شرح كتاب التوحيد - عبد الرحيم السلمي

عبد الرحيم السلمي

كتاب التوحيد [1]

كتاب التوحيد [1] توحيد الإلهية هو إفراد الله تعالى بالعبادة والكفر بما يعبد سواه، وهذا هو معنى لا إله إلا الله المتضمنة لنفي عبادة غير الله وإثبات العبادة له سبحانه، وهذان الركنان (النفي والإثبات) لا يتحقق التوحيد بدونهما، وقد جاءت النصوص مبينة فضل توحيد الألوهية وأهميته، ومنزلة محققيه وفلاحهم ونجاتهم وفوزهم في الدنيا والآخرة.

طرق شرح كتاب التوحيد

طرق شرح كتاب التوحيد الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وارزقنا الإخلاص في القول والعمل، إنك على كل شيء قدير. أما بعد: فإن الدرس الذي سنبدأ فيه -بإذن الله تعالى- هو درس في (كتاب التوحيد) للشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وهذا الكتاب من الكتب المتميزة في شرح قضايا توحيد الألوهية شرحاً مفصلاً ودقيقاً إلى درجة كبيرة، وهذا الكتاب يمكن أن يشرح شرحاً طويلاً، ويستغرق سنوات طويلة، ويمكن أن يختصر شرحه في أسابيع بحسب طريقة الشرح، وطريقة العرض والمناقشة. والطول والقصر في الدروس راجعان إلى الطريقة التي يتم بها الدرس، فيمكن أن تكون هناك طريقة متوسعة، بحيث يشرح فيها كل ما يتعلق بالآية أو الحديث أو المسائل التي ذكرها الشيخ، ويفصل في ذلك كثيراً، ويمكن أن يختصر ذلك، فيكون الشرح بطريقة التقعيد والتأسيس، ولهذا شرح الكتاب بهاتين الطريقتين: فشرحه بالطريقة الأولى الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه المشهور: (تيسير العزيز الحميد)، لكنه لم يكمل هذا الشرح، حيث قتل شهيداً -رحمه الله تعالى- على يد إبراهيم بن محمد علي باشا المتعصرن الذي جاء إلى نجد في تلك الفترة، وأتم هذا الشرح وأكمله عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه المشهور (فتح المجيد). وفي هذه الطريقة الأولى -طريقة التوسع والتطويل- قد تذكر مسائل كثيرة لا صلة لها في موضوع التوحيد؛ لتضمن النص القرآني أو الحديث النبوي لها، أو المسألة التي أشار إليها الشيخ. وهناك الشرح المختصر الذي يمكن أن يقتصر فيه على مسائل توحيد الألوهية بشكل مباشر، وبشكل منظم، وكان من أفضل هذه الشروح شرح الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى في كتاب (القول السديد في شرح كتاب التوحيد)، وهو كتاب مشهور ومطبوع، شرح فيه كتاب التوحيد شرحاً مختصراً جداً، حيث يأتي إلى الباب ويذكر فيه الكلام الأساسي الذي من أجله عقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الباب. والطريقة التي سنتبعها في الشرح بإذن الله تعالى هي أننا سنأخذ الأبواب الموجودة في كتاب التوحيد -وهي ستة وستون باباً- ونجعلها على شكل محاور وموضوعات أساسية، وهذه الموضوعات الأساسية يمكن تطويلها، ويمكن ضم بعضها إلى بعض، وقد جعلناها ثمانية محاور، وكل محور يوجد فيه عشرة أبواب أو أقل. وهذه الطريقة في الدراسة يمكن أن نسميها الطريقة الموضوعية؛ لأنه ليس الهدف من دراسة الكتاب هو الوقوف على كل لفظة وشرحها، والحديث عنها بشكل مفصل، وإنما المقصود بيان الهدف الأساسي الذي أراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن يوصله إلى الناس من خلال كتابه هذا الذي هو (كتاب التوحيد). والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لم يؤلف هذا الكتاب في مجلس واحد، وإنما ألفه في فترات متعددة، حيث كان يستعرض القرآن والأحاديث النبوية، ويجمع كل ما يتعلق بتوحيد الألوهية من الآيات والأحاديث، وبعد سنوات اجتمعت لديه مجموعة كبيرة من الآيات، ومجموعة كبيرة من الأحاديث، فصنفها على شكل أبواب، مثل طريقة العلماء السابقين، كطريقة الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، فخرجت هذه الأبواب الموجودة، إلا أن كل كتاب يكون للمبوب له نظرة في تبويبه، وقد تكون هناك نظرة أخرى لغيره فيها، ولهذا اجتهدنا في هذه الطريقة التي هي محاولة تقسيم الكتاب على شكل محاور، ومناقشة هذه المحاور، ثم استعراض الكتاب، ثم استعراض هذه الأبواب، والتعليق عليها بشكل مختصر.

تقسيم التوحيد

تقسيم التوحيد المحور الأول الذي سنبدأ به -إن شاء الله تعالى- هو توحيد الألوهية، مفهومه، وأهميته، وفضله، وحماية الرسول صلى الله عليه وسلم له، فالكلام هو فيما يتعلق بتوحيد الألوهية في ذاته من ناحية تعريف هذا التوحيد وتفسيره، ومن ناحية أهمية هذا التوحيد، ومن ناحية فضل هذا التوحيد، ومن ناحية حماية النبي صلى الله عليه وسلم له. وهذا المحور قد استغرق قرابة سبعة أبواب سنتحدث عنها إن شاء الله بالتفصيل، وهناك محاور تتعلق بالشرك وأنواعه سنأخذها بالتفصيل، وهناك محاور أخرى سنأخذها بشكل متتال إن شاء الله تعالى. إن توحيد الألوهية هو نوع من أنواع التوحيد، والتوحيد ينقسم بحسب الاعتبار الذي ينظر إليه المقسم، فإذا جاء إلى التوحيد باعتبار الموحِّد قسمه إلى قسمين: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد القصد والطلب، أو التوحيد العلمي الخبري، والتوحيد الإرادي الطلبي. وإذا جاء إلى التوحيد باعتبار جهة الموحد وجده ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، فإذا عرفنا الجهة التي ينظر من خلالها إلى التوحيد نفهم سبب التقسيم عند أهل العلم، واختلاف التقسيم عند أهل العلم؛ إذ إننا نجد بعض العلماء يقسمه إلى ثلاثة أقسام، وبعضهم يقسمه إلى قسمين، والحقيقة هي أن التقسيم عمل فني أكثر من كونه معنوياً، حيث ينظرون إلى المعاني ثم يقسمونها، ولهذا يقسمون الواجب في أصول الفقه إلى قسمين: واجب عيني، وواجب كفائي، ثم يقسمونه إلى واجب موسع، وواجب مضيق، وهكذا في عامة العلوم الأخرى. ونحن سنشرح هذه الأنواع الثلاثة بناءً على التقسيم المشهور، وهو التقسيم باعتبار الموحَّد، وهو الله سبحانه وتعالى، فينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. أما توحيد الربوبية فهو توحيد الله عز وجل وإفراده سبحانه وتعالى بالخلق والرزق والتدبير. وأما توحيد الألوهية فهو إفراد الله بالعبادة والتأله. وتوحيد الأسماء والصفات: هو إفراد الله عز وجل بالأسماء الحسنى والصفات العليا، التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا التقسيم لأنواع التوحيد الثلاثة مبني على الاستقراء، وذلك أن العلماء نظروا في النصوص الشرعية واستقرءوها فوجدوا أن التوحيد فيها ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة.

توحيد الربوبية

توحيد الربوبية أما توحيد الربوبية فمثاله قول الله عز وجل: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]. ووجه الاستدلال بهذه الآية هو أنه قدم ما حقه التأخير لفائدة؛ إذ إن أصل الجملة في تركيبتها: (الخلق والأمر له) فقدم الجار والمجرور لفائدة بلاغية، وهي إفادة الحصر والقصر والاختصاص، وهذا هو معنى التوحيد. والخلق معروف، وأما الأمر فينقسم إلى قسمين: أمر كوني، وأمر شرعي. فأما الأمر الكوني فهو موافق لمعنى الخلق، وأما الأمر الشرعي فهو التشريع الذي هو إحلال الحلال وتحريم الحرام، وهو حق خالص لله سبحانه وتعالى.

توحيد الألوهية

توحيد الألوهية وأما توحيد الألوهية فهو إفراد الله بالعبادة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]. وأخبر تعالى عن دعوة الرسل بأنه كلما جاء رسول يدعو قومه قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وهذا هو معنى (لا إله إلا الله) كما سيأتي معنا مفصلاً. ووجه الحصر والاختصاص والقصر في كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هو الجمع بين الإثبات والنفي والاستثناء، والاستثناء هنا يدل على الحصر في المستثنى، وهو الله تعالى، وهذا يدل على أن الألوهية الحقة مستثناة لما بعد أداة الاستثناء (إلا)، وهو الله سبحانه وتعالى.

توحيد الأسماء والصفات

توحيد الأسماء والصفات أما توحيد الأسماء والصفات فقد بينه الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وهذا أيضاً يفيد الحصر بنفس الطريقة التي أفادها الحصر في توحيد الربوبية، حيث قدم الجار والمجرور، وتقديم الجار والمجرور يراد به إفادة الحصر والاختصاص. ولكل واحد من الأنواع الثلاثة أمثلة كثيرة غير ما ذكرنا.

مفهوم توحيد الألوهية

مفهوم توحيد الألوهية أما توحيد الألوهية فهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ومعنى العبادة يبينه ابن تيمية رحمه الله في رسالته (العبودية) بقوله: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. والعبادة مأخوذة من التعبد، يقال: طريق معبد: إذا ذللته الأقدام بالسير عليه، فالتعبد في اللغة مأخوذ من الذل والخضوع، وزاد الشرع فيه المحبة أيضاً، فأصبحت العبادة في الاصطلاح الشرعي يراد بها تمام الذل والخضوع مع كمال المحبة، فإذا حصل هذان فإن العمل يكون عبادة، فإذا صرفت لله عز وجل فهي توحيد، وإذا صرفت لغيره فهي شرك وتنديد.

مفهوم توحيد الألوهية عند أهل السنة

مفهوم توحيد الألوهية عند أهل السنة ومفهوم العبادة واضح عند أهل السنة، لكن هناك طوائف -مثل القبوريين- يخالفون في مفهوم العبادة، فيجعلون العبادة إفراد الله بالخلق، مع أن الألوهية مشتقة من الإله، والإله بإجماع النحاة وإجماع المفسرين معناه (المعبود)، و (إله) فعال بمعنى (مفعول)، أي: مألوه، ومعنى (مألوه) معبود بالمحبة والتوكل والرضا والخوف والإنابة والرغبة والرهبة، وما إلى ذلك من أنواع العبادات، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] قال قتادة -كما روى ابن جرير الطبري -: معبود في السماء ومعبود في الأرض. هذا هو ما يتعلق بمفهوم توحيد الألوهية، وقد يعبر عن توحيد الألوهية بتوحيد العبادة، وهو تعبير آخر، فتوحيد الإلهية: نظر فيه إلى جانب الإله، وتوحيد العبادة ينظر فيه إلى جانب العبد، فتوحيد الألوهية يعني: توحيد التأله لله سبحانه وتعالى، وتوحيد العبادة يعني: توحيد فعل العبد -الذي هو عبادته- لله سبحانه وتعالى، وسيأتي معنا عند قراءتنا للنصوص كيف يكون الربط بين مفهوم (لا إله إلا الله) وبين النصوص التي تدل على العبادة. وبعض العلماء يقسم توحيد الألوهية إلى قسمين: توحيد التنسك أو النسك، وتوحيد الطاعة والتشريع، والحقيقة هي أن القسمين عبادة لله سبحانه وتعالى، فالنسك والتنسك مثل: الذبح، والخضوع، والذل، والمحبة، والخوف ونحو ذلك من أفعال العبد، فهي تنسك وهي تعبد في ذات الوقت. والطاعة والتشريع أيضاً من العبادة، ولهذا يقول الله عز وجل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] فسمى الحكم عبادة. و (لا إله إلا الله) هي كلمة مركبة من جملتين: الجملة الأولى: هي جملة النفي (لا إله)، والجملة الثانية: هي جملة الإثبات (إلا الله)، فأما الجملة الأولى التي هي جملة النفي (لا إله) فمعناها: لا معبود ولا مربوب ولا مشرع ولا محبوب محبة تأله بحق إلا الله سبحانه وتعالى، فيجب أن يعبد وحده دون شريك، فهي تتضمن أمرين: الأمر الأول: إيجابي، وهو التعبد لله عز وجل، بمعنى: صرف العبادة له، وهذا مأخوذ من الإثبات. والأمر الثاني: سلبي، وهو البراءة من كل معبود غير الله عز وجل، وقد يسمى الطاغوت، وقد يسمى الشرك، وقد يسمى الكفر، وقد يسمى النفاق، وكل معبود ومألوه تصرف له العبادة غير الله عز وجل يجب بغضه وكرهه والبراءة منه، كما سيأتي معنا تفصيلاً، وهذا هو مفهوم الألوهية.

مفهوم توحيد الألوهية عند القبوريين

مفهوم توحيد الألوهية عند القبوريين أما القبوريون فإنهم يرون أن الألوهية مشتقة من الإله، و (إله) على وزن فعال بمعنى (فاعل) أي: (آله) بمعنى: خالق، فهم يفسرون توحيد الألوهية بأنه توحيد الربوبية، فيجعلون توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية بمعنى واحد لا يفرقون بينهما، ويقولون: التفريق بينهما خطأ كبير، وبناءً على هذا جعلوا الشرك منحصراً في الربوبية فقط، فمن نسب الخلق لغير الله عز وجل، أو نسب التدبير لغير الله عز وجل؛ فإنهم يعتبرونه مشركاً، أما لو صرف الخوف والمحبة وأنواع المرادات لغير الله عز وجل فإنهم لا يعتبرونه مشركاً، ومن هنا وقعت الخصومة الكبرى بين أهل السنة من جهة، وبين القبوريين من جهة أخرى، فأعمال عباد القبور عند القبور -مثل: الطواف حول القبر، والذبح لصاحب القبر، والنذر، والاستغاثة، ودعاء صاحب القبر ونحو ذلك -نرى أنها شرك أكبر؛ لأنها صرف للعبادة لغير الله عز وجل، أما هم فإنهم لا يرونها شركاً؛ لأنهم يقولون: إن هؤلاء لا ينسبون الخلق لغير الله، فقلنا لهم: وإذا كانوا لا ينسبون الخلق لغير الله فهل يعني هذا أنهم من الموحدين؟ فقالوا: نعم؛ لأن التوحيد هو إثبات أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت. أما نحن فنقول: التوحيد ليس هو إثبات أن الله هو الخالق والرازق والمحيي والمميت فقط، بل هو أيضاً إفراد الله بالعبادة، ولهذا كان المشركون يعرفون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت ولم ينفعهم ذلك، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] فأثبت لهم شيئاً من الإيمان، لكنه لا ينفعهم، قال ابن عباس في هذا الإيمان الذي لا ينفعهم: إذا سألت أحدهم: من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ قال: الله، فهذا لا ينفعه؛ لأنه سبحانه قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]. ومن هنا لما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، وهم يعترفون بأن الله الخالق والرازق والمحيي والمميت، فلم يقولوا ذلك موافقة له؛ لأنهم عرفوا حقيقة دين الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ} [ص:5] يعني: المعبودات {إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]. وعندما نوقشوا في كونهم يعبدون الآلهة وهي أصنام قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فصرحوا بلفظ العبادة فقالوا: ((مَا نَعْبُدُهُمْ))، فلم ينسبوا إليهم الخلق والرزق والإحياء والإماتة كما يظن القبوريون، وإنما عبدوهم من دون الله سبحانه وتعالى. فحقيقة توحيد الألوهية هي صرف العبادة لله، والموحدون يتفاوتون في توحيد الألوهية، فبعضهم عنده أصل التوحيد، ولكن عنده ذنوب ومعاص تقلل من توحيده، وبعضهم توحيده تام كامل؛ لإتيانه بأصول العبادات والواجبات والمستحبات، ولهذا سيأتي معنا أن التوحيد ينقسم إلى قسمين: توحيد تام يكون لصاحبه الأمن والاهتداء التام، وتوحيد ناقص يكون لصاحبه أصل الأمن والاهتداء، ولكن ليس له الأمن التام، فقد يخاف، ولكن مرده إلى الأمن بإذن الله تعالى.

باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، وقول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]]. عقد المؤلف هذا الباب ليبين أن ترك الشرك ركن أساسي في توحيد الألوهية؛ لأن الآية تخبر عن المشركين الذين يعبدون الصالحين، حيث قال تعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ)) يعني: يدعونهم. فالمقصود بقوله: ((أُوْلَئِكَ)) الإشارة إلى من يدعوهم المشركون، ((يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)) يعني: من الأنبياء والصالحين المعبودين من دون الله سبحانه وتعالى. فترك الشرك والبراءة منه داخل في أساس الدين وفي أصل الدين، فلو أن إنساناً قال: أنا أعبد الله، لكن لا أتبرأ من الشرك، ولا أقر بأن المشرك يكون من أهل جهنم، فإنه لا يعتبر موحداً. ولهذا فإن الدعاوى الموجودة في هذا العصر التي يرددها بعض الناس، حيث يقولون: إن اليهود والنصارى ليسوا كفاراً، وإننا نحن وإياهم نلتقي في الملة الإبراهيمية، وإننا جميعاً من أهل الجنة، وإن الإسلام طريق إلى الله، واليهودية طريق إلى الله، والنصرانية طريق إلى الله، هذه الدعاوى كفر أكبر، وقائلها لم يحقق أصل الدين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28]]. قال المفسرون في قوله تعالى: ((وَجَعَلَهَا كَلِمَةً)) قالوا: الكلمة هي (لا إله إلا الله)؛ لأن هذه الآية مطابقة لمعنى (لا إله إلا الله)، فقوله: ((إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ)) يطابق (لا إله)، وقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:27] يطابق: (إلا الله). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]]. هذه الآية أيضاً مطابقة لمعنى لا إله إلا الله، فقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] يعني: أشركوا مع الله عز وجل الأحبار -وهم علماء اليهود- والرهبان، -وهم عباد النصارى- حيث اتخذوهم أرباباً؛ لأنهم يحلون لهم الحرام فيتبعونهم، ويحرمون عليهم الحلال فيتبعونهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتلك عبادتهم)، وهذا هو معنى قول الله عز وجل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]. ولم يكتف المؤلف رحمه الله بالآية الأولى في الدلالة على مطابقة كلمة التوحيد لدعوة إبراهيم عليه السلام لأن الذي جاء في الآية الأولى آية الزخرف، -وهو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26] هو صنف من أصناف العبادة، وهذا صنف آخر، وهو الحكم والتشريع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]]. هذه الآية فيها بيان للمحبة ووقوع الشرك فيها، وسيعقد الشيخ لها باباً مستقلاً بإذن الله تعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل)]. قوله: (من قال: لا إله إلا الله) هذا هو الجانب الإيجابي، وهو فعل العمل الصالح، يعني أن قول (لا إله إلا الله) والصلاة والصيام والمحبة والخوف كل ذلك ينبغي أن يُصرف لله سبحانه وتعالى، وهذا موافق لقوله: (إلا الله). وأما الجانب السلبي الآخر فهو قوله: (وكفر بما يعبد من دون الله)، فقد جعل الكفر بما يعبد من دون الله داخلاً في أصل الدين، حتى إنه لا يقبل إسلام الشخص إذا لم يكفر بما يعبد من دون الله؛ لأنه قال: (حرم ماله ودمه وحسابه على الله). فهذا الباب المقصود به بيان حقيقة توحيد الألوهية، وتفسير شهادة أن لا إله إلا الله، وأنها مركبة من ركنين أساسيين: الركن الأول: النفي، ومعناه: نفي الأرباب ونفي الأنداد ونفي الطواغيت ونفي الآلهة. الركن الثاني: إثبات العبادة لله وحده سبحانه وتعالى.

أهمية توحيد الألوهية

أهمية توحيد الألوهية لهذا المحور الذي سنتحدث عنه أهمية كبيرة جداً؛ لأن الإنسان إذا عرف توحيد الألوهية علم أنه هو حقيقة الإسلام، ثم إذا أراد أن يتحدث عن أهمية الإسلام فإنه يجد شيئاً كثيراً، ولكننا سنحصر أنفسنا فيما ذكره الشيخ. فقد ذكر الشيخ مجموعة من الأمور التي تدل على أهمية التوحيد: الأمر الأول: الحكمة أن من خلق الجن والإنس هي تحقيق توحيد الألوهية، فالله عز وجل ما خلق الناس في هذه الدنيا إلا ليوحدوه ويفردوه بالعبادة سبحانه وتعالى، والعبادة لا تصح إلا بهذا التوحيد، وهذا مذكور في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. الأمر الثاني: أن توحيد الألوهية هو حقيقة دعوة الرسل، فالرسل عليهم السلام حين جاءوا لدعوة أقوامهم جاءوهم بالدعوة إلى توحيد الألوهية؛ لأن توحيد الألوهية هو أصل الإسلام، فإذا آمن به الشخص؛ فلابد من أن يؤمن بتوحيد الربوبية معه، ولابد من أن يؤمن بتوحيد الأسماء والصفات معه أيضاً. يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فقوله تعالى: ((أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ)) موافق للإثبات في (إلا الله)، ((وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) موافق للنفي في (لا إله)، ويمكن أن نستعرض القرآن ونستخرج منه كثيراً من الأمثلة بهذه الطريقة. الأمر الثالث: أن توحيد الألوهية هو أول أمر أمر الله سبحانه وتعالى به، يقول الله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، فقوله: (وقضى) معناه: أمر ووصى، فأول أمر من الأوامر الشرعية أمر الله عز وجل به هو توحيد الألوهية، وهذا يدل على أهميته وفضله. يقول الله عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36] في سياق جملة من الحقوق، فجعل توحيد الإلهية أول حق من الحقوق. الأمر الرابع: أن الشرك هو أعظم محرم، فإذا كان التوحيد هو أعظم أمر أمر الله سبحانه وتعالى به، فالشرك الذي هو عكسه هو أعظم محرم في نفس الوقت، يقول الله عز وجل: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151]، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153]. وهذه الآيات تسمى آيات الوصايا العشر، وقد بدأها الله سبحانه وتعالى بالتحذير من الشرك الذي هو رأس المحرمات. الأمر الخامس: أن التوحيد حق لله سبحانه وتعالى، وهذا وارد في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)، وهذا هو توحيد الألوهية، فقوله: (أن يعبدوه) بمعنى: (إلا الله)، (ولا يشركوا به شيئاً) بمعنى: (لا إله)، فهو نفس معنى (لا إله إلا الله). ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً. قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا). إذاً: يمكن أن نبرز أهمية توحيد الألوهية باعتبار أنه لا يمكن أن يثبت للإنسان اسم الإسلام ووصفه وحقوق الإسلام إلا إذا جاء بتوحيد الألوهية، وأما إذا لم يأت بتوحيد الألوهية فإنه لا يثبت له شيء من أوصاف الإسلام؛ لما جاء في الحديث: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله) يعني أن من لم يحقق ذلك فدمه حلال وماله حلال؛ لأنه ليس من المسلمين، وهذا يدل على أهمية توحيد الألوهية.

