدية ثابتة بالكتاب وبالسنة والإجماع والعقل.

الأدلة من القرآن على إثبات صفة العلم لله

الأدلة من القرآن على إثبات صفة العلم لله أما الكتاب فقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء:35]، وقال الله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:6]، وقال جلا وعلا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، وقال جلا وعلا: {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد:8].

الأدلة من السنة على إثبات صفة العلم لله

الأدلة من السنة على إثبات صفة العلم لله وأما من السنة ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا تدري نفس ماذا تكسب غداً إلا الله) إلى آخر الحديث. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (علم الله جلا وعلا ما صائر إليه خلقه فهم صائرون إليه)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. ويقصد به القدر، أنه كتب كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة. كذلك صلاة الاستخارة فيها إثبات صفة العلم لله ونصها: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم) فهذا فيه إثبات العلم لله جل وعلا بالكتاب والسنة.

الإجماع والأدلة العقلية على إثبات صفة العلم لله

الإجماع والأدلة العقلية على إثبات صفة العلم لله كذلك الإجماع: أجمعت الصحابة على أن لله علماً ثابتاً بالكتاب والسنة، وهذا العلم أزلي وهي صفة ثبوتية، والعقل يدرك هذه الأشياء، وهذا الكون إنما وجد بإرادة، وهذه الإرادة تستلزم العلم، وبالمثال يتضح المقال، لو أردت شراء سيارة أحدث موديل وقلت: أنا لا أريد إلا هذه السيارة، فإرادتك لهذه السيارة تنبئ بأنك تعلم تفاصيلها وتعلم عنها كل شيء، وتعلم مميزاتها وعيوبها، فهذه الإرادة تنجم عن علم ومعرفة. ولما أراد الله خلق هذا الكون العظيم المبدع فهذا نابع عن علم، وأيضاً إتقان هذه الصنعة كهذه الجبال والأنهار والسماوات والشمس تجري لمستقر لها، والقمر يكون في الليل، والشمس يكون نهاراً وتغرب الشمس وتذهب تسجد تحت العرش، فكل هذا الإتقان يدل أنه نابع من عليم قدير. فالعقل يؤكد هذه الصفة، فنثبت لله جل وعلا صفة العلم على أنها صفة ثبوتية أزلية، وأن الله أحاط بكل شيء علماً، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، لا تواري عنه سماء سماءً ولا أرض أرضاً ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره؛ فإن الله جلا وعلا قد أحاط بكل شيء علماً، قال الله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]، و (شيء) هنا نكرة في سياق الإتيان تعم كل شيء دقيق وجليل يعلمه الله جلا وعلا، يعلم ما تحمل كل أنثى، وما تغيظ الأرحام وما تزداد. وقد قص الله على نبينا صلى الله عليه وسلم أخباراً لا يعرفها ولا درسها ولا تعلمها، وكانت معجزة من المعجزات التي كانت بين يديه، وقص الله عليه قصة يوسف عليه السلام وما حدث معه في غيابة الجب من الاضطرار الذي صبره، وما حدث له مع هذه المرأة التي دعته إلى الزنا فصبر عليها صبراً اختيارياً فضلاً منه صلى الله عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام. كذلك قص عليه قصة آدم وأنه أمر إبليس أن يسجد له فأبى واستكبر وكان من الكافرين، وقص عليه قصة إبراهيم عليه السلام، فعلم بما كان، ونحن الآن نعلمه من علم الله جلا وعلا، ويعلم سبحانه ما يقع في المستقبل، ونحن ننتظر أن يقع علم ما سيكون الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27]، فهذا حدث. كذلك قال الله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45]، وقال: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:1 - 3]، ولذلك أبو بكر قام خطيباً في أهل مكة وراهنهم على انتصار الروم، وهذا الرهان هو الرهان الصحيح، يعني: المقامرة هنا مقامرة صحيحة شرعاً، وإن كان الأصل في المقامرة المحرمة، لكنها هنا تصح؛ لأنها على يقين، لو راهن أحدٌ أحداً على أمر ليس فيه ضرب من المخاطرة يصح، ولذلك كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه على يقين من أن الروم ستغلب لأنه وحي من الله جل وعلا فراهنهم على ذلك وكسب الرهان حلالاً له. وأخبرنا صلى الله عليه وسلم بما سيكون وما زلنا ننتظر ما يقع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج من بعدي دجالون ثلاثون يدعون النبوة) فمنهم من ظهر وحتى الآن لم يكتملوا الثلاثين. كذلك قال صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعة سنوات خداعة يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون الأمين). إلى آخر الحديث. كذلك أخبرنا عن الدجال وما يحدث معه، وما أعطاه الله جل وعلا من صفات الربوبية ليختبر به إيمان العباد ابتلاءً وفتنة.

علم الله أحاط بكل شيء

علم الله أحاط بكل شيء علم الله ما يكون وما وقع، وما لم يقع، وعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، هو ليس موجوداً، لكن لو قدر الله أن يوجد هذا الممكن في الكون أمامنا شاهداً حاضراً فكيف سيكون، وهذا من العلم الممكن، قال الله تعالى عن الكافرين أنهم لا يسمعون سمع إجابة: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22 - 23]، إذاً: الله جلا وعلا لم يسمعهم سمع إجابة، ولو أسمعهم الله لعاندوا وتعنتوا، وأعرضوا عن الله جل وعلا، ومن الممكن أيضاً خروج المنافقين في الصف المسلم يعيثون فساداً في الصف المسلم، قال الله تعالى عن المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47]، فهذا أيضاً علم ما لم يكن لو كان كيف سيكون يعني: لو خرج المنافق مع النبي صلى الله عليه وسلم لأفسد في الصفوف الإسلامية، وهذا من الممكن. كذلك من الممكن في الآخرة عندما يقف أهل الكفر على النار، ويتمنون الرجعة، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام:27 - 28] يعني: لو قدر الله جل وعلا أن يخلق الدنيا مرة ثانية ويردهم إليها ويبعث إليهم محمداً فلن يؤمنوا له، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]، هذا كله في الممكنات الله يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، أما في المستحيلات لو كان للكون أكثر من خالق ماذا سيحدث؟! نحن لا نعلم، والله جل وعلا بين لنا أنه لو قدر أن للكون أكثر من خالق لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض ولذلك قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]. إذاً: علم الله جل وعلا علم شمولي أحاط بكل شيء علماً فعلم ما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، أنتم اعتقدتم هذا الاعتقاد الجازم في قلوبكم بأن صفة العلم لله جل وعلا ثابتة أزلية أبدية يعلم بها كل شيء عظيم ودقيق، يعلم ما كان وما م يكن لو كان كيف سيكون، قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31]، حتى هذه للغاية، ثم يقول لنا: (ولنبلونكم) ربما أنزل الله البلاء لكي يعلم المجاهدين والصابرين، والله يعلم كل شيء فكيف يقول (حتى نعلم) هنا في الآية؟ الصحيح أن سابق علم الله مكتوب في اللوح المحفوظ، لكن لو أتى الله جل وعلا بالعبد الكافر فقال: إني أعلم قبل أن أخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة أنك كافر، ورماه في النار، فقد تكون له الحجة على الله فيقول: يا رب! لو تركتني لكنت مؤمناً بك، ولذلك قال الله تعالى في الحكمة من إرسال الرسل: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، حتى لا تكون عندهم حجة {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فعلم الله جل وعلا يظهره، حتى يكون حجة على الناس، وهذا العلم يسمى علم المحاسبة، سيحاسبك الله عليه وإلا فهو يعلم كل شيء دقيقه وجليله.

علم الغيب وعلم الشهادة

علم الغيب وعلم الشهادة العلم نوعان: علم غيب، وعلم شهادة وكل ثابت لله، وقد علمه الله لبعض خلقه، وفاوت بين الناس درجات من هنا إلى السماء في أبواب العلم، وما من حديث وما من آية مدحت أهل العلم إلا والمقصود علم الشرع وهو علم الشهادة. وعلم الغيب كذلك نوعان: غيب مطلق وغيب نسبي، أما الغيب المطلق فلا يعلمه إلا الله، ومن ادعاه فقد كفر، قال الله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، هذا مطلق يشمل كل الغيب، فلا يعلمه إلا الله جل وعلا، ولا يشكل علينا قول الله تعالى: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:27]، فهو يعلمهم من الغيب ما يريد، فعلم الله النبي صلى الله عليه وسلم بعض أمارات الساعة إذاً الغيب المطلق لا يعلمه إلا الله جلا وعلا، أما الغيب النسبي فيمكن أن يعلمه البعض، ويغيب عن البعض، مثال ذلك ما يحدث في المسجد الآن هل هذا غيب عندنا؟ لا، ففي جلستنا هذه ما يحدث من الأخذ والرد والشرح هل يغيب عن أحد منكم؟ لا، لكن إن قدرنا أن رجلاً في الراشدية الآن بعيداً عن هذه الحلقة لا يعلم شيئاً عنا، فهذا بالنسبة له يسمى غيباً نسبياً، لكن عندنا علم شهادة، كذلك ما يحدث في أمريكا الآن نحن لا نعلمه لكن عند الأمريكيين هو علم شهادة وعندنا علم غيب، وهذا يوضح لك مسألة القرين الذي يخبر الكاهن بما يقع من الغيب النسبي. إذاً: الغيب نوعان: غيب مطلق لا يعلمه إلا الله جل وعلا، ومن ادعاه فقد كفر، وهنا مسألة الأبراج وحظك اليوم كذا واقرأ برج الأسد وبرج كذا وأنت سعيد وغداً ستحزن بكذا كل هذا الذي يطلع عليه أخشى عليه من الكفر، والذي يطلع عليه فيقصده فقد فعلَ فعل الكفر؛ لأنه اعتقد في غير الله ما لم يكن إلا لله، يعتقد أنه سيحدث له ما ذكر، فهذا كفر يخرج من الملة؛ لأنه بذلك يعتقد أن الغيب يعلمه غير الله، والغيب المطلق لا يعلمه إلا الله جل وعلا، بل الرسول لا يعلم الغيب، والحوادث التي وقعت ولا يعلمها الرسول كثيرة، وأشهر حادثة وقعت حادثة هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان عندما أخذت كبد حمزة رضي الله عنه وأرضاه أسد الله وأسد رسوله فلاكتها ثم لفظتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي لم يجعل جزءاً منه في النار) معتقداً بأن هند ستموت على الكفر، فأصبحت من الصالحات العابدات رضي الله عنها وأرضاها، فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لا يعلم الغيب، فالغيب لا يعلمه إلا الله، وأنتم تعتقدون ذلك وأنا أعتقد ذلك.

إخبار الكاهن ببعض المغيبات

إخبار الكاهن ببعض المغيبات هنا إشكال: الكهنة قد يخبرون بما سيحدث غداً ثم يحدث ما أخبروا به، فلو ذهب أحدكم إلى كاهن يسأله يقول لك: أنت في العام المقبل يوم الإثنين، في الساعة السادسة ستقابل امرأة اسمها كذا وستتزوجها، تأتي في العام المقبل يوم الإثنين في الساعة التي أخبر بها تنظر في المرأة فتجدها ثم تتزوجها، فهل يعلمون الغيب؟ لا، النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن ذلك وأخبر أن الجن يركب بعضهم فوق بعض ليخترقوا السمع، فيأخذ الجني الكلمة ثم يقرقرها للذي تحته وربما يأتيه شهاب قبل أن يقرقرها، ثم يقرقرها للذي تحته حتى تصل إلى الكاهن فيكذب معها مائة كذبة، لكن الإنسان ينظر في الكلمة التي صدق فيها، وهذا ليس بإشكال وليس بغيب؛ لأنه يخترق الجني هذه الكلمة من السماء ويقرقرها في أذن وليه. لكن السؤال والإشكال: ما الحكمة في ذلك؟ أليس الغيب كله لله جل وعلا؟ ما الحكمة في أن يعلم الكاهن جزئية من الجزئيات فيخبر عنها فيشوش على الناس، فيعتقدون في غير الله ما يعتقد إلا في الله؟ نقول: هذا ابتلاء من الله جل وعلا، أما أعطى الله الدجال أن ينظر إلى السماء فيقول: أمطري فتمطر، ويأتي إلى الخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتخرج، ويقتل المرء ويناديه: فيأتي متهللاً أمامهم؟! أعطاه الله شيئاً من صفات الربوبية بلاءً واختباراً لعباده، إذاً الغيب كله لله جل وعلا، فالغيب المطلق لا يعلمه إلا الله سبحانه.

الطوائف التي أنكرت صفة العلم لله

الطوائف التي أنكرت صفة العلم لله الذين أنكروا العلم هم ثلاثة أقسام: قسم أنكروا العلم فكفروا، وابن تيمية كفرهم وقال: كفرة الجهمية حيث نفوا عن الله العلم. أما المعتزلة وهم أفراخ الجهمية فنفوا عن الله علم ما يكون وأثبتوا له علم ما كان؛ ولذلك تراهم يقولون: إن الله لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوها يعني: إذا عمل العبد عملاً الله يعلمه. القسم الثالث: الفلاسفة المناطقة وهم كالجهمية وكلامهم سفسطة؛ قالوا: إن الله يعلم الكليات لكن لا يعلم الجزئيات، فهؤلاء الثلاثة الأقسام أفراخ لليهود قال ابن عيينة: إذا وجدت عالماً ضالاً فاعلم أنه من أفراخ اليهود، وإن وجدت عابداً ضالاً فاعلم أنه من أفراخ النصارى أو كما قال. فهذا الانحراف في صفات الله منبعه ومنشؤه اليهود الذين نفوا عن الله العلم، ولذلك قالوا: الله جل وعلا لما خلق آدم ثم خلق البشر وجد أنهم يعيثون في الأرض فساداً فبكى حتى أرمد يعني: الله جل وعلا كما في التوراة المزيفة التي حرفوها! أما الرد عليهم فهو يسير فنقول: أولاً: قد أثبت الله لنفسه صفة العلم، وأثبتها له رسوله، وأجمعت الأمة عليه، فكيف تنفون عن الله ما أثبته لنفسه، وتنفون عن الله ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ} [الإسراء:36]؟ لا بد أن تقول: سمعت وأطعت، آمنا بالله وبما جاء عن الله وعلى مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله، وخالفتم أيضاً الإجماع. الأمر الثاني: خالفتم ظواهر النصوص، وليس لكم ثمة أدلة. الأمر الثالث: أن من قال بقولكم يلزمه لوازم باطلة ومنها: أن تقول: إن الله إذا كان لا يعلم فهو يجهل، والجهل صفة نقص، والله منزه عن كل نقص، بل الجاهل لو قلت له: يا جاهل لصفعك على وجهك لأنك وصفته بالجهل، فالجهل صفة نقص والله جل وعلا وتعالى وتقدس منزه عن كل نقص، هذا ما يرد عليهم به. أما حكمهم: فغلاة الجهمية كفرة، وأما القدرية المعتزلة فلو قالوا بنفي علم ما يكون فإنهم يكفرون، ولكن المعتزلة قل منهم من ينفي العلم، ولذلك كان الشافعي يقول: حاجوهم بالعلم يعني: إذا نفوا العلم كفروا، وإذا أقروا بالعلم لا بد أن يقروا بالقدر؛ لأن الله يعلم أفعال العباد، وهو الذي خلقها، وكان بعضهم يقول: لا أقول: يعلم، وأقول: لا يجهل، يعني: أنه لا يثبت الصفة، لكن ينفي ضدها، ونحن قلنا: النفي المحض لا كمال فيه، بل لا بد أن يثبت في النفي كمال الضد فنقول: يعلم أي: لا يجهل، وهذه كانت مناظرة بين بشر المريسي عليه من الله ما يستحق وبين عبد العزيز المكي الشافعي وهو عالم من علماء السنة كان يناظره فقال: أنت تقول: لا يجهل فتنفي عنه الجهل، ونفي الجهل لا يستلزم حدوث العلم، فلا بد أن تقول: هو يعلم ثم تنفي عنه بعد ذلك الجهل ثم تثبت كمال الضد وهو العلم. قال الله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، فيه دلالة على أن الله يكون شهيداً، ونعم الشهيد جل وعلا، كما قال الله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ} [الأنعام:19]، وخير شهيد هو الله جل وعلا، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب في حجة الوداع قال: (اللهم قد بلغت، فأقروا وقالوا: قد بلغت، فرفع أصبعه إلى السماء فقال: اللهم فاشهد! اللهم فاشهد). كذلك قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} [النساء:166]، دلالة على علو الله جل وعلا، وأن نزول القرآن يكون من علو إلى سفل، وقوله: ((أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ)) هذا فيه رد على الزنادقة غلاة الشيعة. الذين يقولون: كانت النبوة لـ علي فأعطاها جبريل محمداً صلى الله عليه وسلم، فالله يعلم أين يجعل رسالته، وهو يعلم أنها تنزل على محمد، فلو خان جبريل فترك علياً وذهب إلى محمد إذاً الله جل وعلا غافل حاشا لله أن نقول ذلك! قال تعالى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، وفي الآيات رد على الزنادقة غلاة الشيعة الذين يقولون: إن جبريل خان الرسالة فجعلها لمحمد. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

باب ذكر إثبات وجه الله تعالى

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - باب ذكر إثبات وجه الله تعالى يثبت أهل السنة لله تعالى ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، ومن ذلك الوجه، فقد ثبتت هذه الصفة الخبرية في القرآن والسنة، ولم يثبتها أهل البدع، وأولوها بالثواب أو الذات، وقد ورد عليهم أهل السنة وبينوا بطلان تأويلهم الذي هو في الحقيقة تحريف للمعاني بلا حجة ولا برهان.

إثبات صفة الوجه لله تعالى

إثبات صفة الوجه لله تعالى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: لا زلنا مع كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل، لإمام الأئمة ابن خزيمة، وسنتحدث عن صفة من صفات البارئ جل وعلا، ألا وهي صفة الوجه. قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115]. الوجه صفة من الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، فهي صفة تليق بجلال الله وكماله، وهذه الصفة صفة ثبوتية، أي: أن الله أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعتقد اعتقاداً جازماً أن الله يوصف بأن له وجهاً، ووجه الله له صفات كما سنبينها، وهذه الصفة صفة ثبوتية خبرية لا مدخل للعقل فيها، وهي ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف، أما الكتاب فقد قال الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]. وقال جل وعلا: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وقال جل وعلا: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، وهي أيضاً ثابتة بالسنة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)، إلى أن قال: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وبصر الله ينتهي إلى جميع خلقه، وقوله: سبحات وجهه أي: أنوار وجهه. وفي الصحيح أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه)، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً ممن يتمتع برؤية وجه الله الكريم، والمعنى: رداء الكبرياء والعظمة على وجه الله جل وعلا. وأيضاً في السنن بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمنا إذا دخلنا المسجد أن نقول: (أعوذ بالله العظيم ووجهه الكريم وسلطانه القديم)، والشاهد: (ووجهه الكريم)، فثبتت هذه الصفة في السنة كما ثبتت في الكتاب. وأجمع سلف الأمة على أن لله وجهاً يليق بجلاله وكماله، وأن وجه الخالق ليس كوجه المخلوق، ومن قال: إن وجه الله كوجه فلان من الناس فقوله كفر؛ لأنه شبه الخالق بالمخلوق، قال نعيم بن حماد شيخ البخاري: من شبه الخالق بالمخلوق فقد كفر، فنحن نثبت لله وجهاً لكنه يليق بجلاله ويليق بجماله وكماله جل وعلا، فأجمع سلف الأمة على أن لله وجهاً يليق بجلاله وكماله لا يشبه وجه المخلوقين، قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، ووجه الدلالة في الآية أن وجهاً عند أهل النحو يعرب: فاعلاً، وهو مضاف إلى الرب، والمضاف إلى الله نوعان، أعيان قائمة بذاتها ومعان، فمن الأعيان التي تضاف إلى الله: عيسى روح الله فقد أضيف إلى الله، ومثله الكعبة بيت الله فالكعبة مضافة إلى الله جل وعلا، ومنه أيضاً: ناقة الله، فالناقة مضافة إلى الله جل وعلا، فهذه المضافات أعيان قائمة بذاتها، والأعيان القائمة بذاتها إذا أضيفت إلى الله تسمى أضافتها: إضافة تشريف. النوع الثاني من المضافات: المعاني، وهي: ليست أعياناً قائمة بذاتها، والمعاني إذا أضيفت إلى الله جل وعلا تكون إضافتها إضافة صفة إلى الله مثل قولنا: القرآن كلام الله، فالكلام مضاف إلى الله، ومعلوم أن الكلام معنى لا عين، والمعنى إذا أضيف لله فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والوجه معنى من المعاني، أضيف إلى الرحمن فإضافته إضافة صفة إلى الموصوف.

صفات وجه الله تعالى

صفات وجه الله تعالى الوجه الثابت لله تعالى صفة تليق بجلاله له أوصاف، ثبتت في الكتاب وفي السنة، وحينما يعتقد المسلم هذه الأوصاف فإنه يعرف كيف يتعبد لربه بهذه الأوصاف. الوصف الأول في الكتاب: قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، فقد وصف هذا الوجه بأنه: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، فوجه الله موصوف بالجلال، وموصوف بالإكرام، ومعنى الجلال العظمة والسلطان، فالمعنى: أن العظمة كلها لله جل وعلا، وأن السلطان لله جل وعلا بأكمله. الوصف الثاني: الإكرام، والإكرام مصدر أكرم، وقولنا: وجه الله مكرم أي: أننا نكرم وجه الله، ولا يعني ذلك أن الله جل وعلا يحتاج لأحد أن يكرمه حاشا لله، بل إن إكرامك أنت لوجه الله يعني: الثناء عليه بالأسماء الحسنى والصفات العلى، فثناؤك على الله إكرام لوجهه جل وعلا؛ لتنال جزيل الثواب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أحد أحب إليه العذر من الله، ولذلك أرسل الرسل، وما أحد أحب إليه الثناء من الله، ولذلك أمر عباده أن يمدحوه)، وفي الحديث: (قال: حمدني عبدي، أثنى علي عبدي) فالثناء عبادة من أجل العبادات، فوجه الله مكرم أي: مثنى عليه به من عباد الله الصالحين، فأنت تثني على الله فتقول: رب له الجمال وله الكمال وله وجه يوصف بأنه له الكمال وله الجلال. كما ثبتت صفة الوجه في الكتاب فقد ثبتت أيضاً في السنة كما تقدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رداؤه الكبر أو الكبرياء على وجهه، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وسبحات وجهه أي: أنوار وجهه، وكما أن وجه الله له الجلال، وله الإكرام، فوجه الله له نور، ونور وجه الله جل وعلا لو بلغ البشر لأحرقهم، وصفة الأنوار لوجه الله تعالى تجر المرء أن يقدر الله حق قدره، ولذلك عاب الله على قوم لم يعظموا الله حق عظمته، قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، وقال أيضاً: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، فأنت لو علمت أن لربك الإجلال والإكرام والسلطان وأن له وجهاً له أنوار فلا بد أن تكرم هذه الوجه وتعظم الله حق التعظيم، ولذلك نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك في نفوس العباد فقال: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) فأنت من تعظيمك وتقديرك لجلال الله ولسلطان الله ولعظمة وجه الله لا تسأل بوجه الله إلا أغلى شيء أنت تحتاج إليه وهو الجنة، فلا تسأل الله بوجهه إلا الجنة، ولذلك يعاب على امرئ يريد اللقمة أو اللقمتين أو الدرهم أو الدرهمين فيسأل بوجه الله، وهذه خسة، فالصحيح أن المرء لا يسأل بوجه الله إلا شيئاً عظيماً، وإن سئل بوجه الله فلا ينبغي أن يرد السائل بل يعطيه، من باب تعظيمه لوقار الله ولجلال الله ولكمال الله.

بدعة نفي صفة الوجه

بدعة نفي صفة الوجه نفي صفة الوجه أهل التعطيل والنفاة الذين يحرفون صفات الله جل وعلا، وما أدري كيف يعيشون في هذه الدنيا ثم يرحلون إلى الله جل وعلا فكيف يرونه يوم القيامة؟ وهل سيسعدون برؤية وجه الله وهم ينفون عن الله الوجه، فيقولون: لا وجه له؟! هل سيسعدون بذلك وقد أولوا الصفة فقالوا: الوجه معناه الذات، وقالوا: الله ليس له وجه؛ لأننا لو قلنا بأن الله له وجه شبهناه بالخلق، فقالوا: الوجه هنا بمعنى الذات، وقالت طائفة منهم: الوجه بمعنى الثواب، فقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] أي: إلا ثوابه. ولأنهم أولوها بالذات وبالثواب فقد قالوا: صفة الوجه صفة مخلوقة، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، ثم أحدثوا تساؤلاً فقالوا: هل يخص الوجه دون الذات بالبقاء فقط؟ وهل يعقل هذا أو يتكلم به أحد؟ فإن قيل: لا، قالوا: إذاً: ما ذكر الوجه إلا وهو يقصد الذات، ولا يمكن أن نقول: إن ذات الله تفنى، -حاشا لله- ويبقى الوجه فقط، إذاً قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، دلالة على أن ذاته ستبقى، فالوجه هنا بمعنى الذات. ومما استدلوا به على التأويل أيضاً: عمل المخالف فقد خاطبوا المخالفين فقالوا: أنتم تدعون السلفية وأنكم تتبعون السلف، فلماذا أولتم قوله تعالى: {أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، فقلتم: وجه الله في هذه الآية يعني: قبلة الله، وهذا تأويل، فلنا أن نؤول فنقول: ويبقى وجه الله أي: تبقى الذات، وليس هناك ثمة فرق.

الرد على بدعة نفي صفة الوجه

الرد على بدعة نفي صفة الوجه يرد على من نفى صفة الوجه بالإجمال ثم بالتفصيل، أما الرد عليهم إجمالاً فنقول: لقد خالفتم كتاب الله جل وعلا في قولكم: الله ليس له وجه، فقد قال عن نفسه: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:20]، فقد خالفتم ظاهر القرآن وخالفتم أيضاً ظاهر السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت لله وجهاً وقد تقدم الحديث قريباً، وخالفتم إجماع السلف، وقد خالفتم قول الله تعالى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، ولا علم لكم بهذا، هذا الرد إجمالاً. أما الرد تفصيلاً فنقول: أولاً: زعمكم أن المقصود بالوجه هنا هو الذات كلام مردود بالكتاب وبالسنة، أما بالكتاب فقد قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ} [الرحمن:27]، وجعل الوجه مضاف إلى الرب، ويقصد بالرب هنا الذات، فلا يمكن أن نقول: إن الله جل وعلا أنزل لنا الكتاب بلسان عربي مبين يكرر الذات مضافاً للذات، إذ إن هذا منكر في لغة العرب، وبذلك علم أن الوجه صفة مضافة إلى الذات، وأيضاً في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] كلمة: (ذو) مرفوعة لأنها صفة لوجه، وبذلك يعلم أن الوجه يخالف الذات؛ لأن الرب هنا مضاف إليه مجرور، فلو نعت بذي لقال: ذي الجلال والإكرام، لكنه لما قال: ذو دل ذلك على أنها صفة للوجه لا للرب. أما السنة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم)، ومعلوم أن الأصل في العطف المغايرة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد استعاذ بالذات فقال: أعوذ بالله العظيم، ثم استعاذ مرة ثانية بالصفة فقال: وبوجهه الكريم، ولو كان الوجه بمعنى الذات لكان التكرار لا معنى له، وكانت الجملة الثانية لغواً، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم فيتعين أن معنى: أعوذ بالله العظيم: الاستعاذة بالذات المقدسة، ثم غاير وقال: (وأعوذ بوجهه الكريم)، فاستعاذ بالصفة. ويبقى عليه لازم باطل وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يقول: (أعوذ بوجهه الكريم)، استعاذ بغير مخلوق، فيرد عليهم بأن هذه الصفة مخلوقة؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، فقد استعاذ بصفة من صفات الله جل وعلا. أما قولكم بأن الوجه في الآية بمعنى الثواب، وأن المعنى: يبقى ثواب ربك، أو: كل شيء هالك إلا الثواب فهذا مخالف لظاهر القرآن والسنة ويلزم من هذا القول لوازم باطلة هي كالتالي: اللازم الأول: أن يوصف الثواب بأنه ذو جلال وإكرام، وهذا لا يمكن بحال من الأحوال، فوصفه بذلك باطل معلوم البطلان؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]. فوصف الوجه بذو الجلال والإكرام ولا يمكن أن يوصف الثواب بأنه ذو الجلال والإكرام. اللازم الثاني: يلزم من قولكم أن الوجه معناه الثواب أن الثواب له بصر وله أنوار جلية تحرق البشر، ويفهم هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فلو أن الوجه بمعنى الثواب لكان معنى الحديث: لأحرقت سبحات ثوابه ما انتهى إليه بصره من خلقه! وهذا يدل على بطلان قولهم. اللازم الثالث: يلزم من القول بأن الوجه هو الثواب أن النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بمخلوق وحاشاه، فهو لا يستعيذ إلا بالخالق جل وعلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأعوذ بوجهه الكريم)، فلو وضع الثواب موضع الوجه، لكان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: وأعوذ بثوابه العظيم، وبهذا القول نجعل النبي صلى الله عليه وسلم يبيح الاستعاذة بغير الله وهذا شرك، وبذلك يرد على المعتزلة النفاة الذين ينفون الصفة، وتصفوا لنا الأدلة بأن لله وجهاً، ووجه الله جل وعلا ذو جلال وإكرام وذو أنوار ولا يسأل بوجه الله إلا الجنة. أما اعتراضهم بقول الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ} [البقرة:115]، فإن هذه الآية كما ذكر علماء التفسير نزلت خاصة في السفر، ومعلوم أن السياق من المخصصات؛ فإنهم إذا كانوا على الراحلة في السفر صلوا إلى غير القبلة، فحيثما توجهت الراحلة فثمة القبلة، والنبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر، وكان على راحلته لم يشترط استقبال القبلة، بل حيثما توجهت به الراحلة صلى، فنزلت الآية لترفع الحرج عن المؤمنين في السفر وتبيح لهم أن يصلوا حيثما توجهت بهم الراحلة أو ما يقوم مقامها اليوم من طائرة أو عربة أو غيرهما، قال الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] وفي هذه الآية قولان للسلف: القول الأول: أن معنى ((وَجْهُ اللَّهِ)): قبلة الله، ويستدلون على ذلك بأن السياق الذي نزلت فيه الآية يفسر المقصود من الآية. القول الثاني وهو القول الراجح من أقوال السلف: أن قول الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي: هناك وجه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه)، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبصق المصلي أمامه أو عن يمينه؛ لأن الملك عن يمينك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإما في ثيابه أو عن يساره) فنهى أن يبصق المصلي أمام وجهه؛ لأن الله قبل وجهه، فقول الله تعالى: ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) معناه: أنك لو كنت في صحراء وحضرت الصلاة وأنت مأمور أن تقصد الكعبة، وما استطعت أن تعرف اتجاه الكعبة، ثم اجتهدت في الجهة فصليت وأخطأت هذا المقصد أو هذا الاتجاه، وقد اجتهدت قدر استطاعتك عملاً بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]؛ فإن الله جل وعلا يقبل صلاتك وهو قبل وجهك، فيكون معنى قوله تعالى: ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)): إثبات لصفة الوجه لله جل وعلا وزيادة إخبار بأن الله يكون قبل وجهك حتى لو اجتهدت ولم تستطع تحديد الجهة الصحيحة للكعبة.

معنى قوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه)

معنى قوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه) يقول تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، قال أهل العلم في تفسير هذه الآية: هو عامة يراد بها الخصوص أو هي عامة مخصوصة؛ لأن هناك أموراً أو أشياءً لا تهلك، فليس كل شيء هالك، بل إن معنى الآية: كل شيء قابل للهلاك، وهناك أشياء غير قابلة للهلاك، فوجه الله وذاته المقدسة تبقى، ويبقى أيضاً ثمانية أشياء: الجنة، والنار؛ لأن الله خلق الجنة للبقاء وخلق النار للبقاء كذلك فهما لا تفنيان، ومما يبقى كذلك اللوح المحفوظ والقلم، والكرسي، والعرش، وعجب الذنب الذي ينبت منه الإنسان بعد أن ينزل الله على الأرض مطراً كمني الرجال والأرواح، فأرواح المؤمنين في عليين وأرواح الكافرين في أسفل سافلين، فتبين أن قول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] يعني: قابل للهلاك، ونظائر ذلك في الشرع كثيرة، منها قول الله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25]. فقوله تعالى: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ))، ورد فيه لفظة (كل) وكل نص في العموم ومع ذلك قال تعالى: ((فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ))، فالمساكن لم تدمر، فيكون معنى الآية: كل شيء قابل للتدمير بالريح، فالريح لا تدمر المساكن وهي غير الأعاصير التي تحدث للكفرة في أيامنا هذه، إذ إن هذه آية من آيات الله جل وعلا، فمعلوم أن الأصل في الرياح أنها لا تدمر المساكن لقوله تعالى: ((فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)). ومن نظائر ذلك أيضاً قول الله تعالى عن الملكة بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، فليس المعنى أنها أوتيت من كل شيء، فهي مثلاً لم تعط ما خص به الرجال عن النساء من لحية وغيرها، وإنما أوتيت من كل ما يمكن لملكة أن تعطاه، وبذلك يعلم أن قول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ليس على عمومه، بل هناك أشياء تبقى منها ذات الله المقدسة والوجه وثمانية أشياء خلقت للبقاء وسبق ذكرها. وقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] يدل على بقاء وجه الله، وإذا بقي وجه الله جل وعلا لزم أن تبقى ذات الله جل وعلا، وأيضاً يستلزم من ذلك أن العمل الصالح لا يفنى، بل يبقى حتى يثاب عليه المرء؛ لأن أي عمل ابتغي به وجه الله يأخذ نفس الحكم ويبقى حتى يثاب عليه المرء الثواب العظيم.

فوائد مستنبطة من قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)

فوائد مستنبطة من قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) قول الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، قال المفسرون: فيها إشارة إلى أن العمل لا يقبل إلا بالإخلاص، ومما يؤكد ذلك ما ثبت في الصحيحين أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أرأيت الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل للمغنم أي ذلك في سبيل الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، فابتغاء وجه الله جل وعلا دلالة على أهمية الإخلاص، وأن العمل لا يقبل عند الله جل وعلا إلا بالإخلاص، ومعلوم أن العمل لا بد له من شرطين: الشرط الأول: الإخلاص، والشرط الثاني: متابعة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110] أي: متبع فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] أي: مخلص لوجه الله الكريم. كما يستنبط من قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} [الكهف:28]، الحرص على مصاحبة الجليس الصالح، والنفور عن جليس السوء؛ لأن الجليس الصالح إما أن يذكرك بآية أو بحديث أو يرشدك لعلم قد جهلته أو يتعلم منك علماً جهله هو، فتفوز أنت ويفوز معك، بخلاف جليس السوء الذي يقودك إلى المعصية والرذيلة. ويستنبط أيضاً من هذه الآية أنك إذا خاللت فينبغي أن لا تخالل إلا العالم السلفي ولا تخالل المبتدع ولا الذي لا يتخذ كتاب الله جل وعلا ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم منهجاً له؛ لأنك إما أن تبتدع كما ابتدع ثم لا تقبل توبتك عند الله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا حجب التوبة عن كل مبتدع، وإما يحيّزك عن كتاب الله، وإما أن لا يربطك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

تكملة باب ذكر إثبات صفة وجه الله تعالى

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - تكملة باب ذكر إثبات صفة وجه الله تعالى إن لله عز وجل من صفات الجلال والكمال ما يزيد المؤمن إيماناً، ومن صفات الله وجهه الكريم، الذي لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، فعلى المؤمن أن يبذل في الدنيا نفسه وماله وحياته لله؛ شوقاً إلى لقائه، وطمعاً في النظر إلى وجهه.

أدلة إثبات صفة الوجه لله عز وجل

أدلة إثبات صفة الوجه لله عز وجل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: ما زلنا مع شرح هذا الكتاب العظيم الجليل كتاب التوحيد، وإثبات صفات ربي عز وجل، وهذا الكتاب هو لإمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة. لقد تكلمنا عن إثبات صفة الوجه، وبينا الرد على كلام المبتدعة الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، نفوا هذه الصفة، وكذلك الذين أولوها بالذات، وهنا نستكمل الكلام على هذه الصفة، ثم نشرع في الفوائد المستنبطة من الروايات التي ذكرها المصنف، فالوجه لله جل وعلا هو صفة كمال، وجلال، وبهاء، وعظمة، وهذه الصفة قد ثبتت لله جل وعلا بالكتاب، وبالسنة، وبإجماع الصحابة الكرام.

الأدلة من القرآن

الأدلة من القرآن أما إثباتها بالكتاب فقد قال الله تعالى مبيناً الاعتقاد الصحيح فيه جل وعلا، وأن له صفة الوجه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]. وهذه الآية فيها إثبات للوجه، وصفة الوجه لله تعالى الصفات الخبرية، ووجه الدلالة في الآية: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، هو أن الله أضاف الوجه له جل وعلا، ونحن نقول: إن الصفة إذا ذكرت مطلقة، فإننا لا نستطيع أن نثبتها لله جل وعلا إلا أن يضيفها إلى نفسه عز وجل، وإن كانت هناك صفة جرى الكلام عليها، وقلنا: إنها خرجت عن هذه القاعدة في الصفات فصفة الوجه نثبتها لله جل وعلا؛ لأنه قد أضافها إلى نفسه، وهناك في الكلام عن صفة الساق لم يضفها إلى نفسه وأثبتناها له، وقلنا: إنها خرجت عن القاعدة، وذلك في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]. فهنا لو لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سيكشف عن ساقه يوم القيامة فيخرون سجداً له لما قلنا: إن لله ساقاً؛ لأن الآية بمفردها لا نستطيع أن نستدل بها على أن لله ساقاً، حيث لم يضفها إلى نفسه، وأما هنا في صفة الوجه فإنها مضافة إلى الرب عز وجل. وكذلك قال الله تعالى: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة:272]، وهنا صفة الوجه أيضاً مضافة إلى الله جل وعلا. أيضاً قول الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، وهذا تصريح بإضافتها إلى الله، فإن (ذو) هنا صفة للوجه، فالوجه ذو جلال وإكرام. وأيضاً قال الله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19 - 21]، يعني: ابتغاء وجه الله جل وعلا، فأضاف الوجه لنفسه تعالى. والآيات في هذا كثيرة.

الأدلة من السنة

الأدلة من السنة أيضاً وردت من السنة أحاديث كثيرة أثبتت الوجه الله جل وعلا، منها: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك). وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وما بين القوم، وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنات عدن). وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعا بقوله: (وأسألك بنور وجه الله جل وعلا الذي أشرقت له السموات والأرض، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة). فالأحاديث في هذا كثيرة، وكلها أثبتت هذه الصفة العظيمة، وهي صفة الجمال والكمال والجلال لله جل وعلا أي: صفة الوجه الله.

إجماع الصحابة

إجماع الصحابة أجمع الصحابة الكرام على أن الله جل وعلا يتصف بهذه الصفة الخبرية، وهي صفة الوجه، فإذا سألك سائل وقال: أتعتقد أن لربك وجهاً؟ فأجب: نعم. فلو قال: كيف هو؟ فقل له: نقف عند ما جاءت به الآيات: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، فوجه الله ذو جلال وإكرام، وأما السؤال عن الكيف فلا يصح، فإن الصفة معلومة، والكيف مجهول، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، يعني: السؤال عن الكيفية بدعة، فلوجه الله كيفية لكننا لا نعلمها، ولكن الله يعلمها، ولا بد أن نؤمن بها، ولا بد أن نعلم أن الوجه في اللغة معلوم.

الأدلة من العقل

الأدلة من العقل إن العقل يثبت أن لله وجهاً، وإذا قيل في الصفات الخبرية: إنها تثبت بالعقل فليس معنى ذلك: أن للعقل مدخلاً فيها، بل المراد أن العقل لا يرفضها، فصفات الله جل وعلا كلها صفات كمال وجلال.

مستلزمات الإيمان بصفة الوجه لله تعالى

مستلزمات الإيمان بصفة الوجه لله تعالى إذا علم أحد أن لربه وجهاً كله بهاء وأنوار، وجلال، وعظمة، واعتقد هذا الاعتقاد الصحيح، فواجب عليه أن يسعى سعياً حثيثاً لإكرام وإجلال وإعظام هذا الوجه، ويتشوق إلى رؤية هذا الوجه الكريم، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم من شدة شوقه إلى رؤية وجه الله يقول: (وأسألك الشوق إلى لقائك، وأسألك لذة النظر إلى وجهك). فلا بد على المؤمن التقي أن يتهيأ بالأعمال لرؤية هذا الوجه الكريم، وحتى يصل إلى درجة أن ينظر إلى وجه الله جل وعلا في جنات عدن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمولاه عندما قال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: (أعني على نفسك بكثرة السجود)، فعند أداء الفرائض -وهي أحب ما تكون لله جل وعلا- ثم إتباع الفرائض بالنوافل حتى يتهيأ فيقف أمام ربه ويسأله النظر لوجهه الكريم، كما تشوق موسى عليه السلام وقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، وذلك عندما استمع إلى صوت الله جل وعلا فاشتاق إلى رؤية وجه الله الكريم، ولكن وجه الله، أنوار وبهاء وعظمة، فعندما تجلى للجبل جعله دكاً، بل كل الجبال ستكون دكاً إذا تجلى لها الله جل وعلا بأنواره وسبحات وجهه، وهذا هو الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يتشوق إلى رؤية وجه الله الكريم. كذلك لا بد خصوصاً على من آمن بهذه الصفة أن يسارع في الخيرات ويبدأ بالقلب أولاً، ويجتهد في تطهيره من كل دنس، وتطهيره من الحسد والحقد والغل وغير ذلك من الأمراض والأدواء التي هي من أمراض القلوب. ثم بعد ذلك يطهر أعماله الظاهرة، ولسان حاله يقول: وعجلت إليك ربي لترضى، فيسعى ليهيأ نفسه حتى ينظر إلى وجه الله الكريم، أو يكون ممن يستحق أن يرى وجهه الكريم، فإن كثيراً من الناس خسروا رؤية الله جل وعلا كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، نعوذ بالله من ذلك، فيكون قد هيأ نفسه أولاً، ثم ينصح كل الأمة أن تتخلى عن المعاصي، وعن النظر إلى الحرام؛ لأن هذا مدعاة لعدم رؤية الله جل وعلا، أو حرمان المتعة الكاملة برؤية الله، فالمتعة برؤية الله مرتبطة بالطاعة، ومن يرى الله في الفردوس الأعلى لا يكون كمن يراه في أقل درجة من درجات الجنة، فإن المتعة تتفاوت، كما أن الدرجات تتفاوت في الخير وفي الفضل. فمن المسارعة في الخيرات أن يبتعد عن المعاصي والمساوئ والسيئات، وكذلك لابد للإنسان حتى ينظر إلى وجه ربه الكريم أن يخلص العمل لله جل وعلا، ولوجهه سبحانه. فإنه اعتقد أن لربه هذه الصفة العظيمة الجليلة، فيلزمه أن يخلص العمل لربه الجليل كما قال الله تعالى مادحاً أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه خير هذه الأمة بعد نبينا: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19 - 21]، وهذا مدح وبشارة لـ أبي بكر، فهو الذي اعتقد اعتقاداً جازماً صحيحاً سليماً بأن لربه وجهاً كريماً، فإذا به يريد أن يرى هذا الوجه، فعمل مخلصاً لوجه الله، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعمال التي تقبل عند الله قال: (لا يقبل الله من العمل إلا ما كان صالحاً، وابتغي به وجهه). فإن شرط القبول للأعمال هو ابتغاء وجه الله جل وعلا فيها، فإذا اعتقدت بأن لله وجهاً فلا بد أن تسعى وترتقي بأنوار الإيمان؛ لترى ربك جل وعلا.

جلال وعظمة صفة الوجه لله تعالى

جلال وعظمة صفة الوجه لله تعالى

وجه الله تعالى كريم ذو جلال

وجه الله تعالى كريم ذو جلال إن لوجه الله صفات وسمات بينها لنا الله في كتابه، وبينها لنا رسوله صلى الله عليه وسلم. وصف الله وجهه بأنه ذو جلال وإكرام، فقال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. فوجه الله ذو الجلال والعظمة، والبهاء، والإكرام، وجه الله جل وعلا لا بد أن يكرم ويجلَّ، فالله له الكمال المطلق، والعظمة المطلقة، فيكرم وجه الله جل وعلا، ويتذلل العبد لوجه الله جل وعلا بالسجود بخضوع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا قام في مصلاه يصلي فإن الله قبل وجه هذا المصلي)، فإن الله مع علوه قريب قبل هذا العبد الذي يصلي، فيكرمه المصلى بتذلله وإخلاصه لله. وليست الصفة نفسها هي التي تكرم، بل الذي يكرم هو الله جل وعلا، فإذا أكرمت وجهه فإنه يكرمك، وإذا تذللت وسجدت خاضعاً لربك جل وعلا، فإنك تأتي يوم القيامة فيكرمك الله؛ لأنك أكرمت وجهه ذو الجلال والإكرام.

عظمة سبحات وجهه تعالى

عظمة سبحات وجهه تعالى وجه الله جل وعلا له سبحات، فورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام)، ثم قال في آخر الحديث: (حجابه النور)، وفي رواية: (حجابه النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) يعني: أحرقت أنوار وجه الله جل وعلا كل ما انتهى إليه بصره من خلقه، وبصر الله ينتهي إلى كل شيء، أي: يصل إليه، فلو كشف الله الحجاب لأحرق الدنيا وما عليها، والسموات ومن فيها.

رداء الكبرياء على وجهه تعالى

رداء الكبرياء على وجهه تعالى وصف الرسول وجه الله تعالى بأن عليه رداء كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الكلام عن الجنان: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه جل وعلا). فهناك رداء على وجه الله، وهو رداء الكبرياء، ولذلك فإن كل متكبر لا يدخل الجنة؛ لأنه ينازع الله جل وعلا في صفة من صفاته، وهي صفة الكبرياء. وأيضاً جاء في الأحاديث الصحيحة أن هناك حجاباً آخر لله تعالى وهو النور، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور)، وفي رواية أخرى صحيحة أيضاً قال: (حجابه النار)، فرداء الكبرياء على وجهه سبحانه وتعالى، وحجابه النور وحجابه النار، وقد ورد في بعض الآثار بأسانيد صحيحة عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (فإن لله سبعين حجاباً). وفسر العلماء ذلك أن كل هذه تعتبر حفاظاً على البشر؛ لأن الله جل وعلا لو أشرقت أنوار وجهه على الدنيا لأحرقت كل هذه الدنيا.

فوائد من الأحاديث التي ذكرها المصنف

فوائد من الأحاديث التي ذكرها المصنف

فضل المجاهد المخلص

فضل المجاهد المخلص نذكر هنا بعض الفوائد المستنبطة من بعض الأحاديث التي ذكرها المصنف. من هذه الفوائد المستنبطة من الرواية الأولى أن الجهاد هو أرفع الطاعات، فلا يمكن أن يقبل الجهاد عند الله جل وعلا إلا عند ابتغاء وجهه به، وهذه الفائدة مستنبطة من الحديث: (مثل المجاهد في سبيل الله ابتغاء وجه الله، مثل القائم المصلي حتى يرجع المجاهد). وهناك حديث آخر ذكر فضلاً أعظم من هذا، وهو في السنن بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قيام ساعة في الصف في سبيل الله ابتغاء وجه الله جل وعلا خير من قيام ستين سنة) يعني: من قيام ليالي هذه المدة حتى تتورم قدم القائم، ولكن قيام الساعة في الصف ابتغاء وجه الله أو في سبيل الله خير من ذلك كله.

حكم سب الرسول صلى الله عليه وسلم

حكم سب الرسول صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [روى سليمان وهو الأعمش قال: سمعت أبا وائل قال: قال عبد الله: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فاحمر وجهه، وغضب حتى وددت أني لم أخبره، قال شعبة: أحسبه قال: يرحمنا الله وموسى -شك شعبة في (يرحمنا وموسى) - قد أوذي بأكثر من هذا فصبر]. في هذا الحديث يشعر الإنسان بالأسى والحزن عندما يرى التجرؤ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في عصر الصحابة من قبل هذا الأعرابي، أما الصحابة فقد كانوا إذا سمعوا هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم تقوم لهم الثائرة، ويكون أحدهم كالأسد الثائر لا يهنأ بعيش حتى يقتص لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضرب أروع الأمثلة على ذلك رجل أعمى في امرأته التي هي من العاطفة ومن الود والمحبة منه بمكان، ولكنها كانت تتغنى بسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقول الشعر في الرسول صلى الله عليه وسلم، في حين أنها كانت ترعى زوجها هذا، وهو رجل أعمى لا يستطيع أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يذهب ليقضي حاجته إلا مع من يساعده على ذلك، وكانت امرأته هي التي تفعل ذلك به، فلما سمعها تتكلم في رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فبقر بطنها وقتلها، ولما ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها. فما بالنا نرى ونسمع الآن ما يحترق له القلب، وما يعتصر له القلب ألماً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسبة وشتم واستهانة واستهزاء به، ولا نجد من يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالألسنة فقط، ففي عصورنا كثر المتجرءون بدعوى حرية الرأي، وحرية النشر، فـ سلمان رشدي سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسب الصحابة، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وآخر أخذ جائزة نوبل، وهو الذي سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمور كلها تحصل تحت ستار حرية الرأي، فهل من حرية الرأي أن يستهزئ المرء برسول الله صلى الله عليه وسلم أو يطعن في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإن الصحابة عندما سمعوا مثل هذا الكلام كفروا من قاله، وقد قلنا في القاعدة التي قعدناها: إن القول قد يكون كفراً، أو الفعل كفراً، ولكن القائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة، ولكن في هذه المسألة يختلف الأمر، ولا يحتاج فيها إلى إقامة حجة؛ لأن الاستهزاء أو السب معلوم بمجرد الوصف، فمن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر، وارتد عن دين الله. ويدل على ذلك هذا الحديث العظيم، عندما قام هذا الخارجي غائر العينين يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله! وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد ابتغاء وجه الله جل وعلا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مندهشاً (ويحك، أو ويلك، ومن يعدل إن لم أعدل). فلما قال هذه الكلمة كفر في وقتها، ويدل على ذلك فعل الصحابة، وذلك أنه قام خالد، وفي رواية أخرى قام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق. ونستفيد من هذه الكلمة أمرين: الأمر الأول: أنه وصفة بالنفاق، والنفاق كان اعتقادياً لا عملياً، فهو يخرج من الملة، ويدل على ذلك قولهم بضرب العنق، فإن النفاق العملي هو الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب)، هل حكم من يكذب في حديثه القتل؟ A لا، فهذا النفاق الذي يستحق صاحبه القتل هو النفاق الاعتقادي، والنبي صلى الله عليه وسلم ما أنكر على خالد هذا، ولا قال له: لا تقل له: منافق، لكنه نحاه عن القتل، وأقره على فهمه، وهو يستحق القتل، وسأدلل على هذا بأنه جاء في حديث آخر الإشارة إلى أنه يستحق القتل، لكن عدم قتله كان لأمر آخر وعلة أخرى وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، ثم إن آخر الرواية تدل على أنه منافق يستحق القتل، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من ضئضئ هذا الرجل أناس يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)، ثم قال: (لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد وإرم). فهذه دلالة على كفره بهذا وخروجه من هذه الملة، فسب الرسول صلى الله عليه وسلم كفر، وليس فيه عذر بالجهل، وليس فيه إقامة حجة، ولا إزالة شبهة؛ لأنه معلوم ضرورة. وقد وقع اتفاق أهل العلم أن حد هذا الكافر المرتد القتل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه)، واختلف العلماء هل يستتاب أو لا يستتاب؟ والصحيح الراجح أنه يستتاب حتى لا يقتل ردة، والدليل فعل عمر، وإذا كانت الاستتابة يعامل بها الكافر، فمن باب أولى الرجل الذي كان مسلماً فكفر ويرجى له أن يرجع إلى الإسلام سريعاً، فالشريعة تفتح أبوابها على مصراعيها للكافر ليدخل في الإسلام، فالمسلم من باب أولى عليه أن يرد إلى الإسلام فيستتاب فإن كان الحد حقاً لله كاستهزاء بالله أو سب له جل وعلا، فإنه يستتاب ولا يقتل، بل يسقط عنه حكم القتل. أما في حق النبي صلى الله عليه وسلم في عصرنا فلا يسقط عنه حد القتل على الراجح من أقوال أهل العلم، نعم يستتاب ليقتل حداً لا ردة، يعني: فلا يعاقب يوم القيامة على سبه للرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما تاب وقتل حداً، فإذا سب الله إذا تاب لا يقتل، وإذا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتاب فلا بد أن يقتل، والفارق بينهما أن الله جل وعلا بين لنا أن رحمته سبقت غضبه، وأن الله جل وعلا في حقه يسامح ويغفر. والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك كان في حياته كما عمل مع عبد الله بن أبي السرح لما سب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يكتب للنبي الوحي، ففر إلى مكة وقال: كنت أكتب الوحي للرسول، فيقول لي: اكتب كذا فأكتب غيره، يريد أن يشكك في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد، ولما ذهب إلى عثمان، وجاء به عثمان إلى الرسول، ومد يده ثلاث مرات ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يغض الطرف عنه، ويريد أحداً يقوم يقتله، وفي الثالثة بايعه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (أما قام أحدكم عندما رآني لا أريد أن أبايعه يقتله، فقالوا: كيف نعرف يا رسول الله؟ لو أشرت إلينا بعينك)، ولكن أدبه النبوي جعله يقول: (ما كان للنبي أن يكون له خائنة الأعين). يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم له أن يسقط هذا الحد، وكما أسقط في هذه الحالة، ولم يرد قتل هذا الخارجي الذي قال: هذه قسمة لا يراد بها وجه الله جل وعلا، وذلك لمصلحة أعظم. وأيضاً أسقط القتل عن ابن أبي السرح؛ لأنه حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا تنازل عنه فله ذلك، لكن أين النبي صلى الله عليه وسلم في عصرنا ليتنازل عن حقه؟ فنقول: الأصل في زماننا إقامة الحد عليه وهو القتل، إلا أن يتنازل الرسول، وهذا ليس موجوداً في عصورنا هذه، فلا بد أن يقام عليه الحد، حيث لا ناقل لنا عن الأصل، فيستتاب فإن تاب ورجع فإنه يقتل حداً لا ردة، بل يقتل على الإسلام، وإن لم يتب يقتل ردة، ولا يكون مسلماً.

درء المفاسد مقدم على جلب المصالح

درء المفاسد مقدم على جلب المصالح استنبط العلماء من هذه الرواية العظيمة قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وذلك أنه عندما قام خالد فقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فتلك مصلحة؛ ليزجر كل متجرئ عن هذا المنكر العظيم. لكن كان هناك مفسدة أعظم منه، وهي: أن المنافقين والمشركين الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر يفرحون بها أيما فرح، فينشرون بين الناس أن محمداً يقتل أصحابه، فيخشى الناس من الدخول إلى الإسلام، وهذه مفسدة أعظم من تلك المصلحة، فراعى النبي صلى الله عليه وسلم هذه المفسدة ودرأها، ولم يجلب تلك المصلحة إذ المفسدة أعظم. ومما يدخل تحت هذه القاعدة مسألة سب الأصنام فإنها مصلحة لا مفسدة، فتسفيه أحلام الذين يعبدونها من دون الله جل وعلا مصلحة، لكن هناك مفسدة أعظم إذا سب المؤمن الصنم، وهي أن يقوم كافرهم وجاهلهم وخبيثهم فيسب الله جل وعلا، وهذه مفسدة أعظم بكثير من مصلحة سب هذه الأصنام، ولذلك منعنا الله من سب الأصنام درءاً للمفسدة فقال: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. وكذلك تغيير بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، فهي الآن ليست كما بناها إبراهيم عليه السلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة رضي الله عنها وأرضاها عندما هاله أن رأى قريشاً جعلوا باب الكعبة عالٍ حتى لا يدخل إلا الأماجد الأكارم وكبراء الناس عندهم، وأيضاً رأى أن قواعدها ليست على قواعد إبراهيم، فقال: (لولا أن قومك حديثو عهد بالإسلام لهدمت الكعبة، ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين: باب يدخل منه الناس)، يعني: كل الناس الفقير منهم والغن، والوضيع والرفيع، (وباب منه يخرجون). فهذا الحديث أصل في أن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة. فالمصلحة أن تكون الكعبة على قواعد إبراهيم، فذلك هو مكانها الصحيح؛ وأن يكون باب الكعبة متاحاً؛ ليدخل منه الرفيع والوضيع، ولكن هذا الفعل سينتج عنه مفسدة أعظم، وذلك أنه لو هدم الكعبة وهم دخلوا الإسلام قريباً، فسيقولون: إنه لا يقدس الكعبة، وآباؤنا كانوا يقدسون الكعبة، فيفتنون عن دينهم، فلذلك راعى النبي صلى الله عليه وسلم المفسدة والمصلحة.

التذلل لله تعالى

التذلل لله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي الدرداء عن زيد بن ثابت (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه، وأمره أن يتعاهد أهله في كل صباح: لبيك اللهم لبيك وسعديك، والخير في يديك، ومنك إليك) الحديث بتمامه. وفي هذا الحديث: (اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، وشوقاً إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة)]. هذا الحديث يبين أن سيد الخلق أجمعين كان يسارع في مرضاة ربه جل وعلا، فهو يقول: لبيك وسعديك، لبيك اللهم لبيك أي: أجيبك إجابة بعد إجابة، وكان الصحابة يتمثلون ذلك فيقولون: لبيك تعبداً ورقاً، لبيك إخلاصاً وورعاً، كما ورد عن بعض الصحابة، وكأن لسان حاله: (وعجلت إليك ربي لترضى) والخير في يديك، ومنك وإليك، وفي هذا دلالة على أن الإنسان إذا كان في خير فإن هذا ليس منه، ولا من ذكائه وفعله، بل كل خير فيه هو من الله جل وعلا، قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، وقال جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِيْ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]، فلا يقول الإنسان: أنا الذي فهمت هذا الفهم، بل يقول: الله فهمني هذا. كان ابن تيمية يمرغ وجهه في التراب ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، يا مفهم سليمان فهمني، قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]. قوله: (فالخير منك وإليك)، يعني: من الله جل وعلا، يرد الفضل إلى الله جل وعلا، فمن اعتقد هذا الاعتقاد الصحيح فلن يتذلل ولن يلين قلبه إلا لله جل وعلا، ولن يرى مستحيلاً في هذه الدنيا؛ لأنه يرى كل شيء تحت قدرة الله تعالى، فإن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه أصبح خير هذه الأمة بعد رسول الله بمنة الله جل وعلا وفضله. إن هذا الحديث يدعونا إلى الطمع الكبير في فضل الله، وإن كان الطمع مذموماً في أمور الدنيا، لكنه ممدوح في الدين، فيطمع المرء طمعاً كبيراً في فضل الله جل وعلا، فإن أردت أن تكون شهيداً فاطمع في إعطاء ربك، أو أن تكون عالماً فاطمع في فضل ربك، أو أن ترافق النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى فاطمع في فضل ربك، واعلم أن الخير كله بيد الله جل وعلا.

المخرج من الفتن الاعتصام بأمر الله

المخرج من الفتن الاعتصام بأمر الله قول النبي صلى الله عليه وسلم (وشوقاً إلى لقائك في غير الضراء مضرة، ولا فتنة مضلة) يجرنا هذا الحديث إلى الكلام عن مسألة الفتن التي تأتي وتجعل الحليم حيراناً، فما أخوف حال المرء في الفتنة! وللإنسان في ذلك أحوال: الأول: حال المنفرد في العزلة، وذلك بأن يعض على أصل شجرة إلى أن يرى الخير فيذهب إليه، فإن لم ير ذلك فالعزلة، والعزلة أفضل، وأعني: العزلة القلبية لا العزلة الجسدية، وذلك بأن تكون مع الناس بجسدك لا بروحك، روحك في السماء تحلق، وقلبك معلق بالعرش، وجسدك مع البشر تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتصبر على أذاهم، فهذه هي الحالة الأولى ولا بد لكل إنسان أن يتمرس عليها من الآن. الحالة الثانية: أن تتمنى الموت، وذلك إن لم تر الخير، أو لم تر أنك تقدم لدين الله جل وعلا شيئاً، أو أنك لن تقدر على النجاة من هذه الفتن التي تطرأ على هذه الأمة، فحينها تتمنى الموت في غير فتنة، وهذا استثناء من الأصل العام الذي أصله الشرع، وهو النهي عن تمني الموت إلا في هذه، وهي عندما تخشى على نفسك أو على دينك من الفتنة، فلك أن تتمنى الموت، والدليل على ذلك من الكتاب قوله تعالى عن مريم: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسِيَّاً مَنْسِيَّا} [مريم:23]، وهي إنما قالت ذلك خشية على نفسها من فتنة الدين أو أن يتهموها بالزنى، وقد قالوا لها: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28]، فالإنسان يمكنه أن يتمنى الموت في حال الفتنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (في غير فتنة مضلة). وهذا آخر ما يستنبط من فوائد هذين الحديثين.

تكملة باب ذكر إثبات وجه الله تعالى وصفة الصورة لله عز وجل

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - تكملة باب ذكر إثبات وجه الله تعالى وصفة الصورة لله عز وجل لله وجه يليق بجلاله كما أثبت ذلك لنفسه في كتابه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وقد جاء في حديث إثبات الصورة لله، واختلف العلماء في تصحيحه وتوجيهه، والقاعدة عند أهل السنة: أن ما ثبت لله بالدليل يثبت بلا تشبيه ولا تكييف، وبلا تحريف ولا تعطيل.

إثبات صفة الوجه لله تبارك وتعالى

إثبات صفة الوجه لله تبارك وتعالى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام: ما زلنا مع هذا العلم الشريف، علم الأسماء والصفات، وهو من أشرف العلوم؛ لأنه لا أشرف من الله جل في علاه. وقد تكلمنا عن صفة جليلة عظيمة: وهي صفة الوجه لله جل وعلا، وبينا أن هذه الأمة إذا اعتقدت اعتقاداً جازماً أن لله جل وعلا وجهاً كريماً فلا بد أن تسعى وتتشوق لرؤية هذا الوجه الكريم، وتؤهل نفسها وعينها وجسدها وقلبها تأهيلاً جليلاً يرتقي بالمرء لأن يرى وجه ربه الجليل، وقلنا: إنه يجب على هذه الأمة إجلال وجه الله وإكرامه جل وعلا، وبينا السبيل إلى ذلك، ونزيدها وضوحاً في هذا اليوم. فنقول: إن من إجلال وجه الله جل وعلا ألا يسأل بوجه الله جل وعلا شيء خفيف من هذه الدنيا الفانية، فالمرء المعظم لوجه الله الكريم لا يسأل بوجه الله جل وعلا رغيف عيش يعيش به، أو امرأة جميلة يتزوجها، أو أموالاً طائلة يغتني بها في هذه الدنيا الزائفة الزائلة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم عظم هذه المسألة، ونهى أن يسأل بوجه الله جل وعلا غير الجنة فقال: (لا تسألوا بوجه الله إلا الجنة)، لكن من سألك بوجه الله فعليك أن تعطيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (من سألكم بالله فأعطوه)، ومن سألك أيضاً بوجه الله فعليك أن تعطيه؛ إجلالاً وتعظيماً وإكراماً لوجه الله جل وعلا، وبينا أن لوجه الله سمات وصفات وصف الله جل وعلا بها وجهه: أول هذه الصفات: أن وجه الله ذو جلال وإكرام، قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]. ثانياً: أن وجه الله جل وعلا ذو بهاء وعظمة وأنوار، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه) أي: أنوار وبهاء وعظمة وجه الله جل وعلا، (لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وبصر الله ينتهي إلى كل خلقه سبحانه جل في علاه. ثالثاً: أن وجهه سبحانه عليه رداء الكبرياء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وليس بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه جل في علاه). رابعاً: أن هناك حجاباً يحجب البشر عن رؤية وجه الله جل وعلا في هذه الدنيا، قال: (حجابه النور)، وفي رواية (حجابه النار)، وفي بعض الروايات الموقوفة عن ابن عمر: (سبعون حجاباً: حجاب النور وحجاب الظلمة وحجاب النار وحجاب الماء.

الاشتراك في الاسم لا يدل على التساوي في المسمى

الاشتراك في الاسم لا يدل على التساوي في المسمى يجب علينا أن نعتقد اعتقاداً جازماً: أن لله صفة خبرية نؤمن بها ونعتقدها بلا تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل، هذه الصفة الخبرية هي صفة وجه الله جل وعلا، وأن نرد على المعطلة والمشبهة الذين خافوا من أن يقعوا في التشبيه فنفوا هذه الصفة بقاعدة -شرحناها سابقاً ونزيد فيها تفصيلاً اليوم- هي: أن الاشتراك في الاسم لا يستلزم إثبات المسمى، ويجب أن نقول قبل هذه القاعدة: إن من صفات وجه الله جل وعلا: أن وجه الله له البقاء لم يزل متصفاً بالوجه ولا يزال؛ لأن صفات الله الخبرية أزلية أبدية، كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، أما وجوه البشر فإلى زوال وإلى فناء، وقال سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] سبحانه وتعالى. أما القاعدة التي تقول: إن الاشتراك في الاسم لا يستلزم الاشتراك أو التساوي في المسمى، فمعناها: أن الله سبحانه قد سمى نفسه بأسماء مماثلة لأسماء البشر، وكذلك الصفات، فلله يد وللبشر أيدي، كما قال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، ولله سمع وبصر وكذلك الإنسان، فإنه يوصف بأنه سميع بصير، والله أيضاً يسمي نفسه بالغني وبعض البشر يطلق عليه اسم الغني، قال الله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحج:64]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن هم أطاعوك فأخبرهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم). وأيضاً: يسمى الله تعالى ويوصف بأنه كريم، ويوصف كذلك كثير من البشر بالكرم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الله جل وعلا: (إن الله حيي كريم)، فيد الله ويد البشر، وسمع الله وسمع البشر، الاشتراك هنا في الاسم لا يستلزم الاشتراك في المسمى، فيد الله ليست كيد المخلوق، فعندما تمثل يد الإنسان بيد غيره من الحيوانات فإننا نجد أنها تختلف عن يد الحيوانات في سائر الصفات، فللإنسان يد وللفيل يد وللقرد يد وللأسد يد وللجمل يد، فهل يد الإنسان كيد الفيل، أو يد الفيل كيد القرد أو كيد الجمل؟ هناك تفاوت وتباعد مع أن هذه يد وهذه يد وهذه يد، فالاشتراك في الاسم لا يستلزم الاشتراك في المسمى، وأشرف هذه الأيادي هي يد البشر بالنسبة للمخلوقات، فإن كان هذا بالنسبة للإنسان فالله أجل وأعلى وأولى بالكمال سبحانه وتعالى، فيد الله لا تماثل ولا تشابه يد المخلوق، بل يد المخلوق لا يمكن أن ترتقي إلى يد الله جل وعلا، ونحن نعتقد هذه الصفة تحت قاعدة مهمة جداً منبثقة عن آية كريمة وهي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فلله يد لكنها يد تليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى، ولله وجه كما أن للإنسان وجهاً، لكننا لا نستطيع أن نساويه بوجه البشر؛ لأننا تحت هذه القاعدة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فوجه الله يليق بجلاله وعظمته وبهائه سبحانه وتعالى، أما وجه البشر فهو يليق بنقصه وبضعفه، وأجلى ما يكون في ذلك: أن الله سمى نفسه تواباً فقال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16]، وتجد من البشر من هو تواب، قال صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فوصف الإنسان بالتواب، وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، والبون شاسع بين أن يكون الله هو التواب وبين أن يكون المخلوق هو التواب، فمعنى التواب في حق الله: أنه يتوب على عباده، ويرزقهم، ويلهم في قلب العاصي التوبة؛ ليتذلل ويئوب إلى ربه جل وعلا فيقبل منه هذه التوبة، فتوبة العبد محفوفة بتوبتين: توبة قبلية: وهي التوفيق والسداد له بأن يتوب، وتوبة بعدية: وهي أن يقبل الله توبته، وهذا معنى التواب في حقه سبحانه وتعالى، أما تسمية العبد بالتواب؛ فلأنه يعصي ويتعدى الحدود ثم يرجع فيئوب ويخضع ويتوب إلى الله جل وعلا، فهناك بون شاسع بين صفات الله جل وعلا وبين صفات البشر، وهذه الحقيقة تتجلى بها القاعدة التي بيناها: أن الاشتراك في الاسم لا يستلزم التساوي في المسمى.

حديث: (إن الله خلق آدم على صورته)

حديث: (إن الله خلق آدم على صورته) نأتي إلى مسألة مهمة جداً ذكرها الإمام ابن خزيمة في باب: ذكر أخبار رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الصورة، وهي مسألة متعلقة بصفات الله جل وعلا، وهذه المسألة منبعها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقولن أحدكم لأحد: قبح الله وجهك؛ فإن الله خلق آدم على صورته)، وقال: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته). وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقبحوا الوجه، فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن). وهذا الباب باب عظيم جداً؛ فهو يتكلم عن صفة خبرية، فهل لله صورة؟ نحن نعرف أن للإنسان صورة متكونة من السمع والبصر واليد والرجل والساق ونحوه، فهذه صورة الإنسان، فهل لله صورة؟ هذا الباب عظيم جداً، والكلام عليه ينزل تحت الحديث العظيم المتفق عليه: (إن الله خلق آدم على صورته)، واختلاف العلماء محصور في هذه الهاء، فهل هذا الضمير يعود على آدم يعني: على صورة آدم، أم أنه يعود على الله جل وعلا يعني: على صورة الله؟ ولمن ستضاف الصورة هنا؟ أما الرواية الأكثر إيضاحاً من سالفتها فقد اختلف العلماء اختلافاً شديداً في تصحيح إسنادها أو تضعيفه، وهو حديث في سنن النسائي: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن)، فالصورة هنا أضيفت للرحمن تصريحاً، إذاً: فلله صورة عملاً بهذا الحديث، لكنهم اختلفوا في صحته وضعفه، فصحح هذه الرواية الإمام أحمد وإسحاق وأكثر المحققين، ومن تتبع طرق هذا الحديث وأسانيده وجد أن أسانيده صحيحة، فأقل الأحوال في هذا الحديث أن يقال فيه: صحيح لغيره، وقد ضعفه ابن خزيمة وكثير من المحدثين أيضاً، والغرض المقصود: أن العلماء اختلفوا في هذا الضمير على ثلاثة أقوال: القول الأول: إن الهاء هنا عائدة على المضروب، قال: (لا تضرب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته) يعني: خلق آدم على صورة المضروب الذي ضربته على وجهه، فإذاً: ليس لها صلة بالله جل وعلا، وإذاً لا دليل في الحديث إن قلنا: بأن الهاء تعود على المضروب. القول الثاني: إن الهاء تعود على آدم؛ لأنه أقرب مذكور، وهذا صحيح في اللغة؛ لأن الأصل في الضمير أن يعود على أقرب مذكور، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته) الهاء هنا عائدة على القريب وهو: آدم، يعني: خلق على هذه الصورة التي عرفتموها بما ذكرت لكم، ويعضد هذا الفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً) أي: على صورته التي أصف لكم: فطوله ستون ذراعاً، وهذا من القوة بمكان، لكنه يرد برد قوي جداً: إذ لا فائدة في الحديث إذا جعلنا الضمير يعود على آدم، فيكون معناه: إن الله خلق آدم على صورة آدم، وماذا كانت صورة آدم قبل أن يخلق آدم؟! القول الثالث وهو: التأويل الصحيح: إن الهاء تعود على الله جل وعلا، يعني: خلق آدم على صورة الله جل وعلا، وهذا الذي نحى إليه كثير من العلماء حتى ابن خزيمة، لكنه أولها وقال: الصورة مضافة إلى الله جل وعلا، لكن إضافتها إليه من باب إضافة المخلوق إلى الخالق، فوقع في الخطأ.

أنواع الإضافة إلى الله جل في علاه

أنواع الإضافة إلى الله جل في علاه بينا في القواعد المهمة في الصفات: أن الذي يضاف إلى الله نوعان: إضافة أعيان قائمة بذاتها، وإضافة معاني. أما إضافة الأعيان: فهي الأعيان القائمة بذاتها: كتسمية الكعبة: ببيت الله، فإن البيت يضاف إلى الله تشريفاً وإجلالاً وتعظيماً كما قال تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13]، فإضافة الناقة إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى الخالق؛ لبيان التشريف والإجلال والتعظيم، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171]، فهل هي إضافة صفة إلى موصوف أم هي إضافة مخلوق لخالق؟ إضافة مخلوق لخالق، لكن إضافتها إلى الله إضافة تعظيم وتشريف. وأما إضافة المعاني: فليست قائمة بذاتها، كأن تقول مثلاً: القرآن كلام الله، فهل الكلام عين قائمة بذاتها؟ لا، بل هو معنى، فإضافة المعنى إلى الله: هي إضافة صفة إلى موصوف، وهنا يقول ابن خزيمة: إن صورة الله في هذا الحديث مخلوقة، وكأنه يقول: إنها صورة آدم ولكنها مضافة إلى الله لغرض الإجلال والتشريف؛ لأنها إضافة مخلوق إلى خالق، وهذا التأويل بعيد جداً، والتأويل الصحيح الراجح الذي عليه المحققون من أهل السنة والجماعة: أن الصورة صفة خبرية من صفات الله جل وعلا، وأن الضمير يعود على الله، يعني: خلق الله آدم على صورة الله، وقال: (خلق الله آدم على صورة الرحمن)، فنؤمن إيماناً جازماً ونعتقد اعتقاداً صحيحاً كما اعتقد الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن قتيبة وكثير من أهل السنة والجماعة فنقول: إنها صفة له جل وعلا، وما لنا ألا نؤمن بها؟ فاليد والسمع والبصر صفات من صفات الله جل وعلا، وعلينا أن نؤمن بها بلا شك، كما أننا نقرر القاعدة التي تقول: الصورة في اللغة معلومة، والإيمان بها واجب، والكيف مجهول، والسؤال عن كيفيتها بدعة، فالصورة مضافة إلى الله إضافة صفة إلى موصوف، فيكون الضمير هنا عائداً على الله جل وعلا، وتعضد الرواية الأخرى هذا القول: وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن)، فالصورة صفة من صفات الله جل وعلا الخبرية، ومعنى ذلك: أن لله صورة لا تشبه صورة الإنسان، فلله صورة تليق بجلاله وكماله وعظمته وبهائه، فهو سميع بصير، قدير متكلم بما شاء في أي: وقت شاء، له رجل وساق وقدم، وله يد وأصبع، فهذه هي صورة الله جل في علاه، كما أن لآدم صورته، فهو سميع بصير متكلم بما شاء وقت ما يشاء، وهذا إجمالاً هو الراجح من أقوال أهل العلم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مراجعة على ما سبق

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - مراجعة على ما سبق من تعظيم الله عز وجل أن نثبت له ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، وصفات الله جل وعلا منها صفات سلبية ومنها صفات ثبوتية، والصفات الثبوتية تكون خبرية وفعلية وذاتية.

أقسام صفات الله عز وجل

أقسام صفات الله عز وجل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام! تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، ونسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من الصالحين المتقبلين عنده في هذه الأشهر العظيمة. أقول: يتبع صيام رمضان صيام الست من شوال، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله)، ولم يشترط العلماء فيه التتابع، وإن كان من الحسن والمسارعة في الخيرات أن يصوم المرء ستة أيام متتابعات، فإن استطاع أنه لا يفطر بينهما فهذا حسن، وإن صامها متفرقات كالإثنين والخميس مثلاً فهذا أيضاً حسن، لكن الأفضل أن يتتابع الصيام. قبل أن أبدأ في كتاب التوحيد لا بد من مراجعات حتى ننشط الذهن الذي كلَّ من طول النوم. أقول: تكلمنا عن صفات الله جل وعلا، وهذا العلم الشريف -وهو علم التوحيد الذي هو فرض عين على كل إنسان- ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: علم المعرفة والإثبات أو العلم الخبري، والقسم الثاني: القصد والطلب. وعلم المعرفة والإثبات: هو علم الأسماء والصفات والربوبية، والثاني: هو علم القصد والطلب، ونحن اليوم بصدد شرح هذا الكتاب العظيم، أي: كتاب التوحيد، فهو يتكلم عن القسم الأول، وهو: معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى والربوبية؛ لأن هذا الكتاب مختص بالصفات، وتكلمنا في معارج القبول على توحيد الإلهية، فصفات الله جل وعلا تنقسم إلى قسمين: صفات ثبوتية، وصفات سلبية. أما الصفات الثبوتية: فهي الصفات التي أثبتها الله لنفسه في كتابه عز وجل، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، مثل قوله: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، وقوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، فهذه الآيات فيها إثبات الصفات الخبرية لله جل وعلا. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم تدعون سميعاً بصيراً). وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهك)، أي: وأعوذ بوجه الله الكريم، فأضاف الوجه لله جل وعلا، فهذه هي الصفات الثبوتية. والصفات السلبية: هي الصفات التي نفاها الله جل وعلا عن نفسه في الكتاب، ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة، كما قال الله تعالى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، وقال الله جل وعلا: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، كل هذه الصفات نفاها الله عن نفسه ونفاها عنه رسوله، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)، وقال أيضاً: (لا تدعون أصم ولا غائباً)، كل هذه الصفات نفاها النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه جل في علاه. والصفات السلبية للعبد أن يتعبد بها لله عز وجل وعلا بطريقين اثنين: الطريق الأول: ألا ينفيها نفياً محضاً؛ لأن النفي المحض لا كمال فيه، وكل ما ينسب لله جل وعلا لا بد أن يكون فيه كمال، والذي ينفى عن الله جل وعلا لا بد من إثبات كمال ضده، فنقول: النفي المحض ليس بكمال، فأنت إذا نسبت إلى الله شيئاً لا بد أن يكون فيه الكمال، فالطريق الأول في إثبات الصفات المنفية: ألا تنفي نفياً محضاً، لا بد أن تثبت كمال الضد عند النفي، كأن تقول: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، فنقول: نفى عن نفسه النسيان لكمال علمه، ولا تقل: الله لا ينسى وتسكت، فهذا سوء أدب مع الله، وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، اللغوب: التعب والإعياء، فهل ممكن أن نقول: ما مس الله من لغوب بعد خلق هذه السموات والأرض ونسكت؟ لا، هذا سوء أدب مع الله، لابد أن نقول: لكمال قدرته سبحانه وتعالى، فلا بد أن تنفى الصفة مع إثبات كمال الضد لها، وهذا هو الأدب في التعبد لله في الصفات السلبية. كذلك لا تنفى نفياً جزئياً وتعدد النفي، فلا تقل: الله ليس بنائم، ولا بساه، ولا بناسٍ، فهذا لا يجوز بالنسبة لله جل وعلا؛ لأن هذا يعتبر من سوء الأدب مع الجليل العظيم، كما قال بعض العلماء: إذا دخلت على أمير أو ملك فقلت له: أنت لست بسارق، ولا بزان، ولا بذيء، فإنه يعاقبك أشد العقوبة؛ لأن هذا فيه سوء أدب مع هذا الملك فما بالك مع الله جل وعلا؟ فإذا نفيت لابد أن تنفي نفياً مطلقاً فلا تعدد النفي.

أنواع الصفات الثبوتية

أنواع الصفات الثبوتية أما بالنسبة للصفات الثبوتية: فهي صفات أثبتها الله لنفسه في كتابه، وأثبتها له رسوله في سنته صلى الله عليه وسلم، وهذه الصفات ثلاثة أنواع: صفات ذاتية، وصفات فعلية، وصفات خبرية. والصفات الذاتية: هي الصفات التي لا تنفك عن الله جل وعلا، فيوصف بها أزلاً وأبداً مثل: الرحمن. لو قلنا: الرحمن وأطلقنا فهو يتضمن صفة الرحمه، والتفصيل في ذلك أن نقول: هناك اسمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وهما: الرحمن الرحيم، فإذا اجتمعا فالرحمن يختص بالمؤمن والكافر، والرحيم يختص بالمؤمنين فقط قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] لذلك الرحيم هنا اسم يتضمن صفة الرحمة التي هي صفة فعلية، والرحمن صفة ذاتية فعندما نتكلم عنها فلا بد من تفصيل. نقول: السميع يتضمن صفة السمع وهي صفة ذاتية، فالله يسمع كل شيء لا تختلف عليه اللغات، فهي صفة ذاتية مثل صفة الحياة، فهي صفة ذاتية أزلية أبدية، كذلك القيومية والعزة والعلم والقدرة، فهذه صفات ذاتية أزلية أبدية. النوع الثاني: الصفات الفعليه: وهي الصفة التي تتجدد وتتعلق بالأسباب، وضابطها أن تقول: إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، ومثال ذلك النزول إن شاء نزل، وإن شاء لم ينزل، والكلام صفة ذاتيه فعلية، وهي قديمة النوع حادثة الآحاد، والعلو صفة ذاتية، فالله علي بذاته جل في علاه، لكن الاستواء يعتبر صفة فعلية لأن العلو علوان: علو على العرش، وهذه صفة فعلية؛ لأنه إن شاء استوى على عرشه، أما العلو مطلقاً فهو علو الذات، وهذه صفة ذاتية لله جل وعلا. النوع الثالث: الصفات الخبرية: وهي الصفات التي ليس للعقل فيها مدخل، وتأتي لنا عن طريق الخبر، ومسماها عندنا: أبعاض وأجزاء، اليد بعض مني وجزء مني، والعين بعض مني وجزء مني، والساق فهل نقول: اليد بعض من الله؟! حاشا لله! أما لله فنقول: إنها صفات وليست بجوارح، لكن هذا ضابطها عندنا حتى نضبط الصفة: أجزاء وأبعاض، وهذه الصفات الخبرية مثل: العين واليد والساق، وقد تكلمنا عن اليد والعين والأصابع والأنامل، وتكلمنا عن السمع والبصر والرؤية والوجه، وقلنا: القاعدة في إثبات هذه الصفات: أن نثبتها إثباتاً بلا تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف، وبالنسبة للصفات السلبية فننزه الله عنها بلا تعطيل.

إثبات صفة النفس لله تعالى

إثبات صفة النفس لله تعالى إذا أردنا أن نثبت لله النفس فما هي الأدلة على أن لله نفساً؟ نحن نتعبد الله فلابد أن نتعرف على أسمائه الحسنى، قال ابن القيم: أدق العلوم وأجلها العلم بأسماء الله وصفاته العلى. من الأدلة الواردة في إثبات صفة النفس لله ما أخبر الله عن عيسى حيث يقول: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]. وقال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28]. وقال تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:12] وجاء في صحيحي الإمام البخاري ومسلم: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملء) إلى آخر الحديث. والقاعدة تقول: إن الصفات الخبرية لا مدخل للعقل فيها، ولكن العقل لا يردها وإنما يقبلها. فإذا قيل لنا: ليس لله نفس، وقول الله جل وعلا: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] هذه إضافة المخلوق إلى الخالق إضافة تشريف كإضافة الناقة إلى الله، وإضافة بيت الله إليه، كقول الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]، وقوله: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13]، فهذه إضافة المخلوق إلى الخالق، فنقول: اسم السميع لله ألا يفهم منه صفة السمع؟ سيقولون: لا نعلم إلا أن السين ضم إليها الميم والياء والعين لا نعلم لها معنىً مفهوماً فأتونا بما عندكم. فنقول: هذه إضافة أعيان قائمة بذاتها كعيسى، فهو قائم بذاته، والناقة، والبيت، ولو قلنا: الكلام كلام الله أضيف إليه فهل أحد فيكم رأى الكلام يمشي معه؟ لا، فهذه ليست عين قائمة لذاتها، فالمعاني إذا أضيفت إلى الله فهي إضافة صفة إلى موصوف، أما الأعيان فتكون إضافة مخلوق إلى خالق، وأضيفت لله تشريفاً وتكريماً. الجواب الثاني: لو قلنا بقولكم للزم بذلك لوازم باطلة منها قوله: (واصطنعتك لنفسي) سيكون معناها: واصطنعتك لغيري، كأنه اصطنعه ليتعبد لغير الله جل وعلا، وهذا كفر أن يقال ذلك، وقوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116] ستكون: تعلم ما في غيري ولا أعلم ما في غيرك! فهذا كله من اللوازم الباطلة.

إثبات صفة الوجه لله تعالى

إثبات صفة الوجه لله تعالى قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، إذا جاء البدعي فقال: الوجه هنا عبر به عن الذات قلنا: كيف؟ قال: قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، فهل يبقى الوجه من الله فقط؟ لا، بل يبقى الذات، قالوا: إذاً: الوجه هنا معناه الذات، لا نثبت وجهاً بل نثبت ذاتاً لله جل وعلا. قلنا: نحن نثبت لله وجهاً يليق بجلاله، قال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك). وإذا قلنا إن قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] المراد به الذات تنزلاً معكم فنقول: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، الله جل وعلا يبقى بذاته سبحانه فنقول: عبر بالوجه وأراد الذات مع إثبات الوجه له سبحانه، فهذا الذي نفترق عنهم فيه، لكن نتفق معهم: أن الله جل وعلا عبر عن ذاته بالوجه، فأنت إذا قلت: بما كسبت يداك معناه في لغة العرب معروف أي: بما اكتسبت أنت بنفسك، فنحن نثبت صفة الوجه، ومع إثبات صفة الوجه نثبت الذات، ونقول: إذا عبر عن الذات بالوجه فنحن نقر بإثبات الوجه لله.

إثبات صفة الصورة لله تعالى

إثبات صفة الصورة لله تعالى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تضربوا الوجه ولا تقبحوه فإن الله خلق آدم على صورته)، وفي رواية النسائي: (فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن)، وهل ابن خزيمة في مسألة الصورة يثبت لله صفة الصورة أم لا؟! نقول: هناك تأويلان: أولاً: الهاء في الحديث عائدة على المضروب، وليست عائدة على الله، فأخبره أن هذا المضروب خلق على صورة أبيه آدم عليه السلام، وهذا التأويل فيه ضعف؛ والحديث في الرواية الأخرى جاء بنص: (خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً)، إذاً: الهاء عائدة على آدم عليه السلام، فطوله ستون ذراعاً وسبعة أذرع عرضاً، وجاء بإسناد صحيح عند الطبراني وغيره: (أن الله خلق آدم على صورة الرحمن) فإذا قلنا: إن الله خلق آدم على صورة الرحمن فكيف نفهم هذا المعنى؟ نقول: أولاً: لله صورة، وهي صفة من صفات الله، وهل الصورة تشبه صورة الإنسان؟ حاشا لله! فمعنى: (خلق آدم على صورة الرحمن) أن آدم متكلم كما أن الله متكلم، وأن آدم سميع كما أن الله سميع، وإن آدم بصير كما أن الله بصير. إذاً: خلق الله آدم على صورة الرحمن سميعاً بصيراً متكلماً، فهذا هو معنى الحديث. وابن خزيمة يقول: الصورة إضافتها إضافة مخلوق إلى خالقه. ونحن نخالفه في هذا، ولا يصح أن نقول: إن إضافة الصورة إضافة مخلوق إلى خالقه، بل هي إضافة معنى إلى الذات الموصوف بهذه الصفة. وفي القول الثاني لا يمنع أن نقول: طوله ستون ذراعاً مع إثبات الصورة لله، فلله يد وله أصابع، والدليل على أن لله أصابع حديث: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن)، واليهودي الذي أخبر النبي أن الله يضع السماوات على أصبع إلخ فأقره النبي صلى الله عليه وسلم وضحك إقراراً له.

إثبات صفة اليد لله عز وجل

إثبات صفة اليد لله عز وجل لو قيل: إنه قد ورد في صلح الحديبية لما قال عروة للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما أرى حولك إلا أوباشاً من الناس أو قال أشواباً من الناس يفرون عنك، فقال أبو بكر: نحن نفر عن رسول الله؟ امصص بظر اللات، فقال: من القائل؟! قالوا: أبو بكر، فقال له: لولا يد لك عندي ما كافأتك بها لأجبتك) اليد هنا بمعنى النعمة، فهذا دليل على أن معنى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] يعني: نعمة الله فوق أيديهم، لا كما تقولون -يا أهل السنة والجماعة- أن المعنى: يد الله فوق أيديهم دون مماسة، هل يد الله تلامس يد البشر؟! لا إذاً معناها النعمة. يرد عليهم أن الله قال في آية أخرى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] فسيصير المعنى أن لله نعمتان، وهذا محال فإن نعائم الله لا تحصى. الجواب الثاني: لو قلنا بأن اليد بمعنى النعمة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذا لصحابته الكرام إذاً قد قصر في البلاغ، وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك، ولو أولنا اليد هنا بمعنى القدرة لكان في ذلك حجة لإبليس حيث سيقول: وأنا يا رب خلقتني بقدرتك كما خلقت آدم بقدرتك، ولا يكون فيه تشريف وتكريم لآدم عليه السلام.

إثبات صفة العلم لله عز وجل

إثبات صفة العلم لله عز وجل صفة العلم لله جل وعلا ثابتة بالأدلة الواردة في ذلك، والذين نفوا علم الله جل وعلا لهم أقوال في ذلك، فالجهمية ينكرون العلم ويقولون: لا عليم ولا علم، والمعتزلة يثبتون الاسم دون الصفة. والقدرية: يثبتون العلم الأزلي لله عز وجل دون العلم الغيبي المستقبلي، فنفوا عن الله علم ما يكون في المستقبل؛ لأن القدرية يقولون: إن الله لا يعلم بأفعال العباد حتى يفعلوها، فهنا نفوا علم الله بما سيكون مستقبلاً، أما علم ما مضى فيقرون به لله تعالى، وعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: العلم الممكن، والقسم الثاني: علم مستحيل، فمثال العلم الممكن قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] يعني: هؤلاء المنافقون إذا خرجوا في الصف المسلم نشروا فيه الذعر، وأعملوا فيه الفتنة حتى يرجعوا أدراجهم، فالمنافقون لو قدر الله أن يخرجوا لخرجوا، وهذا ممكن، لكن الله جل وعلا بعلمه للغيب منعهم حتى لا يفشلوا الصف المسلم. أما المستحيل فقال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] هذا من المستحيل أن يكون هناك رب غير الله جل وعلا، كذلك من المستحيلات: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]، كيف تكون هذه من المستحيلات؟ أن الله كتب على نفسه أنه من ذهب إلى الآخرة لا يرد إلى الدنيا. وهناك من أعيد إلى الدنيا بعد موته، وهذه حالة خاصة. وعبد الله بن حرام عندما استشهد كلمه الله جل وعلا كفاحاً، فطلب من الله جل وعلا أن يرده إلى الدنيا ليقاتل في سبيل الله فيقتل، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله جل وعلا قال: (إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون)، فلم يجب دعوته؛ لأن الله كتب أن من خرج من الدنيا لا يرجع إليها مرة أخرى. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

باب ذكر إثبات العين لله جل وعلا

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - باب ذكر إثبات العين لله جل وعلا صفة العين من الصفات التي أثبتها الله تعالى لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وأجمع عليها سلف الأمة، فلله عينان تليقان بجلاله وكماله، ولم ينكر هذه الصفة إلا أهل البدع والضلال ممن لم يوفقوا لفهم الكتاب والسنة واتباع سلف الأمة.

إثبات صفة العين لله جل وعلا

إثبات صفة العين لله جل وعلا إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: إخوتي الكرام! ما زلنا مع هذا العلم الشريف، وشرف العلم بشرف المعلوم، وليس أحد أشرف من الله جل في علاه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ذكر إثبات العين لله جل وعلا على ما ثبته الخالق البارئ لنفسه في محكم تنزيله، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل لنبيه نوح صلوات الله عليه {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37]، وقال جل وعلا: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، وقال عز وجل في ذكر موسى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]، فواجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ما أثبته الخالق البارئ لنفسه من العين، وغير مؤمن من ينفي عن الله تبارك وتعالى ما قد ثبته الله في محكم تنزيله ببيان النبي صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله مبيناً عنه عز وجل في قوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فبين النبي أن لله عينين، فكان بيانه موافقاً لبيان محكم التنزيل الذي هو مسطور بين الدفتين ومقروء في المحاريب والكتاتيب. وعن أبي يونس سليم بن جبير مولى أبي هريرة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال في هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] قال: (رأيت رسول الله يضع إبهامه على أذنه، وأصبعه التي تليها على عينه)]. هكذا يشير إلى العين والأذن، والصحيح الراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يشير إلى الأذن والعين، بل كان يشير إلى محل السمع والبصر؛ حتى لا يقال: إن لله أذن كما سنبين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [(قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك). وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليس بأعور إلا أن المسيح الدجال أعور، عينه اليمنى كأنها عنبة طافية)]. فلله جل وعلا صفات أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الصفات الصفات الذاتية الخبرية، ومعنى خبرية: أي لا يمكن للإنسان أن يعتقد أن لله هذه الصفة إلا من جهة الخبر والسمع، أي: يسمع بالآيات أو يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا معنى الخبرية. وضابط هذه الصفات أنها بالنسبة لنا أو مسماها عندنا أجزاء وأبعاض، فيدي جزء مني، وعيني جزء مني، ورجلي جزء مني، لكن بالنسبة لله لا يقال: أجزاء وأبعاض، بل يقال: إنها بالنسبة لله جل وعلا صفة من صفات الكمال والجلال، ومن هذه الصفات الجليلة صفة العين، وصفة العين ثابتة لله جل وعلا، وهي تليق بجلاله وكماله وعظمته جل في علاه، وقد ثبتت هذه الصفة بالكتاب والسنة والإجماع.

إثبات صفة العين لله تعالى بالكتاب

إثبات صفة العين لله تعالى بالكتاب فأما الكتاب: فقد قال الله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37]، ووجه الشاهد: بأعيننا، وأيضاً قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]، وجه الشاهد: (بأعيننا)، وقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، وجه الشاهد (على عيني). ففي هذه الآيات إضافة العين لله جل وعلا، وإن لم تضف إلى الله ما قلنا بأنها صفة له، كما بينا في صفة الساق، فإن جاءت مطلقة فلا نقول إنها صفة، فهل ننفيها عن الله أو نثبتها؟ لا ننفي ولا نثبت حتى تأتي القرينة، وإلا لو نفينا عن الله جل وعلا هذه الصفة فلعله أثبتها لنفسه ونحن لا نعلم، أو أثبتناها فلعله نفاها ونحن لا نعلم، فإن لم تأتينا الدلالة الواضحة على صفة من صفات الله فلا نثبت ولا ننفي، فالعين ما نثبتها إلا إذا أضيفت إلى الله جل وعلا، وقد أضافها الله لنفسه فقال: {بِأَعْيُنِنَا} [هود:37]، وقال: {بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]، وقال: {عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، فالعين أضيفت لله جل وعلا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف؛ لأنها معاني وليست أعيان، فهذا وجه الدلالة من هذه الآيات.

إثبات صفة العين لله تعالى بالسنة

إثبات صفة العين لله تعالى بالسنة وأما السنة: فقد ورد في البخاري ومسلم وفي غيرهما بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه لما حذر أمته من الدجال قال: وسأصفه لكم وصفاً لم يأت به أحد لأمته، إنه أعور، -ثم قال:- وإن ربك ليس بأعور)، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما رأى رعب الصحابة من الكلام عن الدجال عندما قال لهم: (أنه يأتي على الخربة فيقول: أخرجي كنوزك فتخرج، ويأتي إلى السماء فيقول لها: أمطري فتمطر، ويستدبر الأرض كأنما تستدبره الريح) يعني: يقطعها في أوقات قليلة، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: كل هذه الأمور التي هي من مظاهر الربوبية وادعائه الإلهية لا تستغربون منها، فإن فيه علامة تثبت أنه ليس بإله ولا برب، وهذه العلامة: (إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور) أي: له الكمال المطلق، والجلال المطلق، والعظمة المطلقة، والعور عيب، والله منزه ومقدس عن كل عيب، فـ الدجال أعور معيب، (وإن ربكم ليس بأعور)، يعني: له عين لكن هذه العين ليست معيبة. وهذا محل الشاهد: (وإن ربكم ليس بأعور)، ووجه الدلالة: أنه أثبت لله عيناً وأنها غير معيبة. وأيضاً هناك بعض الآثار التي تثبت عدد العيون لله ولكنها ضعيفة، ومنها: (يسجد المرء بين عيني الرحمن)، وهذا حديث ضعيف، فيستأنس به فقط.

إجماع السلف على إثبات صفة العين لله تعالى

إجماع السلف على إثبات صفة العين لله تعالى وأما الإجماع: فقد أجمع سلف الأمة على أن لله جل وعلا عيناً تليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى، وليست بحدقة، وليست بجزء منه، بل هي صفة من صفات الكمال تليق بجلال الله جل وعلا.

إثبات أن لله تعالى عينين، والجمع بين الروايات في ذلك

إثبات أن لله تعالى عينين، والجمع بين الروايات في ذلك إذا أثبتنا لله جل وعلا عيناً تليق بجلاله وكماله فهي أكثر من عين وليست عيناً واحدة، وهذه دلالة القرآن، فقال: ((عَلَى عَيْنِي)) بالإفراد، وقال: ((بِأَعْيُنِنَا)) بالجمع، فهل نثبت لله عيناً واحدة أم أكثر من عين؟ A أن الصحيح الراجح في ذلك أن السنة تفرق لنا بين الجمع وبين الإفراد، وتبين لنا عدد الأعين التي يتصف الله جل وعلا بها، فلله عينان ثابتتان كما سنبين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم ليس بأعور)، وإذا نظرنا للآية الأولى قال: ((وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي))، فجعلها عين واحدة، ثم قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فجعلها جمعاً، فنقول: إن الإفراد والجمع لا مخالفة بينهما؛ لأن المفرد هنا مضاف، والمفرد المضاف -عند الأصوليين- يفيد العموم، فيشمل أكثر من واحد، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، فذكرت النعمة هنا بالإفراد، مع أن نعم الله تعالى تترى لا تعد ولا تحصى، لكن (نعمة) هنا مفردة مضافة إلى الله جل وعلا، والمفرد إذا أضيف فإنه يشمل ويعم. وهنا قال: ((وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي))، إذاً فلا مخالفة بينها وبين (بأعيننا)؛ لأن المفرد المضاف يشمل الجمع. فإذا قيل: إذاً فهذه الآيات تدل على أعين كثيرة. فنقول: تحتمل أنها أعين كثيرة وتحتمل أن الجمع للتعظيم، وتكون لله عين واحدة أو أكثر من واحدة، والذي يبين لنا ذلك هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم ليس بأعور). ووجه الدلالة من هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول: أن العور في اللغة معناه أن يكون الرجل له عينان إحداهما معيبة والأخرى صحيحة، فيقال: هذا أعور، يعني: له عينان: عين منهما معيبة والأخرى صحيحة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم ليس بأعور)، إذاً فله عينان، والأولى ليست معيبة والثانية أيضاً ليست معيبة. وأما الدجال فله واحدة معيبة كما في الحديث السابق. الوجه الثاني: أن المقام هنا مقام تمدح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدجال أعور)، فهو يبين عيبه، وهو في موقف مقارنة ومفارقة بين إلهية هذا المدعي المعيب وبين الإلهية الحقة التي تكون لله جل وعلا، فيقول: (إن الدجال أعور)، فمقام التمدح لله قال: (وإن ربكم ليس بأعور)، فإذا كان المقام مقام تمدح فإن تعدد الصفات يستلزم تعدد الكمالات، وكلما كثرت الصفات كثر الكمال، أما رأيتم بعض العلماء عندما يقول: الصفة إذا ضمت إليها صفة أخرى ازدادت كمالاً على كمال. فإذا قلت: الغفور الرحيم البر الكريم فهذه أسماء كلها، وكل اسم منها يتضمن كمالاً، فضم الصفة إلى الصفة والاسم إلى الاسم يعدد الكمالات، فكون لله أكثر من عين هذا يدل على كثرة الكمالات، والمقام مقام تمدح، فبين لنا أقصى ما يتمدح به أن لله عينين. ويستأنس في ذلك -كما قلت لكم- بالحديث الضعيف الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا سجد يسجد بين عيني الرحمن)، فهما ثنتان.

لوازم إثبات العين لله تعالى من الناحية السلوكية

لوازم إثبات العين لله تعالى من الناحية السلوكية إذاً أخي الكريم! إذا اعتقدت اعتقاداً جازماً صحيحاً بأن لربك عيناً وهي من صفات الكمال والجلال والعظمة لله جل وعلا -وهما عينان-، فلازم ذلك أن الله يرى بهذه العين، فكن كريماً يا عبد الله! فإذا علمت أن الله جل وعلا يرى بعينه فلا بد عليك أن تعتقد أن رؤية الله تحيط بكل شيء، فإذا خلوت يوماً فلا تقل: خلوت ولكن قل: ربي يراني، وإذا نظرت ببصرك إلى محرم وما منا من أحد يفوت من هذا، ونستغفر ربنا ونعلن توبتنا وخير الخطائين التوابون، لكن الغرض المقصود أن المرء إذا نظر ببصره إلى محرم فليعلم بأن لله جل وعلا عيناً، وأن الله ينظر إليه بهذه العين، وأن الله يراه ويسبق بصر الله بصره عندما ينظر إلى الحرام، فيستحي العبد ويكون كريماً، فلا ينظر إلى محرم، وإذا نظر تاب وآب واستغفر، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه؛ فإن الحياء من الإيمان)، بل كل الإيمان حياء، والحياء لا يأت إلا بخير، فإذا اعتقدت هذا الاعتقاد الجازم الصحيح فكن كريماً واستح من ربك؛ فإن الله ينظر إليك إذا أطلقت بصرك إلى ما حرم الله جل وعلا. وأعلم أن لربك غيرة كما أن له عيناً ينظر بها، فإذا رأى الله جل وعلا بعينه عبده يفعل الفاحشة فإن الله جل وعلا له غيرة، ومن غيرة الله أنه وضع حاجزاً وحداً بينك وبين الحرام، وهذا الحاجز اعتقادك الصحيح بأن الله يراك.

أقسام الرؤية لله تعالى

أقسام الرؤية لله تعالى وإذا اعتقدنا أن الله يرانا فإن الرؤية رؤيتان: رؤية عامة، ورؤية خاصة. فأما الرؤية العامة: فهي رؤية الإحاطة، فقد أحاط الله بكل شيء بصراً، فلا يخفى على الله شيء دق وخفي، أو جل وعظم، فإن الله جل وعلا أحاط بصره بكل شيء، فيرى النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويرى عروقها جل في علاه، فلا تواري عنه سماءٌ سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره؛ فإنه أحاط بكل شيء رؤية. وهذه الرؤية تعم المؤمن وتعم الكافر، بل تعم كل الخلائق، فالجن الذين أخفوا على البشر فإن الله يراهم، والملَك الذي لا تراه فإن الله يراه، ويرى عروق النملة الصغيرة الدقيقة، ويرى كل ما خفي ودق، فهذه الرؤية العامة التي عمت الكافر والمؤمن، وعمت كل الخلائق تستلزم التهديد والوعيد لأهل الكفر والظلمة والفسقة والفجرة، الذين يتجرءون على الله جل وعلا، ويتجرءون على عباد الله، ويتعدون حدود الله، فإن الله ببصره يراهم، فإذا رآهم الله جل وعلا وأمر الملائكة أن تكتب ما يفعلون جازاهم ونكل بهم أشد النكال في الدنيا قبل الآخرة، وإليك نبأ ذلك من كتابه جل وعلا، قال الله محذراً ومنذراً أهل الكفر والفسق والظلم والفجرة الكفرة، قال الله جل وعلا: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]، ألم يعلم هذا الكافر الفاسق الفاجر الذي يتعدى حدود الله بأن الله يراه، ولازم رؤية الله له أنه سيعذبه وينكل به أشد النكال في الدنيا قبل الآخرة، وألم يعلم الظالم عندما يظلم أن الله يراه وهو يظلم عبداً من عباده، أو ولياً من أوليائه، والله جل وعلا يقول كما في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب). وقال الله جل وعلا أيضاً في سياق مثل هذه الآية: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد:7]، وإن لم يره أحد من البشر أو من الجن أو من الملائكة فلم يكتبوا فإن رب السموات والأرض يراه، ومجازيه على ما يفعل. فهذه هي رؤية الإحاطة، فأنت إذا اعتقدت اعتقاداً جازماً بأن الله يرى كل شيء، ومحيط بكل شيء بصراً ورؤية لم تحزن على ما يفعل الكافر بالمؤمن؛ لأن الله إن لم ينصر أخاك المؤمن على هذا الكافر في الدنيا فإن الله جل وعلا سينكل بهذا الكافر نكالاً شديداً في الآخرة، فأنت تعتقد أن الله يرى فعل هذا الكافر في هذا المؤمن، والله قادر عليه، لكنه يرجئه لحكمة عنده خفية لا نعلمها، وإن بين لنا هذا الحكمة فنحن نسمع ونطيع. فهذه الرؤية -رؤية الإحاطة أو الرؤية العامة- إذا اعتقدها المرء اعتقاداً جازماً أراح واستراح. وأما الرؤية الخاصة: فهي خاصة بالمؤمنين، وهي رؤية تثبيت توفيق وحراسة وعناية ونصرة وتأييد، وهذه الرؤية خاصة بالمؤمنين فلا يدخل فيها الكافر بحال من الأحوال، وهذه الرؤية هي التي ذكرها الله جل وعلا مسلياً نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] أي: اصبر على أهل الكفر في مكة وهم يتجبرون ويتجاسرون ويتجرءون عليك، وهم يكيدون لك كيداً، وهم يمكرون بك مكراً، وكأن الفاء في قوله: (فإنك) تدل وتشعر بالعلّيّة، لِمَ؟ ((فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا))، فهذا تسلية له، فاصبر فإن الله يراك، ويرى كيد الكائدين، ويرى كفر الكافرين، ويرى تجبر الجبابرة الذين يمكرون بك ويكيدون لك، فاصبر على ذلك لَمِ؟ لأن الله يراك ويراهم، والله إذا رآك ورآهم فإنه قادر عليك وقادر عليهم، فالله سيعصمك منهم، {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد ظهر ذلك جلياً، فقد رأى الله جل وعلا أبا جهل ومن معه من صناديد قريش وهم يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم لقتله، فحدث بسبب هذه الرؤيا تسديد وتأييد وتوبيخ، فلما اجتمع الفتية ليقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم ينظرون إليه، فجعل الله من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً، فهذا لازم من لوازم رؤية التسديد والتوفيق، فالله رآهم يفعلون ذلك فسدد ونصر النبي صلى الله عليه وسلم، ووفقه للخروج من هذا المأزق، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]. ونوح عليه السلام أيضاً قال الله تعالى تسلية له: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37]، فالله يراه وهو يصنع الفلك وهم يمرون عليه ويسخرون منه، وهو يسخر منهم، والله يرى هذه المجادلة، وبعدما رأى الله جل وعلا ذلك سلى نبيه أنه سيحفظه وسيسدده وسينقذه، ثم جاء فصل الخطاب الذي يؤكد لنا ذلك، ففجر الله تعالى الأرض عيوناً، وأمطرت السماء ماءها، فاجتمع ماء السماء مع ماء الأرض والعيون فأغرق كل شيء إلا سفينة نوح، فهذه من رعاية الله جل وعلا، وهي من لوازم رؤيته لنوح، قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، فأنقذ الله نوحاً ومن معه في هذه السفينة التي كانت تسير في هذه الأمواج المتلاطمة الشديدة، فسدد الله ووفق ورعى نوحاً ومن معه رعاية منه جل وعلا. وأيضاً تسديده وتوفيقه ونصره لموسى عليه السلام وهارون ضد فرعون، فإن موسى خشي أن يذهب إلى فرعون: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45]، فقال الله تعالى مبيناً لهما رؤية الإحاطة والتسديد والتوفيق والنصرة: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، قال ابن عباس: أرى ما يكيدون وما يدور بينكم وبينه، وأحفظكم من كل سوء يدور بكم، أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه. فقال الله جل وعلا لمن يفقه ويعقل عنه هذا الكلام: ((إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى))، وكأن موسى فهم من ذلك وفقه عن الله جل وعلا أنه إذا رآك خاصة وأنت مؤمن تنافح عن دينه فإنه سينصرك وسيوفقك وسيسددك، وهذا الذي حدث فقد أنقذ الله جل وعلا موسى ومن معه من بني إسرائيل من يدي هذا الكافر فرعون عليه من الله ما يستحق. إذاً: فالرؤية الثانية هي رؤية التوفيق والتسديد والنصرة، وهذه خاصة بالمؤمنين.

رؤية التوفيق والتسديد الخاصة بالمؤمنين هل تشمل العاصي؟

رؤية التوفيق والتسديد الخاصة بالمؤمنين هل تشمل العاصي؟ يبقى لنا في هذه المسألة أمر وهو: إذا كانت هذه الرؤية -رؤية التوفيق والتسديد- خاصة بالمؤمنين فهل تشمل العاصي أم لا؟ و A أنها تشمل ولا تشمل، نفي وإثبات، فعند طاعته وعند تقربه إلى الله جل وعلا بالطاعات فهو مؤمن يستبشر بقول الله تعالى: ((إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى))، وعندما يفسق ويفجر ويعصي الله جل وعلا فإنه يخرج من هذه الرعاية والتسديد والتوفيق، نعوذ بالله من الخلان، وكما قال بعض العلماء: إذا سقط العبد من عين الله جل وعلا وَكَلَه لنفسه، فإذا وَكَلَه لنفسه وَكَلَه إلى ظلمة، وإلى بوار، وإلى ضياع. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله ليل نهار: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين). فالصحيح الراجح أن نقول: إنه عند التُّقى، وعند الصلوات الخمس، وعند النوافل، وعند التسبيح، وعند الذكر، فليبشر بخير؛ لقول الله: ((إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى))، فليبشر بتسديد وتوفيق ونصرة وإعانة ورعاية الله له، وأما عند الفسق والفجور فلنا كلمتان: الكلمة الأولى: إن كان صادقاً مخلصاً فإن الله جل وعلا أيضاً يكلؤه برحمته، ويجعله يتوب ويئوب، ويجعله يستحي من ربه مما فعل، وإلا نزل تحت الوعيد: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]، وسيحاسب على ذلك، نعوذ بالله من الخذلان.

مذاهب أهل البدع تجاه هذه الصفة، والرد عليهم

مذاهب أهل البدع تجاه هذه الصفة، والرد عليهم إننا نثبت صفة العين لله بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، فالعين في اللغة معلومة، وهي لها كيفية لكن نحن نجهل هذه الكيفية، وهو سبحانه يعلم كيفية صفته، فالكيف بالنسبة لنا مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وأما أهل الضلالة والتحريف والتبديل الذين لا يعتقدون الاعتقاد السليم في ربهم، فقالوا: إن معنى قوله تعالى: ((وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)) أي: على رؤيتي، وقد وقع بعض أهل السنة والجماعة في هذا التأويل، فقالوا في قول الله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] أي: برؤيتنا، فقالوا: ليس لله عين، قالوا: ولو أثبتم لله عيناً فقد شبهتموه بخلقه، إذاً فلا بد أن ننفي هذه الصفة. والذين ضلوا في هذا الباب هم المشبهة والمعطلة والمحرفة، فالمعطلة هم الجهمية والمعتزلة، والمشبهة هم الذين غلوا في الإثبات، فشبهوا الخالق بالمخلوق، والمحرفة هم الأشاعرة الذين يقولون: نؤول، وهو تحريف وليس بتأويل. فالجهمية المعطلة قالوا: لا نثبت لله عيناً، وهؤلاء عندهم غلو، وهم أيضاً يقولون: لا سمع ولا سميع، ولا بصر ولا بصير، فنفوا كل الصفات، فهؤلاء يرد عليهم بأنهم خالفوا ظاهر القرآن وظاهر السنة، وخالفوا أبناء الأمة، وأيضاً قدحوا في الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا القدح يرجع إلى من حرف، وإلى من قال بالرؤية دون إثبات العين. فنقول لهم: إن الله أنزل كتابه على رسوله ليبينه للناس: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، ومن ضمن الذكر الذي نزل على رسوله ليبينه للأمة قول الله تعالى: ((وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي))، وقول الله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، وقول الله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]، فالواجب على الرسول في هذه الآيات التبليغ ثم التبيين. فإذا قلتم: إننا لا نثبت العين وأن النصيب فيها الرؤية إذاً فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد قصر في التبيين، فيلزمكم ذلك، وحاشاه صلى الله عليه وسلم، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ أتم البلاغ، وبيّن أتم البيان، ولما لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم بأن العين ليست عيناً ولكنها رؤية، علمنا أنه قد أثبت لربه ما أثبته لنفسه وهي العين. إذاً فالمعطلة خالفوا الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فالاعتقاد الصحيح أن لله جل وعلا عيناً تليق بجلاله وكماله.

الرد على المعطلة في استشهادهم بقوله تعالى: (تجري بأعيننا) على إنكار صفة الرؤية لله عز وجل

الرد على المعطلة في استشهادهم بقوله تعالى: (تجري بأعيننا) على إنكار صفة الرؤية لله عز وجل يبقى هنا إشكال واحد وهو: أن الله تعالى يقول: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، فجاء أهل التحريف والتعطيل وقالوا: هل السفينة كانت تجري في عين الله؟ و A أن الباء هنا ليست للظرفية ولكنها للمصاحبة، أي: تجري برؤيتنا، ولازم الرؤية الإحاطة والنصرة والتسديد. فأنت إذا جاءك ضيف ومعه ولد فقال لك: اعتني بولدي هذا حتى أرجع إليك، فإنك تقول له: ولدك في عيني، أي: سأراه، ولازم رؤيتي له أن أرعاه وأسدده وأحفظه من كل سوء إن استطعت ذلك، وكذلك قولك: أنت في قلبي، تعني: حبك في قلبي، وقولك: أنت في عيني، أو ولدك في عيني، أي: تحت رعايتي وبصري، إذاً فلا إشكال في قول الله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، وأن (الباء) ليست للظرفية، وإنما هي للمصاحبة، أي: تصحبك رؤيتي، ولازم ذلك أن تصحبك رعايتي ونصرتي وتوفيقي وتسديدي لك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

باب إثبات السمع والرؤية لله جل وعلا

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - باب إثبات السمع والرؤية لله جل وعلا صفتا السمع والبصر صفتان ثابتتان لله عز وجل بالكتاب والسنة والإجماع، وسمع الله سمع عام يعم كل المخلوقات، وسمع خاص يخص المؤمنين المتقين الصالحين، وسمعه سبحانه لا يشبه سمع المخلوق، فإن التوافق في الاسم لا يستلزم منه التساوي في المسمى، فسمع الله سبحانه أزلي أبدي غير محدود، وسمعه وسع كل المخلوقات، ولا يشغله صوت عن صوت، وأما سمع المخلوق فهو ناقص إلى زوال، وهو سمع محدود، ويشغله صوت عن صوت.

إثبات صفتي السمع والرؤية لله جل وعلا

إثبات صفتي السمع والرؤية لله جل وعلا إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب إثبات السمع والرؤية لله جل وعلا: قال الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، وقال عز وجل في قصة المجادلة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1]، وقال عز وجل: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:80]، وقال سبحانه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]. وعن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: قد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فأنصرفت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا بها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: يا محمد! إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال فصلى علي، ثم قال: يا محمد! إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني أمراً وبما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً).

ثبوت صفتي السمع والبصر لله تعالى في الكتاب

ثبوت صفتي السمع والبصر لله تعالى في الكتاب لقد ثبتت صفتا السمع والبصر لله جل وعلا في الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة، فأما الكتاب: قال الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] أي: قد سمع الله جل وعلا قولها، فأثبت لنفسه السمع، وأيضاً قول الله تعالى: {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15]، وقال الله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، فهذه الآيات تدل على سماع الله جل وعلا. وأيضاً من الدلالات على إثبات السمع لله جل وعلا أن الله عاب على الكافرين الذين يعبدون الأصنام وهي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، فقال الله تعالى موبخاً ومقرعاً أهل الكفر: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء:72] يعني: هذه الأصنام هل لها آذان تسمع؟ فالأصنام لا تسمع منكم، ولا تجيبكم، ولا تنفعكم، ولا تضركم، فأنكر عليهم ذلك، ففيها دلالة على أن الله يسمع، فكأنه قال: هل يسمعونكم كما أسمع أنا؟ وأيضاً قول الله تعالى حاكياً لنا ومقراً لإبراهيم الذي أنكر على أبيه آزر أو على عمه على بعض أقوال أهل العلم، أنه قال: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42] أي: لابد أن نعبد الذي يسمع ويبصر وهو الله سبحانه، وهذا يدل على أن مقام النصح مقام المقارنة، إذاً: فصفة السمع وصفة البصر ثبتتا لله جل وعلا في الكتاب.

ثبوت صفتي السمع والبصر لله تعالى في السنة

ثبوت صفتي السمع والبصر لله تعالى في السنة وأما السنة: فقد جاءت أحاديث بينة تثبت لله السمع والبصر، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات) وسبحان: تنزيه وتقدير لرب البرية جل وعلا، (إن المجادلة لتشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية المنزل يخفى علي بعض حديثها، فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1]). وأيضاً في السنن: لما سألت عائشة رضي الله عنها وأرضاها النبي صلى الله عليه وسلم: (هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟)، ويوم أحد معلوم، وقد كان فيه نكاية شديدة على المسلمين، فقد قتل حمزة أسد الله وأسد رسوله، وقتل ما يقارب السبعين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال أبو سفيان للمسلمين يومئذ: يوم بيوم بدر والحرب سجال، ثم قال: اعلُ هبل، فلما قال ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أما أحد منكم يرد عليه ويقول: (الله أعلى وأجل)، فقال: يوم بيوم بدر، فقال عمر بن الخطاب: قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. فيوم أحد كان فيه مرارة شديدة على المسلمين. فقالت: (هل مر عليك يوم أشد من يوم أحد؟ فبين لها الرسول صلى الله عليه وسلم أن أشد الأيام صعوبة مرت عليه هو يوم أن عرض نفسه على ابن عبد ياليل فُرد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رد النبي صلى الله عليه وسلم بات مهموماً مغموماً، فجاءه جبريل -تسلية من الله جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم- ومعه ملك الجبال، فسلما عليه صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله جل وعلا قد سمع قول قومك لك). ووجه الشاهد هنا: أن الله جل وعلا يبين صفة السماع، فهو سمع ما حدث وما دار، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً من الأحاديث التي تثبت صفة السمع ما جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا، فلما كنا على مشارف المدينة كبرنا تكبيراً عالياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً). فهنا صفات سلبية وصفات ثبوتية، فقوله: (إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً) نفي لصفة الصمم، وقوله: (إنما تدعون سميعاً بصيراً) فيه إثبات السماع والرؤية لله جل وعلا. وأيضاً: أجمع أهل السنة والجماعة على أن هذه الصفات ثابتة لله جل وعلا ثبوتاً يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى وعظمته وبهائه، وإذا أثبتنا ذلك فحري بكل مسلم أن يعلم أن سمع الله جل وعلا أحاط بكل شيء، فلا تختلف عليه اللغات، ولا يشكل عليه صوت من جهر ولا من سر، فهو سبحانه يعلم السر وأخفى، ويسمع كل شيء، ويسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، فأحاط الله جل وعلا بكل شيء سمعاً. فإذا كان المؤمن يعتقد هذا الاعتقاد الجازم بأن الله يسمع سره، ويسمع ما يخفض به من الكلام، ويسمع ما يجهر به، فحري بكل مسلم ألا يسمع الله جل وعلا إلا ما يحبه ويرضاه، وألا يسمع الله إلا ما يقربه منه، ولا يسمع الله إلا الثناء عليه سبحانه، أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو مجالس الذكر والعلم، أو قراءة القرآن، فلا يهذي بكلمات تبعده عن رب البرية جل وعلا، وإذا اعتقد أن الله يسمع ما يقول فحري به أن يتدبر ما يقول، ويعي الدرس جيداً كما وعاه قبله الصحابة الكرام عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم) فالرجل إذا وعى الدرس جيداً، وعلم أن ربه يسمع ما يقول، فإنه لا بد أن يكون رقيباً على كلامه، ولا يتكلم إلا بما يحب الله جل وعلا ويرضاه.

تقسيم سماع الله إلى قسمين خاص وعام

تقسيم سماع الله إلى قسمين خاص وعام سماع الله سماع عام وسماع خاص، فأما السماع العام: فهو يعم كل المخلوقات، فقد أحاط الله بكل شيء سمعاً، كما قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (سبحان الذي وسع سمعه كل الأصوات) فكل الأصوات من حيوانات برية أو بحرية، ومن مخلوقات في السموات أو في الأرضين، من جن أو إنس أو ملك فإن الله يسمع كل هذه الأصوات، سمعاً عاماً وسمع إحاطة. فهو يسمع الكافرين ويسمع المؤمنين، وهذا السمع يستلزم التهديد الأكيد والوعيد الشديد، فقد هدد الله الكافرين بهذه الصفة العظيمة الجليلة، لكن لا يعي ذلك إلا من نور الله بصيرته، فإن أهل الكفر والإلحاد إذا اعتقدوا هذا الاعتقاد ما افتروا على الله جل وعلا وعلى محارمه، وانظروا كيف سبوا الله جل وعلا وأمهلهم، لكنه هددهم بهذه الصفة العظيمة، قال الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] فهذه الآية فيها تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل الكفر الذين يسبون الله جل وعلا، ولا يغرنكم صبر الله جل وعلا عليهم أبداً، فإن الله جل وعلا هددهم وتوعدهم بهذه الصفة. قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181] فهذا تهديد يبين أن الله جل وعلا يسمع ما يقولون من سب له جل وعلا، وانتقاص من قدره، وأن ذلك لا يضيع، بل هو مكتوب، وقد سمعه الله جل وعلا وسيجازيهم عليه. وأما التهديد لأهل النفاق الذين هم أشد من أهل الكفر، فقد هددهم الله بقوله سبحانه: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] وقال: (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:108] فهم يحسبون أن الله جل وعلا لا يسمع ما يبيتون، والله يكتب ما يبيتون ويسمع ما يبيتون، والله جل وعلا إذ يسمع مكر الماكرين ونفاق المنافقين فإنه يجازيهم على ذلك، فهذا هو الاعتقاد الصحيح أن تعتقد اعتقاداً جازماً أن الله لا يخفى على سمعه شيء. السمع الثاني: سمع خاص، وهو خاص بالمؤمنين المتقين الصالحين، وقد يدخل الكافرون معهم لأمر ما، وهذا السمع يستلزم سماع الدعاء والإجابة، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] أي: يستلزم سماع الله جل وعلا لدعاء المرء أنه يسارع في إجابته، ويسارع فيما ينفعه، فقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75] أي: سمع الله نداءه، فما من مؤمن يدعو الله تعالى بصوت خافت أو يستغيث به إلا وسمعه الله جل وعلا سمع إجابة وسارع له في تفريج الكربات، فهذا السمع الذي هو خاص بالمؤمنين هو سماع إجابه لتفريج الكربات، ورفعة الدرجات، وغفران للزلات. وهذا يونس عليه السلام لما كان في الظلمات ونادى كما قال تعالى: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] أي: نادى بصوت إما عالٍ وإما منخفض، ففي الحالتين لا يخفى الصوت على الله جل وعلا، فلما نادى سمعه الله جل وعلا، فاستجاب له وأنقذه من هذه المهالك وهذه الظلمات. وهذا السمع سمع تفريج للكربات، وأيضاً إجابة للدعوات، فقد سمع الله جل وعلا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم، اللهم أنجز وعدك الذي وعدت، اللهم نصرك الذي وعدت) فاستجاب الله له بعدما سمعه وهو يدعو ويستغيث به جل وعلا. ومن السمع الخاص: استجابة فوق هذه الاستجابة، وهي استجابة مدح وثناء، وهذه الاستجابة هي استجابة المناجاة، فهذه والله أعلم يدخل فيها الصالحون المتقون المخلصون، وهذه المناجاة يرفع الله بها العبد فيثني عليه في الملأ الأعلى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سمع الله لمن حمده)، فالذي يحمد الله يجازيه الله بجنس العمل، فهو يسمع الله خيراً فيثني الله جل وعلا عليه خيراً في الملأ الأعلى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)، وهذا الملأ هو ملأ الملائكة، فهذا هو سمع المناجاة الذي يستلزم الثناء والمدح من الله جل وعلا. وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر عن قيامه بالليل فقال: (لم تخفض صوتك؟ قال: إني أسمع من أناجي) فإن كان لا يسمع أحداً فإن الذي يناجيه يسمع، وهو الذي يضع الناس في مكاناتهم لسماعه جل وعلا. ومن سمع الله الخاص: سماع التسديد والنصرة والتوفيق، وهذا السماع أيضاً يفهم من قول الله تعالى لموسى: {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15] يعني: ما يدبر لكم فرعون وملؤه وما يقولون، فنحن معكم ننجيكم من عذاب فرعون. وأيضاً قال الله تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وقد أشبعنا القول في هذا الباب في باب الرؤية. إذاً: فالسماع الخاص هو سماع تسديد وتوفيق ونصرة، وهو سماع استجابة للدعوات وتفريج للكربات، وسماع يستلزم الثناء والمدح في الملأ الأعلى.

سمع الله لا يشبه سمع المخلوقين

سمع الله لا يشبه سمع المخلوقين إذا قلنا: إن هذه هي صفات سماع الله جل وعلا، وأن المرء حري به أن يعتقد هذا الاعتقاد الصحيح ويسير به إلى الله جل وعلا، فنقول: إن سمع الله لا يشبه أي سمع؛ رداً على المشبهة الذين غالوا في الإثبات وقالوا: لله سمع يشبه سمع المخلوقين، فقلنا: لِمَ؟ قالوا: إن الله سمى هذه صفة السمع، وإن الله جل وعلا خلق المخلوق البشر وله سمع وله بصر، قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:1 - 2]. فالله الخالق سميع والإنسان سميع، إذاً: فسمع الله يشبه سمع المخلوق، فنقول: لا، فسمع الله لا يشبه سمع المخلوق، ونرد عليهم بقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فالله أثبت لنفسه السمع والبصر، وخلق الإنسان سميعاً بصيراً، وهذا هو الاعتقاد الصحيح الذي نتكلم به، فنعتقد أن الله سميع، والسمع معلوم في اللغة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فلا يستلزم التساوي في السمع، والتوافق في الاسم لا يستلزم التساوي في المسمى، فلله سمع وللمخلوق سمع، ولكن سمع الله جل وعلا لا يستلزم أن يكون كسمع المخلوق بالتساوي في الاسم، فالإنسان له سمع والحمار له سمع، وللقرد سمع، فهل سمع الإنسان يشبه سمع الحمار؟! وهل سمع الحمار يشبه سمع القرد؟! وهل سمع القرد يشبه سمع الطفل؟! A لا، فإن قلنا: إنه لا تشابه فمن باب أولى أن نقول: إن سمع الله جل وعلا لا يشبه سمع المخلوق، فسمع الله جل وعلا أزلي أبدي، وليس له فناء، وسمع الإنسان ناقص له فناء وهو إلى زوال، وسمع الله جل وعلا غير محدود، ووسع كل المخلوقات وكل الأشياء، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي من شيئاً)، فالله جل وعلا لا تختلف عليه اللغات، فهذا الجني وهذا الإنسي وهذا الحيوان، كل منهم يتكلم بصوت مسموع يعلمه الله جل وعلا، ولا يشغله سبحانه صوت عن صوت. وأما سمع الإنسان فهو محدود، ويصل سمعه إلى مسافة محدودة، بل يشغله صوت عن صوت، ويشوش عليه صوت الصوت الآخر، فسمع الله جل وعلا يليق بجلاله وكماله وعظمته، وسمع الإنسان يليق بنفسه ويليق بضعفه ويليق بزواله، فسمع الله جل وعلا لا يشبه سمع المخلوقين. وهذا فيه رد على المعطلة الذين نفوا صفة السمع عن لله جل وعلا، وهؤلاء هم الذين جرءوا علينا أهل الكفر والإلحاد، فإن أهل الكفر والإلحاد عاب الله عليهم أنهم يعبدون ما لا يسمع ولا يبصر، ويعبدون صنماً، والجهمية بقولهم هذا يعبدون صنماً، فهم يقولون: لا سميع ولا سمع، لا بصير ولا بصر، وينفون عن الله صفة السمع وصفة البصر، فهم يعبدون صنماً، فجرءوا علينا أهل الكفر والإلحاد. ونحن نرد عليهم بأنهم خالفوا ظاهر الكتاب وظاهر السنة وخالفوا إجماع أهل السنة والجماعة، ولا دليل لهم يخرجهم عن إثبات الصفة لربنا جل وعلا، فقد أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: فلله سمع ليس كسمع البشر، ولله بصر ليس كبصر البشر، وصفاته سبحانه تليق بجلاله وكماله. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

تكملة باب إثبات اليد لله جل وعلا

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - تكملة باب إثبات اليد لله جل وعلا من الصفات الثابتة لله تعالى في الكتاب والسنة: صفة اليد، وهي صفة لا تشبه صفات المخلوقين، وقد ضل فيها طائفتان من الناس، فمنهم من شبهها بصفة المخلوقين لاشتراكهما في الاسم، ومنهم من عطلها وأولها وأنكرها فراراً من التشبيه.

اليد صفة من صفات الله لا تشبه يد المخلوق

اليد صفة من صفات الله لا تشبه يد المخلوق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن كتاب التوحيد لإمام الأئمة ابن خزيمة في إثبات صفات الرب عز وجل كتاب عظيم جليل. وقد سبق ذكر صفة اليد، وسوف نبين هنا منهج ابن خزيمة في هذه المسألة. صفة اليد صفة جليلة عظيمة، وهي من الصفات الثبوتية الذاتية الخبرية التي ثبتت لله في الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة، وذلك كما يليق بجلال الله وكماله، وأما كيفيتها فلها كيفية لكنها غير معلومة لنا، بل هي مجهولة، ويجب أن نفوض هذه الكيفية لله جل وعلا. فمن آيات الصفات قول الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات:47 - 48]، وقوله جل وعلا: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:12 - 13]، وقوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65]. فقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]، أيد: جمع يد، وهذه من آيات الصفات التي لا بد أن نعتقدها وأن نتعبد بها لله جل وعلا، ولكي نعرف الآية هل هذه من آيات الصفات أو لا، لا بد أن نعلم أن كل آية تذكر فيها صفة من الصفات، كالعين أو اليد، أو غيرها لا يمكن أن نثبتها لله جل وعلا حتى تضاف، وإلا فكيف نثبتها؟! وأما قول الله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42] فإن الساق هنا لم تضف إلى الله جل وعلا، ولكن الذي جعل هذه الآية من آيات الصفات هو حديث في الصحيحين وفيه (أن الله جل وعلا يوم القيامة يكشف عن ساقه، فيسجدون له) فالضابط في آيات الصفات أنه لابد أن تذكر الصفة مضافة إلى الله جل وعلا من باب إضافة الصفة للموصوف، أما إذا أطلقت فلا نستطيع أن نثبتها لله جل وعلا إلا بقرينة أخرى. فالأيد والأيادي جمع يد، ومنهم من قال: إن معناها بقوة فهي ليست من آيات الصفات.

قول المشبهة في صفة اليد

قول المشبهة في صفة اليد أما أصحاب الغلو في الإثبات فقالوا: نثبت لله يداً كما جاء في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، وقال صلى الله عليه وسلم: (وكلتا يديه يمين)، وقد أثبت الله للمخلوق يداً فقال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، فإذا قلنا بذلك فيد الخالق تشبه يد المخلوق، فالله أثبت لنفسه يداً وسماها يداً، وأثبت لعبده يداً وسماها يداً. ونجيب عليهم بالقاعدة التي قعدها أهل العلم، وقد استقوها من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن كلام علماء السلف الصالح وهي: أن الاشتراك في الأسماء لا يستلزم التساوي في المسمى، فإذا كان لله يد وللإنسان يد فإن يد الله لا تشبه يد الإنسان، وبالقياس الجلي فالله جل وعلا خلق للإنسان يداً، وخلق للبعير يداً وخلق للحمار يداً وخلق للقرد يداً، فهل يد الإنسان تماثل يد القرد أو يد الفيل؟ A أنها لا تشترك معها إلا في الاسم فقط، وأما المسمى فلا تشابه، فإذا استوى الاسم واختلف المسمى بين المخلوقات فمن باب أولى وبالقياس الجلي أن يد الخالق لا يمكن أن تماثل يد المخلوق وإن وجد التساوي في الاسم، فهذا هو الرد على المشبهة الذين غلوا في الإثبات، لذا فالمشبهة تعبد صنماً.

مذهب أهل التعطيل والتأويل في صفة اليد

مذهب أهل التعطيل والتأويل في صفة اليد إن الذين حرفوا وعطلوا يعبدون عدما؛ لأنهم قالوا: ليس لله يد، ولو قلنا: إن لله يداً لشبهنا الخالق بالمخلوق؛ لأن اليد جارحة، والجارحة لا تصلح لله عز وجل، ولذلك فروا من القول بأن لله يداً، وقالوا: إن المقصود باليد في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] النعمة، وهذا وارد في اللغة، وقد جاء في حديث صلح الحديبية أن أبا بكر قال لـ عروة: أنحن نفر عن رسول الله؟ امصص بظر اللات، فقال: من هذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، أي: لولا أن لك نعمة عندي لم أكافأك بها لأجبتك على هذه المسبة التي سببتني بها، فقوله: لولا يد لك عندي، اليد هنا بمعنى النعمة.

الرد على أهل التعطيل والتأويل في تأويلهم صفة اليد بالنعمة

الرد على أهل التعطيل والتأويل في تأويلهم صفة اليد بالنعمة إن الجواب على أهل التأويل الذين أولو اليد بالنعمة يكون بصريح القرآن، قال الله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] فهل معنى ذلك: نعمة الله فوق أيديهم؟! وهل أنتم أعلم أم الله ورسوله، ثم الصحابة الكرام حتى تفسر اليد بما لم يفسروها؟! وهل الله جل وعلا يعجز أن يأتي بنفس اللغة فيقول: نعمة الله فوق أيديهم؟ وكأن الله لم يجد من يساعده على أن يصرح بلفظ النعمة، فالله يقول: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] وأنتم تحرفونها عن موضعها وتقولون: إن معناها النعمة، ولو كانت اليد بمعنى النعمة لبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مأمور شرعاً أن يبين كل ما أنزل عليه، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين ذلك فالآية على ظاهرها، وقولكم يخالف ظاهر القرآن والسنة وإجماع السلف. ولو افترضنا أن اليد بمعنى النعمة فلن يستقيم كلام الله وكلام رسوله الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى يقول لإبليس -منكراً عليه-: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، فإذا وضعت كلمة نعمتي مكان يدي للزم من ذلك لوازم باطلة منها: حصر نعمة الله في نعمتين فقط، وحاشا لله أن يكون كذلك، قال الله تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، فنعمة هنا مفردة مضافة فتعم كل النعم. وقال الله عن إبراهيم: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل:121]، وهذا جمع يدل على أن أنعام الله كثيرة وغزيرة لا تعد ولا تحصى، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين أن الأراضين جميعاً والسموات بيد الله جل وعلا قال: (وبيده الأخرى الميزان يرفع ويخفض) فهل يمكن أن نؤول اليد بالنعمة ونقول: وبنعمته الأخرى الميزان، وبالنعمة الأولى السماوات والأرض؟! فهذا أيضاً من أبطل الباطل الذي لا تستقيم معه اللغة، ولا يتناسب مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا أولنا اليد بالقدرة ووضعنا القدرة مكان كلمة يد، وقلنا: قدرة الله فوق أيديهم، فلا يمكن أن يستقيم المعنى، ولذلك ليس عندهم دليل ولا قرينة تصرف هذا الظاهر عن ظاهره. وأيضاً في آية أخرى قال الله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] فليس المعنى: بقدرتي؛ لأن قدرة الله واحدة باتفاق أهل العلم لغة وعقلاً وشرعاً، وهي قدرة عامة تعم كل شيء، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]، فلازم هذا القول أن تكون القدرة متعددة، وهذا باطل. وأيضاً: إذا قلنا: إن معنى قول الله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] أي: بقدرتي، فإنه لا مزية لإبليس على آدم، وهذه الآية تثبت لنا أن الله فضل آدم على إبليس وأمره بالسجود له، وهذا من اللوازم الباطلة، وهو من كلام أهل الجاهلية، فإنهم يجعلون لإبليس حجة على الله؛ لأن الله فضله على آدم وأمره بالسجود له وقد خلقهما بقدرته. ومن اللوازم الباطلة كذلك أنه لا مزية لآدم على سائر الخلق فقد خلق الله الحيوانات جميعاً بقدرته، وهذه الآية بينت المزية التي امتاز بها آدم على إبليس وعلى سائر الخلق، وهي أن الله باشر خلقه بيديه، فقال {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وهذه من اللوازم الباطلة التي لا يمكن أن يقبلها المسلم، وهذا رد على المؤولة الذين خالفوا ظاهر القرآن والسنة، وخالفوا إجماع أهل السنة، ولو قلنا بكلامهم للزمنا لوازم باطلهم قد تصل بالإنسان إلى الكفر. ونحن نعتقد في قول الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] أن يد الله جل وعلا لا تشبه أيدي المخلوقين.

الأدلة على أن لله يدين

الأدلة على أن لله يدين لقد أثبت الله لنفسه اليد، فكم لله أيد؟ يقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس:71]، وقد يفهم من الآية أن لله أيد كثيرة، وهذا خطأ، فليس لله أيد كثيرة، وإنما له يدان فقط، والدليل على ذلك من الكتاب قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، ومن السنة: (كلتا يدي ربي يمين). والجواب عن تلك الآية التي قد يفهم منها أن لله أيد كثيرة هو أن الجمع (الأيدي) هنا يدل إما على الذات كقول الله تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، فالكسب يشمل فعل الإنسان نفسه، وإما أن يدل على التعظيم، فقد أثبت الله جل وعلا لنفسه يدين اثنتين عظيمتين جليلتين تليق بجلال الله وكماله.

اختلاف أهل السنة هل لله يد شمال

اختلاف أهل السنة هل لله يد شمال اختلف أهل السنة والجماعة هل لله يمين وشمال؟ فكثير من أهل السنة والجماعة يثبتون لله اليمين ويثبتون له الشمال، ودليلهم على ذلك ما جاء عن سالم بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله جل وعلا يطوي السماوات بيمينه، وبشماله الأراضين) فذكر الشمال، وأيضا هناك رواية عن ابن يسار عن عمر بن الخطاب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله جل وعلا مسح على ظهر آدم باليمنى فأخرج الذرية، فقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وبشماله أخرج الذرية، فقال: هؤلاء للنار ولا أبالي). فالرواية الأولى أثبتت أنه يطوي الأراضين بشماله، والرواية الثانية عن عمر فيها أن الله يمسح على ظهر آدم بشماله، فأثبت له اليد الشمال، فمن أهل السنة والجماعة من قال: يوصف الله تعالى بأن له يداً شمالاً، وأنها تليق بجلال الله وكماله، وإذا كانت اليد الشمال بالنسبة للعباد فيها نقص فاليمنى عندهم أقوى من اليسرى، واليسرى فيها شيء من الوهن، فالله ينزه عن كل نقص، فإذا وصف الله بها دلت على الكمال والعظمة والبهاء. وجمهور أهل السنة والجماعة -وهو الذي نرجحه- على أن الشمال لا يوصف بها الله جل وعلا، ابن خزيمة يرى في كتابه أن الشمال لا يوصف بها الله جل وعلا، وأيضا درج على ذلك البيهقي والقرطبي، ورجح ذلك النووي والحافظ ابن حجر أن الله لا يوصف باليد الشمال. واستدلوا على ذلك بأدلة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما تحدث عن يدي الله لم يذكر إلا اليمين فقال (يمين الله ملأى سحاء الليل والنهار لا يغيضها نفقة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (وكلتا يدي ربي يمين)، وقال آدم عليه السلام لما خيره الله جل وعلا: (أختار يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين)، وهذا إقرار من الله لآدم على أن كلتا يديه يمين. وفي الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب) مع أن الله أول ما خلق القلم أخذه بيمينه، فقال: وكلتا يدي ربي يمين. فكل هذه الأدلة تثبت أن كلتا يدي الله يمين، فهذا تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم ومن آدم عليه السلام، وابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يقول: وكلتا يدي ربي يمين، وأيضا حديث: (المقسطون -الذين يعدلون- على منابر من نور على يمين الرحمن)، فهذه الأدلة كلها من الآثار الصحيحة الصريحة تصرح بأن كلتا يدي الله جل وعلا يمين، فهذا يضعف لنا قول من قال: بأن الله له يد شمال؛ لأن كل الروايات تدل على أن كلتا يديه يمين، فالصحيح الراجح أن الله جل وعلا لا يوصف بالشمال أثراً ونظراً. فأما الأثر: فما أوردناه من الآثار والأحاديث التي تثبت بأن كلتا يدي الله يمين. وأما من النظر فإن هناك قاعدة مهمة لطلبة العلم وهي: كل صفة توهم نقصاً فإننا ننزه الله عنها، كالخيانة فإنها نقص فلا يمكن أن نصف بها الله تعالى، وكذلك لا يجوز أن يقال: إن الله ماكر؛ لأن إطلاق المكر على الله يوهم أنها صفة نقص، ولكن إذا كانت من باب المقابلة فيجوز، كأن يقال: إن الله يمكر بالماكرين، ويخطئ بعض الذين لا يعرفون عن العقيدة شيئاً عندما يقولون: لا تخشى، فإن الله ضار وسيضر الظالمين، ويقولون: يا ضار ضر الظالمين، وهذا سوء أدب مع الله جل وعلا، فلا يجوز أن يقال عن الله جل وعلا: الضار ويُسكت، بل لابد وأن يقرن معه: النافع، فيكون: الضار النافع؛ لأن إطلاق الضرر يوجب نقصاً في حق الله، وأي صفة توجب نقصاً إذا أتصف بها الله جل وعلا وجب علينا أن ننزه الله جل وعلا عنها. فلا بد إذاً أن نقرن مع الصفة صفة أخرى، فنقول: الخافض الرافع، المحيي المميت، الأول الآخر، الظاهر الباطن، فكل صفة توهم نقصاً فلا بد أن ننزه الله عنها، والشمال يوهم نقصاً، والعرب الأقحاح يعتبرون اليد اليسرى أو الشمال نقصاً، ولذلك لا بد أن ننزه الله عنها. وأما إذا ثبت الحديث الدال على أن لله يد شمال فنقول: إنها تليق بجلال الله وكماله، ولكن إذا لم يثبت الحديث نقول: هذا نقص، ولم يأت دليل يدل على ذلك، والصحيح الراجح أنه لا يوصف الله جل وعلا بالشمال، فكلتا يديه يمين، من اليمن والبركة، وهي يمين حقيقة.