فضل توحيد الألوهية

فضل توحيد الألوهية قسم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الحديث عن فضل توحيد الإلهية إلى قسمين: الأول: الحديث عن فضله بشكل عام، فقد بوب له باباً وقال: [باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب]. الثاني: فضل من حققه، يعني: من جاء بحقيقته، وبوب له باباً خاصاً سماه (باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب). إذاً: فباب فضل التوحيد، وباب من حقق التوحيد يجتمعان في نقطة واحدة، وهي فضل التوحيد عموماً، فالأول: فضل عام، والثاني: فضل خاص لفئة معينة، وهي التي جاءت بتحقيق التوحيد.

حصول الأمن والاهتداء

حصول الأمن والاهتداء أما فضل التوحيد فقد جاء فيه بأنواع من الفضل يمكن أن نلخصها في الأمور الآتية: الأمر الأول: أن التوحيد سبب في الأمن والاهتداء، وهذا الفضل أخذناه من آية الأنعام التي ذكرها، وهي قول الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، فقوله: ((الَّذِينَ آمَنُوا)) يعني: وحدوا، والتوحيد والإيمان بمعنى واحد، ((وَلَمْ يَلْبِسُوا)) يعني: لم يخلطوا، ((إِيمَانَهُمْ)) يعني: توحيدهم، ((بِظُلْمٍ)) يعني: بشرك. وعرفنا أن الظلم هنا المقصود به الشرك بما ثبت في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه لما نزلت هذه الآية قال الصحابة رضوان الله عليهم: (أينا لم يظلم نفسه يا رسول الله؟ قال: ليس الظلم الذي تظنون، ألم تقرءوا قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]). إذاً: فترك الشرك والإتيان بالتوحيد سبب في الأمن والاهتداء في الدنيا والآخرة. والأمن والاهتداء ينقسم كل منهما إلى تام وناقص كما ينقسم التوحيد، فالأمن التام يكون لصاحب التوحيد التام، والأمن الناقص يكون لصاحب التوحيد الناقص، والأمن التام هو ألا يدخل صاحبه النار أبداً، ولا يمسه شيء من النار، ومعنى الأمن الناقص أنه قد يعذب في النار ويحصل له الخوف، لكنه لا يخلد فيها، ولهذا قد يعبر بعض العلماء -مثل ابن تيمية رحمه الله- في كلامه عن هذه الآية بالأمن المطلق ومطلق الأمن، والأمن المطلق هو الأمن التام، والاهتداء المطلق هو الاهتداء التام، ومطلق الأمن ومطلق الاهتداء يراد به أصل الأمن وأصل الاهتداء، فقد يخالط الأمن خوف كما يخالط التوحيد شيء من الذنوب والمعاصي، لكن أصل الأمن والاهتداء موجود.

الصيرورة إلى الجنة

الصيرورة إلى الجنة الأمر الثاني: أن التوحيد أن الموحد مصيره إلى الجنة ولو حصل له شيء من العذاب، وهذه قاعدة من قواعد أهل السنة، وهي أن الموحد الذي مات على التوحيد فلم يقع في شيء من الكفر لابد من أن يكون من أهل الجنة عند الله سبحانه وتعالى، ولو حصل له شيء من العذاب أو مسه شيء من العذاب؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) يعني: ولو كان عنده شيء من العمل المحرم أو شيء من العمل الناقص، فإن الله عز وجل سيدخله الجنة، ونهايته إلى الجنة. وتوحيد الإلهية الكائن في هذا الحديث مذكور في بدايته في قوله: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله).

أن التوحيد لا يعدله شيء

أن التوحيد لا يعدله شيء الأمر الثالث: أن التوحيد لا يعدله شيء؛ لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال موسى: يا رب! علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال: يا رب! كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، و (لا إله إلا الله) في كفة، مالت بهن (لا إله إلا الله)) رواه ابن حبان والحاكم وصححه، وهذا الحديث فيه ضعف؛ لأن في إسناده دراجاً أبا السمح، وهو ضعيف، ولكن له شاهد في مسند الإمام أحمد في قصة لنوح عليه السلام مشابهة لهذه الرواية، فتكون شاهداً له لهذا الحديث، ويرتقي إلى درجة الحسن، فهو من المحتج به.

تكفير الذنوب ومحوها

تكفير الذنوب ومحوها الأمر الرابع: أن التوحيد يكفر الذنوب ويمحوها، وذَكَر له شاهداً عند الترمذي من حديث أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) يعني: لو أتيتني بما يقارب الأرض خطايا ثم جئتني بعيداً عن الشرك؛ فإن هذه الذنوب تغفر بفضل توحيد الألوهية؛ لمكانته وأهميته. وتوحيد الألوهية له فضائل أخرى كثيرة تتعلق بالنفس، وتتعلق بالمجتمع، وتتعلق بالحياة كلها، ولكن الشيخ لم يزد على هذه الفضائل التي أشار إليها، ولو رجعت إلى (القول السديد) لوجدت مجموعة أخرى من الفضائل التي أشار إليها المؤلف بشكل مختصر.

فضل من حقق التوحيد

فضل من حقق التوحيد النوع الثاني من أنواع الفضائل التي أشار إليها هو فضل من حقق التوحيد، وأن من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب، ومعنى (حقق التوحيد): خلصه وصفاه من الشرك والبدع والمعاصي؛ إذ الشرك والبدع والمعاصي تنقص وتضعف التوحيد، فمن صفّى توحيده من الشرك الأكبر والأصغر، والبدع القولية والعملية، والمكفرة وغير المكفرة، والكبائر والصغائر من المعاصي؛ فإنه يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب. ثم ذكر دليلاً على ذلك، وهو خبر إبراهيم عليه السلام، يقول الله عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل:120 - 121]. فهذه مجموعة من الأعمال قام بها إبراهيم، منها: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] يعني: إماماً، والإمام لا يكون إماماً إلا إذا حقق تمام الصبر وتمام اليقين؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. ومنها: أنه حنيف، والحنيف هو المنحرف عن الشرك. ومنها: أنه لم يك من المشركين، وهذه كلها تدل على تمام التوحيد عنده. ومنها: أنه كان قانتاً لله، والقنوت هو دوام الطاعة والاستمرار عليها. ومنها: قوله تعالى: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل:121] فهذه خمسة أعمال قام بها إبراهيم، فكانت النتيجة خمس فضائل: الأولى: أنه اجتباه، أي: اصطفاه. الثانية: قوله تعالى: {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:121]. الثالثة: قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل:122]، والمقصود بالحسنة التي آتاه الله عز وجل إياها في الدنيا: الذكر الحسن. الرابعة: قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل:122] يعني: من أهل الجنة. الخامسة: قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل:123] يعني أنه متبوع لتمام إمامته. وأما الآية الثانية التي جاء بها في المحققين للتوحيد فهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59] وهذه الآية قبلها وبعدها آيات في هذا الموضوع، وهي قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61]. فهذه هي أعلى درجات توحيد الألوهية. ثم ساق حديثاً طويلاً في قصة السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وأن السبب في تفضيلهم ودخولهم الجنة بغير حساب ولا عذاب هو تمام التوحيد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر أوصافهم قال: (هم الذين لا يسترقون) يعني: لا يطلبون الرقية، والرقية سيأتي الحديث عنها إن شاء الله، (ولا يكتوون، ولا يتطيرون) يعني: لا يتشاءمون بالطيور أو غيرها، (وعلى ربهم يتوكلون)، وهذا يدل على أنهم من أهل التوحيد التام الكامل ولهذا كانوا من الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.

حماية النبي صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد

حماية النبي صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد إن النبي صلى الله عليه وسلم لتعظيمه لتوحيد الألوهية، ولمكانة توحيد الألوهية -إذ هو أساس الدين وأصله- فقد حمى ما حوله، ولهذا حذر من أفعال قد توقع فيما ينقض أو يُنقص كمال توحيد الألوهية، وحذر من أقوال قد توقع أيضاً فيما ينقض التوحيد، ولهذا بوب الشيخ في حماية المصطفى لجناب التوحيد بابين: الباب الأول: في بداية الكتاب، وهو الباب الكائن برقم (21). والباب الثاني: في آخر الكتاب، وهو الباب الكائن برقم (65). وبعض الناس قد يقول لماذا بوب الشيخ بابين؟ ألا يكفي باب واحد؟ والجواب هو أن الباب الأول في حماية المصطفى لجناب التوحيد من الأعمال التي قد تخدش فيه. والباب الثاني في الأقوال، وهناك فرق بين الأعمال والأقوال. فأما الباب الأول فهو (باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك، وهذا الباب أيضاً يدخل في أهمية التوحيد ومكانته ومنزلته، ولذا نلحظ أن هذه المجموعة من الأبواب متفرقة في أماكن متعددة، ومع ذلك يصلح أن ينظمها سلك واحد، وهو مفهوم توحيد الألوهية وما يتعلق به من الفضائل والحماية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وسده كل طريق يوصل إلى الشرك، وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]]. هذه الآية تدل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، فقوله تعالى: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ) يعني: يصعب عليه (مَا عَنِتُّمْ) أي: مشاقتكم وعنتكم، فـ (ما) هنا مصدرية، فتكون هي والفعل الذي بعدها مؤولان بالمصدر، بمعنى: عزيز عليه عنتكم. والعنت: هو المشقة، ((حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)). فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على الناس في أمورهم المعيشية؛ فإن حرصه عليهم في تاج الإسلام -وهو التوحيد- أشد وأعظم، وستأتي نماذج من ذلك. قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات. وعن علي بن الحسين: (أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثك حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي؛ فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم) رواه في المختارة]. هذا الحديث يدل على حماية النبي صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً). وهذا القول يحتمل معنيين: الأول: لا تدفنوا الموتى فيها. والمعنى الثاني: لا تجعلوها مثل المقبرة التي لا يصلى فيها، وكلا المعنيين يدلان على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تطهير جناب التوحيد من أي خدش فيه، فأما على المعنى الأول -وهو: النهي عن دفن الموتى في البيوت- فإن دفن الموتى في البيوت نوع من أنواع الغلو، وهو يفضي إلى التعظيم، ولهذا نلحظ في تاريخ المسلمين أن أكثر من أن يصنع هذا هم السلاطين والوجهاء، وأصحاب الأماكن العالية، فقد يبني أحدهم قصراً ويجعله مقبرة لنفسه، وهذا يضفي شيئاً من التعظيم على القبر الذي يدفن فيه. وقد يقول قائل: لماذا دفن النبي صلى الله عليه وسلم في بيته مع أنه نهى عن ذلك؟! فنقول: هذا من خصائصه، والدليل على كونه من خصائصه هو حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما اختلفوا في مكان دفنه، فأخبرهم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من نبي يقبض إلا يدفن حيث قبض) يعني: يكون محل دفنه هو المكان الذي يقبض فيه ويموت فيه. وقوله: (ولا تجعلوا قبري عيداً) العيد: هو الشيء المعتاد، فهو يتضمن معنى التكرار والإعادة، ولهذا سمي بذلك عيد الأضحى وعيد الفطر لأنهما يعودان كل سنة. فقوله: (لا تجعلوا قبري عيداً) أي: لا تجعلوا زيارة قبري مثل العيد تعاودونه في كل سنة، أو في كل شهر، أو في كل فرض، أو في كل يوم، أو نحو ذلك، فمن اتخذ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم عيداً منتظماً؛ فإنه يدخل في عموم نهيه، وهذا نص صريح على بدعة الزيارة الرجبية التي اعتادها كثير من الناس، والزيارة الرجبية هي أنهم يزورون قبر النبي صلى الله عليه وسلم في كل رجب، فهذه بدعة؛ لأنهم جعلوا زيارته في رجب عيداً يعتادونه، وهي بدعة ومنكر. وهناك كثير من الناس يعترض علينا عندما نذكر أنواعاً من الزيارات البدعية أو التصرفات البدعية في التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم بأننا لا نحب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا باطل وفاسد، فإن أهل التوحيد هم من أشد الناس محبة وتعظيماً للنبي ص

طرق دراسة التوحيد والإيمان

طرق دراسة التوحيد والإيمان إن طريقة دراسة العلماء لتوحيد الألوهية هي مثل طريقة دراسة كتاب الإيمان، وذلك أنهم يدرسون الإيمان والتوحيد بطريقتين: الطريقة الأولى: طريقة التأصيل أو التصحيح. الطريقة الثانية: طريقة التعميق. ومعنى طريقة التصحيح: أن يصحح مفهوم التوحيد، ويصحح ما حوله من المفاهيم؛ حتى لا يقع فيها غبش ولا يقع فيها إشكال، ويحفظ للأمة دينها إلى قيام الساعة، فيعرف الإنسان ما هو توحيد مما هو شرك، ويميز الإنسان الإيمان عن الكفر، فهذه الطريقة تسمى طريقة التصحيح، وذلك لأن المفاهيم الشرعية -كالإيمان، وتوحيد الألوهية وغيرهما- دخل فيها غبش كثير بسبب الفرق الضالة، فاحتاج أهل السنة إلى أن يصححوا المفاهيم الشرعية للرد على الفرق الضالة، ولبيان المعتقد الصحيح من واقع الكتاب والسنة. وهذه الطريقة الأولى هي الطريقة التي نسير عليها في شرحنا هنا. وأما طريقة التعميق فهي: تربية القلب والتطبيق الفعلي لتوحيد الألوهية والإيمان، وذلك التطبيق منازل عظيمة، ولذلك ألف ابن القيم رحمه الله (مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين) يعني: في منازل العبودية، ومنازل العبودية هي نفسها منازل توحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية هو نفسه توحيد العبودية، فأدخل فيها التوكل على الله، والمحبة، والرجاء، والصدق مع الله، والإخلاص، والتوكل والإنابة ونحو ذلك من المنازل العظيمة من منازل الإيمان التي تشرح الصدر وتنير العقل، وتنير للإنسان طريقه، وتجعله في أعلى درجات الإيمان. وهذه الطريقة الثانية هي التي تربى عليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل ظهور الفرق الضالة التي غيرت المفاهيم الشرعية، مثل: مفهوم توحيد الألوهية، أو مفهوم توحيد الأسماء والصفات، أو مفهوم الإيمان، فالصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا يدرسون الإيمان بأنه قول وعمل يزيد وينقص، وغير ذلك من التعريفات التي نقرؤها في متون العقيدة، وإنما كانوا يطبقون ذلك عملياً في حياتهم. ودليل ذلك أن لقيط بن صبرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يضحك من قنوط عباده وقرب غِيَرِهِ) فلم يكتف لقيط بن صبرة إثبات صفة الضحك فقط، بل قال: (يا رسول الله! أو يضحك الرب؟! قال: نعم. قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً) يعني أن الرب الذي يضحك لن نعدم منه الخير، فاستفاد منه عبادة قلبية، وهي الرجاء، والرجاء سيدفعه إلى المحبة، وهكذا منازل الإيمان يقرب بعضها من بعض. فانظر كيف استفاد من توحيد الأسماء والصفات في رفعة الإيمان القلبي، ولهذا كان لابد من التنبه لهذه القضية، وبيان أن الدراسة تكون بطريقتين: طريقة التصحيح، وطريقة التعميق، ونحن بحاجة إلى دراسة التوحيد والإيمان بهاتين الطريقتين، ولا يصح الاكتفاء بواحدة دون الأخرى.

الدعوة إلى توحيد الألوهية

الدعوة إلى توحيد الألوهية إن الدعوة إلى توحيد الألوهية هي حقيقة دعوة الرسل، فالرسل جميعاً يدعون إلى توحيد الألوهية، يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. فعبادة الله واجتناب الطاغوت هما مفهوم (لا إله إلا الله)، وهو توحيد الألوهية، وهذا يدل على أن التوحيد هو أول أمر يجب أن يبدأ به الإنسان في الدعوة إلى الله عز وجل، وينبغي على الداعي إلى الله عز وجل أن تكون العقيدة هي محور دعوته، وأن يربط كل قضايا دعوته بالعقيدة؛ لأن العقيدة هي أساس الدين، ولهذا لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، وفي بعض الألفاظ: (إلى أن يوحدوا الله). وهذا يدل على أن أول واجب يجب على الناس هو توحيد الله، وأول ما يجب أن ندعو إليه هو العقيدة والتوحيد. وبهذا يتضح لنا فساد كثير من المناهج الضالة، ومن ذلك فساد حوار الأديان أو حوار الحضارات، وحوار الحضارات هو نفسه حوار الأديان؛ إلا أن كلمة (الأديان) حينما كانت حساسة جاء وابدلا عنها بكلمة الحضارات، والحضارات المقصود بها الطريقة التي تكون متبعة في الغالب لدين من الأديان؛ إذ الأديان ليست طريقة واحدة، وإنما هي طرق متعددة. فمن الناس من يدعو إلى توحيد الأديان، فلا ينكر بعضهم على بعض، ولا يكفر بعضهم بعضاً، وهذه الدعوة بهذا المفهوم هي شرك وكفر؛ لأن ترك تكفير أهل الكتاب من الكفر، هذا النوع الأول. ومن الناس من يدعو إلى حوار الأديان، كما يحصل لكثير من الدعاة إلى الله عز وجل، فيقولون: نحن ندعو إلى حوار الأديان، ويقولون: نحن نكفرهم، وإنما نسكت عن القضايا الخلافية، ونبحث في القضايا المشتركة فيما بيننا. ومن القضايا المشتركة -مثلاً-: القضاء على الفقر والمخدرات، والتعاون على رفع الظلم عن المظلومين وعن الشعوب المضطهدة، وهكذا. وأما القضايا التي يكون فيها خلاف بيننا وبين اليهود أو بيننا وبين النصارى فهذه لا نثيرها؛ لأنا إذا أثرناها سيصبح هناك خلاف. فما هو حكم هذا النوع من أنواع الحوار؟ نقول: هذا بدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله كان بينهم وبين أقوامهم حوار، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى قومه ويحاورهم، فكيف كان حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه ومع أهل الأديان، وحوار الأنبياء السابقين مع أهل الأديان؟ لقد كان عن طريق دعوتهم إلى التوحيد، فقد كان الرسل يأتون إلى أقوامهم ويقولون لهم: ما أنتم عليه شرك أكبر، والواجب هو أن تسلموا لهذا الدين. ثم يقومون بإثبات هذا الدين بالأدلة التفصيلية وإبطال دينهم بالأدلة التفصيلية. أما حوار الأديان الموجود الآن فهو بدعة؛ لأنه يجتمع فيه مجموعة من القساوسة ومجموعة من المسلمين في مكان واحد، ولا يقول المسلمون للقساوسة أسلموا، ولا يقولون لهم: هذا الدين خير لكم، ونحن نثبت لكم بالبراهين والأدلة أن الإسلام دين صحيح وأن دين النصرانية فاسد، بل يتواصون بترك ذلك، ويقولون: لا نريد أن نثير الخلاف فيما بيننا، فأنتم لكم خصائص دينكم، ونحن لنا خصائص ديننا، وأنتم ترون ديننا باطلاً، ونحن نرى دينكم باطلاً، ولكننا لا نريد النقاش في هذا الموضوع؛ لأن هذا الموضوع يفرق بيننا، ونحن لا نريد أن نتفرق، بل نريد أن نجتمع، فيتناقشون في دفع الفقر، فيقولون: هناك بلاد فقيرة، فلنتعاون على أن ندفع الفقر الموجود فيها، أو يقولون: هناك شعوب مضطهدة نريد أن ندافع عنها. والمسلمون الذين يشاركون في حوار الأديان عندما يدخلون فيها يكون هدفهم هو تحريك النصارى لإنكار عمل اليهود في فلسطين، ومع هذا ما استطاعوا أن يصنعوا شيئاً، وربما أنكرت مجموعة منهم، ومجموعة لم تنكر. ومن أهداف أولئك المحاورين من المسلمين ما يعبرون عنه بقولهم: إننا نعيش في مرحلة استضعاف، وما دام أننا نعيش في مرحلة استضعاف فمن الخطأ الكبير أن يكون بيننا وبين الحضارات الأخرى -مثل: الحضارة الغربية- صدام، فهذا لا يمكن؛ لأننا لا نستطيع الصدام. ولهذا فإن الذين يدعون إلى حوار الحضارات يجرون في ركب الحضارة القوية ويتابعونها، ويقولون: نحن لا نريد الصراع بين الحضارات. مع أن الحقيقة هي أن الصراع مستمر بين الحق والباطل، سواءٌ أكان هذا الحق ديناً أم حضارة وسواء أكان الباطل ديناً أم حضارة، فلابد من الصراع. والواجب هو الالتزام بالحق والدفاع عنه، ودعوة الناس إليه، بأن نقول لهم: ندعوكم إلى هذا الدين بالبراهين ولترك ما أنتم عليه من الدين؛ لأن فيه فساداً. وبهذه الطريقة نستطيع أن ندخل معهم في الدعوة، أما أن نسكت عن القضايا الخلافية فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء إلى كفار قريش لم يسكت عن القضايا الخلافية، مثل عبادة الأصنام، ومثل عدم تصديق النبوة الجديدة، ولم يقل: علينا أن نجتمع ليصير بيننا وبينك

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين كون مآل مرتكب الكبيرة إلى الجنة وما جاء من النصوص في خلوده في النار

الجمع بين كون مآل مرتكب الكبيرة إلى الجنة وما جاء من النصوص في خلوده في النار Q ذكرتم أن صاحب التوحيد مصيره إلى الجنة، فما قولكم في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها)؟ A هناك قاعدة من القواعد في الاستدلال، وهي أن أي مسألة من المسائل لابد من جمع الأدلة فيها، فقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] هو في مسألة قتل المسلم لأخيه المسلم، لكن هناك آيات أخرى اعتبرت القاتل مسلماً، منها قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178] فوصفه بالأخوة في الدين، ولو كان كافراً مخلداً في النار لما كان أخاً في الدين. ثم إن من الأحكام المجمع عليها في مسألة القتل أن ولي الدم يجوز أن يعفو عن القاتل، ولو كان كافراً خالداً في النار لما جاز العفو عنه، ولقتل بسبب الردة والكفر لو كان القتل في ذاته كفراً، وكذلك في سورة الحجرات يقول الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] فوصفهما بالإيمان مع وجود الاقتتال بينهما، فكل هذا يدل على أن القتل ليس كفراً مخرجاً من الملة، بل هو من الذنوب والمعاصي. وأما قوله تعالى: {خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] فإن الخلود نوعان: الأول: خلود أبدي، وهذا لا يكون إلا للكافر الذي ليس بمسلم. الثاني: طول المكث، ولهذا عندما يسمون شخصاً باسم خالد هل يقصدون أنه خالد فعلاً لا يموت؟! لا، فهم يعرفون أنه سيموت، ولكن يتمنون له طول الحياة، ولهذا سموه بهذا الاسم، وهذا أمر سائغ في لغة العرب ولا إشكال فيه، وهكذا يفهم حديث: (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها).

الرد على المستدل بثبوت الإسلام للناطق بكلمة التوحيد على الإصرار على المعاصي

الرد على المستدل بثبوت الإسلام للناطق بكلمة التوحيد على الإصرار على المعاصي Q يستدل بعض الناس بحديث: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله) على إصرارهم على فعل المعاصي، فكيف نرد على ذلك؟ A ليس في الحديث أي دليل يدل على الإصرار على المعاصي؛ لأنه قال: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله) يريد الكفر بالشرك، أما الذنوب والمعاصي فقد وردت نصوص كثيرة تدل على أن الإنسان إذا فعلها ولم يتب فإنه تحت مشيئة الله عز وجل، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.

وجه دفن أبي بكر وعمر في بيت عائشة مع النهي عن جعل البيوت قبورا

وجه دفن أبي بكر وعمر في بيت عائشة مع النهي عن جعل البيوت قبوراً Q كيف دفن أبو بكر وعمر في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو من خصائصه؟ A الخصيصة التي للنبي صلى الله عليه وسلم هي كونه دفن في بيته، فبعد أن دفن في بيته خرجت عائشة رضي الله عنها من هذا البيت، فأصبح مكاناً غير مسكون، فلم يعد بيتاً، فدفن فيه أبو بكر وعمر باعتبار أنهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولمكانتهما منه، ولفظ حديث النهي: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً)، وحجرة عائشة رضي الله عنها بعد أن دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم لم تعد بيتاً لـ عائشة، ولا بيتاً -أيضاً- لـ أبي بكر، ولا بيتاً لـ عمر، فلا يشملها النهي.

نظرة في كتاب (القول المفيد على كتاب التوحيد)

نظرة في كتاب (القول المفيد على كتاب التوحيد) Q ما رأيكم في كتاب (القول المفيد على كتاب التوحيد)؟ A هو كتاب جيد، ولكنه شرح كتاب التوحيد بالطريقة الأولى، وهي طريقة التفصيل والتطويل.

الفرق بين الأمن المطلق ومطلق الأمن

الفرق بين الأمن المطلق ومطلق الأمن Q ما الفرق بين الأمن المطلق، ومطلق الأمن؟ A الأمن المطلق هو الأمن التام، ومطلق الأمن هو أصل الأمن، كما تقول: مطلق العموم والعموم المطلق، والعموم المطلق هو العموم التام، ومطلق العموم هو أصل العموم، وهكذا في غير هذا المثال.

حكم تبليغ السلام للرسول

حكم تبليغ السلام للرسول Q نسمع بعض الناس يقول لغيره: إذا ذهبت إلى المدينة فبلغ سلامي للرسول صلى الله عليه وسلم، فما حكم ذلك؟ A هذا جاهل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإنسان إذا سلم عليه في أي مكان فإن سلامه يبلغه حيث كان.

حكم الوقوف عند قبر القريب للدعاء له

حكم الوقوف عند قبر القريب للدعاء له Q عند زيارتي للقبور لإحياء السنة هل يجوز لي أن أقف بجوار قبر والدي لأدعو له؟ A نعم يجوز أن تقف بجواره وأن تدعو له.

حكم تارك الصلاة والصيام مع نطقه بالشهادتين ودعواه الإسلام

حكم تارك الصلاة والصيام مع نطقه بالشهادتين ودعواه الإسلام Q ما رأيكم فيمن يقول: (لا إله إلا الله) ولكنه لا يصلي ولا يصوم، ويقول: إنه مسلم؟ A لا يكفي قول (لا إله إلا الله) بدون الالتزام بشروطها ومقتضياتها، فلا إله إلا الله لها شروط ومقتضيات من حققها كان موحداً، ومن لم يحققها فإنه لا يكون موحداً، منها أنه يشترط في (لا إله إلا الله) أن يقولها صاحبها وهو مخلص يبتغي بذلك وجه الله، وأن يكفر بالطاغوت، وأن يقولها عن يقين، وأن يلتزم بها، ولهذا جاء في قصة اليهوديين اللذين أتيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنهما قالا: (نشهد أنك رسول الله فقال: ما يمنعكما أن تتبعاني؟ فقالا: تقتلنا يهود)، فتركا الالتزام بها، ولم يكن قولهما: (نشهد أنك رسول الله) مفيداً لهما بأي حال من الأحوال؛ لأنه لابد من الالتزام والانقياد لكلمة التوحيد، ولهذا فإن هرقل عظيم الروم عندما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم عرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (والله لو خلصت إليه لغسلت عن قدميه وشربت ماءهما) وكان يعرف أنه رسول الله، ولهذا جمع أساقفته في (دسكرة) واحدة وخرج عليهم من شرفة، ونصحهم بأن يلتزموا بالإسلام، ولكنهم اتجهوا إلى الأبواب فوجدوها مغلقة، فقال: ردوهم علي، ثم قال: إنما كنت أختبر التزامكم بدينكم. أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

كتاب التوحيد [2]

كتاب التوحيد [2] الشرك بالله تعالى أعظم الظلم، ومنه الأكبر المخرج من الملة، والأصغر الموقع لصاحبه في خطر عظيم، وقد جاءت النصوص بالتحذير منهما وبيان خطرهما على الدين، وبأن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، وهذا مما يدعو إلى الخوف من الوقوع فيهما أو في بعض أنواعهما كالرقى الشركية والتمائم والتوله، والطيرة، وغير ذلك من أنواع الشرك.

الشرك في الألوهية

الشرك في الألوهية بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا هو الدرس الثاني من الدروس التي في شرح كتاب التوحيد للشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وقد ذكرت أننا سنقسمها على ثمانية دروس، وسنأخذ في كل درس الأبواب ذات الموضوع الواحد المتشابه التي تُكَوِّن وحدة موضوعية واحدة في كل درس بإذن الله تعالى، ولا مانع من أن نملي هذه الموضوعات والأبواب على شكل أرقام. فالدرس الأول: في توحيد الألوهية حقيقته وأهميته وفضله، والدعوة إليه، وحماية جنابه. وفيه الأبواب ذات الأرقام التالية: 1، 2، 4، 5، 21، 65. الدرس الثاني: في الشرك في الألوهية وبعض أنواع الشرك الأصغر. وسيستغرق -إن شاء الله تعالى- هذا الدرس الأبواب التالية: 1، 6، 7، 8، 10، 19، 35، 36. وهذا الأبواب سنمر عليها -إن شاء الله- في هذا الدرس، وهي في الحديث عن موضوع الشرك في الألوهية وبعض أنواع الشرك الأصغر. الدرس الثالث: في أسباب الشرك وبطلانه، وسيكون في الأبواب ذوات الأرقام التالية: 14، 15، 17، 18، 20، 27، 60. الدرس الرابع سيكون عن الأعمال الشركية في توحيد الألوهية، وموضوع الأعمال الشركية في توحيد الألوهية له أبواب كثيرة في كتاب التوحيد، ولهذا سنتحدث عنه في درسين بإذن الله تعالى: ففي الدرس الأول سنتحدث في الأبواب ذوات الأرقام التالية: 9، 11، 12، 13، 23، 24، 25، 26، 28، 29. وفي الدرس الثاني سيكون في الأبواب ذوات الأرقام التالية: 23،30، 31، 37، 38، 50. والدرس السادس سيكون -إن شاء الله تعالى- في موضوع الشرك في الربوبية والقدر والأسماء والصفات، وسيكون في الأبواب ذوات الأرقام التالية: 33، 34، 40، 48، 58، 59، 63، 64، 65. والدرس السابع سيكون عن القبوريين وشبهاتهم، وهذا الدرس سيكون في بابين فقط، في الباب السابع عشر، والباب الثاني والعشرين، وفي هذا الدرس -إن شاء الله تعالى- سنلخص مقاصد كتاب كشف الشبهات للشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى. وأما القدر فهو تابع للربوبية؛ لأنه يتعلق بأفعال الله سبحانه تعالى، وهو الباب رقم: 40. والدرس الثامن هو في شرك الألفاظ، وهذا الدرس يستغرق الأبواب ذوات الأرقام التالية: 41، 43، 44، 45، 46، 47، 49، 50، 51، 52، 53، 54، 55، 56، 57، 61، 62. فهذه الأبواب جميعاً موضوعها واحد، وهو شرك الألفاظ. وبهذه الطريقة سننتهي -إن شاء الله تعالى- من كتاب التوحيد كله من الناحية الموضوعية، ولن نأخذ الكتاب بالترتيب؛ لأنه في بعض الأحيان قد يأتي باب ثم يأتي باب آخر في نفس الموضوع بعد عدة مواضيع، مثل حماية المصطفى لجناب التوحيد، فقد تكرر مرتين، وقد بينا السبب في تكرير الإمام له مرتين. وأما الموضوع الذي سنتحدث عنه في هذا الدرس -إن شاء الله تعالى- فهو الشرك في الألوهية وبعض أنواع الشرك الأصغر. الشرك: هو أن تجعل لله سبحانه شريكاً في شيء من خصائصه، وقد حذر الله سبحانه وتعالى منه تحذيراً كبيراً في القرآن، وترتبت عليه أحكام عظيمة في الدنيا وأحكام عظيمة في الآخرة، فمن الأحكام التي تترتب عليه في الدنيا: انتفاء الأخوة، وانتفاء الولاء، ووجوب البراءة، ووجوب الجهاد عندما تتحقق أسبابه، وعدم جواز النكاح، وعدم الإرث؛ لأن المسلم لا يرث الكافر، والكافر لا يرث المسلم، وغير ذلك أحكام كثيرة تتعلق بالعلاقة بين المسلم والكافر، وهذه أمور نعيشها ونلحظها. فالمشرك لا تنطبق عليه أحكام المسلم في الدنيا، وليس له شيء من حقوق المسلم في الدنيا، وأما في الآخرة فإنه يكون خالداً مخلداً في نار جهنم، ولا يمكن أن يدخل الجنة أبداً.

أقسام الشرك

أقسام الشرك الشرك عند العلماء ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الشرك الأكبر، وهذا هو الذي بينا ترتب الأحكام الشرعية عليه. القسم الثاني: الشرك الأصغر. والفرق بينهما من عدة جهات: الجهة الأولى: أن المشرك شركاً أكبر غير مسلم، وأما المشرك شركاً أصغر فإنه مسلم. الجهة الثانية: أن أحكام الإسلام تنطبق على المشرك شركاً أصغر، ولا تنطبق على المشرك شركاً أكبر. الجهة الثالثة: أن المشرك شركاً أكبر لا يدخل الجنة ولا يجد ريحها أبداً، ويكون مخلداً في نار جهنم، وأما المشرك شركاً أصغر فإن مصيره -وإن عذب في النار- إلى الجنة.

الأسباب الداعية إلى الخوف من الشرك

الأسباب الداعية إلى الخوف من الشرك وقد بوب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في التحذير من الشرك باباً خاصاً سماه: (الخوف من الشرك)، بين فيه رحمه الله تعالى أن الأنبياء مع فضلهم ومكانتهم وقدرهم كانوا يخافون من الشرك، فغيرهم من باب أولى. والأسباب التي تجعل الإنسان يخاف من الشرك عدة، منها قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فمن كان مشركاً ومات على الشرك ولم يتب، فإن الله عز وجل لا يغفر له أبداً ويكون مخلداً في نار جهنم. أما الذنوب التي هي أقل من الشرك فإنها تحت مشيئة الله عز وجل، فإن شاء عذب صاحبها وإن شاء غفر له، ويرجع في آخر أمره إلى الجنة إذا كان موحداً. وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، فهو يدعو الله عز وجل أن يبعده هو وأولاده عن الشرك، حيث قال: ((وَاجْنُبْنِي)) يعني: باعدني ((وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ))، فكان إبراهيم يخاف على نفسه الشرك، مع أن إبراهيم هو أبو الأنبياء وهو إمام الموحدين، وهو الذي كسر الأصنام واجتهد في محو الشرك علماً وعملاً، علماً بالحجة وبيان التوحيد ورفض الشرك، وعملاً بتكسير الأصنام بيده في قصة مشهورة في القرآن وفي كتب التفسير. وفي الحديث: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه، فقال: الرياء)، وهذا حديث حسن. وهو يدل على أهمية الخوف من الشرك حتى ولو كان شركاً أصغر، لا يخرج صاحبه من الملة؛ لأنه جاء في أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: [لئن أحلف بالله كاذباً خير لي من أن أحلف بغيره صادقاً] ويقصد بذلك أن الشرك الأصغر أشد عند الله سبحانه وتعالى من كبائر الذنوب، فهو يرى أنه أشد من اليمين الغموس، وهي من الكبائر التي تغمس صاحبها في نار جهنم. وفي هذا الحديث دليل على أن الشرك الأصغر مصطلح موجود في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الإتيان بكلمة (الأصغر) في وصف الشرك ليس مسألة اجتهادية من العلماء، وإنما هي مسألة منصوص عليها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) رواه البخاري. ولـ مسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)، وفي هذين الحديثين توكيد على ما أشرنا إليه من انقسام الناس إلى قسمين: قسم مسلم ولو وقع في شيء من الشرك الأصغر، فمصيره إلى الجنة. وقسم آخر هو المشرك شركاً أكبر، فهذا سيكون من أهل النار ولن يدخل الجنة أبداً. وكل هذه النصوص تدل على الحذر من الشرك والتخويف منه، ووجوب الخوف منه على الإنسان حتى ولو كان وقد ولد في بيئة إسلامية، ولهذا بوب العلماء باباً بعنوان: [باب ما جاء في أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان]، وعبادة الأصنام هي من أبعد ما يتخيله الإنسان من صور الشرك، وقد يقع الإنسان في أنواع متعددة من شرك الإرادة أو شرك التشريع أو شرك المحبة أو شرك الخوف أو نحو ذلك من أنواع الشرك التي سيأتي بيانها بالتفصيل، أما شرك الأصنام فإنه واضح، ومعركة النبي صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش إنما كانت في هذا الموضوع، فيبعد في العادة أن يرجع أحد من المسلمين فيعبد الأصنام، ولكن هذا يدل على أن الفتن تكثر في آخر الزمان، وأن الناس يضعف فيهم العلم، ويقل فيهم الدعاة والمجددون والمصلحون، وأن الشرك ينتشر فيهم بشكل كبير، وسيأتي معنا في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لن تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة) وهو صنم مشهور من أصنام الجاهلية، ولهذا ينبغي للإنسان أن يحذر من الشرك غاية الحذر، وأن لا يزكي نفسه ولا يزكي أتباعه وأصحابه وأهل بلده بأنهم بعيدون عن الشرك، فنحن أحوج ما نكون إلى أن ننقي أنفسنا وضمائرنا من الشرك، فهذا هو الغرض الذي عقد الشيخ من أجله هذا الباب العظيم، وهو باب الخوف من الشرك.

ضوابط الشرك الأكبر والأصغر

ضوابط الشرك الأكبر والأصغر ويمكن للإنسان أن يميز الشرك الأكبر من الشرك الأصغر، فضابط الشرك الأكبر هو: صرف العبادة لغير الله سبحانه وتعالى، فإذا كانت هناك عبادة لله سبحانه وتعالى فصرفت لغيره كان ذلك الصرف هو الشرك الأكبر المخرج من الملة، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وهي كل ذل وخضوع ومحبة واستقامة للمعبود، وهي كل ما أمر الله سبحانه وتعالى به أمر إيجاب أو أمر استحباب، فإذا أردت أن تعرف العبادة فانظر في القرآن، فأي شيء أمر الله عز وجل به فهو عبادة، سواءٌ أكان أمراً على سبيل الوجوب أم على سبيل الاستحباب، فيدخل في ذلك المحبة، ويدخل في ذلك الولاء، ويدخل في ذلك الخوف، ويدخل في ذلك الاعتماد والتوكل، ويدخل في ذلك الطواف، ويدخل في ذلك الذبح والنسك، وأنواع متعددة من العبادات، حتى إن حلق الرأس يمكن أن يفعل على سبيل التعبد، فنحن نحلق رءوسنا بعد رمي الجمار تعبداً لله عز وجل، فهذا عبادة، وكل نوع من الأنواع التي أشرنا إليها ينقسم إلى قسم عادي لا ارتباط له بالعبادة، وقسم عبادي، وهذا سيأتي تفصيله في أنواع الشرك والأعمال الشركية في توحيد الألوهية. فإنه يمكنك أن تذهب إلى الحلاق وتحلق رأسك لأنك تريد النظافة، وربما يكون شعرك فيه مشكلة أو مرض، فتحلق رأسك، وهذا ليس عبادة، ولكن حلق الرأس بعد أداء العمرة عبادة، وحلق القبوريين لرءوسهم بعد الطواف بالقبر عبادة، يفعلونه تشبهاً بالعمرة التي تفعل في المكان المشروع، وهو البيت الحرام، وهذا لا يصح فعله؛ لأنه صرف للعبادة لغير الله سبحانه وتعالى. إذاً: ضابط الشرك الأكبر فهو: صرف العبادة لغير الله عز وجل، وإذا سئلت عن أي مسألة من المسائل ليس فيها صرف للعبادة لغير الله عز وجل فلا يجوز أن تحكم بأنها شرك، وإذا وجدت عبادة صريحة واضحة صرفت لغير الله فهذا شرك لا شك فيه. والعبادة هي الذل والخضوع مع المحبة للمعبود. وللشرك الأصغر ضابطان: الضابط الأول: أنه كل ما ثبت بنص شرعي أنه شرك، ولكن دلت الدلائل على أنه غير مخرج من الملة، فهناك نصوص شرعية وصفت مجموعة من الأعمال أو الأقوال أو الإرادات بأنها شرك، وفي المقابل نصوص شرعية أخرى بينت أن هذه الأعمال لا تخرج عن الملة ولا تخرج عن دائرة الإسلام. وسيأتي معنا في أمثلة الشرك الأصغر ما يؤكد هذه القضية ويدلل عليها بإذن الله تعالى. الضابط الآخر: أن الشرك الأصغر هو كل قول أو عمل أو إرادة ليس من العبادة، ولكن يتوسل به إلى الشرك الأكبر، مثل الغلو، فالغلو في حد ذاته ليس شركاً؛ فمن الممكن أن يأتي إنسان ويعظم النبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً شركياً، ويمكن أن يعظمه تعظيماً غير شركي، فعندما يتوسل أحد بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: اللهم إني أتوسل إليك بجاه محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا غلو وبدعة، وليس من السنة في شيء. وهناك نوع آخر من التوسل، كأن يقول: يا رسول الله! اغفر ذنبي، فهذا شرك. فكلاهما غلو، ولكن أحدهما أصغر والثاني أكبر، وسيأتي معنا بيان ذلك في الأمثلة. فالشرك الأكبر هو صرف العبادة لغير الله عز وجل، والشرك الأصغر منه الأمور التي تعتبر وسائل وطرقاً إلى الشرك الأكبر، وليست شركاً أكبر محضاً ولا صرفاً لعبادة لغير الله، لكنها طرق توصل إليه، وهذا الضابط ذكره الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في شرحه القول السديد، وهو من أجمل الضوابط وأنفعها لطالب العلم.