إثبات الأصابع لله عز وجل

إثبات الأصابع لله عز وجل إن لله سبحانه أصابع، ولا يقال: إن هذه الأصابع ليس لها كيفية، بل لها كيفية يعلمها الله، وأما نحن فلا نعلمها، والأصابع معلومة في اللغة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعه، والحديث ظاهر جلي كالشمس في الأفق وإن شغب المشاغبون والجهلة المبتدعون عليه، ففي الصحيحين: أنه دخل حبر من أحبار اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد! إن الله جل وعلا يحمل الأراضين على ذه، والجبال على ذه، والشجر على ذه، والماء على ذه -وفي رواية: الخلق على ذه- والثرى على ذه)، وفي رواية: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبض ويبسط يده)، وهذه الطريقة تصح في التعليم، فقد روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين أن الله جل وعلا يقبض السماوات بيمينه كان يقبض ويبسط يده، وقال: (يهزهن ثم يقول: أنا الرحمن أين المتكبرون؟ أنا الجبار أين الجبارون؟)، ثم قال: فمن شدة تأثر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبين ذلك ويقبض ويبسط يده صلى الله عليه وسلم كاد المنبر أن يسقط. فلما أخبر ذلك الخبر أن الله يحمل الشجر على ذه، والماء على ذه، والثرى على ذه، والخلق على ذه، ضحك النبي صلى الله عليه وسلم مقراً فهم هذا الحبر على أن الله جل وعلا يحمل كل هذه على أصابعه، ولذلك قال الله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، فهذا فيه دلالة واضحة على إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على أن لله أصابع، وأقر فهم الحبر اليهودي وهو مع ذلك ليس مؤمناً. ولكن المخالفين المشاغبين قالوا: اليهود مجسمة، وقد ضحك النبي صلى الله عليه وسلم منكراً على ذلك الحبر، وهذا تناقض لا يقبله عقل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يضلل أصحابه؛ لأنهم عندما يرون النبي صلى الله عليه وسلم يضحك لقول الحبر، لن يقولوا: إنه إنكار وإنما سيقولون: هذا إقرار، ومن قال بأن ضحك النبي صلى الله عليه وسلم كان إنكاراً فقد طعن في فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالصحيح الراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الحبر على ما قال، وضحك مقراً فهم الحبر على أن لله أصابع. ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك) فإذا اعتقد المرء أن الله جل وعلا يقلب قلب العبد بين إصبعيه إن شاء هداه وإن شاء أضله فإن ذلك يجعله يفتقر ويذل إلى ربه في كل لحظة من حياته، ويضع التراب على رأسه، ويسجد لله باكياً؛ حتى لا يصرف الله قلبه، فإنه لا يحول بين الله وبين عباده أحد، والعبد إذا ابتعد أبعده الله، ومن سقط من عين الله فلا راد له، فإذا علم العبد يقيناً أن قلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن جل وعلا إن شاء أضله وجعله من أكبر الكافرين، وإن شاء هداه وجعله من أعبد العباد في الأرض، فإنه لابد أن يكون فقيراً إلى الله جل وعلا ليل نهار، وإن كنا نغفل عن هذا الأمر في بعض الأوقات، لكن رحمة الله جل وعلا واسعة، فسأله ألا يتركنا لأنفسنا قط، وإذا اعتقدنا بأن قلوبنا بيد الله جل وعلا فإنا سنطمع أن الله يثبتنا على الحق، فإنه سبحانه إذا أراد بقوم فتنة فلا عاصم لهم منها.

إثبات الأنامل لله عز وجل

إثبات الأنامل لله عز وجل كما يوصف الله عز وجل بأن له أصابع، فيوصف أيضاً بأن له أنامل، وبكيفية ذلك يعلمها الله جل وعلا ولا نعلمها نحن. وهذه الأنامل ثبتت بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأثبتها أهل السنة والجماعة، وأهل السنة والجماعة مع أهل البدعة والضلالة من المفوضة يتفقان ويفترقان، فالمفوضة ذهبوا إلى تمييع الصفات، فعندما نقول: الله عز وجل يسمع كل الأصوات على تعدد الحاجات واختلاف اللغات، ويسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، فهم يقولون في سمع الله: لا نعلم معناه، مع أنهم يعلمون أنك إذا قلت: محمد يسمع، أنه يسمع بسمع حقيقي، لكنهم يقولون في صفة السمع: لا نعلم معناها، وكأنهم يقولون: تفوض المعنى، أي: لا معنى لها إلا هذه الحروف التي تشابكت أمامنا فقط، فهؤلاء هم المفوضة. وأما أهل السنة والجماعة فيفوضون الكيفية فقط ولا يفوضون المعنى، فهم يتفقون مع أهل البدعة في تفويض الكيف، ويفترقون عنهم في تفويض المعنى، ولذلك فالإمام أحمد لما ذكرت له الصفة قال: نفوضها لله، أي: نفوض كيفيتها، فأهل السنة والجماعة يقولوا: نفوض كيفيتها، فيقولون في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]: نفوض الكيفية ولا نعلم كيف استوى، لكنا نعلم أن معنى الاستواء هو العلو والارتقاء. إذاً: فأهل السنة مع أهل البدعة يتفقان في تفويض الكيفية ويفترقان في تفويض المعنى؛ لأن أهل السنة والجماعة يثبتون المعنى ويعلمونه، وأما أهل البدعة والضلالة فيفوضونه. إذاً: فنفوض الكيفية في الأنامل، ونثبت المعنى، فلله أنامل، ولها كيفية، وهذه الكيفية مجهولة يعلمها الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في سنن الترمذي -: (رأيت ربي في المنام) وهذا دليل صريح على أن المؤمن يمكن أن يرى ربه في المنام بلا كيفية، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه في منامه رؤية قلبية، لا رؤية بصرية؛ لأننا نعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرى الله في الدنيا، ولم يراه أحد في الدنيا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تروا ربكم حتى تموتوا) فلا رؤية لأحد لله جل وعلا بالعين البصرية في الدنيا، وعندما طلب موسى من الله أن يراه قال: {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى الله في المنام ليلة، فسأله: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فلما لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم، وضع الله يده على صدره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى وجدت برد أنامله على صدري) فأثبت اليد ثم أثبت الأنامل، وهذا فيه تصريح أن لله أنامل. وهذا ختم الكلام في باب صفة اليد، والخلاصة: أن الله لا يوصف بأن له شمال، بل كلتا يديه يمين، وله أصابع وأنامل، وكيفيتها يعلمها ربنا جل وعلا. أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم.

صفة الرجل لله جل وعلا

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - صفة الرجل لله جل وعلا من الصفات الثابتة لله: صفة الرجل، وهي صفة خبرية تليق بالله تعالى، وقد أجمع الصحابة على إثباتها، وأما أهل التأويل والضلال فقد أولوها ولم تحتملها عقولهم، وهذا منهجهم وديدنهم في عرض صفات الله على عقولهم، فما قبلته عقولهم أثبتوه وما لم تقبله عقولهم لم يثبتوه.

إثبات صفة الرجل لله سبحانه بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة

إثبات صفة الرجل لله سبحانه بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: سنتكلم عن صفة من صفات الله الخبرية وهي صفة الرِّجْل لله سبحانه، فقد أدهش الله العقول وأبهرها بصفاته الجليلة العظيمة، ومنها: صفة الرجْل، فلله رجل تليق بجلاله وكماله لا تشبه أرجل البشر، وقد اشتركت هنا في الاسم، والقاعدة عند أهل السنة والجماعة: أن الاشتراك في الاسم لا يستلزم التساوي في المسمى، فالقرد له رجل، والفيل له رجل، ورجل القرد لا تساوي رجل الفيل، فبينهما اختلاف، وأيضاً رجل النملة ورجل الفيل، ورجل القرد ورجل الحمار، فكل منها تسمى رجلاً ولا تتساوى، وكذا رجل الإنسان ورجل الحمار اشتركتا في الاسم، لكن لو قال رجل لآخر: يا أخي رجلك أراها أشبه ما تكون برجل الحمار لصفعه على قفاه؛ انتقاماً مما يقول، والتشابه في التسمية لا تقتضي التشابه من كل وجه، فمن باب أولى الخالق سبحانه وتعالى. إذاً: فرجْل الله جل وعلا تليق بجلاله وكماله، وهذه الصفة الجليلة ثبتت في كتاب الله بالإشارة، وفي السنة تصريحاً وتنصيصاً. فأما الكتاب: فقد قال الله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} [الأعراف:195]، هنا الله جل وعلا ينكر على من يعبد من له صفات النقص، وكأنه يقول منكراً: أتعبد من ليس له رجل؟! فهذه صفة نقص، وأيضاً قوله: {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف:195]، هنا ينكر على من يعبد من ليس له عين، فإن كان الله ينكر على من ليس له رجْل، فهو سبحانه له رجْل جل وعلا؛ لأنه أنكر عبادة من ليس له رجْل، وإن كان يشكل عليّ أنه قال: {أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:195] فهذه لا مجال للعقل فيها، فلا نقول: له أُذن أو ليس له أذن، حتى تبدو السنة. وأما إثبات الرجْل في السنة: فقد جاء الدليل منصوصاً بإثبات الرجل لله جل وعلا، كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال النار يلقى فيها أفواج، فكلما ألقي فيها فوج قالت: هل من مزيد؟ حتى يضع الجبار رجله فيها)، فهذا تصريح بإثبات هذه الصفة، وفي رواية قال: (فيضع الجبار قدمه عليها). وقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على أن لله رجْلاً يتصف بها، وهي صفة كمال وجلال تليق به جل في علاه.

شبهة أهل البدع في نفي صفة الرجل عن الله والرد عليهم

شبهة أهل البدع في نفي صفة الرجل عن الله والرد عليهم إن أهل البدع لم يرضوا أن يثبتوا لله رجْلاً، وقالوا: إذا قلت: إن لله رجْلاً فقد وصفت الله بما وصفت به المخلوق، وأنزلت الخالق منزلة الخلق، وقالوا: الرجل هنا بمعنى الطائفة من المستحقين للنار، يعني: يضع الطائفة التي استحقت النار في نار جهنم، قالوا: وعندنا في ذلك مسوغ من اللغة؛ حتى لا تتهمونا بالزندقة، قلنا: ما هو المسوغ من اللغة؟ قالوا: حديث في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أيوب بعدما عافاه الله جل وعلا مما فيه من ضر وبلاء كان يغتسل عرياناً، فنزل عليه رجْل جراد من ذهب)، ورجل هنا بمعنى طائفة جراد من ذهب، ثم قال: (فجعل يحثو منها، فقال الله له: ألم أكن قد أغنيتك؟ فيقول: لا غنى لي عن بركتك). فالشاهد من هذا أنه قال: (رجْل جراد من ذهب) يعني: طائفة جراد من ذهب، فتكون المعنى هنا: طائفة من الذين استحقوا النار، وهذا قول الأشاعرة. ونرد عليهم فنقول: هذا التأويل باطل من وجوه: الوجه الأول: أن هذا خلاف الظاهر، والقاعدة التي قعدها العلماء: أن الأصل في اللفظ أن يبقى على ظاهره إلا أن تأتي قرينة تصرفه من الظاهر إلى المؤول، فالظاهر في الرجْل أنها الرجلُ المعلومة في المعنى، والكيف مجهول. الأمر الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فيضع رجْله عليها) أي: يضع الله رجله عليها، والطائفة التي تنزل في النار هم فيها لا عليها، فيأبى هذا اللفظ أن يكون المراد ما قالوه. الوجه الثالث: أن المضاف إلى الله عموماً إما أن يكون من باب إضافة الأعيان أو إضافة المعان، وهو سبحانه قد أضاف الرجْل إليه، ولو تنزلنا معهم وقلنا: إن الإضافة إلى الله هنا إضافة تشريف، لكان أهل النار أفضل تشريفاً وأفضل عظمة وتكريماً من المؤمنين، وهذا من أبطل الباطل؛ لأن أهل النار ليس لهم إلا التوبيخ والتقريع والنكال.

الأسئلة

الأسئلة

إثبات صفة الهرولة لله سبحانه وتعالى كما تليق بجلاله

إثبات صفة الهرولة لله سبحانه وتعالى كما تليق بجلاله Q جاء في الحديث القدسي: (فإذا أتاني يمشي أتيته هرولة)، فهل نثبت لله صفة الهرولة؟ A نعم نثبت صفة الهرولة لله كما جاءت في الحديث، ونقول: بأن الله يهرول، فإن قيل: كيف يهرول؟ فنقول: الهرولة في اللغة معلومة، والكيفية مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة.

وجه عدم إثبات الأذن لله بمفهوم المخالفة في قوله (أم لهم آذان يسمعون بها)

وجه عدم إثبات الأذن لله بمفهوم المخالفة في قوله (أم لهم آذان يسمعون بها) Q هل يجوز إثبات الأذن لله بمفهوم المخالفة في قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:195]؟ A لا تكفي هذه الآية لذلك، وأما في صفة الرجْل والعين فقد جاءت الأحاديث الصريحة تبين ما أشارت إليه الآية، بخلاف صفة الأذن فلم يأت في الأحاديث إثباتها؛ فإذا أثبتناها سنكون قد أثبتناها بالعقل لا بصريح النص، والعقل لا مجال له في إثبات صفات الله، وكذلك لم نثبت صفة الساق بالآية: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]؛ لأنها مطلقة، لكن أثبتناها بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (فيكشف سبحانه وتعالى عن ساقه يوم القيامة، فيخرون سجداً لله جل وعلا)، فهذا الحديث فيه إثبات الصفة لله، فأثبتناها.

حكم إثبات العقل لصفات الله عز وجل

حكم إثبات العقل لصفات الله عز وجل Q هل العقل يثبت الصفات لله عز وجل؟ A لا، العقل إنما يقرر ما جاء في النص عن طريق قياس الأولى.

حكم الروايات التي فيها ذكر صفة الشمال لله تعالى

حكم الروايات التي فيها ذكر صفة الشمال لله تعالى Q هل صفة اليد لله فيها يمين وشمال؟ A لا؛ فقد جاء في الحديث: (وكلتا يديه يمين) والرواية التي ذكر فيها الشمال رواية ضعيفة وإن كانت في مسلم، ففيها عمر بن حمزة وهو ضعيف، وهو الذي انفرد بذكر الشمال، لكن رواية مسلم والبخاري المتفق عليها جاءت بدون ذكر الشمال، وإذا وقع الخلاف بين المتفق عليه وبين الذي انفرد به مسلم، فإنه يقدم المتفق عليه.

تكملة صفة الرجل وإثبات صفة الكلام لله جل وعلا

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - تكملة صفة الرجل وإثبات صفة الكلام لله جل وعلا لقد جاء في السنة إثبات صفة الرجل لله تعالى، فعلى المسلم أن يسلم بذلك ولا يحكم فيه عقله، فإن العقل لا مدخل له في صفات الله ولا في الغيبيات، وهذه صفة ذاتية أثبتها أهل السنة والجماعة وأنكرها وأولها أهل البدع الذين لم يسلموا وينقادوا للشرع، ومثلها صفة الكلام لله تعالى، فهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، فالله تعالى يتكلم حقيقة بكلام مسموع بحرف وصوت لا يشبه كلام المخلوقين.

إثبات صفة الرجل لله جل وعلا والأدلة على ذلك

إثبات صفة الرجل لله جل وعلا والأدلة على ذلك إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام! ما زلنا مع هذا الركن الركين من هذا الدين، وفرض عين على كل إنسان أن يتعلمه وهو علم التوحيد، فما زلنا مع كتاب (التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل) لإمام الأئمة أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوكلت بالمستكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فمالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم! فقال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها, وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله فيها فتقول: قط قط، فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحداً, وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقاً)]. في الحديث الآخر وفيه: (حتى تقول: قط قط) , وفي راوية أخرى: (أن الموت يذبح فيقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت, ويا أهل النار! خلود فلا موت). صفات الله جل وعلا التي أثبتها الله لنفسه في كتابه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته: الصفات الفعلية الثبوتية الذاتية, والخبرية, ونحن الآن نتكلم عن صفة من صفات الله الخبرية وهي: صفة الرجل لله جل وعلا, فلله رجْل لا تشبه ولا تماثل رجل الخلق, فرجْل الله جل وعلا صفة من صفات الكمال والجلال والعظمة لله جل وعلا، وقد ثبتت هذه الصفة بالكتاب وبالسنة. فأما الكتاب: ففيه إشارة إلى ذلك فقد قال الله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} [الأعراف:195]، فالله جل وعلا ينكر على الذين يعبدون من فيهم صفة النقص، فكيف يرتقون بمن وصف بالنقص إلى حيز من له الكمال المطلق؟ فهؤلاء ليس لهم أرجل, وهذه صفة نقص, فكيف يعبدونهم؟! فإذا أنكر الله جل وعلا على المعبودين أنهم يتصفون بصفة النقص وهي: أن لا رجل لهم, فمن الكمال أن يتصف الله جل وعلا بهذه الرجْل, فهذه إشارة. وأما التنصيص على ذلك ففي السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما جاء في هذا الحديث: (تحاجت الجنة والنار، -وفيه- فإذا ألقي كل فوج في النار قالت النار: هل من مزيد، هل من مزيد حتى يضع الجبار سبحانه وتعالى رجله فيها) , وفي رواية: (حتى يضع قدمه عليها)، ورواية (عليها) فيها رد على أهل البدع والضلالة؛ لأن أهل النار يكونون في النار لا على النار, فأهل البدع يقولون: إن المراد بالرجل هنا: طائفة من أهل النار. ففيه: إثبات صفة الرجل لله جل وعلا, وهي صفة كمال، ومسماها عندنا: أجزاء وأبعاض. إن العبد إذا أثبت هذه الصفة العظيمة الجليلة لله جل وعلا فلا بد أن يتدبر في عظم هذه الصفة, وفي كمال هذه الصفة لله سبحانه وتعالى, فمن عظم صفة الرجْل لله جل وعلا أنه إذا وضعها في النار التي لا تمتلئ قط بالبشر أنها ينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط؛ لعظمة رجْل الله جل وعلا، ولكم أن تتدبروا وتتفكروا في قول ابن عباس بسند صحيح قال: العرش يستوي الله عليه جل وعلا, والكرسي موضع القدمين, والله جل وعلا يصف الكرسي فيقول: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]، فهذا دلالة عظيمة على عظم رجل الله جل وعلا؛ وأنها صفة كمال وجلال وعظمة لله جل في علاه. فهذه الصفة لا بد للإنسان أن يتعبد بها لله, فإذا اعتقد هذا الاعتقاد الصحيح السديد في قلبه في عظم رجْل الله ازداد خوفاً وخشية ومهابة لله جل في علاه, وازداد وقاراً, فإن قلبه يرتجف عندما يسمع: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، والله جل وعلا يبين لنا أن الأرض والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى, ويضع رجْله في النار فيزوي بعضها إلى بعض؛ من عظمة رجْله جل في علاه، ويرتجف القلب أيضاً من قول الله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، وأنت لا يمكن لك أن تعظم ربك حتى تعلم عظيم صفات الله جل في علاه.

مسائل وفوائد متعلقة بالكلام عن صفة الرجل لله سبحانه ومستنبطة من الأحاديث السابقة

مسائل وفوائد متعلقة بالكلام عن صفة الرجل لله سبحانه ومستنبطة من الأحاديث السابقة وكلامنا عن هذه الصفة العظيمة التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم يتعلق به مسائل: المسألة الأولى: كم عدد أرجل الله جل وعلا؟ A أننا نقف حيث وقفت الآثار, فلم يرد أي دليل مرفوع يثبت العدد, لكن ورد بسند صحيح عن ابن عباس في مستدرك الحاكم أنه قال: الكرسي: موضع القدمين, والعرش لا يقدر قدره إلا الله جل وعلا. فذكر ابن عباس هنا خبراً غيبياً، وعلماء الحديث يقولون: إن الصحابي إذا أخبر بخبر ليس هو محلاً للاجتهاد وهو أمر غيبي فحكمه حكم المرفوع. وقد قيل: إن ابن عباس كان يأخذ من أهل الكتاب، وبعض العلماء نحا في الغيبيات: أن يكون حكمها حكم المرفوع، فنحن نقف حيث وقف الأثر، فقد ورد بسند صحيح صححه الحاكم على شرط مسلم عن ابن عباس أنه قال: والكرسي موضع القدمين. والأحاديث السابقة التي قرئت علينا فيها فوائد مستنبطة كثيرة تفيدنا في التعبد لله جل وعلا بهذه الصفات الجليلة, ومن هذه الفوائد المستنبطة: أن الله جل وعلا ينشئ للجنة أقواماً أو خلقاً جديداً, وهذا فيه دلالة وإشارة إلى أن أهل الصلاح قلة وليسوا بكثرة, والذي يدلك على ذلك: أن أهل الجنة لا يملئون الجنة حتى يخلق الله جل وعلا خلقاً يملؤها بهم، وهذا موافق لقول الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وأيضاً مصداق لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أن الملك ينظر إلى عبد نجا وجاوز الصراط وهو يلج الجنة، فيقول الملك: نجوت نجوت! يندهش لذلك)، فهذا فيه دلالة كبيرة على أن أهل الصلاح قلة ولا يغرنك كثرة الهالكين, ولذلك ورد عن ابن مسعود بسند صحيح لما سئل عن الجماعة قال: من كان معه الحق وإن كان وحده, فهذه لفتة عظيمة ولطيفة لا بد لكل عبد أن يتدبرها وهي: ألا يغتر بالكثرة، فالقلة إذا كان معهم الحق فهؤلاء هم الذين لابد أن تلتزم برباطهم أو بصراطهم، وتسير معهم على الدرب الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما في الصحيح (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم). وأيضاً من الفوائد المستنبطة: كلام الجنة والنار، وفي الحديث الصريح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: مالي أوثرت بالمستكبرين؟ وقالت الجنة: ما لي أوثرت بالضعفاء والعجزة؟ فيقول الله جل وعلا للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء, ويقول للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء) , ففيه دلالة: أن الجماد يتكلم, وفيه رد قاطع على أهل البدعة والضلالة الذين يعطلون صفات الله جل وعلا, ويقولون: إن الله لا يتكلم، مع أن الله جل وعلا تكلم، واستمع جبريل صوت الله جل وعلا وكلامه، فالله جل وعلا ينادي بصوت مسموع ويتكلم بحرف كما بينا قبل ذلك. وأما أهل البدع فقد أنكروا ذلك وقالوا: لو قلنا بأن الله يتكلم للزم من ذلك أن يكون آلة ولا بد من مخرج، ولا بد من فم ولسان! والذي جعل فكرهم يصل إلى ذلك أنهم شبهوا الخالق بالمخلوق، فما قدروا الله حق قدره، ولا قالوا: إن هذه صفة من صفات الكمال والجلال لله جل وعلا فعطلوها، فقد خافوا من التشبيه ففروا إلى التعطيل, ونحن نقول: هذه لوازم باطلة ولا تلزم من إثبات الصفة، ولو نظرنا في المخلوقات لوجدنا أن بعض الجمادات قد تكلمت وليس لها فم ولا لسان، والجنة تكلمت وقالت: أوثرت بالضعفاء والعجزة, والنار تكلمت وقالت: أوثرت بالمستكبرين، ولا مخرج للجنة ولا النار, وأيضاً نظير ذلك: أن السماء والأرض والجبال عندما أمرهن الله جل وعلا أن يأتين طوعاً أو كرهاً قلن: أتينا طائعين، وهذا تصريح بالكلام من السماء والأرض والجبال، والطعام تكلم أيضاً، فالصحابة رضوان الله عليهم لما طهرت قلوبهم وازداد الإيمان عندهم كانوا إذا أكلوا الطعام سمعوا تسبيح الطعام، فأين المخرج الذي يتكلم منه الطعام؟ فما ذكروه من اللوازم لا يلزم، وذلك الجذع الذي كان يرتقي عليه النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته، لما صنع له المنبر سمع الصحابة أنين الجذع؛ لفراق النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الحجر الذي ضربه موسى لما قال: ثوبي حجر! ثوبي حجر! قال: (وسمع له أنين)، فالحجر أيضاً له أنين مع أنه ليس له مخرج. وأيضاً من الفوائد المستنبطة من هذه الأحاديث: إثبات صفة الإتيان لله تعالى، وهي صفة من صفات الفعل لله جل وعلا, وهي: صفة ثبوتية فعلية, وضابط الصفة الفعلية: أنها الصفة التي تتعلق بمشيئة الله تعالى، وهنا الله جل وعلا يأتي يوم القيامة يفصل بين العباد, فيأتي والملك صفاً صفاً, فالله جل وعلا يأتي إتياناً يليق بجلاله وكماله, وأما التفصيل لهذه الصفة فسيأتي إن شاء الله. وقد بينا قبل ذلك الرد على المبتدعة الذين يقولون: إنما يأتي أمره، أو تأتي ملائكته, وذكرنا أن هذا خلاف ظاهر اللفظ، فإن الله جل وعلا يأتي إلى النار, ويأتي إلى الجنة, فيأتي إلى النار فيضع رجله فيها فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط. أيضاً من الفوائد المستنبطة: نفي الظلم عن الله تعالى، فالظلم صفة سلبية أي: منفية عن الله جل وعلا, وقد نفاها عن نفسه سبحانه، ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم, قال الله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وقال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44]، وقال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} [هود:101]، وقال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، فنفى الظلم عن نفسه مع قدرته عليه جل وعلا, فالله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، وفي الحديث الذي في مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) , فالله يقدر على الظلم لكنه لا يظلم، وهذا من كمال عدله جل في علاه. والمقصود: أن الظلم صفة سلبية منفية عن الله، فقد نفاها الله عن نفسه في كتابه، ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث, والنفي المحض لا كمال فيه, بل ننفي هذه الصفة ونثبت كمال ضدها، فقول الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ)) نقول: لكمال عدله سبحانه، فهو الحكم العدل, فإن الله يحب المقسطين، والله ما أنزل الكتاب من السماء إلا بالحق؛ ليحكم بين الناس بالحق وبالعدل، فإن الله عدل يحب كل عدل ويحب المقسطين سبحانه وتعالى, ويبغض الظالمين ويبغض كل ظلم، ويكفيك لتعلم أن الله لا يحب الظلم ولا الظالمين لا أن الله جل وعلا أقسم من فوق سماواته العلى، فقال عن دعوة المظلوم: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)، فهذه دلالة على بغض الله جل وعلا للظالم وللظالمين. وفي مسند أحمد بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: لله ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفره الله أبداً, وديوان لا يتركه الله أبداً, وديوان هو في المشيئة, فإذا كانت المشيئة فهو أقرب إلى الرحمة؛ لأن الله جل وعلا قال: إن رحمتي سبقت غضبي, فأما الديوان الذي لا يغفره الله أبداً: فهو الشرك, {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، وأما الديوان الذي لا يتركه الله أبداً: فديوان المظالم، فالمظالم لا تفوت عند الله بحال من الأحوال, ففي عرصات القيامة عند دنو الشمس على قدر ميل أو شبر من الرءوس يجعل الله العبد الظالم يقف هذه الوقفة، فيرتجف قلبه، وترتعد فرائصه من المظالم التي وقعت منه على العباد، ويقتص منه يوم القيامة, فالله لا يفوت الظلم أبداً, قالت: والديوان الذي لا يتركه الله أبداً: ديوان المظالم؛ لأنه لا يظلم وقد حرم الظلم على نفسه, فلذلك لما تناطحت شاة مع أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب (إن الله جل وعلا سيقتص للشاة الجلحاء) فالله جل وعلا يبغض الظلم حتى مع البهائم وينتصر للمظلوم, فالله لا يظلم الناس شيئاً: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) فهذه أيضاً من الفوائد المستنبطة من بركة هذه الأحاديث. وأيضاً من الفوائد المستنبطة من هذه الأحاديث: رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم (أن أهل الصليب يذهبون مع الصليب، والذين كانوا يعبدون القمر والشمس ويعبدون عزيراً يمثل لهم بعزير ويمثل لهم بعيسى وكلاً يكون إلى نار جهنم، ويبقى المؤمنون ومعهم المنافقون فيأتي الله جل وعلا على صورة غير الصورة التي يعرفونها, فيقول لهم: لمَ لم تذهبوا مع الناس؟ قالوا: كنا وحدنا في الدنيا ونحن في الآخرة كذلك، فيقول: ما تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا, فقال: هل بينكم وبينه علامة؟ قالوا: نعم , فيقول أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لست بربنا)؛ لأنهم لا يعرفونه، فهم يعرفون ربهم في عرصات يوم القيامة بعلامة بينهم وبينه جلا وعلا, فيأتيهم بصورة أخرى أيضاً فيقولون نفس القول، ثم يأتيهم بالصورة التي يعرفونها فيقول: أنا ربكم, فيقولون: أنت ربنا، فيكشف عن ساقه جل في علاه، فيسجد كل مؤمن كان يسجد لله إخلاصاً، وأما المنافق فيرجع ظهره طبقاً -نعوذ بالله من الخذلان- فلا يسجد، ويظهر نفاقه، فالله جل وعلا يخدعه كما خادع هو الله والمؤمنين في الدنيا. إذاً: فالمؤمنون يرون ربهم في عرصات يوم القيامة، وفي الجنة، فأفضل ما يتمتعون به في الجنة هو رؤية وجه الله جل وعلا، جعلنا الله جميعاً ننظر إلى وجهه الكريم، ونقترب منه على منابر من نور, وكل -بحسب إيمانه- ينظر إلى ربه جل وعلا, ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (هل نرى ربنا؟ قال: أترون القمر ليلة البدر، وقال: أترون الشمس

باب ذكر استواء خالقنا العلي الأعلى وصفة العلو لله جل وعلا

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - باب ذكر استواء خالقنا العلي الأعلى وصفة العلو لله جل وعلا مما يجب على المسلم أن يؤمن بأسماء الله وصفاته، إيماناً لا يتطرق إلى معتقده أي شك فيه، فيؤمن بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن الصفات الذاتية المعلومة من دين الله ضرورة: صفة العلو، فالله تعالى علي بذاته وقهره وشأنه، والأدلة العقلية والنقلية على علو الله أكثر من أن تحصى، بل إن أكبر دليل على علوه سبحانه الفطر السليمة، التي تجد عند الملمات والضرورات والمشكلات ضرورة في الاتجاه إلى الله سبحانه في العلو، فترفع يديها داعية ربها سبحانه في اتجاه العلو، أما منكر صفة العلو فهو جاحد لم يقدر الله حق قدره.

انقسام صفات الله تعالى إلى ذاتية وفعلية وخبرية

انقسام صفات الله تعالى إلى ذاتية وفعلية وخبرية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام! فمازلنا مع هذا الكتاب العظيم, كتاب التوحيد: لـ ابن خزيمة إمام الأئمة. فقد ذكر المصنف الآيات والأحاديث التي تثبت صفات ربنا جل وعلا الثبوتية الذاتية, ثم هو ينتقل بنا الآن إلى الصفات الفعلية. باب: ذكر استواء خالقنا العلي الأعلى. يعني: استوائه على العرش. قال المؤلف رحمه الله: [باب ذكر استواء خالقنا العلي الأعلى الفعال لما يشاء على عرشه، فكان فوقه وفوق كل شيء عالياً، كما أخبر الله جل وعلا في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. وقال ربنا عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]. وقال في (الم تنزيل) السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:4]. وقال جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]]. انتقل مؤلفنا رحمة الله عليه، ورضي عنه وعن علماء السلف إلى الصفات الفعلية للذات العليا لرب البرية جل في علاه, فصفات الخالق تنقسم إلى: صفات ثبوتية ذاتية، وصفات ثبوتية فعلية, وصفات ثبوتية خبرية.

ضابط في معرفة صفات الله تعالى الفعلية

ضابطٌ في معرفة صفات الله تعالى الفعلية وقد نقل المصنف لنا الصفات الثبوتية الخبرية من يد وساق ورجل وقدم وعين, فأخبرنا بكل هذه الإخبارات عن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم انتقل بنا من الصفات الخبرية إلى الصفات الفعلية. وضابط الصفات الفعلية لرب البرية: أنها تتجدد, وأنها تتعلق بالحوادث، أما ضابطها لطالب العلم المتقن: أنها تتعلق بالمشيئة, فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل, فهذه هي الصفات الفعلية. فتتجدد: كما قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]، وتدرج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة بتدرج أوامر الله جل وعلا النازلة عليه، فقد كانت تتعلق بالحوادث. إذاً: فالضابط الذي يريح طالب العلم: أن يضع قبلها إن شاء, فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، فالله يتكلم، إن شاء تكلم وإن شاء لم يتكلم، وكذلك في النزول والإتيان والقهر وهكذا. فالغرض المقصود: أن ضابط الصفات الفعلية لرب البرية: أن تضع قبلها: إن شاء.

ذكر صفة العلو وأقسامه

ذكر صفة العلو وأقسامه واليوم نتكلم بإذن الله عن الصفات الفعلية التي أولها: صفة الاستواء أو العلو, والعلو علوان: علو مطلق, وعلو مقيد. فالعلو المطلق: هو علو الذات, وهذا قبل أن يخلق الخلق, وقبل أن يخلق العرش, فهو علي بذاته سبحانه جل في علاه, وهو علي في قهره, علي في شأنه, رفيع الدرجات، كما قال الله تعالى: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} [غافر:15]، وقال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، فله العلو المطلق سبحانه جل في علاه. والعلو المقيد: هو الذي يتكلم عنه مصنفنا اليوم, وهو الاستواء على العرش, كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فاستوى، أي: علا وارتقى سبحانه وتعالى. والاستواء في اللغة يأتي على معان ثلاثة: فهو يتعدى بنفسه, ويتعدى بإلى, ويتعدى بعلى. فإذا تعدى بنفسه فمعناه: أنه بلغ المنتهى, تقول: استوى الطعام، أي: بلغ منتهاه في النضج. وإذا تعدى بإلى فمعناه: القصد لا العلو، كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29]، أي: قصد السماء فخلقها سبع سماوات, وقال لها هي والأرض: ائتيا طوعاً أو كرهاً، (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]. إذاً: استوى إذا تعدى بإلى يكون معناه: القصد لا العلو, حتى نرد على أهل البدعة والضلالة. وإذا تعدى هذا الفعل بعلى فمعناه: علا وارتفع, قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، أي: علا وارتفع على العرش، ويفهم من هذه الآيات: أن الاستواء على العرش كان بعد خلق السماوات والأرض.

عقيدتنا في استواء الله عز وجل على عرشه

عقيدتنا في استواء الله عز وجل على عرشه وعقيدتنا في استواء الله جل وعلا: هي عقيدة الإمام مالك في قوله: الاستواء في اللغة معلوم. فقصد: العلو والارتفاع، قال: الاستواء في اللغة معلوم, والكيف مجهول, فلا تقل: كيف استوى الله على عرشه؟ قال: والكيف مجهول, والسؤال عنه بدعة, والإيمان به واجب. إذاً: اعتقادنا في استواء ربنا جل وعلا على عرشه أن نقول: الاستواء معناه: العلو, فالاستواء في اللغة معلوم, والكيف مجهول, والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة, فهذا هو معنى الاستواء.

الأدلة العقلية والنقلية على علو الله تعالى

الأدلة العقلية والنقلية على علو الله تعالى واستواء الله جل وعلا صفة فعلية كما بينها الله لنا وأثبتها في كتابه سبحانه، وأثبتها له رسوله, بل وأجمع الصحابة الكرام على استواء ربنا جل وعلا على عرشه, والعقل يقبل ذلك والفطر السليمة كما سنبين. أما بالنسبة للكتاب: فإن كل دلالات العلو المطلق يستدل بها على العلو المقيد والاستواء على العرش. قال الله تعالى: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، وقال جل في علاه: (الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9]، والقاعدة في أسماء الله تعالى تقول: إن أسماء الله تعالى كلها حسنى، ومعنى الحسن هنا: أنها متضمنة لصفة كمال مندرجة تحتها، فالعلي: يتضمن صفة العلو، والرحيم: يتضمن صفة الرحمة، والكريم: يتضمن صفة الكرم وهكذا. فإن قيل: فهل (النور) اسم من أسماء الله؟ ف A لا؛ لأنه صفة من صفات الكمال وليس اسماً. أما الدلالات الأخرى: فبالتصريح أنه استوى وعلا على عرشه, كما قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، أي: علا وارتفع سبحانه وتعالى، وقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] إذاً: فالاستواء جاء بعد خلق السماوات والأرض، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، وقال في الآية الأخرى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]. فهذه دلالات من الكتاب على استواء الله جل وعلا بالتصريح على عرشه, يعني: أنه علا وارتفع على العرش. ومن الدلالات على علو الله جل وعلا على عرشه أيضاً: التصريح بالفوقية, فالفوقية تدل على أنه فوق العرش, كما قال ابن مسعود: (والعرش فوق السماء السابعة, والله فوق العرش, ولا يخفى عليه شيء من أفعالكم). قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وهذا الدليل والشاهد، وقال الله تعالى عن الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، فالملائكة في السماء والله من فوقهم، أي: من فوق عرشه سبحانه وتعالى. ومن الدلالات الفوقية: التصريح بالعندية, أي: أن الله جل وعلا ينزل بأمره من عنده, فالتصريح بالعندية يدل أيضاً على علو الله جل وعلا، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء:19]، أي: الملائكة، فالعندية هنا تدل على: العلو والفوقية. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب كتاباً عنده, أن رحمتي سبقت غضبي)، فالعندية هنا أيضاً تدل على: علو الله جل في علاه. ومن الدلالات أيضاً على علو الله واستواءه على عرشه: رفع الأعمال إليه، وعروج الملائكة إليه, وأن الكلم الطيب يصعد إليه, وأن الأوامر تنزل من عنده، وكذلك الرفع الذين يكون من النزول إلى العلو, فكل هذه المعاني تدل على العلو لله سبحانه وتعالى. أما بالنسبة للرفع: فقد قال الله عن عيسى -بعدما كذب اليهود الذين ادعوا وزعموا أنهم قتلوه ظلماً وزوراً وهو رسول الله- قال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، والرفع يكون إلى أعلى, فهذه دلالة أيضاً على فوقية الله جل في علاه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الله جل وعلا: (يرفع القسط ويخفضه)، وصرح بالعروج إليه فقال: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:1 - 4]. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لله ملائكة يسيحون في الأرض, ينظرون إلى حلق الذكر, وإلى حلق العلم, فيلتفون حول هذه الحلق ويكتبون الأسماء, فيعرجون بها إلى الله فيسألهم وهو أعلم بهم, ماذا كانوا يفعلون؟ قالوا: يكبرونك ويهللونك ويحمدونك, فيقول: ماذا يسألون؟ فيقولون: الجنة، فيقول: أعطيتهم الجنة وعصمتهم من النار، ثم يقول ملك: ربي! إن فلاناً قد جاء لحاجة, فيقول الله جل وعلا -وهي أكبر بشارة لطلبة العلم- فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، فالملائكة تعرج إلى الله جل وعلا، فدل ذلك على الفوقية، وأن الله فوق عرشه بائن من خلقه سبحانه وتعالى. وفي الصحيحين أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الملائكة تتعاقب فينا وتصعد بأعمالنا في الصبح والعصر, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيصعد الذين باتوا فيكم)، أي: يصعدون إلى الله جل وعلا بعدما كتبوا أعمال عباده جل في علاه, فهذه أدلة أيضاً تدل على الفوقية. وكذلك النزول: فإنه يدل على الفوقية, قال الله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} [النساء:166]، والنزول لا يكون إلا من علو، قال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، وقال الله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:2]، والتنزيل لا يكون إلا من علو إلى سفل أيضاً. فالغرض المقصود: أن النزول أو العروج أو الصعود أو الارتفاع, كل هذا يدل أيضاً على علو الله على خلقه. ومن الأدلة التي تدل على فوقية الله على خلقه أيضاً: أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت فيها علو الله, فلما صفع معاوية بن الحكم السلمي الجارية وتراجع عما فعل, وندم على ذلك, قال: (يا رسول الله! أعتقها)، وقد لطمها على خدها لأن الذئب خطف منها غنمة أثناء رعيها لها، وهو صاحب جبلة بشرية يغضب ويسخط، فندم على ما فعل فقال: يا رسول الله! أعتقها؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ائتني بها، فجاءت الجارية, فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أين الله؟)، وهذا رد على الذين يمنعون Q بأين، وأن من سأل: بأين كفر، كما سنبين في ذلك, قال: (أين الله؟ قالت: في السماء)، ومعنى في السماء: أي: على السماء, وهذا مصداق لقول الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، أي: الذي على السماء. والدليل على أن في هنا بمعنى على: قول الله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15]، أي: امشوا على الأرض, وقال أيضاً: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، فهل شق جذوع النخل ليصلبهم فيها؟ فالمعنى إذاً: على جذوع النخل. وتأتي من أيضاً بمعنى العلو, كما قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق:9] والسحاب هي التي تمطر وليست السماء، قال: ((وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ))، أي: من العلو, فالسمو: يعني: العلو (فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء)، فربط النبي صلى الله عليه وسلم إيمانها هنا باعتقادها الصحيح في علو الله جل في علاه. قال: (أين الله؟ قالت: في السماء, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة)، فربط إيمانها باعتقاد صحيح: وهو اعتقاد علو الله جل في علاه. ومن الأدلة أيضاً: لما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في خطبة الوداع بالوصايا، ثم قال: (هل بلغت؟ قالوا: نعم بلغت, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم فاشهد, وكان يشير بإصبعه إلى السماء)، فهذه أدلة تثبت علو الله جل وعلا من الكتاب والسنة.

إجماع الصحابة والتابعين على إثبات صفة العلو لله تعالى

إجماع الصحابة والتابعين على إثبات صفة العلو لله تعالى أما الإجماع: فقد أجمع الصحابة الكرام على علو الله، وأن الله فوق عرشه لا يغيب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض, فهذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لما بلغه موت النبي صلى الله عليه وسلم ـ بأبي هو وأمي ـ (دخل عليه فبكى، فنظر إليه فقبل بين عينيه وقال: طبت حياًً وميتاً يا رسول الله! ثم خرج على الناس وعمر يتهاوى بين الناس شاهراً سيفه يقول: من قال: إن رسول الله قد مات ضربت عنقه, فإنما ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وسيرجع إلينا, فقال أبو بكر: اسكت يا عمر! فسكت عمر، فقال أبو بكر: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حي لا يموت) , وهذا هو الشاهد. فـ أبو بكر يعتقد أن ربه في علو فوق العرش, قال: (ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حي لا يموت)، وعمر أيضاً يعتقد هذا الاعتقاد الصحيح؛ فإنه ربي على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد جاءت إليه خولة تردد عليه الوعد وتبين له أنه أمير المؤمنين, وأنه مسئول أمام ربه, وأن عليه أن يتقي الله في الرعية ويخشى الله سبحانه، قال رجل من عماله: قد أكثرت على أمير المؤمنين, فقال عمر بن الخطاب: اسكت! أما تعلم أن هذه خولة -رضي الله عنها وأرضاها- التي سمع الله قولها أو شكايتها من فوق سبع سماوات. فهنا يبين عمر أنه يعتقد أن الله يسمع صوت هذه المرأة وهي تشتكي من فوق سبع سماوات, ولذلك قالت عائشة: (سبحان الذي وسع سمعه كل الأصوات! فإن المرأة تشتكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيخفى علي بعض حديثها, فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي} [المجادلة:1]، من فوق سبع سماوات)، وأيضاً اعتقاد عائشة رضي الله عنها وأرضاها هو اعتقاد عمر، وهو نفس اعتقاد ابن عباس، فقد دخل رضي الله عنه وأرضاه على عائشة وهي تموت, فقال لها: (أبشري)، وهذه هي السنة: أن ترجي من كان على فراش الموت بالله جل وعلا, فلا يموتن إلا وهو يحسن الظن بربه؛ لأن الله جل وعلا يقول: (أنا عند ظن عبدي بي, فمن ظن بي خيراً فله, ومن ظن غير ذلك فله)، (فدخل ابن عباس فقال: أبشري أنت زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الآخرة، وأنت وأنت وأنت، ثم قال: وأنت التي برأك الله من فوق سبع سماوات)، فالله جل وعلا برأها وهو على العرش, يقصد بذلك الآيات التي نزلت من فوق سبع سماوات. ومن الدلائل أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (قد وافقت حكم الله)، أي: على بني قريظة عندما قال: تقتل مقاتلتهم، قال: (قد وافقت حكم الله من فوق سبع سماوات)، وكان ابن عباس يقول أيضاً: (ما بين الأرض والسماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام, وبين كل سماء وأخرى ميسرة خمسمائة عام، ثم قال: وفوق ذلك الكرسي, وفوق الكرسي العرش, وفوق العرش الله جل وعلا, ولا يخفى عليه منكم شيء). وكان هذا أيضاً اعتقاد التابعين, فقد كان مسروق يقول وهو يفسر الآيات: حدثتني عائشة التي برأها الله من فوق سبع سماوات، وهو قول مجاهد وعطاء وغيرهم، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك والإمام أحمد. أما أبو حنيفة: فقد جاءته امرأة فقالت: أنت معلم الناس الفقه, أسألك عن فقه أكبر, قال: ما هو؟ قالت: أين الله؟ -فهذا هو الفقه الأكبر: أن تعتقد في الله الاعتقاد الصحيح السليم- قالت: أين الله؟ فقال لها: ائيتني بعد أسبوع, ثم قال: الله فوق السماء, أو قال: فوق العرش، والعرش فوق السماء. ومن قال: إن الله فوق السماء ولا يعلم ما عليه العباد فهو كافر؛ لأنه ضل في صفة من صفات الله وهي: صفة العلم. وقال الإمام مالك: إن الله فوق عرشه، ولا يخفى عليه شيء من عباده. وكان الإمام الشافعي يقول: إن الاعتقاد السليم الذي عليه الأئمة والعلماء: هو أن الله فوق عرشه بائن من خلقه. وقالوا للإمام أحمد: ما رأيك فيمن يقول: إن الله ليس فوق العرش, قال: يكفر, أو قال: إن الله فوق العرش, أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه. فهذه إجمال الآثار التي ثبتت عن الصحابة وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

الفطر السليمة والعقل يقرران علو الله تعالى

الفطر السليمة والعقل يقرران علو الله تعالى أما العقل فإنه يقرر ذلك؛ إذ أن العلو صفة كمال، فإنك إذا أردت أن تزدري إنساناً فإنك تقول له: هذا إنسان سافل، أي: أن فيه سفولاً، والإنسان أصلاً إذا انحط أو سفل فهذا نقص فيه, أما إذا أردت أن تظهر أن الرجل هذا رجل ذو أخلاق رفيعة فإنك تقول: إن فلاناً كامل، والعلو صفة كمال، وتقول: هذا رجل عنده أخلاق عالية, أخلاق سامية, أخلاق راقية, فالعلو صفة كمال بالعقل, والسفول صفة نقص به أيضاً, والقاعدة: أن الله منزه عن كل نقص، فبالعقل أيضاً تقرر صفة العلو, وأنها كمال, ونحن نصف الله جل وعلا بكل كمال, فإذا اتصف الإنسان بصفة كمال فالله أولى بها, فإذا وصفت عبداً بأن له الكمال في الخلق أو أن خلقه راقٍ مثلاً أو سام، فإنك لابد أن تقول: والله أولى بهذه الصفة؛ لأنها صفة كمال. ومن الأدلة أيضاً: الفطر السليمة, فالفطر السليمة تعتقد الاعتقاد السليم في كمال الله جل في علاه, فإن الله فوق عرشه وأنت في الأرض، إذا أصابتك مصيبة التف قلبك حول العرش, وإذا أردت أن تدعو الله جل وعلا اتجه قلبك إلى من فوق العرش سبحانه وتعالى, ولذلك كان الجويني يبين أن الله جل وعلا ليس على عرشه, فجاء الهمداني فألقى عليه شبهة من أعظم ما تكون, فقال: يا إمام! نسلم لك أن الله ليس على العرش, لكن أمراً حيرنا, قال: ما هو؟ قال: ما تضيق بنا ضائقة إلا ونجد القلوب ترتقي إلى من فوق العرش, وإذا دعونا رفعنا أيدينا إلى السماء, فما هذا؟ فضرب الإمام الجويني على رأسه وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني. معنى ذلك: أنه كان يرى في نفسه ذلك, فكان إذا ضاقت به الأمور وإذا وقعت به الملمات وجد نفسه تنظر إلى السماء, فقلبه معلق بصاحب العرش, أو بمن فوق العرش سبحانه وتعالى, فإذا دعا الله لا يدعو إلا وهو رافع يديه, وهذا واقع مشاهد. والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر رفع يديه حتى ظهر بياض إبطيه وهو يقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم)، وأنت كلما نزلت بك المصائب نظرت إلى السماء فدعوت، بل إنك تبكي وأنت تنظر إلى السماء بفطرة سليمة جبلت عليها. إذاً: فالله جل وعلا فوق عرشه, وهذا ثابت بالكتاب وبالسنة، وبإجماع الصحابة, وبالعقل السليم الصحيح الذي لا يخالف صريح السنة, وبالفطر السليمة أيضاً. أخي الكريم: إذا اعتقدت هذا الاعتقاد الصحيح السديد السليم فلك تبع ستحاسب عليه. أولاً: يجب عليك أن تتعلم هذا العلم؛ لأنه فرض عين على كل إنسان أن يعتقد في الله الاعتقاد السديد الصحيح, ولا يعتقد الاعتقاد الباطل الذي يعتقده أهل الباطل والبدع كما سنبين في الرد عليهم, لكن إذا اعتقدت بعدما تعلمت هذا, وجب عليك أمر آخر فوق هذا الأمر وهو: أن تتعبد لله بهذا الاعتقاد الصحيح، فإذا اعتقدت أن ربك جل وعلا له العلو المطلق, وعلو الشأن، وعلو القهر, ((رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ))، وعلمت أن الله علي يحب كل علي، فلا بد أن تتعبد لله بأثر هذه الصفة, صفة الكمال, فتكون عالي الهمة أمام ربك، لا من الدون ومن الأسافل, فلا ترضى لنفسك بسفاسف الأمور, بل تكبر همتك فتقول: ولم لا أكون مثل ابن تيمية؟ ولم لا أكون مثل العز بن عبد السلام؟ ولم لا أكون مثل أبي بكر أو عمر؟ فذاك فضل الله يؤتيه من يشاء, فالذي يفرق بيني وبين رسول الله هي: درجة النبوة, لم لا تكون همتك كذلك؟ إذا اعتقدت في ربك هذا الاعتقاد السديد الصحيح السليم, وأن الله علي يحب كل علي فإن همتك تكبر وتعلو, فتصبح دائماً في عروج وفي علو, ولا ترضى بالدنيا والدون, فإن الذين يلتفون حول الدنيا يلتفون حول الجيف, والأسد أبداً لا يقع على الجيف, بل تنظر لأهل الدنيا فتبكي عليهم؛ لأن الله شغلهم بالدنيا عن الدين, وأنت تعلم وتقر في نفسك إقراراً صحيحاً سديداً بأن الله لا يعطي الدين لأي أحد أبداً؛ فإن الله يغار؛ لأن الدين جوهرة, والجوهرة لا تعطى إلا لمن يصون هذه الجوهرة, وكما قال علمائنا: إن الله يعطي هذه الدنيا لمن أحب ومن لم يحب, أما الدين فلا يعطيه الله إلا لمن يحب. فكن -أخي الكريم- عالي الهمة حتى يصطفيك الله جل وعلا فيحبوك بالدين, ويحبوك بالعلم, ويحبوك بالرفعة والارتقاء عنده. إذاً: إذا اعتقدت الاعتقاد الصحيح بأن الله علي فستكون علي الهمة, علي الخلق, فإن الأخلاق السامية ترفعك عند ربك، كما في مسند أحمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المسلم ليدرك بحسن خلقه درجه الصائم القائم)، إذاً: فأنت علي في همتك علي في أخلاقك, فإذا كنت صاحب أخلاق سامية فسترتقي إلى درجة الصائم القائم, فميزان المؤمن عند ربه: هو ميزان الخلق, كما قال أبو هريرة في بعض الآثار: (أثقل ما يوضع في ميزان العبد: البر، وحسن الخلق). لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس أخلاقاً, حتى إن الله جل وعلا لما مدحه مدحه بأرقى السمات والصفات, فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] واجعل يدك -أخي- هي العلية, فيد المعطي: هي العلية, وذاك فضل الله يؤتيه من يشاء, ويد الآخذ: هي اليد السفلى, لكن العلو كل العلو أن تعطي العلم أولاً, إذ أن العلماء قالوا: أكبر الصدقات وأعظم الصدقات صدقة العلم, ودليل ذلك ما جاء في الصحيحين عن ابن عباس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس, وكان أجود ما يكون حين يدارسه جبريل القرآن, ودارسه عند موته مرتين)، ففيه دلالة: على أنه كان أجود ما يكون عندما يدارسه القرآن. فإعطاء العلم صدقة أيما صدقة, والفرق بين صدقة العلم وصدقة المال: أن العلم يكثر بالنفقة, والمال ينقص بالنفقة عند الذي لا يوقن بالأجر عند ربه، أما من أيقن بالأجر عند ربه تعالى فإن ماله يزيد ويعلو، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أنفق بلال! ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)، أما الملائكة فإنهم يقولون في الصباح والمساء: (اللهم أعط منفقاً خلفاً وأعط ممسكاً تلفاً). فالصحيح الراجح في ذلك: أن المال يزكو عند الاعتقاد الصحيح في الرب الجليل سبحانه وتعالى. أخي الكريم! إذا اعتقدت أن ربك فوق عرشه يدبر أمر خلقه, فلن تعبئ بالناس كلهم, إذ لا يمكن لأحد أن يضرك إلا الله جل وعلا, فهو الذي يدبر أمرك من فوق سبع سماوات, وهو سبحانه وتعالى الذي يملك خزائن السماوات والأرض, فلن تطلب الرزق من أحد تذللاً, وإن أخذت بالسبب أخذت به مع يقين قلبك أن المسبب هو الله جل في علاه, فأنت لن تتذلل إلا لربك, ولن تعتقد الاعتقاد الصحيح إلا في ربك, قال صلى الله عليه وسلم: (لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, وإن اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، فالأقلام بيد الله لا بأيدي البشر, والقلوب تتحول في لحظة واحدة, فإذا اعتقدت الاعتقاد الصحيح في ربك بأنه يدبر أمور الخلق وشئون الخلق أجمعين, وأنه فوق عرشه فلن يمتلئ قلبك إلا بحب الله, ولن يمتلئ قلبك إلا بالخوف من الله جل وعلا, ولن يمتلئ قلبك إلا برجاء الله والتذلل له جل في علاه. أخي الكريم! إذا اعتقدت أيضاً أن الله جل وعلا فوق عرشه قاهر لعباده فلن تخاف إلا من ربك جل وعلا, وستعلم أن النصر والقوة بيده، وأن العزة بيده سبحانه، وستكون من حزب الله الذين قال الله فيهم: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]، فإن حزب الله هم المقربون من ربهم جل في علاه. فإذا اعتقدت هذا الاعتقاد الصحيح السديد السليم في أن ربك قاهر فوق عباده, فإنك بإذن الله سوف تكون من حزبه ومن أوليائه، وسوف تكون ممن ينصر دينه سبحانه جل في علاه. هذا هو التطبيق العملي لهذا الاعتقاد الصحيح السديد, فإنك إذا اعتقدت أن ربك فوق عرشه, علي بذاته, وعلي بقهره سبحانه وتعالى، فستكون أغنى الناس وأكملهم وأقواهم وأعزهم. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يضرب لنا أروع الأمثلة في ذلك فيقول: ماذا يريدون مني؟ إن قتلوني فقتلي شهادة, وإن سجنوني فسجني خلوة -أي: خلوة بربي جل وعلا- وإن نفوني فنفيي سياحة, أنا جنتي في قلبي, إن في هذه الدنيا جنة من دخلها دخل جنة الآخرة, ومن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، نعوذ بالله من الخذلان. ونسأل الله ربنا جل في علاه أن يجعلنا من المعتقدين بهذا الاعتقاد الصحيح, وأن يجعلنا متعبدين له بحسن العبادة وبما يرضاه منا جل في علاه، وأن يجعل قلوبنا كلها معلقة بذاته وصفاته سبحانه وتعالى, وألا نتعلق بأي أحد من أبناء آدم، كما نسأل الله جل وعلا أن يغفر لنا ولكم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

تكملة صفة العلو لله جل وعلا

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - تكملة صفة العلو لله جل وعلا صفة العلو لله تعالى من الصفات التي أثبتها أهل السنة والجماعة، فالله تعالى استوى على عرشه استواءً يليق بجلاله وكماله، ولم ينكر صفة العلو إلا أهل البدع من الجهمية والمعطلة، وأهل الحلول والاتحاد الذين يقولون: إن الله في كل مكان، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. ولقد رد أهل السنة والجماعة على هؤلاء بالأدلة النقلية والعقلية.

إثبات صفة العلو لله جل وعلا

إثبات صفة العلو لله جل وعلا إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فإن على المسلم أن يتعلم كتاب التوحيد وإثبات صفات ربه عز وجل لإمام الأئمة أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، فقد تكلم المصنف عن صفة من صفات الأفعال، وهي صفة العلو، وهذه الصفة ثابتة بالكتاب والسنة وبإجماع سلف الأمة، وكذلك العقل أو القياس الجلي يقرران ذلك، فالمسلم يتعبد الله في ذلك واقعاً باعتقاده الصحيح الشديد أن ربه فوق العرش يبدل أمر الكون، ولا يخفى عليه شيء من أفعال عباده. فالمسلم يعتقد اعتقاداً صحيحاً بأن الله جل وعلا كان ولم يكن شيء، ثم خلق السماء والأرض والعرش والقلم والماء، ثم بعد ذلك استوى على العرش.

تعريف الاستواء

تعريف الاستواء الاستواء في اللغة معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فإن الله استوى بكيفية تليق بجلاله وكماله سبحانه جل في علاه.

لا تنافي بين استواء الله على العرش وبين قربه من عباده

لا تنافي بين استواء الله على العرش وبين قربه من عباده والسؤال هنا: هل الاستواء على العرش ينافي قرب الله من عباده وإحاطته بأفعالهم أم لا؟ والجواب عنه بإذن الله يكون يسيراً: فإن الله فوق العرش ويعلم ما العباد عليه، ولا يخفى عليه شيء من أفعال عباده سبحانه وتعالى، كما قال ابن مسعود: العرش فوق السماء، والله فوق العرش، ويعلم ما أنتم عليه. وقد قال الإمام مالك: إن الله عالم فوق عرشه ويعلم ما العباد عليه. أو كما قال أبو حنيفة: الله فوق العرش ولا يخلو من علمه مكان. فلا تنافي بين علو الله جل وعلا وبين قربه إحاطة وصنعاً وقدرةً وعلماً سبحانه جل في علاه، فلذلك نقول: هو علي في قربه، وهو قريب في علوه سبحانه وتعالى، وهو فوق العرش، فالكون كله في يده كحبة خردل في يد أحدكم، وهو أقرب إلى أحدكم من عنق الراحلة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أحاط بكل شيء علماً وأحاط بكل شيء سمعاً، وأحاط بكل شيء قدرة، فإذا شاء شيئاً قال له: كن، فيكون، وفي الصحيح (عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات كلها! إن المرأة لتشتكي زوجها للنبي صلى الله عليه وسلم ويخفى عني بعض حديثها، فأنزل الله {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1]). إذاً: علو الله جل في علاه لا ينافي قربه جل وعلا من عباده، فقد أحاط بهم قوة وقدرة وسمعاً وعلماً.

أقوال أهل الاتحاد والحلول

أقوال أهل الاتحاد والحلول أما أهل البدع فما تركونا نهنأ بهذه العقيدة السديدة السليمة، بل شوشوا علينا وأتوا بالمتشابه ليشوشوا علينا هذه العقيدة الصحيحة، فقالوا: الله ليس في السماء، بل الله في السماء وفي الأرض وفي البحار وفي الجبال وفي كل مكان، كما قال قائلهم: ما تراه بعينك فهو الله، يعني: أن كل شيء تراه فهو الله جل في علاه، تقدست أسماؤه وصفاته وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وقد زلت أقدام كثير من الناس في هذه الآونة، حتى ممن ينشغلون بالإعجاز العلمي في القرآن، فإنهم يقولون بهذا وزلت أقدامهم في مسألة الاتحاد والحلول، ولذلك الدكتور زغلول النجار يقول في تفسير هذه الآية: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]: لا نقول بأن الله فوق العرش، بل الله في كل مكان. فهذا القول ضلال مبين، لكن القائل ليس بضال، حتى تقام عليه الحجة ويتعلم؛ فإنه جاهل، وسبب هذه الزلة هو: ضعف العلم في العقيدة.

أدلة أهل الاتحاد والحلول

أدلة أهل الاتحاد والحلول فهؤلاء الذين تبنوا هذه العقيدة الخربة الفاسدة الباطلة الكفرية التي تتنقص حق الله تنقصاً شديداً يعتقدون أن الله احتوشته الخنازير والكلاب والبحار وغيرها، وهذه العقيدة الكفرية تبناها كثير ممن يعيشون في عصرنا هذا، وأبواقهم من خلفهم يحاربون ويقاتلون من أجل نصرة هذه العقيدة الخربة، ثم أتوا بتشويش ذلك بالمتشابه من القرآن ومن السنة ومن العقل، لإثبات أن ما هم عليه حق ليس بضلال، وأول الأدلة من الكتاب: قول الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:3 - 4]، فقالوا في قول الله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)): أي: فهو معي في بيتي ومع الآخر في بستانه ومع الثالث في بلده ومع الآخر في مركبه في البحار، وهذا هو ظاهر القرآن وأنتم تأخذون بظاهر القرآن. والدليل الثاني: قول الله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] أي: ثلاثة والرابع الله، وخمسة والسادس الله، وسبعة والثامن الله، وهذا ظاهر القرآن، فهذه المعية تثبت أن الله في كل مكان.

الرد على أدلة أهل الاتحاد والحلول

الرد على أدلة أهل الاتحاد والحلول والرد على أهل البدع القائلين بالحلول والاتحاد ما يلي: أولاً: قول الله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))، فسنقعد قواعد لطلبة العلم لابد أن يسيروا عليها إذا حفظوها وتعلموها. القاعدة الأولى: أن الله جل وعلا أنزل القرآن وفيه المحكم والمتشابه، وقد قال علماؤنا: إذا رد المرء المتشابه إلى المحكم فسر المتشابه بالمحكم، يعني: ظهر لك مراد الله جل وعلا وعلمت ما يريده الله من الآيات. القاعدة الثانية: أن الله جل وعلا لم ينزل القرآن ليضل به عباده ولا ليحيرهم، بل أنزل القرآن لهداية العباد ولهداية الحائرين، لا أن يحير المهتدين، قال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فإذا كان الكلام من عند الله فلن يوجد فيه ثمة اختلاف، فلا تناقض في آيات الله جل وعلا، فالله جل وعلا أنزل الآيات المحكمات التي فيها تبيان لكل شيء، قال الله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، فأي شيءٍ غامض فالقرآن يبينه، فالمتشابه إذا رددته إلى المحكم بان وظهر لك ما يريد الله جل في علاه. فمن المحكمات: قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فهذه الآية لا تحتمل غير الاستواء فقط. وكذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4]. ثم ننظر في المتشابه حتى نرده إلى المحكم، فننظر في هذه الآيات التي استدلوا بها وهي قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، وقوله أيضاً: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7]. فقوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))، من المتشابه؛ لأنها تحتمل أكثر من وجه، فالمعية هنا يحتمل أن تكون معية الاختلاط، يعني: داخلكم، أو معكم مع هذا وهذا وذاك، في البحار وفي الجبال وفي السماء وفي الأرض، ويحتمل أن يكون معناها: معكم بعلمه وإحاطته وقدرته وسمعه. وإذا أردنا أن نبين معنى هذه الآية لنصل إلى التفسير الصحيح فلابد أن نرد الاحتمالين إلى المحكم، والمحكم هو أن الله فوق العرش، والعرش فوق السماء. فالاحتمال الأول: أنه معنا معية اختلاط في الأرض وفي السماء وفي البحار وفي الجبال، وهذا الاحتمال بعيد، وهو احتمال باطل؛ لأنه صادم المحكم. أما الاحتمال الثاني: فإنه على العرش وهو معكم بعلمه وقدرته وسمعه وإحاطته. فإذاً: توافقت هذه الآية مع الآية السابقة، عندما رددنا المتشابه للمحكم، فظهر لنا أن الرحمن على العرش استوى، وأن قوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) يعني: بعلمه وسمعه وقدرته. إذاً: هذا أول دليل في الرد عليهم، فنقول: معية الله جل وعلا في قوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) معية مطلق المصاحبة. ومعية المخالطة مثل قول القائل: ائتني بكوب شاي مع الحليب، فإن الحليب داخل الشاي. أما قول القائل: سرت والقمر، أو سرت والنيل، فإن الواو هنا: واو المعية، أي معية مطلق المصاحبة. إذاً: إذا كانت المعية معية مخالطة ومعية مصاحبة، فالذي يفصل لنا في النزاع هو الآيات المحكمة. أما قوله تعالى: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)) يعني: بعلمه وقدرته وإحاطته سبحانه وتعالى، والدليل على ذلك في نفس الآيات التي استدلوا بها، فإن سياق الآية يدل على هذا المعنى، إذ أن السياق يعتبر من المقيدات والمفسرات، ففي الآية الأولى وهي: قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)) يدل سياق الآية على العلم، فكل ما خفي ودق فالله يعلمه ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) أي: معكم بعلمه. أما الآية الثانية: وهي قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فبدأ الله في صدر الآية بالعلم وختمها بالعلم، فهذا السياق يبين لنا معنى قوله تعالى: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ)) أي: بعلمه فقد أحاط بكل شيء علماً. فإذا رددنا المتشابه للمحكم ظهر لنا المراد من هذه الآيات، وهذا رد على الجهمية المعطلة الذين عطلوا صفات الله جل وعلا وقالوا: هو في كل مكان، وأن ما تراه بعينك فهو الله.

أدلة أهل الاتحاد والحلول والرد عليها

أدلة أهل الاتحاد والحلول والرد عليها أيضاً من الأدلة التي يستدل بها أهل البدع على أن الله في كل مكان: قول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:3]، وقالوا: إن معنى هذه الآية أن الله في السماوات وفي الأرض، وهذا ظاهر وصريح. أما الآية الثانية: فهي قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، قالوا: الله إله في السماء وإله في الأرض، فيكون مدلوله أن الله في السماء وفي الأرض. ونرد عليهم بنفس القاعدة أي: رد المتشابه إلى المحكم، والمحكم أن الله جل وعلا قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فلو قلنا: إن الله في السماوات وفي الأرض لكان غير مستوٍ على العرش، والله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وهم يقولون: هو في السماء وفي الأرض، والعرش معلوم أنه في السماء، إذاً: فسنضرب آيات الله بعضها في بعض والله جل وعلا يقول {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] إذاً: لا اختلاف في كتاب الله جل وعلا، فيبقى أنْ ننظر في المحكم، وهو قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وننظر في الآيات الأخرى، فإذا كان لها احتمالات رجحناها، فقوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ)) لها احتمالان، الاحتمال الأول: هو الله المعبود في السماوات، وهذا الاحتمال أتى من دلالة لفظ الجلالة (الله) ويتضمن صفة الإلهية، فهو المألوه في السماوات وفي الأرض، وهو الله المعبود في السماوات وفي الأرض، والدليل على ذلك: قول الله تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء:172] أي: في الأرض، {وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172] أيْ: في السماء، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن البيت المعمور الذي في السماء يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، يتعبدون لله جل وعلا فيه، ولا يرجعون إليه إلى يوم القيامة). فالله يعبد في السماء ويعبد في الأرض، فيكون معنى الآية: هو الله المعبود في السماوات، وهو الله المعبود في الأرض، وهو المستوي على العرش. أيضًا: دلالة أخرى تدلل لنا هذا الكلام في قول الله جل وعلا: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ))، وهنا قراءة سبعية متواترة وفيها وقف لازم، وهي مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فهو فوق السماء السابعة. وحروف الصفات تتناوب كما يقول أهل اللغة، فيكون معنى قوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ)) أي: على السماوات؛ إذ أن (في) الظرفية تأتي بمعنى: على، مثل قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] بمعنى: على السماء، فكأنك تقرأ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، إذاً: نقف وجوباً عند قوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ)) ثم نقرأ بعد ذلك ((وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ))، قال مالك: الله فوق العرش وعلمه في كل مكان، فإذاً: نقول: الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم، وهذا الرد يطبق على الآية الثانية {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] يعني: في السماء معبود وفي الأرض معبود، ويدلل على ذلك: الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنت ربنا في السماء وأمرك في السماء وفي الأرض) أي: شرعك في السماء وفي الأرض. ومن الأدلة التي يستدل بها أهل الحلول والاتحاد: قول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، إذاً: فالله جل وعلا قريب من كل داع فهو معهم، فهذه الآية تدل على أنه ليس على العرش. وأيضًا: حديث آخر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإن أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها) وهذا الحديث يدل على أنه مع كل إنسان. ونرد على هذه الشبهات: بأن نرد المتشابه إلى المحكم، فقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، فهذه الآية من المتشابه، فكلمة قريب: محتملة بأن يكون معناها: قريب الإجابة، فهو يسمع ثم يجيبه، ويحتمل أن يكون معناها: قرب مخالطة، فقرب المخالطة يتصادم مع المحكم. والاحتمال الثاني الذي هو قريب الإجابة، يوافق المحكم ويدل على ذلك سياق الآية نفسها، قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، ويدل على ذلك أيضاً: الحديث الذي فسر القرآن، إذ أن من أفضل ما يفسر به القرآن بالقرآن ثم القرآن بالسنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، ولكن تدعون سميعاً بصيراً، وإن الله لأقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) فإنه يسمع دعاءك ويستجيب لك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل الله في ثلث الليل الآخر كل ليلة فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟) فالقرب هنا قرب إجابة. ونحن نلزمهم برد آخر فنقول لهم وإن لم يقبلوا منا هذا الاحتمال الصحيح: إن مفهوم المخالفة في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، هو إذا كان القرب عندهم قرب مخالطة، فإن هذا القرب مختص بالداعي، أما إذا لم يدع فليس بقريب، وهذا باطل عندهم؛ لأنهم يقولون بعموم المخالطة، فلما بطلت حجتهم بهذا المفهوم الذي لا يقولون به، إذاً: القرب هنا قرب إجابة، وهي راجعة إلى المحكم وهو قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].

الحكم الشرعي في قول أهل الحلول والاتحاد

الحكم الشرعي في قول أهل الحلول والاتحاد أما بالنسبة للحديث الذي استدلوا به: وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: فإن أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها) فيفسر هذا الحديث بالحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش) يعني: بقدرتي وبتوفيقي وتسديدي، فالمعية هنا: معية التوفيق والتسديد، فإذاً: لا دليل لهم على ما قالوه، وسلمت الأدلة عندنا من أي معارضة، وبينا بطلان كلامهم، فنقول بالدلالات الباهرات: أن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. وقولهم: إن المعية معية المخالطة، هو كفر بعد أن بينا لهم، فالكفر يتبين لنا من أكثر من لازم. اللازم الأول: إذا قلنا بقولكم: إن الله في كل مكان، إذاً: فالله في الأرض وفي الجبال وفي البحار وفي أجواف الحيوانات -حاشا لله- وفي الأماكن التي يترفع الإنسان أن يتكلم فيها وهي أماكن قضاء الحاجة، فلازم قولكم أن الله في كل مكان، يعني: ما ترك مكاناً إلا وحل فيه، تقدست أسماء الله جل وعلا، وتعالى علواً كبيراً عن قول هؤلاء الظلمة الذين يتنقصون من قدر الله جل وعلا، ويتنقصون من كمال الله وجلال الله سبحانه وتعالى فهذا لازم باطل، وهم ينأون بأنفسهم أن يقولوا به. الثاني: إذا قلتم بأن الله في كل مكان لزم ذلك أن تجزءوا الإله جزءاً في مصر، وجزءاً في الإمارات، وجزءاً في أمريكا، وجزءاً في فرنسا، وجزءاً في البحر، وجزءاً في الجبال، وجزءاً في السماء الأولى، وجزءاً في السماء السابعة، فجزأتم الإله وهو إله واحد، والله جل وعلا يقول: (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ} [النساء:171]، فكبرت كلمة قالوها وخرجت من أفواههم، فالله فوق العرش ويعلم ما عليه العباد، فهذه لوازم باطلة لو ألزمناهم بها لنفروا منها ولقالوا: نحن لا نقول بهذا، فإذا ألزمناكم بهذا وفررتم من هذا القول فارجعوا إلى المنهج الصحيح الذي أخبره الله لنا في الاعتقاد السديد: أن الله جل وعلا فوق العرش وعلمه في كل مكان.