دلائل معرفة الشرك الأصغر

دلائل معرفة الشرك الأصغر وهناك مجموعة من الدلائل التي يمكن أن نعرف بها الشرك الأصغر لنميزه، وليكون واضحاً لنا، ومن ذلك: الأمر الأول: التصريح بأن العمل شرك أصغر، مثل تصريح النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر: الرياء)، فهذا تصريح بأنه شرك أصغر، ويشبه هذا إرادة الإنسان بعمله الدنيا. الأمر الثاني: عدم ترتب حد الردة عليه، فقد كان يحصل الشرك الأصغر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرتب النبي صلى الله عليه وسلم عليه حد الردة، ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرقى والتمائم والتولة شرك)، والتمائم لبسها بعض الصحابة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وأنكر عليهم ذلك، وأمر بأن تقطع الأوتار التي تعلق في رقاب الإبل، ولم يرتب أحكام الردة والكفر المخرج من الملة على أفعال هؤلاء وتصرفاتهم، فهذا يدل على أن هذا المشرك ليس شركاً مخرجاً عن الملة، بل هو شرك أصغر. الأمر الثالث: أن يأتي لفظ الشرك منكراً، كقوله صلى الله عليه وسلم: (الرقى والتمائم والتولة شرك)، فلم يقل صلى الله عليه وسلم: إن الرقى هي الشرك؛ لأن الشرك عندما يكون معرفاً بـ (أل) فإنه يدل على أنه الشرك المعهود، وهو الأكبر، كقوله صلى الله عليه وسلم: (بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة)، فهنا عرف الشرك بـ (أل)، فهذا يدل دلالةً صريحةً على أن الشرك المعني هنا هو الشرك الأكبر، بينما قال صلى الله عليه وسلم في الشرك الأصغر: (الرقى والتمائم والتولة شرك)، فجاءت كلمة (شرك) نكرة ليس فيها (أل)، وهذا يدل على أن ذلك شرك أصغر. الأمر الرابع: فهم الصحابة للنصوص معتبر، فإذا فهم الصحابة من نص من النصوص الشرك فيه ليس مخرجاً من الملة؛ فهذا يدل على أنه شرك أصغر، وسيأتي بيانه -إن شاء الله- معنا في باب الطيرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطيرة شرك)، قال بعض الصحابة: وما منا إلا ويقع في شيء من ذلك، ولكن يغلبه الإنسان بالتوكل. فهذه مجموعة من القواعد والضوابط في موضوع الشرك الأصغر، أما أنواع الشرك الأصغر فهي كثيرة جداً وقد ذكر الشيخ الرقى الشركية وذكر التمائم وذكر التبرك وذكر الطيرة، وذكر الحلف بغير الله، ونحو ذلك من الأمور التي هي من الشرك الأصغر.

الرقى وأقسامها وأحكامها

الرقى وأقسامها وأحكامها الرقى: هي التعاويذ والأدعية التي يقرؤها الإنسان على نفسه أو على غيره لدفع المرض أو لرفعه، مثل قراءة شيء من القرآن على مريض بالسحر أو العين، أو بأي نوع من أنواع المرض، وكذلك التعاويذ التي يأتي بها الإنسان ليبتعد عن الأمراض قبل وقوعها. والرقية تنقسم إلى قسمين: رقية شرعية ورقية شركية. فالرقية الشرعية: هي التي تكون بالقرآن الكريم وبأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وبالكلام الصحيح الواضح، فإذا كان هناك أدعية صحيحة واضحة مبينة ليس فيها تكلف، فإنها تعتبر من الرقى الشرعية، ولهذا ورد في حديث عوف بن مالك الأشجعي أنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً) وكان عند أهل الجاهلية رقىً يرقون بها، فلما سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً). وكان عند اليهود والنصارى رقى في التوراة والإنجيل، وبعض هذه الرقى صحيح؛ ففي الموطأ بسند صحيح أن أبا بكر دخل على عائشة رضي الله عنها وعندها يهودية ترقيها فقال: (ارقيها بكتاب الله) يعني: بالتوراة. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري: وهذا يدل على أن الرقى والأدوية الموجودة في التوراة والإنجيل لم يلحقها التحريف؛ لأنها لو حرفت لفسدت، فهم يعرفون ذلك، فهم لم يحرفوا إلا العقائد والأحكام، أما هذه الرقى فلم يحرفوها، فالرقى ليست توقيفية، بل يمكن فيها الاجتهاد من حيث ألفاظ الرقية إذا كانت صحيحة من حيث المعاني، ولهذا يشترط أن تكون باللغة العربية الواضحة المبينة البينة، أما الرقى بالألفاظ الأعجمية والمجهولة والرموز والأحرف والأرقام ونحو ذلك مما يستعمله بعض الكهنة والمشعوذين والسحرة، فلا يجوز أبداً أن يرقي الإنسان بها أو أن يجعل غيره يرقيه بها. وأما الرقى الشركية فتنقسم إلى قسمين: رقى شرك أكبر، ورقى شرك أصغر. ورقى الشرك الأكبر نوعان: النوع الأول: الرقية التي تتضمن استغاثة بغير الله، أو دعوة لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، فهذا شرك أكبر، وسيأتي معنا موضوع خاص يتعلق بدعاء غير الله سبحانه وتعالى. النوع الثاني: أن يعتمد الإنسان على الرقية اعتماداً تاماً من كل وجه، فهذا شرك أكبر في الربوبية. أما من اعتقد أنها سبب من الأسباب فحكم ذلك بحسب نوع الرقية، فإن كانت رقية شرعية فلا شيء فيها، وإن كانت غير شرعية فإنه بحسب ما فيها من الكلام كما سبق أن بينا.

التمائم وأحكامها

التمائم وأحكامها التمائم: جمع تميمة، والتميمة هي التعاليق التي تعلق، سواءٌ على الرقبة أو في اليد أو في القدم أو في أي مكان، وهذه التمائم من الشرك، وسيأتي معنا في حديث صريح وصفها بالشرك، وتكون من الشرك الأكبر إذا اعتمد الإنسان عليها اعتماداً تاماً، أما إذا اعتبر أنها سبب من الأسباب فذلك شرك أصغر؛ لأنه اعتبر شيئاً من الأشياء سبباً وهو ليس بسبب لا شرعاً ولا قدراً، فهذه الخيوط من التمائم ليست دواءً معروفاً عند الأطباء، وفي نفس الوقت ليست دواءً مشروعاً؛ إذ يشرعها الله عز وجل ولم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي من الشرك الأصغر. والفارق بين الشرك الأكبر والأصغر فيما يتعلق بالتمائم هو اعتماد القلب، فإذا اعتمد عليها اعتماداً تاماً شاملاً فهذا شرك أكبر، وإذا لم يعتمد عليها بل اعتبر أنها سبب وأن الشافي هو الله سبحانه وتعالى، فهذا شرك أصغر؛ لأنه جعل شيئاً من الأشياء من الأسباب وهو ليس من الأسباب شرعاً ولا قدراً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه. وقول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]. وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: (ما هذا؟ قال: من الواهنة، فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، رواه أحمد بسند لا بأس به. وله عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعاً: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له)]. ومن التمائم حجارة يأخذونها من البحر يعلقونها على رقابهم أو على رقاب دوابهم يتقون بها العين. والحديث الأول -حديث عمران بن الحصين - فيه إشكال كبير عند العلماء في قوله: (فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، فإن ظاهر الحديث أنه كافر كفراً أكبر، ولكن يبدو -والله تعالى أعلم- أن هذا الحديث ليس صحيحاً، بل هو حديث ضعيف رواه الإمام أحمد وابن ماجة والحاكم، وفي إسناده فضالة بن المبارك، وهو ضعيف؛ لأنه مدلس قبيح التدليس، وقد عنعن. أما الحديث الثاني -وهو قوله: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له) - ففي سنده ضعف أيضاً، وقد رواه الإمام أحمد وغيره، وإن كان بعض أهل العلم قد صححه، مثل المنذري والمناوي، وذكر الحافظ رحمه الله في: (تعجيل المنفعة) أن رجاله موثقون، فالحديث فيه خلاف من حيث صحته وضعفه، ولكن الرواية التي بعده رواية صحيحة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرك)]. وهذا يدل على أن التمائم من الشرك، وتكون شركاً أصغر أو شركاً أكبر بحسب ما يكون بقلب صاحبها، فإن اعتقد أن هذه التميمة تنفع وتضر من دون الله سبحانه وتعالى، أو مع الله فهذا شرك أكبر، وإن اعتبرها سبباً من الأسباب فهذا شرك أصغر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولـ ابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى، فقطعه وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]].

باب ما جاء في الرقى والتمائم

باب ما جاء في الرقى والتمائم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في الرقى والتمائم. في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه: (كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت)]. سبق أن بينا أنهم كانوا يجعلون القلائد على الجمال والدواب وعلى الأطفال وعلى أنفسهم يتقون بها العين، وهنا مسألة لا بد من التنبيه عليها، وهي أن التمائم تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: تمائم ليس في حكمها خلاف، وهي التمائم التي تكون من الأحجار أو الودع أو الخيوط ونحو ذلك، ويدخل في ذلك ما يضعه بعض الناس في سياراتهم مثل العرائس ونحوها يتقون بها العين، وبعضهم قد يجعل في درج غرفة النوم شيئاً من الأشياء يظن أنه يدفع عنه العين، فكل هذه من التمائم ولو اختلفت صورها وأشكالها؛ لأن حقيقتها واحدة. القسم الثاني: تعليق القرآن، وهو مختلف فيه، فلو أن إنساناً علق في رقبته مصحفاً يتقي به العين، أو من أجل أن يزيل عنه مرضاً به؛ فهذه المسألة وقع فيها خلاف بين السلف رضوان الله عليهم، فمنهم من جوزها وأباحها؛ لأن القرآن مما يستشفى به، والصحيح من أقوال أهل العلم -وهو مذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما منع ذلك؛ لأن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في التمائم عامة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف عنه أنه شرع للناس أن يعلقوا هذه التمائم من القرآن، ولأن القرآن أنزله الله عز وجل للتدبر ولم ينزله للتعلق، ولأنه إذا وضع في رقبة الإنسان أو في رقبة دابة من الدواب؛ فإن هذا مدعاة للاستهانة به، ولأن الشفاء المقصود بالقرآن هو بتلاوته وقراءته والرقية به، وليس المقصود تعليقه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كيفية الاستشفاء به ووضحه عليه الصلاة والسلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك). رواه أحمد وأبو داود]. هذا واضح في أن الرقى منها ما يكون شركاً، وهناك أحاديث كثيرة تدل على أن الرقى منها ما يكون شرعياً، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى ورقي، ومنها أنه قال: (اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً) فقسم الرقى إلى قسمين: قسم لا بأس به، وقسم به بأس، وهو الشرك. وأما التولة فهي نوع من أنواع السحر وهو سحر العطف؛ إذ السحر ينقسم إلى قسمين: صرف وعطف، فالعطف هو جمع بعض القلوب على بعض، والصرف صرف بعضها عن بعض، والتولة: اسم لسحر العطف الذي يحبب بعض الناس إلى بعضهم، وقد فسره الشيخ بذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً: (من تعلق شيئاً وكل إليه). رواه أحمد والترمذي]. وأحاديث ابن مسعود وحديث عبد الله بن عكيم كلها صحيحة محتج بها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [التمائم: شيء يعلق على الأولاد من العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه]. لأنه في حديث بريدة بن الحصيب (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الرقى من العين والحمى)، والحمى: هي لدغة العقرب أو الحية التي يكون فيها السم، بل إنه عليه الصلاة والسلام رخص فيما هو أوسع من ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [التولة: شيء يضعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته. وروى أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رويفع! لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمداً بريء منه)]. وهذا حديث صحيح، وموطن الشاهد منه قوله: (أو تقلد وتراً) يعني: لدفع العين أو رفع البلاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة. رواه وكيع. وله عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن]. إبراهيم هو النخعي، وهو من فقهاء الكوفة، وقوله: (كانوا) يعني أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه.

التبرك وأقسامه وأحكامه

التبرك وأقسامه وأحكامه والنوع الثالث من أنواع الشرك الأصغر هو: التبرك، والمقصود بالتبرك: طلب البركة، وطلب البركة منه شيء مشروع، فإن الشرع قد كشف عن مواطن وأماكن وأشخاص وأقوام مباركين، فماء زمزم مبارك، وبلاد الشام مباركة، والحرم مبارك، وهناك أمور كثيرة مباركة بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فيها بركة، وبين كيفية استعمال البركة الموجودة فيها. وهناك نوع ثان من التبرك، وهو التبرك المذموم، وهو أن يتبرك الإنسان بأحجار أو بأشجار، أو يتبرك بأشخاص، أو يتبرك بفضلات إنسان، كالتبرك بما بقي من مائه أو ما بقي من أكله أو لبسه أو نحو ذلك، وكل ذلك من الشرك الأصغر. إذاً: يمكن تقسيم التبرك إلى قسمين: تبرك محمود، وتبرك مذموم فالتبرك المحمود: يشترط فيه عدة شروط. الشرط الأول: أن يدل دليل صحيح صريح على أن هذا الأمر فيه بركة. الشرط الثاني: أن يكون التبرك به بنفس الطريقة المشروعة التي شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم، فماء زمزم يكون التبرك به بشربه والتضلع منه، فلو أن إنساناً أخذ ماء زمزم ليداوي به الجروح فإنا نقول له: أخطأت الطريق هنا. وبلاد الشام مباركة، والحرم مبارك، فلو أن إنساناً جاء إلى الحرم وقال: هذا مبارك، وبدأ يتمسح بأشجاره وأحجاره ويأكل من ترابه ويعمل نحو هذه الأعمال التي لم ترد في الشرع، فإنا نقول له: قد أخطأت، فإن الحرم مبارك، والبركة التي تكون فيه هي بكثرة الطواف بالطريقة المشروعة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم. والنوع الثاني: التبرك الممنوع، وينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ادعاء البركة في أماكن لم يدل الدليل الشرعي على أنها مباركة، فبعض الناس يأتي إلى قبر من القبور وينصب عليه قبةً كبيرةً ويجعل له مدخلاً ومخرجاً، ويجلس فيه ويقول: هذه روضة من رياض الجنة، وهذا المكان مبارك، فهذا ابتدع بدعة من عنده، فإن أماكن القبور لم يدل دليل صحيح صريح على أنها أماكن مباركة، فلا بد من أن يدل دليل صحيح على أن هذا الأمر مبارك؛ لأن البركة أمر موجود في العين المباركة لا يمكن أن يكشف عنه إلا من خلقه، وهو الله سبحانه وتعالى، وذلك إما بكلام منه في القرآن أو بكلام من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وحي، أما ادعاء البركة بدون دليل فهو من الشرك. القسم الثاني: التبرك ببعض الأماكن المباركة بغير الطريقة الشرعية، مثل الذي يأتي ويتمسح بمقام إبراهيم، أو يأتي ويتمسح بسواري الحرم، أو يذهب إلى بيت المقدس ويتمسح به ونحو ذلك، مع أن هذه أماكن مباركة دل الدليل على أنها مباركة، لكنه تبرك بها بشكل غير مشروع فهذا من الشرك الأصغر. والتبرك قد يكون شركاً أكبر إذا أوصلك اعتقاد البركة في الشيء إلى عبادته، فالذي جعل كفار قريش يعبدون مناة واللات والعزى ونحو ذلك هو التبرك، واللات كان رجلاً صالحاً يلت السويق للحجاج ويطعمهم ويسقيهم، وكان رجلاً فاضلاً، فلما مات عكفوا على قبره فتبركوا به، ووصل التبرك به إلى درجة أنهم أصبحوا يعبدونه من دون الله، ويظنون أنه يرفع عبادتهم إلى الله سبحانه وتعالى، فوقعوا في الشرك، وهذا هو -أيضاً- فعل قوم نوح، كما قال الله عز وجل: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]، فهذه أسماء لرجال صالحين كانوا في قوم نوح ماتوا في شهر واحد، فصوروا على صورهم على هيئة تماثيل، ثم بعد أن نسي العلم وزال عبدوا من دون الله سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما. وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:19 - 22]. جاء الشيخ بهذه الآية مع أنها في شرك المشركين المخرج من الملة؛ لأن السبب الذي جعلهم يعبدونها من دون الله هو التبرك، فالتبرك قد يصل إلى الشرك الأكبر إذا أوصل صاحبه إلى عبادة المبارك، وقد يصل إلى الشرك الأصغر إذا كان وسيلة، كما بينا في الفرق بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط]. يعني: يعلقون أسلحتهم بها لأجل البركة. قال: [فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر! إنها السنن، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]، لتركبن سنن من كان قبلكم) رواه الترمذي وصححه]. فهؤلاء قوم من المشركين كانوا يتبركون بشجرة ينوطون به

الذبح وما يحرم منه

الذبح وما يحرم منه ومن أنواع الشرك الأصغر: الذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله سبحانه وتعالى، فلو أن مذبحاً تذبح فيه الهدايا والقرابين ونحو ذلك، وكان هذا المذبح مخصصاً للقرابين التي تذبح لغير الله عز وجل، كان تذبح للأولياء أو تذبح للجن والشياطين، فلا يجوز للمسلم أن يأتي ويذبح لله فيها، مع أنه ذبح لله وليس لغير الله، ولكن ذلك وسيلة إلى الشرك الأكبر، وقد سبق أن ضبطنا الشرك الأصغر بأنه هو الذي يكون وسيلة إلى الشرك الأكبر، والذبح عبادة مصروفة لله، لكن لما كان في مكان يذبح فيه لغير الله صار وسيلة من وسائل الشرك، فانطبق عليه حكم الشرك الأصغر، كما هو الحال في الغلو والتطير ونحو ذلك مما سيأتي بيانه في وسائل الشرك.

باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله قال المؤلف رحمه الله: [باب: لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله. وقوله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة:108]]. قول الله تعالى: ((لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا)) هذا في قصة مسجد الضرار الذي بناه المنافقون، من أجل أن يضاهوا به مسجد قباء، فنهاه الله عز وجل أن يقوم فيه أبداً؛ لأن الموضع الذي يعبد فيه غير الله عز وجل أو لا يكون خالصاً لله عز وجل لا يصح الجلوس فيه والبقاء فيه، فالشاهد من هذه الآية للباب هو من جهة كون هذا المكان بني لغير الله سبحانه وتعالى، وليس فيه ما يتعلق بالذبح، فهو من باب الاستدلال بجهة عامة وليست جهة خاصة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: (نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم). رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما. بوانة: موطن في الطريق للخارج من المدينة إلى تبوك، وهو موجود الآن بهذا الاسم. وهذا الحديث يدل على المنع من عبادة الله عز وجل في المكان الذي يعبد فيه غير الله سبحانه وتعالى؛ لأن ذلك ذريعة لعبادة غير الله، ووسيلة وطريق يفضي إليها، وهذا الحديث يدل على باب عظيم، وهو باب سد الذرائع، فهذا الباب باب عظيم يجهله كثير من الناس، وفي نفس الوقت يستغربون من مواقف بعض الصالحين وبعض أهل العلم الذين يقفون من بعض التصرفات ومن بعض الأعمال موقفاً قوياً، فيتعجبون من هذا التصرف مع أن الشيء ليس حراماً في الظاهر، والسبب هو أن الشيء إذا كان وسيلةً وطريقةً إلى محرم فإنه لا يجوز أبداً بأي حال من الأحوال، فأي وسيلة من وسائل الاختلاط تكون محرمة، وأي وسيلة من وسائل عبادة غير الله عز وجل تكون محرمة، وأي وسيلة من وسائل الشر بأي وجه من الوجوه تكون محرمة، فالحديث مع النساء -مثلاً- فيما لا داعي إليه محرم؛ لأنه طريق سيوصل إلى الحرام، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحديث مع النساء، ويحمل نهيه على ما لا داعي إليه، أما إذا كان هناك داع فإنه يصح الحديث، كما حصل منه عليه الصلاة والسلام. وهكذا أشياء كثيرة جداً لم تحرم لذاتها، وإنما لأنها طريق مفض إلى الحرام، وهذه القاعدة يجهلها كثير من الناس ولا يعرفها، ولهذا قد يتعجب من بعض آراء وأفكار ومناهج بعض المصلحين وبعض الدعاة في بعض التصرفات والأقوال والأعمال.

باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح

باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟! في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: (أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح -أو العبد الصالح- بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة) فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل]. هذا الباب يشبه الباب الذي قبله، فالذي قبله كان في الذبح، وهذا الباب عام فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، يعني: جاء إلى قبر رجل صالح وصلى عنده لله، أو دعا عنده لله، أو بدأ يقرأ القرآن عنده لله عز وجل، فهذا لا يجوز؛ لأنه وسيلة إلى الشرك، فإذا كان النهي عن عبادة الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده من دون الله؟! فلا شك في أن النهي سيكون أكبر، فهذا الباب يشبه الباب الذي قبله، والفرق بينهما أن الأول في الذبح وهذا عام في العبادات كلها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهما عنها قالت: (لما نُزِل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أُبرز قبره، غير أنه خُشي أن يتخذ مسجداً) أخرجاه]. وموطن الشاهد من الحديث هو قوله: (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يعني: جعلوا المكان الذي يقبر فيه النبي مسجداً للصلاة، فلو كانت الصلاة لله عز وجل فإنها تجوز؛ لأنها وسيلة من وسائل الشرك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولـ مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). وموطن الشاهد هنا هو نفسه موطن الشاهد من الحديث السابق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقد نهى عنه في آخر حياته ثم إنه لعن -وهو في السياق- من فعله، والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد]. قوله: [وهو في السياق] يعني: في سياق الموت. والمعنى أنه لو جاء إلى مقبرةً ليس فيها مسجد، وأنشأ الصلاة عندها فإنه تشمله هذه الأحاديث جميعاً، فكيف إذا بنى مسجداً وأصبح مكاناً يعهد للتعبد؟! فلا شك فإن ذلك سيكون أشد، ويكون انطباق الحديث عليه أصرح. قال: [وهو معنى قولها: (خشي أن يتخذ مسجداً). فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً). ولـ أحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد). ورواه أبو حاتم في صحيحه]. هذه النصوص كلها تدل على أن اتخاذ القبور مساجد وأماكن للصلاة من الوسائل التي توصل إلى الشرك الأكبر، وهي من الشرك الأصغر، وهي تدل على قاعدة عظيمة من قواعد الشرع، وهي قاعدة سد الذريعة.