الأدلة على إثبات صفة العلو لله تعالى

الأدلة على إثبات صفة العلو لله تعالى

حكم قول القائل: نستشفع بك على الله

حكم قول القائل: نستشفع بك على الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله! جهدت الأنفس، وضاع العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا؛ فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أتدري ما تقول؟ فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه؛ شأن الله أعظم من ذلك. ويحك أتدري ما الله؟ إن الله على عرشه، وعرشه على سماواته، وسماواته على أرضه)] وهذا الحديث سنده ضعيف، لكننا نستقي منه أمراً مهماً جداً، وهو سنة لابد أن تتبع، وهو أنك إذا سمعت أحداً يتكلم بكلام فيه تنقص في الله جل وعلا، أو في صفات الله جل وعلا وجب عليك أن تسبح، بأن تقول: سبحان الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تعجب قال: سبحان الله! وكان إذا سمع أمراً عن الله جل وعلا لا يليق بجلاله ولا بكماله ولا بعظمته ولا بعزته قال: سبحان الله! جاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: نستشفع بالله عليك فقال: سبحان الله! وقال: ويحك. ومعناها عند أهل اللغة: أنها للزجر، حتى لا يتكلم بكلام فيه نقص في صفات الله جل وعلا. وأيضًا (لما دخل على خطيب يخطب بالناس فقال: ما شاء الله وشئت، قال بئس خطيب الأمة أنت، أجعلتني لله نداً؟!) فهذا دلالة على الزجر في الكلام الذي يوحي بنقص في جلال الله جل وعلا. ففي الحديث دلالة: على علو الله، حيث قال: إن الله على عرشه، وعرشه على السماوات، ومعنى نستشفع بك على الله، يعني: يجعل الله شافعاً لهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدعو لهم، فهذا الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يسبح. فالشفاعة تكون في واقعنا من الأدنى للأعلى، فإذا قال القائل: نستشفع بك على الله، فكأنه استشفع بالأدنى على الأعلى والعياذ بالله، ووضع الله جل وعلا في مرتبة أدنى من مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم، حاشا لله وتقدست أسماؤه جل وعلا، فالله يأمر، والعباد يقولون: سمعنا وأطعنا (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فلا شفاعة على الله، بل العباد هم الذين يحتاجون إلى الله جل وعلا ويشفعون عند الله، وهم الذين ارتضى الله لهم ذلك. فلا يستشفع في الله على أحد؛ لأن هذا يوهم بنقص لمرتبة الله جل وعلا، فإن القائل لهذا جعل مرتبة الله أدنى من مرتبة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا من الضلال العظيم، والكفر المبين. فالنبي صلى الله عليه وسلم سبح تنزيهاً لعظمة الله ولجلاله ولكماله جل في علاه، فإنه لا يستشفع بالله على أحد من عباده؛ لأن الله يأمر والعباد يقولون: سمعنا وأطعنا.

إثبات بعض الصفات الفعلية لله تعالى

إثبات بعض الصفات الفعلية لله تعالى قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)] وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق عرشه: أن رحمتي سبقت غضبي)] الحديث الأول يستفاد منه: أن عرش الله جل وعلا فوق السماوات السبع، وفوق أعلى درجة من درجات الجنة، وهي: الفردوس الأعلى. إذاً: فالجنة فوق السماء أو في السماء والله أعلم بمكانها، والمهم أنها في العلو. أما الحديث الثاني: فهو مهم جداً؛ لأنه يبين ثلاث صفات فعلية: صفة الغضب، والرحمة وهما من الصفات الفعلية، فالله يغضب وقت ما يشاء، ويرحم من يشاء وقت ما يشاء. وكذلك صفة الكتابة، التي تليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى، فهذه صفة فعلية من صفات الكمال والجلال لله جل وعلا، فقد كتب الله التوراة كما قال آدم عليه السلام لموسى عندما احتج معه فقال: (وخط لك التوراة) وقد كتب التوراة بيده، وأيضًا كتب كتاباً آخر بيده وهو الذي قال فيه: (رحمتي سبقت غضبي) فالله كتب التوراة بيده، وكتب أيضًا هذا الكتاب وهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي. فهذه الصفات الفعلية المستنبطة من هذا الحديث. والله جل وعلا كتب التوراة -تشريفاً لها- بيده الشريفة سبحانه وتعالى وتقدست أسماؤه، وكتب بيده في كتابه وهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

إثبات أهل السنة لصفتي العلو والكلام لله جل وعلا والرد على من أنكرهما

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - إثبات أهل السنة لصفتي العلو والكلام لله جل وعلا والرد على من أنكرهما من الصفات التي أثبتها أهل السنة والجماعة لله جل وعلا صفة العلو، فالله تعالى فوق سماواته مستو على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته، ولم ينازع في إثبات هذه الصفة لله تعالى إلا بعض أهل البدع كالأشاعرة الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء، وحججهم في ذلك مردودة عليهم.

إثبات صفة العلو لله تعالى

إثبات صفة العلو لله تعالى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فمازلنا مع كتاب التوحيد في إثبات صفات رب البرية سبحانه وتعالى, ومن هذه الصفات صفة العلو, وصفة الكلام. فالعلو علوان: علو مطلق, وعلو مقيد. وأهل البدع والضلالة يعتقدون الاعتقادات الخربة، ولم يستطيعوا أن يجابهوا أهل السنة والجماعة, وخافوا من أسنة ورماح جهابذة أهل السنة فلم يظهروا هذه العقيدة الخربة في قرون الخيرية الأولى, فلما توارت شمس السنة وبزغت شمس البدعة تبجحوا بهذه العقيدة الخربة وأظهروها سافرة أمام أعين أهل السنة والجماعة. ونسأل الله جل وعلا أن يعلي كلمته بأهل السنة والجماعة. والجهمية المعطلة عطلوا صفة العلو, والعلو علوان: علو مطلق وعلو مقيد, فالله جل وعلا يتصف بالعلو أزلاً وأبداً. وهناك علو المعنى وعلو الصفة, وعلو الله على عرشه صفة فعل، فالله لم يستو على العرش حتى خلق العرش, فلا نقول: إن الله استوى على العرش قبل أن يخلق العرش, وهذه الصفة من صفات الفعل. فإثبات علو الله جل وعلا في الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة والعقل, والأصل في صفات الله الخبرية الذاتية الثبوتية أنه لا يدخل العقل فيها, لكن في صفة العلو يدخل فيها العقل؛ لأن العلو صفة كمال بالعقل, واتفق العقلاء على أن العلو صفة كمال, وإذا أردت أن تنتقص من أحد فقل فيه: إنه رجل سافل في الفكر والمنطق. والإنسان يتنزه عن أن يقال عنه: سافل؛ لأن العلو كمال, فمن باب أولى أن يتنزه الله عن السفول, حاشاه سبحانه وتعالى جل وعلا وتقدست أسماؤه. وأيضاً إذا قلنا: إن من الكمال أن يتصف المرء بالعلو, أي: علو الهمة وعلو الذات, وهذه صفة كمال, فإثبات صفة العلو لله جل وعلا من باب أولى، لأن القياس قياس أولي أو قياس جلي, فمن باب أولى أن يتصف الله بصفات الكمال كصفة العلو.

الصفات السبع التي أثبتها الأشاعرة لله جل وعلا وتأويلهم لصفات الله الثابتة

الصفات السبع التي أثبتها الأشاعرة لله جل وعلا وتأويلهم لصفات الله الثابتة الأشاعرة هم مؤولة العصر, الذين يحرفون الكلم عن مواضعه, وقد انتشر بين الناس الآن أنهم متكلموا أهل السنة والجماعة وهذا باطل, فإنهم أبعد الناس عن أهل السنة والجماعة, بل هم من يحرف الكلم عن مواضعه. فهؤلاء أثبتوا لله السبع الصفات: حي عليم قدير, والكلام له, إرادة كذاك السمع والبصر، وهذه الصفات توافق العقل. إذاً: فهم يثبتون لله جل وعلا الحياة والعلم والقدرة والإرادة والكلام وأيضاً السمع والبصر, ثم يحرفون بعد ذلك كل صفة من صفات الله جل وعلا بقاعدة عندهم، وهي تأويل الصفة بالأدلة. فإذا جاءوا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا ثلث الليل الآخر) يقولون: ينزل ربنا بمعنى تنزل رحمته لا ذاته. وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] قالوا: تجيء رحمته أو أمره, أو ملائكته, فلا يثبتون الصفة, ويؤولونها بلازمها, وأهل السنة والجماعة يثبتون الصفة. والفرق بين أهل السنة والجماعة وبين الأشاعرة, أن أهل السنة والجماعة يثبتون الصفة ويثبتون لازمها, فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء أن يا جبريل إني أحب فلاناً) فالأشاعرة يقولون: المحبة هنا معناها إرادة الثواب, فأثبتوا لازم الصفة, لأن الله إذا أحب عبداً أثابه الجنة, وجعله في جواره في الجنة. وأهل السنة والجماعة يثبتون أولاً أن الله يحب ويبغض, ثم يثبتون لازم صفة المحبة وهي أن الله إذا أحب عبداً أدخله الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً عسله, قالوا: يا رسول الله وما عسله؟ قال: وفقه لعمل خير فقبضه عليه, فكان مآله الجنة). فإذا أحب الله عبداً, فإن لازم هذه المحبة أن يجعله في جواره في الجنة. فالأشاعرة ما أثبتوا صفة من صفات الله جل وعلا, بل حرفوها عن مواضعها, فقالوا: لا يمكن أن نقول: إن الله في علو, وأنكروا العلو, وقالوا في قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]: معناها الرحمن على العرش استولى!

القرينة اللغوية عند الأشاعرة لتأويل صفة الاستواء إلى الاستيلاء والرد عليها

القرينة اللغوية عند الأشاعرة لتأويل صفة الاستواء إلى الاستيلاء والرد عليها قال الأشاعرة: أنتم يا أهل السنة والجماعة قعدتم قاعدة وهي: أنه يمكن لنا أن نصرف اللفظ عن ظاهره إذا جاءت القرائن, وعندنا مسوغ وقرينة من اللغة تجعلنا نؤول الاستواء بالاستيلاء، قال الشاعر العربي الأصيل: استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق فيكون معنى استوى في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: استولى. أما أهل السنة والجماعة فقالوا: هذا القول من أضل الضلال, والذين قالوا بذلك من الفرق الضالة المبتدعة الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، ويرد عليهم بما يلي: أولاً: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] هذه الآية من المحكم, فالاستواء محكم، وكذلك الآية الأخرى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ومعنى: أن الله استوى على العرش, أي: علا وارتفع سبحانه وتعالى على العرش. فهذه المحكمات لا يمكن أن نخالفها ونصرفها عن الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة, لأن الأصل في اللفظ أن يبقى على حقيقته, ولا يصرف للمجاز. فالاستواء حقيقة في العلو, ونتنزل بأن هذا البيت عربي أصيل, فيكون مجازاً بمعنى استولى, فقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] حقيقة في العلو, مجازاً في الاستيلاء. والأصل أن نبقي اللفظ على حقيقته, إلا أن تأتي قرينة تصرفه من الحقيقة إلى المجاز, ولا توجد قرينة صارفة، فيبقى اللفظ على حقيقته وهو العلو والارتفاع. فنقول: علا وارتفع سبحانه وتعالى. ثانياً: ظاهر قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أن الاستواء على حقيقته بمعنى علا وارتفع على هذا العرش, فهذا ظاهر اللفظ, فإننا لا نؤول من الظاهر إلى المؤول إلا بدليل, ولا دليل على ذلك في كتاب الله يؤول الاستواء إلى الاستيلاء, وكذلك لا دليل من السنة يجعلنا نقول: الاستواء بمعنى الاستيلاء. فإن قالوا: هنالك مسوغ من اللغة, قلنا: الأصل أن يفسر القرآن بالقرآن؛ لأن الله جل وعلا أنزل الكتاب بلسان عربي مبين, إذاً: يبقى اللفظ على ظاهره وقد خالفوا الظاهر, ويبقى اللفظ على حقيقته وأتوا بالمجاز، والأصل أن يؤخذ بالحقيقة دون المجاز, فيبطل بذلك استدلالهم بهذا البيت.

اللوازم الباطلة من تفسير الاستواء بالاستيلاء

اللوازم الباطلة من تفسير الاستواء بالاستيلاء لو فسرنا الاستواء بالاستيلاء, يلزم من ذلك لوازم باطلة: أولها: أن العرش لم يكن تحت ملك الله جل وعلا, ثم استولى عليه بعد ذلك، وهذا كفر مبين, فلو قال قائل: إن شيئاً قيد أنملة أو شجرة أو ورقة شجر ليست في ملك الله فقد كفر بذلك, إذ أحاط الله جل وعلا بكل كونه ملكاً وقدرة وعزة وقهراً سبحانه وتعالى. إذاً من أول اللوازم الباطلة: إذا قلنا بأن الاستواء بمعنى الاستيلاء، أن العرش لم يكن في ملك الله, ثم استولى عليه, فهذا أول لازم من اللوازم الباطلة, وهذا كفر مبين. ثانيها: القول بأن هناك أرباباً من دون الله, فلو قلنا: الرحمن على العرش استولى, لزم أن يكون هنالك رب آخر كان مستولياً على العرش, وحصلت المغالبة بين هذا الرب وهذا الرب, أو هذا الإله وهذا الإله, واستولى بعد ذلك الرحمن على العرش، بعدما أخذه منه, والله جل وعلا يقول: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] فهذا اللازم الباطل أكفر من اللازم الأول, لأنه يلزم منه وجود أرباب من دون الله تنازع الله في ملكه سبحانه وتعالى. فإن قالوا: هذه اللوازم نرفضها, وأنتم تريدون أن توقعونا في شر أعمالنا, وسنخرج منكم بكلام لطيف وهو أن معنى استولى: تم ملكه, أو مطلق التمليك, وليس الاستيلاء بالمغالبة, فنقول: الرحمن على العرش استولى, يعني: الرحمن دخل في ملكه العرش. قلنا: لم خص الله جل وعلا العرش بالتمليك؟ فالشجر ملكه وكذلك البحر والسماء والشمس والنجوم, إذاً: لِم لمْ يقل الله جل وعلا: الرحمن على الشمس استوى أو الرحمن على الشجر استوى, أو الرحمن على البحار استوى؟ فالبحر ملك لله, والشمس ملك لله, والأرض ملك لله, والجبال ملك لله, فلا مزية بين الجبال وبين العرش, ولا بين البحر وبين العرش, فيلزم التساوي بينها وبين الآية، وهذا من أبطل الباطل, فبذلك يظهر لنا بطلان تأويلهم من أجل اللوازم الباطلة. ثم نقول: نفرض أن هذا البيت عربي أصيل وأنه مسوغ لذلك, ونحن لم نكفره, فالتكفير للنوع دون العين, فمن حرف الكلمة عن موضعها بدون مسوغ من اللغة, هذا كفر؛ لأنه تكذيب لقول الله جل وعلا. فمن قال في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] بمعنى: رحمة الله فوق أيديهم, أو قدرة الله فوق أيديهم، وهذا قول أهل البدع والضلالة، فهذا كفر مبين؛ لأنه مكذب, ولا يوجد مسوغ في اللغة. فمن قال: هنالك مسوغ من اللغة، وهو أن اليد بمعنى النعمة، كقولهم: لولا يد لك عندي ما كافأتك عليها، وأيضاً في اللغة مسوغ بأن اليد هي القدرة، فالعرب يقولون: قبض على البلدة بيد من حديد، يعني: بقدرة أي: قدر على أهلها. الغرض المقصود: أن اليد بمعنى القدرة لها مسوغ من اللغة, فإذا قالوا: بأن الاستواء بمعنى الاستيلاء وليس لهم مسوغ كفروا, وإن قالوا: المسوغ هذا البيت, قلنا: هذا البيت ليس بعربي أصيل، إذ إنه لشاعر نصراني قال: استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق. ونحن نقول لهم: استوى بشر على العراق, بمعنى استولى بشر على العراق, هل هذا أصل فيها أم هناك قرائن تحيل اللفظ من ظاهره إلى المؤول؟ استوى بمعنى علا واستقر، والقرينة قوله: من غير سيف ولا دم مهراق, أي: حصلت هناك مغالبة ثم استولى على مقاليد الحكم في العراق, فنقول: هنا قرينة أولته, وفي الآية ليس ثمة قرينة, فبطل استدلالهم بذلك.

الرد على الاعتراضات على تفسير الاستواء بمعنى العلو

الرد على الاعتراضات على تفسير الاستواء بمعنى العلو قالوا: إن أبطلتم لنا الاستدلال, فعندنا لوازم باطلة نلزمكم بها إذا قلتم بأن الاستواء معناه العلو. قلنا: هاتوا اللوازم هذه لعلنا نرجع عما اعتقدنا. فقالوا: اللازم الأول: أنكم إذا قلتم: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] بمعنى: علا واستقر, لزم من ذلك أن العرش يمس الرحمن, ويحده، وكأن العرش أحاط بالله. فإذا قلتم: إن لله حداً فهذا كفر. فاللازم الأول أن الله جل وعلا إذا علا أو استوى على العرش, يحدث في ذلك المماثلة مع المخلوق، وأحاط العرش بالله جل وعلا, فإذا أحاط به فإن له حداً, فهذا أول لازم باطل, ونعوذ بالله من ذلك. اللازم الثاني: قالوا: إذا قلتم {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] لزم من ذلك أن الله يحتاج إلى عرش, فإن العرش يقل الرحمن سبحانه وتعالى. فعندما نقول: محمد استوى على الكرسي وهو يعطي الدرس, فلو سحب رجل الكرسي من تحته فإنه سيقع؛ لأنه محتاج إلى كرسي, فكذلك لو قلتم: استوى الرحمن على العرش, فإن العرش يقل الرحمن, والرحمن يحتاج للعرش, وحاشا لله من ذلك. فنقول لكم: هذه اللوازم الباطلة نحن لا نعتقدها ولا نقول بها, نحن نقول بظاهر القرآن، ولا يمكن أن تكون لوازمه باطلة. أما قولكم: إنه يلزم من معنى الاستواء أن العرش يحد الرحمن, فإننا نتعامل مع الألفاظ المبهمة في العقيدة، بأن نتوقف فيها فلا ننفي الحد ولا نثبته, فإن كان معنى استوى على العرش، بأنه علا على العرش وهو بائن من خلقه, ومنفصل عنهم، ويعلم ما هم عليه، فهذا حق. وإذا قلتم: إن العرش أحاط بالله, نقول: حاشا لله, لأن الله أكبر من أن يحاط به، فهذا كفر مبين, والذي جركم لهذا تشبيهكم الخالق بالمخلوق, وتكييفكم لصفة العلو, لأنكم بهذه الطريقة كيفتم صفة العلو, ونحن قلنا: الكيف مجهول, فنفوضه لله جل وعلا, والله جل وعلا لم يره أحد، حتى يخبركم بهذه الكيفية. فأصبح اللازم الأول باطلاً والثاني باطل والثالث أبطل ما يكون، فيرد عليكم هذا اللازم ولا نقول به. فالله جل وعلا علا على العرش بكيفية يعلمها, وهي صفة كمال وجلال وعظمة وبهاء لله جل وعلا, والله يحيط بكل شيء، ولا شيء يحيط بالله سبحانه وتعالى. أما اللازم الثاني فنقول: كل المخلوقات أحوج ما تكون لله, والله لا يحتاج لأحد, وهذا من لوازم اسمه الصمد. والصمد: هو الذي يحتاج إليه كل العباد وهو لا يحتاج إلى أحد, قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]. فالعرش أحوج ما يكون لله جل وعلا, والعرش لا يحمل الله, بل العرش نفسه محمول, يحمله ثمانية من الملائكة, فبطل هذا اللازم وبطلت أدلته. ونقول: الله جل وعلا عالٍ على عرشه, وهو فوقه، ويعلم ما العباد عليه, لا تخفى عليه خافية سبحانه وتعالى، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، وهذا آخر الرد على الأشاعرة. ونكون قد انتهينا من باب العلو.

الفوائد المستنبطة من حديث: (سبقت رحمتي غضبي)

الفوائد المستنبطة من حديث: (سبقت رحمتي غضبي) نذكر بعض الفوائد المستنبطة من بعض الأحاديث التي رواها المصنف كما يلي: أولاً: الحديث الأول, قوله: (سبقت رحمتي غضبي)، فيه صفتان فعليتان ثبوتيتان: صفة الرحمة وصفة الغضب. وضابط الصفة الفعلية أنها تتعلق بالمشيئة وبالأحكام وتتجدد، أي: إن شاء رحم وإن شاء لم يرحم سبحانه وتعالى. وصفة الرحمة هي صفة عامة وصفة خاصة, فهي خاصة في الآخرة, أما في الدنيا فهي رحمة عامة مطلقة تشمل الكافر والمؤمن. والله يرحم الكافر أولاً بأنه يهديه إلى طريق الرشاد, وهذه هداية البيان والدلالة, وإنزال الآيات البينات الباهرات يعتبر من رحمة الله به, ويشفيه إذا مرض, ولا يمنعه من خير في هذا الكون, فيعطيه المال والطعام, بل ويزيد له في ذلك في الدنيا, فرحمة الله تعم الكافر والمؤمن في الدنيا وتخص المؤمن في الآخرة. وغضب الله جل وعلا صفة فعلية من الصفات التي تتعلق بمشيئة الله جل وعلا كما في الحديث الصحيح وهو حديث الشفاعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله قط، ولن يغضب مثله بعده) وفي هذا دلالة على أن الله يغضب يوم القيامة. وهنا لفتة لطيفة جداً وهي: (سبقت رحمتي غضبي) وهذا من فقه التعبد لله بأسمائه الحسنى والصفات العلى, أن تهرب من الله إليه, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) وأن تستعيذ بالله منه, وأن تستعيذ بصفة من صفاته، فتقول: أعوذ برحمتك من غضبك, فإن رحمتك قد سبقت غضبك. فالمؤمن يهرب من صفة إلى صفة أخرى, أعوذ بمعافاتك من عقوبتك.

الفوائد المستنبطة من حديث: (احتج آدم وموسى)

الفوائد المستنبطة من حديث: (احتج آدم وموسى) الحديث الذي بعده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه). والروح مضاف إلى الله, والأصل في (من) أنها للتبعيض, فهذه مهمة جداً. (ونفخ فيك من روحه) يحتج بها النصارى على التثليث, لأنهم يقولون: عيسى روح الله, يعني: أنه جزء منه, لأن من للتبعيض, فكيف نرد عليهم؟. نرد عليهم بالفائدة التي سنبينها، فمن هنا للابتداء لا للتبعيض, يعني من روح عنده, والإضافة هنا إضافة تشريف. إذ الإضافة لله جل وعلا نوعان: إضافة أعيان قائمة بذاتها, وإضافة معاني. وإضافة الأعيان القائمة بذاتها تضاف إلى الله جل وعلا تشريفاً وتعظيماً, نحو: الكعبة بيت الله, وقوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13]، وعيسى روح الله. وأما المضاف إلى الله جل وعلا من المعاني: فهي إضافة الصفة إلى الموصوف. والقرائن التي أثبتت لنا أن من هنا للابتداء وليست للتبعيض، وهي أن نلزم النصارى بقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] فنقول: هل من أحد منهم يقول: السماء جزء من الله؟ أو الأرض أجزاء من الله بأشجارها وأنهارها وبحارها؟ هم يقولون: لا نقول بذلك. إذاً: من هنا للابتداء، وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] مضافة إلى الله تشريفاً, فعيسى من باب أولى يكون مضافاً إلى الله تشريفاً وتعظيماً؛ لأن عيسى بالاتفاق ليس جزءاً من الله، بل هو مخلوق, وكذلك آدم الذي نفخ الله فيه من روحه، فالإضافة هنا من باب التشريف والتعظيم.

أنواع الاحتجاج بالقدر

أنواع الاحتجاج بالقدر وقوله صلى الله عليه وسلم: (قال: أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة, فقال آدم: وأنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه, تلومني على عمل عملته قد كتبه الله علي قبل أن يخلق السماوات والأرض, قال: فحج آدم موسى) فالاحتجاج بالقدر أنواع ثلاثة: الأول: احتجاج بالقدر على المعايب وعلى المعاصي. الثاني: احتجاج بالقدر على المصائب. الثالث: احتجاج بالقدر على المعاصي بعد التوبة منها. أولاً: الاحتجاج بالقدر على المعاصي لا يجوز بحال من الأحوال، فهو محرم, وهذا مذهب الجبرية المبتدعة الذين يبطلون الشرع كلية, فيسوون بين إبليس وبين جبريل, فيقولون: إن إبليس يصنع ما قدره الله عليه, وما أمر الله به كوناً وقدراً, وجبريل يصنع نفس الأمر, فهو سائر يسير على وفق ما قدره الله عليه, كما قيل: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء فالجبرية يحتجون دائماً بالقدر على المعاصي, فإذا سرق رجل قال: مهلاً, سرقت بقدر الله, وإذا زنى قال: مهلاً زنيت بقدر الله, وإذا اغتاب قال: اغتبت بقدر الله, فهم يحتجون بالقدر على الشر! وعمر بن الخطاب لما قبض على سارق فأمر بقطع يده, فقال السارق: مهلاً يا أمير المؤمنين, والله ما سرقت إلا بقدر الله. فقال: ونحن ما نقطع يدك إلا بقدر الله. فالسارق يريد أن يحتج بالقدر على هذه المعصية, وعمر احتج عليه بالشرع لا بالقدر. فبين له أنه متعبد لله بالشرع, والله أمرنا شرعاً أن من سرق, وإن قدر عليه ذلك وكتب عليه في اللوح المحفوظ, فإنه محاسب على فعله, فإن سرق قطعت يده. والقصة الثانية: المرأة التي زنت -والعياذ بالله- فدخل عليها زوجها الجبري ووجد عليها رجلاً, فاستل سيفه ليقتله, فقالت: مهلاً ما فعل ذلك إلا بقدر الله, قال: نعم أصبت, وتركها. فهذا أساء إساءة منكرة، فلما علمت المرأة أن هذا الجبري يصل بذلك إلى الدياثة, تركت هذا المذهب ولم تنتحله. فنقول: ضرب القدر بالشرع كفر مبين. فالاحتجاج بالقدر على المعاصي لا يجوز في حال من الأحوال, وآدم لم يحتج بحال من الأحوال على المعصية بالقدر أبداً، ومن فهم ذلك فقد أخطأ. أما الثاني: فهو الاحتجاج بالقدر على المصائب, وهذا جائز، وهو أفضل الاحتجاجات. الثالث: الاحتجاج بالقدر على المعاصي بعد التوبة, وهذا يصح, فإذا عصى العبد ربه ثم تاب من المعصية توبة نصوحاً, فجاء أحد يعيره بهذا الذنب الذي أذنبه, فله أن يقول: قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني بخمسين ألف سنة. قال بعض العلماء: إن آدم لما قال: أما رأيت أن الله قد كتب علي هذا الذنب قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال موسى: بلى, فسكت, فحج آدم موسى. فالله تعالى قبل توبة آدم، قال الله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. إذاً: التائب لا يمكن أن يعير, ولا يصح شرعاً أن يعير تائب من ذنب, وآدم عليه السلام قد تاب من الذنب ولذلك فقد حج موسى، وهذا تأويل ضعيف, لكنه يعمل به. أقول: الذي يتوب من ذنب إذا عير بالذنب له أن يحتج بالقدر, لكن هذا التأويل في هذا الباب فقط ضعيف؛ لأن موسى أفقه من أن يعير آدم بذنب قد تاب منه, ولا يمكن أن يقال: موسى الذي هو أعلم أهل الأرض في زمانه لا يعلم أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له, أو أن يؤاخذ أحداً قد تاب الله عليه من ذنبه, فهذا يبين ضعف هذا التأويل. والصحيح الراجح في ذلك أن آدم كانت له الحجة حين احتج على المصيبة بالقدر, وهي الخروج من الجنة، وكأن موسى لم يعيره بالذنب, إنما قال له: أخرجتهم من الجنة, فهو لا يعاتبه على الذنب وهو الأكل من الشجرة, إنما يعاتبه على الخروج من الجنة. فلما عاتبه على تلك المصيبة قال آدم: ألم تر أن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ؟! إلى آخر الحديث, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حج آدم موسى) وأقر ذلك. إذاً: الاحتجاج بالقدر على المصائب جائز, والدليل من كتاب الله قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [التغابن:11] قال ابن مسعود: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [التغابن:11] يعني: يؤمن بالله ويعلم أن هذه المصيبة من عند الله قد كتبها في اللوح المحفوظ, وأنها لابد أن تقع عليه فوقعت, {يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] ومعنى ذلك ما يلي: أولاً: هذا إقرار بأن قلبه مهدي. ثانياً: أنه يزداد إيماناً فوق الإيمان. إذاً: الاحتجاج بالقدر على المصائب من أكمل الإيمان, ودليل هذا من الكتاب والسنة, فمن محض الإيمان أن تعلم أن المصيبة مكتوبة عليك في اللوح المحفوظ. وحديث عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: وأن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك, وما أخطأك لم يكن ليصيبك, فإن مت على غير ذلك دخلت النار, ووجه الشاهد, قوله: فإن مت على غير ذلك دخلت النار. إذاً: محض الإيمان أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك, وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك, وأنا عرضت هذا الحديث لما فيه من الزيادة. والدليل الثاني الذي يثبت علو الإيمان, وأن المصيبة من عند الله جل وعلا, وأنك إن آمنت بذلك يهد الله قلبك, هو قوله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير, إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

باب ذكر تكليم الله لموسى عليه السلام

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - باب ذكر تكليم الله لموسى عليه السلام من عقيدة أهل السنة والجماعة: إثبات ما أثبته الله لنفسه وإثبات ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، من غير تمثيل ولا تعطيل، ومن ذلك إثبات صفة الكلام لله تعالى، وصفة الكلام صفة ذاتية فعلية قديمة النوع حادثة الأفراد.

إثبات صفة الكلام لله جل وعلا

إثبات صفة الكلام لله جل وعلا إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ما زلنا مع كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل لإمام الأئمة أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وتكلمنا عن صفة العلو واستواء الله جل وعلا على عرشه والرد على أهل البدع، واليوم إن شاء الله نتكلم عن صفة من الصفات الفعلية للرب جل وعلا وهي: صفة الكلام. قال المؤلف رحمه الله: (باب ذكر تكليم الله لموسى عليه السلام خصوصية خصه الله تعالى بها من بين الرسل، بذكر آي مجملة غير مفسرة، فسرتها آيات مفسرات. قال أبو بكر: نبدأ بذكر تلاوة الآي المجملة غير المفسرة، ثم نثني بعون الله وتوفيقه بالآيات المفسرات. الأدلة من الكتاب: قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253]. فأجمل الله تعالى ذكر من كلمه الله في هذه الآية فلم يذكره باسم، ولا نسب، ولا صفة، فيعرف المخاطب بهذه الآية التالي لها، أو سامعها من غيره، أيَّ الرسل الذي كلمه الله من بين الرسل). صفة الكلام هي صفة من صفات الأفعال تتعلق بمشيئة الله جل وعلا، أي: تتجدد، وهي تتعلق بمشيئة الله، وهذا ضابط صفات الأفعال، يعني: إن شاء تكلم وإن شاء لم يتكلم، فهي من صفات الأفعال الثبوتية لرب البرية جل في علاه. إن صفة الكلام صفة جليلة ثبتت لله جل وعلا بالكتاب والسنة وبإجماع أهل السنة وبالعقل أيضاً، أما في الكتاب فقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، فالقول كلام، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، وقال جل وعلا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وهذا تأكيد للمفعول المطلق. وقال جل وعلا: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]. وقال جل وعلا: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253] يعني: الفاعل هو الله سبحانه وتعالى وهو الذي تكلم. وثبتت هذه الصفة أيضاً في السنة، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (إذا أحب الله عبداً نادى: يا جبريل! إني أحب فلاناً)، وأيضاً في الصحيح: (كان يتعوذ النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ووجه الشاهد: (بكلمات الله). ووجه الدلالة: إِضافة الكلمات لله جل وعلا، والمضاف إلى الله نوعان: إضافة أعيان، وإضافة معانٍ، والمضاف إلى الله جل وعلا إضافة أعيان، مثل: عيسى روح الله، والكعبة بيت الله، وناقة الله، وإضافة الأعيان هي التي قامت بذاتها لله جل وعلا، وهي إضافة تشريف وتكريم وتعظيم. وأما إضافة المعاني فإن الله جل وعلا عندما يضيف معنى له هذا من باب إضافة الصفة للموصوف، قال الله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180]، مثل قولك: عزة الله، كرم الله، قدرة الله، رحمة الله، فهذا من باب إضافة صفة إلى موصوف، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله) فهو أضاف صفة كلمات، والكلام صفة من صفات رب البرية من باب إضافة الصفة للموصوف. أيضاً في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد الله جل وعلا أن يوحي بأمره تكلم بالوحي). وأيضاً في مسألة الاستسقاء بالنجوم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟) الشاهد: (قال ربكم) والقول أيضاً يدل على كلام رب البرية سبحانه وتعالى. أيضاً أجمع سلف الأمة على أن الله يتكلم، وهي صفة كمال وجلال وعظمة لله جل وعلا. وأبو بكر رضي الله عنه عندما راهن قريشاً على أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون فسألوه: من أين أتى بهذا؟ قال: من كلام ربي، ثم تلا عليهم قول الله جل وعلا {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:1 - 3] إلى آخر الآيات. أيضاً كانت عائشة عندما أنزل الله براءتها من فوق سبع سماوات تقول: (وإن شأني أحقر عند نفسي من أن يتكلم الله في بقرآن يتلى إلى يوم القيامة). وابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه يقول: (من أراد أن يختبر حبه لربه جل وعلا فليعرض نفسه على كلام الله، فإن أحب كلام الله -أضاف الكلام لله- فهو يحب الله جل وعلا). كما سنبين كيف نتعبد لله بهذه الصفة الجليلة العظيمة. إذاً: ثبتت هذه الصفة بالكتاب وبالسنة وبإجماع أهل السنة وأيضاً بالعقل، فالعقل يؤيد أن الله يتكلم، وهذا كمال، والذي لا يستطيع أن يتكلم هذا فيه نقص، فأنت لو اتهمت رجلاً أنه لا يستطيع أن يعرب عن نفسه أو اتهمته بأنه لا يستطيع الكلام لنزه نفسه عن ذلك إن كان متكلماً، فهو لا ينزه نفسه إلا عن صفة نقص، فإن كانت عدم استطاعة الكلام من النقص وينزه عنها المخلوق فمن باب أولى أن ينزه الخالق عن هذا. أيضاً إذا اتصف المخلوق بالكمال وهو تمام الكلام فالله أولى أن يتصف بالكلام، يعني: ثبتت هذه الصفة الجليلة لله جل وعلا أنه يتكلم بما شاء كيف شاء وقتما شاء حيثما شاء سبحانه جل في علاه، فإذا ثبت ذلك فإن الله تكلم مع بعض المخلوقات، وأسمعهم صوته الجليل سبحانه وتعالى، اللهم أسمعنا صوتك صوت الرحمة {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].

تكليم الله عز وجل للسماوات والأرض والجنة والنار وغيرها من المخلوقات

تكليم الله عز وجل للسماوات والأرض والجنة والنار وغيرها من المخلوقات الله جل وعلا أسمع صوته بعض مخلوقاته، فالله جل وعلا لما خلق السماء وخلق الأرض قال لهما: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] فتكلم مع السماء ومع الأرض، وسمعت السماء وسمعت الأرض صوت الله جل في علاه. وتكلم الله جل وعلا مع الجنة ومع النار، كما قال الله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ} [ق:30] من الذي يقول؟ الله جل وعلا، {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ} [ق:30] فسمعت النار كلام الله جل وعلا وصوت الله. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الجنة والنار اختصمتا، فقال الله للنار: أنت عذابي -وهي تسمع ذلك- أعذب بك من أشاء، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء)، فهذه دلالة على أن الجنة والنار سمعتا صوت الرب جل في علاه. وأيضاً في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة، أو قال: رعدة شديدة؛ خوفاً من الله، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا). وأيضاً تكلم الله مع الخلق عامة، تكلم الله معنا، لكننا ننسى ولا ندري، كما ورد في مسند أحمد بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره بنعمان -يعني: بعرفات- فأخرج كل ذرية له فأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟) هم يسمعون صوت الله جل وعلا، وكلنا شاهد هذا المشهد وسمع هذا الصوت لكننا لا نتذكر، ونسأل الله جل وعلا أن يذكرنا عندما نسمعه في الجنة، فقال الله تعالى: (ألست بربكم؟ قالوا: بلى) يعني: شهدوا بأن الله هو الرب الجليل الواحد الأحد المستحق للعبادة سبحانه جل في علاه. وأيضاً يتكلم مع جميع الخلق، المؤمن البار، والفاسق الفاجر، والكافر الفاجر على عرصات يوم القيامة، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح قال: (إن الله جل وعلا عندما يحشر الخلائق يوم القيامة يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) من أول خليقة إلى آخر خليقة يناديهم جميعاً بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب. وأيضاً الله جل وعلا يتكلم مع أهل الجنة خاصة، فيكلمهم كلام الرحمة، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى أنه قال: (يقول تعالى: لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك. فيقول: هل تريدون شيئاً؟ أو قال: هل أرضيتكم؟) إلى آخر الحديث. الشاهد: أن الله جل وعلا ينادي أهل الجنة: (يا أهل الجنة) فيسمعون كلام الله جل وعلا. وأيضاً كل جمعة هناك تزاور ويسمى يوم المزيد، وهو اليوم الذي يزورون فيه الله جل وعلا، فالذي يغتسل يوم الجمعة ويسارع إلى صلاة الجمعة وإلى ذكر الله جل وعلا والطاعات هو الذي سيسارع إلى يوم المزيد، فيتسابق مع الخلق إلى المكان القريب من الله جل وعلا، ويرى من كرامته ويسمع من صوته جل في علاه، فيكلم أهل الجنة خاصة كرامة وتشريفاً وتعظيماً لهم، وهو نعيم ومتاع ليس بعده متاع حين يسمعون صوت الله جل في علاه. وأيضاً يتكلم الله جل وعلا مع أهل النار خاصة عندما يبكتهم ويقرعهم ويرد عليهم تخاصمهم، قال الله تعالى: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق:28] هذا كلام خاص لأهل النار تبكيتاً وتقريعاً، نعوذ بالله أن نكون منهم. وأيضاً الله جل وعلا يقول: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، لكن هذا الصوت لا يتمتعون به، بل يرهبون ويصعقون لعظمة الله وجلال الله وقدرة الله، ويظهر عليهم في عرصات يوم القيامة جبروت الله.

تكليم الله تعالى لآدم وحواء عليهما السلام

تكليم الله تعالى لآدم وحواء عليهما السلام لقد اصطفى الله جل وعلا آدم فكلمه خاصة، وكلم حواء معه، {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] فسمع آدم صوت الله وسمعت حواء صوت الله جل في علاه. وأيضاً {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35]. وأيضاً قول الله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:33]، هذا يخص آدم. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول لآدم: يا آدم! ابعث بعث النار) فقوله: (يا آدم) هذا هو الشاهد، (فيسمع آدم الصوت فيقول: لبيك وسعديك، والخير كله في يديك. فيقول: ابعث بعث النار) إلى آخر الحديث، وهذا الكلام أيضاً يخص آدم به فهو يسمع صوت الله جل في علاه.

تكليم الله لموسى عليه السلام

تكليم الله لموسى عليه السلام لقد اصطفى الله من رسله موسى عليه السلام بكلامه سبحانه، كما قال الله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]. وقال جل وعلا: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]. وقال جل وعلا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]. هذا اصطفاء واجتباء وتفضيل وتكريم من الله لبعض عباده وبعض رسله وهو موسى عليه السلام.

تكليم الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم

تكليم الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم إن الله جل وعلا ما منع رسوله الكريم خير الخلق أجمعين من الكلام أيضاً، وما من حظ ونصيب من الخير جاء لنبي من الأنبياء إلا وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم النصيب والحظ من هذا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كلمه ربه دون وسيط بينه وبينه، لما عرج به إلى سدرة المنتهى، فتكلم مع الله يراجعه على الخمسين صلاة، فقال: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:29] أي: هي خمس في العمل وخمسون في الأجر. إذاً: اصطفى الله آدم فكلمه، واصطفى موسى فكلمه، ومحمد صلى الله عليه وسلم كلمه وخصه وشرفه وعظمه وكرمه بهذا الكلام.

تكليم الله لإبليس عليه اللعنة

تكليم الله لإبليس عليه اللعنة لقد تكلم الله مع إبليس كما يكلم أهل النار تبكيتاً وتقريعاً، بل وأمهله وأخر عنه العذاب، عندما قال إبليس: {أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14] قال الله تعالى: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر:37]. وأيضاً لما تكبر على السجود لآدم: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر:34 - 35]، هذا أيضاً الكلام للشيطان وسمعه، ولما استأذن ربه أن ينظره أنظره الله جل في علاه. وأيضاً تكلم الله سبحانه وتعالى مع بعض عباده وحياً. يعني: أنزل الوحي عليه.

وصف كلام الله تعالى

وصف كلام الله تعالى إذا علمنا أن الله جل وعلا يتكلم فإن كلام الله جل وعلا له وصف، إن الله يتكلم بصوت مسموع، حتى نرد على الذين يقولون: هو عبارة عن شيء في نفس الله، حاشا لله، كما سنبين من كلام الأشاعرة والكلابية وغيرهم، فنقول: الله جل وعلا يتكلم بصوت مسموع، بل ويتكلم بحرف؛ لأن الكلمات هي حروف يضم بعضها إلى بعض، فيتكلم الله بصوت مسموع، قال الله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10]، والنداء لا يكون إلا بصوت مسموع، {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} [مريم:52]، فالنداء لا يكون إلا بصوت، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] والقول لا يكون إلا بصوت مسموع، فالله يتكلم بصوت مسموع، صفة هذا الصوت ترتعد منه الخلائق، بل السماوات تصعق من صوت الله جل وعلا، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح ابن خزيمة بقوله: (إن صوت الله كصلصلة). وفي رواية قال: (كسلسلة على صفوان)، وصفوان هو الحجر الأملس، والسلسلة عندما تجر على الحجر الأملس تحدث صوتاً رهيباً شديداً، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخذت السماوات منه رجفة أو قال: رعدة شديدة، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا)، وفي الرواية الأخرى قال: (يخرون سجداً) أي: من سماع صوت الله جل وعلا، ويتكلم بحروف: ((الم)) [آل عمران:1]، {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1]، {حم * عسق} [الشورى:1 - 2]، {كهيعص} [مريم:1]، كل هذه حروف تكون منها هذا الكلام المعجز الخالد إلى يوم القيامة. فالله يتكلم بصوت مسموع، وبحروف؛ لأن الكلمات تتكون من حروف، إذا ثبت ذلك واعتقدنا هذا الاعتقاد الصحيح بأن الله يتكلم، وكلام الله جل وعلا يليق بجلاله وكماله وعظمته وبهائه وقدرته سبحانه وتعالى، فهل إذا اعتقدنا هذا الاعتقاد يستلزم الكلام أن يكون من مخرج؟ لا، لا يستلزم الكلام أن يكون من مخرج، إذ الجنة قد تكلمت، والنار قد تكلمت، والسماء تكلمت، والأرض تكلمت، بل الطعام تكلم من غير مخرج، فنقول: لا يستلزم أن يكون الكلام من مخرج، ويتكلم الله جل وعلا بكيفية، لكن الكيفية مجهولة بالنسبة لنا، معلومة عند الله، والكيفية لا يعلمها إلا الله، ونحن نفوض الكيفية. إذاً: الله يتكلم بصوت وحرف، والكيف يعلمه الله، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهذا كله في حصيلة الإمام مالك، وقبل ذلك روي عن أم سلمة مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن لم يثبت، والصحيح أنه من كلام أم سلمة وأخذه مالك وتكلم به، وكان ربيعة الرأي يقول بهذا، وأخذه عنه مالك واشترط على مالك أن يقول بذلك، فإذا اعتقدنا هذا فلا بد أن نقول: المقصود من علم صفات الله جل وعلا هو كيف نتعبد لله بهذه الصفة؟ أيضاً من البشر الذين كلمهم الله كفاحاً عبد الله بن أبي حرام، والد جابر بن عبد الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عندما قتل عبد الله رضي الله عنه وأرضاه قال: (لقد كلمه الله كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، وسأله: ماذا تريد؟ قال: أن تردني إلى الدنيا فأحيا فأقتل في سبيلك) فكتب الله ألا يفعل ذلك، فكلمه الله خصيصاً له. أيضاً يكلم الله كل واحد منا ليس بينه وبينه ترجمان، وهذا كلام رحمة، جاء في الحديث: (أنه يلقي على العبد ستره فيقول له: عبدي أتذكر ذنب كذا يوم كذا؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول: عبدي أتذكر ذنب كذا وذنب كذا؟ قد سترته عليك في الدنيا وأنا أغفره لك اليوم)، اللهم اجعلنا من المغفور لهم يا رب العالمين! واستر علينا في الدنيا وفي الآخرة. إذاً: إذا اعتقدنا أن الله يتكلم، وهذا من كماله وعظمته وقدرته، وأننا سنتمتع متعة ليس بعدها متعة بعدما نسمع صوت الله جل في علاه، فيجب علينا أن نتعبد لله بهذه الصفة التي اعتقدناها اعتقاداً جازماً صحيحاً، وذلك بأنك إذا سمعت الله لم تسمعه إلا بأذنك، فوجب عليك أن تهيئ هذه الأذن لسماع صوت ربك جل وعلا، الذي صغت له السماوات والأرض، وخضعت له السماوات والأرض، فإن صوت الله جل وعلا يتمتع به أهل الجنة، وأيضاً يرتعد منه أهل النار، فإذا أردت أن تتمتع بصوت الله فهيئ أذنك لسماع صوت الله جل وعلا، فتهيئة الأذن ألا تسمع إلا ذكر الله جل وعلا وما يرضيه، لا تسمع الفاحش والبذيء من الخلق، لا تسمع المجون والغناء وآلات اللهو والمعازف، لا تسمع السب، لا تسمع الشرك، لا تسمع أهل البدع والضلالة، لا تسمع كل ما يغضب الله جل وعلا، وكن ممن يسمع ما يرضي الله عز وجل، وممن يسمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أي: يجلس في مجالس العلم فيسمع ما يرضي الله ويرضي رسوله صلى الله عليه وسلم، فكل منا يتعهد أذنه ألا يسمع بها إلا ما يرضي الله جل في علاه، لكن من منا لا يسيء؟ ومن منا لا يتعدى ويتجرأ على حدود الله؟ ومن منا لا يخطئ؟ ومن منا لا تغلبه شهوته؟ كل منا يقع في هذا، لكن بفضل من ربنا أن رحمة الله تسبق غضبه، وأن الله جل وعلا ستره مرخي على عباده، وباب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة، فكل من تجرأ منا على حدود الله وسمع ما لا يرضي الله جل وعلا فباب التوبة مفتوح، فلا بد أن يستدرك، ولا بد أن يستغفر، ولا بد أن يتوب إلى الله توبة نصوحاً، ولا يسمع أذنه إلا ذكر الله أو كلام الله أو حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

واجبنا نحو القرآن

واجبنا نحو القرآن إذا علمت أن الله جل وعلا يتكلم فانظر إلى كلام الله واقترب منه ولا تتركه أبداً، فمن أراد جليساً وأنيساً فكلام الله خير جليس وخير أنيس، فإن الله جل وعلا تكلم بالوحي، تكلم بالكتاب، تكلم بالقرآن، ولذلك كما في الشُعَب بسند صحيح أن ابن مسعود قال: (من أراد أن يختبر حبه لله فليعرض نفسه على كتاب الله، فإن أحب كلام الله -يعني: القرآن- فهو ممن يحبه الله). وكان عثمان بن عفان يقول: لا أهنأ أبداً في ليلة لم أطلع فيها على كلام الله. فأنت أخي الكريم! اسمع هذا الكلام واجعل لنفسك حفظ ثلاث آيات أو آية واحدة، واقرأ ربع جزء أو نصف جزء، اقرأ ما تستطيع، الغرض المقصود ألا يمر عليك يوم وأنت لا تقرأ فيه كتاب الله، لا تترك القرآن أبداً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرءوا القرآن فإن لكم بكل حرف حسنة، الحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (ألم) حرف، ولكن أقول: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)، فهذا خير عظيم، وكلام الله جل وعلا إذا طهرت القلوب لم تشبع منه، فقد ورد عن عثمان بن عفان كما في شعب الإيمان بسند صحيح أنه يقول: (لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام الله). فأنت أخي الكريم! هيئ نفسك وانظر عند سماعك لكلام الله جل وعلا هل ترى قلبك يرق أم هو قاس كالحجارة؟ وانظر هل ترى نفسك تميل إلى السماع والزيادة من السماع أم لا؟ إن كان الأولى فهذا هو الخير العظيم، وهذا فضل الله عليك، فعض عليه بالنواجد، واحمد ربك، وطوق هذه النعم بالشكر، فإن مع الشكر الزيادة. أما إذا كانت الثانية فاستغفر ربك، وارجع إليه، وتب وسارع في مرضات الله جل وعلا، فإن الله سيقبل التوبة، وعليكم بذكر الله جل وعلا، وبالقرآن فهو خير الذكر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن ترجعوا إلى الله بأفضل مما خرج منه، يعني القرآن) أي: ما خرج من الله جل وعلا القرآن هو كلامه، ولن ترجع إلى الله بخير مما خرج منه سبحانه وتعالى. أيضاً لا بد أخي الكريم أن تقرأ القرآن وتتدبر القرآن، قال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وقال عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يفسر هذه الآية العظيمة: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:121] قال: يحفظون حروفه، ويطبقون حدوده، تراهم في الليل رهباناً، يقيمون الليل بما حفظوا من كتاب الله جل في علاه، وتراهم في النهار يطبقون القرآن عليهم. نسأل الله أن نكون منهم. الغرض المقصود أن تتعبد لله بتلاوة كتابه، ولا تهجر القرآن حتى لا تقع تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما اشتكى لربه كما نقل الله عنه ذلك لنا في كتابه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، العلماء قالوا: وهجر القرآن على أقسام ثلاثة: هجر تلاوته، وهجر سماعه، وهجر تطبيقه والعمل به، فمنا من يتلو ولا يعمل بالقرآن، ومنا من يسمع ولا يعمل به، ومنا من يعمل فلا يتلو ولا يقرأ، وهذا أيضاً من الهجران للقرآن، فنحن نعتبر بهذا الكلام، فنقرأ القرآن، فلا نهجر قراءته، ونسمعه فلا نهجر سماعه، وأيضاً نطبقه على أنفسنا وعلى أهلينا، وعلى مجتمعاتنا، حتى يرضى الله عنا فلا نهجره تطبيقاً وعملاً.

كيفية التعبد لله بكلامه

كيفية التعبد لله بكلامه كيف نتعبد لله بكلام الله؟ بتعظيم كلام الله جل وعلا، بالخوف منه، إذا علمت أن الملائكة الأطهار الكرام البررة الذين لا يعصون الله ما أمرهم، وما فعلوا سيئة قط، بل يلهمون التسبيح كما يلهم أحدنا النفس، أما الطاعات فمنهم الساجد ومنهم الراكع، ومنهم الذي يسبح، ومنهم الذي يذكر، ومنهم الذي يأتمر بأمر الله جل وعلا، ومنهم الذين يحفون مجالس العلم، فهؤلاء الكرام البررة إذا سمعوا صوت الله جل وعلا صعقوا وخروا سجداً خضعاناً لقول الله تبارك وتعالى، فهذا يزيدنا لله وقاراً وتعظيماً وتسليماً، والخوف من الله، والوجل من الله عند من يعتقد بأن صوت الله سينقذه يوم القيامة على عرصات يوم القيامة، ويخشى من صوت الله صوت التعذيب، وصوت التقريع والتبكيت لأهل النار: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق:28]. نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يتعلم صفاته ويعلمها، ثم يعتقد بها لله ويطبقها واقعاً يعيشه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً.

باب ذكر البيان من كتاب ربنا المنزل على نبيه المصطفى على الفرق بين كلام الله الذي يكون به الخلق وبين خلق الله

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - باب ذكر البيان من كتاب ربنا المنزل على نبيه المصطفى على الفرق بين كلام الله الذي يكون به الخلق وبين خلق الله ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل نزولاً يليق بجلاله وعظمته، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى من يعتقد بهذا الاعتقاد الصحيح أن ينتهز مثل هذه الفرص بأن يدعو الله بخيري الدنيا والآخرة، فهو قريب مجيب.

بيان الفرق بين كلام الله الذي يكون به الخلق وبين خلق الله

بيان الفرق بين كلام الله الذي يكون به الخلق وبين خلق الله إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: باب ذكر البيان من كتاب ربنا المنزل على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم على الفرق بين كلام الله عز وجل الذي به يكون الخلق وبين خلق الله جل وعلا. أقول: الفارق بعيد بين فعل الله وبين مفعولاته، بين صفة الكلام لله وبين المخلوقات، فإن الله جل وعلا يخلق الخلق بكلامه وبأمره فإذا أراد شيئاً يقول له: كن فيكون، فالفارق بعيد بين المفعول وبين الفعل، فالكلام فعل من أفعال الله جل وعلا، وأما السماء والأرض والأنهار والجبال هذه من مفعولات الله جلا وعلا، فإن هذه المفعولات آثار من فعل الله جل وعلا، فكلام الله من صفاته، وفعل من أفعاله، وأما الأشجار والسماء والأرض والمخلوقات فهي من مفعولات الله جل في علاه، والله جل وعلا فرق لنا بين فعله وبين مفعولاته، قال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]. وعطف على الخلق الأمر، والأصل في العطف المغايرة، فالخلق غير الأمر، فالخلق من مفعولات الله جل في علاه، والأمر من أفعال الله، يعني من كلام الله جلا في علاه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]. فإن الخلق بكلام الله وبأمر الله وبفعل الله، قال الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]. إذاً: الأمر بكن فيكون الخلق، فالخلق من مفعولات الله، والأمر من فعل الله، قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، وأيضاً يقول الله في عيسى عليه السلام: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]. وهذا يرد على الذين قالوا بأن القرآن مخلوق وهم المعتزلة والجهمية، وفي السنة أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما صح عنه-: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) فلا يقول عاقل بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالمخلوق من المخلوق، حاشا لله وحاشا لرسوله صلى الله عليه وسلم فهو الذي علمنا التوحيد، وبين أن الاستعاذة بغير الله شرك، وهذا فيه دلالة واضحة جداً على أن الكلمات غير الخلق. وكان النبي صلى الله عليه وسلم -كما صح عنه في الصحيحين- يقول: (سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته) وهذا فيه تفريق بين فعل الله وبين مفعولاته فلما جاء للكلمات قال: ومداد كلماته، دل ذلك على التفريق بين الخلق وبين الكلمات، كما قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109]. فهذا أيضاً تفريق بين صفة من صفات الله وبين مفعولات الله، فإن فعل الله أمر (كن)، ومفعولات الله (فيكون).

إثبات صفة النزول لله عز وجل

إثبات صفة النزول لله عز وجل النزول صفة من صفات الأفعال، وهي صفة ثبوتية تليق بجلال الله وعظمة الله وكمال الله، ثبتت لله جل وعلا بالسنة، وأجمع عليها أهل السنة، أما بالسنة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- قال: (ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من تائب فأعطيه؟) وهناك رواية في الطبراني أو في المسند قال: (هل من مستشفٍ فأشفيه). ونزول الله يليق بجلال الله جل في علاه.

أقسام النزول

أقسام النزول ثبت بإجماع أهل السنة والجماعة أن نزول الله جل وعلا ينقسم إلى قسمين: نزول عام في الوقت وفي الأشخاص، هذا النزول الذي يعم الوقت والأشخاص هو نزوله كل ليلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل الآخر). فكل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ينزل ربنا إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وكماله سبحانه جل في علاه، عام في الوقت وعام في الأشخاص، وهذا النزول يعم المؤمن والكافر، والبر الفاجر، فالله ينزل إلى السماء الدنيا ينادي كل عباده بلا استثناء يقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ فلو أن الكافر تاب إلى ربه تاب الله عليه (فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له)، والإسلام يجب ما قبله، فهذا عام للمؤمن والكافر، والبر والفاجر. القسم الثاني: نزول خاص تشريفاً وإكراماً وهذا النزول الخاص يكون أولاً: للحجيج الذين مكنهم الله من الوقوف بعرفة، فيدنو الله جل وعلا من عباده الذين يقفون بعرفة شعثاً غبراً، فيباهي الله الملائكة بهؤلاء، وهذا خاص بأهل الحج، فيقول: (انظروا إلى عبادي جاءوني شعثاً غبراً اشهدوا أني قد غفرت لهم). ونزول يخص العباد المؤمنين دون الكافرين، وهذا النزول يختلف عن النزول الأول، فهذا يخص كل المؤمنين بخلاف الكافرين، ويخص من المؤمنين أصحاب القلوب النقية، الذين ليس في قلوبهم الغل والحقد والحسد والمشاحنة، وهذا النزول يكون ليله النصف من شعبان قال صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا ليلة النصف من شعبان فيغفر لكل مؤمن)، فيغفر لكل أحد إلا المشاحن أو الكافر، فليلة النصف من شعبان، ثبت فيها هذا الفضل أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيغفر لكل مؤمن إلا المشاحن. ووردت أدلة على نزول خاص ولكن في أسانيدها كلام، فقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا في شهر رمضان، يمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء، يرفع ما يشاء ويخفض ما يشاء، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء)، تصريف أمر العام كله، ولكن في سنده كلام لكن نستأنس به على أن هذا نزول يخص الزمان وهو شهر رمضان. الأخير: نزول يوم القيامة، فقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه، رواه ابن منده عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحشر الأولين والآخرين أربعين سنة أبصارهم شاخصة حتى ينزل الله جل وعلا، ينزل من على عرشه إلى الكرسي في ظلل من الغمام، ليفصل بين العباد) وهذا نزول خاص بيوم القيامة، فينزل من على عرشه سبحانه تعالى ولا نقول: إن العرش يخلو أو لا يخلو، بل ينزل من على عرشه وهو عليٌ جل في علاه، فينزل إلى كرسيه ليفصل بين العباد. وإذا اعتقد المرء اعتقاداً ثابتاً راسخاً بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل والناس نيام في سبات عميق والناس في غفلة فعندما يقوم حين يبقى ثلث الليل الآخر، وهو يعلم أن ربه الآن أقرب ما يكون منه سبحانه وتعالى نزل من عرشه وهو علي نزولاً يليق بجلاله إلى السماء الدنيا، والسماء الدنيا لا تظله ولا تقله، ولا شيء يحيط بالله جل وعلا، والله يحيط بكل شيء، حتى لا نكيف النزول؛ وهو قائم إما أن يكون مستغفراً أو تائباً أو مصلياً متهجداً، فيذكر ذنوبه ويذكر خطاياه، ويذكر اجتراءه على حدود الله جل وعلا فيؤلمه ذنبه فيستغفر ربه وهو يعلم أنه إذا ناجى ربه في هذا الوقت فهو قريب سيغفر له؛ لأنه لا أصدق من الله قيلاً؛ فيئوب إليه، ويرجع إليه ويتذكر العبد الذي قام لربه، يقول: رب! أذنبت ذنباً فاغفر لي فيقول الله جل وعلا: (علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر، اشهدوا أني قد غفرت له)، ويأتي فيفعل نفس الذنب مرة ثانية ثم يستغفر فالله جل وعلا يقول: (عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر قد غفرت له، وفي الثالثة يقول: عبدي افعل ما شئت ثم ائتني فاستغفرني فسأغفر لك) فباب الاستغفار مفتوح في كل ليلة، كما قال أبو بكر لـ عمر بعدما ولاه وهو على سرير الموت: يا عمر! اتق الله في الرعية، فإن لربك عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإن له عملاً بالليل لا يقبله بالنهار. فإن فرط العبد في النهار فعنده ثلث الليل الآخر يستغفر ربه على ما فرط، وإن عصى وأذنب يستغفر ربه على ذلك فسيغفر له، فإن الله جل وعلا يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]. وإن الله كريم لا يمكن أن يردك خائباً، فقد جاء في الترمذي بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله حيي كريم) انظروا إلى كرم الله وجود الله وعطاء الله، لقد أعطى منذ خلق السموات والأرض، ومنذ آدم عليه السلام إلى آخر الخليقة، ولم ينفد مما عنده شيء سبحانه وتعالى، ولا ينقصه شيء، فالله جلا وعلا خزائنه ملأى لا تنفد أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي كريم يستحيي أن يرفع العبد يديه إليه فيردهما خائبتين) وقال الله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا على صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئاً) فينتهز العبد الذي اعتقد أن الله في السماء قد نزل نزولاً يليق بجلاله وكماله، فيتعبد ويقول: ربي أعتقد اعتقاداً جازماً أنك الآن في السماء الدنيا تعطي من سألك، وإني أسألك، وأعلم أنك لن تردني، فيعمل بذلك الاعتقاد الصحيح ويدعو ربه، ويقسم بالله مهما دعا من دعا فإن الله سيستجيب له. ثم يذكر أن الله جل وعلا عندما يقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من مستشف فأشفيه؟ فما من مرض وما من داء إلا وله دواء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل داء دواء، فإذا أصاب دواء هذا الداء برئ بإذن الله). والدواء دواءان: دواء شرعي ودواء مادي، أما الدواء الشرعي فهو بالقرآن وبالسنة وبالرقى الشرعية، ويالخسارة المعتزلة والجهمية، ويا لخسارة أهل البدع الذين لا يعتقدون في الله الاعتقاد الصحيح! ويا لخسارة الذين لم يتعلموا أسماء الله الحسنى! فيتعبدوا لله بها، فمن اعتقد في الله الاعتقاد الجازم الصحيح فهو يعلم أن الدواء الشرعي هو أنفع دواء له، ويعلم أن الله جل وعلا سيشفيه، وأن الشفاء بيد الله لا بيد الطبيب ولا ببد أحد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يرقي المريض: (اللهم! اشفِ فأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقماً) فالشفاء بيد الله، وكل الناس أسباب. ومن أسباب الشفاء كذلك: الحبة السوداء أو حبة البركة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حبة البركة دواء من كل داء إلا السام) فمن باب أولى أن تكون الفاتحة والمعوذات والنفخ فيهما، ثم الرقية الشرعية التي كان يرقي النبي صلى الله عليه وسلم بها نفسه ويرقي بها غيره، وإذا رأى مريضاً قال: (أرقوها) فهذه إذا اعتقدها المرء اعتقاداً جازماً فعمل بها، فوالله! سيفوز فوزاً عظيماً، وهذا هو أثر الاعتقادات الصحيحة، فإنك إذا اعتقدت في ربك أنه ينزل إلى السماء الدنيا فإنك تنتهز هذه الفرص، فتتعبد لله بهذا الاعتقاد الصحيح الجازم. أما أهل البدعة والضلالة أيضاً ما تركونا نتعبد لله بهذه الصفات، فقد نفوا نزول الله، وقالوا: لو نزل لشبهتم الخالق بالمخلوق، بل إنها تنزل رحماته وتنزل ملائكته، والرد عليهم بأن نقول لهم: حجرتم واسعاً أيها الأغبياء! ألا ينزل أمر الله جل وعلا في ثلث الليل الآخر فقط والله جل وعلا يقول: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]؟ وكما قال ابن مسعود: يرفع أقواماً ويخفض آخرين ينزع من هذا سلطانه ويعطي هذا سلطانه، ويميت هذا ويحيى هذا، ويتخذ هؤلاء شهداء، ويجعل هؤلاء في النار، ويجعل هؤلاء في الجنة، {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]. فإذاً حجرتم واسعاً وقلتم: إن أمر الله جل وعلا لا ينزل إلا في ثلث الليل الآخر، خالفتم ظاهر القرآن، وظاهر السنة، وإجماع أهل السنة. وإذا قالوا: تنزل رحمته، فقد حجرتم واسعاً، أرحمة الله لا تنزل إلا في الثلث الليل الآخر؟ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله خلق مائة رحمة أنزل في الدنيا منها واحدة، يتراحم بها الجن والإنس والبهائم) واحدة من مائة رحمة والباقي عند الله جل وعلا في عرصات يوم القيامة، فكيف يقال: إن رحمة الله لا تنزل إلا في الثلث الأخير، فهذا كلام أبعد ما يكون، والرد عليهم تفصيلاً لن يكون في هذا الباب إلا إذا دخلنا في صفة النزول؛ لأننا نذكر الفوائد المستنبطة.

صفة نزول الوحي على الرسول الكريم

صفة نزول الوحي على الرسول الكريم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:1 - 5]. وفي الآية الأخرى قال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1 - 5]. قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم في الليلة شديدة البرودة يتصبب عرقاً إذا نزل عليه الوحي) صلى الله عليه وسلم. حتى إن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسأله سائل فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فنزل عليه الوحي، وكان فخذه على رجلي فكادت تُكسر حتى أسري عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من السائل؟ قال: أنا فأجابه) فالوحي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم نزولاً شديداً.

أنواع الوحي

أنواع الوحي الوحي على أنواع ثلاثة: أولاً: كصلصلة الجرس، قال النبي صلى الله عليه وسلم (كان الوحي يأتيني كصلصلة الجرس) وهي أشد ما تكون عليه. الثاني: أن يأتي على هيئة رجل وكان يأتيه دائماً على صور دحية الكلبي وكان من أجمل الصحابة رضوان الله عليهم، وفي حديث عمر الطويل تمثل جبريل بهيئة رجل. الثالث: أن يكون الوحي على هيئة رؤيا. نسأل الله جل وعلا أن يجمعنا جميعاً ويحشرنا جميعاً في زمرته، ويجعلنا معه في الفردوس الأعلى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

القرآن هو كلام الله

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - القرآن هو كلام الله صفة الكلام صفة ذاتية لله عز وجل، والقرآن كلام الله، وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، ولمن يعتقد أن القرآن كلام الله عز وجل آدابٌ لا بد أن يلتزم بها عند التعبد بكتاب الله عز وجل، فلا يمس كتاب الله إلا طاهر على القول الراجح، وأما قراءة القرآن من غير وضوء فهو جائز، ومن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر كفر نوع حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة؛ لأنه تكذيب للقرآن.

القرآن كلام الله عز وجل

القرآن كلام الله عز وجل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن صفات الله الذاتية، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هي قديمة النوع حادثة الآحاد أو حادثة الأفراد، يعني: هي ذاتية في الأصل؛ لأنك إذا مررت على رجل لا يتكلم لا تتهمه بالخرس، ولا تتهمه أنه لا يتكلم، فإذا مررت عليه بعد ذلك فتكلم، تقول: كان غير متكلم بمشيئته ثم تكلم بمشيئته، وكل عاقل يعلم أن الله قال: {يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه:11 - 12] لكنه ما قال يا موسى إني أنا ربك إلا بعد أن أتى موسى إلى الشجرة. إذاً: صفة الكلام صفة ذاتية، وهي قديمة النوع حادثة الأفراد، وهي صفة كمال وجلال وبهاء وعظمة لله جل في علاه، ثبتت هذه الصفة بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة والعقل. فالقرآن هو كلام الله، قد تكلم الله به، وسمعه جبريل ونزل به إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو صفة من صفات الله جل وعلا.

ثبوت أن القرآن صفة من صفات الله بالكتاب والسنة والإجماع

ثبوت أن القرآن صفة من صفات الله بالكتاب والسنة والإجماع وأيضاً ذلك ثابتٌ بالكتاب وبالسنة وبإجماع أهل السنة، أما بالكتاب فقد قال الله تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، والكلام الذي أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو كلام الله وهو القرآن، فهذا الكلام ليس بعام ولكن يقصد به القرآن. والإضافة نوعان: إضافة أعيان قائمة بذاتها مثل: الكعبة، الناقة، عيسى، كأن يقال: عيسى روح الله الكعبة بيت الله، وقوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13]، وهذه الإضافة تسمى إضافة تشريف وتعظيم، فالكلام صفة ليست قائمة بذاتها، قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15]، وأيضاً قال تعالى: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [البقرة:75]، فهذه أدلة الكتاب على أن القرآن هو كلام الله جل وعلا. ومن الاستنباط قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:192 - 193] وقوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، كل ذلك على القرآن الذي هو كلام الله جل في علاه. أما من السنة: فعن ابن مسعود في السنن بسند صحيح: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ابتدأ كلامه يقول: إن أحسن الكلام كلام الله)، يعني: بعد أن يقول: إن الحمد لله نحمده ونستعينه إلى آخره، يقول: (إن أحسن الكلام كلام الله) فأضافة الكلام إلى الله هنا دلالة على أن القرآن هو كلام الله جل في علاه. وقد ورد حديث صححه كثير من العلماء من المحدثين وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما عبد الله بخير مما خرج منه) ويقصد به القرآن الكريم. وأما إجماع الصحابة على أن القرآن كلام الله، فقد ثبت ذلك عن أبي بكر وعن عمر وعن عائشة عندما قالت: إن الله برأني من فوق سبع سماوات بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، وابن عباس كان يصلي في جنازة فصلى رجل أمامه فقال: اللهم رب القرآن اغفر لفلان وفلان وافعل في فلان فجذبه ابن عباس بعدما انتهى من صلاته جذبة شديدة فقال: ماذا تقصد بقولك: رب القرآن؟ أتعلم القرآن؟ أتعلم عظمة الله؟ فإن القرآن كلام الله، فبين أن القرآن هو كلام الله، وورد مثل هذا عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم.