باب ما جاء في الرياء

باب ما جاء في الرياء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في الرياء. وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]. وعن أبي هريرة مرفوعاً: قال الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، رواه مسلم]. وهذا دليل صريح وواضح على أن العمل الذي يكون فيه الرياء يكون باطلاً؛ لأنه تعالى قال: (تركته وشركه)، فلو راءى تركه ورياءه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن أبي سعيد مرفوعاً: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك الخفي: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته، لما يرى من نظر رجل) رواه أحمد]. بقي من أنواع الشرك الأصغر باب عقده المصنف خاص بالرياء، والرياء هو أصرح صورة من صور الشرك الأصغر؛ لأنه ورد في الحديث مصرحاً عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء)، وهذا صريح في اعتبار الرياء من الشرك الأصغر. والرياء: هو أن يعمل الإنسان العمل لغير الله سبحانه وتعالى، فيزين الإنسان صلاته لنظر شخص من الأشخاص إليه، وهذا العمل من الشرك الأصغر، ويكون الرياء كفراً مخرجاً عن الملة بالكلية عندما يراءني بأصل إسلامه، فإذا جعل أصل إسلامه رياءً وفإنه يكون حينئذ منافقاً، أما إذا كان أصل الإسلام لله عز وجل وهو مسلم لله سبحانه وتعالى، لكن حصل له الرياء في بعض أعماله فهذا شرك أصغر، قد يكون شركاً أكبر بحسب العمل الذي يقع فيه الرياء، فإذا أنشأ العمل من أجل الناس فهذا من الشرك الأصغر، وإذا قصد به الإنسان نفسه فإنه يكون تعبداً لغير الله، فلو أن إنساناً قام فدفعه إلى الصلاة رؤية شخص وكانت الصلاة لله فهذا شرك أصغر؛ لأنه لم يصرف عبادة من العبادات لغير الله عز وجل، لكن الصلاة باطلة كلها ولا يقبل منها شيء؛ لأن الدافع هو مدح فلان أو المراءاة لفلان، أما إذا بدأ الصلاة لله سبحانه وتعالى، ثم طرأ عليه الرياء، فإما أن يغلب عليه ويستحسنه ويرتاح له، وإما أن يدفعه عن نفسه، فإن دفعه عن نفسه وجاهد نفسه فإن صلاته صحيحة، وأما إذا استرسل معه واستمر معه فلا تخلو العبادة من نوعين: النوع الأول: أن تكون هذه العبادة مما لا يتجزأ، مثل الصلاة، فتكون باطلة. النوع الثاني: أن تكون العبادة مما يتجزأ، فما كان فيه مخلصاً فعمله صحيح، وما طرأ عليه الرياء فهو فاسد. وذلك مثل صلاة التراويح، فقد يصلي الإنسان ركعتين بإخلاص لله تعالى، ثم صلى ركعتين فيرائي فيهما، فتبطل الركعتان اللتان راءى فيهما، وأما الركعتان اللتان أخلص فيهما فهما مقبولتان، مع أن الجميع يُسمى صلاة التراويح. ومثل صلة الأرحام، فعندما يزور الإنسان أحد أقاربه مخلصاً لله عز وجل يكون عمله مقبولاً، فإن زار بعد ذلك مباشرة أحدهم وطرأ عليه الرياء وارتاح له واستمر معه فزيارته الثانية باطلة وغير مقبولة. فهذا هو المقصود بالعبادة التي تتجزأ والعبادة التي لا تتجزأ.

خطر إرادة الدنيا بالعمل الصالح

خطر إرادة الدنيا بالعمل الصالح والباب الذي بعد ذلك من أنواع الشرك الأصغر هو إرادة الإنسان بعمله الدنيا، وقد اختلف أهل العلم في الفرق بين الرياء وإرادة الإنسان بعمله الدنيا، فبعضهم جعل إرادة الإنسان بعمله الدنيا هي الرياء نفسه، مثل الحسن البصري وغيره. وبعضهم فرق بينهما، والصحيح هو التفريق، وأصح نوع من أنواع التفريق هو القول: بأن إرادة الإنسان بعمله الدنيا عامة والرياء إرادة خاصة، وكل ذلك فعل لغير الله سبحانه وتعالى، لكن إرادة الدنيا عامة، فقد يريد الإنسان منفعة مالية، وقد يريد منفعةً دنيويةً، وقد يتعلق بشيء من الشهوات لا بالمدح والثناء، أما الرياء فمتعلق بالمدح والثناء، والأحكام التي سبقت في موضوع الرياء هي -أيضاً- منطبقة على إرادة الإنسان بعمله الدنيا، فتكون إرادة الإنسان بعمله الدنيا شركاً أكبر مخرجاً عن الملة إذا كان أصل الإسلام يريد الإنسان به الدنيا، ويكون حينئذ من جملة المنافقين، أما إذا كان أصل إسلامه يريد به وجه الله والدار الآخرة، وعمل بعض الأعمال لأجل الدنيا؛ فإنه يحكم عليه بحسب هذا العمل وبحسب درجة إرادة الدنيا فيه، كما سبق في الرياء، فإن كان بدأ بالعمل من أصله يريد به الدنيا فهو مردود، وكل الآيات والأحاديث التي جاءت في بطلان العمل إذا كان شركاً يستدل بها على بطلان إرادة الإنسان بعمله الدنيا، مثل قوله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18]، وقول الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، والحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك)، وغيرها من النصوص التي تدل على بطلان الشرك، وهي -أيضاً- تدل على بطلان الرياء؛ لأنه من الشرك، وتدل على بطلان إرادة الإنسان بعمله الدنيا؛ لأنها من الشرك، فإذا كان أصل العمل مراداً به الدنيا فهو باطل، وإذا كان أصل العمل مراداً به وجه الله عز وجل، ثم طرأ عليه إرادة الدنيا فهو بحسب حال العامل، وإن دفع هذه الإرادة وجاهد نفسه فعبادته مقبولة، وإن لم يدفعها وغلبت عليه فإنه يحكم بالبطلان بحسب نوع العبادة، فإذا كانت تتجزأ فإنه يقبل منها العمل الخالص، وأما غير الخالص فلا يقبل، وإذا كانت لا تتجزأ فإنها لا تكون مقبولة، على نحو ما فصلناه في موضوع الرياء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا. وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15]]. هذه الآية فيمن أراد الدنيا بأصل إسلامه، أو غلبت عليه إرادة الدنيا حتى أصبحت هي كل شيء بدل الدين، فهذا لا شك في أنه ليس بمسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)]. هذا الحديث فيه كثير من الفوائد, ومما يتعلق بموضوعنا هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى من أراد الدنيا -ومثله من أراد المال- عبداً، فقال: تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة وعبد الخميلة، وهذا بحسب درجة العبودية التي عنده على نحو ما سبق تفصيله، وقد قسم الناس في هذا الحديث إلى قسمين: قسم تعيس: وهو من أراد بعمله الدنيا. وقسم له الطوبى، و (طوبى) في الأحاديث الواردة قيل: إنها الجنة، وقيل: هي شجرة عظيمة في الجنة. فهذا ما يتعلق بالكلام في الشرك في الألوهية، وبعض أنواع الشرك الأصغر.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الشرك الأصغر في الآخرة

حكم الشرك الأصغر في الآخرة Q هل توزن أعمال صاحب الشرك الأصغر أم أنه يعذب على قدر شركه ثم يدخل الجنة؟ A الشرك الأصغر فيه خلاف بين أهل العلم هل هو داخل في قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، أم أنه داخل في قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] على قولين مشهورين لأهل العلم، ويبدو أنه داخل في عموم قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]؛ لعموم هذه الآية.

ما يدعو به الإنسان ربه للنجاة من الشرك

ما يدعو به الإنسان ربه للنجاة من الشرك Q هل هذا الدعاء صحيح: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً فيما أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه؟ A نعم هذا الدعاء صحيح، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله.

المراد بالعصرانيين

المراد بالعصرانيين Q تذكر في دروسك بكثرة كلمة (العصرانيين)، فما المقصود بهم؟ A العصرانيون: هم طائفة من المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية وإلى الإسلام أثر عليهم ضغط الواقع الذي يعيشون فيه تأثيراً سلبياً، بحيث إنهم أصبحوا يؤولون النصوص الشرعية بسبب ضغط الواقع الذي يعيشون فيه، ومفهوم العصرانية يدخل فيه دعاة العلمانية؛ لأن العصرانية هي دعوة نشأت في الأديان الثلاثة الكبرى عند اليهود وعند النصارى وعند المسلمين، وأساس الفكرة التي عند هؤلاء جميعاً هو أن الواقع المعاصر المتطور لا يصلح لفهم النصوص الشرعية كما كان يفهمها السابقون، ولا بد من تطوير وتطويع هذه النصوص حتى توافق الواقع وتكون مناسبة له، ثم تاهوا في كيفية تطويعها، فطائفة منهم انسلخوا من الدين وقالوا: إن الدين هو عبادة في المسجد فقط، وأما بقية الحياة فلا علاقة لها بالدين، ونحن نبنيها بمقتضى العقل، وهؤلاء هم العلمانيون ودعاة التنوير كما يسمونهم. وطائفة أخرى أنكروا على هؤلاء العلمانيين وقالوا: الدين شامل لكل شيء، لكن قضايا المرأة وقضايا الفنون وقضايا التعامل مع الكفار لهم فيها آراء غريبة عن آراء الجيل الأول وعن إجماع الجيل الأول، فهم يبيحون السفور، ويبيحون الفنون، ويختلفون في ذلك، فمنهم من يغلو، ومنهم من يكون دون ذلك، فبعضهم عنده غلو في هذا، وبعضهم أقل من بعض، فبعضهم يبيح التصاوير والمتاحف المشهورة ويبيح الموسيقى بكل أنواعها وصورها، ولهذا قد يشجع وجود بعض أنواع الموسيقى الغريبة؛ لأنها تهذب النفس وتهذب الضمير برأيه، وهناك كتاب للأستاذ محمد حامد الناصر عن العصرانيين بين التجديد والتغريب.

حكم اعتقاد كون الحجر الأسود أو الركن اليماني شفاء للأبدان

حكم اعتقاد كون الحجر الأسود أو الركن اليماني شفاء للأبدان Q شخص استلم الحجر الأسود واستلم الركن اليماني من الكعبة المشرفة وقال: فيه شفاء للأبدان، فما حكم ذلك؟ A استلام الحجر الأسود ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، واستلام الحجر الأسود بصفات متعددة: منها استلامه بيده، ومنها تقبيله، ومنها الإشارة إليه، ومنها استلامه بمحجن وتقبيل المحجن، وأما الركن اليماني فقد ورد أنه مسحه ولم يرد أنه قبله، ولم يرد أنه قبل يده عندما مسحه، فيجب الاكتفاء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وأما اعتقاد أنه شفاء للأبدان فهذا اعتقاد فاسد يرده كلام عمر بن الخطاب عندما قبله وقال: [والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك].

حكم استعمال الأسورة والحلقات المغناطيسية لعلاج أمراض المفاصل والروماتيزم

حكم استعمال الأسورة والحلقات المغناطيسية لعلاج أمراض المفاصل والروماتيزم Q هناك أسورة أو حلقه مغناطيسية تباع لعلاج أمراض المفاصل والروماتيزم، فما حكمها؟ A إذا ثبت طبياً أن هذا المغناطيس له أثر على العظام فلا بأس، ويكون دواءً عادياً، لكن المنهي عنه هو الخيوط التي لا نفع فيها ولا فائدة فيها بأي وجه من الوجوه.

حكم كتابة اسم الزوجة في الخاتم خشية سحر الصرف

حكم كتابة اسم الزوجة في الخاتم خشية سحر الصرف Q هل يحرم وضع الخاتم في يدي إذا كتب فيه اسم زوجتي لدفع السحر الذي يفرق بيني وبينها؟ A هذا لا يجوز؛ لأن السحر طريقة علاجه تكون بالرقى والتعاويذ الشرعية، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعالج الناس بخيوط أو خواتم توضع في أيديهم ويكتب فيها اسم الزوجة، فهذه طريقة داخلة فيما سبق أن أشرنا إليه.

حكم اتخاذ الخيط في اليد للزينة

حكم اتخاذ الخيط في اليد للزينة Q بعض الناس يعلق في يده خيطاً ولا يقصد به شيئاً ولكن للزينة؟ A هذا ليس فيه إشكال، ولكن لم يعهد أن الخيط يتخذ زينة.

حكم وضع حرز عند المسجد للطفل المولود بقصد حبه للصلاة

حكم وضع حرز عند المسجد للطفل المولود بقصد حبه للصلاة Q ما حكم وضع حرز للطفل المولود بعد الولادة عند المسجد بقصد حبه للصلاة، أو عند المدرسة بقصد حب المدرسة؟ A هذا من الخرافات، وهو من التفاؤل والتشاؤم الذي لا دليل عليه.

حكم وضع خيط الزينة

حكم وضع خيط الزينة Q ما حكم وضع خيط الزينة؟ A إذا كان خيط الزينة فيه تشبه بالكفار فإن النهي يكون من باب النهي عن التشبة بالكفار، لكن لا يعتبر تميمة إذا كان لا يعتقد فيه، وهي عادات قبيحة اعتادها بعض الناس؛ لأن الخيط لم يعرف منذ قديم الزمان أنه يستخدم للزينة.

حكم طلب البركة من المرء مزاحا

حكم طلب البركة من المرء مزاحاً Q كثر من الشباب الملتزمين -هداهم الله- قول بعضهم لبعض: تبرك بفلان؛ فإنه رجل طيب، من باب المزاح، فما حكم ذلك؟ A هم لا يقصدون البركة، لكن المزاح إذا تجاوز حده لا يكون محموداً.

حكم التبرك بأستار الكعبة

حكم التبرك بأستار الكعبة Q هل التبرك بأستار الكعبة من جوانبها مشروع؟ A هذا ليس بمشروع، ولهذا لما جاء معاوية بن أبي سفيان وتبرك بجميع أركان الكعبة نهاه ابن عباس رضي الله عنه، وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم من الكعبة إلا الحجر الأسود والركن اليماني.

قطع عمر بن الخطاب شجرة بيعة الرضوان

قطع عمر بن الخطاب شجرة بيعة الرضوان Q ما صحة ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه منع من كان يأتي إلى الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان؟ A نعم منعهم عندما كانوا يجتمعون فيها، بل إنه قطعها. أما إتيان ابن عمر رضي الله عنه إلى الأماكن التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيها فليس مقصوده التبرك بها بقدر ما هو تطبيق سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان ابن عمر يجتهد في اتباع هديه في كل شيء، ومع ذلك أنكر عليه بعض الصحابة رضوان الله عليهم.

كيفية التداوي المشروع بماء زمزم

كيفية التداوي المشروع بماء زمزم Q ذكرت أن التداوي للجرح بماء زمزم ليس مشروعاً، كيف ذلك، وفي الحديث: (ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم)؟ A أنا لم أقل لا يتداوى به مطلقاً بأي طريقة، ولكن يتداوى به عن طريق الشرب، فيشرب ماء زمزم وينوي به الشفاء لمرضه، أما أن يضع الماء على الجرح فهذا غير وارد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

عموم البركة في ماء زمزم

عموم البركة في ماء زمزم Q هل البركة تكون في ماء زمزم في الحرم المكي فقط؟ A النصوص عامة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ماء زمزم لما شرب له) فالبركة عامة ليس فيها تخصيص بالحرم فقط.

أثر ترك السنن على التوحيد

أثر ترك السنن على التوحيد Q هل ترك بعض السنن ينقص كمال التوحيد، وما حكم من علم بعلم ولم يعمل به؟ A أي نقص في العبادة ينقص من توحيد الإنسان، ولكن ليس معنى ذلك أنه آثم، فلا تترتب العقوبة على ترك شيء من السنن، أما أنه ينقص قدره وينقص توحيده التام الكامل فلا شك في ذلك، ولاشك في أنه لا يستوي مع من يأتي بالواجبات والسنن جميعاً.

بيان معنى الشرك الخفي

بيان معنى الشرك الخفي Q ما هو الشرك الخفي؟ وهل هو من أنواع الشرك؟ A الشرك الخفي هو الذي يكون فيه خفاء وبعضهم يجعله من الشرك الأصغر، وبعضهم يجعله وصفاً عاماً يدخل فيه الأكبر والأصغر.

حكم الغش

حكم الغش Q هل الغش في البيع والاختبارات نوع من أنواع الشرك الأكبر، لحديث: (من غشنا فليس منا)؟ A الغش ليس شركاً أكبر؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (فليس منا) ليس قصده به أنه لا يكون مسلماً، وقد وردت أحاديث كثيرة فيها نفي الإيمان، مثل قوله: (لا يؤمن) و (ليس منا) ولكن لا يقصد بها التكفير، وإنما يقصد بها بيان تحريم هذا الأمر، ولهذا فإن الرجل الذي وجده النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع الجيد من الطعام في الأعلى الذي أصابه البلل في الأسفل لم يستتبه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرتب عليه أحكام الكفر.

كتاب التوحيد [3]

كتاب التوحيد [3] لقد جاءت نصوص الوحيين بإرساء قواعد التوحيد وإبطال الشرك بأدلة متنوعة تفيد القطع ببطلان عبادة ما عبد من دون الله تعالى، وتأكيد لإبطال الشرك جاءت النصوص بمنع كل الأسباب والوسائل الموصلة إليه، كالغلو في الصالحين، وفي قبورهم، وكالتطير والتشاؤم، ونحو ذلك، في جملة من المسائل الخطيرة التي ينبغي للمسلم أن يكون على بينة فيها.

إثبات التوحيد وإبطال الشرك

إثبات التوحيد وإبطال الشرك الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الشرك قد أبطله الله عز وجل في القرآن، وأثبت الله سبحانه وتعالى توحيد الألوهية بالطرق المقنعة التي تخاطب العقل وتخاطب فطرة الإنسان. ويمكن أن نحصر الأدلة التي جاءت لإثبات توحيد الألوهية وإبطال الشرك في نوعين: النوع الأول: أدلة جاءت بإثبات التوحيد بذكر استحقاق الله سبحانه وتعالى للعبادة. والنوع الثاني: إثبات التوحيد عن طريق إبطال الشرك. فتوحيد الألوهية -وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة- بينه الله سبحانه وتعالى في القرآن بياناً كافياً وشافياً وواضحاً. وقد استدل بالأدلة العقلية على إثبات توحيد الألوهية وعلى إبطال الشرك، فإذا سئلت: ما هو الدليل على توحيد الألوهية وإفراد الله عز وجل بالعبادة؟ فإنه يمكنك أن تجعل الدليل على إفراد الله عز وجل بالعبادة وتوحيد الألوهية على نوعين: النوع الأول: إثبات التفرد باستحقاق الله سبحانه وتعالى للعبادة، فأنت تثبت في هذه الزاوية أن الله سبحانه وتعالى متفرد في كونه هو المستحق وحده للعبادة دون غيره، وقد استخدم في هذا النوع صور متعددة في إثبات هذا المطلب المهم من مطالب توحيد الألوهية. النوع الثاني: في إثبات توحيد الألوهية: إبطال الشرك، فإبطال الشرك يستلزم إثبات التوحيد ولا بد؛ لأنه إذا أبطل الله عز وجل معبودات المشركين مثل الأصنام أو الأولياء أو الأنبياء أو الملائكة أو الجن أو غيرهم، إذا أبطل الله عز وجل عبادة هؤلاء؛ فإن هذا يدل بالتضمن على إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة؛ لأنه هو وحده سبحانه وتعالى المستحق للعبادة. ولهذا سنذكر مجموعة من الأبواب التي ذكرها الشيخ في مجال إبطال شرك المشركين، فهو لم يتعرض -رحمه الله- بالتفصيل لإثبات إفراد الله عز وجل بالعبادة، أو لإثبات إفراد استحقاق الله سبحانه وتعالى للعبادة، لم يتعرض لهذه القضية بالتفصيل، لكنه تعرض لقضية بالغة الأهمية، وهي إبطال الشرك، وإبطال الشرك يستلزم إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة. وسنلحظ أن الأدلة التي ذكرها الشيخ مما جاء في القرآن أدلة تخاطب العقل، وهذا يدل على أن القرآن مليء بالأدلة العقلية. وهذه قضية مهمة جداً ينبغي أن نتنبه لها وأن نعتني بها، وهي أن القرآن الكريم هو كلام الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل هو الذي خلق الإنسان، وهو العليم به، كما قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فهو سبحانه وتعالى أعلم بحال العبد وبطبيعة العبد وبما يصلح العبد، ولذا أورد الأدلة المقنعة على أن الله سبحانه وتعالى واحد في ربوبيته، وعلى أنه واحد في ألوهيته، وعلى أنه واحد في أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى. وجاء بالأدلة العقلية -أيضاً- في القرآن على النبوات، وجاء بالأدلة العقلية على البعث والنشور. فالقرآن مليء بالأدلة العقلية التي تدل على هذه المحاور المهمة في العقائد، فالأدلة العقلية القرآنية الموجودة في القرآن تدل على التوحيد، وتدل على النبوات، وتدل على المعاد، وهذه الأمور الثلاثة هي أصول العقائد.

إثبات توحيد الألوهية بالأدلة العقلية

إثبات توحيد الألوهية بالأدلة العقلية أما مسألة إثبات توحيد الألوهية بالأدلة العقلية وأن الله عز وجل هو وحده المتفرد باستحقاق العبادة فقد جاء ذلك من خلال دلالتين: الدلالة الأولى: دلالة الربوبية على الألوهية. والدلالة الثانية: دلالة الكمال والأسماء الحسنى والصفات العليا على توحيد الألوهية. أما النوع الأول -وهو الاستدلال بتوحيد الربوبية على كونه إلهاً- فهو واضح جداً، وهو أن الله عز وجل هو الخالق، والرازق، والمحيي، والمميت وحده، وأنه سبحانه وتعالى مالك لكل شيء، وأنه المدبر لكل شيء، فهذا هو المستحق أن يعبد. ولو عرضت على عقلك قولك: هل المستحق للعبادة والتعظيم هو الذي يدبر ويخلق ويرزق والذي بيده كل شيء، أم الفقير المسكين الذي ليس بيده شيء؟ فإنك ستقول حالاً: المستحق للعبادة هو هذا الموصوف بهذه الصفات العظيمة، والذي له الربوبية، ولهذا يقول الله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، ويقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، فاستدل بكونه الخالق على كونه هو المعبود سبحانه وتعالى، ولهذا أدلة نماذج كثيرة غير هذه الأدلة. النوع الثاني: دلالة الكمال، فكونه كونه سبحانه وتعالى هو المتفرد بالكمال يدل على أنه هو المستحق وحده للعبادة دون شريك، وأوضح ما يدل على ذلك آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] فهو سبحانه يذكر صفاته، وأنه هو وحده المستحق للعبادة، ولهذا كانت أعظم آية في كتاب الله.

إبطال الشرك

إبطال الشرك أما إبطال الشرك فجاء من طريقين: الطريقة الأولى: تجريد الشركاء والآلهة المعبودة من دون الله من صفات الربوبية، وهذا الإبطال عكس لذاك الإثبات، فعندنا موضوع إثبات استحقاق الله عز وجل للعبادة، وهذا الموضوع الاستدلال بتوحيد الربوبية على أن الله هو المستحق للعبادة. وأما في موضوع الإبطال فإننا نجد الشركاء ليسوا أرباباً، فهذا يدل على بطلان كونهم آلهة. والاستدلال الثاني هو الاستدلال بكون الله عز وجل هو الكامل كمالاً مطلقاً، والاستدلال بتوحيد الأسماء والصفات على كونه منفرداً بالألوهية والعبودية، فيستدل بعكسه على إبطال الشرك، فنقول: كون الآلهة ناقصة وعاجزة وليس لها صفات الكمال يدل على أن عبادتها باطلة. قال المؤلف رحمه الله: [باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:191 - 192]]. وجعلها عنواناً للباب ليبين أن الآلهة التي تعبد من دون الله آلهة باطلة لا تستحق العبادة. والدليل على أنها لا تستحق العبادة هو قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا} [الأعراف:191] فهم -أولاً- لا يخلقون شيئاً. ثانياً: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191] فكيف يُعبد المخلوق والمخلوق لا يُعَبد؟! ثالثاً: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} [الأعراف:192] فهذه الآلهة لا تستطيع أن تنصر من يعبدها إذا نزل به البلاد. رابعاً: {وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:192]، فهذه الآلهة لا تنصر نفسها، فهي لا تملك أسس استحقاق العبادة، وهي الملك المطلق، والتدبير المطلق، فهذه الآلهة ليست آلهة مستحقة للعبادة بل هي آلهة باطلة، ودليل البطلان في قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ} [الأعراف:191] فهذا استفهام إنكاري يتضمن النفي، يعني: لا يصح أن يشركوا. وقوله تعالى: {وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:192] يعني: لو أنها دمرت فإنها لا تستطيع أن تواجه من يدمرها، ولهذا كسرها إبراهيم عليه السلام وعلق الفاسق على الصنم الكبير، فلما جاءوا إليه قالوا: من فعل هذا بآلهتنا؟ فقال: بل فعله كبيرهم هذا. ثم قال لهم: اسألوهم إن كانوا ينطقون. يعني: كيف تكون آلهة وهي لا تستطيع أن تدفع الضر عن نفسها، وإذا كانت لا تستطيع أن تدفع الضر عن نفسها فمن باب أولى ألا تستطيع أن تجلبه لغيرها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14]]. هذه الآية تدل على بطلان الشرك بنفس الطريقة السابقة التي ذكرناها، حيث يخاطب الله عز وجل المشركين بقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13] فنفى عنهم الملك، والقطمير: اللفافة التي تكون على النواة، وليس المقصود بالملك المنفي هنا ملك اليد، بل المقصود أنهم لا يستطيعون خلقها وتدبيرها وملكها الدائم، وإنما هو ملك ناقص غير تام، وجاء بكلمة (قطمير) ليبين أقل أنواع الملك. ثم قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [فاطر:14]، وهذا هو الوصف الثاني الذي يدل على نقصان هذه الآلهة، وهي أنها لا تسمع الدعاء، ولهذا يخبر الله عز وجل عن إبراهيم في قوله لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42] يعني: كيف تعبد ما لا يسمع؟! إله لا يسمع، وإله لا يبصر، وإله لا يغني عنك شيئاً، كيف تعبده؟! وهذا يدل على أن الإله إذا كان موصوفاً بالنقص فإنه لا يكون إلهاً حقيقياً صحيحاً. وكل من يعبد غير الله عز وجل فهو في ضلال، فالذين يأتون إلى أصحاب القبور ويدعونهم من دون الله تستطيع بكل يسر بطريق عقلي صحيح أن تبطل عبادتهم، فتقول: يا فلان! هذا الإنسان لو كان ينفع ويضر لأغنى عن نفسه شيئاً، ولم يمت، فكيف تعبده وقد مات؟! ولهذا كان أغبى أنواع العبادات عبادة الموتى، وعبادة الأحياء الذين لديهم سلطان ولديهم قدرات قد تكون أقرب إلى العقل مع كونها فاسدة، ولكن صاحبها أخف شأناً من الذي يعبد ميتاً لا يغني عن نفسه، ولو كان يغني شيئاً لدفع الموت عن نفسه، ولهذا قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر:14]. وهذا يسمونه التنزل في الخطاب، فهم لن يسمعوا، {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر:14] والهدف منه إثبات عدم استجابتهم. قال تعالى: (

بطلان الشرك بالنبي ومن دونه

بطلان الشرك بالنبي ومن دونه قال المؤلف رحمه الله: [وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: (شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128])]. قوله: [وفي الصحيح] يعني: في صحيح البخاري. وقوله: [شج النبي صلى الله عليه وسلم] الشجة: هي الضربة في الوجه. [وكسرت رباعيته] هما السنان اللذان يكونان في بداية الفم بعد الثنايا. فقال: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]) والأمر: الخلق والثواب والعقاب، فليس للنبي صلى الله عليه وسلم شيء من ذلك. ووجه الدلالة من هذا الحديث في بطلان الشرك: أن النبي صلى الله عليه وسلم مع فضله ومكانته عند ربه ليس له من أمر العبودية والخلق والتدبير وشئون الإلهية شيء، فإذا كان عليه الصلاة والسلام هذا شأنه، وهو من أفضل الخلق فغيره من باب أولى. فهذا يدل على بطلان عبادة من عبد النبي صلى الله عليه وسلم، أو من عبد غيره وهو أنقص من النبي صلى الله عليه وسلم قدراً، وليس له من الأمر شيء من باب أولى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: اللهم العن فلاناً وفلاناً بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]). وفي رواية: (يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام، فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128])]. ووجه الدلالة من هذا الحديث هو نفسه وجه الدلالة السابقة، وهي قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، فالنبي صلى الله عليه وسلم مع فضله ومكانته عند ربه ليس له من أمر الألوهية والثواب والعقاب والتدبير والخلق والربوبية شيء، ولهذا سيأتي معنا من أسباب الشرك الغلو، وهو رفع الإنسان فوق مرتبته، أو محاولة إيصاله إلى درجة الألوهية، ولهذا يقول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، فليس له من شأن التدبير أي شيء. فإن قيل: أيهما سبب النزول الأول أو الثاني؟ ف A أن بعض الآيات قد يرد في سبب نزولها سببان، بحيث تنزل الآية بعد السببين جميعاً، فتحكى على أنها سبب للأول وعلى أنها سبب للثاني، ولا مانع من ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] قال: يا معشر قريش -أو كلمة نحوها-! اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا أغني عنكِ من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئتِ، لا أغني عنكِ من الله شيئاً)]. هذا الحديث وجه الدلالة منه بيان إبطال الشرك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم غلا فيه بعض الناس حتى أوصلوه إلى درجة الألوهية فعبدوه من دون الله. وهذا الحديث يدل على بطلان عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على بطلان عبادة غيره من باب أولى، حيث قال عليه الصلاة والسلام: يا فلان، يا عباس، ويا صفية، (يا فاطمة! سليني من مالي ما شئتِ لا أغني عنكِ من الله شيئاً) وهذا يدل على بطلان من يطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم الآن، وسيأتي معنا في شبهات القبوريين أنهم يقولون: نحن نطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة، فنحن نعلم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يخلق ولا يرزق، ولكن نطلب منه الشفاعة، ونحن نقول لهؤلاء: إن الشفاعة لا يملكها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشفاعة لله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]. فهي ملك لله سبحانه وتعالى، ولا يملكها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ولا في فترة البرزخ، وإنما يعطيه الله عز وجل إياها يوم القيامة، بعد أن يأتي ويسجد بين يدي ربه، ويدعو الله عز وجل فيقال له: سل تعطه، واشفع تشفع. فإذا قال له الله عز وجل: (سل تعطه واشفع تشفع) فحينئذ يكون الله عز وجل قد أذن له فيها، أما الآن فلا يصح أن تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم، فهي داخلة في قوله: (لا أغني عنك من الله شيئاً) فهو لا يملك شيئاً، ولا ينفع أحداً ولا يضره، ولا يدخل أحداً الجنة، ولا يخرج أحداً من النار

بطلان الشرك بالملائكة ومن دونهم

بطلان الشرك بالملائكة ومن دونهم قال المؤلف رحمه الله: [باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]]. هذه الآية تدل -أيضاً- على بطلان الشرك، ووجه الدلالة منها قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:23] فالضمير هنا يرجع إلى الملائكة، ومن فسر الآية بأنها في عموم الناس فهو مخطئ؛ لأن الحديث الذي سيأتي بعده يدل على ذلك دلالة قاطعة. فقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:23] يعني: إذا ذهب عنهم الفزع. {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:23] يعني: عندما يتكلم الله سبحانه وتعالى - كما سيأتي معنا في الحديث - يفزع الملائكة ويخافون، فإذا ذهب عنهم الفزع {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]. ففي الآية إبطال عبادة الملائكة، فالملائكة مع فضلهم ومكانتهم ومع كونهم يعبدون الله عز وجل لا يفترون، ومع كونهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، مع هذه الخصائص جميعاً لا يستحقون العبادة؛ لأنهم يخافون، والإله لا يخاف. ونلحظ منذ أن بدأنا في الباب الأول إبطال عبادة الأصنام، وإبطال عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، وإبطال عبادة الملائكة، وهكذا بهذه الطريقة. وإذا بطلت عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم فالأولياء من باب أولى ألا يعبدوا من دون الله، وإذا بطلت عبادة الملائكة فالجن وغيرهم من الناس من باب أولى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض -وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا؟! فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء)]. هذا الحديث يدل على نفس المعنى الذي سبق أن أشرنا إليه، فهو يدل على أن الملائكة لا تستحق العبادة؛ لأنها تخاف، كما ورد في هذا الحديث، والإله لا يخاف، وبناءً على هذا لا تستحق أن تعبد من دون الله سبحانه وتعالى. وقوله: (كأنه سلسلة على صفوان) الصفوان: هو الحجر الصلب، والسلسلة معروفة، والتشبيه في قوله: (كأنه) المقصود به أن الخوف الذي لحقهم من سماعهم لكلام الله كالخوف الذي سيلحقهم عندما يسمعون السلسلة تجر على صفوان لقوة الصوت الذي يخرج منها، وليس المقصود تشبيه صفة الكلام بصوت السلسلة التي تجر على الحجر. قال المؤلف رحمه الله: [وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة - أو قال: رعدة- شديدة خوفاً من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صُعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل)]. هذا الحديث فيه ضعف من ناحية إسناده، رواه ابن أبي عاصم في السنة والآجري في الشريعة، وابن خزيمة في كتاب التوحيد، وفي إسناده نعيم بن حماد وهو ضعيف، وكذلك في إسناده الوليد بن مسلم، وهو مدلس، لكن هذا الحديث يشهد له الحديث السابق الذي في صحيح البخاري، ومعناهما واحد. ووجه الدلالة منهما في إبطال الشرك هو أن الملائكة مع فضلها لا تستحق العبادة من دون الله سبحانه وتعالى أو مع الله؛ لأنها موصوفة بالنقص في مقابل كمال الألوهية، فهي تخاف كما هو ظاهر في هذا الحديث والآية، والإله لا يمكن أن يخاف أبداً.

باب قول الله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت) ودلالته على بطلان الشرك

باب قول الله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت) ودلالته على بطلان الشرك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]. وفي الصحيح عن أبي المسيب عن أبيه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل فقال له: يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك، فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113]. وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56])]. هذا الباب عقده المصنف رحمه الله تعالى لبيان بطلان الشرك أيضاً، فهو يريد أن يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستحق العبادة مع الله سبحانه وتعالى، أو من دون الله، والسبب في كونه لا يستحق ذلك أنه مع شدة محبته لعمه وعظم منزلة عمه عنده لم يستطع هدايته، أي: هداية التوفيق والإلهام. فهداية تصريف القلوب بيد الله، وليست بيد الخلق، والذي يستطيعه النبي صلى الله عليه وسلم من الهداية هو هداية الدلالة والإرشاد، فالهداية تنقسم إلى قسمين: هداية الدلالة والإرشاد، وهذا أمر يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أثبته الله عز وجل له بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. وأما النوع الثاني من الهداية فهو هداية التوفيق والإلهام، وهذه تتعلق بتصريف قلوب العباد، ولا يقدر عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي المعنية بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]. فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يملك تصريف قلوب العباد، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مع فضله ومكانته ومنزلته لم يستطع أن يهدي عمه أبا طالب مع حرصه على هدايته ومع اجتهاده في ذلك ومع محبته لهدايته، فإن هذا يدل على أنه ليس إلهاً ولا يستحق أن يعبد من دون الله سبحانه وتعالى، ولهذا فإن مقام الألوهية لا يصح أن يرفع إليه أي أحد مهما بلغ عندنا من المحبة والتعظيم والمكانة والمنزلة. وهنا مشكلة أحب أن أنبه عليها، وهي أن كثيراً من الناس عندما يسمع منا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستحق العبادة من دون الله، أو عندما يسمع أننا نقول -مثلاً-: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعبد من دون الله، أو لا يملك تصريف قلوب العباد، يظن أن في هذا قدحاً في النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خطأ كبير جداً، فهذا ليس فيه قدح في النبي صلى الله عليه وسلم، بل هذا إنزاله منزلته التي أنزله الله عز وجل إياها، بل إن رفعه إلى درجة الألوهية هو القدح في الرب سبحانه وتعالى الذي هو أعظم من النبي صلى الله عليه وسلم. وكثير من الناس لا يضبط موضوع محبة النبي ومحبة الولي ومحبة الصالح، فإذا رآك تقد جعل المخلوق -سواء أكان ولياً أم نبياً أم صالحاً- في مصاف الألوهية يظن أنك تبغضه، وهذا فهم فاسد ليس بصحيح، فلا يعني كون الإنسان لم يوصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى درجة الألوهية أنه مبغض أو أنه محتقر أو أنه منتقص للنبي صلى الله عليه وسلم، بل هذه أمور يشغب بها أهل البدع ويشغب بها القبوريون على أهل التوحيد، ويظنون أن ذلك مسوغ لعبادة الأولياء وعبادة الصالحين، أعاذنا الله وإياكم من الشرك. فهدف الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- عندما عقد هذا الباب هو بيان بطلان عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عبد النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الناس اليوم، فكثير من الناس يستغيثون به ويطلبون منه مغفرة الذنوب وكشف الكروب، ولهذا يقول البوصيري: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم وهناك قصائد كثيرة جداً لكثير من شعراء الصوفية يستغيثون فيها به ويطلبون منه مغفرة الذنوب وكشف الكروب التي لا تطلب إلا من الله سبحانه وتعالى. فأراد الشيخ أن يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يملك هداية عمه أبي طالب، فكيف يعبد من دون الله؟! وهناك مسائل كثيرة تتعلق بشرح هذا الحديث، لكن ليست هي موضوعنا، وليست على شرطنا في شرحنا لهذا الكتاب.

الحكم على الكافر أنه في النار إذا مات على كفره

الحكم على الكافر أنه في النار إذا مات على كفره هنا مسألة، وهي: هل يجوز أن يحكم على الكافر إذا مات على الكفر بأنه في النار، كأن يقال: إن أبا طالب في النار؟ هذه المسألة مسألة عقدية، ولكنها ليست مرتبطة بتوحيد الألوهية بشكل مباشر، والصحيح أن الكافر إذا مات على الكفر وتيقن الإنسان موته على الكفر؛ فإنه يحكم له بأنه في النار، وعليه فإن أبا طالب في النار قطعاً، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، أعاذنا الله وإياكم من النار.

أسباب موصلة إلى الشرك

أسباب موصلة إلى الشرك هناك جملة أسباب توصل إلى الشرك، ومنها: أولاً: الغلو. ثانياً: التطير. ثالثاً: التصوير. فهذه كلها من الأسباب التي توصل إلى الشرك، ولكن هل يعني كونها أسباباً أنها ليست شركاً؟ و A لا، بل هي من الشرك الأصغر، ولهذا سبق أن ضبطنا الشرك الأصغر بأن منه الأسباب والوسائل والطرق والذرائع الموصلة إلى الشرك الأكبر، فكل سبب موصل إلى الشرك الأكبر يعتبر من الشرك الأصغر، إلا أنه في بعض الأحيان قد يتطور الحال بالأمر الذي هو شرك أصغر فيصبح شركاً أكبر، مثل الغلو. الغلو كلمة عامة، وكثير من حالات الغلو قد يُصنف في الشرك الأصغر، مثل التعظيم غير المنضبط، أو الصلاة في أماكن قبور الصالحين، فهذا من الغلو، لكنه من الشرك الأصغر. وأحياناً قد يوصل الغلو إلى الشرك الأكبر، فقد يدفعه الغلو إلى صرف العبادة للمخلوق من دون الله، فيكون شركاً أكبر مع أنه من الغلو أيضاً.

الغلو في الصالحين

الغلو في الصالحين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين. وقول الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171]]. هذه الآية تدل على أن الغلو سبب من أسباب الشرك، ولهذا نهى الله عز وجل أهل الكتاب عن الغلو في الدين؛ لأن الغلو في الدين عندهم هو الذي جعل النصارى يعبدون المسيح ويقولون: إنه ابن الله، وهو الذي جعل اليهود يعتبرون عزيراً ابن الله أيضاً. والغلو: هو مجاوزة الحد والمبالغة في الإطراء والمدح والثناء، وقد يكون الغلو قولاً، وقد يكون الغلو فعلاً، وقد يكون الغلو اعتقاداً. فمن الغلو القولي إطراء النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصالحين إلى درجة التعظيم، وإلى درجة تقرب من مقام الألوهية، كالذي يقول مثلاً: إن الصلاة بجوار قبر الولي مثل الصلاة في الحرم، أو مثل الصلاة في المسجد الأقصى، أو مثل الصلاة في المسجد النبوي، وهذا كلام باطل، وهو من الغلو، وهو من الشرك الأصغر؛ لأنه ليس فيه صرف للعبادة لغير الله عز وجل. ومن الغلو: طلب الدعاء من الأموات، وهناك فرق بين طلب الأموات، وطلب الدعاء من الأموات، فطلب الأموات هو أن يأتي شخص إلى الميت ويقول: اغفر لي ذنبي أيها الميت، ويدعوه من دون الله، وهذا شرك أكبر؛ لأنه صرف العبادة لغير الله، والعبادة التي صرفها لغير الله هي الدعاء، والاستغاثة، والاستعانة، وهكذا. أما طلب الدعاء من الأموات فهو أن يأتي إلى الميت ويقول: يا فلان! ادع الله أن يغفر ذنبي، فيطلب من الميت أن يدعو الله له، وهذا ليس من الشرك الأكبر؛ لأنه ليس فيه عبادة مصروفة لغير الله، بل هو من الشرك الأصغر، وهو من الذرائع الموصلة إلى الشرك الأكبر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن: انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت]. هذه الآية تدل على أن الغلو في الصالحين سبب من الأسباب التي توصل إلى الشرك، فهؤلاء الذين عبدوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً في البداية لم يقعوا هؤلاء في الشرك الأكبر المخرج عن الإسلام. لكن الأمر الذي وقعوا فيه هو الغلو، وهو أنهم صوروا على أشكالهم تماثيل ووضعوها في الأماكن العامة، وقالوا: إنكم إذا رأيتم هذه الصور تذكرتم هؤلاء الصالحين وكيفية عبادتهم لله، فتدفعكم للعبادة، وهذا غلو؛ لأن الإنسان لا يصح له أن يتذكر بهذه الطريقة المبتدعة، وهو أن يتخذ صوراً يعلقها وأصناماً يصنعها لتذكره، وإنما يتذكر من كتاب الله، ويتذكر من أخبار الأنبياء، ويتذكر عظمة الله عز وجل، وينظر في ملكوت السماوات والأرض، كل ذلك من وسائل الذكرى، وليس من وسائل الذكرى هذا العمل الذي قاموا به. ولم تعبد في بداية الأمر، بل حين إذا هلك ذلك الجيل وجاء جيل آخر ونُسِيَ العلم، وفي لفظ: (نُسِخُ) بمعنى: محُيَ وقَلَّ وتناقص قليلاً قليلاً حتى زال بالكلية. فجاءهم الشيطان مرة أخرى -وهذه خطوات الشيطان- وقال لهم: انصبوا على أشكالهم صوراً حتى تذكركم بالعبادة، فلما نُسِيَ العلم جاء إلى الجيل الذي بعد وقال: إن آباءكم كانوا يأتون إليها فيسترزقون بها فترزقهم، ويستنصرون بها فتنصرهم، ويستسقون بها فتسقيهم، فعبدوها من دون الله سبحانه وتعالى. والأمران غلو، فحال الأوائل الذين وضعوا هذه الأصنام حتى تذكرهم غلو، ولكنه غلو لا يصل إلى الكفر الأكبر. والجيل الذي جاء بعد نسيان العلم كانت عبادتهم لهم من دون الله غلواً أيضاً، لكنه من الشرك الأكبر، وهذه قضية مهمة تدل على أن الشيء أحياناً قد يبدأ صغيراً ثم يتطور حتى يصبح أمراً كبيراً وخطيراً. كإنسان -مثلاً- رأى امرأة من بعيد، ثم اقترب منها وحاول أن يقنع نفسه بأنه يريد أن يدلها على طريق، فهذه درجة ربما تلحقها درجة أخرى، كأن يتكلم معها فيما لا داعي إليه، وربما تلحقها درجة أخرى، وهي أن يتعرف عليها، وربما تلحقها درجة أخرى، وهي أن يقع في الفاحشة معها، والعياذ بالله. وهكذا تبدأ الأمور بهذه الطريقة، وهذه هي القاعدة التي سبق أن بينت، وهي قاعدة سد الذرائع، ولهذا لا يجوز الاختلاط، ولا يجوز أن تكون مدارس البنات قريبة من مدارس الأولاد مثلاً؛ لأن هذا ذريعة ووسيلة إلى الزنا والعياذ بالله، ولأنه عندما تخرج الفتاة من هذا الباب ويخرج الشاب من هذا الباب يراها وتراه، وقد لا يكون في اليوم الأول مشكلة، وفي اليوم الثاني يأتي الشيطان إلى كل واحد منهما، وفي اليوم الثالث يحصل شيء آخر، ويترقى الأمر مع الأيام حتى يصل إلى درجة لا تحمد عقباها. ولهذا ينهى أهل العلم دائماً عن الذرائع التي توصل إلى الأخطاء، والتي توصل إلى المش