إضافة الكلام إلى الله إضافة صفة إلى الموصوف، وإضافة الكلام إلى جبريل أو محمد إضافة بلاغ

إضافة الكلام إلى الله إضافة صفة إلى الموصوف، وإضافة الكلام إلى جبريل أو محمد إضافة بلاغ إذا قلنا بأن القرآن هو كلام الله أضيف إليه فعندها يرد إشكال وهو: أن المضاف إلى الله أعيان ومعاني، وأيضاً المضاف للإنسان يكون أعياناً ومعاني، فإن كان معاني فهي صفة للموصوف، فأضاف الله القرآن إلى نفسه وإلى ذاته المقدسة سبحانه جل في علاه، وأضاف القرآن إلى جبريل وأضاف القرآن إلى محمد صلى الله عليه وسلم، أما إضافته إلى نفسه كما في قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، وإضافته إلى جبريل في قوله جل في علاه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21]. فقوله: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ)) أضاف القول للرسول، ويقصد به الرسول الملكي. قال تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:20 - 21]، المقصود: جبريل عليه السلام. إذاً: أضاف القول لجبريل، فهذه إضافة صفة للموصوف. وأيضاً قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة:40 - 41]، وقال: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} [الحاقة:42]، فهذا إضافة إلى الرسول البشري. إذاً: أضاف القرآن للرسول الملكي، وأضاف القرآن إلى الرسول البشري، وهذه إضافة صفة للموصوف، فكيف نجيب على ذلك؟ فقد قال طه حسين: هذا الكلام هو كلام محمد واستدل من الكتاب بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة:40 - 41]، إذاً: أضاف القول للرسول، ونحن نفرق بين الثلاثة، فالإضافة الأولى إضافة صفة للموصوف، هو كلام الله تكلم الله به فهو صفة من صفاته، والإضافة الثانية إضافة لجبريل على أنه مبلغ، إذ المبتدئ بالكلام هو الذي يتصف بالكلام، أما الذي يبلغ فلا يتصف بأنه بدأ الكلام، فجبريل عليه السلام أضيف إليه كلام الله، وأضيف إليه القرآن على أنه مبلغ، والدليل على ذلك عموم قول الله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ} [التغابن:12]، فما عليه إلا أن يبلغ، فهو يسمع من الله فيبلغ، ولذلك قال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19]، فالرسول سواء الرسول الملكي أو الرسول البشري ينزل تحت هذه الآية: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، فإذاً: الإضافة هنا لجبريل إضافة بلاغ، والإضافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب أولى تكون إضافة بلاغ، قال تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، وهذا تصريح؛ لأن الإضافة هنا إضافة تبليغ وقول الله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء:106]، فهذه الآية فيها دلالة على أنه يُقرِئُ الناس ما أنزله الله عليه، فالإضافة إلى الرسول إضافة تبليغ لا إضافة ابتداء كلام. إذاً: ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة على أن القرآن هو كلام الله، فإذا أضيف إلى الله فهو إضافة صفة إلى الموصوف، وإذا أضيف إلى جبريل فهي إضافة تبليغ، وإذا أضيف إلى محمد صلى الله عليه وسلم فهي أيضاً إضافة تبليغ.

ما ينبغي أن يتأدب به المخلوق مع كلام الخالق

ما ينبغي أن يتأدب به المخلوق مع كلام الخالق إذا قلنا: إن القرآن هو كلام الله جل وعلا، فيجب علينا أن نتحلى بآداب أمام كلام الله جل وعلا الذي هو صفة عظيمة من صفات الله جل في علاه وهي: أولاً: تعظيم القرآن وتوقيره، وهذا ينزل تحت التهديد الأكيد في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، وقول الله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، فتعظيم الله بتعظيم صفاته جل في علاه، وتعظيم القرآن وتوقيره داخل تحت هذا. ومن تعظيم القرآن أنك تنتبه إذا تليت عليك آياته، ويكون قلبك وجلاً إذا سمعت آيات الله جل وعلا، وانتباهك هذا إما لأمر تأتمر به، وإما لنهي تزدجر عنه، كما قال ابن مسعود: إذا سمعتم الله جل وعلا يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) لا بد أن تنصتوا؛ لأنه إما أن يكون لأمر لا بد أن تأتمر به، أو لنهي لا بد أن تنتهي عنه، وهذا من تعظيم كلام الله جل وعلا، أما أن تسمع كلام الله لاهياً، وتمر على آيات الله جل وعلا وقلبك غافل فأنت متلاعب وعقابك عند الله شديد، وتقع تحت هذه الآية: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}. فلا بد من تعظيم القرآن وتوقيره. ثانياً: لا بد من الإكثار من تلاوة كلام الله؛ لأن في ذلك علامة على محبة الله جل وعلا؛ ولأن من أحب الله أحب صفاته، وهذا الذي أضهره وأعلنه ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كما في البيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: من أراد أن يختبر حبه لله فعليه أن يعرض نفسه على كلامه، فإذا أحب كلام الله فقد أحب الله؛ لأنه من أحب صفة من صفات الله فقد أحب الذات المقدسة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرءوا القرآن ولكم بكل حرف حسنة وكل حسنة بعشر أمثالها ولا أقول: (ألم) حرف، ولكن أقول: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) فلا بد من الإكثار من قراءة القرآن. وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم كما صح عنه: (ما عبد الله بخير مما خرج منه) وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه كما في الشعب بسند صحيح يقول: لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام الله جل في علاه. وأيضاً في نفس المصدر بسند صحيح عن ابن عمر أنه قال: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، فنزل نور القرآن على نور الإيمان فكان نوراً على نور، فأصبحت الهداية تامة مكملة بهذا الكتاب، فمن الآداب التي يتحلى بها العبد الذي اعتقد أن ربه يتكلم وأن القرآن كلام الله أن يكثر من قراءة القرآن وله بكل حرف حسنة. ثالثاً: إذا قرأ القرآن لا بد له من التدبر بعد التلاوة، فإن الإنسان لا يقرأ قراءة كقراءة الشعراء ولا يقرأ للتسلية، بل لا يقرأ القرآن إلا ليتدبر؛ لأن ما في القرآن إما أن يكون توحيداً وذكراً لصفات الله جل وعلا الثبوتية أو السلبية أو غيرها أو أمراً أو نهياً، أو كلاماً عن الثواب أو العقاب، فلا بد أن يمحص النظر ويتدبر في كتاب الله وقد حثه الله على ذلك بعد إنكار شديد على من لا يتدبر آيات الله، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وجاء رجل إلى ابن مسعود فقال له: ختمت كذا وكذا في ليلة واحدة، قال: أهذاً كهذ الشعر؟ ينكر عليه، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتدبرون الآية تلو الآية، ويمعنون النظر فيها فيتعلمون أحكامها، ثم يتعبدون لله بالتطبيق الحتمي في وقته؛ ولذلك ورد أن عمر بن الخطاب ختم البقرة في ست سنوات أو عشر، وعلل ذلك أنه ما حفظ آية إلا وتعلم معناها وحكمها، ثم طبق ذلك واقعاً أمام الناس، فلا بد من التدبر والتطبيق، ولذلك ورد بسند صحيح عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:121]، فقال: ((يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ)) أي: يقرءون حروفه ويطبقون حدوده. فليس القرآن رسماً ولا زينة يوضع في السيارات ولا زينة في البيوت، بل إن القرآن يتلى ليطهر القلوب ولتطبق أحكامه بين الناس، فإن الخير كل الخير في أحكام الله جل وعلا. وقد قال الشافعي في قول الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، قال: ما من نازلة إلا وفي كتاب الله حلها، علمها من علمها، وجهلها من جهلها. رابعاً: ألا يهجر هذا القرآن، وهجران القرآن هجرانٌ لصفة من صفات الله جل وعلا، وزهدٌ في صفة من صفات الله جل في علاه، نعوذ بالله من الخذلان، وقد اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوام تركوا القرآن خلفهم ظهرياً، قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، والعياذ بالله، وهجران القرآن كما قسمه العلماء ثلاثة أقسام: هجران تلاوته، وهجران التدبر مع السماع، وهجران العمل به. أما هجران تلاوته فمعلوم أنه يكون بأن لا يقرأ الإنسان القرآن، بلْ لا يجعل له ثلاث آيات يختم بها ليلته ويقرأ القرآن. وهجران تدبره أو سماعه، أو هجران العمل به، فكل منا يختبر نفسه، فإن كان يتلو ويتدبر ثم يعلم بعد ذلك ويطبق فلن يكون ممن اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم منهم فليحمد الله، وإن كان منهم فليراجع نفسه وليستغفر الله جل وعلا، وعليه ألا يهجر هذا الكلام العظيم وهو كلام الله فإن خيري الدنيا والآخرة في كلام الله جل في علاه. خامساً: ألا يمسه إلا وهو طاهر، وإن اختلف كثير من العلماء والمحدثين والفقهاء في مسألة مسِّ القرآن لغير طاهر، والصحيح الراجح: أنه لا يمسه إلا طاهر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم تصريحاً، وهذا وإن ورد بأسانيد مختلف فيها، إلا أن بعضها يعضد بعضاً فيرتقي إلى الحسن، وتتلقاه الأمة بالقبول، فهذا الحديث حديث عظيم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر) وهذا عام في كل شيء، فيكون طاهراً معنوياً ويكون طاهراً حسياً، فلا يعارض بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس) أي: أن المؤمن لا ينجس عقيدة؛ لأن عقيدته هي عقيدة التوحيد، ونقول: إن الرجل لا يأتي المرأة وهي حائض، ونقول: المحيض هو أذى، ومكان الحيض هو أذى لهذه النجاسة، فنحن نقول: لا يمس القرآن إلا طاهر، وهذا عام، ووجه عمومه النكرة في سياق النهي، فهي تفيد العموم، فالطهارة هنا طهارة عمومية، وطهارة بدنية وطهارة معنوية، وأقصد بالطهارة المعنوية أنه لا يمس القرآن كافر حتى ولو اغتسل؛ لأنه نجس نجاسة معنوية لا حسية، فأقول الطهارة هنا على العموم، ومن أراد أن يخصص تخصيصاً للكافر فقط فليأتنا بالدليل، ومن قال: إن هذا الحديث: (لا يمس القرآن إلا طاهر) له تأويلات، الوجه الأول: أنها الطهارة المعنوية لا الحسية، والوجه الثاني: أين يقصد بها الملائكة، فإننا نقول: أين الأدلة على ما تقولونه؟ فإنكم لو أردتم أن تؤصلوا تأصيلاً علمياً الأصل عدم المنع، إلا أن يأتي دليل ينقلنا عن الأصل، وقد جاءنا الدليل، قال: (لا يمس القرآن إلا طاهر) على العموم، فإن أردت أن تخصص فائتنا بالدليل، وهي قاعدة عند العلماء، فالعموم يبقى على عمومه إلا أن يأتي مخصص يخصصه، فلا يجوز لرجل غير متوضئ أن يمس القرآن حتى يتوضأ، وليس معنى ذلك أن نمنعه من قراءة القرآن وهو غير متوضئ، بل له ذلك، فهناك فرق بين المس والقراءة، فله أن يقرأ وهو غير متوضئ، وهذا خلاف الأول، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن على كل أحواله)، الظاهر جداً بأنه يكون متوضئاً وغير متوضئ، أما مس القرآن فقد جاء النص الصريح بالمنع لغير الطاهر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر)، فله أن يقرأ من حفظه دون أن يمس القرآن، إلا في الحالات التي يخشى على نفسه أن يضيع منه القرآن، وهي حالات مستثناة، والأمور المستثناة لا يقاس عليها غيرها. سادساً: من الآداب التي لا بد أن يتأدب بها هذا العبد الذي علم أن القرآن هو كلام الله ألا يأكل به، أيأكل بصفة من صفات الله جل وعلا؟! أيفعل ذلك تجارة في الدنيا حتى يأتي الآخرة خاسئاً ليس له في الآخرة خلاق؟! فإن القرآن كلام الله لا يجوز بيعه، ولا يجوز التجارة به، ولا أقول: لا يجوز بيع المصحف على الخلاف الفقهي المشهور، بل يجوز بيع القرآن بسعر التكلفة، وأشرطة القرآن الأصح فيها أنها لا تباع إلا بسعر التكلفة، هذا هو الصحيح الراجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفو عنه) أي: لا غلو ولا جفو، (ولا تأكلوا به)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه سيأتي أقوام يقرءون القرآن يتعجلونه ولا يتأجلونه) يعني: يتعجلون أجرته، ولا يتأجلون الأجر من الله جل في علاه. وفي رواية أخرى قال: (يسألون الناس به) يذهبون إلى المساجد والمجتمعات ويقرءون القرآن بثمن معين، فهذا بيع والعياذ بالله وتجارة تبور؛ لأنه بيع وأكل بالقرآن، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز الأكل بالقرآن، فمن تأدب مع الله واعتقد أن القرآن هو كلام الله وأن الله تكلم به، فإنه سيتأدب أدباً جماً عظيماً مع كلام الله وكتاب الله جل في علاه.

حكم من قال إن القرآن مخلوق

حكم من قال إن القرآن مخلوق من قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر، والقاعدة التي قعدناها أن الذي يتجرأ على التكفير فهو جاهل؛ لأن الكفر هذا إلى الله جل وعلا، ولا يستطيع أحد أن يتجاسر عليه، لكن القول قول كفر والفعل فعل كفر، والقائل ليس بكافر إلا أن تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، فمن قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر، يعني: قوله قول كفر؛ لأنه كذب القرآن ومن كذب القرآن فقد كفر؛ لأن القرآن كلام الله جل وعلا، قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فأضاف الكلام لله جل وعلا، فهذا تكذيب بالقرآن والتكذيب بالقرآن كفر؛ لأنه تكذيب لله، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]. الأمر الثاني: أنه أنزل الخالق منزلة المخلوق، وقد قال نعيم بن حماد شيخ البخاري: من شبه الخالق بالمخلوق فقد كفر، فإذا كان يقول: القرآن مخلوق. فقد شبه الخالق بالمخلوق. والثالثة: إجماع الأمة على أن القرآن هو كلام الله وهذا ثبت ثبوتاً قطعياً، والإجماع إذا كان مستنده الثبوت القطعي أو الدليل الذي ثبت قطعياً فإن مخالفه يكفر، وهذا هو الراجح. وبعض العلماء يقولون: حتى ولو ثبت بآحاد الأدلة، أي: لو كان الإجماع مستنده لحديث آحاد، يكفر من خالفه، والصحيح الراجح: أنه لا يكفر. وهذا التفصيل البديع فصله الجويني وهو الراجح عند المحققين من أهل الأصول، أن مخالف الإجماع لا يكفر إلا إذا كان الإجماع مستنده الدليل القطعي، وهذا دليل قطعي فقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن القرآن كلام الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

حكم من قال بأن القرآن مخلوق

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - حكم من قال بأن القرآن مخلوق التكفير أمره عظيم، فلا ينبغي أن يتجرأ عليه أحد؛ لأنه حق محض لله تعالى، وهناك فرق بين تكفير النوع والعين لا بد من معرفته والإحاطة به، ولا يجوز لأحد أن يكفر معيناً حتى تتوافر فيه شروط التكفير وتنتفي عنه موانعه، أما من قال بأن القرآن مخلوق فقد كفر، بخلاف من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فإنه لا يكفر إن قصد تلفظه هو وقراءته هو.

صفة الكلام لله عز وجل

صفة الكلام لله عز وجل

حكم من قال بأن القرآن مخلوق

حكم من قال بأن القرآن مخلوق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لازلنا في كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل لإمام الأئمة أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ووقفنا عند صفة الكلام لله جل وعلا وتكلمنا فيها، وسنتكلم اليوم على مسألة هي من أهم المسائل، وهي مسألة: حكم من قال بأن القرآن مخلوق، وهذه المسألة مهمة جداً؛ لأن فيها من التفصيل ما لا بد لكل إنسان أن يتعلمه ويفقهه بل ويتقنه؛ لأن الضلال فيه كثير جداً، وقد انقسم الناس في هذا الباب إلى ثلاث فرق: فرقة تغالي جداً، وفرقة تفرط جداً، وفرقة وسط وهم أهل العدل والحق. فمن قال بأن القرآن مخلوق مثل الجبال والسماء والأنهار والشواطئ والإنسان، فقد كفر، وهذا هو الحكم إجمالاً.

التكفير حق محض لله تعالى

التكفير حق محض لله تعالى

حكم من قال لأخيه يا كافر

حكم من قال لأخيه يا كافر لا بد لكل طالب علم أن يعلم أن التكفير لا يتجرأ عليه إلا جاهل جريء؛ لأنه من أصعب ما يكون وأشق ما يكون ولا يتجزأ عليه إلا من لم يجعل الله له حظاً في العلم، ولا بد للمسلم ألا يتجرأ على مسألة التكفير إلا بدليل أوضح من شمس النهار؛ لخطر هذه المسألة ولعظمها، ويوضح خطر هذه المسألة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما). وفي رواية قال: (فإن كان كذلك وإلا حارت عليه) أي: رجعت عليه. كلمة الكفر إن قالها زوراً وبهتاناً وظلماً، فإذا تجاسر شخص وأطلق كلمة الكفر على أخيه ولم يكن كافراً بحق عند الله، فإنه سيكفر بهذه الكلمة؛ لأنه نزع الإيمان من عبد وما كان له ذلك، فكان جزاءً وفاقاً، وأجراً طباقاً أن تحور الكلمة وتتحول عليه ويصبح هو المتهم بالكفر. أقول: إن التكفير حق محض لله جل وعلا لا دخل للإنسان فيه، مثله مثل التحليل والتحريم، قال الله جل وعلا: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] أي: له أن يبلغ، فمن قال أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فقد دخل حظيرة الإسلام، فلا يجوز لأحد أن يخرجه منها. وقد جاء في الحديث أن أعرابياً قال: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً فقال صلى الله عليه وسلم: لقد حجرت واسعاً) وذلك لأن هذا حق محض لرب البرية جل في علاه، فليس لأحد أن يحجر رحمة الله الواسعة.

حكم التألي على الله ونفي الإسلام عن المسلمين

حكم التألي على الله ونفي الإسلام عن المسلمين لقد قص علينا النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين قصة فيها: (أن رجلاً من بني إسرائيل كان يمر على أخ له وهو يرتكب المعاصي فيقول له: يا فلان، استغفر ربك قال له المرة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، وهو مصر على هذا الذنب، فقال له: والله لا يغفر الله لك أبداً، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي؟! قد غفرت له وأحبطت عملك). إذاً: ينبغي للمسلم عموماً وطالب العلم خصوصاً أن يعلم أن التكفير حق محض لله، وأنه من لوازم ربوبية الله ومن نازع الله في ربوبيته فهو على خطر عظيم، ومن دخل حظيرة الإيمان فليس لأحد أن يخرجه منها إلا بدليل. وهذا مثال يوضح لنا أن مسألة التكفير حق محض لله وأن من نازع الله فيها فقد نازعه في ربوبيته، جاء في الصحيحين أن المسلمين أغاروا على قومٍ فأعملوا فيهم القتل، ففر رجل منهم، فقام أسامة بن زيد يشتد عليه حتى قتله وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقتلته بعدما قالها؟ فقال: يا رسول الله، ما قالها إلا متعوذاً)، كأنه اجتهد فيه اجتهاداً ظهر له أن هذا الرجل إنما قالها خوفاً من القتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم معاتباً ومنكراً إنكاراً شديداً على أسامة: (أقتلته بعدما قالها؟ ثم قال له في الثالثة: ماذا تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة؟!) فندم أسامة ندماً شديداً على هذا الفعل، فالنبي صلى الله عليه وسلم أصل لنا أصلاً، وهو أنَّ من دخل في الإيمان لا يصح لأحد أن يكفره وأن يخرجه من حظيرة الإيمان بحال من الأحوال إلا بدليل أوضح من شمس النهار، له من الله فيه بينة واضحة مثل: تكفير فرعون وأبي جهل وأبي لهب قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:1 - 3] فالله بين أنه من أهل النار وأنه كافر قطعاً، وكذلك اليهود والنصارى فقد بين الله كفرهم في كتابه. وهذا مثال يبين التأصيل الذي أصله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه جميعاً عندما قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذه قسمة ما ابتغي بها وجه الله، فقال خالد: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعله يصلي، فقال خالد: كم من مصلٍ يفعل ما لا يعتقد أو يقول ما لا يعتقد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أمرت أن أشق عن القلوب). فمسألة التكفير هي حق محض لله، فمن دخل دائرة الإسلام فلا يجوز لأحد أن يكفره إلا بدليل أوضح من شمس النهار. هذا مثل عظيم ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لـ خالد ولـ عمر ولـ أسامة وغيرهم حتى يتبين لنا الأمر، فلا نتجاسر على مسألة التكفير.

تكفير النوع وتكفير المعين

تكفير النوع وتكفير المعين

الفرق بين تكفير النوع وتكفير المعين

الفرق بين تكفير النوع وتكفير المعين هناك فرق بين أن نقول: من فعل كذا أو قال كذا فقد كفر، أو أن نقول: قائل هذه المقولة كافر، فالآيات التي جاءت مطلقة وعامة، وكذلك الأحاديث وأقوال أهل العلم فإنها تبقى على إطلاقها وعمومها، ولا تتنزل على الشخص المعين إلا بدليل أوضح من شمس النهار، والقاعدة عند العلماء: أن المطلق يبقى على إطلاقه، والعموم يبقى على عمومه، حتى يأتي المقيد أو المخصص، كقول الإمام أحمد بن حنبل: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، فهذا مطلق، فهنالك فرق بين تكفير النوع وتكفير المعين، فمن قال: القرآن مخلوق فقد كفر، هذا تكفير النوع، أما الشخص الذي قال هذه المقولة فلا يكفر إلا بدليل واضح بين من كلام الله. ما العلم إلا قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه

أدلة الفرق بين تكفير النوع وتكفير المعين

أدلة الفرق بين تكفير النوع وتكفير المعين الدليل الأول: حديث الرجل الذي قال لأولاده: (إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني فلئن قدر الله علي ليعذبنّي) فهذا الرجل قد ملأ الأرض عصياناً، فعندما جاءه الموت شك في قدرة الله جل وعلا، ومع شكه في قدرة الله كان خائفاً من الله، راجياً فيما عنده، لكن اتفق علماء المسلمين على أن من قال: إن الله لا يقدر على شيء فقد كفر، لأنه مكذب للقرآن: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20] فهذا تكفير النوع، لكن ذلك الرجل الذي أمر أولاده بحرقه بعثه الله فقال له كما بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (ما الذي حملك على هذا؟ قال: مخافتك، أو قال: رجاء رحمتك، فغفر الله له وأدخله الجنة). فالرجل أتى بكفر باتفاق علماء المسلمين، لأنه شك في ذات القدرة، لكنه كان جاهلاً فأتى بكفر مطلق، كفر نوعٍ لا كفر عين، فعذره الله بجهله ثم أدخله الجنة. إذاً: من قال كلمة الكفر فليس بكافر، إلا إذا أقيمت عليه الحجة، وأزيلت عنه الشبهة. الدليل الثاني: رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقب بـ حمار رضي الله عنه وكان يشرب الخمر فيؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجلد، فقال بعض الصحابة: (لعنة الله عليه ما أكثر ما يؤتى به). شارب الخمر يستحق اللعن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة، ومنهم: شاربها، وهذا لعن نوع عموماً، أما لعن العين وهو: إيقاع الحكم العام على عين الشخص فقد أنكره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لمن لعن شارب الخمر (لا تعن الشيطان عليه؛ فإنه يحب الله ورسوله)، وفي رواية: (ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله)، فيدل هذا الحديث على أنه لا يستحق اللعن مع أن شارب الخمر ملعون. فالمسلم قد يقع في الكفر والضلال المبين فيكفر بالقرآن، أو بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بالله جل وعلا ولا يحكم عليه بالكفر؛ لأن هناك موانع تمنع من تكفيره. التأصيل الثاني: التكفير فارق بين النوع وبين المعين. الدليل الثالث: من أقوال السلف: من قال بأن القرآن مخلوق فهو كافر، وهذا هو قول الإمام أحمد، لقد كان إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل مفخرة المسلمين لما أخذه المأمون في فتنة القول بخلق القرآن واستدلوا عليه بقول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] وقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] أي: أن الله خلق الظلمات والنور فقالوا: إن قوله: ((وجعلناه قرآناً عربياً)) يعني: خلقه قرآناً عربياً، فرد عليهم الإمام أحمد بقول الله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] قال: هل المعنى: أنه خلقهم كعصف مأكول؟ لا، وإنما حولهم بالحجارة إلى عصف مأكول. فكان الإمام أحمد يقول: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومع ذلك لم يخرج على المأمون؟ بل كان يصلي خلفه ويدعو له بالتسديد والتوفيق، ويرى ذلك واجباً عليه. فإمام أئمة أهل السنة والجماعة يؤصل لنا هذا الأصل وهو أن ولي الأمر إذا أتى بمكفر فلا يكفر عيناً، وإنما يدعى له بالتسديد والتوفيق ويغزى معه؛ لأننا أمرنا بالغزو مع كل بر وفاجر.

الإيمان الثابت باليقين لا يزول بالشك

الإيمان الثابت باليقين لا يزول بالشك التأصيل الثالث: أن من ثبت إيمانه بيقين لا يزول بشك بحال من الأحوال، وتفسير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة فقال أبو ذر: يا رسول الله، وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، ثم قال له في الثالثة: وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر) فمن قال: لا إله إلا الله دخل الإسلام وله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، فمن دخل الإسلام بيقين لا يخرج منه إلا بيقين. فلو ثبت على الرجل كلمة الكفر فيحتمل أنه قالها عامداً أو جاهلاً؟ أو سبق لسان، أولم يطمئن قلبه أو كان مكرهاً فهذه احتمالات تدخل في دائرة الشك، والقاعدة أن من ثبت إيمانه بيقين فلا يزول بالشك. فإن كان جاهلاً فلا بد أن يعلم، فتقام عليه الحجة، ويزال عنه الشبهة. وهذا يبين لنا خطأ من يتجاسر على التكفير كائناً من كان، حتى ولو كان يدافع عن حظيرة الإسلام، أو يرفع راية الإسلام فلا يجوز تكفير أحد إلا بيقين وبعلم؛ لأن تكفير المعين جرأة على الدين، وجرأة على لوازم ربوبية الله جل في علاه.

توافر الشروط وانتفاء الموانع موجب للتكفير

توافر الشروط وانتفاء الموانع موجب للتكفير التأصيل الرابع: أن حكم الكفر لا يثبت إلا بتوافر شروط وانتفاء موانع، مثال ذلك: لو أنكر رجل فرضاً من فروض الصلاة، فقال: المفروض على الناس أربع صلوات فقط وليس خمس صلوات، فقد أتى بمكفر؛ لأنه أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة. فننظر توافر الشروط وانتفاء الموانع، فقد يكون ممن لا يعرف أن الله جل وعلا افترض على عباده صلاة أو صياماً، كأن يكون جاهلاً لا يقرأ ولا يسمع ولا يعرف أي شيء، فهذا مانع من تكفيره، كذلك لو أن رجلاً مجتهداً قال: إن الله لم يستو على عرشه، وينفي صفة الاستواء، فإن كان عالماً مجتهداً اجتهد ونظر في الأدلة، فوصل به اجتهاده إلى هذا الخطأ، فإنه مجتهد مخطئ له أجر، ولا يمكن أن يكفر بذلك، حتى تنتفي الموانع وتتوافر الشروط، فإن توافرت الشروط ولم تنتف الموانع فلا نكفر. مثال يوضح هذا: المسلم الذي يقتل مسلماً متعمداً لقد تسبب في حكم الكفر، فإن الذي يقتل مؤمناً متعمداً حكمه الخلود في النار، والذي لا يكون إلا لكافر، فهنا توافر الشرط، لكن هل انتفى المانع؟ نقول: إن الموانع جاءت بكثرة تبين أن المسلم إذا قتل مسلماً ولو متعمداً لا يخلد في نار جهنم، مع أن الله تعالى قال: ((خالداً فيها)) والمعنى: هذا حكمه وجزاؤه إن جوزي به كما قال أبو هريرة، فهنا توافر فيه السبب المقتضي للحكم، وهو قتل المسلم عمداً، وقتل المسلم متعمداً سبب لخلوده في النار، لكن يأتي المانع فيدفع هذا السبب، والمانع هو لا إله إلا الله؛ لأن من قال: لا إله إلا الله نفعته يوماً من الدهر، ودخل بها الجنة، وبانتفاء المانع انتفى الحكم. إذاً: التكفير حق محض لله لا يجرؤ عليه إلا جريء، ولا بد أن يعلم أولاً أنه من لوازم ربوبية الله ومن نازع الله في ربوبيته فهو على شفير هلكة، فهذا هو التأصيل الأول. التأصيل الثاني: أن هناك فارقاً بين تكفير النوع والمعين. التأصيل الثالث: أن من ثبت إيمانه بيقين لا يزول بالشك بحال من الأحوال. التأصيل الرابع: حتى نكفر أحداً، لا بد من توافر شروط وانتفاء موانع. وبهذه الأمور تضيق دائرة التكفير جداً، حتى على العلماء المجتهدين، فمن ثبت إيمانه بيقين وأتى بمكفر، ثم أقيمت عليه الحجة وأزيلت الشبهة من عالم مجتهد نحرير، فإنه يكفر بذلك، وليس لأحد أن يتجاسر على هذا الأمر، ولو تجرأ عليه فهو على شفير هلكة. فهذا التأصيل لا بد أن يصاحب طالب العلم في حله وترحاله، وقد أكدت عليه وقررته وكررته؛ لأن من وقع في باب التكفير فقد وقع في خطر عظيم. 6)] الأدلة على التكفير من قال بخلق القرآن:- من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر، وجه تكفير من قال هذا القول المطلق ما يلي أولاً: تكذيبه للقرآن، فإن الله قرر في كتابه أن القرآن هو كلام الله غير مخلوق، فمن قال بأنه مخلوق فقد كذب الله، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، وإضافة المعنى الذي هو كلام الله من باب إضافة الصفة للموصوف، فهذه الصفة ليست عيناً قائمة بذاتها. الأمر الثاني: أنه شبه الخالق بالمخلوق إذ كلام الإنسان مخلوق، فمن قال: إن كلام الله مخلوق، فقد شبه الله بخلقه، وقد أصل لنا نعيم بن حماد شيخ البخاري تأصيلاً عظيماً فقال: من شبه الله بخلقه فقد كفر. ثالثاً: أن من قال: إن القرآن مخلوق، فقد خالف إجماع سلف الأمة وشموسها فقد قالوا: إن من قال القرآن مخلوق فقد كفر، وإليكم بعض الآثار عنهم، روي بسند صحيح عن الإمام أحمد أنه سئل عمن قال: القرآن مخلوق، فقال: من قال أن القرآن مخلوق فقد كفر، وعلى هذا فتكفير الجهمية تكفير ليس عيناً، فإنه صلى خلف المأمون وأمر باتباعه والسمع والطاعة له. وهذا وكيع الذي كان إذا دخل مكة انفض الناس عن كل المجالس إلى مجلسه، كان جبلاً في الحفظ رضي الله عنه وأرضاه، قال في ذبائح الجهمية بأنها ميتة فهي حرام فهو نزل الجهمية منزلة الكفار في كون رد ذبيحتهم ميتة لا يجوز الأكل منها. وأيضاً قيل لـ ابن المبارك: إن النضر يقول: أن من قال: إن الله لم يكلم موسى فقد كفر، قال: صدق النضر، قال: من قال: إن قول الله تعالى: ((إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ)) مخلوق فقد أدى بذلك أن الله أمر موسى أن يعبد مخلوقاً لا خالقاً، وهذا أم الكفر وبابه. وأيضاً الإمام مالك قال: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، يقتل بعدما يستتاب. وقال جعفر جعفر الصادق: من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر يقتل ولا يستتاب، والخلاف فقهي بين العلماء، هل يستتاب ثلاثة أيام أم لا؟ الغرض المقصود أنه ما من إمام من الأئمة إلا وقد كفر من قال بأن القرآن مخلوق، وليس صفة من صفات الله جل وعلا. ناظر الشافعي حفصاً الفرد أحد غلمان بشر المريسي فقال في بعض كلامه: القرآن مخلوق. فقال له الشافعي كفرت بالله العظيم. إذاً فمن قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر؛ لأن القرآن تكلم الله به وسمعه منه جبريل بصوت وحرف، ثم نزل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

الأدلة على تكفير من قال بخلق القرآن

الأدلة على تكفير من قال بخلق القرآن من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر، ووجه تكفير من قال هذا القول المطلق ما يلي: أولاً: تكذيبه للقرآن، فإن الله قرر في كتابه أن القرآن هو كلام الله غير مخلوق، فمن قال بأنه مخلوق فقد كذب الله، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، وإضافة المعنى الذي هو كلام الله من باب إضافة الصفة للموصوف، فهذه الصفة ليست عيناً قائمة بذاتها. الأمر الثاني: أنه شبه الخالق بالمخلوق إذ كلام الإنسان مخلوق، فمن قال: إن كلام الله مخلوق، فقد شبه الله بخلقه، وقد أصل لنا نعيم بن حماد شيخ البخاري تأصيلاً عظيماً فقال: من شبه الله بخلقه فقد كفر. ثالثاً: أن من قال: إن القرآن مخلوق، فقد خالف إجماع سلف الأمة وشموسها الذين قالوا: إن من قال القرآن مخلوق فقد كفر، وإليكم بعض الآثار عنهم، روي بسند صحيح عن الإمام أحمد أنه سئل عمن قال: القرآن مخلوق، فقال: من قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر، وعلى هذا فتكفير الجهمية ليس تكفير عين، فإنه صلى خلف المأمون وأمر باتباعه والسمع والطاعة له. وهذا وكيع الذي كان إذا دخل مكة انفض الناس عن كل المجالس إلى مجلسه، كان جبلاً في الحفظ رضي الله عنه وأرضاه، قال في ذبائح الجهمية بأنها ميتة فهي حرام فهو نزل الجهمية منزلة الكفار في كون رد ذبيحتهم ميتة لا يجوز الأكل منها. وأيضاً قيل لـ ابن المبارك: إن النضر يقول: إن من قال: إن الله لم يكلم موسى فقد كفر، قال: صدق النضر، قال: من قال: إن قول الله تعالى: ((إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ)) مخلوق فقد أدى بذلك أن الله أمر موسى أن يعبد مخلوقاً لا خالقاً، وهذا أم الكفر وبابه. وأيضاً الإمام مالك قال: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، يقتل بعدما يستتاب. وقال جعفر الصادق: من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر يقتل ولا يستتاب، والخلاف فقهي بين العلماء، هل يستتاب ثلاثة أيام أم لا؟ والمقصود أنه ما من إمام من الأئمة إلا وقد كفر من قال بأن القرآن مخلوق، وليس صفة من صفات الله جل وعلا. ناظر الشافعي حفصاً الفرد أحد غلمان بشر المريسي فقال في بعض كلامه: القرآن مخلوق. فقال له الشافعي كفرت بالله العظيم. إذاً: فمن قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر؛ لأن القرآن تكلم الله به وسمعه منه جبريل بصوت وحرف، ثم نزل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم من قال: لفظي بالقرآن مخلوق

حكم من قال: لفظي بالقرآن مخلوق أما قول الإنسان: لفظي بالقرآن مخلوق، فهذه الكلمة مستحدثة ليست معروفة في عصر أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا التابعين، بل استحدثت هذه الكلمة في عصر تابعي التابعين، فهي من الكلمات المبهمة التي تحتمل حقاً وتحتمل باطلاً، فإن قصد بها الحق قبلناه، وإن قصد بها الباطل رددناه. مثال ذلك: أن ابن عباس صلى خلف رجل فسمعه يقول: اللهم رب القرآن اغفر لفلان، فقال له: ماذا تقصد بالقرآن؟ لأن هذه المقولة تحتمل حقاً وهو إضافة الموصوف إلى صفته، أو باطلاً وهو إضافة الخالق للمخلوق، فقال: القرآن كلام الله، قال: نعم ما قلت. إذاً القاعدة: أن الكلام المبهم الذي يحتمل حقاً ويحتمل باطلاً لا نرده ولا نقبله، فإن قصد أن لفظه هو مخلوق فهذا حق، وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: قول جلة من أهل السنة والجماعة من الأكارم والأماجد، كـ أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم وغير هؤلاء الذين يقولون: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فقد كفر. وتوجيه هذا القول: إذا كان يقصد به القرآن. القول الثاني: التوقف في تكفيره وعدم تكفيره، وهو قول الجهمية، وقال أحمد: إن جهل الجهمية الواقفة جهل بسيط وليس جهلاً مركباً، فالجهل البسيط أن يعلم الإنسان أنه جاهل أما الجهل المركب فهو أن يعلم أنه جاهل ولا يعترف للناس أنه جاهل، فالإمام أحمد بن حنبل كان يقول على فرق الجهمية: جهلهم جهل بسيط؛ لأنهم توقفوا في هذه المسألة. القول الثالث: التفصيل وهذا هو الحق وهو ما قاله البخاري وإمام الأئمة ابن خزيمة، فقد قالا: لا شيء في قول الشخص: لفظي بالقرآن مخلوق، وهذا القول هو الحق، لكن نزيده تفصيلاً ونقول: إن قصد بلفظي في القرآن، أي: فعلي وكسبي وقراءتي التي أقرؤها مخلوقة فهذا حق، وإن قصد كلام الله الذي هو القرآن كقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} [النور:31] فهذا كفر، وهذا يعضده الأثر والنظر.

حكم سب الدين وسب الله ورسوله والفرق بينهما

حكم سب الدين وسب الله ورسوله والفرق بينهما سب الدين معلوم بالدين بالضرورة، وبعض المتأخرين يقول: إن سب الدين ليس بكفر، وإنما هو من سوء الأدب، وهذا كلام باطل وضعيف جداً، فمن سب الدين فقد كفر؛ لأن الذي يسب الدين أصالة يسب الذي أنزل هذا الدين ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الريح) لأن من سب الريح فقد سب من أرسل هذه الريح، فسب الدين كفر نوع وليس كفر عين، حتى تقام الحجة وتزال الشبهة، فإن أقيمت عليه الحجة، وزالت عنه الشبهة فإنه يستتاب وإلا فيقتل بأمر من ولي الأمر. هنا فرق بين سب الله وسب رسوله وبين سب الدين، فسب الله ورسوله لا يحتاج إلى إقامة حجة ولا إزالة شبهة أن يسب من أنزل هذا الدين، والقاعدة عند العلماء: أن لازم القول ليس بلازم حتى يقر صاحب القول بذلك، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكفر من سب الريح، لكنه نهى عن سبها وقال: (لا تسبوا الريح)؛ لأن الذي يسب الريح قد سب من أرسل هذه الريح، فلازم القول ليس بلازم، بل لا بد من إقامة الحجة وإزالة الشبهة، أما من سب الله بواحاً أو سب الرسول في عرضه كأن قال: عائشة زانية، قطع الله لسان من يقول ذلك ومن يؤيده ونعوذ بالله من ذلك، فهي المبرأة الصديقة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الآخرة، فمن رماها بالزنا فقد كفر، ولا تقام عليه الحجة ولا تزال عنه الشبهة؛ لأنه مكذب للقرآن صراحة، ومتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في عرضه. كذلك من خالف حكم الله في مسألة معينة، مع اعتقاده أن حكم الله هو الحق، فإنه لا يكفر كفر عين؛ لأنه مقر بحكم الله تعالى، وإنما حكم بغيره في قضية معينة من أجل مصلحة دنيوية كرشوة أو غيرها.

إثبات صفة الرؤية لله جل وعلا

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - إثبات صفة الرؤية لله جل وعلا من الصفات الثابتة لله تعالى بالكتاب والسنة صفة الرؤية في الآخرة، فيراه المؤمنون في عرصات القيامة وفي الجنة، ويحرم من رؤيته الكفار؛ وذلك جزاء وفاقاً، فقد تركوا شرع الله في الدنيا فعاقبهم الله بتركهم وإهمالهم في الآخرة، وهذه الصفة أثبتها أهل السنة وأنكرها أهل البدعة والضلالة.

الأدلة القرآنية التي فيها إثبات صفة الرؤية لله تعالى

الأدلة القرآنية التي فيها إثبات صفة الرؤية لله تعالى

إثبات رؤية الله تعالى شرعا وعقلا

إثبات رؤية الله تعالى شرعاً وعقلاً إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: إخوتي الكرام! نحن بفضل من الله ونعمة وقوة وكرم وجود منه سبحانه وتعالى قد انتهينا من الجزء الأول من كتاب التوحيد لـ ابن خزيمة، وسنسرد الأحاديث التي فيه وهي كما يلي: روى ابن خزيمة في هذه الكتاب العظيم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال: فوالذي نفسي بيده! ما تضارون إلا كما تضارون في رؤيتهما، يلقى العبد فيقول: أي عبدي! ألم أكرمك، ألم أزوجك؟) إلى آخر هذه الروايات. فنستنبط من هذا الحديث صفة، وهذه الصفة شمر لها المجتهدون، وسعد بها السابقون، واشتاقت لها قلوب الموحدين المؤمنين بكرة وعشياً، هذه الصفة هي رؤية الله جل في علاه. ورؤية الله جل في علاه، ثبتت بالكتاب، وبالسنة، وإجماع أهل السنة، وأيضاً بالنظر والأثر. فأما الكتاب: فقد قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. فقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) هذه النضارة ما كانت إلا النظر إلى وجه الله الكريم.

معاني فعل الرؤية إذا تعدى بنفسه أو بإلى أو بفي

معاني فعل الرؤية إذا تعدى بنفسه أو بإلى أو بفي قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فعل هذا النظر يتعدى بنفسه، ويتعدى بإلى ويتعدى بفي، وأنا أسرد ذلك للرد على أهل البدع والضلالة، الذين ينكرون رؤية الله جل في علاه يوم القيامة. فيتعدى بنفسه فيكون معناه: الانتظار، أي: الانتظار لثواب الله أو لعقابه أو لحسابه. قال الله تعالى حاكياً لنا عن حال المنافقين على الصراط مع المؤمنين عندما يضاء للمؤمنين وهم يستضيئون بنور المؤمنين، ثم بعد ذلك يضرب بينهم بسور، قال الله تعالى حاكياً عن قولهم: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13]. فقوله تعالى: ((انْظُرُونَا)) يعني: انتظرونا، حتى نستفيد من هذا النور فنمر على الصراط المظلم الشائك كما تمرون أنتم. وأيضاً تتعدى بـ (في) قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ} [الأعراف:185]، فهذه الرؤية لازمها التدبر، فهي رؤية تدبر عقلي وقلبي لآيات الله الكونية، حتى تتدبر في لوازم ربوبية الله سبحانه جل في علاه. إذاً: لو تعدت بـ (في) فهي رؤية بصرية، لكن لازمها الرؤية القلبية بالتدبر. وأما إذا تعدت بـ (إلى) فالمقصود بها الرؤية البصرية، كما قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، أي: يرون الله بأم أعينهم، فالرؤية بصرية، ولذلك قال الله تعالى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام:99]، فهنا رؤية بالبصر، فإذا تعدت الرؤية بـ (إلى) فمعناها الرؤية البصرية. قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] فهنا رؤية بصرية لكن لازمها التدبر لقول الله تعالى: ((كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا)). وفي قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، هذه الآية تثبت رؤية المؤمنين لربهم، رزقنا الله وإياكم ذلك في الجنة.

معنى الزيادة في قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)

معنى الزيادة في قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) الدليل الثاني: قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، والنبي صلى الله عليه سلم فسر لنا معنى الزيادة في هذه الآية، فقال: (الزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم)، رزقنا الله وإياكم ذلك، وهذا تصريح وتنصيص من النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين سينظرون إلى وجه الله الكريم يوم القيامة.

معنى قوله تعالى: (على الأرائك ينظرون)

معنى قوله تعالى: (على الأرائك ينظرون) الدليل الثالث أيضاً: قال الله تعالى عن المؤمنين واصفاً لهم نعيم الجنة: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين:23 - 26]، النظرة هذه تدل على العموم، فقد تكون إلى الحور العين، أو النظارة التي جاءت من شرب الخمر واللبن والعسل. والقاعدة: أن حذف المعمول يؤذن بالعموم، فالمعمول هو: المفعول به، والمفعول في قوله تعالى: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} مبهم، فلا ندري هل ينظرون إلى الحور العين أم ينظرون إلى الجنات أم ينظرون إلى الأنهار التي فيها الخمر واللبن والعسل، والقاعدة عند العلماء: أن حذف المعمول يؤذن بالعموم، فالمفعول هنا: ينظرون إلى وجه الله الكريم وينظرون إلى الجنات، وينظرون إلى الحور العين، وينظرون إلى الفاكهة، وينظرون إلى الثمار، فقول الله تعالى: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} عمم النظر، فيدخل من هذا العموم النظر إلى وجه الله الكريم سبحانه وتعالى.

استنباط الإمام الشافعي من قوله تعالى (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) رؤية الله في الآخرة

استنباط الإمام الشافعي من قوله تعالى (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) رؤية الله في الآخرة الدليل الرابع: قال الله تعالى عن الكفار الفجار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، استدل بها الشافعي -وكان دقيق النظر- على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، فقال: إن حجبوا عنه في الغضب فالمؤمنون أولى أن يروه في الرضا. إذاً: حكم الرضا يخالف حكم الغضب، فحكم الغضب أنهم حجبوا عنه وياللخسارة، وأما حكم الرضا فالمؤمنون ينظرون إلى وجه الله الكريم.

معنى المزيد في قوله تعالى: (ولدينا مزيد)

معنى المزيد في قوله تعالى: (ولدينا مزيد) الدليل الخامس: يستدل بعضهم بقول الله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]، فأكثر المفسرين قالوا: المزيد هنا هو رؤية الله جل في علاه.

تفاوت المؤمنين في رؤية الله تعالى في الجنة

تفاوت المؤمنين في رؤية الله تعالى في الجنة والرؤية تختلف بالدرجة فمنهم من يرى الله جل وعلا بكرة وعشيا، ومنهم من يراه جل وعلا كل أسبوع، ومنهم من يراه في الأعياد فقط، أو في الجمعة فقط، ويراه النساء في الأعياد فقط كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية على التفصيل الذي قلناه.

الأدلة النبوية التي تثبت صفة رؤية الله تعالى

الأدلة النبوية التي تثبت صفة رؤية الله تعالى أما الأدلة من السنة النبوية فقد بلغت حد التواتر في رؤية الله جل وعلا، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه جلس مع أصحابه فسأله سائل: هل نرى ربنا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في القمر ليلة البدر -يعني: في رؤيته-؟! قالوا: لا، قال: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟! قالوا: لا، قال: إنكم سترون ربكم كذلك) فهنا تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي. وأيضاً في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ترون ربكم لا تضامون في رؤيته) فـ (تضامون) روي بالتشديد والتخفيف، فرواية التخفيف (لا تضامُون) يعني: لا يصيبكم الضيم، أي: كلٌ سيرى الله جل وعلا. و (لا تضامُّون) بالتشديد يعني: لا ينضم بعضكم إلى بعض فيحدث المزاحمة برؤية الله جل وعلا، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعاً ممن ينظر إلى ربه جل وعلا، وهو راض عنا بذلك. وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن صهيب: (عندما يدخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك وسعديك، فيقول: يا أهل الجنة! هل تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تنجنا من النار؟ ألم تبيض وجوهنا؟ فيكشف الله جل وعلا الحجاب فينظرون إلى وجه الله الكريم)، فأنعم ما ينعمون به هو رؤية الله جل وعلا فينسون كل نعيم، فكل ما في الجنة من نعيم ولذة هو في طي النسيان في مقابل رؤية وجه الله الكريم، اللهم ارزقنا ذلك يا رب العالمين. فلا بد للإنسان أن يوطن نفسه حتى يرتقي بقلبه شوقاً للذي فوق العرش سبحانه وتعالى؛ لأنه سينظر إلى وجه الله الكريم، والنظر إلى وجه الله الكريم لا يصل إليه أي أحد؛ فإن الله يغار ومن غيرة الله أنه لا يجعل الإنسان يرتقي إلى هذه المنزلة إلا من استحقها، فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة، فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن ينظر إلى وجهه الكريم. وأيضاً في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين العباد وبين رؤية ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه جل في علاه) فرداء الكبرياء إذا كشفه الله جل وعلا نظر المؤمنون إلى وجه الله، وبالنظر إلى وجه الله يزول كل نعيم مقابل هذا النعيم، رزقنا الله وإياكم النظر إلى وجهه الكريم.

إجماع أهل السنة والجماعة على أن المؤمنين يرون الله يوم القيامة

إجماع أهل السنة والجماعة على أن المؤمنين يرون الله يوم القيامة أجمع أهل السنة والجماعة على أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات يوم القيامة، وعند دخول الجنة.

الأدلة النظرية العقلية لإثبات صفة رؤية الله في الآخرة

الأدلة النظرية العقلية لإثبات صفة رؤية الله في الآخرة أما من ناحية النظر فمن قصة موسى عليه السلام، فعندما سمع موسى صوت الله جل وعلا، ارتقى واشرأبت عنقه إلى رؤية صاحب الصوت، {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فلما قال الله له ذلك استنبطنا من هذه الآية على أنه يجوز للمرء أن يرى ربه جل وعلا، بل وتأكدنا أن رؤية الله في الآخرة على اليقين، فقوله تعالى: (قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) وأهل البدعة والضلالة يقولون: لن تروا ربكم؛ لأن الله قال: ((لَنْ تَرَانِي))، فالاستنباط من هذه الآية كما يلي: أولاً: أن موسى عليه السلام سأل ربه فقال: (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ)، فسؤال موسى لربه جل في علاه إما أن يكون أن هذا السؤال في محله أو يكون في غير محله، وحاشا لموسى وهو أعلم أهل الأرض في زمانه بالله جل وعلا، فكيف يسأل سؤالاً لا يجوز له أن يسأله، فإذا سأل موسى -وهو أعلم أهل الأرض بالله- علمنا أن موسى يعلم أن رؤية الله ممكنة. ثانياً: لو كان هذا السؤال تنزلاً من باب التعدي فهل يقر الله جل وعلا على باطل؟! كلا، فنوح عليه السلام لما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:45 - 46]، ثم قال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]، فلم يقر نوحاً عليه السلام عندما سأله إنقاذ ابنه، فبين الله له جل وعلا أن هذا السؤال من باب التعدي، فلا تسأل هذا السؤال. فلو كان سؤال موسى عليه السلام من باب سؤال نوح لابنه لرد الله عليه ولما أقره، فلما أقره الله على سؤاله دل ذلك على أن رؤية الله ممكنة، ثم إن الله جل وعلا ما أنكر عليه بل قال له: {انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فعلق الرؤية على ممكن؛ لأن الجبل ممكن أن يستقر، وأنت الآن لا تستطيع أن ترى ربك في الدنيا، لكن في الآخرة ستراه؛ لأن الله سيبدل القوة البصرية بقوة بصرية أخرى {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، فالعين المجردة لا تستطيع رؤية الله جل وعلا في الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فما يستطيع أحد رؤية الله جل وعلا، فلذلك قال الله جل وعلا: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] فعلق الرؤية على ممكن، أي: لو استقر الجبل ستراني، فتعليق الرؤية على ممكن يدل على أن الرؤية أيضاً ممكنة، فهذا من باب النظر من أن المؤمن سيرى ربه جل في علاه في الآخرة، وأما في الدنيا فلا يمكن لمؤمن أن يرى ربه إلا في حالة واحدة وهي: في المنام أو الرؤية القلبية.

هل رأى محمد ربه في الدنيا أم لا؟

هل رأى محمدٌ ربه في الدنيا أم لا؟

اختلاف العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا

اختلاف العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا وهنا مسألة عن الرؤية وهي: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا أم لا؟! اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الدنيا عندما عرج به، واستدل القائلون بذلك بقول الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:13 - 15]. واستدلوا أيضاً بقول ابن عباس لما سئل: هل رأى محمد ربه؟! قال: رأى ربه مرتين. وبقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: (هل رأيت ربك؟ قال: نور إني أراه) فأثبت رؤية الله جل وعلا، كأنه يقول: الله نور ووجه الله نور فإني أراه. والقول الثاني -وهو قول الجمهور من أهل العلم-: أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، ولذلك ورد عن عائشة بسند صحيح عندما قيل لها: (إن أقواماً يقولون: إن محمداً رأى ربه؟ فقالت: من قال إن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية) يعني: أعظم على الله الكذب، والكذب هنا بمعنى الخطأ. وأيضاً ردت على من قال بأن الله يُرى في الدنيا لقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13 - 14]، فأولت ذلك وقالت: المراد بذلك جبريل، فقد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين على صورته، فأما المرة الأولى فعندما نزل من الغار، فوجد جبريل يجلس على كرسيه في السماء ورجله في الأرض، ولما رآه رعب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (زملوني، زملوني، دثروني دثروني). والمرة الثانية: عندما عرج به إلى السماء السابعة، فرأى جبريل عليه السلام على صورته، فهذا تأويل الآية {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13 - 14]. وأما الرؤية القلبية فتقر بها عائشة ويقر بها ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه. والحديث الذي احتج به الجمهور حديث في الصحيحين وهو لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه) فـ (أنى أراه) بمعنى: كيف أراه وحجابه النور؟ وهذا أيضاً مصداق لهذا الحديث العظيم.

القول الراجح في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا

القول الراجح في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا وفصل الخطاب في القولين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في الدنيا، ولن يراه أحد في الدنيا بحال من الأحوال، فلا يرى الله إلا في الآخرة، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح أنه قال: (إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا)، وهذا صريح، وهو خطاب من الرسول للأمة، فمن باب أولى أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخطاب، كقوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، فأيُّ خطاب للأمة فهو خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من باب أولى؛ لأنه سيد هذه الأمة ولأنه رسولها، فعندما قال: (إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) فإذاً: النبي صلى الله عليه وسلم لن يرى ربه حتى يموت، والرؤية لا تكون إلا في الآخرة، وهذا هو الراجح الصحيح. وأما ابن عباس فقد تضاربت الأقوال عنه، فقد سئل ابن عباس مرة أخرى: (هل رأى محمد ربه؟ قال: بلى -أو قال نعم- رآه بقلبه مرتين) ونحن نقول بهذا. إذاً: هي ليست رؤية عينية ولكنها رؤية قلبية، وهي في المنام. هذا آخر الفوائد المستنبطة من هذه الأحاديث التي هي من هذا الجزء الأول.

تكملة لفوائد أحاديث الرؤية

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - تكملة لفوائد أحاديث الرؤية لقد أكرم الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وفضله على سائر خلقه، وحادثة الإسراء والمعراج أقوى شاهد على ذلك، فقد عُرج به إلى سدرة المنتهى، وكلمه ربه وفرض عليه خمس صلوات في اليوم والليلة، وحصل له من المعجزات ما يدل على صدق نبوته، فقد رأى الجنة ونعيمها، ورأى النار وجحيمها، وأيده الله بمعجزات عند عودته حين كذبه قومه، وهذا مبسوط في كتب السير، وقد اختلف العلماء في رؤيته لربه على ثلاثة أقول، والصحيح الراجح: أنه لم يره، ولن يرى أحد ربه في الدنيا.

وقفات مع أحاديث إثبات الرؤية

وقفات مع أحاديث إثبات الرؤية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام! ما زلنا مع هذا الكتاب الكريم كتاب (التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل) لإمام الأئمة ابن خزيمة , فقد اشتد الكرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكالبت عليه قريش ومن معها ومن يناصرها، واشتد تألم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجعه بعد ما مات عمه أبو طالب، وبعد ما ماتت خديجة، واشتدت عصا قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمى العلماء هذا العام عام الحزن، فذهب الرسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصر لنفسه ويستنصر لدينه ويستنصر لدعوته، فذهب إلى الطائف يطلب النصرة من ابن عبد يا ليل، وذهب إليه ليعرض عليه دعوته، فكان الرد قاسياً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قالت عائشة في الصحيح: إنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أشد الأيام التي مرت عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوم أن عرضت نفسي على الطائف) , فلما ذهب وعرض نفسه عليهم صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي رفضوه واحتقروه، بل وأذلوه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، وبعثوا الأطفال خلفه بالحجارة، ولم يكتفوا بهذا بل بعثوا الرسل إلى قريش يخبرونهم بما فعل محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يستنصر أهل الطائف عليهم حتى ينصروا دعوته، فازدادوا حقداً وحسداً وبغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبغضاً لدعوته، حتى إنه ما استطاع أن يدخل مكة إلا في جوار المطعم بن عدي، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم مهموماً مغموماً، وجاءه ملك الجبال كما وردت الآثار في ذلك يستأذنه أن يطبق عليهم الجبلين أو الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) فأبى على الملك ذلك, حتى ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي، ومن شهامة أهل الكفر ومروءتهم وهو ما نفتقده حتى في أهل الإسلام الآن, وذلك حين جاء إلى - المطعم - بعدما استجار به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل مكة فأشهر المطعم سيفه وأخذ أولاده كل منهم يستل سيفه ويقول: إن محمداً في جواري، وحذر قريشاً من الاقتراب منه؛ ولذلك حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فتح الله عليه مكة وأسر من أسر منهم قال: (لوا كان المطعم حياً فكلمني في هؤلاء النتنة لتركتهم من أجل). وهذا شاهد آخر يبين لك شهامة ومروءة ورجولة أهل الكفر مع أنهم أهل كفر، ولكن علوا بهذه السمات وهذه الصفات, ولما تآمر أبو جهل -عليه من الله ما يستحق في قبره مع الفتية- على قتل محمد صلى الله عليه وسلم طال عليهم الزمن وما خرج رسول الله قال الفتية: نرتقي البيت ثم ندخل على محمد فنقتله، فقال فرعون هذه الأمة: جئنا لنقتل محمداً وما جئنا لنروع بنات محمد! فهذه من الشهامة والمروءة، والمقصود: وإن كانت هذه الشهامة والمروءة لم تنفعهم، لكن كانت عندهم صفات وسمات يتمناها أهل الإسلام الآن. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد الكرب به واشتد عليه الحزن والهم، فأراد الله جل في علاه أن يروح عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فكانت الرحلة المباركة الميمونة رحلة الإسراء والمعراج.

وقفات مع حديث الإسراء والمعراج الذي يرويه أنس

وقفات مع حديث الإسراء والمعراج الذي يرويه أنس وحديث الإسراء والمعراج يرويه أنس بالمباشرة أو بالواسطة، فقد روى عن مالك بن صعصعة وغيره، وروى بنفسه لسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمدار كل حديث الإسراء على أنس، فلندع أنس رضي الله عنه وأرضاه يحدثنا عن هذه الرحلة المباركة الميمونة. يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا فقال: (كنت نائماً في الحصير فأتاني آت -هو جبريل عليه السلام- فشق صدري) , أي: شق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم من تحت النحر إلى السرة, وهذه معجزة من المعجزات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد رفضها أهل العقول الخربة من المعتزلة وأفراخها الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويردون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بعقولهم الخربة، مع أنهم في هذه العصور التي نراها أسوأ ما تكون على أهل الإسلام عندما يرون الأطباء يفتحون القلوب والصدور والعمليات الجراحية المختلفة يصدقونها ويبهرون بحسن صناعة هذا الطبيب، فما بالكم بالله جل وعلا الذي إذا قال للشيء كن فيكون! والله الذي لا إله إلا هو من رد هذا الحديث فهو لم يعتقد في الله حق اعتقاده، ولم يعتقد في رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الاعتقاد، ولم يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم حق اتباعه، فإنه لو اعتقد في الله حق الاعتقاد، وعلم أن الله على كل شيء قدير، وعلم أن الله خلق ملكاً له ستمائة جناح من قدرته وقوته، وأن الله جل وعلا أعطاه قوة حمل قرية بأسرها، وأن يجعل عاليها سافلها، لما رد هذا الحديث. إن جبريل عليه السلام هو الذي أجرى العملية الجراحية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك الملك الذي ضرب بجناحه فقط قرية لوط فجعلها كثيباً مهيلاً، جبريل عليه السلام الذي عندما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم رعب منه وقال: زملوني زملوني, جبريل الذي قال في وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت جبريل يجلس على كرسيه في السماء ورجلاه في الأرض)، جبريل عليه السلام الذي له ستمائة جناح؛ ولذلك قيل لبعضهم الذين يؤولون صفات الله: صف لي ثلاثة أجنحة فقط وأنا أكفيك الباقي ما استطعت. فجبريل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام هو الذي أجرى العملية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق صدره، ثم أخرج قلبه وغسله بماء زمزم، ثم بعد ذلك غسل صدره وحشاهُ حكمة وإيماناً وعلماً. فمن قال: إن الحكمة والإيمان والعلم معنويات، فنقول: كيف يحشى الصدر بهذه المعنويات؟ فالله على كل شيء قدير، أما سمعتم وعلمتم بأن الموت سيقوم متمثلاً أمام الناس، وينادى: يا أهل الجنة! خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت، أو ما علمتم أن الله جل وعلا يجعل الأعمال هذه تتكلم، وهذا الفخذ يتكلم، واليد تتكلم وتشهد على العبد؟ فإن الله على كل شيء قدير, فقد ملأ صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمة وإيماناً. ثم بعد ذلك أغلق جبريل صدره وأرجع ورد كل شيء إلى مكانه ثم أتي الرسول صلى الله عليه وسلم بالبراق، وهي دابة لونها أبيض فوق الحمار ودون البغلة، قال أنس في وصفها: (يضع حافره في نهاية مد البصر، فركبه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي بعض الأحاديث الضعيفة: أنه لما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم يركب البغلة أو البراق استصعب عليه، فقال له جبريل: والله ما ركب عليك أكرم على الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق وحق له أن يقول ذلك، بل إن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من جبريل كما سنبين من هذه القصة، فركبه ثم بعد ذلك ذهب به إلى بيت المقدس بأبي هو وأمي، فعلق الخطام على باب المسجد، ثم دخل وصلى ركعتين, وفي بعض الروايات: أن الله جمع له الأنبياء أجمعين، فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقادوا له وسلموا له الريادة والسيادة والقيادة، وما كان لهم إلا أن ينقادوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلموا أن هذا إيذان وإشارة من الله أنه إذا أم الرسل والأنبياء فإن دينه ناسخ لكل الأديان التي قبله، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار) فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيدهم وإمامهم وقدوتهم، فصلى بهم جميعاً، ثم بعد ذلك كانت الرحلة الميمونة المباركة , فركب البراق، فصعد إلى السماء حتى بلغ السماء الدنيا، فقرع جبريل الباب عليه الصلاة والسلام، فقيل: من؟ قال: جبريل، فقالوا: من معك؟ قال: محمد، قالوا: أو أرسل إليه؟ قال: نعم، فقالوا: مرحباً بالنبي الصالح، ففتح له فدخل جبريل ودخل معه محمد صلى الله عليه وسلم، فرأى آدم عليه السلام ورآه آدم، فقال آدم: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم صعد به إلى السماء الثانية، فوجد فيها عيسى ويحيى عليهما السلام، فرحبا به وقالا: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، ثم صعد به إلى السماء الثالثة، فوجد فيها يوسف عليه الصلاة والسلام وقد أوتي الشطر الثاني من الجمال، فقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد إلى السماء الرابعة فوجد إدريس، فتلا قول الله تبارك وتعالى {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57]، ثم بعد ذلك صعد إلى السماء الخامسة فوجد فيها هارون، فرحب به وقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، ثم ارتقى إلى السماء السادسة فوجد فيها موسى عليه الصلاة والسلام، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، فلما صعد محمد صلى الله عليه وسلم بكى موسى؛ لأن غلاماً سيدخل من أمته أكثر مما يدخل من أمتي الجنة -فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا جميعا من أهل الجنة -ثم صعد إلى السابعة فوجد إبراهيم عليه الصلاة والسلام وحوله أطفال المشركين وأطفال المسلمين، قال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، ثم بعد ذلك صعد محمد صلى الله عليه وسلم، إلى سدرة المنتهى لكن جبريل لم يصعد مع رسول الله، وهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أرقى منزلة عند الله من جبريل، وأكرم على الله من جبريل، وحق لنا أن نقول ذلك، فإن سيد الخلق أجمعين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكرم من جبريل عليه الصلاة وأزكى السلام، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه الله من وراء حجاب؛ لأن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51]، فكلمه من وراء حجاب وفرض عليه خمسين صلاة، فنزل يتردد بين الله جل وعلا وبين موسى، فقد كان موسى يقول: أمتك لا تستطيع ذلك، وهو يراجع ربه حتى جعلها الله خمس صلوات في اليوم والليلة، وهي بأجر خمسين صلاة بفضله ومنه وكرمه ورحمته على عباده.

ذكر ما جاء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج، وتكذيب قومه له، وموقف أبي بكر

ذكر ما جاء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج، وتكذيب قومه له، وموقف أبي بكر لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة الميمونة المباركة عجباً وأمراً مذهلاً تشيب له الرءوس والولدان، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواماً في جهنم أفواههم كأفواه البعير يلتقطون جمراً من النار فيأخذونها في أفواههم فتنزل من أسفلهم فتخرج، ورأى أقواماً أيضاً يسبحون في نهر من الدماء، ويقف رجل على شط النهر ومعه حجر، فكلما اقترب هذا السابح في نهر الدماء من الخروج فغر فاه فألقمه الحجر فرجع كما كان، ورأى أقواماً بطونهم عظيمة فيها الحيات، وكلما أرادوا أن يقوموا انقلبوا على ظهورهم، ثم رأى أقواماً يلتفون حول الجيف يأكلون من هذه الجيف، وأقواماً لهم شرائح من اللحوم، وهذه اللحوم طيبة، فينظرون إليها فيتركونها، وينظرون إلى لحوم منتنة فيذهبون فيأكلونها، وآخرين لهم أظافر من حديد يخمشون به لحومهم وظهورهم، ورأى النساء تعلق كل امرأة من ثديها، فتعجب واندهش, ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الأقوام فقيل له: أما المرأة التي تعلق من ثديها فهن الزانيات، وتحتهن نار كلما اشتعلت عليهم ارتفعوا وضوضوا، أي حدثت ضوضاء وحدثت أصوات كثيرة وشديدة من عذابهم. وأما الأقوام الذين يلتقطون الجمر ويأخذونها بأفواههم وتخرج من أسفلهم، فهؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]. وأما الذي فغر فاه وألقمه الحجر وهو يسبح في نهر من الدم، هؤلاء آكلوا الربا والعياذ بالله، وأمثالهم الذين يتجرءون على حرمات الله ويأكلون الربا بالحيل، كما ورد في بعض الأحاديث الضعيفة وإن كان معناها صحيح: (يأتي زمان على أمتي يأكلون الربا بالبيع، يسمونه بيعاً وهو ليس بالبيع) بل هو حيلة على رب البرية جل في علاه. قال: وأما الذين بطونهم عظيمة فيها الحيات، كلما قام منهم القائم ينقلب على ظهره مصداقاً لقول الله تعالى: {لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]، وأما الآخرون الذين يخمشون وجوههم فهؤلاء هم الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم. والغرض المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عجباً، وكل ذلك يشير لنا إلى أحقية أن نؤمن ونعتقد بعذاب القبر وإن كان الميت في بطون السباع، فإن الله سيعذبهم بهذا العذاب حتى تقوم الساعة. وبعد ما انتهى نبي الله صلى الله عليه وسلم من هذه الرحلة الميمونة المباركة وامتلأ صدره إيمانا وحكمة وعلماً، نزل إلى مكة يؤسس الدولة الإسلامية، ينشر هذه الدعوة لكنه لاقى ما لاقى من أهل مكة لما جلس يذكر ما رآه من بيت المقدس، فقام أبو جهل والوليد بن المغيرة ومن معهم من صناديد قريش فقالوا له: أين كنت أمس؟ قال: كنت في بيت المقدس، فأخذوا يسخرون منه ويستهزئون، ويضحك أبو جهل ويقول: رأيت إبراهيم، رأيت موسى، رأيت عيسى، صف لنا موسى، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أما موسى فكان رجلاً أسمر صخماً، وأما عيسى فكان أحمر ربعة، وأما إبراهيم فأنا أشبه الخلق به، وهو يتكلم بقوة؛ لأنه يعلم أن هذا هو الحق الذي أراه الله جل في علاه. فأخذوا يستهزئون، فقالوا: صف لنا بيت المقدس، وقد أصاب النبي صلى الله عليه وسلم الهم لما سألوه ذلك؛ لأنه دخل بيت المقدس ليلاً، وخرج منه ليلاً وهم يسألونه عن دقائق الأمور في بيت المقدس، فوقف وجلس لحظة مغموماً، وانظروا إلى قدرة الله جل وعلا، والله الذي لا إله إلا هو من لم يعتقد في الله حق اعتقاده فقد خاب وخسر وتخبطه الشيطان في كل وادٍ، ولن يبالي الله جل وعلا إذا أهلكه في أي وادٍ من هذه الوديان, فالذي يعتقد في الله حق اعتقاده يعلم أن الله لن يضيع رسوله أبداً، وسينصره عليهم، فاغتم رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك عندما سألوه في دقائق الأمور، فجاءه جبريل وعلى جناحه بيت المقدس, وفيه كل ما فيه, فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فجاءني جبريل وعلى جناحه بيت المقدس أنظر إليه وأقص عليهم) وكان منهم من سافر إلى الشام ورأى بيت المقدس، فكان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بدقائق الأمور الهندسية في هذا البيت، وهم يعلمون أن هذا هو الحق، وأعلى من ذلك وأرقى أنه قال: إن بعير فلان بن فلان في المكان الفلاني، وأما بعير فلان فتطلع عليكم الصبح، ثم ذهبوا فوجدوا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، فوقفوا أمام هذا الحق وهذا الصدق وهذه المعجزة، وأقروا بهذه الآية, فما كان ينتظر منهم إلا أن يؤمنوا؛ حيث إنهم أقروا إقراراً تاماً مطابقاً لما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأقروا بأن هذه آية، ولكن قام المغيرة فقال: إن هذا لسحر، فأخذوا يقولون هذه الكلمة، وقالوا: ساحر مبين حقدا وجحودا بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم وبدلائل النبوة. فالمقصود أن الله جل وعلا ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخبرهم بذلك، فقاموا وقالوا: نؤلب عليه قريشاً فذهبوا إلى أبي بكر فوبخوا أبا بكر رضي الله عنه، وقالوا: يا أبا بكر أرأيت ماذا قال صاحبك؟ قال: ماذا يقول؟ قالوا: قال إنه قد أسري به إلى بيت المقدس ورأى بيت المقدس، فقال أبو بكر: إن كان قال هذا فقد صدق، ثم أتى بدليل ساطع على تصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصدقه في ما هو أبعد من ذلك، إني أصدقه في الخبر يأتيه من السماء، فقياس الأولى والقياس الجلي إن أصدقه فيما حدث له في الإسراء والمعراج، ولقب من يومها رضي الله عنه وأرضاه بالصديق.