الغلو في قبور الصالحين

الغلو في قبور الصالحين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله. روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعلي قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)]. اتخاذ القبور مساجد سبق أن أشرنا إليه، وهو الصلاة عندها واتخاذها مكاناً للتعبد، أو دفن الصالحين أو العظماء في المساجد، بحيث تصبح المساجد مثل المقابر، وكل هذا لا يصح، وهو من الغلو في الصالحين الذي يوصل إلى عبادتهم. وصحيح أنه ليس عبادة للصالحين، ولكنه يوصل إلى عبادتهم، وهو وسيلة وذريعة من ذرائع الشرك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولـ ابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19] قال: كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره]. اللات هو رجل كان يَلُتُّ السويق للحُجَّاج، فمات فعظموه وعكفوا على قبره، ثم عبدوه في آخر الأمر من دون الله كما حصل في قوم نوح. ومن أمثلة الغلو: البناء على المقابر واتخاذ القباب عليها، وهذا مما ابتلي به كثير من بلاد المسلمين مع الأسف، بحيث تمر أحياناً بمقبرة في بلد من بلاد المسلمين فتظن أنك في حي فيه بيوت كاملة، وإذا هي مقبرة لها باب، ويجتمعون عند القبر، وقد يدعون الله عز وجل عند صاحب القبر حتى يكون هذا أدعى في الإجابة، وكل ذلك من وسائل الشرك، وهو من اتخاذ القبور مساجد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج. وعن ابن عباس قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)]. المراد بالمتخذين عليها المساجد أن يأتي شخص إلى قبر رجل صالح ويبني عليه مسجداً للعبادة، وقد سبق أن أشرنا إلى أن هذا من وسائل الشرك. والسرج إنارة القبور، وما زال الناس -مع الأسف- يخترعون أنواعاً متعددة من المبالغات الغريبة عند قبور الصالحين، مثل بناء القباب عليها، ومثل وضع صناديق للنذور عندها، بل وصل الحال في بعض البلاد إلى أن جُعِل لها نظام خاص تابع للأوقاف، فالأوقاف تشرف على المساجد وتشرف على المقابر أيضاً، بحيث إن زوار المقابر يكون لهم طريقة معينة في زيارتها، وإذا كان عندهم صدقات تأخذها وزارة الأوقاف وتعتني بها عناية غير عادية، مع أن المقابر لم يكن يُعَملُ لها هكذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وسيأتي معنا أن علي بن أبي طالب أرسل أبا الهياج الأسدي على ما أرسله عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن وظائف هذا الإرسال ألا يجد قبراً مشرفاً إلا سواه. أي: لا يكون القبر مرتفعاً، فكيف ببناء والمساجد والقباب عليها؟! فهذا الباب كله يتعلق بموضوع الغلو في الصالحين، والغلو في الصالحين وسيلة من وسائل الشرك، وهو مثل الباب الذي قبله.

التطير والتشاؤم

التطير والتشاؤم التطير معناه: التشاؤم بالطير، وقد كانت هذه عادة من عادات الجاهليين؛ أي: أنهم يتشاءمون بالطير، فإذا أراد أحدهم السفر فاعترض له نوع من أنواع الطير فإنه يرجع من سفره؛ لأنه يظن أن وجود هذا الطير في هذا الطريق علامة على أنه سيقع له في سفره مكروه، وقد يتفاءلون بالطير. وموضوع التطير يدخل في موضوع التشاؤم بما ليس عليه دليل، فهو من الوهم، ليس له حقيقة، وسمي تطيراً لأن أكثر أنواع التشاؤم عند العرب كان بالطيور، وبعض الناس اليوم قد يتشاءم بالرؤى والأحلام، وبعض الناس قد يتشاءم بالأشخاص، كأن يرى -مثلاً- رجلاً أعور، ففي الحال تنقلب الدنيا في وجهه، ويحصل له تعب نفسي، وربما يترك العمل، وربما يترتب على ذلك أمور كبيرة. وبعض الناس يتشاءم بالألوان، فيتشاءم من اللون الأسود، أو يتشاءم من اللون الأحمر، وبعض النساء تتشاءم من بعض الصفات أو الأشكال. إذاً: التشاؤم كله وسيلة من وسائل الشرك؛ لأن التشاؤم ضعف في التوكل واعتماد على الوهم، وقد يتطور إلى اتخاذ أسباب ليست بأسباب حقيقة شرعاً ولا قدراً، فتشبه حالته حالة أصحاب التمائم والرقى الشركية والتبرك ونحو ذلك. فالمتشائم عندما يتشاءم من اللون الأحمر قد يسبب له هذا ردة فعل في بعض التصرفات، فبعض النساء تدخل مدرسة من المدارس فترى -مثلاً- في الفصل لوناً معيناً فإذا بها تترك المدرسة وتنتقل إلى مدرسة أخرى مثلاً. وأنواع التشاؤم لا يمكن حصرها، فكلٌ عنده خرافة معينة، فقد يتشاءم بشكل معين أو بوضع معين. وأساسها - كما قلت - هو ضعف التوكل وعدم الاعتماد على الله سبحانه وتعالى، وعدم وضع الأسباب الشرعية والطبيعية في أماكنها الصحيحة، واتخاذ سبب وهو ليس بسبب، مثل أصحاب الخيوط، حيث يضع أحدهم خيطاً في يده ويظن أن هذا الخيط سيرفع عنه الحمى التي يشعر بها، وهذا يدل على ضعف التوكل عنده؛ لأنه اعتمد على هذا الخيط، مثل التشاؤم الذي يرد الإنسان عن مطلوبه بسبب من الأسباب، وهذا السبب ليس سبباً حقيقياً، بل هو سبب وهمي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في التطير. وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:131]]. وجه الدلالة من هذه الآية هو أن الله عز وجل ذم التطير، فأخبر أن طائرهم عند الله، أن أسبابهم وحوائجهم عند الله ليست معلقة بالطيور ولا معلقة بالأشجار ولا معلقة بالألوان، فهذا فيه ذم للتطير الذي كان عند الجاهليين. ووجه الدلالة الثاني أن التطير خصلة من خصال الكافرين، ولهذا كانوا يتشاءمون بالطيور وغيرها. قال المؤلف رحمه الله: [وقوله تعالى: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس:19]]. هذه الآية قبلها قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس:18] يعني أن المشركين يقولون للأنبياء: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس:18] أي: تشاءمنا بكم، وأصبحتم شؤماً علينا {لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس:18]. فقال لهم الرسل: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس:19] يعني: تشاؤمكم لكم وفيكم، وأنتم سبب الشؤم؛ لأن سبب الشؤم هو المعصية، أما وجود الرسل فليس شؤماً، فالمعصية شؤم حقيقي دل عليه القرآن والسنة. قال تعالى: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} [يس:19] يعني: أبسبب أننا ذكرناكم تطيرتم بالوهم؟! {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:19]. فهذا يدل على ذم التطير أولاً، ويدل على أنه من خصال المشركين ثانياً، ويدل على ضعف التوكل عندهم ثالثاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)]. قوله: (لا عدوى) هي انتقال المرض من جسد إلى جسد آخر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا عدوى) يعني: العدوى لا تنتقل بنفسها وبذاتها، وإنما إذا أراد الله عز وجل انتقالها نقلها، وإن لم يرد فإنها بيد الله سبحانه وتعالى، وقد كانوا يرون أن العدوى نتيجة حتمية لانتقال المرض من شخص إلى شخص آخر، ولهذا فإن العرب في الجاهلية قد يرتبون القتال في بعض الأحيان على مثل هذه الأمور، فقد يكون لأحدهم إبل كثيرة جداً، وآخر عنده بعير أجرب مثلاً، فيقاتلونه إذا جاء ببعيره الأجرب فأرسله في الجمال، وهذا لظنهم أن انتقال العدوى حتمي ولا بد. ولا يصح أن يورد المريض على الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك قال: (لا يردن ممرض على مصح) فلا يصح أن يرد المريض على المصح؛ لأنه ربما يتحقق السبب، لكن الاعتقاد الفاسد الذي كان عند الجاهليين هو أن هذا السبب منتقل حتماً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا عدوى) يعني: لا عدوى تنتقل بنفسها (ولا طيرة) يعني: ولا تشاؤم؛ لأن الطير لم يعلق الشرع

حسن الفأل

حسن الفأل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهما عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا: يا رسول الله! وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة)]. الفأل عكس الطيرة، فالطيرة تشاؤم، والفأل أمر يدعو الإنسان إلى الإقبال على العمل. فكأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الفأل بدلاً من الطيرة، فإذا كان ولا بد فليكن الفأل، لأنه يدفعك إلى العمل، وهو الكلمة الطيبة. فلو جاء اثنان عند مريض فبدأ بدأ يقول: فلان أصابه هذا المرض وهلك، وفلان من الناس أصابه هذا المرض وعمي، ويأتي بالأمور التي تخيف المريض، وقال كلمة طيبة حسنة خففت عن هذا المريض، فأيهما أفضل؟ لا شك في أن الكلمة الطيبة هي الأفضل، وهي التي تدفع الإنسان لبناء حياته بناء صحيحاً؛ لأن طبيعة النفس الاتجاه نحو التشاؤم أو التفاؤل. فالتفاؤل أعظم من التشاؤم وأحسن منه وأفضل منه ولا بد، والتشاؤم يكون بحسب الحال، فقد يكون الشيء شؤماً قدراً أو شؤماً شرعاً، والتفاؤل يبني النفس، والتشاؤم يحطم النفس، ومثال ذلك السرطان، فهو -في الغالب- مرض مميت، وهذا بقدر الله، وهو سبب من الأسباب، فهناك أمراض مميتة، وهناك أمراض غير مميتة، وأمراض يرجى برؤها، وأمراض لا يرجى برؤها. فلو أن إنساناً جاء عند مريض بالسرطان، وبدأ يعد له أسماء الذين ماتوا من السرطان، فإن هذا يدفعه إلى الانزعاج، وهو من التشاؤم، والتشاؤم بالسرطان معناه الانزعاج منه، وهو أمر ليس فيه إثم؛ لأن السرطان مرض مميت، وهو سبب من الأسباب القدرية، وليس وهماً، وليس مثل الطير، فالطير ليس له أي أثر، فعندما يأتي طير فيقف هنا أو يقف هناك، فإن بعضهم إذا رآه وقف عن يمينه أخذ منه أنه سينجح في عمله، وإذا رآه وقف عن يساره قال: سأخفق في عملي، وهذا خطأ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يعجبني الفأل)؛ لأن الفأل يدفع الإنسان إلى العمل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولأبي داود بسند صحيح عن عروة بن عامر قال: (ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنها الفأل ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)]. إذاً: يمكن أن نقسم التشاؤم إلى قسمين: تشاؤم بأسباب طبيعية حقيقية. وتشاؤم بأوهام. فالذي يوصل إلى الشرك -أو هو سبب في الشرك- هو التشاؤم بالأوهام، وأما التشاؤم بالأسباب الطبيعية فهو موضوع هذا الحديث، يقول عقبة بن عامر: (ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: التشاؤم بأسباب حقيقية فقال: (أحسنها الفأل) يعني أن التفاؤل وبناء الإنسان لنفسه أفضل من التشاؤم. (ولا ترد مسلماً) يعني: لا ترد مسلماً عن أمر من الأمور التي يريدها مهما كان هذا التطير. قال: (فإذا رأى أحدكم ما يكره) يعني: إذا رأى أمراً يكرهه فليقل هذا الدعاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن ابن مسعود مرفوعاً: (الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل)]. قوله: (الطيرة شرك) هذا نص صريح على أن التطير بالأوهام من الشرك، ويكون شركاً أكبر إذا ظن أن هذه الأوهام السببية حسب تصوره تفعل بذاتها، فهذا شرك أكبر. وإذا اعتقد أنها لا تفعل بذاتها، بل هي من الأسباب وليست في حقيقتها أسباباً شرعية ولا قدرية؛ فهذا من الشرك الأصغر. وإذا وقع في نفس الإنسان شيء من التطير فإنه ينبغي أن يجتهد في تربية نفسه على التوكل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولـ أحمد من حديث ابن عمرو: (ومن ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك، قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك)]. هذا ذكر آخر في التعوذ من الطيرة، وهي من الكفارات التي تكون للطيرة إذا خالطت النفس، وخطرت في البال. ولهذا يقسم العلماء التشاؤم والطيرة إلى قسمين: قسم يرد الإنسان عن عمله، فهذا لا شك في أنه من الشرك. وقسم هو حديث نفسي فقط، فهذا يذهبه الله عز وجل بالتوكل وبالأذكار.

كتاب التوحيد [4]

كتاب التوحيد [4] هناك ضابط للأعمال الشركية وهو: أن كل عبادة لله إذا صرفت لغيره تكون شركاً أكبر، وما كان منها وسيلة إلى الشرك فهو شرك أصغر، ومن جملة الأعمال الشركية الذبح والنذر لغير الله، والاستعاذة والاستغاثة بغير الله، والسحر والعيافة والطيرة والكهانة والتنجيم ونحو ذلك.

الأعمال الشركية في توحيد الألوهية

الأعمال الشركية في توحيد الألوهية بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا هو الدرس الرابع من دروس شرح كتاب التوحيد، وموضوع هذا الدرس هو الأعمال الشركية في توحيد الإلوهية، وقد عقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في هذا الكتاب مجموعة كبيرة من الأبواب تتعلق بالأعمال الشركية في توحيد الإلوهية، وسنقسم هذا الموضوع إلى قسمين، فالقسم الأول سنأخذه في هذا الدرس إن شاء الله تعالى، والقسم الثاني سنأخذه في الدرس التالي بإذن الله تعالى.

الذبح لغير الله تعالى

الذبح لغير الله تعالى أول عمل من الأعمال الشركية بدأ بذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هو الذبح لغير الله تعالى. والذبح المراد به: ذبح بهيمة الأنعام على وجه التقرب؛ إذ الذبح نوعان: النوع الأول: ذبح التقرب والتعبد. والنوع الثاني: الذبح العادي الذي يفعله الإنسان من أجل الاستفادة من المذبوح بالأكل، ويدخل في ذلك إكرام الضيف مثلاً، فأما النوع الأول -وهو الذبح الذي يكون للتعبد- فهو نوعان: النوع الأول: الذبح لله سبحانه وتعالى، فهذا توحيد يثاب عليه الإنسان، مثل ذبح الأضاحي والهدايا، وذبح العقائق أيضاً، والذبح الذي يكون في التقرب المطلق إلى لله سبحانه وتعالى بإطعام الفقراء ونحو ذلك فكل هذا من التوحيد، والإنسان مأجور على هذا العمل. النوع الثاني: الذبح لغير الله سبحانه وتعالى، مثل الذبح للجن، أو الذبح للقبور وأصحاب القبور، أو الذبح لمعظم أين كان هذا المعظم على سبيل التقرب، فهذا من الشرك المخرج عن دائرة الإسلام. وأما النوع الأول من أنواع الذبح -وهو الذبح العادي الذي لا يريد به صاحبه التقرب- فلا بأس به، كأن يذبح الإنسان ليأكل أو يطعم غيره من الضيوف والأهل ونحوهم، فهذا لا يدخل في الشرك؛ لأنه لم يفعل على سبيل التقرب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الذبح لغير الله. وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]]. ووجه الدلالة من هذه الآية على موضوع الذبح لغير الله عز وجل هو أن الله عز وجل قال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] والنسك المراد به هنا الذبح {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163]، وهذا دليل صريح واضح على أن الذبح قد يقصد به التعبد، فإذا قصد به التعبد فلا يجوز أن يكون إلا لله سبحانه وتعالى، ومن فعله لغير الله سبحانه وتعالى فقد وقع في الشرك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]]. والصلاة هنا فسرت بأن المراد بها صلاة عيد الأضحى، ومن فسرها بذلك أخذها من دلالة الاقتران بين الصلاة والنحر في موضع واحد، وقال: هذه لا تكون إلا في عيد الأضحى فقط، ولم تقترن الصلاة بالذبح في أي موضع آخر، ولعل الصواب أن الصلاة هنا عامة، والنحر -أيضاً- عام، وليس خاصاً بالأضاحي، فيكون المراد بالآية الصلاة بكل أنواعها وأصنافها، والنحر بكل أنواعه وأصنافه، ومنها الأضاحي، ومنها الهدايا، ومنها العقائق مثلاً، ومنها ما يذبحه الإنسان تقرباً لوجه الله سبحانه وتعالى، وجاء المؤلف بها ليبين أن النحر عبادة؛ لأن الله أمر به فقال: {وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، ولا يمكن أن يأمر الله سبحانه وتعالى بشيء إلا وهو عبادة، والقاعدة العامة أن أي عبادة من العبادات إذا ثبت أنها عبادة فصرفها لله عز وجل توحيد، وصرفها لغيره سبحانه وتعالى شرك وتنديد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن علي قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: (لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض) رواه مسلم]. هذا الحديث فيه بيان أن من ذبح لغير الله سبحانه وتعالى فهو ملعون؛ لأنه قال: (لعن الله من ذبح لغير الله)، ولا يكفي أن نستدل على كفر الذابح لغير الله باللعن؛ لأنه قد يكون اللعن واقعاً على بعض المعاصي، فأكل الربا، والشهادة عليه، والرشوة اقترنت في غير هذا الحديث باللعن، وهي مجموعة من الكبائر وليست مكفرات، ولكن يمكن أن نأخذ من هذا الحديث النهي عن الذبح لغير الله سبحانه وتعالى، وأنه من كبائر الذنوب، ونأخذ أنه يكون كفراً أكبر إذا قررنا أنه عبادة. ومن النصوص الدالة على أن العبادة إذا صرفت لغير الله عز وجل تكون شركاً، قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]. وقوله: (لعن الله من لعن والديه)، هنا الوالدان يشمل الأبوين القريبين من الإنسان ويشمل الأجداد أيضاً، وقوله: (لعن الله من آوى محدثا) يشمل نوعين: من فعل المصيبة التي تستوجب الحد، والمحدث المبتدع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، فقوله: (لعن الله من آوى محدثاً) يعني: ستر وأعان وساعد، صاحب بدعة أو صاحب جريرة عظيمة، يطلب بها شرعاً، مثل من قتل شخصاً وهرب، أو زنى وهرب، أو نحو ذلك، فمن آواه يصدق عليه هذا الحديث، كما أن من آوى مبتدعاً يصدق عليه هذا الحديث، وهذا يدل على خطر إيواء المبتدعة والسكوت عنهم، ويدل على أن الرد على المبتدعة والوقوف ضد أهل البدع والضلال -ولو كانوا من

الشرك في النذر

الشرك في النذر النوع الثاني من أنواع الشرك: الشرك في النذر، والنذر: هو إلزام المكلف نفسه شيئاً لم يكن لازماً عليه بأصل الشرع، ومعنى ذلك أن المكلف يلزم نفسه بعباده بلفظ فيقول: علي لله كذا، أو: علي أن أعمل كذا، كأن يقول: علي أن أصلي عشر ركعات، أو نحو ذلك، فهذا العمل ليس واجباً عليه أصلاً، ولكن أوجبه هو على نفسه، فهذا هو المقصود بالنذر. والنذر نوعان: نذر يكون لله سبحانه وتعالى، ونذر يكون لغير الله سبحانه وتعالى. فأما النذر الذي يكون لله سبحانه وتعالى فهو نوعان: نذر طاعة، ونذر معصية، كأن ينذر إنسان أن يفعل شيئاً لله عز وجل، وهذا نذر طاعة، مثل: الصلاة والصيام والحج، ونحو ذلك من أعمال الإسلام، أو ينذر أن يعمل معصية، فإذا نذر طاعة فإنه يجب عليه أن يوفي بنذره، وإذا نذر معصية فلا يجوز أن يوفي بهذه المعصية. وهناك نوع ثالث في النذر لله، وهو إذا نذر بأمر مباح، فلا يلزمه أن يوفي بنذر المباح، والدليل على ذلك قصة أبي إسرائيل عندما نذر أن يقف في الشمس، يظن ذلك عبادة لله عز وجل، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمره بترك هذا العمل. النوع الثاني من أنواع النذر: النذر لغير الله عز وجل، مثل: النذر للقبور أو النذر للصالحين أو نحو ذلك، سواءٌ أكانت هذه النذور أموالاً، أم كانت هذه النذور عبادات يقوم بها، أم كانت هذه النذور قرابين، أم غير ذلك، فإذا نذر لغير الله فقد كفر بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الإيفاء بالنذر عبادة، فقد مدح الله سبحانه وتعالى الصالحين بإيفائهم بالنذر، وهذا المدح يدل على أن هذا العمل عبادة، وإلا فلن يمدحوا به، والقاعدة العامة: أن العبادة إذا صرفت لله عز وجل فهي توحيد، وإذا صرفت لغيره فهي شرك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: من الشرك النذر لغير الله. وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]. وقوله: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270]]. في الآية الأولى مدح للصالحين من أهل الجنة بأنهم يوفون بالنذر، وهذا يدل على أن النذر عبادة، وإلا فلن يمدحوا. والآية الثانية: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270] فيها -أيضاً- هو مدح لمن ينذر نذراً فوفى به، وهذا أيضاً يدل على أن الوفاء بالنذر عبادة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)]. قوله: (فليطعه) أمر، والأمر يدل على الوجوب، فهو من العبادة، فهذا دليل صحيح صريح على أن الإيفاء بالنذر من العبادة، فلا يجوز صرفه لغير الله سبحانه وتعالى.