اختلاف العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في حادثة الإسراء والمعراج

اختلاف العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في حادثة الإسراء والمعراج لقد استنبط منها العلماء استنباطا اختلفوا فيه وهو عندما تردد النبي صلى الله عليه وسلم بين موسى وبين الله وهو يكلمه من وراء حجاب, هل رأى محمد ربه بعينه أم لا؟ فقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: النفي مطلقاً، فلم يره لا بقلبه ولا ببصره، وهذا قول عائشة رضي الله عنها وأرضاها. واستدلت على قولها بقول الله تبارك وتعالى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، وقالت: قال الله تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51]. القول الثاني قول ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه وهو: أنه رأى ربه بعينه , وهذه رؤية بصرية، فقد قال ابن عباس: والذي نفسي بيده قد رأى محمد ربه، وذلك عندما سئل أرأيت ربك؟ قال: (نور إني أراه) فقد أثبت هنا الرؤية البصرية. القول الثالث: وهو قول منسوب لـ عائشة وسنده ضعيف ومنسوب لـ ابن عباس أيضا، وهو أنه رأى ربه بقلبه لا بعينه، والفرق بين هذا وذاك أنه رأى ربه بقلبه أي رؤية منامية، ولم يره بعينه. وأدلتهم على ذلك حديث أتى به المصنف وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني ربي في المنام في أحسن صورة، ثم سألني: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فما عرفت، فوضع يده على صدري فوجدت برد أنامله على صدري، فعلمت كل شيء، فقلت: يختصم الملأ الأعلى في الدرجات والكفارات). إذاً: النفي مطلقاً, والإثبات مطلقاً, والتفصيل وهو: أنه رآه بقلبه ولم يره بعينه, ونترك مسألة الرؤية القلبية، وننظر إلى القول بالرؤية البصرية وقول عائشة , فإن عائشة اشتد نكيرها على من يقول: إن الله رئي بالعين البصرية، وذلك لما قال لها مسروق: إن بعض الناس يقولون: إن محمداً رأى ربه، قالت: قد قف شعري لما تقولون، من أخبركم أن رسول الله قد رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية, تعني: الكذبة وهي تقصد الخطأ ولا تقصد الكذب الصريح, واستدلت بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، وهذا دليل في غير محله؛ لأن المعارض والمخالف له أن يقول: نحن نوافق أن الله لا يُدَرك، وأن الله قد أحاط بكل شيء ولا يحيط به شيء سبحانه جل في علاه، لأن معنى الإدراك: الإحاطة , ونحن لا نحيط بالله أبداً لا علماً ولا سمعاً ولا بصراً, والرؤية غير الإدراك, فهذا الدليل ليس في محله. واستدلت بآية أخرى وهي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51] فقالت: إن محمداً لم يرَ ربه؛ لأن لا الله لا يكلم نبيناً إلا عن طري الوحي أو من وراء حجاب. لكي نقول: إن الله حقاً كلمه وكلمه من وراء حجاب، والكلام غير الرؤية، فلعله رأى ربه دون أن يكلمه، لكن لما كلمه كلمه من وراء حجاب , فتصبح الأدلة التي استدلت بها عائشة رضي الله عنها وأرضاها أدلة ليست من القوة بمكان في محلها. وأما ابن عباس فأدلته قوية فـ عائشة تنفي وابن عباس، يثبت، والقاعدة عند علمائنا: أن المثبت مقدم على المنفي؛ لأن الذي ينفي ليس معه علم، والذي يثبت معه زيادة علم، وزيادة العلم تتقدم على غيره، وهناك حديث آخر يصرح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه في مسند أحمد , فقد روى أحمد في مسنده من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي) وهذا فصل للنزاع؛ لأن هذا تصريح، لكننا لا نخوض في هذا أيضاً، وأقول: إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم على الراجح من أقوال أهل العلم: أنه لم يرَ ربه, والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن ترو ربكم حتى تموتوا). وأصوليا كما قررنا في الأصول: أن الخطاب للأمة خطاب لسيد الأمة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفعلوا كذا فهو صلى الله عليه وسلم لا يفعل، إلا أن يدل الدليل بالتصريح أن هذه خصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) فيدخل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخطاب، فلن يرى ربه ربه حتى يموت بأبي هو وأمي. وقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام: (لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] وحتى لو كانت الآية على بابها في التأبيد فهي في التأبيد الدنيوي لا الأخروي، فالصحيح الراجح في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربه في هذه الدنيا. والرد على أدلة من قال: إن النبي محمداً رأى ربه: هو أن ابن عباس لم يصرح بأنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبح الدليل في الرفع محتملاً، والمقطوع به يقدم على المظنون؛ لأن الاحتمال ظن، والمقطوع به: أنه قال لن تروا ربكم، وقد قال ابن عباس: أتعجبون أن يجعل الله جل وعلا لإبراهيم الخلة، ولموسى الكلام، ولمحمد الرؤية. ونحن لا نوافقه على ذلك، إذ جعل لمحمد الكلام وجعل لمحمد أيضا الخلة فقد اتخذ الله محمد خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، وقد كلم الله جل وعلا الرسول صلى الله عليه وسلم كما كلم موسى عليه السلام، وهذا دليل على فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيادته على الخلق أجمعين, فهذا بالنسبة لكلام ابن عباس فالرد على هذا: أن نقول: له الخلة وله الكلام، وأما الرؤية فلا يختص بها أحد، ولا يرى أحد ربه في الدنيا. ثانياً: حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيت ربي) وهو حديث ضعيف؛ لأن قتادة مدلس، والذي يكفينا تدليس قتادة هو شعبة، والحديث من طريق حماد بن سلمة وهو ثقة ثبت لكنه ليس كـ شعبة فلا نأمن من تدليس قتادة وإن كان السند مسلسلاً بالثقات، فالسند فيه: حماد بن سلمة ثقة ثبت قتادة ثقة ثبت، وعكرمة الكلام فيه غير معتبر، وهو ثقة ثبت، وابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، فهو حديث مسلسل بالثقات، لكن التدليس يجعلنا نتوقف فيه، ويكون المقطوع به هو حديث: (لن تروا ربكم حتى تموتوا) , والذي يقول: بل رأى محمد ربه، بقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] نقول: هذه الآية يقصد الله بها جبريل عليه الصلاة والسلام، كما قالت عائشة: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته وهيئته مرتين بستمائة جناح، المرة الأولى: عندما قال: زملوني زملوني، والمرة الثانية: عندما عرج به صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي. ومن الأدلة على أنه لم ير ربه ببصره: ما جاء في حديث الترمذي: (أتاني ربي في أحسن صورة)، فالراجح والصحيح: أنه لم ير ربه في الدنيا، ولن يرى أحد ربه في الدنيا. وأما في الآخرة فقد بينا أن الوجوه تصبح ناضرة؛ لأنها إلى ربها ناظرة, نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن ينظر إلى وجهه الكريم، ويتمتع بذلك وينعم به. وصل اللهم وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

رؤية الكافرين لله جل في علاه يوم القيامة

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - رؤية الكافرين لله جل في علاه يوم القيامة من تمام النعمة وعظيم فضل الله عز وجل على المؤمنين أن يريهم وجهه الكريم يوم القيامة، وهذه النعمة لا يحصل عليها الكافرون، فهم محرومون من النظر إلى وجهه سبحانه.

اختلاف العلماء في رؤية الكافرين لربهم يوم القيامة

اختلاف العلماء في رؤية الكافرين لربهم يوم القيامة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن من أشرف مسائل العقيدة على الإطلاق هي مسألة رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، كيف لا وهي تتعلق بالنظر إلى وجه الله الكريم، والمتعة والنعيم التامان في الجنة يكونان بالنظر إلى وجه سبحانه. وقد سبق ذكر الرؤية وأدلتها والمخالفين لأهل السنة والجماعة فيها، وكيفية الرد عليهم، والمسألة الأخرى هي رؤية الكافرين لله جل في علاه يوم القيامة، فهل يحرمون في عرصات يوم القيامة من رؤيته أم يرونه عند الحساب؟ و A أن الناس ينقسمون إلى أقسم ثلاثة: القسم الأول: المؤمنون الخلص الذين آمنوا بالله ووحدوه حق التوحيد، وآمنوا به رباً ولم يجحدوا شرعه سبحانه جل في علاه، فأتمروا بأمره وبأمر نبيه صلى الله عليه وسلم. والقسم الثاني: الكافرون الخلص الذين جحدوا ربهم، وجحدوا شرعه، وخالفوا أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فأظهروا الكفر، وكانوا مرصاداً وحرباً لدين الله جل في علاه، وحرباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. القسم الثالث: مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء، فلا هم مؤمنون خلص ظاهراً وباطناً، ولا كافرون خلص ظاهراً وباطناً، فأبطنوا الكفر والجحود والاستكبار والاستعلاء على دين الله جل وعلا وأظهروا الإسلام، فكان لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين. فهؤلاء هم المنافقون، فهم وسط بين هؤلاء {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143]. فأما المؤمنون الخلص فهم الذين يرون ربهم يوم القيامة. والرؤية رؤيتان: رؤية لذة ونعيم وإكرام وسعادة وسرور، وهذه لا تكون إلا في الجنة، ولا يفوز به إلا المؤمنون الخلص بالإجماع، فالمؤمنون الخلص يرون ربهم رؤية لذة ونعيم وإكرام، وهذه الرؤية تكون في الجنة عندما يطلع الله على أهل الجنة ويقول: (تمنوا، فيقولون: يا ربنا! ألم تنجنا من النار؟ ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ فيطلع الله عليهم وينزع رداء الكبرياء، فيرون ربهم فما أوتوا من نعيم مثل هذا النعيم)، رزقنا الله رؤيته {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]. والرؤية الثانية: رؤية فتنة ومحنة واختبار، وفيها توبيخ وزجر، وهذه الرؤية هل هي رؤية عامة أم هي رؤية خاصة بالمؤمنين؟ اختلف العلماء من أهل السنة والجماعة في ذلك على أقوال ثلاثة: القول الأول: أن الكافرين والمؤمنين والمنافقين يرون ربهم على عرصات يوم القيامة قبل أن يضرب الجسر، وقبل أن يذهبوا إلى الجنات أو النيران، فعند الحساب يرى الكافرون والمؤمنون والمنافقون ربهم جل في علاه. وهذا هو القول الأول من أقوال أهل السنة والجماعة. واحتجوا بأدلة كثيرة منها: أولاً: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، واللقاء يستلزم الرؤية. واحتجوا أيضاً بحديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم قال: (ما من أحد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان)، وبما جاء في الصحيحين: (أن الله جل وعلا يأتي بالرجل من أهل النار ويقول له: لو كان لك ما في الأرض وما في السماوات من ذهب أو من فضة لافتديت به من عذاب يوم القيامة؟ قال: نعم، فقال الله: قد طلبت منك ما هو أهون من ذلك وأنت في صلب آدم، طلبت منك أن توحدني ولا تشرك بي شيئاً)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فكل ذلك لقاء بين الرب وبين العبد، واللقاء يستلزم الرؤية والمعاينة. واستدلوا أيضاً بما استدل به المصنف -وإن كانت أسانيده ضعيفة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فينظر الله إليهم -يعني في عرصات يوم القيامة- وينظرون إليه)، وهذا عام في جميع أهل الموقف أنهم ينظرون إلى الله، وينظر الله جل وعلا لهم، وأهل الموقف فيهم المؤمنون الخلص، والكافرون الخلص، والمنافقون الذين هم وسط بين المنافقين وبين المؤمنين، وهذا يدل على أن الكافرين سيرون ربهم، لكن هذه الرؤية ليست رؤية إكرام ولا سعادة ولا سرور، بل هي رؤية امتحان واختبار وحسرة وألم، حتى إذا أدخلهم الله النار حرموا من رؤيته. القول الثاني من أقوال أهل السنة والجماعة: أنه لا يرى الله جل وعلا أحد لا في عرصات يوم القيامة ولا في الجنات إلا المؤمنون الخلص فقط؛ لأن رؤية الله شرف عظيم لا يرتقي إليه منافق ولا كافر، فالمؤمن فقط هو الذي سيرى ربه جل في علاه. واحتجوا على ذلك بالنص القاطع من كتاب الله جل وعلا وهو قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، وهذا نص قاطع عام في كل كافر بالاتفاق، وفي كل منافق أبطن الكفر وأظهر الإسلام كـ عبد الله بن أبي بن سلول وطائفته ممن أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام، فهؤلاء من الكافرين، والله جل وعلا يقول: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، يقول ذلك لمن يكذبون بيوم الدين وهم الكافرون، فهذا نص قاطع على أنه لا يرى الله إلا المؤمنون، فكما حجبت رؤية الله عن هؤلاء في الغضب فإن المؤمنين يرونه في الرضى، وفي عرصات يوم القيامة أيضاً. القول الثالث: القول بالتفصيل، وهذا قول لبعض أهل السنة والجماعة، وعند تدقيق النظر فأن هؤلاء هم أسعد الناس بالدليل. قالوا: إن المؤمنين والمنافقين سيرون الله عز وجل في عرصات يوم القيامة، فأما الكافرون فلا يرون ربهم جل في علاه، واستدلوا على ذلك بحديث: أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم -بعدما وصف لهم عرصات يوم القيامة وما يرون فيها من أهوال- قال: (فيقول الله جل وعلا لأهل الموقف: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيأتي الذين كانوا يعبدون الشمس فيتبعون الشمس، وتكور حتى تسقط في نار جهنم فيسقطون في نار جهنم، ويأتي الذين كانوا يعبدون القمر فيكور، ثم يلقى في نار جهنم فيسقطون في نار جهنم، ثم قال: فيبقى المؤمنون وفيهم المنافقون وبقايا من أهل الكتاب، فيقول الله جل وعلا: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيقول لأهل الكتاب: من تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عيسى ابن الله، فيقول الله جل وعلا: كذبتم {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91]، ثم يتمثل لهم شيطان عيسى، ويذهب فيهوي إلى نار جهنم، فيسقطون خلفه في النار). إذاً: فأهل الكتاب يمحصون ويتساقطون إلى نار جهنم قبل أن يروا ربهم، وأيضاً اليهود يقولون: كنا نعبد عزيراً ابن الله -ينسبونه إلى الله جل في علاه-، فيقول الله جل في علاه: كذبتم {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91]، فيتمثل لهم شيطان عزير عليه الصلاة والسلام فيهوي في النار، ويتساقطون هم معه، ويبقى من يكشف الحجاب لهم، وهم المؤمنون وفيهم المنافقون، فيأتيهم الله جل وعلا على صورة غير الصورة التي يعرفونها -، وهذا فيه دلالة على أن الله له صورة، وكونه يأتى بصورة غير صورته جل في علاه فهو فعال لما يريد سبحانه {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]-فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك لست بربنا، ثم يأتيهم في الصورة التي يعرفونها فيقول: أنا ربكم -فبينه وبينهم علامة- فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقه جل في علاه، فيخر ساجداً كل مؤمن ومنافق، فمن كان يسجد لله إخلاصاً وتوحيداً كاملاً يسجد كما كان يسجد في الدنيا، أما الذي كان يسجد نفاقاً فإذا جاء ليسجد تحولت فقرات ظهره طبقاً واحداً، فينقلب على ظهره ولا يسجد لله جل وعلا، وهذا محل الخداع والمكر بأهل النفاق. ففي هذا الدليل بيان أن بقايا أهل الكتاب يتساقطون خلف شيطان عيسى وشيطان العزير، وأما المؤمنون والمنافقون فيظهر الله لهم، كما جاء في رواية قال: (ثم يتوارى عنهم، ثم يظهر لهم بالصورة التي يعرفونها). فهذا هو دليل الطائفة الثالثة الذين يقولون: إن أهل الكتاب أو الكفار لن يروا الله جل وعلا حتى في عرصات يوم القيامة. والصحيح الراجح هو هذا القول، وأصحابه هم أسعد الناس بالدليل وقولهم بأن الكافرين لا يرون ربهم لا في عرصات يوم القيامة ولا في غير عرصات يوم القيامة، يدل على أنهم لا يرونه في الجنة من باب أولى، فهم أهل الخسارة، وأهل الغي والعار الذين حرموا جنة الدنيا، ثم حر

الجواب على القائلين بأن الكافرين يرون ربهم يوم القيامة

الجواب على القائلين بأن الكافرين يرون ربهم يوم القيامة ما استدل به القائلون بأن الكافرين يرون الله يوم القيامة يجاب عليه بعدة أجوبة: أولاً: احتجاجهم بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، وقولهم بأن اللقاء يستلزم الرؤية، يجاب عليه: بأن اللقاء لا يستلزم الرؤية، فإن اللقاء لقاءان: لقاء بسلام، ولقاء بغير سلام، فأما اللقاء بسلام فإنه -كما هو معلوم- أن السلام تحية أهل الإسلام، وقد قال الله جل وعلا لآدم: (فهذه تحيتك وتحية أمتك من بعدك)، فكلمة السلام عليكم معناها لك منا الأمان والسلامة من كل شيء، كما تعني الدعاء بالسلامة من كل نقص ومن كل شر يسوءك في الدنيا والآخرة، فاللقاء بسلام فيه الأمان واللذة والسرور والإكرام. والقاء الثاني: ليس بسلام، وهذا لا يستلزم النظر، وأما اللقاء الأول الذي يكون بسلام فيستلزم المعاينة والإبصار؛ لما فيه من الأمان والإكرام والسلام، ودليل ذلك قول الله تعالى عن المؤمنين عندما يدخلون الجنة: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44]. إذاً: يلقونه فيسلم عليهم، وهذا لقاء بسلام، وهو الذي فيه رؤية وجه الله جل في علاه، وهذا الذي يستلزم المعاينة والإبصار واللذة والسرور {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]. اللقاء الثاني: لقاء بغير سلام، وهذا لقاء توبيخ لا يستلزم المعاينة ولا الإبصار، فهو لقاء المحاسبة، فلا يكون بينهم وبين الله ترجمان، وفيه يوبخهم الله جل وعلا ويقول لأحدهم: ألم أنعم عليك؟ فيقر بكل ذلك ولا يجحد شيئاً حتى إن الله يختم على فيه ويقول: يكفيك شاهد من نفسك، فتنطق اليد، وينطق الفخذ، وينطق كل شيء بجسده، ثم يلقى في نار جهنم مدحوراً موبخاً من قبل الله جل في علاه. إذاً: فاللقاء الذي يكون بغير سلام لا يستلزم المعاينة والإبصار؛ للحجاب الذي بينهم وبين الله، فلا يرونه. وأما استدلالهم بأن أهل الموقف ينظرون إليه وينظر إليهم فالحديث فيه ضعف، لكن ابن القيم رحمه الله يرجح تصحيحه، ولم يقل المعنى صحيح، لكن قال: ينظر لأهل الموقف، وينظرون إليه. والرد على استدلالهم بهذا الحديث من وجهين: الوجه الأول: أن الذين ينظرون هم المؤمنون، فالنظر خاص بهم؛ لأن الله أخبرنا في كتابه الكريم أن الكافرين يبعثون يوم القيامة على وجوههم عمياً وصماً وبكماً قال تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:125 - 126]، فالكافر يحشر يوم القيامة أعمى، ولا نظر للأعمى. الوجه الثاني: ينظرون ويحجبهم الله عن رؤيته، وهذا ظاهر. وأوضح الأدلة في الإجابة عليهم هو قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، وقد يقال: إذا لم ير الكافرون ربهم فكيف يراه المنافقون؟ و A أن رؤية المنافقين من تمام المكر والمخادعة، {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26] وأجراً طباقاً، بل إن هذا يستلزم حسرة وألماً على المنافقين، فيكون عقابهم أشد من عقاب الكافرين، فعندما يرون الله يقع في قلوبهم أنهم مع المؤمنين، وأنهم من أهل السلامة، ومن أهل الجنة، فيأتي الله جل وعلا فيغلق عنهم باب الرحمة، فينظرون إلى أهل الجنات وهم يسيرون كأجاويد الخيل، وكالريح المرسلة إلى الجنات فيقولون: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13]، يقول الله تعالى عنهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، فهم يمكرون والله يمكر بهم في الآخرة، ويخادعون الله والله يخدعهم بأن يأتيهم ويرونه، ويحسبون أنهم من أهل الجنات، ثم يضرب بينهم وبين أهل الجنات، وبعد أن طمعوا بالجنة قطع طمعهم، وكان لهم الدرك الأسفل من النار، وهذه دلالة أيضاً على أن المنافقين أشد نكالاً وعذاباً من أهل الكفر.

قياس الغائب على الحاضر المشاهد دليل على إحياء الله الموتى

قياس الغائب على الحاضر المشاهد دليل على إحياء الله الموتى هذه بعض الفوائد المستنبطة من الأحاديث التي أطال المصنف في ذكرها، منها قال: (قلت يا رسول الله! كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال: يا أبا رزين أما مررت بوادي أهلك محلاً ثم مررت به يهتز خضراً، ثم أتيت عليه محلاً ثم مررت به يهتز خضراً؟ قلت: بلى، قال: كذلك يحيي الله الموتى) وهذه آية من آيات الله في خلقه، وفيها دلالة عظيمة على قدرة الله وعظمته، وفيها قياس النبي صلى الله عليه وسلم الغائب على الواقع المشاهد، والله جل وعلا ضرب لنا هذه الأمثلة جلية واضحة في كتابه فقال: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5]، وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت:39] ثم ختم هذه الآية بقوله: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39]، وهذا قياس للغائب على الواقع المشاهد، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن السماء تمطر فتحيا الأرض بعد موتها، وكذلك بالنسبة للميت فإن الله ينزل من السماء مطراً كمني الرجال فيحيي به هذا الإنسان. فكما أحيا الله الأرض بهذا الماء فكذلك يحيي الإنسان من عجب الذنب بالمطر الذي تمطره السماء يوم القيامة، والذي يكون أشبه ما يكون بالمني. والقصة العجيبة في الكتاب ما جاء في قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة:259]، ثم أمره الله أن ينظر إلى حماره وإلى طعامه، وهذا من قياس الغائب على الواقع المشاهد. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

إثبات صفة الضحك لله

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - إثبات صفة الضحك لله الضحك صفة من صفات الله عز وجل الدالة على رحمته، وأنه رءوف بعباده، وما دام أنه يضحك سبحانه فعلى الإنسان أن يحسن الظن به، ولا يقنط من رحمته، ولن يعدم المؤمنون خيراً من رب يضحك.

إثبات صفة الضحك لله عز وجل

إثبات صفة الضحك لله عز وجل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن الأسود بن عبد الله عن عمه لقيط بن عامر أنه خرج وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق، قال: فقدمنا المدينة لانسلاخ رجب، فصلينا معه صلاة الغداة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيباً فقال: (ألا أيها الناس! إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام ألا لأسمعكم، ألا فهل من امرئ بعثه قومه فقالوا: اعلم لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا ثم لعله أن يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو يلهيه الضلال، ألا إني مسئول هل بلغت، ألا فاسمعوا تعيشوا، ألا اجلسوا ألا اجلسوا، قال: فجلس الناس وقمت أنا وصاحبي، حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت: إني سائلك عن حاجتي فلا تعجلن علي، قال: سل عما شئت، قلت: يا رسول الله! هل عندك من علم الغيب؟ فضحك -لعمر الله- وهز رأسه، وعلم أني أبتغي بسقطه، وقال: ضن ربك بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله، وأشار بيده، فقلت: ما هن يا رسول الله؟! قال: علم المنية، قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه، وعلم المني حين يكون في الرحم قد علمه ولا تعلمونه، وعلم ما في غد وما أنت طاعم غداً ولا تعلمه، وعلم اليوم الغيث يشرف عليكم آزلين مشفقين، فيظل يضحك وقد علم أن غوثكم قريب -يقصد بذلك المطر- لا يعلمه إلا الله جل وعلا، فقلت: يا رسول الله! لن نعدم من رب يضحك خيراً). ]. في هذا الحديث فوائد كثيرة منها: أن من السنة أن يعلو صوت الخطيب، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام خطيباً علا صوته كأنه منذر جيش، وكثير من الناس يتضجر من ارتفاع صوت الخطيب، والسنة التي ضاعت وأميتت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام خطيباً في الناس علا صوته، واحمر وجهه، وظهر ذلك على حالته صلى الله عليه وسلم. ومنها: آداب السائل، وأن الذي يسأل عن أمر مهم لا بد أن يفرغ ذهن المسئول وقلبه، فلذلك كان من العقل الذي عند هؤلاء أنهم جلسوا حتى يفرغ فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وبصره، فيسألونه عن المهمات. وقد ذكرت في هذا الحديث صفة من صفات الله جل في علاه، وهي من صفات الأفعال، وهي صفة الضحك، فيا خسارة الذين لا يؤمنون بهذه الصفات، والذين يجهلون عن الله الكثير، فإن الله عز وجل يضحك ولن نعدم من رب يضحك خيراً. فإذا كان مديرك في العمل في كل يوم يسلم عليك ويهش ويبش في وجهك، فسوف تنتظر منه كل خير؛ لأنه كلما رآك ابتسم في وجهك وسألك عن حالك. فهذا مثال، ولله المثل الأعلى. وكما يصف الواصفون النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتبسم دائماً في وجه من يسلم عليه، وإذا سلم على إنسان -كما في الأحاديث الصحيحة- لم يكن ينزع يده حتى ينزع الآخر من يده صلى، وإذا تكلم معه لم يكن يبعد أذنه عنه حتى يسكت، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بآثار صفات الله جل وعلا، فإن الله يضحك ضحكاً يليق بجلاله وكماله وعظمته وقدرته سبحانه وتعالى. فهذه صفة من صفات الأفعال التي تتعلق بالمشيئة، فإن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، فإن شاء ضحك وإن شاء لم يضحك، فهي تتعلق بالأسباب.

أسباب ضحك الله

أسباب ضحك الله أسباب ضحك الله كثيرة، أولها: أن الله جل وعلا يضحك عندما يرى السخاء والجود من العبد، كما في البخاري أن أضيافاً جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن عنده ما يضيفهم به، فضيف رجل من أصحابه الأنصار هؤلاء الأضياف، ولم يكن عنده في البيت إلا طعام أهله، فقدم لهم الطعام، فالله جل وعلا عجب من هذا الفعل، وضحك إلى هؤلاء، وأنزل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، فهذا الرجل جعل ضيف رسول الله أكرم عليه من نفسه، فقدم له طعامه وطعام أهله، فضحك الله من هذا الصنيع، فهذا سبب من أسباب ضحك الله جل في علاه، فكل جواد كريم فإن الله يضحك له. ويضحك الله سبحانه إلى الشهيد، فلنعم المباهاة، ولنعم المثوبة، ولنعم الجزاء الذي يجازى به الشهيد، وقد جاء رجل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصف، فيقول: يا رسول الله! ما الذي يضحك ربنا؟ -أي: أن الصحابي يعتقد هذه العقيدة الصحيحة وهي أن الله يضحك- قال: (أن تدخل مقبلاً غير مدبر بغير درع -أي: على الصف الكافر، فتبيع نفسك رخيصة لله جل في علاه، زاهداً في نفسك، ورضاً لربك جل في علاه- فتقتل، فقال: هذا يضحك الرب؟ قال: نعم، قال: لم نعدم من رب يضحك خيراً، فدخل فقاتل فقتل). أيضاً من الأسباب التي يضحك الله منها ما جاء عن النبي صلى أنه قال: (يضحك ربكم من رجلين يقتل أحدهما الآخر، ثم يأخذ القاتل بيد المقتول ويدخلان الجنة)، وتفسير ذلك أن الرجل الأول كان مسلماً، فكان يقاتل في سبيل الله اعلاءً لكلمة الله، وكان الآخر كافراً يقاتل للشيطان، فقتل هذا المسلم، فأصبح من الشهداء عند الله جل وعلا، ودخل الجنة بشهادته، كما نظن ذلك بإذن الله، والكافر أسلم بعدما قتل المسلم، وامتلأ قلبه بالإيمان، فمات قتيلاً شهيداًً، فالله جل وعلا أمر هذا القاتل الأول أن يأخذ بيد القاتل الثاني فيدخلا الجنة، وضحك الله من الرجلين أن القاتل لا يمكن أن يدخل الجنة، وحتى المؤمن إذا قتل المؤمن، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا} [النساء:93]، إلى آخر الآيات، فالله جل وعلا يبين أن المؤمن يخلد في النار إذا قتل المؤمن. ومما يضحك الله سبحانه شهود الربوبية في القلب، كما جاء في حديث مسلسل عن علي بن أبي طالب في دعاء ركوب الدابة وهو: (بسم الله الحمد لله: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13]، الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، رب إني ظلمت نفسي ولا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك علي بن أبي طالب، والراوي عنه حدث بهذا الحديث وضحك، وقال: حدثني علي فضحك، ثم قال علي حدثني رسول الله فضحك، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي أضحكك؟ قال: ضحك الله من عبده يقر بأن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر). فشهود الربوبية في القلب سبب من أسباب ضحك الرب جل في علاه. وأيضاً: من الأسباب التي يضحك الرب جل في علاه منها: قنوط العباد مع قرب الفرج، ففي الحديث أنه قال: (ضحك ربنا تبارك وتعالى من قنوط عباده وقرب غيره)، فبعد الشدة التي مستهم قنطوا من فرج الله جل وعلا على العباد، فيضحك الله جل وعلا من عباده كيف يقنطون والفرج قريب، وفي هذا دلالة على أنهم لا يعلمون الغيب. فالله سبحانه يضحك ضحكاً لا يشابه ولا يماثل ضحك المخلوقين.

التعبد لله بصفة الضحك

التعبد لله بصفة الضحك على المرء أن يتعبد لربه جل وعلا بهذه الصفة الجليلة، وذلك بأن يعتقد اعتقاداً جازماً أن ربنا يضحك، وأن ضحكه من صفات كماله، ونتعبد لله بهذه الصفة بأن نحسن الظن بالله جل وعلا، كما قال ذلك الصحابي الفقيه: لن نعدم من رب يضحك خيراً، فإذا علمت أن ربك يضحك أحسنت الظن به، فتتمثل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء)، فإذا ظننت أن ربك يضحك في وجهك فإن الله جل وعلا سيدخلك الجنة بذلك، ويثيبك خير المثوبة. والأشاعرة أولوا الضحك إلى إرادة الثواب، وخالفوا بذلك القرآن والسنة وإجماع أهل السنة.

القسم وأنواعه

القسم وأنواعه قال نهيك بن عاصم عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (فضحك لعمر الله)، فقوله: (لعمر الله) قسم، فهو يقسم بعمر الله جل وعلا، أو بحياته، وهذا الكلام يستنبط منه آداب القسم، والقسم قسمان: قسم من الخالق، وقسم من المخلوق، فأما قسم الخالق فيقسم بما شاء من خلقه، يقسم بالسماء والطارق، ويقسم بالليل والنهار والشمس، قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق:2 - 3]، وقال جل وعلا: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1 - 2]، وقال جل في علاه: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]، وقال جل في علاه: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق:18]، وقال جل في علاه: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، فالمخلوق الوحيد الذي أقسم الله بحياته هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله يقسم بما شاء من خلقه، وفيه دلالة على ربوبيته وعظمته وقوته وقدرته سبحانه جل في علاه. أما القسم الثاني فهو قسم المخلوق، فالمخلوق لا يقسم أبداً إلا بالله جل في علاه، ودليل ذلك ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). وفي رواية أخرى قال: (لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله)، وبسند صحيح عن ابن مسعود قال: لأن أحلف بالله كاذباً خير لي من أن أحلف بغير الله صادقاً. ووجه ذلك أن الحلف بغير الله شرك، وأما الحلف بالله كذباً فهو معصية، والشرك وأكبر من المعصية، ففي هذا دلالة على أن المخلوق لا يقسم أبداً إلا بالله جل في علاه. وكيفية القسم أن يقسم بذات الله، أو بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، والحياة صفة من صفات الله جل وعلا، وهذا الصحابي الجليل أقسم بها وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بل وقال: (فلعمر إلهك ما يدع على ظهرها من مصرع) إلى آخر الحديث، فأقسم بعمر الله أو بحياة الله. وحياة الله صفة من صفاته الثبوتية التي أثبتها له رسول الله صلى الله عليه وسلم لله جل في علاه، ولو كانت سلبية لنفاها. وهي صفة ذاتية أزلية أبدية، فإن حياة الله جل وعلا لا تشابه حياة المخلوقين، فحياة المخلوق يسبقها العدم، ويلحقها الفناء، أما حياة الله جل وعلا فهي حياة أزلية أبدية، والقسم بعمر الله أو بحياة الله قسم بصفة من صفاته.

تكملة لفوائد أحاديث صفة الرؤية لله جل وعلا

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - تكملة لفوائد أحاديث صفة الرؤية لله جل وعلا تجد في هذه المادة الكلام عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان أنه حوض أعطاه إياه ربه تبارك وتعالى تكرمة له، وهذا الحوض ثابت بالسنة المتواترة وإجماع السلف، وقد أنكره بعض أهل البدع؛ فكان حرياً بهم ألا يشربوا منه، وأن يذادوا عنه، وتجد أيضاً الكلام على إثبات أن جد النبي وعمه ووالديه في النار، وهذا أمر جاءت به الأحاديث الصحيحة، فلا تترك هذه السنن من أجل العاطفة المزعومة، فالخير كل الخير في التمسك بما ورد في الأدلة.

حوض النبي ثابت بالسنة المتواترة والإجماع

حوض النبي ثابت بالسنة المتواترة والإجماع إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. يا ناس يا ناس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام! ما زلنا مع مهمات المسائل في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في هذا الكتاب الجليل (كتاب إثبات صفات الرب جل في علاه) لإمام الأئمة: ابن خزيمة، وهذا الحديث ضعفه المحدثون كما بينا في السابق، لكن الإمام ابن القيم يرى أنه تلوح من ألفاظه صفات النبوة، وأنه يصح معناه. وقد تكلمنا عن أشرف المسائل في العقيدة: وهي رؤية الله جل في علاه، ثم بينا القواعد المستنبطة من ضحك الله جل في علاه. وفي هذا الحديث: (قلت يا رسول الله! كيف وهو شخص واحد -أي: الله تعالى- ونحن ملئ الأرض ننظر إليه وينظر إلينا) إلى آخر الرواية. فقوله: (هو شخص واحد) ليس فيه إثبات صفة الشخص لله جل في علاه، فالمعنى معروف عند العرب، وكما قال ابن القيم: إن النبي صلى الله عليه وسلم عربي، ويتكلم بلغة يعلمها القوم، ويعرفون قوله، والمعنى: كيف أن الله جل وعلا يرانا وهو واحد ونحن جميع كما نراه في الإجابة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن القمر واحد والجميع يرون القمر ولا يضر أحد من رؤية القمر. فليس في ذلك إثبات صفة الشخصية لله جل في علاه وليست هذه صفة من الصفات، ثم بين بعدها فعلاً من أفعال الله جل وعلا فقال: (فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم، فلعمر إلهك ما تخطئ وجه واحد منكم منها قطرة)، فنسب لله جل وعلا النضح، وهذه من أفعال الله جل وعلا، فيأخذ بيده وينضح على عباده، وما من واحد من العباد إلا وقطر الماء يأتي عليه وما تخطئ واحداً منهم. ثم يقول: (فتطلعون على حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذه المسألة أيضاً من أشرف المسائل، قال: (فتطلعون على حوض الرسول أظمأ ناهلة) ثم بعد ذلك أيضاً يسرد فيقول: (ولا يجني على المرء إلا نفسه)، ثم يقول: (وأهلك يا رسول الله! عندما قال: أبوك في النار، قال: وأهلي) يعني: أهلي في النار، وهذه المسألة دحض مزلة كما سنبين الآن. فأول المسائل التي سنتكلم عنها هي مسألة شريفة جداً، فبعدما يأمر الله جل وعلا السماء فتمطر مطراً كالمني، وأجساد الناس في القبور قد بليت، ولم يبق من أجساد الناس إلا عجب الذنب، فتمطر السماء مطراً كالمني، ثم ينبتون كلهم فيخرجون من القبور عطشى، فكل واحد منهم يتمنى جرعة ماء، فيخرجون جميعاً فيضرب الصراط، وقبل الصراط حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ولك أخي الكريم! أن تتخيل أن الشمس على رءوس العباد قدر ميل أو شبر، فيغرقون في عرقهم، فمنهم من يصل العرق به إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل العرق إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، فهذا وكل من كان مثله يحتاج إلى جرعة ماء، وهذه الجرعة لا يمكن أن يأخذها إلا من حوض كريم شريف، وهو حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فتلتف الأمم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه المسألة نبينها الآن فنقول: الحوض ثابت بالسنة المتواترة وبإجماع أهل السنة، فهو راسخ كرسوخ الجبال الرواسي، ولا بد أن نؤمن به، ومن أنكر هذا الحوض فهو مبتدع، فحوض النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بالسنة، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أنا فرطكم على الحوض)، يعني: أتقدمكم على الحوض، وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأذودن الناس عن حوضي)، ثم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ومنبري على حوضي)، وهذا من الغيبيات، فيمكن أن يكون منبر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي في المدينة الآن على حوضه، ويمكن أن يكون هذا المنبر على الحوض يوم القيامة، فلا يعلم ذلك إلا الله جل في علاه، والمقصود: أنه قد ثبت بالسنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم له حوض يشرب منه المؤمنون، وهذا الحوض كما قلت ثبت بالسنة المتواترة، فقد روي إثباته عن أكثر من ثلاثين نفساً من الصحابة، وقد أجمعت الأمة على أن الناس يردون على حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكل نبي حوض، وكل نبي آمن به قومه في وقته فإنهم يردون على حوضه، وأكثر الأحواض وروداً هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أكثرهم تبعاً صلى الله عليه وسلم.

صفة الحوض

صفة الحوض وصفة حوض النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في الأدلة الكثيرة في الصحاح: أن طوله مسيرة شهر، وأن عرضه مسيرة شهر، وزواياه متساوية، وأما ماؤه فيأتي في ميزاب من ذهب وميزاب من فضة من نهر في الجنة يسمى الكوثر، كما قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، وهو نهر في الجنة أعطاه الله جل وعلا لنبيه تكرمة، نسأل الله جل وعلا أن يسقينا من حوض نبيه الكريم، وهذا الحوض قبل الصراط عند أهل التحقيق. وآنية هذا الحوض كالنجوم عدداً وهيئة، فهذه الأواني تتلألأ لمعاناً، وهي كالنجوم عدداً فلا تحصى؛ حتى تشرب هذه الأمة، سقانا الله وإياكم من يد النبي صلى الله عليه وسلم شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً. وأما اللمعان فهذه الأواني تبرق وتتلألأ وكأنها تنادي على صاحبها ليشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم. وأما لون هذا الماء -رزقنا الله وإياكم شربه- فهو أبيض من اللبن كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما طعمه فأحلى من العسل، وأيضاً هذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما رائحته فأطيب من ريح المسك، فهل رأيت ماءً بهذه الأوصاف؟!! فما بالنا لا نسارع في الخيرات؟! وما بالنا لا نشتاق إلى شربة من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نظمأ بعدها أبداً؟! فهذه هي صفة حوض النبي صلى الله عليه وسلم طولاً وعرضاً، وآنية، ولوناً، وطعماً، ورائحة، فمن الذين سيتشرفون بالشرب من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن المبعدون الخاسرون؟ ومن الذين يخزيهم الله يوم القيامة فلا يشربون من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء الخاسرين.

أصناف الواردين على الحوض

أصناف الواردين على الحوض وأما الذين يَردون هذا الحوض بعد الظمأ الشديد، وبعد العطش القاتل، فيشربون شربة واحدة كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الشربة لا يظمأ بعدها العبد أبداً فهم المؤمنون الذين آمنوا بالله جل وعلا واتبعوا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والذين رضوا بالله رباً وبرسوله نبياً ورسولاً صلى الله عليه وسلم، وبالإسلام ديناً، والذين غلبت حسناتهم على سيئاتهم، والذين قدموا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد، والذين قدموا كتاب الله على كتاب أي أحد. فإن قيل: وكيف يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمم متشعبة والناس كثر من لدن آدم عليه السلام وإلى آخر الخليقة، خاصة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإني لأذود الناس عن حوضي) أي: يدفع الناس عن حوضه صلى الله عليه وسلم؟ فأقول: قد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السؤال من أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، فأجاب إجابة وافية فقال: (تبعثون يوم القيامة غراً محجلين)، والغرة: هي البياض في الجبهة، والتحجيل يكون في اليد وفي الرجل، وهذا يكون من الوضوء، فيستقبلهم في حوضه ويسقيهم، فكل واحد يشرب منه شربة هنيئة فإنه لا يظمأ بعدها أبداً. وأما المبعدون والخاسرون والهالكون فيا حسرة عليهم، بل غير مأسوف عليهم، فإنهم سيردون عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم المنافقون والمبتدعون والكافرون ومن ارتد عن دين الله جل وعلا، فقد حرِّم عليهم أن يشربوا من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أحوج ما يكونوا إلى جرعة ماء، فجزاهم الله جزاءً وفاقاً وأجراً طباقاً، فمن ارتد ردة كلية، أو ابتدع في دين الله فهو مبعد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد صور لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشهد أيما تصوير، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني لأذود الناس عن حوضي وليختلجن -أي: يخطف- أقوام من أمتي، فأقول يا رب! أصحابي أصحابي، فيقال: يا محمد! إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم جزاءً وفاقاً: (فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي، بُعداً بعداً لمن بدل بعدي). فالمبتدع لا يشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتشرف بمس يد النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، ولا غرو ولا عجب أن يمنع هذا المبتدع من الشرب؛ إذ المبتدع أبى الله عليه أن يتوب، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حجب التوبة عن كل مبتدع) وجاء بسند صحيح عن الثوري أنه قال: البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية؛ لماذا؟ لأن صاحب البدعة يقاتل عليها وينافح عنها كما سنبين. وأما العاصي فحتى لو ارتكب الكبائر فإنه يعترف بأنه على خطأ ومعصية، فمثل هذا نرجو أن يقلع عن تلك المعاصي، وقد نقول: إن المبتدع تلحقه وتدركه لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بعدها من لعنة! فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من آوى محدثاً)، وآوى محدثاً، أي: أن الذي يئوي المبتدع فقط ملعون، فما بالكم بالذي ابتدع في دين الله جل وعلا، ودافع عن هذه البدعة؟! فالمبتدع أول ما يصاب في عرصات يوم القيامة، فإن احتاج إلى الماء فلا يشرب شربة هنيئة من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليختلجن أناس من أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (يا رب! أصحابي أصحابي، فيقال: يا محمد! إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول: سحقاً سحقاً، بعداً بعداً)، نسأل الله جل وعلا أن يسقينا جميعاً من يد النبي صلى الله عليه وسلم شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً.

المنكرون لهذا الحوض

المنكرون لهذا الحوض وقد أنكرت المعتزلة هذه العقيدة الثابتة ثبوت الجبال الرواسي، فعليهم من الله ما يستحقون، وخليق بهؤلاء ألا يروا الله جل وعلا، وخليق بهؤلاء ألا يشربوا من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الظمأ الأعظم، فقد أنكروا الحوض وقالوا: لا حوض، ولا شرب من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والرد عليهم: بأن هذه الأحاديث ثابتة ثبوت الجبال الرواسي، فإنها سنة متواترة، فقد خالفوا صريح السنة، وخالفوا إجماع أهل السنة والجماعة، فلا يسمع لهم ولا كرامة. فهذه هي الفائدة الأولى: إثبات حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يشرب منه ومن يرد عنه.

كل فضل ونعمة فمن الله، وكل عقوبة وذم فبما كسبته الأيدي

كل فضل ونعمة فمن الله، وكل عقوبة وذم فبما كسبته الأيدي الفائدة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يجني كل امرئ إلا على نفسه) يعني: لا يعاقب إلا بجريرة نفسه، والتأصيل في ذلك بإيجاز: أن كل فضل وكل نعمة وكل إكرام وكل طاعة وكل تسارع في الخيرات لا يكون إلا من الرب الجليل، وليس منك فيه شيء، فقد قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، وقال جل في علاه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل:78]، وأيضاً كل ذم وكل عقوبة تأتي عليك فهو بما كسبت يداك، قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] وقال: {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال جل في علاه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]. وفي الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابتة وهم أفضل الخلق بعده: (إنكم لن تدخلوا الجنة بعملكم، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته). هذا فيه دلالة واضحة على أن كل خير يصيب الإنسان فإنما هو بمحض فضل الله جل في علاه، وكل مصيبة تصيبه فإنما هي بما كسبت يداه، وقد جمع الله بينهما في كتابه، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، فجمع الله بينهما في هذه الآية بإيجاز عظيم. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث العظيم فيما يرويه عن ربه: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). فكل إنسان بصير بنفسه، فإذا رأى نفسه في زيغ وفي ضلال وفي معصية فلا يلومن إلا نفسه، ومن وجد نفسه في طاعة وقرب من الله جل وعلا فليحمد الله؛ فإن الفضل كله بيد الله سبحانه جل في علاه. وبقيت هنا مسألة من المهمات وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن المشركين الذين قتلوا في بدر وفي غيرها قال: (هم في النار)، بل أوصى وقال: (إذا مررت على قبورهم فقل: أرسلني إليكم محمد صلى الله عليه وسلم أن أبشركم بما يسوءكم: تجرون على بطونكم ووجوهكم في نار جهنم، فقال رجل من قريش يخشى على آبائه أو قال: وجدت الحر في صدري فقلت: وأهلك يا رسول الله؟! قال: وأهلي) يعني: وأهل النبي صلى الله عليه وسلم في النار.

من كان في النار من أهل النبي

من كان في النار من أهل النبي وأهل النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم في النار هم: عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم، وآمنة، أم النبي صلى الله عليه وسلم، فسننظر هل أهل النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء في النار أم في الجنة؟ وننظر كيف أن أهل البدعة يميلون بقلوبهم ويخالفون الشريعة من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بهذه الطريقة يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عبد المطلب في النار

عبد المطلب في النار أولاً: عبد المطلب، فلا خلاف أنه من أهل النار، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فـ عبد المطلب في نار جهنم خالداً مخلداً فيها، فلِم ذلك مع أنه لم يأت له رسول والله جل وعلا يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فهو من أهل الفترة؟ فنقول: ليس من أهل الفترة، بل عنده بقايا من رسالة إبراهيم عليه السلام، وأيضاً رسالة عيسى عليه السلام، والدليل على ذلك: أن عبد المطلب عندما جاء أبرهة الملعون -عليه من الله ما يستحق في قبره- حتى يهجم على الكعبة قال: أما الإبل فأنا ربها، وأما البيت فله رب يحميه، ولذلك قال له أبرهة: لقد كنت عزيزاً في عيني، فلما قلت هذا الكلام نزلت من نظري، قال: لا والله! إن البيت يحميه ربه، وأما الإبل فأنا ربها. فهو يعلم أن الرب جل وعلا الذي خلق هذا الكون قادر على كل شيء، ومع ذلك أشرك بالله معه غيره. فلذلك نقول: لا خلاف في أن عبد المطلب خالد مخلد في نار جهنم، وهو من أهل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه حكمة البارئ سبحانه جل في علاه.

أبو طالب في النار

أبو طالب في النار ثانياً: أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مختلف فيه، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في عصره، فكان يحوطه ويدافع عنه وينصره، فـ أبو طالب في النار خالداً مخلداً فيها أيضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه هذه الرسالة فلم يقبلها، وهذا أولاً. الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر بكفره. الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه في النار خالداً مخلداً فيها، وهذه بعض الأدلة على ذلك: الدليل الأول: جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عمه أبا طالب فقال له: (يا عم! قل كلمة واحدة أحاج لك بها عند الله)، يعني: كلمة لا إله إلا الله، فإن قلت ذلك كانت حجة لي أن أشفع لك عند ربك فتدخل الجنة، لكن قرناء السوء، والعصبية المنتنة للجاهلية جعلته يموت على ملة عبد المطلب، فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعدما قال له: (قل: لا إله إلا الله فأبى) يقول: (لأستغفرن لك ما لم أنهَ عنك)، وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار. الدليل الثاني: ما ذكره أهل السير أن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه بعدما مات أبو طالب قال: (يا رسول الله! قد هلك عمك الكافر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اذهب فواره)، فهذا إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال له: قد هلك عمك الكافر، فقال: اذهب فواره. الدليل الثالث: وهو فصل النزاع الذي لا يمكن لأحد أن يدخل عليه، فقد جاء في الصحيحين: (أن العباس جاء فقال: يا رسول الله! ماذا فعلت لعمك فقد كان يحوطك، وكان ينصرك، وكان يؤازرك؟ فقال: لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار، فهو الآن في ضحضاح، يلبس نعلين من نار يغلي منهما دماغه، يرى أنه أشد أهل النار عذاباً)، فهذا فاصل النزاع. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أنا) فيه شفاعة هنا خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.

عبد الله أبو النبي في النار

عبد الله أبو النبي في النار ثالثاً: أبو النبي: عبد الله، وهو كافر خالد مخلد في نار جهنم، وهذا نقوله صراحة، ولا نفعل كحال بعضهم عندما يبكي ويضحك على الناس ببكائه المزيف ويقول: كيف تقرءون هذه الآيات: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، وتتجرءون على ذلك، فهذا فيه تجريح للنبي صلى الله عليه وسلم؟! نسأل الله العفو والعافية. فنقول لهذا: هل نبتر هذه الآية من أجل عاطفتك المزعومة المزيفة، وبعضهم يقول: كيف تقولون: إن أبا طالب مات كافراً؟! ومن باب أولى أن ينكروا أن عبد الله أبا النبي صلى الله عليه وسلم قد مات كافراً، وأنه خالد مخلد في نار جهنم، وسنثبت ذلك بالدليل. وقد يقول بعضهم: إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم قد مات قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تأته الرسل، والله جل وعلا يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فنقول: إن معنى (نبعث رسولاً) إما الرسول بذاته، أو رسالته بالبلاغ، (فبلغوا عني ولو آية)، وقد وصلت لهم رسالات إبراهيم وموسى وعيسى، والدليل على ذلك: أن ورقة بن نوفل قد تنصر، وكان يوحد ربه جل في علاه ويعبد الله بشريعة موسى، وهذه العبادة كانت في وقتها صحيحة؛ فيتعبد بأي شريعة من الشرائع، سواء شريعة موسى أم شريعة عيسى، فالغرض المقصود: أن يوحد ربه جل في علاه. والنبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة وجد تصاوير إبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام -لتعلم أنهم كانوا يأخذون بدين إبراهيم- فقال: (والله لقد كذبوا عليهما، ما استقسما بالأزلام قط). وقالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (يا رسول الله! عبد الله بن زيد بن جدعان كان يكرم الضيف ويتصدق ويفعل الخير، فهل له من شيء في الآخرة؟ قال: لا شيء له، قالت: لِمَ يا رسول الله؟! قال: إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، فكيف عرف أن الله يأخذ بالذنب ويغفر إلا من شريعة إبراهيم عليه السلام التي بلغتهم. والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الرجل يقول: (يا رسول الله! أين أبي؟ قال: أبوك في النار، فتمعر وجه الرجل أمام الصحابة الكرام، فقال صلى الله عليه وسلم: إن أبي وأباك في النار) وهذا في الصحيح، فهذا تصريح بنص في محل النزاع.

أم النبي في النار

أم النبي في النار رابعاً: أم النبي صلى الله عليه وسلم آمنة، فأم النبي صلى الله عليه وسلم كافرة ومخلدة في نار جهنم، قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، فننظر إلى ذلك بعين القدر وعين الشرع، فنبكي بكاءً دماً لا دموعاً على أن أم النبي صلى الله عليه وسلم كافرة في نار جهنم، وقد بكاها النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في نار جهنم، ونحمد الله أيضاً على أن الله جل وعلا خلقنا مسلمين، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، فعلى المرء أن يحمد الله صباحاً ومساءً على هذه النعمة، فأبو النبي مخلد في نار جهنم، وأم النبي مخلدة في نار جهنم، وعم النبي مخلد في نار جهنم، وهذه حكمة البارئ سبحانه وتعالى، فأم النبي صلى الله عليه وسلم في نار جهنم والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، فاستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي)، أقول: قال: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي)، والمانع أنها من المشركين، والله قد نهاه أن يستغفر للمشركين. إذاً: فأهل النبي صلى الله عليه وسلم في النار: عبد المطلب في النار، وأبو لهب في النار، وأبو طالب في النار، وعبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم في النار، وأم النبي صلى الله عليه وسلم آمنة في النار، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذه هي حكمة البارئ.

شبهات القائلين بأن عم النبي وأبويه ليسوا من أهل النار والرد عليها

شبهات القائلين بأن عم النبي وأبويه ليسوا من أهل النار والرد عليها وقد أبى المتنطعون الذين يهرفون بما لا يعرفون، والذين يخرفون ويضللون الناس أبوا على هذه الأحاديث الصحيحة أن تسطع كشمس النهار فتعلم الناس، وأبوا علينا ذلك، فقالوا: لا والله لا نرضى بهذا، بل أبو طالب في الجنة، وأبو النبي عبد الله في الجنة، وآمنة في الجنة، فنقول لهم: اتقوا الله في أنفسكم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أبي وأبوك في النار) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي) فكيف تقولون هذا؟ قالوا: بالأثر والنظر، وهذا الكلام تلبيس، ووالله الذي لا إله إلا هو مع تدقيق النظر في كلامهم تقول: حقاً إن إبليس فقيه في الشر؛ فإنه يلبس على الناس، وصدق الله إذ يقول: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121]، وليدحضوا الحق بالباطل، فقالوا: أولاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم (أبي وأبوك في النار)، هذا حديث صحيح ولا نستطيع أن نضعفه، لكن معناه: جدي وأبوك في النار، يعني: عبد المطلب، ولا يقصد أباه عبد الله، والدليل على ذلك: قول الله تعالى عن يوسف: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ} [يوسف:38] الآية، وإبراهيم هو جد يوسف، إذاً يطلق الأب على الجد. وقالوا أيضاً: آمنة في الجنة، والدليل على ذلك؟ ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله أحيا أباه وأحيا أمه، فدعاهما إلى الإسلام فدخلا الجنة بعدما قبلا الإسلام)، وهذا حديث مهلهل، وبه يحتج السيوطي، وقد ضرب صفحاً عن الأحاديث التي في الصحيحين، والتي أسانيدها كالشمس الساطعة في وضح النهار. وقالوا أيضاً: أبو طالب في الجنة، وكيف يفعلون بالحديث الذي في الصحيح من أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إليه فقال: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)؟ فقالوا: لا، أبو طالب في الجنة بالأثر والنظر، قلنا: كيف بالأثر والنظر؟ قالوا: أما الأثر فحديث النبي صلى الله عليه وسلم (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)، وهذا الحديث صحيح كالشمس، قالوا: وأعظم يتيم على الإطلاق في الدنيا كلها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً فأعظم كافل هو أبو طالب؛ لأنه هو الذي كفل النبي صلى الله عليه وسلم. وأما النظر: فنصرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومدافعته عنه صلى الله عليه وسلم، فإن الله لا يرد هذا الفعل الخير. أما الجواب عن شبههم هذه فكالآتي: فأما قولهم في حديث: (إن أبي وأباك في النار) وأن المقصود به عبد المطلب، فالرد على ذلك من وجهين: أولاً: أن الأصل الموضوع له لفظ (الأب) أنه هو الذي أنجب، فالأصل أن الأب هو الذي أنجب، فهذا هو الظاهر، ولا ننتقل إلى غيره إلا بدليل، ولا دليل هنا. ثانياً: نتنزل معك أيها القائل: أن الأب يطلق على الأب الأصل الذي أنجب وعلى الجد أيضاً، فنقول: إذاً فالأب والجد في النار -تنزلاً- ولا يخرج واحد منهما إلا بدليل، وله أن يعارضني ويقول: أخرجتُ الأب بحديث: (أن الله أحيا أباه عبد الله وأمه آمنة فدعاهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلما)، فأقول: هذا الدليل لا يسمن ولا يغني من جوع؛ لأن الحديث موضوع هالك الإسناد، فلا يصح أن يحتج به، إذاً: فيبقى الحديث الذي في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبي وأبوك في النار). ثالثاً: يلزمك أنك إذا قلت بأن لفظة (الأب) تطلق على الجد وجد الجد أن يتنزل ذلك على إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فإسماعيل جد النبي صلى الله عليه وسلم ينزل منزلة الأب، وأيضاً إبراهيم جد النبي صلى الله عليه وسلم ينزل منزلة الأب، فإذا قلت: لا، إنما يتنزل ذلك على الجد الأقرب، فنقول لك: لم لا تقول: والجد الأبعد، فإذا قال: لأن الأدلة كلها متوافرة متظافرة على أن هؤلاء رسلاً وهم في الجنة، فنقول: وكذلك الأدلة متوافرة ومتظافرة على أن عبد الله في النار، فهذا الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبوه، ولا يدافع عن أبيه، وهو الذي قال: (أبي وأبوك في النار). وأما الجواب عن الشبهة الثالثة وهي: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) فنقول: نحن نوافق ونقر أن أعظم من كفل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو طالب، ونحن أيضاً نقر أن هذا الحديث صحيح كالشمس: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)، والرد على هذه الشبهة من وجوه ثلاثة: الوجه الأول: أن الذين يثابون على الأعمال الصالحات هم المؤمنون خاصة لا الكافرون، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97]، فقيد ذلك بالإيمان، ولم يقل: من عمل صالحاً من ذكر أو أثنى وهو كافر فإنها تكون له الحياة الطيبة في الدنيا وفي الآخرة، وعمه أبو طالب كان كافراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (قل: لا إله إلا الله) فلم يقل: لا إله إلا الله، ومات على ملة عبد المطلب. الوجه الثاني: أن أعظم الصالحات التي قدمها من النصرة والكفالة قد عجل ثوابها له في الدنيا وله أيضاً في الآخرة، فإذا عمل صالحاً فإنه لا يضيع هباءً منثوراً، بل إن الله جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً، فإنه يعجل للكافرين صالح أعمالهم في الدنيا دون الآخرة، ففي حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن زيد بن جدعان كان يفعل الخير، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في الدنيا ولا شيء لهم في الآخرة، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على ما أسلفت)، وبين الله أن الكافر إذا عمل خيراً فإنه تعجل له طيباته في الدنيا إذا شاء الله، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18]. الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر بأنه كان ينصره ويؤازره، ومع ذلك بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذه المؤازرة أنه في ضحضاح من النار خالداً مخلداً فيها، أو هو يلبس نعلين من نار تغلي منهما دماغه. أيضاً: قد نفعته شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة بسبب الصالحات التي قدمها برسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وكانت هذه الشفاعة خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ أن الكافرين لا شفاعة لهم، قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وقال تعال: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]. فهذا تصريح بأنهم وهم في النار يصرحون أنه لا شفيع يناصرهم أو يشفع لهم، وكانت هذه خاصة لـ أبي طالب، فالنبي صلى الله عليه وسلم شفع له في الآخرة حتى يخرج من الدرك الأسفل من النار ويكون في ضحضاح من النار. فهذه الشبهة الثالثة وقد أميتت بفضل الله سبحانه وتعالى، وهذه النار قد أخمدت، وأهل البدع هم الذين ينفخون في هذه النار ويقولون: تتجرءون على رسول الله، وأنتم لا تحبون رسول الله، ويبكون ويتباكون زيفاً وزوراً وبهتاناً، ويصادمون كتاب الله، ويصادمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن نقر هنا أن عبد المطلب في النار، وأبا طالب في النار، وعبد الله في النار، وآمنة في النار، هذا بتصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لنا لا نؤمن بذلك وهي شريعة غراء، وما لنا لا نؤمن بذلك والله جل وعلا أرحم بالعباد من أمهاتهم وأنفسهم، وقد قضى كوناً أن هؤلاء من أهل النار. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

ذكر أبواب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - ذكر أبواب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لقد خص الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بشفاعات دون غيره، ومنها: الشفاعة العظمى لفصل القضاء بين الخلائق، ومنها شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة؛ لأن الجنة لا تفتح إلا له صلى الله عليه وسلم، ومنها شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب بأن يخفف عنه العذاب، وقد خصه سبحانه بهذه الشفاعات إظهاراً لرفعته ومكانته عنده سبحانه، وهو كذلك يشترك مع بقية الرسل والأنبياء والملائكة والمؤمنين في بقية الشفاعات.

تعريف الشفاعة لغة واصطلاحا

تعريف الشفاعة لغة واصطلاحاً إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ذكر أبواب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، التي قد خص بها دون الأنبياء سواه، صلوات الله عليهم لأمته، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء، صلوات الله عليهم، وشفاعة بعض أمته لبعض أمته، ممن قد أوبقتهم خطاياهم وذنوبهم، فأدخلوا النار ليخرجوا منها، بعدما قد عذبوا فيها بقدر ذنوبهم وخطاياهم التي لا يغفرها لهم، ولم يتجاوز لهم عنها بفضله وجوده، بالله نتعوذ من الله]. الشفاعة: اسم مشتق من شفع يشفع، وهو ضد الوتر، والشفع: أن تجعل الشيء اثنين، وكأنه مشتق من أن الشافع يضم شفاعته مع سؤال المشفوع له؛ حتى تقبل هذه الشفاعة. واصطلاحاً هي: التوسط من وجيه أو من له وجاهه للغير؛ لجلب منفعة أو دفع مضرة، والمصنف هنا يشير إلى الشفاعة الأخروية.

حقيقة الشفاعة الدنيوية وحكمها

حقيقة الشفاعة الدنيوية وحكمها الشفاعة شفاعتان: شفاعة دنيوية، وشفاعة أخروية: أما الشفاعة الدنيوية: فهي التوسط من الصالح أو من الوجيه لبعض إخوانه لجلب منفعة أو دفع مضرة. كأن يتوسط رجل وجيه عند ولي الأمر لشخص ما لدفع مضرة أو عقوبة أو لجلب منفعة لهذا الشخص. هذه الشفاعة الدنيوية جائزة، بل ويؤجر عليه المرء، ودليلها من الكتاب: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ} [النساء:85]، ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء)، فمن شفع لأخيه في تفريج كربة فرج الله كربته يوم القيامة، ومن شفع لأخيه في حاجة آتاه الله أفضل مما شفع فيه. لكن لنا ملحظ مهم جداً، وهو أن بعض الذين يشفعون لتيسير أمور معينة يأخذون على هذه الشفاعة أجرة، وهذا لا يجوز؛ لأن الشفاعة عبادة، وكل عبادة أجرها على الله جل في علاه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء). والأصل في العبادات ألا يؤخذ عليها أجرة أبداً، كما قلنا في الإمامة والأذان وتعليم القرآن، كل ذلك لا يجوز أخذ الأجرة عليها، إلا المستثنى منه بالأدلة الشرعية التي ليس هذا بابها. الغرض المقصود أن الأصل في الشفاعة والتوسط للغير أنه لا يجوز للمرء أن يأخذ عليه أجراً. ولا تجوز الشفاعة في حد من حدود الله جل في علاه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ينتصر لنفسه قط، وما كان يغضب لنفسه قط، إلا أن تنتهك محارم الله، ففي الحديث: (كانت امرأة من بني مخزوم تجحد العارية، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقيم عليها حد السرقة، وهو: قطع اليد، فقالوا: من يشفع عند رسول الله؟ فقالوا: حب رسول الله أسامة بن زيد فقام أسامة -وهو لا يعلم أن هذا لا يجوز- فكلم رسول الله في شأن المرأة المخزومية، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال: أتشفع في حد من حدود الله، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). إذاً: الشفاعة لا تجوز في حد من حدود الله جل في علاه إذا وصلت وبلغت إلى ولي الأمر. وهذه في الشفاعة الدنيوية.

أنواع الشفاعة الأخروية

أنواع الشفاعة الأخروية أما الشفاعة الأخروية فهي: شفاعة، مثبتة، وشفاعة منفية.

الشفاعة المنفية

الشفاعة المنفية الأولى: الشفاعة المنفية: هي الشفاعة للمشركين، وهذه لا تقبل بحال من الأحوال؛ لأن المشركين لا شفاعة لهم، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48]. وقال الله تعالى حاكياً عن المشركين أنهم قالوا: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]. وقال جل وعلا: {أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] إذاً: الشفاعة للمشركين منفية نفياً باتاً. أيضاً من الشفاعة المنفية شفاعة الأصنام عند الله جل في علاه، فالمشركون عبدوا الأصنام -لتشفع لهم، وهي شفاعة متوهمة باطلة- فلما سئلوا عن ذلك قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} [الزمر:3]، فقال الله تعالى لهم {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3]. فالله جل وعلا نسبهم إلى الكفر والكذب، إذ إن الأصنام ليس لها مكانة عنده جل في علاه. ومن أنواع الشفاعة المنفية: الشفاعة بغير إذن الله، ولو كانت من أولياء الله جل في علاه، ولو كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشفاعة المثبتة وشروط صحتها

الشفاعة المثبتة وشروط صحتها الشفاعة الثانية: الشفاعة المثبتة: وهي التي أثبتها الله جل في علاه، وهي الشفاعة للمؤمنين الموحدين فقط. وحتى تقبل هذه الشفاعة لا بد لها من شرطين اثنين: الشرط الأول: إذن الله جل في علاه لهذا الشافع، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة:255]. وقال جل في علاه: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} [النجم:26]، هذا الشرط الأول. الشرط الثاني: أن يرضى الله عن الشافع، وعن المشفوع، كما قال الله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]. فلا بد من الرضا عن الشافع والمشفوع. الحكمة من الشفاعة: أولاً: إكرام الشافع وإظهار فضله ومكانته وكرامته على الله جل في علاه. ثانياً: جلب النفع للمشفوع له، أو دفع الضر عنه.

أقسام الشفاعة المثبتة

أقسام الشفاعة المثبتة لقد قسم العلماء الشفاعة المثبتة إلى قسمين: شفاعة خاصة، وشفاعة عامة.

الشفاعة الخاصة

الشفاعة الخاصة الشفاعة الخاصة: هي التي تختص برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه لا يشارك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أحد أبداً، وإنما خصها الله برسوله صلى الله عليه وسلم كرامة له، وإظهاراً لحبه، ورفعة له يوم القيامة، وهذا هو المقام المحمود الذي وعد الله له رسوله صلى الله عليه وسلم. وهي أنواع ثلاثة: أعظمها: شفاعة الموقف، عندما يشتد الكرب ويزلزل الناس زلزالاً شديداً، في يوم: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] حينها يقول الناس كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (نذهب إلى آدم، فآدم أبو البشر خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، فله الكرامة عند الله حتى يفصل بيننا، فيذهبون إلى آدم فيقول: لست لها، قد أكلت من الشجرة ونهاني ربي عنها، لكن اذهبوا إلى نوح فهو أول رسول إلى البشرية، فيذهبون إلى نوح فيقول: لست لها، قد سألت الله ما ليس لي به علم، لكن اذهبوا إلى إبراهيم أبي الأنبياء، فيذهبون إلى إبراهيم فيقول إبراهيم عليه السلام: لست لها، قد كذبت ثلاث كذبات، لكن اذهبوا إلى موسى كليم الله، اصطفاه الله جل وعلا برسالاته وبكلامه، فيذهبون إلى موسى فيقول موسى عليه السلام: لست لها، وفي كل مرة يقولون: ألا ترى ما ألم بنا؟! ألا ترى ما نحن فيه من كرب؟! ألا ترى ما نحن فيه من الشدة؟ وكل رسول يقول: لست لها، فموسى يقول: اذهبوا إلى عيسى روح الله، فيذهبون إلى عيسى فيقول: لست لها، اذهبوا إلى محمد، عبد غفر الله له ما تقدم وما تأخر، فيذهبون إلى رسول الله فيقول: أنا لها، أنا لها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فأستأذن على ربي فأذهب إلى تحت العرش فأخر ساجداً). وهذه كرامة وشرف له صلى الله عليه وسلم، فقد أذن الله له فقام أمام الخلق أجمعين؛ ليظهر الله جل وعلا كرامته بأن قبله شفيعاً، فيذهب فيخر تحت العرش ساجداً لله. ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (فأحمد الله جل في علاه بمحامد لم أكن أعلمها أعلمنيها ربي، وأثني عليه، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع، فيشفع محمد صلى الله عليه وسلم في الفصل بين العباد، فيأتي الله جل وعلا ويفصل بين العباد). وهذه الشفاعة العظمى خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]. فهذا هو المقام المحمود، وكما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حضنا أن نقول بعد انتهاء الأذان: (اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه اللهم المقام المحمود، الذي وعدته) فالمقام الذي وعد الله جل في علاه نبيه صلى الله عليه وسلم هو أن يقوم يوم القيامة -بعدما تنحى كل رسول وقال: نفسي نفسي- فيقول: أنا لها، أنا لها، فيشفع لفصل القضاء بين عباد الله يوم القيامة. النوع الثاني من الشفاعة الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم: هي شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة؛ لأنه لا يدخل الجنة قبله أحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من يشفع في الجنة) بعدما يفصل الله بين العباد ويأمر بأهل النار فيقذفون فيها، يبقى أهل الجنة ينتظرون الإذن بدخول الجنة، يريدون الدخول فلا يستطيعون؛ لأن الملك الذي وقف على باب الجنة لا يفتح إلا لشخص واحد وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أول شافع) وقد أشار الله في كتابه إلى ذلك حيث قال عن الجنة: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ} [الزمر:73]، لكن عندما تكلم عن النار قال: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ} [الزمر:71] أي أن النار، لم تنتظر أحداً، فهي مشتاقة للكفار، أما الجنة فقال الله عنها: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ} [الزمر:73] هذه إشارة أنهم ينتظرون حتى يشفع لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، (فيدق رسول الله صلى الله عليه وسلم باب الجنة، فيقال: من؟ فيقول: محمد فيقول: بك أمرت، ألا أفتح لأحد قبلك، فيفتح لأهل الجنة فيدخلون الجنة)، وهذه شفاعة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إظهاراً لفضله وكرامته. وشفاعة أخرى خاصة برسول الله لا يشترك معه فيها أحد ألا وهي: شفاعته لـ أبي طالب، وأبو طالب مستحق الخلود في النار، والشفاعة لأهل النار منفية، كما قال الله تعالى حاكياً عنهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]. فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لـ أبي طالب؛ لأن أبا طالب كان يحوطه ويناصره ويدافع عنه حتى مات، فكرامة لهذه المدافعة وهذه الإحاطة لأكرم خلق الله على الله، فإن الله شفع رسوله خاصة في أبي طالب، حتى أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام لم يشفعه الله في أبيه. لما قال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا فعلت لعمك، فقد كان يناصرك ويحوطك وكان وكان؟ فقال: لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار، هو الآن في ضحضاح من نار، له نعلان يغلي بهما دماغه) يعني خفف الله عنه العذاب بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يرى أنه أشد أهل النار عذاباً، نعوذ بالله من النار، ونعوذ بالله أن ندخلها لحظة واحدة. فهذه الأنواع الثلاثة من الشفاعة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشفاعة العامة

الشفاعة العامة الشفاعة العامة هي التي يشترك فيها رسول الله، والأنبياء والمؤمنون والملائكة، وهي أنواع: أولها: الشفاعة لأهل الجنة أن يرفع الله لهم درجاتهم، فلو كان أحدهم في درجة أقل شفع له النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون في الفردوس الأعلى مثلاً، اللهم اجعلنا جميعاً مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى. ودليل ذلك إشارة من الكتاب وتصريح من السنة، أما الإشارة من الكتاب فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] أي: إذا كان الأب في درجة عليا والابن في درجة دنيا، فإن الأب يشفع لابنه، فالله جل وعلا يقبل الشفاعة من الأب للابن، فيرفعه إلى منزلة الأب، والعكس صحيح، إذا كان الابن في درجة عالية والأب في درجة أقل، فيشفع الابن للأب، فالله جل وعلا يرفعه إلى درجة ابنه، وفي هذا إشارة إلى أنه إذا كانت هذه الشفاعة للمؤمنين فللأنبياء أولى وأحرى. أما التصريح من السنة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما مات أبو سلمة: (اللهم اغفر لـ أبي سلمة وارفع درجته في المهديين). إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في رفعة الدرجات، وهذا فيه دلالة على أن الأنبياء والمرسلين يشفعون لرفع الدرجات. الثانية: الشفاعة في دخول من استحق النار الجنةَ حتى لا يعذب، وهؤلاء هم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، لكن السيئات غلبت على الحسنات فاستحقوا النار، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي المؤمنون فيشفعون فيهم، فيشفعهم الله في هؤلاء فيدخلهم الجنة ولا يدخلون النار، والدليل على ذلك: أهل الأعراف، فهم لا يدخلون النار، وقد وصفهم الله جل وعلا وصفاً بديعاً فقال: {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:46 - 47]. وهذا حديث ظاهر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يموت فيصلي عليه أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه). يعني: هذا الذي مات هو ممن يستحق النار، فيأتي أربعون رجلاً من أهل التوحيد الخلص فيصلون عليه فيشفعون فيه فيشفعهم الله فيه، ووجه الدلالة: العموم الذي في قوله: ما من رجل، فمن كان ولياً لميت فليتحر أهل السنة وأهل التوحيد للصلاة عليه، حتى لو تأخر دفنه؛ صحيح أن من السنة إكرام الميت والمسارعة في دفنه، لكن لولي الميت أن يؤخر ذلك للمصلحة، والمصلحة الأكبر أن يبحث عن أهل الدين والتقوى وأهل السنة والتوحيد الخالص حتى يصلوا عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه إذا صلى عليه أربعون رجلاً فالله جل وعلا يشفعهم فيه ويقبل دعاءهم، فيدخله الله الجنة ولو كان مستحقاً للنار. إذاً: هذه الشفاعة الثانية التي يشترك فيها والملائكة والأنبياء والمؤمنون. الثالثة: الشفاعة لأهل الأعراف بدخول الجنة: فالله جل وعلا يشفع الأنبياء والمرسلين والمؤمنين فيهم، وذلك عندما يقول المؤمنون: (ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويحجون معنا ويزكون معنا، وهم في النار فيتفضل الله بفضله ومحض نعمته سبحانه جل في علاه فيأمرهم أن يذهبوا ويخرجوا من يعرفون من إخوانهم من النار ممن كان في قلبه مثقال شعيرة، أو ذرة من خير إلى أن يتناقص حتى يصلوا إلى من لم يعمل خيراً قط) فهذه لا تكون إلا لله جل في علاه. فالمؤمنون يخرجون إخوانهم، والملائكة يخرجون من يعرفون بأثر السجود.

الرد على منكري الشفاعة لأهل الكبائر

الرد على منكري الشفاعة لأهل الكبائر الخوارج والمعتزلة ينكرون شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر، وأفراخ المعتزلة اليوم ينكرون هذه الشفاعة، ومنهم مصطفى محمود، فهو ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر، وقيل إنه رجع عن هذا القول، وهذا كلام المعتزلة وكلام الخوارج؛ لأن الخوارج أصل اعتقادهم أن فاعل الكبيرة كافر، وهو خالد مخلد في النار، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لفاعل الكبيرة فهذا يهدم أصلهم الذي اعتقدوه، ولذلك ذهبوا إلى هذه الأدلة فهدموهما وردوها، واستدلوا على قولهم بقول الله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]. والرد عليهم أن هذه الآية خاصة بالكافرين، وأهل الكبائر ليسوا بكافرين -لكن فاعل الكبيرة على خطر عظيم- إذا إن الله جل وعلا أرحم ما يكون بعباده، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما كبر: (جاءني جبريل فبشرني أنه من مات من أمتي وهو يقول: لا إله إلا الله دخل الجنة، فقام أبو ذر وقال: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، ثم قال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قال: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق وعلى رغم أنف أبي ذر). إذاً: هذه الآية خاصة بالكافرين، وأما الذين آمنوا ووحدوا الله جل في علاه فهم أسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين عن أبي هريرة قال: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه). فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من أهل التوحيد الذين أخلصوا دينهم لربهم جل في علاه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

مقامات الشفاعة

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - مقامات الشفاعة مقام الشفاعة يوم القيامة مقام عظيم اختص الله به أنبياءه صلوات الله وسلامه عليهم، ومنهم وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي اختصه بشفاعات خاصة دونهم، ثم بعد الأنبياء يأتي أصناف من الناس جعل الله لهم شرف الشفاعة بين يديه، وهم الصديقون والشهداء والصالحون، وهذا من تكريم الله عز وجل لهم، وإحسانه إليهم جزاء ما قدموا في الدنيا من تضحية بملاذ الدنيا وزخارفها في سبيل مرضاة الله ورفعة دينه.

مجمل القول في الشفاعة الخاصة برسول الله والشفاعة العامة

مجمل القول في الشفاعة الخاصة برسول الله والشفاعة العامة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإننا على مشارف الانتهاء من هذا الكتاب الجليل: كتاب التوحيد لـ ابن خزيمة , وما زلنا مع مقامات الشفاعة والكلام على شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد بينا سابقاً أن الناس يخرجون من قبورهم عطشى يهرعون، فتنشق عنهم الأرض سراعاً إلى ربهم جل في علاه, فيخرجون ويشتد عليهم الكرب، ويعظم عليهم الخطب، فيستشفعون بأنبياء الله جل في علاه, فيذهبون إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم، وما من نبي إلا ويقول: نفسي نفسي ويحيلهم على نبي آخر، إلى أن يصلوا إلى رسول صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها، فيذهب تحت العرش فيسجد فيحمد الله جل في علاه بمحامد يعلمه الله إياها آنذاك، فيحمد الله ويثني على الله بما هو أهل له, ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع, ثم يشفع النبي صلى الله عليه وسلم في أن يقضى بين العباد، وهذا هو المقام المحمود الذي شرف الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وكرمه على الخلق أجمعين، وأظهر كرامته ومكانته أمام الخلق أجمعين. وذكرنا أن هذه الشفاعة الخاصة برسول الله تلتها شفاعة أخرى خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً لا يشترك معه فيها أحد، وهي: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، كما يقول الملك: بك أمرت، يعني: لا يمكن أن يفتح قبل محمد صلى الله عليه وسلم, بأبي هو وأمي. وأيضاً هناك شفاعة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: شفاعته لعمه أبي طالب من الكافرين، فلولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شفع في عمه أبي طالب لكان في الدرك الأسفل من النار، وهو في ضحضاح من النار، وهذه أيضاً شفاعة لا يشترك مع رسول صلى الله عليه وسلم فيها أحد. وبعد ذلك شفاعات ثلاث بيناها، وبينا أن هذه الشفاعات يشترك فيها الأنبياء والمرسلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وفوق ذلك فإن الله يظهر كرمه على عباده، فهو لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فإن الله يحسن إلى من أحسن من عباده وتذلل وتقرب وترك الدنيا من أجله، فيكرمه ويظهر كرامته في الآخرة بالشفاعة.

شفاعة الصديقين والشهداء يوم القيامة

شفاعة الصديقين والشهداء يوم القيامة ومن أصحاب هذه المنزلة: الصديقون، فهذه المرتبة تلي مراتب الأنبياء, وأيضاً الشهداء, وأيضاً الأولياء, فمراتب الناس بعد الأنبياء والمرسلين: الصديقون، ثم بعد ذلك الشهداء، ثم بعد ذلك أولياء الله الصالحون. والصديقية تجيء عن محض التصديق، أي: أن يصدق ما أخبر به من قبل الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم, فلا يسمى صديقاً ولا يرتقي منبر الصديقية إلا إذا صدق تصديقاً محضاً بكل ما أتاه من الله جل وعلا ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسان حاله يقول: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأروع الأمثلة على تجسيد الصديقية أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه, فقد جسد لنا معنى الصديقية ظاهراً وباطناً. فأول هذه المراتب: أن يصدق بكل ما أُخبر به من قبل الله وقبل رسوله صلى الله عليه وسلم. والمرتبة الثانية: أن يصدق قوله فعله, والمرتبة الثالثة: أن يصدق ظاهره باطنه, والرابعة والخامسة: التصديق بموعود الله جل في علاه سواءً في الدنيا أو في الآخرة. أولاً: التصديق بما أخبر الله به وبما أخبر به رسوله، وهذه -كما قلت- ضرب فيها أبو بكر أروع الأمثلة مبيناً لنا مكانة الصديقية, فلما كانت ليلة الإسراء ظن كفار قريش أنهم قد ظفروا بما يكذبونه به، فظنوا أنهم قد ظفروا بما يريدون حتى يجعلوا أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه يرتد عما هو فيه. فذهبوا إلى أبي بكر وقالوا: يا أبا بكر! أما رأيت ما زعم صاحبك أو ما يقول صاحبك؟! قال: وما يقول؟ قالوا: يقول: إنه كان البارحة في بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة! فقال أبو بكر -يبين لنا معنى الصديقية- أقال ذلك؟ قالوا: نعم قال ذلك, وهم يظنون أن أبا بكر سيقول: إذاً لا أتبعه، فلا يعقل أن يذهب رجل إلى بيت المقدس -وهو تضرب إليه أكباد الإبل في شهور- ويرجع في ليلة واحدة، فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: إن كان قال ذلك فقد صدق، فلما قال ذلك دهشوا، فبين لهم الدليل القاطع فيما هو أجلى من ذلك, فقال: والله! إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك, أصدقه في خبر السماء. أي: فهذا أعظم من أن أصدقه في ذهابه إلى بيت المقدس ورجوعه في ليلة. وضرب لنا أيضاً أروع الأمثلة في الصديقية رضي الله عنه وأرضاه في الحديبية، وهذه تبين لك مرتبة الصديقية من مرتبة الإلهام, فالفارق بينهما مفاوز، فمرتبة الصديقية أرقى من مرتبة الإلهام, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في عمر: (لو كان في الأمة محدَّث أو مُلهَم لكان عمر) , وهذا الملهَم والمحدَّث الذي تتحدث الملائكة على لسانه بالحق ينزل مرتبة عن مرتبة الصديقية الذي صاحبها يجري الحق على لسانه وقلبه، ولا يحتاج إلى ملك يتكلم على لسانه, فانظروا كيف يبين لنا أبو بكر معنى الصديقية ومرتبتها العليا في صلح الحديبية، فلم يستطع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكذلك كثير من المسلمين تقبل شروط الصلح، وقالوا: نحن في قوة ومنعة فكيف نعطي الدانية في ديننا؟! فقال عمر: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى, قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى, قال: فلِمَ نعطي الدنية في ديننا؟! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني رسول الله ولن يضيعني الله)، وهنا يأتيك شاهد الصديقية، فيذهب عمر إلى أبي بكر -لأن أبا بكر أقرب الناس إلى رسول ويمكن أن يؤثر على رسول الله- فقال: يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟ قال: بلى, قال أليسوا على الباطل؟ قال بلى, قال: فلِمَ نعطي الدنية في ديننا؟! فانظروا إلى الصديقية فلا يفرق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر إلا مرتبة النبوة , ولذلك ورد في بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو لم تنزل الرسالة عليّ لنزلت على أبي بكر) وينظر في أسانيدها، بل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو كان هناك نبي بعدي لكان عمر)، لكن المرتبة الأولى هي مرتبة أبي بكر، وأبو بكر كان يوازي النبي صلى الله عليه وسلم في الخلق، فقال له أبو بكر إلزم غرزه؛ فإنه رسول الله ولن يضيعه الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: إن بين عمر وبين أبي بكر مفاوز فالصديقية أرقى ما تكون. وقد ضرب لنا أبو بكر لنا أروع أمثلتها عند موت النبي صلى الله عليه وسلم, فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه أيضاً لم يستطع أن يصبر على ذلك، فقال: من قال: إن محمداً قد مات لأعلونّه بالسيف, فقام أبو بكر وقال: أسكت، فلم يسكت عمر وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى إلى ربه وسيرجع ليقطع أيدي المنافقين وأرجلهم, ثم قال أبو بكر: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. فالصديقية مرتبة أرقى ما تكون وهي تصديق بموعود الله جل في علاه، وتصديق بنصر الله، والقول فيها يصدق الفعل، والظاهر يصدق الباطن, وكان أبو بكر يعلم أن الله جل وعلا جنّد جنوداً من الملائكة كل صباح ومساء يقولون: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً, فكان يصدق بها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، وكانت تجري منه مجرى الدم رضي الله عنه وأرضاه, فلما استنفرهم رسول صلى الله عليه وسلم للنفقة قال عمر: اليوم أسبق أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه, فأنفق نصف ماله، أو شطر ماله فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ما تركت لأهلك؟ قال تركت لهم مثله، فمدحه وأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم جاء الصديق -الذي يصدق ويستيقن بالله جل في علاه- بماله كله وما أضرب هذا المثال الرائع لنتسلى، فالضياع في دنيانا اليوم والله الذي لا إله إلا هو! هو نفس الضياع الذي حصل لليهود, فقد ضاع اليهود لعدم يقينهم بالله تعالى، ونتيجة لضعف إيمانهم لم يثقوا بربهم جل في علاه، فلما أنزل الله عليهم المن والسلوى وهو طعام شهي لا يمكن أن يستعيضوا عنه بشيء قالوا: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ} [البقرة:61] فهم لا يثقون بربهم جل في علاه, وهذا الضياع الذي نحن فيه سببه أننا لا نثق بربنا جل في علاه بحال من الأحوال, فأنت تخشى من الغرب والشرق، وتخشى من اليمين واليسار، وتخشى من فوق ومن تحت؛ لأنك لا تثق في ربك جل في علاه, فهذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه, يقول: والله! لو جرت الكلاب أمهات المؤمنين لأنفذن جيش أسامة وما ذاك إلا لأنه يثق في الله، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جند أحداً فالنصر معه, وسترى ذلك من أبي بكر ويقينه في الله، اللهم ارزقنا ذلك يا رب العالمين! وأمتْنا عليه, فحلاوة الإيمان هذه لم يصل إليها المرء إلا بذلك, فـ أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه صدق بما أنزل الله فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم بكل ماله، فقال له: (يا أبا بكر ما تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله) فسطر لنا سطراً علمه من كتاب الله لنعمل به, قال الله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82]، فمن خشي على أولاده فعليه بالصلاح والتقى واليقين بالله جل في علاه، {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]، فإذا قالوا ذلك واتقوا الله فإن الله كفيل بأولادهم, وكما تقول في السفر: وأنت الخليفة في الأهل. فكان أبو بكر يستيقن في موعود الله جل في علاه. وفي غزوة بدر كان النبي صلى الله عليه وسلم يتضرع ويتذلل ويخضع ويبكي لله جل في علاه, ويقول: اللهم! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم، ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يبكي ويتضرع مرة ثانية: اللهم! أنجز لي وعدك الذي وعدت، وهذه سنة نعمل بها، ولنعلم أننا لا يمكن أن نخرج من الضوائق إلا أن نتذلل لله جل في علاه, فتغلق كل الأبواب إلا ويبقى باب واحد مفتوح فيه والنصر والرفعة والنجاة, وهو باب الذل لله جل في علاه, فتذلل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقاعدة عند العلماء: أن أعز أهل الأرض هو أذل أهل الأرض لله جل في علاه, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب لنا أروع الأمثلة في الذل والخضوع والمسكنة لله جل في علاه: (اللهم! أنجز لي وعدك الذي وعدت, اللهم! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم) , فيقول أبو بكر المطمئن القلب بما طمأنه به رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله يا رسول الله! إن الله سينجز لك ما وعدك, فما لبث إلا أن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر يا أبا بكر! هذا جبريل على فرسه) , فأنزل الله الملائكة نصراً لهؤلاء المؤمنين. إنها الصديقية! اللهم ارزقنا ذلك يا ربنا! ولذلك كان عمر الفاروق فارس الميدان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الحق لمع عمر)، وقال: (لو سلكت فجاً لسلك الشيطان فجاً غير فجك يا عمر)، وعمر نفسه قال: النبوة ليست لنا، والصديقية من يرتقي إليها, فكان يقول

شفاعة عباد الله الصالحين يوم القيامة

شفاعة عباد الله الصالحين يوم القيامة ثم بعد ذلك تأتي شفاعة أولياء الله الصالحين، كما جاء ذلك في حديث القبضة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن عباد الله الصالحين المؤمنين يقولون: (ربنا إن إخواننا كانوا يصلون معنا، ويزكون معنا، ويحجون معنا)، أي: وهم في النار، فكانوا يصلون ويزكون ويحجون ثم هم في النار، نعوذ بالله من الظلم ونعوذ بالله من الخذلان يوم القيامة, (قالوا: ربنا إن إخواننا كانوا يصلون معنا، ويحجون معنا، ويزكون معنا)، فالله جل في علاه يظهر كرامتهم فيقول: (اذهبوا فأخرجوا من تعرفون من النار, فيخرجون من قال: لا إله إلا الله)، والنار لا تأكل مواضع السجود فمن هم في النار؛ لأن الله جل وعلا حرم على النار أن تأكل مواضع السجود, وكلٌ يعذب في النار على قدر ذنوبه، كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى المصنف بأكثر من حديث تدل على أن النار تأكل الناس على حسب سيئاتهم, فمنهم من تأكله إلى ساقه, ومنهم من تأكله إلى ركبته, ومنهم من تأكله إلى حقوه, ومنهم من تأكله إلى صدره , لكن النار حرم عليها أن تأكل مواضع السجود، فيعرفونهم بذلك فيخرجونهم بعدما ماتوا وصاروا حمماً، فيلقون في نهر الحياة، ثم ينبتون وبعد ذلك يدخلون الجنة).

الرد على من استدل بحديث القبضة على عدم كفر تارك الصلاة

الرد على من استدل بحديث القبضة على عدم كفر تارك الصلاة واستدل المصنف بحديث آخر وهو أرجا حديث عند أهل السنة والجماعة، وهو حديث القبضة: (أن الله يقبض قبضة فيخرج من النار من قال: لا إله إلا الله ولم يعمل خيراً قط)، ولنا وقفة مع هذه اللفظة؛ إذ إن من العلماء من يقول بعدم كفر تارك الصلاة ويتمسكون بهذا الحديث، فيقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط)، ونحن لا نوافق على هذا, وهذا أضعف ما يكون, والرد عليه من وجهين: الوجه الأول: أنهم يوافقوننا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يعمل خيراً قط) مخصوص بأعمال القلوب؛ إذ لا يمكن أن نقول: إن هذا الذي يخرجه الله جل وعلا ليس عنده أصل التوكل أو الخوف أو الرجاء أو المحبة, فأفعال القلوب ركن ركين من أركان الإيمان, فمن فقد أصل التوكل فقد الإيمان, ومن فقد أصل الخوف من الله فقد الإيمان, ومن فقد أصل الرجاء فقد الإيمان, فأعمال القلوب نحن وهم متفقون على أنها ركن ركين من الإيمان, فلو خلا القلب من أعمال القلوب فإن صاحبه يكون كافراً، كما سنبين عند الحديث الآخر الذي استدل به المصنف، وهو حديث الرجل الذي قال: (فذروني وألقوني في البحر، فلما سأله الله عن سبب فعله قال: مخافتك)، والمخافة عمل قلبي، فهذه دلالة على تخصيص معنى: (من لم يعمل خيراً قط) بأعمال القلوب. فكما أبحتم لأنفسكم أن تخصصوا العموم في قوله (من لم يعمل خيراً قط) بأعمال القلوب، فنحن أيضاً عندنا نصوص قواطع تجعلنا نخصص هذا النص، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين المرء وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة)، والشرك والكفر هنا معرف بالألف واللام العهدية، يعني: الكفر الذي تعهدونه وتعلمونه، وهو الذي يخرج من الملة, وهذا يخصص قول الله تعالى: (من لم يعمل خيراً قط) فكما خصصناه بالخوف والرجاء والتوكل فكذلك نخصصه بالصلاة, فيكون معنى الكلام: لم يعمل خيراً قط سوى الصلاة. فمثلاً رجل اسمه محمد وهو من يوم أن خلقه الله جل وعلا وإلى أن مات لم يسجد لله سجدة، ولم يركع لله ركعة، فهل نقول: إنه مؤمن؟! والله هذا ليس بمؤمن بحال من الأحوال، ولا يؤمن باليوم الآخر، ولا أنه سيقف أمام ربه جل في علاه. والرد الثاني على هذا الاستدلال: نقول: إن معنى: (لم يعمل خيراً قط) كما قال المصنف ابن خزيمة رحمه الله هنا: العرب يقولون: لم يعمل خيراً قط في الذي لم يتم الكمال، يعني: في الأمر الناقص غير التام. واستدل على ذلك برواية في مسند أحمد بسند صحيح على ما فيها من الضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيخرجون رجلاً من النار فيقولون له: عملت خيراً قط؟ فيقول: لا)، فهو هنا نفى أن يكون عمل خيراً قط, (فيقولون: عملت خيراً قط؟ فيقول: لا، غير أني كنت أتسامح مع الناس في البيع والشراء)، فهنا لم يعمل خيراً قط إلا أنه كان يتسامح في البيع والشراء، وهذا فيه تخصيص لدلالة أنه لم يعمل خيراً قط، وهذا جزاء وفاق وأجر طباق، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] , فيقول الله تعالى: (تسامحوا عن عبدي كما كان يتسامح مع عبادي) , فهنيئاً للتجار الذين يعملون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سمحاً إذا اقتضى، سمحاً إذا باع، سمحاً إذا أشترى)، والويل ثم الويل للتجار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر التجار! تبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من صدق وبر)، فانظروا إلى فضل الله جل وعلا حيث يقول: (تسامحوا عن عبدي كما كان يتسامح عن عبادي) , وفي رواية أخرى: (يخرجون رجلاً من النار يقولون: عملت خيراً قط؟ فيقول: لا، غير أني قلت لأولادي: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني وألقوني في الريح وفي الماء؛ إن الله لن يقدر عليّ أبداً، فيجمعه الله جل في علاه)، وفي هذه الرواية التي أتى بها المصنف قال: (إن الله لن يقدر عليّ أبداً، فلما جمعه الله قال: ما الذي حملك على ذلك؟ قال: مخافتك, فلما علم الله من صدق قلبه أنه يخشى منه, قال: ادخل الجنة برحمتي). بين لنا المصنف صفات أهل الجنة، وآخر أهل الجنة دخولاً كما يصف ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: وهو يتبسم (إن آخر أهل الجنة دخولاً رجل يحبو على يديه ورجليه حتى يصل إلى ظل شجرة، ثم يصل إلى الجنة، فينظر فلا يستطيع أن يصبر)، وفي روايات أخرى يسأل ويقول: (لا أسأل مرة ثانية, فيقول الله: يا ابن آدم ما أغدرك! فيسأل مرة ثانية, حتى يصل إلى الجنة فينظر إليها فلا يستطيع أن يصبر، والله يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر عنه, فيقول: ربي أدخلني الجنة, فيقول: اذهب فادخل الجنة, فيذهب ليدخل الجنة وهو يصدق بموعود الله, فيعود ويقول: ربي وجدتها قد ملئت! أتسخر مني؟ أو قال: أتضحك مني وأنت رب العالمين؟ فيضحك الله جل وعلا ويقول: اذهب ولك مثل الدنيا وعشرة أمثالها).

الكبر سبب لدخول النار

الكبر سبب لدخول النار ثم بعد ذلك أتى المصنف بصفات أهل النار, وهي صفات كثيرة جداً لكن استجمعت منها صفة هي أسوء الصفات, وهي أجمع الزلات، وهي مذكورة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين كما أورد ذلك المصنف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، نعوذ بالله من الكبر, فالكبر خلق ذميم مهلكة على صاحبه, وهو أم الكبائر, ومنبع الرذائل، وهو القائد إلى الهلاك, وهو أول ما عصي الله تعالى به، فعندما أمر الله جل في علاه الملائكة أن يسجدوا لآدم تكبر إبليس فلم يسجد لآدم وعصى الله جل في علاه ورد عليه الأمر، كما قال الله تعالى وصور لنا ذلك: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، فالكبر -والعياذ بالله- أقبح الذنوب وأكبرها هلكة على ابن آدم. والكبر معناه: التعاظم والتجبر, وهو ازدراء الناس وبطر الحق ودفعه وإنكاره, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكبر غمط الناس وبطر الحق)، وبطر الحق هو: رد الحق كبراً وازدراءً والعياذ بالله، وغمط الناس هو: ازدراء الناس واحتقارهم، فهذا معناه لغة واصطلاحاً.

الأسباب المؤدية إلى نمو الكبر في قلب المرء

الأسباب المؤدية إلى نمو الكبر في قلب المرء والكبر -كما ذكرت- أول ذنب عصي به الله جل في علاه، وله أسباب يجب عليك أن تتعرف عليها؛ حتى تنقي قلبك منها؛ فهو أعظم أدواء القلوب، وأسبابه أربعة أدواء، وهي: العجب والرياء والحقد والحسد. فالعجب: هو الذي يؤدي بصاحبه إلى الكبر والعياذ بالله، فينظر إلى نفسه فيقول: أنا أنا ولا أحد مثلي والعياذ بالله, ويتعاظم في نفسه كما يتعاظم الشيطان في نفسه, فأول درجات الكبر العجب, والعجب مرض قلبي، وهو كبر باطني يظهر بعد ذلك على الجوارح والعياذ بالله، فينظر المعجب بنفسه في الدنيا فلا يرى أحداً مثل نفسه، وهذا يحمله على التكبر على الناس. والحقد يورث البغضاء والكبر، فالحاقد على غيره لا يمكن أن يقبل منه شيئاً، بل يدفعه ويدفع كل ما جاء به, فالحاقد كالحاسد، والحاسد محترق، فالحقد والحسد يورثان البغض ودفع الحقائق وازدراء الناس, مع أنه في قرارة نفسه يعلم أن هذا المرء يستحق التواضع له، ويستحق الانصياع له ومع ذلك لا يقبل منه لأنه حاسد حاقد. وآخر هذه الصفات الرياء، فبعضهم يريد أن يري نفسه ومكانه أمام الناس، وأن يسمع الناس بحاله ويرون مكانته، فالمرائي عندما يشار إليه بالبنان ويأتيه الصغير فيعلمه مسألة يجهلها فلا يمكن أن يقبلها منه؛ لأنه يرائي، ولو قبل منه هذا الكلام أمام الناس فإن الناس سيفضلون هذا الرجل عليه, فيخشى أن تنزل مكانته فلا يرضى بالحق ويدفعه, وعلاج هذه الخصلة يسير، فيمكن علاجها بالإخلاص وبمتابعة مراقبة الله جل في علاه, لكن علاج الحقد والعجب والحسد من أصعب ما يكون، ولن يعافى منه إلا من عافاه الله جل في علاه, نسأل الله جل وعلا أن يعافينا من هذا، والذي ينجي الناس من هذه الأدواء هو الدعاء والتذلل في السحر لله جل في علاه أن ينقي قلبك من هذه الأدواء.

أنواع الكبر

أنواع الكبر إن الكبر أنواع، فمنه الكبر على الله نعوذ بالله من غضبه، وهذا كفر بالله، والكبر على رسول الله والعياذ بالله، والكبر على عباد الله. فالكبر على الله كفر, والكبر على رسول الله كفر, فالكبر على الله قد يكون كبراً على ربوبية الله جل في علاه، وذلك بعدم الانصياع لله جل وعلا, وعدم الإيمان بربوبية الله جل في علاه, وهذا ما فعله الخبيث فرعون فقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ولم يرتضِ بربوبية الله جل في علاه, والأخبث منه النمرود الذي قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، فهذا ينازع الله في ربوبيته والعياذ بالله, فهذا كبر على الله في ربوبيته والعياذ بالله. والكبر الثاني: الكبر على إلهية الله جل في علاه، وهذا حصل من أهل مكة، فقد تكبروا على إلهية الله جل في علاه, وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، وكان أحدهم يأخذ حفنة من التراب ويضعها على رأسه، ويقول: يكفيني هذا، ولا يسجد لله تذللاً ولا خضوعاً، وهذا كبر على إلهية الله جل في علاه وعلى التعبد والتذلل والخضوع والمسكنة لربهم جل في علاه, وهم مقرون بالربوبية، فالكبر هنا: كبر في الإلهية وكبر على شرع الله، مع أن توحيد الإلهية من لوازم توحيد الربوبية, وإمام هذه الطائفة هو إبليس عندما رد الأمر على ربه جل في علاه حين أمره أن يسجد {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فقال الله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:13]، {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:62]. فهو -والعياذ بالله- يقدح في أمر الله وحكمة الله، ويقول: ليس من الحكمة أن تفضل هذا الذي خلق من طين عليّ، فهذا كبر على أوامر الله وشرعه. ومن ذلك ما قاله ذاك الخليع الخبيث المفتون المأفون الذي قال: هذه الآية لا بد أن تشطب، يعني قول الله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فأراد أن يشطبها من كتاب الله جل في علاه، ثم تأتي امرأة هذا الرجل وتقول: إنه يقوم الليل ويصوم النهار، فهذا الرجل كافر مرتد عن دين الله جل في علاه؛ لأنه رد الأمر على الله، وقال: لا يصح أن نفضل الرجل على المرأة , فالرجل والمرأة سواء، والله جل وعلا يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] بل إن العقل الرجيح يقبل ذلك, والقاعدة عند العلماء: الغنم بالغرم والخراج بالضمان, فهذا عدل السماء ولكن هؤلاء الأغبياء السفهاء بله لا يفقهون شيئاً، وهم يعاندون دين الله جل وعلا للمعاندة وللشهرة فقط, فيركبون موجة محاربة الإسلام, فهذا أيضاً كفر وكبر على أوامر وشرع الله جل وعلا، وهي من لوازم ربوبية الله. والكبر على رسول الله يكون برد أوامر رسول الله، وعدم الانصياع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وضرب سنة النبي صلى الله عليه وسلم عرض الحائط والأخذ بقول فقيه, ولله در من قال: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه. وبعضهم يقول: إن عقله يقدم على النص, فنعرض الأحاديث على عقولنا فإن قبلتها العقول أخذنا بها، وإلا رددناها، ووالله إن الذين يقولون: نعرضها على كتاب الله فما وافق كتاب الله أخذنا به، لهم خير من هؤلاء لأن هؤلاء يعرضون الأحاديث على عقولهم الخربة، وطبعاً الأمثلة في ذلك كثيرة، فقد ردوا حديث الذباب وهو حديث رواه أبو داود بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه؛ فإن في أحد جناحيه داء وفي الجناح الثاني الدواء)، وقال في رواية أخرى أوضح من ذلك: (ويتقي بالذي فيه الداء) يعني: أنه أول ما ينزل فإنه يتقي بالجناح الذي فيه الداء، فأنت لو لم تغمسه فسيقع عليك الضر؛ وبعضهم يقول: كيف نعرف ذلك فلعله نزل بالجناح الذي فيه الدواء؟ فنقول: إن السنة قد جاءت مفسرة لكل شيء, قال النبي صلى الله عليه وسلم (وإنه ليتقي بالجناح الذي فيه الداء)، فلا بد أن تغمسه حتى يأخذ الجناح الذي فيه الدواء الداء. ومع ذلك جاء عالم ألماني كافر وبين لهؤلاء المسلمين الذين يردون دين الله ويردون سنة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبحاث كثيرة أن الذباب في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم في أنه تزوج عائشة وهي بنت ست سنين ودخل بها وهي بنت تسع، فيقول أحدهم: أنا عندي عقل أفكر به، فلا يمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم يكون قد تزوجها حتى إن روى ذلك البخاري، وهذا الحديث في البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وهذه الأسانيد كالشمس وهو يردها؛ لأن عقله لم يقبل هذه الأحاديث. وهناك رجل آخر -وقد مات رحمة الله عليه وغفر زلاته وما من أحد إلا وقد زل والله غفور رحيم, لكن نحن نبين أخطاءه- رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وأخرج من قلبه حض الشيطان، وملأه علماً وحكمة)، فيقول: لا لم يشق صدره ولو شقه فإنه سيموت، مع أنه لو قيل له: إن الطبيب الفلاني الماهر أجرى ستين عملية قلب، وسبعين عملية كلى وثلاثين عملية شرايين ونجح فيها، فإنه يصدق بهذا، فهذا الطبيب عنده مهارة وجبريل عليه السلام ليس عنده مهارة، أي فقه هذا لهؤلاء القوم؟!! إن جبريل عليه السلام مأمور من الله جل في علاه، والله جل في علاه إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون. فيرد حديث الشق لأن عقله لا يقبله. وأيضاً رد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، قال: إن البخاري لو رأى تاتشر ما روى هذا الكلام!! فنقول لهذا وأمثاله: سمعنا وأطعنا، ووالله ما علت امرأة عرشاً أبداً إلا وأتت به على دابره، وأتى الله بقومها على دابرهم, فالمرأة ضعيفة {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فمن الأبله السفيه الذي يجعل زمام أمره في يد امرأة؟ فالمرأة إذا جاعت فإنها تبكي كالأطفال، وإذا رأت قتالاً ذهب الوعي عنها، فهي لا تستطيع شيئاً، وما عندها إلا المكياج وحلاوة نفسها وجمال زينتها، وإن كنا لا نقدح في عقلها ولا في أمومتها ولا في مكانتها، لكن لا يمكن أن تصدر امرأة عليك أبداً، ووالله ليس من الرجولة ولا من الشهامة ولا من المروءة ولا من الشرع أولاً أن تقدم المرأة عليك. وبعض أصحاب الفضائيات يقول: إن المرأة كانت محدثة، فمن أين أخذتم العلم أليس من عائشة رضي الله عنها وأرضاها؟ قلنا: نعم، قد تكون المرأة محدثة وقد تكون حافظة وصاحبة أسانيد، بل كان ابن حجر رحمة الله عليه يجلس في مجلس الإملاء ثم بعد ذلك يأتي بامرأته من خلف الستار تملي على طلبة العلم, وهناك نساء كثيرات كن يحفظن علم رسول صلى الله عليه وسلم, لكن أن تقول: إن المرأة تتولى أمر الرجال، وتتولى القضاء فهذا غير صحيح، وجمهور أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم يقولون: إنه لا يجوز بحال من الأحوال أن تتقلد المرأة القضاء, وذهب الطبري أو ابن حزم إلى أنه يجوز للمرأة أن تتولى القضاء، واستدل بتحديث عائشة وغيرها. ونحن نقول: إن الأدلة قاطعة باهرة للعقول في عدم جواز ذلك لقول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، وأتوني بقاضية على مر العصور وكر الدهور في الخلافة الإسلامية، أو حتى في أيام الخلافة عندما وهنت وضعفت، فلابد للإنسان أن يقول: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول على مراد رسول الله. الكبر الثالث: الكبر على عباد الله، وهذا أخس لأنه ليس بكفر لكنه نذير شؤم وهو يؤذن بهلكة المتكبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تخاصمت الجنة والنار، فقالت النار: ما لي يدخلني المتجبرون والمتكبرون)، فأصحاب النار هم المتكبرون. وكتب الله الذل في الدنيا والآخرة على كل متكبر، فأما في الدنيا: فإن الله لا يمكن أن يرفع رجلاً تكبر ونازعه في ربوبيته، فالله يضرب عليه الذل والصغار في الدنيا قبل الآخرة, وفي الآخرة يفضحه على رءوس الخلائق كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر على صورة رجال يغشاهم الذل من كل مكان) نعوذ بالله من التكبر. وقد رأى ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه رجلاً يمشي متبختراً فقال: إن هذا من إخوان الشياطين؛ لأن الشيطان هو الذي يمشي في الأرض مرحاً. وعقاب المتكبر العذاب الأليم، والله جل وعلا لا يحب المتكبرين فكفى بهذه مذمة، وكفى بها عقوبة. والمتكبر ينازع الله في ربوبيته, فكيف يفعل الله جل وعلا فيمن ينازعه في ربوبيته؟ جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله تعالى: (الكبر ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحد منهما ألقيته في النار) , وأيضاً في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه

فوائد أحاديث الشفاعة [1]

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - فوائد أحاديث الشفاعة [1] استنبط أهل العلم من حديث الشفاعة فوائد عظيمة، وما ذلك إلا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، فقد ثبت في هذا الحديث صفة الغضب لله عز وجل، كما ظهرت فيه مكانة النبي صلى الله عليه وسلم بين الرسل، وأن هؤلاء الرسل بشر قد يقعون في بعض الصغائر ويستغفرون الله منها، إلى غير ذلك من الفوائد المذكورة في كتب أهل العلم.

من فوائد أحاديث الشفاعة

من فوائد أحاديث الشفاعة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ما زلنا مع هذا الكتاب الجليل العظيم كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل لإمام الأئمة ابن خزيمة وما زال الحديث عن مسألة الشفاعة. فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم، فدفع إليه الذراع -وكان يعجبه- فنهش منه نهشة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون لم ذلك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الكرب والغم ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم عليه الصلاة والسلام، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وذكر كلماته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى عليه الصلاة والسلام فيقولون: يا موسى أنت رسول الله فضلك برسالاته وبتكليمه على الناس، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟، فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى بن مريم، فيأتون عيسى بن مريم فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله، وكلمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم، وروح منه، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟).

معنى قوله: (ونفخ فيك من روحه) وشبهة النصارى من ذلك والرد عليهم

معنى قوله: (ونفخ فيك من روحه) وشبهة النصارى من ذلك والرد عليهم سنتكلم على فوائد مهمة جداً في هذا الحديث، أول هذه الفوائد: قول النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: (يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده) فيه إثبات صفة اليد وقد تكلمنا عنها. وقوله: (ونفخ فيك من روحه) (من) هذه يتمسك بها النصارى على أنها للتبعيض، ولذلك يقولون: إن عيسى عليه السلام هو جزء من الله، ويستشهدون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) فيقولون: (من) هنا تبعيضية.

أقسام الإضافة إلى الله تعالى ومعناها

أقسام الإضافة إلى الله تعالى ومعناها ومعنى قول النصارى: إن (من) تبعيضية: أن عيسى جزء من الله جل في علاه، وهذا خطأ فاحش إذ (من) هنا ليست تبعيضية، فالإضافة إلى الله جل في علاه إضافتان: أعيان، ومعان، فإن كانت إضافة معان فهي إضافة صفة إلى موصوف، فقولك مثلاً: كرم الله، هذه إضافة معنى، وليست عيناً قائمة تراها تمشي أمامك، فكرم الله إضافة صفة للموصوف، كذلك: قوة الله وعزة الله فإنها إضافة صفة للموصوف. أما إضافة الأعيان فهي كقولك: الكعبة بيت الله، فالكعبة تراها أمامك عيناً قائمة، وإضافتها إلى الله إضافة تشريف؛ لأنها أعظم من أي بيت آخر، ومن أي مسجد آخر، كذلك ناقة الله فهي إضافة تشريف؛ لأن هذه الناقة فيها من المعجزات التي بين الله جل وعلا كما هو معلوم. إذاً: فإضافة الأعيان إلى الله إضافة تشريف، وإضافة المعاني إلى الله إضافة صفة للموصوف. فالروح عين من الأعيان وهي مضافة إلى الله إضافة تشريف، فهذه الروح قد خلقها الله وشكلها وأدخلها في آدم عليه السلام، فقوله: (منه) يعني: من عنده جل في علاه، وليس معنى ذلك أنها جزء منه، فهنا رد على النصارى الذين يقولون: بأن عيسى جزء من الله، فالروح من عند الله خلقها الله جل وعلا، وإضافتها إلى الله إضافة تشريف، ومثل ذلك: السماء والأرض والبحار والجبال فإنها ليست جزء من الله، وقد قال الله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] فإذا أقروا أن السماوات والأرضين والجبال والبحار ليست جزءاً من الله، وأن معنى قوله: ((جَمِيعًا مِنْهُ)) أي: من عنده، فأضيفت إلى الله إضافة تشريف، فكذلك عيسى إضافته إلى الله إضافة تشريف، وروح آدم خلقها الله من عنده وأضيفت إليه إضافة تشريف.

إثبات صفة الغضب لله تعالى

إثبات صفة الغضب لله تعالى الفائدة الثانية: وهي مهمة جداً، ففي قوله: (فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله)، إثبات صفة الغضب صفة ثابتة لله، وهي من صفات الأفعال المتجددة التي تتعلق بالمشيئة إن شاء غضب على فلان وإن شاء رضي عنه، وإن شاء عاقب فلاناً وإن شاء تاب عليه. وقد ثبتت هذه الصفة بالكتاب وبالسنة وبالعقل. أما ثبوت هذه الصفة لله في الكتاب فقول الله تعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وقوله تعالى: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور:9] فهذه الآيتان فيها إثبات لغضب الله جل في علاه. أما من السنة فقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه هذه الصفة حيث قال بقوله: (إن الله كتب في كتابه عنده فوق العرش: رحمتي سبقت غضبي) فقد أضاف الغضب لله جل في علاه، فكل معنى يضاف إلى الله فهو إضافة صفة إلى موصوف. أما ثبوت هذه الصفة بالعقل، فالعبد الذي تنتهك محارمه ولا يغضب لذلك ففي رجولته نقص، وليس من أصحاب المروءات، يقول الشافعي: من استغضب فلم يغضب فهو حمار يعني: أن من استغضبته ولم يغضب فقد ذهبت عنه المروءة والرجولة، فإذا كانت هذه الصفة نقص في حق الإنسان إن لم يتصف بها، فالله أولى أن ينزه عن هذا النقص، وهو سبحانه وتعالى له الكمالات كلها، فإن كانت صفة الغضب عند مواطن الغضب كمالاً في الإنسان فمن باب أولى أن تكون كمالاً عند الله جل في علاه.

أسباب غضب الله تعالى

أسباب غضب الله تعالى إذا قلنا: إن الغضب صفة من صفات الله، تتعلق بالأسباب والأحداث. فما هي الأسباب التي تغضب الله جل في علاه؟

الكفر والشرك

الكفر والشرك إن أكبر وأعظم الأسباب التي تجر إلى غضب الله: الكفر بالله والشرك به، وأظلم الظلم أن يشرك العبد بربه جل في علاه، وأن يصرف العبد العبادة لغير الله، وهو الذي يستحق هذه العبادة، والدليل قوله تعالى: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]. وقوله: عن الذين يقتلون الأنبياء ويكفرون بالله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة:61]. فهذه الآية أثبتت أن الله غضب عليهم، وقال الله تعالى عن قوم عاد: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف:70]، فأمر الله نبيه أن يقول لهم: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} [الأعراف:71] وذلك لأنكم تسوون بين هذه الأسماء والأصنام وبين الله جل في علاه. إذاً: فأكبر وأعظم الأسباب التي تستجلب غضب الله: الكفر بالله والشرك به، علم الإنسان أو لم يعلم، لأننا بينا أن الشرك بالله حتى ولو كان صغيراً فإن الله لا يغفره فهو من أظلم الظلم.

قتل المؤمن بغير حق

قتل المؤمن بغير حق أيضاً من الأسباب التي تستلزم غضب الله جل علاه: قتل المؤمن بغير حق، فإن دم المؤمن محترم وعظيم عند الله، وقد بينا أكثر من مرة موقوفاً ومرفوعاً أن ابن عباس كان يطوف بالكعبة ويقول: (أنت الكعبة شرفك الله وعظمك، وحرمة دم المسلم وعظمة دم المسلم عند الله أعظم منك وأشرف). وكما في السنن بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن أهل السماوات وأهل الأرض اشتركوا في دم امرئ مسلم لأكبهم الله في النار) فإذاً: قتل أو سفك دم المؤمن بغير حق من أظلم الظلم الذي يستلزم غضب الله، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، فمن أسباب غضب الله جل في علاه التجرؤ على دم المؤمن المسلم إذ إن أولياء الله الصالحين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

اليمين الكاذبة

اليمين الكاذبة من أسباب غضب الله تعالى اليمين الكاذبة الفاجرة المنفقة للسلعة الممحقة للبركة، وأعظمها ظلماً في اللعان، كما قال الله تعالى مبيناً حال المرأة التي لاعنها زوجها: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9] ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوقفها وقال: (اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت في الخامسة {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9]) فهذا يستلزم غضب الله. فإذا اعتقد العبد الاعتقاد الجازم بأن الله يغضب، وأن غضب الله يتعلق بالأسباب، وأن غضب الله جل في علاه يستلزم الانتقام -كما سنبين- فإنه لن يتجرأ على حدود الله، ولا على أوامره. فعلى العبد أن يخلص في توحيده لربه جل في علاه، وإذا اقتحم محارم الله وتعدى على إخوانه أو ظلم نفسه فعليه أن يستغفر ربه ويعود ويئوب، ويستحضر هذا الحديث العظيم: (رحمتي سبقت غضبي) فيتوسل إلى الله برحماته ألا يعاجله بالعقوبة، فإن الله يغضب، لكن لا يعاجل بالعقوبة، ورحمته وسعت كل شيء. إذاً: فإذا فعل العبد ما يستلزم غضب ربه فعليه أن يسارع بالتوبة وبالأوبة وبالإنابة إلى الله جل في علاه، ولسان حاله يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84].

عقيدة أهل البدع في صفة الغضب والرد عليهم

عقيدة أهل البدع في صفة الغضب والرد عليهم إن أهل البدعة والضلالة ألحدوا في هذه الصفة، ولم يتعبدوا لله بها، لذلك تراهم يحارون، مع أنهم لو اعتقدوا الاعتقاد الصحيح أن الله له الجلال والكمال، لما تعبوا ولا أتعبوا الناس، ولآمنوا بهذه الصفة، لكن حيرهم الشيطان فاحتاروا وضاعوا وضلوا وأضلوا، فقالوا: إن الله لا يغضب؛ لأنه لو غضب لكان له قلب يتغير ووجه يتمعر، والإنسان إذا غضب تغير قلبه وتمعر وجهه، فلو قلنا: إن الله يغضب فقد شبهنا الخالق بالمخلوق. وقد انقسموا إلى طوائف، فمنهم من قال: لم يغضب الله أبداً، والغضب لا ينسب إلى الله، ومنهم من قال: الغضب ينسب إلى الله، لكن معناه الانتقام، فحرفوا معنى الغضب إلى الانتقام، فبدل أن يقولوا: إن الغضب صفة من صفات الله تعالى قالوا: هو الانتقام. والرد عليهم: أولاً: نقول: نحن نستيقن في ربنا أنه يغضب غضباً له كيفية يعلمها هو ونجهلها، فنحن نفوض الكيفية لربنا، وإذا سألنا سائل وقال: هل يغضب ربنا؟ نقول: نعم نؤمن برب يغضب، فإن قال: كيف يغضب ربنا؟ نقول: الغضب في اللغة معلوم، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، والكيف مجهول، وهوعند الله لا نعلمه، فالله يغضب بكيفية تليق بحلاله وبكماله، أما قولكم: بأن الله إذا غضب يكون كالبشر، فالجواب أن هناك قاعدة مهمة لا بد من ضبطها وهي: أن الاشتراك في الاسم لا يستلزم التساوي في المسمى، فقولنا: يغضب الله ويغضب محمد استويا واشتركا في الاسم، وهذا الاشتراك لا يستلزم التساوي في المسمى؛ فإن غضب الله يليق بجلاله وكماله وعظمته، وغضب محمد أو غضب زيد هو غضب يليق بعجزه ونقصه وفقره. ولا مقارنة بين الغضبين، حاشا لله، فإن غضب الله يليق بجلال الله وكمال الله جل في علاه، وقد أثبت لعبده الغضب وأثبت لنفسه الغضب، وما لنا لا نثبت ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم. أما الذين قالوا: إن الغضب هو الانتقام فهؤلاء هجموا على شرع الله وهدموا المعاني؛ فالله يكلمنا باللغة العربية بلسان عربي مبين، وبلغة نفهمها ونعقلها، وحاشا لله أن ينزل علينا قرآناً لا نعقله ولا نفهمه ولا نتدبره، فالله جل وعلا أنزل علينا القرآن لنتدبر ولنعقل، وما أنزل علينا القرآن لنتخبط ونفهم خلاف ما يريده منا، فهو أخبرنا أنه يغضب، وأيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم وكله الله بمهمة عالية بعد التبليغ وهي البيان، فكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبين إن كان الغضب هو الانتقام ويقول: إن قول الله: ((غضب الله عليه)) معناه: انتقم الله منه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك، وقد قال الله له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]؛ وقال: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] وقال: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]. إذاً: هذا اتهام صريح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فرط وقصر؛ لأنه لم يبين لنا أن الغضب معناه الانتقام، وهذا الاعتقاد منقصة في حقكم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ وبين أتم البلاغ وأتم البيان. ثانياً: أنتم خالفتم الكتاب وخالفتم السنة وخالفتم إجماع الأمة على أن الغضب صفة من صفات الله. ثالثاً: الانتقام لازم من لوازم الغضب، إذ لو غضب الله فإنه يلزم من غضبه أن ينتقم ممن غضب منه، وأنتم آمنتم بأن الله له انتقام ونحن آمنا بأن الله له انتقام، لكن قبلها أثبتنا أن له غضباً يلزم منه الانتقام من المغضوب عليهم، وهنيئاً لمن يقرأ كل يوم في الخمس الصلوات: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فيستلزم ذلك أن الله سينتقم من المغضوب عليهم؛ لأن الله إذا غضب على عبد انتقم منه سبحانه جل في علاه، فنحن نثبت لله صفة الغضب، وأيضاً نثبت لازم الصفة وهو الانتقام.

خوف الأنبياء والرسل من ذنوبهم يوم القيامة

خوف الأنبياء والرسل من ذنوبهم يوم القيامة ومن فوائد حديث الشفاعة فائدة مهمة جداً وهي في قول آدم: (وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي!! وفي آخر الرواية يقول: وكل يذكر ذنباً قد أذنبه). ففي هذا مسألتان مهمتان: الأولى: بشرية الرسل، والثانية: وعصمة الرسل.

بشرية الرسل

بشرية الرسل إن الرسل بشر كما نحن بشر، رداً على من يقول: إن محمداً من نور وإن عيسى ابن الله وإن عزيراً ابن الله حاشا لله جل في علاه، الرسل بشر مثلنا ينسون كما ننسى، ويأكلون كما نأكل، ويشربون كما نشرب، ويقضون حاجتهم، ويجامعون نساءهم، ويفتقرون ويبتلون بلاءات شديدة، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110] فبشرية الرسول الله صلى الله عليه وسلم معلومة، وأيضاً قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء:8] يعني: جعلناهم جسداً يأكلون الطعام فهم بشر، وأيضاً بين الله جل وعلا لرسوله بأن قبله رسلاً كانت لهم أزواج وذرية، فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] فهم من البشرية بمكان. وأيضاً مما يدل على بشرية الرسل أن إبراهيم عليه السلام ألقي في النار، ويونس عليه السلام ابتلعه الحوت، والنبي صلى الله عليه وسلم ضرب بالحجارة وأدميت بذلك رجله الشريفة صلى الله عليه وسلم، فكل هذه الابتلاءات تدل على بشرية الرسل، وليس لواحد أن يقول: إن محمداً قد خلق من نور، أو يقول: إن عيسى روح من الله، أو: إن عزيراً ابن الله، حاشا لله، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد. فقول آدم عليه السلام: (أكلت من الشجرة) لحاجته وحاجة البشر إلى الطعام، فهذه دلالة على بشريته، وأيضاً قوله: (فعصيته) دلالة على بشريته؛ فإن كل بشر جبل على المعصية، وقد جاء في الحديث: (لو لم تذنبوا وتستغفروا لذهب الله بكم، ولأتى بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم)، إذاً: كل إنسان أرسله الله إلى البشرية فهو بشر منهم، والله جل وعلا ما أنزل ملكاً؛ لأنه لو كان في الأرض ملائكة لبعث ملكاً، ولأن البشر لا يستطيعون أن ينظروا إلى الملك ولا يستوعبوا ما يقوله، من قوة وعظمة خلق الملائكة.

عصمة الرسل

عصمة الرسل عصمة الرسل تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: عصمة في التبليغ وفي الوحي، وهذه بإجماع الأمة بأسرها، فقد أجمعت على أن الرسل معصومون في الوحي وفي التبليغ، فهم يبلغون الرسالة ولا ينسون ولا يخطئون أبداً، قال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6] وقال عز وجل: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17] إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19]. فالله جل وعلا تكفل لكل رسول بعصمته في الاستقبال للوحي وفي التبليغ، فبالإجماع لا يمكن أن يخطئ رسول في أمر الوحي، وأيضاً ليس للرسول أن يأتي بقول من عنده، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46] فهذه دلالة على أنه ليس لرسول أبداً أن يأتي بشيء من عنده، ولذلك جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء) أي: وهو أمين الوحي صلى الله عليه وسلم. الثاني: العصمة من الكبائر، فقد أجمعت الأمة أيضاً على أن الرسل معصومون من الوقوع في الكبائر، إذ كيف يقعون في الكبائر وهم قدوة وأسوة للناس، وهم المنارات التي يهتدى ويقتدى بها؟! وقد تكفل الله بعصمة الرسل من الكبائر، فهذا يوسف عليه السلام: {رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] فقال الله تعالى مصوراً تصويراً بديعاً هذه القصة: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] وألطف وأعجب ما يقال في تفسير هذه الآية: أنه لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، يعني: وما حدث منه الهم بحال من الأحوال؛ لأن (لولا) حرف امتناع للوجود، فامتنع همه بها لوجود برهان الله، هذا مفهوم الكلام، وليس كما يقول بعضهم: إنه هم بها فصرفه الله، فأصل الهم غير موجود؛ لأن الله جل وعلا قال: ((لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)) يعني: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فامتنع وجود الهم لوجود برهان الله جل في علاه. {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] فهذه دلالة على أن كل الرسل من المخلصين، وأن الله جل وعلا تكفل بعصمة كل الرسل من الكبائر، وهذا بالإجماع. الثالث: العصمة من الصغائر، فهناك خلاف بين أهل السنة والجماعة في مسألة الصغائر، هل يقع فيها الأنبياء والرسل أو لا؟ قال بعض أهل العلم: الأنبياء لا يقعون في الصغائر بحال من الأحوال، ويستدل على ذلك بقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] وقول الله تعالى: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] يعني: اقتده بهدى الأنبياء واتخدهم أسوة لك، فإذا قلنا: إنهم يقعون في الصغائر فقد أمرنا بالتأسي بهم في اقتراف المعاصي وهذا محال، ولا يمكن لله جل وعلا أن يأمرنا أن نأتسي بالأنبياء في اقتراف الصغائر، فهذه الآيات فيها دلالة على أن الأنبياء معصومون من فعل الصغائر، وهذا القول ضعيف، والقول الراجح الصحيح الذي ندين الله به هو قول الجمهور، وهو أن الأنبياء غير معصومين من فعل الصغائر، فهم يقعون في الصغائر، ومما يدل على ذلك قول الله تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] فقوله: ((وعصى)) تصريح من الله جل وعلا أن آدم وقع في العصيان، وأيضاً قال الله تعالى حاكياً عن موسى عندما وكز الرجل: (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15] فهذه دلالة على أنه وقع في المعصية. وفي حديث الشفاعة قال آدم: (فعصيته) وعيسى عليه السلام لما أحال الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ذنباً قالوا: فيه تصريح أنه لم يقع في الذنوب. فالله جل وعلا قد أثبت العصيان للأنبياء في الصغائر فقط، فنثبته كما أثبته الله جل في علاه، لكن لا بد أن نقول: إن الله لا يقر نبياً على أي صغيرة، بل يبينها له في وقتها ويتوب عليه، والتائب من الذنب بعد توبته يكون حاله خيراً من حاله قبل التوبة؛ ولذلك جاء في الحديث (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) ويقول بعض السلف: إن داود عليه السلام كان حاله بعد التوبة أفضل من حاله قبل التوبة، وقلنا: إن التوبة تودع في القلب المسكنة والخضوع والتذلل لله جل وعلا، والبكاء من خشية الله، والخوف من عقوبة الله، والهرولة في طاعة الله جل في علاه، وإتباع الحسنة بالسيئة تمحها، فهذه كلها أحوال للذي تاب من الذنب، ولا تكون للذي لم يتب أولم يقترف هذا الذنب. إذاً فالصحيح الراجح أن الأنبياء يقعون في الصغائر، لكن هناك أمر لا بد أن نتكلم فيه، ألا وهو أن الأنبياء معصومون من الصغائر التي فيها دناءة وخسة، فلا يمكن أن يأتي النبي فيسرق لقمة ليأكلها حاشا لله، لكن من ممكن أن يقع في معصية، كآدم حين نهاه الله أن يأكل من الشجرة فأكل منها هو وزوجته وقالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، فهذه دلالة قوية على أنهم عصوا أمر الله جل في علاه، وليس معنى ذلك أن يقع في الصغائر الخسيسة التي تخدش المروءات كما بينا. أما الرد على الذين قالوا: بأن الأنبياء معصومون من الصغائر؛ لقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] فهو أننا وإن كنا نوافقهم على ذلك، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، إلا أنه ليس لنا أسوة حسنة في الصغائر التي يقع فيها؛ لأنه لا يقر عليها، وقد تاب منها، ونحن لنا فيه أسوة حسنة في التوبة؛ لأننا جبلنا على المعصية، فالإنسان ظالم جهول لنفسه، ولا يمكن أن ينجو من المعاصي، ودخوله الجنة لا يكون إلا برحمة الله وفضله، فقد ورد في الحديث: (لن تدخلوا الجنة بعملكم، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) أي: لا بد أن تنزل رحمات الله جل في علاه على هذا الإنسان، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ) [النحل:53] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، فأصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) وذلك لأن النفس ظالمة جهولة. إذاً: لنا أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالرسل أجمعين في التوبة، وذلك بأن نسارع في التوبة ولا نقر أنفسنا على هذه المعاصي.

وجوب محبة الله عز وجل

وجوب محبة الله عز وجل الفائدة الأخيرة من حديث الشفاعة في قوله صلى الله عليه وسلم: (فذهبوا إلى إبراهيم عليه السلام وقالوا: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض) فهناك من ينتقصون من قدر النبي ويقولون: الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقبل الرد عليهم لابد أن نتكلم عن محبة الله حتى نصل إلى أعلى درجاتها وهي الخلة نقول: لا يستقيم إيمان عبد إلا بمحبة الله جل في علاه، وهذا أصل أصيل وركن ركين في القلب، إن خلا القلب منه فإن الإنسان كافر لا يدخل جنة ربه جل في علاه، بل لا بد من محبة الله، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة:165] وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم -نفى الإيمان- حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) فالركن الركين والأصل الأصيل في القلب هو محبة الله عز وجل، ولها أصل ومكمل، والمكمل درجات، أما الأصل فإنه إذا انتفى انتفى الإيمان، وأما المكمل فهو درجات.

الأمور التي تعرف بها محبة الله

الأمور التي تعرف بها محبة الله تعرف محبة الله في قلب العبد بثلاثة أمور: الأمر الأول: إذا تعارض أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم مع هوى العبد أو مع أي شخص كائن من كان، فإنه إن قدم هواه أو أمر أي شخص على أمر الله وأمر رسوله فهذا يراجع إيمانه؛ لأن الله جل في علاه قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء:65] الآية، وهناك آية هي الشاهد على المحبة، وهي قول الله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] أي: علامة المحبة أن تقدم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر أي أحد كائناً من كان، فالله جل وعلا أناط المحبة باتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب:36] هذه أول علامة على محبة الله في القلب. الأمر الثاني: محبة ما يحبه الله وبغض ما يبغضه الله، إذا أبغض الله الفاحشة فعليك أن تبغض الفاحشة، وإذا أبغض الله كل حرام صغيراً كان أو كبيراً فعليك أن تبغض ما يبغضه الله جل وعلا، وإذا أحب الله الطاعة فعليك أن تحب الطاعة، وإذا أحب الله أهل الطاعة فعليك أن تحب أهل الطاعة، وإذا أحب الله أولياءه المؤمنين وبغض أعداءه الكافرين فيجب عليك أن تحب أولياءه وبغض أعداءه، وإلا فلتراجع إيمانك، فقد قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة:22] أي: لا بد أن تجد في قلبك بغضاً لأهل الكفر، ولأهل الإلحاد، وبغضاً للذين يبغضون أهل الإسلام، وتجد في قلبك قوة المحبة لأهل الإيمان، ويتفاوت ذلك في قلبك بتفاوت الطاعة، فكلما كان العبد أطوع لربه كان حبك له أشد وأعظم؛ لأن حب الله له أشد وأعظم.

إثبات الخلة لمحمد صلى الله عليه وسلم والرد على من نفاها

إثبات الخلة لمحمد صلى الله عليه وسلم والرد على من نفاها إن محبة الله درجات، وآخر هذه الدرجات وأعلى منصة فيها هي: الخلة، وهذه الخلة ليس لأحد أن يرتقي إليها فالله جل وعلا يصطفي من يشاء ليجعله خليلاً، ولم يتخذ أحداً من أهل الأرض قاطبة خليلاً إلا إبراهيم ومحمداً، وهذا فيه رد على الذين يغالون في محمد -وهم يقصرون في حقه وينتقصون من قدره- فيقولون: الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد، ويستدلون بحديث في الترمذي بسند ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأما صاحبكم فحبيب الرحمن) وأيضاً تلوك ألسنتهم كلمة عن ابن عباس -وهي ضعيفة لا تصح عنه- أنه قال: أنتم لا تؤمنون بأن تكون الخلة لإبراهيم والرؤية لمحمد وهذا ضعيف ليس بصحيح، بل الخلة لمحمد ولإبراهيم عليهما الصلاة والسلام. فالصحيح الراجح أن محمداً خليل الرحمن كما أن إبراهيم خليل الرحمن، والدليل على ذلك ما في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) فهذا تصريح وفصل في النزاع، بحديث إسناده كالشمس، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لو كنت متخذاً أحداً من البشر خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن) فهذا فيه تصريح أيضاً على أن النبي صلى الله عليه وسلم خليل الرحمن.

حقيقة الخلة ومعناها وبيان من يستحقها

حقيقة الخلة ومعناها وبيان من يستحقها الخلة هي أعلى درجات المحبة، والخلة معناها: أن تتخلل محبة الله الروح، فيعتقد العبد أنه لا يعيش إلا لله، ولا يموت إلا الله، وليس له شيء، فهو لله وفي الله ومع الله، وقلبه كله معلق بالله، ولو وضعت الدنيا بأسرها في كفة ووضع رضا الله في كفة تراه مسارعاً إلى رضا الله جل في علاه، وترى البلاء ينصب عليه صباً، فهذا هو الذي اتخذه الله خليلاً، فإبراهيم عليه السلام ابتلاه الله جل في علاه، لينظف قلبه حتى لا يكون فيه ثمة شيء إلا محبة الرحمن جل في علاه، فقد ابتلي بكفر أبيه، وقال الله تعالى عن أبيه أنه قال له: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] فهو يأمره بأن يخرج من بلدته. ثم ذهب إبراهيم إلى النمرود عليه من الله ما يستحق، وكان له وزير سوء كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (ما من نبي ولا ولي ولا خليفة استخلفه الله على الأرض إلا جعل الله له بطانتين: بطانة خير تدله على الخير وتعينه عليه، وبطانة سوء تدله على الشر وتمسك عنه الخير، فمن أراد الله به خيراً جعل له بطانة الخير) فبطانة النمرود كان وزير سوء، فقال للنمرود: إن رجلاً دخل هذه القرية ومعه امرأة جميلة، وكانت سارة عليها رضوان الله، من أجمل النساء؛ لأن العلماء يقولون: إن يوسف كما أخذ شطر الجمال من آدم أخذت سارة شطر جمال حواء عليهم السلام - فلما قيل للنمرود ذلك أمر بأن يؤتى بإبراهيم، فلما أتي بإبراهيم قال له: من هذه المرأة؟ فقال: هي أختي - وهذه التي صرح أنه كذب فيها من الثلاث الكذبات - ثم ذهب ثم ذهب إلى سارة فقال: ليس هناك أحد مسلم في هذه الأرض غيري وغيرك وإني قد سألني عنك فقلت: إنك أختي فلا تزيدين على ذلك، فأمر النمرود أن يؤتى بـ سارة إليه، فابتلي إبراهيم ابتلاء شديداً وزلزل زلزالاً شديداً؛ لأن امرأته عند رجل طاغية لا يتقي الله في شيء، وهي امرأة جميلة، وهو ما أرادها إلا لنفسه، فذهبت المرأة وقلب إبراهيم يرتجف مما سيحدث مع امرأته، لكنه متوكل حق التوكل على ربه جل في علاه، ومستيقن أن المليك المقتدر جبار السماوات والأرض أن سيدبر الأمر من فوق العرش، فهو يعلم من يتقدم ومن يتأخر، بل لا يتقدم أحد ولا يتأخر إلا بأمره ومشيئته، فعندما جيء بالمرأة ودخل عليها يريدها، فكان كلما اقترب منها ومد يده إليها أخذ أخذاً شديداً، فقال: لا أقربك بسوء فادعي الله أن يفرج عني فتدعو الله له فيفرج الله عنه، ثم يأتيها مرة ثانية فيؤخذ أخذاً شديداً فيقول لها: ادعي الله أن يفرج عني ولا أمسك بسوء، فتدعو الله له فيفرج عنه، وهذا من كرامات الله جل وعلا لأوليائه وحفظه لهم، فوالله الذي لا إله إلا هو إن الله لا يسلم أولياءه لأعدائه أبداً، وإن فعل الله ذلك فلحكمة أعظم من هذا الفعل بكثير، علمناها أو جهلناها فهي عند الله، لكننا نثق بأنه لا يكون في الكون شيئاً إلا بإرادته، وإرادته ومشيئته تحت حكمته وعلمه، كما قال الله تعالى قبلها: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان:30 - 31] فمشيئة الله تخضع لعلمه وحكمته سبحانه وتعالى، فمن رحمته ولطفه أنه حفظ سارة، فقال لها النمرود في الثالثة: ادعي الله لي ولن أمسك بسوء فدعت الله ففرج عنه فأعطاها هاجر، ثم قال لوزيره: أنت وزير سوء، فقد أتيتني بشيطان ولم تأتني بامرأة، ثم ذهبت ورجعت إلى إبراهيم عليه السلام. ومن البلاءات التي ابتلي بها إبراهيم أنه الله أمره أن يضع امرأته وابنه الوليد في أرض قاحلة ليس بها شيء، قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] ولذلك قالت المستيقنة بربها: يا إبراهيم آلله أمرك بهذا، فبين لها أن هذا استسلام لأوامر الله، وما ماء زمزم التي منحنا الله إياها إلا ببركة وجود هاجر رضي الله عنها وأرضاها، والبلاء الأشد الذي حصل لإبراهيم أنه لما بلغ معه الولد السعي وأخذ جزءً من شغف قلبه غار الله أن يكون في قلب خليله محبة لأحد غيره، فأراد سبحانه أن يقطع هذه العلاقة، فأمره أن يذبحه، انظروا إلى الإيمان والاستسلام، اللهم ارفعنا إلى هذه الإيمانيات يا رب العالمين، ونظف قلوبنا من كل الذنوب والأرجاس واجعلنا من الذين يوحدونك توحيداً خالصاً لوجهك الكريم. فإبراهيم لما رأى الرؤية أن اذبح ولدك استسلم وقال: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102]، وقال الولد: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102]، وهنا استسلام تام لله جل وعلا، فلما علم الله جل وعلا من عبده وهو العليم الخبير أنه لا شيء في قلبه إلا الله، قال: يا إبراهيم {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:105]، يعني: ليس المقصود تذبح الذبح، وإنما المقصود هو نقاء القلب من كل شيء، إلا رضا الله وحب الله، لذلك أنزله الله هذه المنزلة واتخذه خليلاً. والنبي صلى الله عليه وسلم عندما عرض نفسه على العشائر والطوائف ردوا عليه بأقبح الردود، وتآمرت قريش على قتله، وقبل ذلك تآمروا على حبسه وحبس من معه من المؤمنين، ومن الابتلاءات التي ابتلي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش وضعوا له الأملاك والأموال وكل الوجاهات حتى يتنحى عن هذا الدين، فما رجع عن دينه طرفة عين، وهكذا فقد صبر الرسول الله صلى الله عليه وسلم صبراً شديداً كما ورد في المسند وغيره بسند صحيح: (أوذيت في الله ما لم يؤذ نبي قط) وذلك لأن الإيذاء المعنوي أشد بكثير من الإيذاء الحسي، فالله تعالى رفعه بذلك منزلة عظمى وهي منزلة الخلة، قال: (اتخذني الله خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً). نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من المتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وممن يتعلمون التوحيد فيحققونه واقعاً بين الناس. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب -فوائد أحاديث الشفاعة [2]

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب -فوائد أحاديث الشفاعة [2] أعظم موقف سيقفه المرء هو الموقف الأكبر يوم القيامة، وفي ذلك اليوم يتمنى المرء شفاعةً تنتشله من هذا الموقف العصيب، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: أنه سيسجد، ولا يرفع رأسه إلا بعد أن يؤذن له في الشفاعة، فيقف ليكون أهم طلب له أن يقول: يا رب أمتي أمتي! فنسأل الله أن تنالنا شفاعته في ذلك اليوم.

تتمة فوائد حديث الشفاعة

تتمة فوائد حديث الشفاعة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: لقد تكلمنا سابقاً عن الشفاعة وأهميتها، ومن يستحقها، وعن حرص الرسول على هذه الأمة، وقوله في عرصات القيامة: (أمتي أمتي) في حين يقول كل نبي: (نفسي نفسي). بعد ذلك يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم فيسجد تحت العرش، ثم يقال له: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع)، وسبق أن تكلمنا عن الفوائد المستنبطة من أحاديث الشفاعة، ونتكلم الآن هنا فنقول: قوله في آخر الحديث: (اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: أنت رسول الله فضلك الله برسالاته وبتكليمه على الناس) ففيه دليل: على ثبوت صفة الكلام لله جل في علاه. قوله: (قالوا: فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى بن مريم عليه السلام، فيأتون عيسى عليه السلام، فيقولون: يا عيسى! أنت رسول الله، وكلمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم) وقوله: (وكلمت الناس في المهد)، هذه معجزة من المعجزات، فقد اقتضت حكمة الله جل في علاه أنه لا يرسل رسولاً إلا ويعضده بالمعجزات التي تكون بين يديه، حتى لا يكذبه أحد من البشر، وحتى تكون هذه المعجزات دليلاً له على صدقه، وعلى أنه مرسل من قبل الله جل في علاه. فما من نبي إلا وأيده الله بالمعجزات، فنوح عليه السلام كانت السفينة من أكبر المعجزات التي أظهرت قوة صدق نوح عليه السلام أمام قومه. وأيضاً: إبراهيم عليه السلام كانت له معجزات كثيرة، منها: إلقاؤه في النار، قال الله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. وأيضاً: عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى، وكان يبرئ الأكمه، قال تعالى: {وَتُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [المائدة:110]. وقبله موسى: فقد كانت عصاه تنقلب حية، ويده إذا نزعها تخرج بيضاء أمام الناظرين، حتى يؤثر في الناس، ويُعلِّم الناسَ أن هذا من الله وليس منه. فعيسى عليه السلام أعطاه الله هذه المعجزة، وهي الكلام مع الناس في المهد، وهو طفلٌ رضيعٌ.

الفرق بين المعجزة والكرامة

الفرق بين المعجزة والكرامة والمعجزة والكرامة أمر يهبه الله جل وعلا لعبد من عباده ويؤده به، فالمعجزة للنبي، والكرامة للولي، وهما يتفقان ويفترقان، فيتفقان: في أن كلاً من المعجزة والكرامة أمر خارق للعادة، فالمعجزة أمر خارق للنبي، والكرامة أمر خارق للولي، ويفترقان: في أن المعجزة يتحدى النبيُّ بها أي أحد يأتي بمثلها، أما الولي الذي تظهر له كرامات فلا يتحدى بها، ولا يجوز له أن يدعي الكرامة؛ لأن الله جل وعلا يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. فالنبي يصرح بالتحدي بها؛ لأن الله أيَّده بها حتى يعلم الناس صدق رسالته فيؤمنوا به، وأما الكرامة فهي لطف وكرم وتفضل وتمنن من الله جل في علاه لإظهار مكانة هذا المتعبد الناسك. وهذه المعجزة التي بين يدي عيسى أنه يتكلم في المهد قد اتفقت لبعض أولياء الله الصالحين، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة تكلموا في المهد) منهم عيسى عليه السلام، وابن كثير كان يروي بعض الآثار التي يتسامح فيها، وذكر منها: أن عيسى كان يكلم أمه وهو في بطنها، أي: كان إذا خلت به كلمها وهو في بطنها. وقد ذكر الله كلام عيسى عليه السلام في قوله: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30].

أمثلة وقصص عن الكرامة

أمثلة وقصص عن الكرامة

قصة جريج العابد

قصة جريج العابد لقد جعل الله جل وعلا لـ جريج الراهب كرامة، فكان جريج -كما وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم- عابداً ناسكاً في صومعة من صوامع بني إسرائيل، وكان زاهداً ترك الدنيا بأسرها ليتعبد ويتنسك لله جل في علاه. ففي ذات مرة جاءت إليه أمه وقالت: يا جريج! وكان في صلاته، لكن الفقه لم يصل إليه فقال: يا رب! أمي وصلاتي، أي: هل أبقى على ما أنا عليه بين يديك، أم أجيب أمي؟ فنازعه الأمر كثيراً حتى قال: لا، أكون في صلاتي، فرجح ألا يخرج من الصلاة ولا يجيب أمه، فغضبت منه أمه غضباً شديداً؛ لأنه لم يرد عليها، فقالت: لا أماتك الله حتى تنظر في وجوه المومسات. وهذا فقه عظيمٌ غفل عنه كثير من الناس وهو: أن بر الوالدين يقدم على كثير من الصلوات والصيام والنفقات؛ لأنه مقترن بالتوحيد، حيث قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، ثم قرن الله به عبادةً هي من أجل العبادات، حيث قال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، فمن أراد الإحسان فعليه بتوحيد الله ثم بر الوالدين، ولذلك: لما جاء الرجل يريد أن يجاهد في سبيل الله، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)، وقال للآخر: (اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما). فبر الوالدين من أوجب الواجبات، فإذا تعارض هذا الواجب مع مستحب أو نافلة فلا بد أن يقدم الواجب، ولا بد من تقديم الأهم على المهم، فما بالكم بتقديم الواجب على المستحب؟! وجريج لم يتوسع في الفقه، فلم يجب أمه فغضبت عليه فدعت عليه، ففي ذات مرة جاء بنو إسرائيل، وأخذوا امرأة باغية تفعل الفاحشة، فقالوا: عليك بهذا الرجل جريج، أي: افتنيه، فاتفقوا معها على بعض المال، فذهبت إلى جريج تراوده عن نفسه، لكنه كان بائعاً نفسه لربه جل في علاه، فأبى عليها، فلم تستطع أن تفتنه عما هو فيه، فرجعت أدراجها خائبة فوجدت راعياً فمكنته من نفسها فوطئها فحملت منه، فلما حملت منه أنجبت وقالت: هذا الطفل من جريج العابد، فتعجب بنو إسرائيل من جريج، لكن عندما كان متقياً عابداً متنسكاً لم يضع الله جل وعلا عبادته هباءً، فأتوا عليه فهدموا صومعته وعذبوه وأخذوه وأهانوه، فلما أهانوه، واللاتي يفعلن الفاحشة واقفات أمامه، وهو ينظر إليهن، فلما نظر إلى وجوههن تبسم، وتذكر دعاء أمه، وعلم في هذه اللحظات أنه أخطأ في حق أمه، وكأنه يراجع نفسه ويندم على ما فعل مع أمه، ثم قال لهم: ائتوني بالطفل، فجاء الطفل فغمزه وقال: من أبوك؟ فقال: أبي فلان الراعي، فلما سمعوا من الطفل هذا الكلام علموا أنها كرامة لهذا الصالح العابد المتنسك، فقالوا: نبني لك صومعةً من ذهب، فقال: لا، أعيدوها كما كانت.

قصة الطفل الرضيع

قصة الطفل الرضيع كذلك من الذين تكلموا في المهد كرامة: امرأة كانت ترضع طفلاً لها، فبينما هو يلتقم الثدي إذ نظرت أمه إلى رجل له شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا الرجل، تعني: ذا هيبة ومكانة وقدر عند الناس، فترك الطفل ثديها وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم مرت امرأة وهم يتهمونها ويضربونها وهي مظلومة فقالت الأم: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه المرأة، فقال الطفل: اللهم اجعلني مثلها، فلما تعجبت المرأة علمت أن الأول كان ظالماً، فلذلك قال الطفل: اللهم لا تجعلني مثل هذا الظالم، والثانية كانت مظلومة فلذلك قال: اللهم اجعلني مثلها؛ لأن الله جل وعلا أقسم بعزته وجلاله أنه سينصر المظلوم ولو بعد حين، حيث قال تعالى في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين).

قصة الطفل مع أصحاب الأخدود

قصة الطفل مع أصحاب الأخدود ومن الذين تكلموا في المهد: الطفل الذي كانت أمه من أصحاب الأخدود، فعندما شقوا الأخاديد وأشعلوها ناراً ليحرقوا بها كل من أقر بتوحيد الله، جاءت المرأة التي معها هذا الطفل، وخافت على طفلها، فقال لها الطفل: يا أمي! إنك على الحق. يشجعها على أن تلقي بنفسها في النار، وهذه كرامة اتفقت مع معجزة عيسى عليه السلام.

قصة شاهد يوسف

قصة شاهد يوسف لما قالت امرأة العزيز: إن يوسف راودها عن نفسها، شهد الطفل براءة يوسف عليه السلام، قال الله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26 - 27]. فالشاهد -كما قالوا- كان طفلاً صغيراً، وكانت هذه معجزة ليوسف عليه السلام.

صفات من يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب

صفات من يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب من فوائد حديث الشفاعة: قال صلى الله عليه وسلم: (فيأتوني فأسجد تحت العرش، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: رب! أمتي أمتي، فيقال: يا محمد! أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب) فمن هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، حتى يحرص الإنسان أن يكون منهم؟ وهل لهم صفات تعرف؛ حتى يتمثل الإنسان بهذه الصفات، لعل الله جل وعلا أن يدخله الجنة من غير حساب ولا عذاب؟ قد بات الصحابة يدوكون ويخوضون أيضاً في صفات هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فالنبي صلى الله عليه وسلم أوضح لهم وصْف هؤلاء فقال: (هم الذين لا يسترقون أو قال: الذين لا يرقون ولا يتطيرون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون) ورواية: (لا يرقون) وإن كانت في صحيح مسلم إلا أنها رواية شاذة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رقى وأمر بها، وجبريل قد رقى، فهذه الرواية خطأ، وبعض العلماء هروباً من توهيم الراوي أو القول بشذوذ الرواية يقولون: (لا يرقون) أي: لا يرقون بالرقية غير الشرعية، وهذا كلام باطل، وكذلك (لا يسترقون) لا بد أن نشترط فيها شروطاً، وهي: أن تكون رقية شرعية. فرواية: (يرقون) رواية شاذة. إذاً: (لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون) كأن جماع هذه الصفات الثلاث قوله: (وعلى ربهم يتوكلون).

ما جاء في التطير

ما جاء في التطير بما أن العامة وقع فيهم التشاؤم والتطير كثيراً فسنأخذ من هذه الصفات الثلاث: التطير ونتكلم عنه. التطير لغة: التشاؤم بالطير، وهو من عادات الجاهلية، فإنهم كانوا إذا أرادوا سفراً أطلقوا طيراً، فإذا ذهب يميناً تيمنوا، تبركاً، فقالوا: نسافر، وإذا ذهب شمالاً تشاءموا وقالوا: نكف عن السفر. واصطلاحاً: هو التفاؤل والتشاؤم بكلام أو أشخاص أو أماكن أو أيام وشهور أو سنين، كالذين يتطيرون بالغراب، فإذا رأوا الغراب قالوا: لا نسافر أو لا نتزوج أو لا نفعل كذا، أو يتطيرون بالبوم، ويقولون: إن هذه البومة عندما تنطق بالأصوات التي تخرجها كأنها تقول: خراب، أي: خراب على البيت التي تكون فيه. ومن النظير في الكلام: أن يذهب رجل للاختبار فيسمع شخصاً يقول لآخر: يا راسب! فيقسم أنه لن يذهب حتى لا يرسب، أو يضحك رجل كثيراً، فتراه يقول متشائماً: اللهم اجعله خيراً، فيتشاءم من الضحك مع أن هذا الضحك منة من الله جل في علاه يستوجب منك الشكر؛ لأن الله هو الذي أضحك وأبكى، فأنت تضحك فتحمد الله؛ لأنه أدخل عليك السرور وضحكت. وقد يرون امرأة عجوزاً فيقولون: عجوز النحس، أو يقول إذا رآها: فلو رآها أحدهم يقول: لا نعمل اليوم، تشاؤماً بها. وكثير من الناس يتشاءمون بالأيام، كيوم الأربعاء، فلا يذهبون فيه للعمل؛ لأن يوم الأربعاء هو اليوم الذي ينزل فيه البلاء، وقد وردت أحاديث صحيحة في ذلك، وأنه ينزل البلاء يوم الأربعاء، لكن لا يستلزم ذلك التشاؤم بيوم الأربعاء، أو التشاؤم بشهر شوال، كما كان يفعل أهل الجاهلية، فقد كانوا يقولون: إن الزواج في شوال خسارة ووبال على الذي يتزوج؛ ولذلك ردت على أهل الجاهلية عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وقالت: (من كان أحظى عند نبي الله صلى الله عليه وسلم مني؟ قد عقد علي في شوال، وبنى بي في شوال)، تعني: أنه تزوجها رضي الله عنها في شوال صلى الله عليه وسلم.

الفرق بين الطيرة والفأل

الفرق بين الطيرة والفأل هناك فرق بين الطيرة والفأل: فالفأل: هو أن تتفاءل بالكلمة الحسنة، كأن تذهب مثلاً إلى العمل فتجد رجلاً يقول: يا رابح! فيطمئن قلبك وتسير قدماً إلى هذا العمل، لعل الله جل وعلا يرزقك رزقاً واسعاً. والفأل جزء من الطيرة، لكن الفرق بينهما يتجلى في أمور ثلاثة: فالتطير منهي عنه شرعاً، والفأل مأمور به شرعاً، والدليل على أن الإنسان مأمور بالتفاؤل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الطيرة شرك، وكان يعجبه الفأل)، والكلمة الطيبة من الفأل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر في أمير الجيش، ويسأله ما اسمك؟ فإذا وجد اسمه حسناً جعله أميراً للجيش؛ تفاؤلاً بذلك. فهذا هو الفرق الأول. الفرق الثاني: أن التشاؤم سوء ظن بالله والعياذ بالله، وسوء الظن بالله من أظلم الظلم، وفيه جهل بصفات الله تعالى، وأما التفاؤل ففيه حسن ظن بالله، والإنسان مأمور أن يحسن الظن بالله إلى الممات، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في مسند أحمد - قال: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء، فإن كان خيراً فله، وإن كان شراً فله). الفرق الثالث: أن المتفائل يأخذ بالأسباب الشرعية التي شرعها الله جل في علاه؛ لأنه يأخذ بها ليطمئن قلبه بالفأل والكلمة الطيبة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل بالكلمة الطيبة، ففي الحديث: (وكان يعجبه الفأل). أما المتشائم فإنه يعتمد على أسباب لم يشرعها الله جل في علاه؛ لأن قلبه ينقبض عن العمل بالبوم أو الغراب أو غير ذلك من الأسباب التي لم يشرعها الله جل في علاه: والتفاؤل والتشاؤم يلتقيان في أمر واحد وهو: التأثير، أما الفأل فيؤثر في الرجل الذي يريد أن يمضي قدماً في العمل فيطمئن أكثر، ويزداد سروراً بالكلمة الطيبة، بل يزداد قوة في هذا العمل. والتشاؤم أيضاً يؤثر في العبد، لكنه يؤثر عليه سلبياً؛ لأنه يبتليه بالهم والحزن وغيره، فينقبض إذا وجد البوم أو الغراب فلا يسافر، وإذا وجد أحداً يقول: يا فاسق! لم يعمل هذا العمل، فيأتي التأثير فيهما معاً، لكن التأثير الأول له سبب شرعي، والآخر ليس له سبب شرعي.

حكم التطير

حكم التطير من تطير فقد أشرك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطيرة شرك) فلو أن رجلاً يتطير برؤية عجوز أو غيرها، ويتوقف عن العمل بسبب هذا، فهل يكون قد أشرك شركاً أكبر يخرج من الملة أم لا؟ أقول: هناك قاعدة لابد أن يتمثل لها طالب العلم قياماً ويحفظها جيداً وهي: أن كل شرك أو كفر جاء نكرة فالمقصود به الشرك الأصغر أو الكفر الأصغر، أما إذا عرِّف فسيكون المقصود به حينئذ: الشرك الأكبر، أو الكفر الأكبر، إلا أن تأتي قرينة تصرفه إلى الشرك الأصغر والكفر الأصغر، ودليل ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في أمتي هما بهم كفر، وذكر: النياحة على الميت) فالنياحة على الميت كفر أصغر. وأيضاً: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن مما بالناس كفراً النياحة والطعن في النسب)، فهذا كفر أصغر بالإجماع. ومن الأدلة أيضاً على أن الطيرة من الشرك الأصغر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب: هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون). فلو أن إنساناً يسترقي للاستشفاء، فهو لا يدخل الجنة بغير حساب، بل عليه حساب، فيدخل الجنة بعد الحساب إن غلبت حسناته على سيئاته؛ لأنه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ومن الأدلة على أن الطيرة شرك أصغر عمومات قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، وعمومات: أن من أتى بالتوحيد فإنه يدخل الجنة حتى ولو كان متطيراً.

علاج التطير

علاج التطير فإذا ابتلي امرؤ بهذا التطير وأراد أن يداوي نفسه من هذا التطير؛ لأنه ذريعة إلى الشرك الأكبر، فالعلاج سهل يسير بينه لنا النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في بعض الأحاديث -مدرجاً- عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: (وما منا من أحد إلا، ولكن يذهبه الله بالتوكل). إذاً: فالعلاج الأول: هو عمق التوكل وحسن التوكل على الله جل في علاه في كل الأمور، والثقة بأن الله هو الذي يرفع ويخفض، وأن الله هو الذي يعطي ويمنع، وأن الله مالك هذا الكون، مع حسن الأخذ بالأسباب، قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]، وفي آية أخرى قال: {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]. فإن اعتقد المرء هذا الاعتقاد الجازم بأن مقاليد الدنيا بأسرها بيد الله فلن يتوكل إلا على الله. وأما الأخذ بالأسباب فالدليل على ذلك: فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك متوكل على الله مثل رسول الله، فهو أكثر الخلق توكلاً على الله، فإنه إذا أراد غزوة ورى بغيرها، ولما أراد الهجرة أخذ خرِّيتاً ماهراً حتى يبين له الطريق، وهو مع ذلك متوكل على الله جل في علاه، وأيضاً لما هاجر سلك طريقاً غير الطريق الذي يتخذه الناس، هذه دلالة على حسن الأخذ بالأسباب، مع أنه يقيناً يعلم أن الله سينقذه، وأن الله لن يجعل لهم سبيلاً عليه، وأن الله سينصره، وأن الله سيمكن لدينه، لأنه قال لـ فاطمة رضي الله عنها وأرضاها: (ما على أبيك بأس)، وقال: (لا يترك هذا الدين بيت مدر ولا وبر إلا دخله بعز عزيز أو بذل ذليل)، وقد قال هذا وهو في مكة. العلاج الثاني: أن يمضي قدماً؛ لأن الطيرة التي يحاسب عليها المرء هي ما أمضته أو ردته عن العمل، كما جاء في بعض الآثار وصححها بعض العلماء: (الطيرة ما أمضاك أو ما ردك). فلو وجدت ما تتشاءم به فلا تعبأ به، واجعله خلف ظهرك وسر قُدُماً، وأحسن الظن بالله جل في علاه، فسيأتيك الخير. العلاج الثالث: هو أن تدعو بالدعاء الذي علمك النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليذهب الله عنك هذه الطيرة، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من وجد ذلك في قلبه فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك). وهناك دعاء آخر: (اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك). ومعنى (لا طير إلا طيرك) أي: أن الطير الذي يحلق في السماء لا يملك نفعاً ولا ضراً، بل هو بيدك يا رب! فأنت الذي تتحكم في هذا الكون.

معنى الاستغاثة والعلاقة بينها وبين الدعاء وحكمها

معنى الاستغاثة والعلاقة بينها وبين الدعاء وحكمها إن الاستغاثة من توحيد الإلهية، والاستغاثة لغة: مشتقة من الإغاثة، وهي: النصر عند الشدة وتفريج الكربة. قال شيخ الإسلام: الاستغاثة في الاصطلاح: هي طلب الغوث من الرب الجليل؛ لرفع البليات، وتفريج الكربات. وهي طلب الغوث من الذي يملك ذلك، ولا تكون إلا لله، لا لمحمد ولا لعيسى ولا لأحد. وأما العلاقة بين الاستغاثة وبين الدعاء: فبينهما عموم وخصوص مطلق، فالدعاء أعم من الاستغاثة؛ إذ الدعاء طلب لدفع الشر وجلب الخير، يعني: أنه يكون في الشدة وفي الرخاء. وأما الاستغاثة فهي طلب لدفع الضر لا لجلب الخير، يعني: لا تكون إلا في الشدة، فكل مستغيث داع ولا عكس. والاستغاثة عبادة، وكل دليل يدل على أن الدعاء عبادة فهو يدل على أن الاستغاثة عبادة؛ لأنه إذا دل على أن الدعاء عبادة فالاستغاثة داخلة في دائرة الدعاء فهي عبادة كالدعاء، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60]، أي: عن دعائي، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدعاء هو العبادة). فإذاً: إذا كان الدعاء عبادة فإن الاستغاثة عبادة؛ لأنها جزء من العبادة.

معنى قاعدة: كل عبادة ثبت بالشرع أنها عبادة فصرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك وأمثلة عليها

معنى قاعدة: كل عبادة ثبت بالشرع أنها عبادة فصرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك وأمثلة عليها هذه قاعدة مهمة جداً: فكل عبادة ثبتت بالشرع أنها عبادة فصرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله) قوله: (فليحلف) هذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدل على الوجوب، وإنما على الاستحباب فلا يجب على الإنسان أن يحلف كلما تكلم، لكن نقول: طالما وهو على الاستحباب وهو أمر من الشارع فالله لا يأمر إلا بما يحب، وقال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). ومفهوم المخالفة في الحديث: أنه من حلف بالله فقد أتى بالتوحيد، فهذا دليل على أن الحلف عبادة، وأن صرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك. وكذلك الصلاة عبادة، فمن صرفها لغير الله فقد أشرك. وأيضاً: الطواف عبادة، فصرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك. والدليل على أنها عبادة: قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، ووجه الدلالة: أن الله لا يأمر إلا بما يحب، وكل ما يحبه الله جل وعلا فهو من العبادة، والذي يطوف بالقبور كقبر السيدة زينب، وقبر البدوي وقبر عبد القادر الجيلاني فهذا قد وقع في الشرك؛ لأن الطواف عبادة. كذلك: الذبح عبادة، والدليل هو قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام:162]. فإذا اشترى الرجل سيارة جديدة وذبح لها ذبيحة، وسمى الله فقال: باسم الله والله أكبر، أو ذبح للولي، فهذا يعتبر ذبحاً لغير الله؛ لأن الله يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِيْ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] إذاً: فالذبح لولي أو لملك معظم يكون شركاً. أما إذا جاءك رجلٌ عزيز عليك فذبحت له فلا يقال: إن هذا الذبح شرك، ولا يقال: توحيد، ولكن يقال: هذا من الكرم، لكن إذا ذبح شخص لقدوم الملك، والملك لا يجلس عنده إلا مدة السلام فقط، ثم لما ذهب ذلك الرجل العزيز عليه رمى هذه اللحم ولم يأكله أو يوزعه، فكأنه ذبح تشريفاً لقدومه فقط، فهنا يقع في الشرك. أيضاً: قد تبين في الشرع أن الاستغاثة عبادة، وأن صرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك، فمن استغاث بغير الله فقد أشرك، ومن استغاث بعيسى فقد أشرك، ومن استغاث بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد أشرك، ومن استغاث بإبراهيم فقد أشرك؛ لأن الاستغاثة لا تكون إلا بالله جل في علاه. جاء في الحديث: (فاستغاثوا بآدم)، وكذلك في الآية {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15]. أقول: هناك استغاثة أباحها الله جل في علاه بشروط وقيود فما حكم هذه الاستغاثة؟ نقول قبلها: إن الله ورسوله قد ذكرا هذه الاستغاثة، كما في الآية والحديث وأقرَّاها، والله تعالى ورسوله لا يقرَّان الشرك. وأما شروط الاستغاثة المباحة فتُعْلَمْ من خلال الاستقراء، فالرجل المستغيث بموسى لما استغاث به كان موسى حياً فهذا أول شرط، وكان موسى حاضراً، هذا شرط ثانٍ، فاستغاث به الرجل ولموسى القدرة على ذلك كما قال تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15]. إذاً: فالرجل نظر إلى موسى فوجده حياً حاضراً قادراً فاستغاث به، وكذلك في الحديث لما استغاثوا بآدم، فإنه كان حياً حاضراً، وكانوا يظنون أنه قادر على أن يشفع لهم، لكنه امتنع واعتذر لهم بأن له ذنباً يمنعه من الشفاعة. إذاً: من خلال ما سبق، نفهم أن الاستغاثة بالمخلوق مباحة بشروط وهي: أن يكون المستغاث به حياً حاضراً قادراً على الشفاعة. ولكن لو جاء إلى رجل وقال له: أجدبنا، فاتق الله فينا وأنزل علينا المطر، فهذه استغاثة شركية؛ لأنها استغاثة بحي حاضر، لكنه غير قادر على ذلك.

حكم تلبس الجن بالإنس

حكم تلبس الجن بالإنس مسألة: هل الجني يتلبس بالإنسان أولاً؟ هناك من ينكر ذلك، فقد جاءني بالأمس طبيب يعترض ويقول: كيف يدخل الجني في الإنسان؟ فقلت له: لا اجتهاد مع النص، فهل أنت معي في هذا؟ قال: نعم. قلت له: لقد جاء في سنن أبي داود والنسائي وغيرهما من السنن بسند صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على امرأة ولها طفل صغير يعاني من الصرع - فيه جنون- فقالت: يا رسول الله! هذا ابني- أي: انظر فيه- فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فعلم أنه مصروع، ففغر فاه -فتح فاه- ثم تفل في فيه ثم قال: اخرج عدو الله، إني رسول الله)، فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا يخاطب الجني ويقول له: (اخرج عدو الله إني رسول الله) فهذا نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: إن النص هو القرآن وأنه لا يحتج بالحديث والعياذ بالله. وقد جاء عن كثير من السلف إثبات الصرع، وعلاج المس، كما ورد ذلك عن أحمد بن حنبل وعن شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما. ودلالة الآية واضحة جلية: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]، وكذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128]، والاستمتاع هنا بإطباق المفسرين جميعاً: هو استمتاع الجني بالإنسي، بأن يشرك الإنسي بالجني مع الله، وذلك بأن يقدم القرابين للجني حتى لا يؤذيه، ومن معاني الاستمتاع هنا: أن الجني يفعل للإنسي خوارق الأمور، كأن يطير به في الهواء، ويمشي به على الماء، ويخبره بالغيب النسبي لا بالغيب المطلق. فتلبس الجن بالإنس ثابت بالكتاب والسنة، لكن هؤلاء يهرفون بما لا يعرفون.

فوائد أحاديث الشفاعة [3]

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - فوائد أحاديث الشفاعة [3] قد يمر المرء بحالة ضعف في الإيمان، فيرتكب معصية، ويضعف أمام وساوس الشيطان، ولكن الله يعلم منه أنه لا يحب الكفر، بل يحب الإيمان، فأنزل الله من النصوص ما يدل على أن صاحب الكبيرة ليس بكافر، بل هو مؤمن ناقص الإيمان أو مسلم، وخالف في ذلك قوم من المبتدعة، فكفروا الناس بالمعاصي، وشفاعة رسول الله للعصاة ترد قول هؤلاء المبتدعة، فهو صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة، ونعمة من الله مسداة.

حكم أهل الكبائر

حكم أهل الكبائر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: ما زلنا مع حديث الشفاعة، وفي الكلام عن المقام المحمود العظيم الذي شرف الله به نبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، في حين أن كل نبي يقول: نفسي نفسي، ويحيلها على غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا لها، أنا لها)، وفي بعض الروايات يقول: (أمتي أمتي)، وذلك رحمة وشفقة منه صلى الله عليه وسلم كما سنبين، ومن الأحاديث التي أوردها المصنف: ما جاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة يدعو بها، فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة). إن من الفوائد العظيمة في حديث الشفاعة: حكم أهل الكبائر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، وفي بعض الروايات: (أنه يستأذن على ربه كثيراً، وكلما دخل على الله استأذن عليه، فسجد فحمد الله بمحامد يعلمه الله إياها ما كان يعلمها وهو في الدنيا، فيحمد الله بها، ويثني عليه بها، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطى، واشفع تشفع، فيقول صلى الله عليه وسلم: أمتي أمتي، ثم يأمره الله أن يذهب فيخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، أو من في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، يعني: من أصحاب الكبائر وغيرهم، لكن الأصرح منه قوله عليه الصلاة والسلام: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي). فهذه الآية تبين لنا المعتقد الصحيح لأهل السنة والجماعة، الذين يعتقدون أن أهل المعاصي والكبائر ليسوا كفاراً، وأنهم ليسوا مخلدين في نار جهنم أبداً، بل هم في مشيئة الله جل في علاه، إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذبهم بذنوبهم، ثم مآلهم بعد ذلك إلى الخلود في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

تكفير الخوارج والمعتزلة لأهل الكبائر

تكفير الخوارج والمعتزلة لأهل الكبائر إن عقيدة أهل السنة والجماعة تفضح عقيدة أهل البدع من الخوارج والمعتزلة، فالخوارج يكفرون بالمعصية ويقولون: إن الزاني والكاذب والسارق يكفرون بتلك المعاصي، بل إن صاحب المعصية يكون من أهل النار خالداً مخلداً فيها، ويزعمون أن لهم في ذلك أدلة من الكتاب والسنة، فهم بذلك لبسوا على الناس بفهم هذه الأدلة، وكفروا أكثر المجتمعات، بل إن بعضهم كفر نفسه أكثر من مرة، واغتسل أكثر من مرة غسل الدخول في الإسلام من جديد، وذلك أنه كان كلما اغتاب أحداً يقول عن نفسه: إني قد كفرت، فيدخل فيغتسل ليدخل الإسلام مرة أخرى.

أدلة الخوارج والمعتزلة في هذه المسألة

أدلة الخوارج والمعتزلة في هذه المسألة لقد أصبح من يريد أن يبتدع يبحث له عن حجة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومما استدل به هؤلاء من كتاب الله جل في علاه، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم على تكفير صاحب الكبيرة أنهم قالوا: لدينا أربعة أدله تثبت كفر صاحب المعصية منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه كافراً، فلم لا نسميه كافراً كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم؟ ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكد كفر صاحب المعصية، فنزع عنه اسم الإيمان. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جزم بأن صاحب المعصية من أصحاب النار. ومنها: تأكيد رسول الله أن صاحب المعصية لا يدخل الجنة. فهذه أربعة من الأدلة التي إذا نظر إليها الغر الذي لا يعرف دقائق العلوم قال: إن هؤلاء القوم عندهم من الكتاب والسنة ما لا يستطيع أحد أن يواجههم به. ونأتي هنا إلى أدلتهم التي استدلوا بها على كفر من فعل المعصية، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين قال فيه: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، يعني: أن من رفع السلاح على أخيه، أو أشهره عليه وقاتله، فإنه كافر؛ لتصريح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وآكد من ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، قالوا: الفسوق هنا قرين للكفر، محتجين بالآية: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:82]، يعني: الكافرون. فالفسوق هنا كفر عندهم، وقالوا: المذكور في الحديث ليس من الصغائر ولا المخالفات فقط بل من الكفر، وكل واحدة أشد من الأخرى، فهذا تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بكفر فاعل هذه المعصية. واستدلوا أيضاً بما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثنتان في أمتي هما بهم كفر، منها: النياحة على الميت)، وفي رواية (الاستسقاء بالنجوم)، وفي رواية أخرى: (الطعن في الأنساب). وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم سمى هذا الفعل كفراً، وهو اللطم على الخدود، أو النياحة على الميت، أو الطعن في الأنساب. أما الصنف الثاني من أدلتهم: فهو تأكيد رسول الله بأن فاعل المعصية كافر، فنزع عنه اسم الإيمان، وإذا نزع عنه اسم الإيمان فقد حل محل الإيمان الكفر، وذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، أي: أنه لا يزني الزاني حين يزني إلا وهو كافر، فقالوا: وكذلك لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، وغير ذلك من المعاصي. وأيضاً قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم نزع الإيمان عن أكثر من واحد فعل هذه المعاصي، ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، فإن قلت: إنه ليس بمؤمن فهو كافر -هذا على حد قولهم-، قالوا: وقد سماه أولاً كافراً، وأكد ذلك بأن فاعل المعصية لا يسمى مؤمناً. والصنف الثالث من أدلتهم: أنهم قالوا: لقد جزم النبي صلى الله عليه وسلم بدخول فاعل المعصية النار، والأدلة قد صرحت بأنه من أهل النار، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93]، ثم أكد أنه من أهل النار بقوله: {خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تحسى سماً فهو في نار جهنم يتحساه خالداً مخلداً فيها)، وقال: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها). وأيضاً: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]. والصنف الرابع من الأدلة: تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم بأن فاعل المعصية لا يدخل الجنة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة قاطع رحم)، وأيضاً قال: (لا يدخل الجنة قتات)، وقال: (لا يدخل الجنة ديوث)، فكل هذه الأحاديث تثبت عدم دخوله الجنة، وهي أدلة متواترة تعضد القول بأن صاحب المعصية يدخل النار ولا يدخل الجنة، وإذا قلنا: إنه يدخل النار ولا يدخل الجنة، فهو خالد مخلد في نار جهنم. فهذه هي أصناف الأدلة الأربعة التي استدل بها هؤلاء على كفر صاحب المعصية كفراً يخرجه من الملة، فيستحق بذلك الخلود في نار جهنم.

مذهب أهل الحق في حكم أهل الكبائر

مذهب أهل الحق في حكم أهل الكبائر إن أهل السنة والجماعة هم الذين اعتدلوا في هذه المسألة، فهم يأخذون بأدلة كثيرة تدل على أن فاعل المعصية ليس بكافر، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، أو أنه خرج من دائرة الإيمان لكنه باقٍ في دائرة الإسلام، وذلك أن مراتب الدين هي: الإسلام والإيمان والإحسان. وأهل الحق عندما يذكرون الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان يقولون: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن؛ لأن الإسلام أقل مرتبة من الإيمان، فالمسلمون كثر، ولكن أهل الإيمان أقل، فالإيمان أعم من جهة أنه إسلام وزيادة، فيترقى المرء في سلم القرب إلى الله بالإسلام أولاً، ثم بالإيمان، فالذي يسقط عن مرتبة الإيمان لا ينزل إلى الكفر مباشرة؛ لأن هناك مرتبة تحت الإيمان وهي الإسلام، وفوق درجة الإيمان والإسلام درجة الإحسان، والإسلام أعم من جهة أنه يدخل تحته من الناس أكثر مما يدخل تحت الإيمان، فإذا كان المسلمون كثراً، فإن المؤمنين أقل منهم.

أدلة أهل الحق على عدم كفر أصحاب الكبائر

أدلة أهل الحق على عدم كفر أصحاب الكبائر إن من نزل عن درجة الإيمان إلى درجة الإسلام لا نقول: إنه كافر بحال من الأحوال، وعندنا في ذلك من الأدلة ما يثبت ذلك، فمنها: الحديث المذكور من أحاديث الشفاعة، وهذه الفوائد من هذه الأحاديث في باب الشفاعة، وقد بينا أن الشفاعة ثابتة لأهل الإيمان، وملغاة عن أهل الكفر، والدليل على أن الشفاعة ملغاة عن أهل الكفر: هو مقدمة أولى لنتيجة مهمة، وهي أن العاصي له شفاعة، فإذا قلت: إن الشفاعة لا تجوز للكافر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سيشفع في الزاني وفي السارق، فيلزم من ذلك أن الزاني ليس بكافر، والسارق ليس بكافر. ولكننا نتكلم أولاً عن المقدمة وأدلتها: قال تعالى عن الكفار: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وقال على لسانهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]، وجاء في سورة البقرة في أكثر من آية قوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48]، فالكفرة لا شفاعة لهم، ولا شفاعة تنفعهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يثبت أن أهل الكبائر تنفعهم الشفاعة، فالمقدمة الأولى: أن الشفاعة ملغاة عن الكفار، والمقدمة الثانية: أن أهل الكبائر لهم شفاعة، وليست ملغاة عنهم، ونتيجة المقدمتين: أن أهل المعاصي من أهل القبلة مؤمنون وليسوا من الكفار. وأول دليل في ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، ووجه الدلالة في الحديث أمران: الأمر الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر)، إذ سماهم: أهل الكبائر، وجعل لهم الشفاعة، والثاني قوله: (من أمتي)، فجعلهم من أمة الإسلام، وأنا أقول ذلك؛ لأنه جاء حديث في مسند أحمد بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أمة إلا وفيهم أهل الجنة، وأهل النار)، أو قال: (ما من أمة إلا وبعضهم في الجنة، وبعضهم في النار)، أي: أن بعضهم اتبعوا الرسل، وبعضهم كفروا بالرسل، ونهاية الحديث: (ما من أمة إلا وبعضهم في الجنة، وبعضهم في النار، إلا أمتي فكلهم في الجنة)، وهذا الإشكال في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ويحتاج إلى حل، إذ أن معناه: أن كل أمته في الجنة؛ لعموم قوله: (أمتي) والجواب أن المقصود بقوله: (أمتي) هنا: أمة التوحيد الذين أجابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد يكون هناك من اسمه مسلم، ولكنه من الكفر بمكان، فهذا ليس من أمة محمد حقيقة، وإن أكل مع المسلمين، وتزوج من المسلمين، وإن ورث المسلمين، لكنه ليس من أهل الإسلام حقيقة، فقول النبي صلى الله عليه وسلم (وأمتي كلهم في الجنة)، يعني: الذين استجابوا لي، فهم من أهل الجنة. وهذا يعضد القول بأن الشفاعة تقع لأهل الكبائر، وأن أهل الكبائر ليسوا من الكافرين. ومن الأدلة على ذلك أيضاً: إخبار الله جل في علاه أن كل ذنب كائن من سرقة، أو كذب، أو ربا، أو عقوق الوالدين، وغير ذلك من الكبائر، فكله تحت مشيئة الله، وأن الله قد يغفره إلا الشرك، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، ثم قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. فما دون الشرك من كل الذنوب والكبائر فهو تحت مشيئة الله جل في علاه. وكذلك: إن أسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم الذين قالوا لا إله إلا الله، وهناك أدلة كثيرة جداً تثبت أن من قال: لا إله إلا الله، فإنه من أهل الجنة، إما من أول وهلة، وإما أن يعذب ثم يدخل الجنة، وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة، ولو كان يوماً من الدهر). وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (من قال أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، دخل الجنة على ما كان من عمل)، أي: على أي عمل أتى به؛ لأنه أتى بالتوحيد، فهذه الأدلة قاضية بأن من أتى بالتوحيد ولو كان من أهل الكبائر، فإنه من أهل الجنة، وإن كان مآله الأول إلى النار فإن آخر مآله هو الجنة. ومن الأدلة التي تثبت أن أهل الكبائر ليسوا من الكفار: تنصيص النبي صلى الله عليه وسلم على أن من أهل الكبائر من يكون من أهل الجنة، وذلك في حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بشرني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، فتعجب أبو ذر فقال: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق). ومعلوم أن الزنا والسرقة كبيرتان، لكن النص يؤكد هنا أن المرء وإن زنى وإن سرق فهو من أهل الجنة، وفي الحديث: (قال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، وإن رغم أنف أبي ذر). فهذا فيه دلالة صريحة على أن صاحب الكبيرة يدخل الجنة رغم أنف من يقول بغير ذلك، وهذه البشارة من جبريل عليه السلام إنما هي وحي من ربه جل في علاه. ثم قد جاء أن فعل السيئات غفرانها داخل في المشيئة؛ لقول الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة:102]، ثم قال الله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102]، إذاً: هم في مشيئة الله جل في علاه. وفي حديث عبادة في الصحيحين قال: (بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا ولا تسرقوا، ثم قال: فمن ارتكب من ذلك شيئاً فعوقب به، فهو كفارة له، وإن ستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له). فأهل الكبائر تحت مشيئة الله، ورحمة الله قد سبقت غضبه، فهم إلى رحمة الله أقرب منهم إلى عقابه جل في علاه، وهذا يستدل به على أن الحدود كفارات، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فعوقب به فهو كفارة له) أي: من عوقب على الزنا، أو على السرقة، بأن جلد مائة جلدة، أو قطعت يده بالسرقة، فهذه الحدود كفارة له، وفي هذا دلالة على أن فاعل الكبيرة ليس بكافر، ووجه الدلالة: أن الكفر لا كفارة له، ولا شيء يكفره أبداً، بل لا بد على صاحبه أن يتوب من الكفر، فإذا رأينا أن الله قد جعل للرجل كفارة للمعصية، فإننا نعلم بذلك أن تلك المعصية ليست بكفر، وأن صاحبها ليس بكافر. والذي يوضح لنا هذا جلياً حديثان: الحديث الأول: حديث المرأة الغامدية التي زنت، فقد جاءت إلى رسول الله وقالت: (يا رسول الله! طهرني، فإني حبلى من الزنا، فأرجعها النبي صلى الله عليه وسلم حتى تلد، ثم أرجعها حتى ترضع، وبعد أن انتهت من الرضاعة أخذها النبي صلى الله عليه وسلم فأقام عليها الحد، فكان خالد يرميها بالحجر، فتناثرت الدماء على ثوبه فقال: لعنة الله عليك، أو سبها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسبها، فإنها قد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم). وفي هذه القصة دلالة على أنها كانت عاصية بزناها، وأن الرجم كان لها كفارة، فليست بكافرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس -يعني: صاحب ربا- لقبلت منه)، وهذه دلالة على عظم إثم صاحب المكس. الحديث الثاني: حديث الغامدي: (عندما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم واعترف بالزنا، فرجمه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما قال: لا ترجموني وخذوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنه يريد أن يرجع عن قوله، فألقموه الحجارة حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تركتموه لتاب وتاب الله عليه)، ثم بعد ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه في أنهار الجنة يسبح فيها، مع أنه قد فعل كبيرة وهي الزنا؛ وذلك لأن القتل أو الرجم حتى الموت قد نحى عنه هذا الزنا، فلا يسأل عنه أمام ربه جل في علاه. وهذه دلالة قاطعة دامغة على أن صاحب الكبيرة ليس بكافر، وأنه من أهل الإيمان، لكنه مؤمن ناقص الإيمان، وهو في دائرة الإسلام لا في دائرة الإيمان، فإذا اعتقدنا هذا الاعتقاد الصحيح وجب علينا أن نرد على الشبه التي قالها أهل الضلالة من الخوارج والمعتزلة.

الرد على أدلة المعتزلة والخوارج

الرد على أدلة المعتزلة والخوارج الخوارج سموا صاحب الكبيرة كافراً، وأما المعتزلة فأجبن من الخوارج إذ خافوا من اتهام أهل الإيمان بالكفر، فيجهز عليهم بسبب تكفيرهم لهم، فقالوا: صاحب الكبيرة ليس بكافر ولا مؤمن، بل هو في منزلة بين المنزلتين. وإن قيل لهم: أين هو في الآخرة؟ قالوا: في النار خالداً مخلداً فيها، فيقال لهم: إذاً: قولكم هذا هو قول الخوارج. فنحن قلنا: إن صاحب الكبيرة لا يكفر بحال من الأحوال إلا من قتل نبياً، فهذه المسألة فيها كلام آخر عند العلماء. فلو أتى الرجل بأكبر الكبائر دون الشرك فهو ليس بكافر، وعلى ذلك نرد على هؤلاء الذين ابتدعوا هذه البدعة الشديدة، فإن كلامهم قد يشوش على العقل الذي لا يعلم الأدلة، ويجعل صاحبه في حيرة من أمره، وأدلتهم كما سبق هي عدة أحاديث منها: حديث: (ثنتان في أمتي هما بهم كفر، وذكر منها: النياحة على الميت)، وحديث: (لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض)، وحديث: (ليس منا من لطم الخدود)، وحديث: (من غشنا فليس منا)، وحديث: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين). فأما الحديث الأول: فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم فعل الكبيرة كفراً، والقاعدة عند أهل السنة والجماعة: أن كل كفر جاء نكرة فالمقصود به كفر دون كفر، وهذا ثبت بالاستقراء والتتبع، فإن أبى علينا أهل البدعة والضلالة وقالوا: الأصل في الكفر هو الكفر الأكبر، فنقول: تعالوا لننظر هل هناك قرائن صرفت هذا الكفر الأكبر أم لا؟ وعندها نظهر لهم القرائن الكثيرة التي دلتنا على عدم إرادة الكفر الأكبر، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وما حدث بين علي ومعاوية: هي فتنة ظهرت، فقال الخوارج: هؤلاء كفرة؛ لأنهم حكموا الرجال وما حكموا الله جل في علاه، فهل معاوية وعلي ينطبق عليهم هذا الحديث؟ A لا؛ بدون أي شك، فقد قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، ولم يقل: وإن طائفتان من الكفار، بل سماهم مؤمنين، فسمى الطائفة الأولى طائفة مؤمنة، وسمى الطائفة الثانية طائفة مؤمنة، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً)، يعني: كفراً دون كفر؛ لأن الله جل وعلا قد سماهم في القرآن مؤمنين. وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم أثبت صرف الكفر إلى الكفر الأصغر، وذلك الحديث هو: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد سيصلح الله به بين طائفتين من المسلمين)، والابن المراد هنا: هو الحسن بن علي، وسماهم مسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم هو نفسه الذي قال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وسماهم كفاراً في هذا الحديث، وفي الحديث الآخر سماهم بالمؤمنين، فهذه دلالة على أن الكفر هنا غير مراد به الكفر الأكبر، ولكنه الكفر الأصغر فهو معصية وكبيرة ولا يصل إلى الكفر، ولو أتينا بهذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، فيكون المراد: الكفر الأصغر، وليس الكفر الأكبر. إذاً: فقد سمى الله المتقاتلين مؤمنين، فكيف نكفرهم نحن؟ فإن الله تعالى يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]. وأما استدلالهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من فاعل المعصية، والتبرؤ لا يكون إلا من الكفار، وذلك حيث قال: (من غشنا فليس منا)، وقال: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين). فالرد على هؤلاء أن نقول: إن البراءة براءتان: براءة مطلقة، وبراءة مقيدة، فالبراءة المطلقة: تكون من الكفر، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتبرأ من أحد مطلقاً إلا إذا كان كافراً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تراءى نارهما)، يعني: الكافر والمسلم. وأما البراءة المقيدة: فإنها تكون براءة من عمل هذا الفعل، لكن صاحب العمل ليس بكافر، وإن كنا نبغض هذا العمل منه، ودليل ذلك من الكتاب والسنة، أما من الكتاب: فقد قال الله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:216]، والبراءة هنا من العمل وليست من نفس الشخص المسلم، وأيضاً: عندما قتل خالد الذين قالوا: صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)، ولم يقل: أبرأ إليك من خالد، بل برئ من عمل خالد؛ لأن خالداً اجتهد وقال: هم قالوا: صبأنا، وما أسلموا، فقتلهم خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أبرأ إليك من فعل خالد). فالبراءة هنا براءة مقيدة، وليست براءة مطلقة، يعني: أن البراءة من شخص براءة مقيدة لا تدل على أنه كافر حتى وإن أتى بالمعصية، فإننا نتبرأ من هذه المعصية، وقد نحب المرء ونبغضه، أي: نحب المرء لتوحيده ولإسلامه، ولطاعته ولصلاته ولزكاته، ونبغضه لزناه ولشربه الخمر، ونبغضه لفجره، ونبغضه لفعله الفاحشة، فقد نبغضه من وجه، ونحبه من وجه آخر، فالبراءة منه هنا تكون براءة مقيدة بالعمل فقط، وليست براءة كلية مطلقة. أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثنتان من أمتي هما بهم كفر، فذكر النياحة على الميت) فالمراد هنا بالكفر: كفر دون كفر؛ لأن النائحة اللاطمة على وجهها ليست بكافرة، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم وضح أنه في عرصات القيامة تأتي النائحة ثم ينظر سبيلها إلى الجنة أو إلى النار، والكافر لا ينظر سبيله إلى الجنة أو إلى النار، بل سبيل الكافر إلى النار خالداً مخلداً فيها، فهذه دلالة من النبي صلى الله عليه وسلم على أن الأحاديث التي قالها واستدل بها المبتدعة محتملة، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى، فنرد المشتبه أو المحتمل إلى المقطوع به، فيدلنا ذلك على أن كل مؤمن وحد وقال: لا إله إلا الله، وسجد لله سجدة، فإنه لا يكفر بحال من الأحوال، ولو أتى بكل الكبائر، بل هو عاصٍ، وحكمه تحت المشيئة، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وإن عذبه الله جل وعلا فإنما يعذبه بهذه المعصية حتى يصير حمماً، ثم يلقى في نهر الحياة، وبعد ذلك يدخل الجنة خالداً مخلداً فيها، فهذه أول الفوائد من هذا الحديث.

رحمة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته

رحمة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته الفائدة الثانية من فوائد أحاديث الشفاعة هي: في قوله صلى الله عليه وسلم: (اختبأت دعوتي؛ شفاعة لأمتي)، يعني: اختبأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته شفاعة للأمة، فما من نبي إلا ودعا على قومه أن يهلكهم الله جل في علاه بعدما عصوا وعتوا عن أمره، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختبأ دعوته؛ شفاعة لأمته، وهذا يدل على رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته، فإنه صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة، وما بعثه الله جل وعلا إلا رحمة للعالمين، وللكافرين قبل المؤمنين، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ورحمة النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة في شرعه صلى الله عليه وسلم، فقد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليعرف الأمم بأسرها بربها جل في علاه، ويهديهم الطريق القويم والصراط المستقيم؛ حتى يصلوا إلى ربهم جل وعلا بسلام، وألا تلفحهم نار جهنم.

رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالكفار

رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالكفار إن من أروع ما يظهر رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الكفر: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أرادوا قتله، وشردوه وتكالبوا عليه، وذهب إلى بني عبد ياليل يطلب منهم أن يدخلوا تحت راية الإسلام، وأنه الرسول إليهم من الله، ردوه رداً مقيتاً، فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم مهموماً هماً شديداً، فبعث الله إليه تسلية له ملكاً يستأذنه في تعذيب أعدائه، وهو ملك الأخشبين، ملك الجبال فقال: (يا محمد! إن الله أمرني أن أأتمر بأمرك، ولو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت). فانظروا إلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الكفر، وذلك أنه قال لملك الجبال: (لا، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، أو من يوحد الله جل في علاه). وأروع من ذلك: عندما مكن الله جل وعلا لرسوله من رقاب أهل الكفر جميعاً، حين دخل مكة متواضعاً مطأطأً رأسه؛ إرضاء لله جل في علاه، وذلك أنه دخل مكة فاتحاً، فقاموا جميعاً في صعيد واحد، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وذلك رحمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل الكفر. وكذلك ورد أنه جاءه بعض المسلمين وقالوا: (يا رسول الله! ألا تدعو على المشركين؟ فقال: ما بعثت لعاناً، ولكني بعثت رحمة)، فأبى أن يدعو على المشركين رحمة منه صلى الله عليه وسلم، وهذا حديث صحيح.

رحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين

رحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين إن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الإيمان بلغت مبلغها، وأروع ما يضرب في ذلك: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فإنه ترك دعوة مستجابة واختبأها لأمته، ولذلك فهو يقول يوم القيامة: (أمتي أمتي)، يبكي فيأتيه جبريل مبشراً ويقول: (إن الله يقول: يا محمد! إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك). ومن شفقة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة: أنه كان إذا وجد الأمر الشديد ينزل بهذه الأمة يقول: (أبشروا أنتم ثلث أهل الجنة)، ثم قال: (أبشروا أنتم ثلثي أهل الجنة)، حتى كبر عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مبشراً زيادة بأن الله سيحثو حثوات بيده سبحانه وتعالى فيدخلهم الجنة، فكبر عمر رضي الله عنه وأرضاه، وكبر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. ومن رحمة النبي بأمته: تذلله وتضرعه وخضوعه لله إذ يقول: (أمتي أمتي)، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وقد ظهرت رحمته بالجاهل قبل المتعلم: فهذا الرجل الذي قام يبول في ناحية المسجد، والمسجد يذكر فيه الله جل في علاه، ويذكر فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويصلى فيه لله، ولكن هذا الأعرابي بال أمام الناس في المسجد، كاشفاً عن عورته، فقام الصحابة وأرادوا أن يفتكوا به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه)، وهذا هو وجه الشاهد في رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الرجل يبول وتنتشر نجاسته في المسجد، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزرموه)، أي: لا تقطعوا عليه بوله، ثم علمه النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه المساجد ما بنيت إلا لذكر الله، فقال الرجل بعدما رأى النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهره: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حجرت واسعاً). ومن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة: (أن الأعرابي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ بمجامع ثوبه حتى أثر في صفحة عنق النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أعطني، ليس من مالك ولا من مال أبيك)، يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم بكل شدة وجفاء، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم له، ويأمر له بعطاء، فيقول للناس: أنا كالذي يربي الإبل ويعرف كيف يسيرها في معنى قوله صلى الله عليه وسلم. وقد جاءه رجل يريد عطية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أعطيتك ورضيت فقل: رضيت)، لأنه تكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم بشدة وبغلظة، وكاد الصحابة أن يفتكوا به، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أرضيت؟ قال: رضيت، قال: إن أصحابي ينظرون إليك نظرة أخرى)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: (سأقوم في الناس، وأقول لك أرضيت؟ فقل: رضيت)، يعني: حتى لا ينتهره الصحابة رضوان الله عليهم فقال: رضيت، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال للرجل: (أرضيت؟ قال: ما رضيت -أمام الصحابة- ومع ذلك رحمه النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه مرة ثانية وثالثة وبعد أن أعطاه قال: أرضيت؟ قال: رضيت، قال: إذا قلت لك أمام أصحابي: رضيت تقول رضيت؟ قال: نعم، فقام أصحابه فقال: أعطيت الرجل فرضي، أرضيت؟ فقال: رضيت، فسكت الصحابة عنه). ومن أروع ما يدل على رحمته: قوله الذي يستحق أن يكتب بماء الذهب: (اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وكلما سجد قال: يا رب! أمتي أمتي)، حتى إن الله جل وعلا بعث له من يبشره ويسليه ويقول له: (إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)، هذه آخر فائدة من هذا الحديث العظيم، وهو حديث الشفاعة، أسأل الله جل في علاه أن يديم علينا هذا الخير. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

عذاب القبر

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - عذاب القبر عذاب القبر ونعيمه ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وإثباتهما يتضمن إثبات حياة برزخية تختلف عن الحياة في الدنيا، وفيها يحصل النعيم أو العذاب، وقد أنكر بعض المبتدعة كالجهمية وغيرهم ذلك وبشبه واهية ضعيفة تخالف الكتاب والسنة وما أجمع عليه المسلمون.

بعض الشبه التي يوردها منكرو حياة البرزخ وعذاب القبر

بعض الشبه التي يوردها منكرو حياة البرزخ وعذاب القبر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: ختم المؤلف رحمه الله الكتاب بمسألتين: المسالة الأولى: شبهه من شبهات أهل البدع والضلالة وهم الجهمية وغيرهم في مسألة إحياء الموتى في القبور وسؤال القبر. فقد سبق الكلام عن عذاب القبر، مع الأدلة التي تثبت ذلك، ولكن أهل البدعة والضلالة من الجهمية وغيرهم ينكرون عذاب القبر، ثم يشوشون على أهل السنة والجماعة ببعض الشبه التي تثبت أنه لا إحياء ولا سؤال في القبر، فيستدلون بقول الله تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]. ووجه الدلالة من هذه الآية: مفهوم المخالفة، فقوله الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، منه أن قبل الخلق موت، ثم بعد الخلق إحياء، فالموت الأول في قوله: {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، ثم إحياء وهو الخلق، ثم الموت عندما يأتي أجل الإنسان، وهذا هو الموت الثاني، ثم الإحياء يوم البعث، يقولون: بأن الموتة الأولى العدم، والإحياء الأول الخلق، ثم الموتة الثانية عند قضاء الأجل، ثم الإحياء الثاني يوم البعث، فيتحقق قوله تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]. فلا إحياء ثالث في القبر، إذ لو قلنا: بأن هناك إحياء في القبر فسيكون هناك إحياء ثالث، ثم بعده موت، وهذا مخالف للآية. فهذه الشبهة التي أوردها المؤلف عن الجهمية في كتابه. وهناك بعض الشبه الأخرى التي قال بها أهل الضلالة والبدعة، فقالوا: من الأدلة على أنه لا سؤال ولا إحياء في القبر: قول الله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56]. فقالوا: هذه الموتة فقط هي التي ذكرها الله جل في علاه، فإذا دخل الجنة فلن يموت موتة أخرى، فلو قلنا بإحيائه في القبر، ثم سؤاله، ثم بالإماتة، كان هناك موتة ثانية، وهذه مخالفة أيضاً للآية، وهذه أدلتهم من السمع. أما من النظر فقالوا: رأينا الميت المقبور أمامنا لا نسمع له صوتاً من الألم ولا نرى تعذيباً يقع عليه. والأمر الثاني: أن أصحاب القبور منهم من يتمتع في نعيم الجنة، والآخر الذي بجانبه يعذب ويتألم من العذاب، ولا يأتي شيء من نعيم صاحب النعيم لصاحب العذاب، وهذا لا يعقل.

الرد على القائلين بأنه لا إحياء ولا سؤال في القبر

الرد على القائلين بأنه لا إحياء ولا سؤال في القبر أولاً: استدلالهم بقول الله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]. استدلال بالمفهوم، المفهوم مطروح غير معمول به، وإن كان مفهوم العدد عند علماء الأصول مختلف فيه، والراجح أنه يعمل بمفهوم العدد. قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ومفهوم المخالفة هنا أنه لا يجوز الزيادة على مائة جلدة، فنقول: هذا المفهوم غير معمول به، فقول الله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11] لا يعني أنه لن يكون هناك أكثر من حياتين أو قوتين، فإن الله قد أمات أقواماً أكثر من مرتين، وأحياهم أكثر من اثنتين، ومنهم الذي مر على القرية وذكره الله في قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} [البقرة:259]، فأماته الله قبل أن يأتيه الأجل وأحياه مرة ثانية. أيضاً صاحب البقرة الذي كان في بني إسرائيل عندما قتل عمه ليرثه، ثم أخذه وطرحه على مشرفة القرية، وقال: قتلوا عمي وأريد الدية، فالله جل في علاه حتى يبين لهم آية من الآيات أمرهم أن يأتوا ببقرة، فقال: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73] فأحياه الله جل وعلا أكثر من مرة. وأيضاً بنو إسرائيل أنفسهم قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243]. وأيضاً أصحاب الكهف أماتهم الله ثلاثمائة عام: {ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25]. وكثير من هذه الأقوام وهذه الطوائف قد أماتهم الله جل في علاه. بل إن بني إسرائيل أمرهم موسى أن يقتل كل واحد منهم أخاه حتى يرضي الله جل وعلا عنهم حيث قال: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54]، ثم بعد ذلك قال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56]، فهذه أيضاً موت وإحياء، وفيها دلالة على أن هناك طوائف وأقواماً أماتهم الله أكثر من مرة وأحياهم أكثر من مرة، فمفهوم المخالفة هنا غير معمول به. والرد الثاني: أن المقصود بقوله: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11] أنه بعد الخلق، فبعد الخلق الموتة الأولى وهي موتة الأجل، والموتة الثانية بعد الإحياء من القبر، ويكون الإحياء الأول في القبر والإحياء الثاني عند البعث، فتؤول الآية بذلك حتى لا يشوش علينا أهل البدع والضلالة، ويثبت لنا أن الله يحيي المقبور، ثم يسأله، ثم بعد ذلك يتنعم أو يعذب. أما الشبهة الثانية: قالوا: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56]. ونقول: هذه تأويلها أنه لا يتذوق الموت الذي هو كموت الدنيا إلا في الدنيا فقط أما في غيرها فلا؛ لأن الحياة البرزخية التي هي أول منازل الآخرة تغاير حياة الدنيا، ولا يصح قياس حياة الآخرة على حياة الدنيا، ولا اتفاق بين الحياة البرزخية وبين الحياة الدنيوية. وأيضاً يمكن أن يقال لهم: إن الموت الذي يحدث في القبر ليس بموت، بل هو نوم، والدليل على ذلك أن الآثار صحت بأن الميت بعدما يبشر بالجنة يقول: رب! أقم الساعة رب! أقم الساعة، فيقال: نم كنوم العروس)، فيكون هذا تأويل على أنها نومة إذا تنزلنا في ذلك، لكن الإجابة الأولى هي الأقوى. أما من ناحية النظر، فإذا قالوا: إن المقبور يتألم، وما نراه يتألم، ولا نراه يعذب، ولا نرى مطرقة على رأسه، ولا نرى الحيات التي تزعمون وتقولون. نقول: هذه بالنسبة لله جل في علاه أيسر ما تكون، فهو إن أراد شيئاً قال له: كن فيكون. وقبل أن نتكلم عن الحياة البرزخية نذكر شيئاً في الواقع المشاهد، فأحد الصحابة عاهد الله بصدق قلب -وقد كشف الله عن قلبه فوجده صادقاً- ألا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك، فلما قتل في المعركة، حماه الله من أن يمسه مشرك؛ لأنه صدق الله فصدقه الله. والقرطبي كان يؤمن جداً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) ويعلم أن الله جل وعلا على كل شيء قدير، ومرة ذهب العسكر للقرطبي يطلبونه، فلما قال هذا الذكر قال: والله! قد مروا أمامي ولم يروني، وهذا بقدرة الله جل في علاه. والصحابي الجليل الذي أراد أن يتزوج عناق وكانت بغياً، وكان يخادنها قبل أن يسلم، فلما أسلم ورأته راودته عن نفسه، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أريد أن أتزوج عناقاً، فأنزل الله جل في علاه: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3]، إلى قوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، فلما لم يتزوجها أخبرت المشركين أنه من جند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقام القوم يبحثون عني، فوقفوا عند رأسي وجعل بولهم يأتي على رأسي ولم يروني. فهذا واقع مشاهد، والله جل وعلا يعمي أبصارهم كما أعمى بصيرتهم فلم يروا هذا العبد، فما بالكم في أمر الآخرة؟! فأمر الآخرة لا يقاس عليه أمر الدنيا، والله جل وعلا يخفي عن الناس أمر العذاب وهو يعذب، ولو أن العباد رأوا هذا العذاب لانتهى الأمر، ولأصبح لا يوجد فرق بين الخبيث ولا الطيب فكل سيؤمن، والمكذبون حين يرون العذاب يقولون: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام:27]، وقد بين الله جل وعلا أن أرقى الإيمان هو الإيمان بالغيب، والله يقيناً سيعذب، فأنت تعلم أن ربك يحيي ويميت يقيناً. والمقصود: نحن نؤمن بالغيب ونقول: إذا ثبت بالطريق الصحيح وبالسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فنحن نسلم لذلك ونقول: سمعنا وأطعنا، وهذا الإيمان بالغيب يفرق بين عبد وبين آخر، وكلما ازداد إيمان العبد بالغيب ازداد يقينه في الله وارتقى عند ربه جل وعلا، وكلما قل كلما قل اليقين في الله، والإنسان يتعامل مع ربه بضعف يقين أو بقوة يقين، ونسأل الله جل وعلا أن يقوي يقيننا فيه جل في علاه. وأيضاً لما قالوا: إن الرجل في القبر يعذب والآخر بجانبه يتنعم وهذا لا يعقل. نقول: هذا يعقل في أمر الدنيا فما بالكم في أمر الآخرة؟! أما في أمر الدنيا: فإن الرجل ينام وبجانبه آخر، فيرزقه الله برؤية صالحة من المبشرات، والآخر يأتي الشيطان يحزنه، فالأول: يرى أنه يعانق الحور العين، ويأكل من ثمر الجنة، ويسبح في أنهار الجنة، بينما الثاني: يرى في منامه أن الشيطان يضربه، وأنه يقتل ويقطع، والألم يأتيه من كل مكان، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت، وهل هذا يشوش على هذا؟! أبداً والله! فمن باب أولى أن يكون هذا مقراً في مسألة الآخرة. فهذه الردود التي يرد بها على أهل البدعة والضلالة الذين أنكروا عذاب القبر.

الأدلة التي تثبت عذاب القبر

الأدلة التي تثبت عذاب القبر

الأدلة من الكتاب على ثبوت عذاب القبر

الأدلة من الكتاب على ثبوت عذاب القبر وحتى أنهي هذه المسألة: إن عذاب القبر والإحياء في القبر وسؤال القبر ثابت -ثبوت الجبال الرواسي لا شك في ذلك بحال من الأحوال- من الكتاب ومن السنة وإجماع أهل السنة. أما من الكتاب: قال الله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21]. فالعذاب الأدنى فسره جمهرة من المفسرين فقالوا: هو عذاب القبر. الآية الثانية: قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] أولت (في الآخرة) أنها أول منازلها وهي: القبر، أي: الثبات في القبر، فيثبت الله جل وعلا العبد ليقول: ربي الله، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، وديني الإسلام. الآية الثالثة -وهي فاصلة في النزاع- التي تثبت عذاب القبر والإحياء والإماتة والنعيم والعذاب في القبر، قال الله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، فقوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46] أي: في القبر؛ لأنه بعد ذلك ذكر المآل فقال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [غافر:46]، إذاً: قبل أن تقوم الساعة هم في الحياة البرزخية يعرضون على النار غدواً وعشياً، نعوذ بالله من الخذلان.

الأدلة من السنة على ثبوت عذاب القبر

الأدلة من السنة على ثبوت عذاب القبر أما في السنة ففي الصحيحين هناك حديث متفق عليه وهذا من أعلى درجات الصحة، وهو ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير). وهذه دلالة صريحة على أن التعذيب يحدث في القبر، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث المفسر الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر)، يعني: ستمتنعون عن دفن موتاكم لو سمعتم عذاب القبر. فهذه دلالة واضحة جداً على أن في القبر عذاباً ونعيماً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

موضع العرش والكلام عليه

شرح كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - موضع العرش والكلام عليه من الصفات الفعلية لله صفة الاستواء على العرش، فالله مستو على عرشه بائن عن خلقه محيط بهم، والإيمان باستواء الله على عرشه يلزم منه الإيمان بأن لله عرشاً يستوي عليه، وأن عرشه تعالى كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض وبعد خلقهن صار العرش فوق السماء.

الكلام على عرش الرحمن والاستواء عليه

الكلام على عرش الرحمن والاستواء عليه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: المسألة الأخيرة التي ختم بها المصنف كلامه: وهي عرش الرحمن. فالإيمان بالله يتضمن الإيمان بربوبية الله، والإيمان بإلهية الله، والإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، ومن ضمن الإيمان بصفات الله جل في علاه: أن تؤمن بصفات الله الفعلية، ومن صفات الله الفعلية الاستواء على العرش، قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فإذا آمنت بأن الله استوى على عرشه فلا بد لزاماً أن تؤمن بأن هناك مخلوقاً اسمه العرش، فالله جل وعلا خلق العرش، وذكره في غير ما موضع من القرآن، قال الله تعالى: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129]، وقال جل في علاه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4]، وقال جل في علاه: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15]. وأيضاً في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا إله إلا الله رب العرش العظيم). فهذا العرش عظيم معظم مكرم ممجد عند الله جل في علاه، وتمجيد هذا العرش وتعظيم هذا العرش بأن الله استوى عليه، وكفى بالعرش شرفاً أن الله استوى عليه، فهو جسم مجسم.

معنى العرش وبيان عظمته

معنى العرش وبيان عظمته معنى العرش: هو سرير الملك، وهو جسم مجسم له قوائم، لكن لا يعلم عظم خلقه ولا كيفية خلق العرش إلا الله جل في علاه. أما الدلالة على قوائم العرش فالحديث الذي في الصحيح وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يبعث الناس قال: (فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش). وخلق العرش عظيم كما قلت، كيف لا وقد أحاط بكل السماوات والأرض، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]. وقد ورد في الآثار بأسانيد صحيحة: (أن السماوات وما فيهن والأرضين وما فيهن بالنسبة للكرسي كحلقات في ترس)، وهذا الكرسي فقط، وابن عباس يقول: الكرسي موضع القدمين، وجنة الفردوس سقفها عرش الرحمن، فلك أن تتخيل عظم خلق العرش عندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن السماوات والأرضين وما فيهن بالنسبة للكرسي كحلقات في ترس)، والكرسي هو موضع القدمين كما قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه. وأيضاً لك أن تتصور عظم خلق العرش لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (إن الله أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)، فكيف بطوله؟! وكيف برجله؟! وكيف بيده؟! وهو يحمل العرش يسبح لله جل في علاه. ويروى في بعض الإسرائيليات -التي ينظر في أسانيدها والتي تقال للترقيق- أن حملة العرش بعدما يأتي يوم القيامة ينظرون إلى عظمة الله فيبكون ويقولون: ما عبدت حق عبادتك، سبحانه وتعالى جل في علاه، هو الذي يشكر القليل من العمل ويغفر الكثير من الزلل، وحتى القليل من العمل لا يكون إلا منه، وما من شيء فيه خير للعبد إلا هو من الله جل في علاه. والمقصود: أن العرش عظيم وعظم خلق العرش لا يقدر قدره إلا ربنا جل في علاه.

بيان مكان العرش

بيان مكان العرش العرش له حالتان: الحالة الأولى: قبل الخلق، والحالة الثانية: بعد الخلق. فالعرش قبل الخلق كان على الماء، كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] يعني: العرش كان قبل خلق السماوات والأرض على الماء، ويفسر لنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم -لأن السنة مبينة لمجملات القرآن مفسرة له- وهو يقول: (كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء)، فالله جل في علاه كان ولم يكن شيء مع الله جل في علاه، وكان عرشه على الماء، ثم استوى الله جل وعلا إلى السماء فسواهن سبع سماوات. فكان الله جل وعلا ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، فاستوى الله جل وعلا إلى السماء بعدما كان العرش على الماء فسواهن سبع سماوات، ثم بعد ذلك أصبح العرش فوق السماء. وفي الصحيح عن ابن مسعود بسند صحيح وهو في حكم المرفوع أنه قال: (بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء وأخرى مسيرة خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء -وهذه اللفظة فيها كلام- مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، ويعلم ما أنتم عليه).

فضائل العرش

فضائل العرش والعرش له فضائل كثيرة في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فهو يحب المؤمنين، وفي هذا رد على أهل البدعة والضلالة وأهل التأويل الذين يقولون: إن هذه جمادات لا تشعر وليس لها ذلك، ولا بد أن تؤول، فيؤولون قول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا أحد جبل يحبنا ونحبه) يقولون: المقصود به أهل الجبل، يقولون: وهو كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف:82]، قالوا: اسأل أهل القرية، فإن الجدران لا تنطق. والصحيح أن الجبل يحب، فقد كان يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأرض نفسها تبغض أهل المعاصي وتنقم على أهل المعاصي، وما من شيء إلا ويشكو من ابن آدم ومعاصي ابن آدم. فالجمادات لها شعور ولها إحساس ولها عبادات، كيف لا وقد صرح الله بذلك، وكيف أرد على ربي قوله، وهو يقول: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]. ولقد ورد بسند بصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: كنا نسمع تسبيح الطعام فكانوا يأكلون ويسمعون تسبيح الطعام. ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتكئ على جذع أثناء خطبته، ثم بعدما بني له المنبر كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب عليه، فحن الجذع إلى رسول الله وسمعوا له أنيناً من شدة الحزن، وما سكت الجذع حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم عن المنبر ووضع يده الشريفة عليه. وموسى عليه السلام عندما اغتسل وكانوا قد اتهموه بأنه آدر، وأراد الله جل وعلا أن يبين أنه ليس به مرض، فقام الحجر فأخذ ثوب موسى وفر به وموسى يجري خلفه يضربه. وكان الشجر يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. وفي الصحيح وفي سنن ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العرش قد اهتز لجنازة سعد) وفي بعض الروايات: (اهتز العرش فرحاً بقدوم سعد). فقال الذين يؤولون -ونقل ذلك البيهقي غفر الله لنا وله-: إن المقصود: اهتز حملة العرش فرحاً بقدوم روح سعد، والصحيح الراجح أن العرش هو الذي اهتز؛ لأن هذا هو قول النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لنا أن نقدر تقادير أو نقول أن هذا مؤول إلا بقرينة، ولا قرينة هنا. فمن فضائل العرش أنه يحب المؤمنين ويعتز بالمؤمنين، واهتز لـ سعد سيد الأنصار، وسعد هذا هو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (كأنك تومئ إلينا يا رسول الله! قال: اللهم نعم، فقال: يا رسول الله! أحبب من شئت وابغض من شئت، وصل حبل من شئت واترك من شئت، والله لو خضت البحر لخضناه معك). وسعد بن معاذ هو الفقيه الأريب اللبيب صاحب المكانة عند الله جل في علاه، وهو الذي قال: اللهم! لا تمتني حتى تقر عيني ببني قريظة، وذلك لما نقضوا العهد مع المسلمين في غزوة الأحزاب، فلما أقسم هذا البار على الله أبر الله قسمه وما أماته حتى حكمه فيهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)، ولما أتي به في مرضه ووضع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم به فقال له النبي: (إن القوم رضوا بحكمك عليهم، فنظر إلى اليهود فقال: أترضون بذلك؟ قالوا: نعم، أخ كريم، فأشار إلى ناحية رسول الله وطرفه لم ينظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا من الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقال: أترضون بذلك؟ قال رسول الله: نعم، فقال: الرجال يقتلون، والنساء والذراري تسبى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد حكمت عليهم بحكم الله من فوق سبع سماوات). هذه مكانة سعد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لمناديل سعد في الجنة خير من كذا وكذا). سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه اهتز عرش الرحمن لقدومه؛ فأي فضيلة وأي مكانة لـ سعد بن معاذ عند الله جل في علاه، لما يستشعر هذا العرش العظيم بفضل سعد فيهتز لقدوم روحه رضي الله عنه وأرضاه. ومن فضل العرش في الدنيا أيضاً: أن الله جل وعلا وضعه كما وضع الكعبة تطوف حوله الملائكة، ثم أوحى الله لملائكته الذين يحملون العرش والذين يطوفون حوله أن يستغفروا لمن في الأرض، فالملائكة الذين يحفون بالعرش ويطوفون حوله: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5]. وفضل العرش يوم القيامة فضل عظيم، لكن هذا لا يناله إلا الخاصة والشرفاء عند الله جل في علاه، فالله جل في علاه إذا حشر الخلائق حشرهم على أرض غير الأرض وسماء غير السماء: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]. فهذه الأرض لا معلم لأحد فيها ولا مستظل لأحد فيها، فالشمس تدنو من الرءوس قدر ميل ولا مستظل لأحد منها إلا عرش الرحمن. فعرش الرحمن أفضل ظل يستظل به المؤمن الشريف الذي له المكانة الراقية عند الله جل في علاه، والله ما جعل هذا العرش ظلاً لأحد إلا للخاصة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، ثم سرد السبعة. نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعاً من هؤلاء السبعة فنستظل بظل عرش الرحمن، وهاء الضمير في قوله ((إلا ظله)) تعود على عرش الرحمن، ولا تعود على الله؛ لأن الظل ليس صفة من صفاته تعالى، نسأل الله جل وعلا أن يغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها، ويجعلنا من المستغفرين، ويجعلنا من المتذللين الخاضعين له، المتقنين في أمر التوحيد الذي هو فرض عين علينا، المتعبدين له به.

§1/1