الشرك في الاستعاذة

الشرك في الاستعاذة النوع الثالث من أنواع الشرك: الشرك في الاستعاذة، والاستعاذة: هي الالتجاء والاعتصام من شيء يخافه الإنسان، فحين تقول: (أعوذ بكذا)، فالمعنى: ألتجئ إليه وأعتصم به من شيء يخاف أياً كان هذا الشيء، وأياً كان هذا المستعاذ به، فهذه الاستعاذة عبادة، وسيأتي الدليل على كونها عبادة. والاستعاذة بالله عز وجل توحيد، والاستعاذة بغير الله نوعان: النوع الأول: الاستعاذة بغير الله فيما يقدر عليه، أي: الالتجاء إلى مخلوق يقدر على أن يعيذك من هذا الشيء. والنوع الثاني: الاستعاذة بالمخلوق من شيء لا يقدر عليه. فمثال الاستعاذة من شيء يقدر عليه: أن تكون -مثلاً- في مسبح وتكاد أن تغرق، فلتجأ إلى سباح بين يديك، فإنه قادر على إخراجك من هذا المسبح بإذن الله تعالى، فهو سبب في هذا، فهذا ليس من الشرك، والاستعاذة تكون شركاً في حالتين: الحالة الأولى: أن يكون العمل المطلوب مما يقدر عليه الإنسان أو المخلوق في العادة، لكن يطلب من ميت أو غائب لا يقدر عليه طبعاً؛ لأن الميت لا يعمل شيئاً، والغائب لا يدري. ومثال ذلك: إذا كنت في البحر، وجاءت الأمواج واقترب الغرق وخفت، فاستعذت بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو ميت، أو استعذت بفلان من الحكام الذين لديهم طائرات، ولديهم قدرات، ولكنه ميت أو غائب ليس قريباً منك، فهذا من الشرك؛ لأنه لا يقدر على إنقاذك مما أنت فيه، ولو كان الإنقاذ من الغرق في العادة مما يقدر عليه الإنسان، فإذا كانت عنده إمكانات وقدرات فهو يقدر على إنقاذ الإنسان من الغرق، فأنت لو رأيت إنساناً سيغرق وأنت سباح ماهر قادر على إنقاذه كان إنقاذه من مقدورك وليس أمراً مستحيلاً. ومثال الاستعاذة بغير الله عز وجل مما لا يقدر عليه المخلوق في العادة: أن تلتجئ بمخلوق في أن يعتقك من نار جنهم، فلو التجأت بمخلوق في أن يعتقك من نار جهنم فقد وقعت في الشرك؛ لأنه لا يقدر على أن يعيد الإنسان من نار جهنم إلا الله سبحانه وتعالى، فلا يستطيع هذا الأمر نبي مقرب ولا ملك مرسل ولا ولي له فضل. إذاً: نخلص من هذا إلى أن الاستعاذة في الأصل تنقسم إلى قسمين: استعاذة بالله، واستعاذة بغير الله. فالاستعاذة بالله عز وجل عبادة، وهي توحيد، وقد تكون من الواجب، وقد تكون من السنة، بحسب الحكم المتعلق بها. والاستعاذة بغير الله يمكن أن نقسمها إلى قسمين: استعاذة بالمخلوق فيما يقدر عليه، وهذا ليس من الشرك، إلا إذا تعلق القلب بالمخلوق، فهذا من الشرك الأصغر، مثل تعلق القلب بالطبيب -مثلاً- أو بأي إنسان قادر على شيء. أما النوع الثاني فهو الاستعاذة بغير الله عز وجل فيما لا يقدر عليه، وينقسم إلى قسمين: الأول: ما يقدر عليه الإنسان في العادة، ولكنه يطلب من ميت أو غائب. والثاني: ما لا يقدر عليه الإنسان أصلاً في العادة. فهذان النوعان كلاهما من جنس واحد، وفعلهما عليه شرك أكبر؛ لأنه صرف للعبادة -وهي الاستعاذة- لغير الله سبحانه وتعالى.

من الشرك بالله الاستعاذة بغير الله

من الشرك بالله الاستعاذة بغير الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: من الشرك الاستعاذة بغير الله. وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]]. قوله تعالى: ((يَعُوذُونَ))، يعني: يستعيذون {بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] الرهق: هو الخوف والهم، فذم الله سبحانه وتعالى من استعاذ بمخلوق كيفما كان هذا المخلوق، إنسياً أو جنياً أو من الملائكة أو نحو ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك). رواه مسلم]. وهذا يدل على أن الاستعاذة من العبادة، وإلا فلن يرتب عليها هذا الفضل، والعبادة هي كل ما أمر الله عز وجل به أو عظمه أو بين فضله، سواءٌ أكان على وجه الإيجاب مثل الصلاة {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ} [هود:114] إلى آخر الآية، ومثل إيتاء الزكاة {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، أم على وجه الاستحباب، مثل المستحبات كلها الممدوحة عند الله عز وجل، فهذه كلها داخلة في العبادة. فمن هذا الحديث يتقرر أن الاستعاذة عبادة، والقاعدة هي أن العبادة إذا صرفت لله فهي توحيد، وإذا صرفت لغير الله فهي شرك وتنديد. وقوله: (أعوذ بكلمات الله) المقصود بها: كلام الله عز وجل الذي هو صفة من صفاته سبحانه وتعالى، ومنها القرآن، فالقرآن من كلمات الله، وكلمات الله كثيرة لا تعد ولا تحصى، والقرآن جزء من كلمات الله عز وجل الكثيرة، وكلمات الله عز وجل صفة من صفاته، وهذا يدل على جواز الاستعاذة بصفات الله سبحانه وتعالى.

الشرك في الاستغاثة

الشرك في الاستغاثة النوع الرابع من أنواع الشرك: شرك الاستغاثة بغير الله سبحانه وتعالى. والاستغاثة: هي طلب الغوث وإزالة الشدة، وهي قسمان: استغاثة بالله سبحانه وتعالى، وهذا توحيد. واستغاثة بغير الله عز وجل، وهي قسمان: الأول: طلب الغوث من المخلوق فيما يقدر عليه، فهذا لا بأس به، كأن جاءك عدو يريد الفتك بك وكان عندك شخص آخر فاستغثت به من أجل أن يحميك من هذا العدو وهو قادر على ذلك وليس ميتاً أو غائباً، فهذا جائز ولا شيء فيه. والثاني: الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، سواءٌ أكان المخلوق قادراً على جنسها ولكنه ميت أو غائب، أو كان المخلوق غير قادر على جنسها. فمثال الاستغاثة بغير الله فيما يقدر عليه المخلوق في العادة، ولكنه غائب أو ميت: أن تكون في بحر فتفرق، والأمواج من فوقك، فتستغيث -مثلاً- بنبي أو بولي، أو تستغيث بغائب ليس عندك، فهذا شرك بالله عز وجل. ومثال الذي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل مما لا يقع جنسه تحت مقدور الناس: مغفرة الذنوب، كأن تستغيث بغير الله في مغفرة ذنوبك أو إدخالك الجنة أو شفائك من المرض مثلاً أو رزقك، أو نحو ذلك، فكل ذلك من الشرك المخرج عن دائرة الإسلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره. وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [يونس:106 - 107]]. الاستغاثة جزء من العبادة وجزء من الدعاء، والدعاء هو الطلب، والطلب ينقسم إلى قسمين: طلب في حالة الشدة والكرب، وهذا يسمى استغاثة. وطلب في غير حال الشدة والكرب، فهذا دعاء، والاستغاثة نوع من أنواع الدعاء. ويقسم العلماء الدعاء إلى قسمين: دعاء المسألة، ودعاء العبادة. فأما دعاء العبادة فهو كل العبادات الشرعية، فكل العبادات الشرعية تسمى دعاء، فالجهاد دعاء، والصلاة دعاء، والحج دعاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء، والدعوة إلى الله دعاء، والصدقة دعاء؛ لأن فعل العبد لها يتضمن طلب الأجر من الله سبحانه وتعالى، والدعاء هو الطلب. والنوع الثاني من أنواع الدعاء: دعاء المسألة، وهذا هو المشهور عند الناس، وهو الذي يكون باللسان، فالفرق بين دعاء العبادة ودعاء المسألة أن دعاء العبادة قد يكون بالقلب، مثل التوكل على الله، ومحبة الله سبحانه وتعالى، وقد يكون بالجوارح، مثل: الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد يكون باللسان. وأما دعاء المسألة فلا يكون إلا باللسان، كأن تقول: اللهم اغفر لي وارحمني وتب علي، ونحو ذلك من الدعاء الذي يكون باللسان، فدعا المسألة إذا صرف لله عز وجل فإنه توحيد خالص، وأما إذا صرف لغير الله فهو شرك أكبر، كما لو قال: يا ولي الله! اعمل لي كذا وكذا. فكل دعاء المسألة من الشرك، إلا إذا جاء به على صيغة الطلب مما يقدر عليه الإنسان، كأن يقول: يا أخي الكريم! ناولني كذا. فهذا طلب وليس دعاءً بالمعنى الاصطلاحي، وإنما هو دعاء بالمعنى اللغوي، وأما دعاء العبادة فإنه إذا صرف لغير الله يكون شركاً، فمن صلى لغير الله، ومن جاهد لغير الله، ومن ذبح لغير الله، ومن نذر لغير الله فقد أشرك شركاً أكبر. وقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [يونس:106 - 107] وجه الدلالة من هذه الآية على كون الاستغاثة بغير الله من الشرك هو اعتبار من دعا من دون الله من الظالمين، حيث قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ} [يونس:106] يعني: إن دعوت غير الله {فَإِنَّكَ إِذاً مِنْ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، والظلم المراد به في هذه الآية: الشرك، كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، والذي يدل على أن المقصود بهذا النوع من أنواع الدعاء والطلب هو ما لا يقدر عليه إلا الله قوله بعد ذلك: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [يونس:107]، وهذا يدل على أن هذا من خصائص الله سبحانه وتعالى، وليس هو الطلب العادي الذي يكون بين الناس في الأمور الدنيوية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت:17]]. الابتغاء: هو السؤال بتضرع وخضوع، وهذا هو حقيقة الدعاء بالمعنى الشرعي، والرزق لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، فهذا يدل على عدة أمور: الأمر الأول: أن الدعاء والسؤال من العبادة، والدليل على ذلك الأمر بقوله تعالى: {

السحر والكهانة والتنجيم

السحر والكهانة والتنجيم النوع الخامس من أنواع الشرك: السحر، والكهانة، والتنجيم، وهذه الأمور عقد المؤلف لها ستة أبواب، وموضوع هذه الثلاثة موضوع واحد متقارب، ولذا جعلناها في موضوع واحد.

السحر وأنواعه

السحر وأنواعه السحر: هو ما خفي ولطف سببه، أي: ما كان خفي، وكان السبب في هذا الأمر الظاهر مجهولاً عند كثير من الناس وغير معروف عندهم، فهذا معنى السحر بمعناه العام عند أصحابه، وهو أنواع وليس نوعاً واحداً، ولهذا كان من الخطأ أن نحكم على السحر كله بحكم واحد، ولهذا اختلف كلام أهل العلم في حكم الساحر، فبعضهم كفره، وبعضهم لم يكفره، والحقيقة أن الخلاف بينهم خلاف تنوع وليس خلاف تضاد، فالسحر في الجملة ينقسم إلى قسمين: سحر يكون بمعاونة الشياطين بعد الاستغاثة بهم، وسحر يكن بأدوية وخفة في اليد ودراية وصنعة، ومواد يستخدمها الساحر، بحيث إنه يغير أشكال الأشياء، ويخيل إلى الناس. فأما النوع الأول فهو السحر الذي يكون باستخدام الشياطين، مثل العقد، وهو أن يأخذوا بعض الأجزاء الساقطة من الإنسان فيعقدوا بها عقداً، ثم يذهبوا إلى ساحر، فالساحر يستغيث بالشياطين والجن ويدعوهم من دون الله سبحانه وتعالى، وقد يُطلَب منه أمور كفرية، مثل تمزيق القرآن ورميه في المكان القذر، أو الصلاة الدائمة لهذا الشيطان، أو قد يستخدمه الشيطان في بعض الأحيان لبعض الأغراض السيئة، مثل الفواحش، فقد يفعل به، وقد يفعل هو بهذا الشيطان، ونحو ذلك من الأمور، وهي أنواع كثيرة عند أصحاب السحر. وخلاصة القول في هذا النوع أنه شرك أكبر إذا وجد فيه الاستغاثة بغير الله، ومن كتب السحر كتاب (شمس المعارف) الكبرى للبوني، والكتب التي تتعلق بمخاطبة النجوم وغيرها، وبعض أنواعها يجعلونها أوراداً ورقىً يقرءونها، ومن النصوص التي عندهم: (بعزة الإرعاد يا ميمون أجب أجب) يا فلان يا فلان يا فلان -من طواغيت الجن- أريد كذا، فأحضر واعمل وهكذا، فيردد الاستغاثة بغير الله بهذه الطريقة مرات معينة في وقت معين، وبحال معين، وفي بعض الأحيان يشترطون عليه أن يكون في حال جنابة، وفي بعض الأحيان قد يشترطون عليه أن يصوم ثلاثة أيام ثم يأتي بشاة سوداء أو ديك أسود ويذبحه بطريقة معينه، ولهم طرق متعددة يسمونها المجربات، والحقيقة واحدة، وهي أنه إذا صرفت العبادة لغير الله بدعاء أو استغاثة أو ذبح أو نذر أو عبادة كان ذلك فهذا من الشرك الأكبر المخرج من الملة. وأما النوع الثاني من أنواع السحر فهو الأدوية التي تستخدم لتغيير بعض الأشكال وخفة اليد والمخادعة ونحو ذلك مما يتدرب عليه كثير من الناس، وهذا ليس من الشرك، بل هو من كبائر الذنوب.

حد الساحر

حد الساحر والحد الشرعي في الحالتين: القتل، فالأول يقتل ردة؛ لأنه كفر بالله، والثاني يقتل حداً، فهو مسلم وليس بكافر، لكنه يقتل كما يقام الحد على الزاني المتزوج، فيرجم حتى يموت مع أنه مسلم، وكما يقتل القاتل مع أنه مسلم. إذاً: الحكم بالنسبة للموقف من الساحر في الدنيا هو القتل، سواءٌ أكان القتل لهذا الساحر الذي أشرك وعبد غير الله عز وجل، أم كان القتل للساحر الذي لم يصل إلى درجة الشرك، لكنه وقع في كبيرة من كبائر الذنوب. وبناءً على هذا نفهم الخلاف الذي وقع بين العلماء في حكم الساحر هل هو كافر أو غير كافر؟ وهذا الخلاف أصله: هل وقع الكفر من الساحر أو لا؟ والذي يدل على أن الساحر كافر ورود آيات واضحة في الدلالة على أن الساحر كافر، وهذا يحمل على النوع الذي صرف فيه الساحر العبادة لغير الله سبحانه وتعالى، فمناط الحكم على الساحر بالكفر هو كونه صرف عبادة لغير الله. ومعروف أن الصوفية اشتغلوا بالسحر بشكل كبير جداً بسبب ولوعهم بالكرامات، فولوعهم بالكرامات جعلهم يشتغلون بالسحر حتى يظهروا بعض الخوارق، خاصة من لم يكن صادقاً أصلاً، ولهذا فإن البوني صاحب شمس المعارف يعتبر من أئمة الصوفية، حتى إن يوسف بن إسماعيل النبهاني جعله من الأولياء الكبار في كتاب له اسمه (جامع كرامات الأولياء)، ويوسف النبهاني كان من علماء الشام، وتوفي في القرن الماضي، يقول: ومن كرامته أنه كان مستجاب الدعوة. وهو مؤلف الكتاب المشهور الذي هو من أشهر كتب السحر، ولهذا فإن طائفة الرفاعية من الصوفية والبكداشية الذين هم أقرب إلى الروافض مشهورون بالسحر، ولهذا قد يأتي إنسان منهم ويبلع بعض الحيات والعقارب أمام الناس، وقد يأتي شخص منهم ويدخل السيف في فمه حتى يصل إلى معدته، وقد يأتون بالطفل الصغير ويأتون بالسكين فيغرزونه في وجهه من جهة ويخرجونه من الجهة الثانية، وقد يكسرون في بعض الأحيان الزجاج ويأكلونه، فيرى الإنسان بعينه أنهم يأكلون زجاجاً، ونحو ذلك من الخوارق التي يستخدمونها، ويعتبرون ذلك من الكرامات، ولهذا فإن الصوفية هم أكثر من نشر السحر في العالم، وفي العالم الإسلامي خاصة.

ذكر ما جاء في السحر

ذكر ما جاء في السحر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في السحر. وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102]]. هذه الآية سياقها في اليهود، واليهود كانوا من أكبر المشهورين بالسحر في الزمن القديم، ولهذا نشروا السحر نشراً كبيراً عندما كانوا في بابل، وهم يعتبرون من أقطاب السحرة في القديم، وما زالوا كذلك في الحديث. فقوله تعالى: ((وَلَقَدْ عَلِمُوا)) يعني اليهود {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} [البقرة:102]، يعني: لمن اشترى السحر {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] يعني: ليس له في الآخرة نصيب، وهذا السياق لا يمكن أن يكون إلا في الكافر الذي كفره مخرج عن الملة؛ لأن المؤمن والموحد والمسلم لا بد من أن يكون له نصيب، أما من نفي عنه النصيب بالجملة بهذه الطريقة فهذا لا يمكن أن يكون إلا كافراً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51]]. الجبت: هو السحر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والطاغوت: هو الشيطان كما سيأتي معنا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال عمر: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. وقال جابر: الطواغيت كهان ينزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد]. وسيأتي الحديث عن الكهانة بشكل مجمل -إن شاء الله- عند الباب المتعلق بالكهانة، وهذان الأثران رواهما البخاري رحمه الله تعليقاً، ووصلهما الحافظ ابن حجر في الفتح، فأما الأول فإسناده قوي، وأما الثاني فإسناده حسن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات) قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)]. ووجه الدلالة من هذا الحديث هو أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر السحر من الموبقات، والموبقات: هي المهلكات، وهل السحر هنا هو المخرج من الملة أو غير المخرج من الملة؟ و A ذلك بحسب نوعه، فإن كان من المخرج من الملة كان عطفه على الشرك من باب عطف الخاص على العام، وهذا له نظائر كثيرة في القرآن، مثل قول الله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، والصلاة الوسطى من الصلوات؛ فإذا كان نوع السحر من الشرك الأكبر المخرج عن الملة فإنه يكون عظفه من هذا الباب، وأما إذا كان من النوع الثاني -وهو الأدوية والتخييلات التي ليس فيها استغاثة بغير الله عز وجل- فهو من الكبائر.

حكم الساحر في الدنيا

حكم الساحر في الدنيا قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن جندب مرفوعا (حد الساحر ضربه بالسيف). رواه الترمذي. وقال: الصحيح أنه موقوف. وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن: اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر. وصح عن حفصة رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت]. وكذا صح عن جندب، قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم]. هذه النصوص كلها في موضوع واحد، وهو حكم الساحر في الدنيا، فأما حكمه في الدنيا فهو القتل بكل الأنواع، سواءٌ أكان السحر الذي هو كفر مخرج من الملة، أم السحر الذي هو من الكبائر، فالنوع الأول يقتل صاحبه ردةً، والنوع الثاني يقتل صاحبه حداً، حتى ولو كان من المسلمين، أما الحد فلما روي عن جندب مرفوعاً (حد الساحر ضربه بالسيف)، ولكن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً، فهو ضعيف؛ لأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف، وكذلك فيه تدليس الحسن البصري رحمه الله تعالى، ولهذا ضعفه الحافظ ابن حجر في الفتح، والصحيح أن الخبر موقوف على جندب، ولهذا قال في آخر هذه النصوص: وكذلك صح عن جندب، فهو صحيح موقوفاً، رواه البخاري في التاريخ، والبيهقي وغيره. وبناءً على هذا يكون قتل الساحر مما فعله الصحابة رضوان الله عليهم، ومما أفتى به الصحابة، فـ عمر قتل ثلاث سواحر، وأمر بقتل كل ساحر وساحرة، وحفصة أمرت بقتل جاريتها التي سحرتها، وكذلك صح عند جندب كما سبق أن بينا. وقوله: [في صحيح البخاري عن بجالة] في قصة عمر ليس هذا الأثر في صحيح البخاري بهذا اللفظ، وإنما هو عند أبي داود وأحمد، وإسناده صحيح، وأما قوله: [وصح عن حفصة] فقد صح كما قال، رواه مالك وعبد الله بن الإمام أحمد رحمه الله.

بيان شيء من أنواع السحر

بيان شيء من أنواع السحر عقد المصنف بعد ذلك باباً سماه [باب بيان شيء من أنواع السحر] والمراد بالسحر في هذا الباب الذي عقده المصنف هو السحر بمعناه اللغوي، وليس السحر بمعناه الاصطلاحي، ولهذا سيأتي أن النميمة تعتبر من السحر، وتعتبر الطيرة من السحر، ويعتبر البيان والفصاحة من السحر، وهذه كلها ليست من السحر بالمعنى الاصطلاحي، بل هي من السحر بالمعنى اللغوي العام، وتدخل جميعاً في كونها خفية ومؤثرة ولا تعرف جهة تأثيرها بشكل مباشر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب بيان شيء من أنواع السحر. قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، حدثنا حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت). قال عوف: العيافة: هي زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض. والجبت: قال الحسن: رنة الشيطان. إسناده جيد، ولـ أبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه]. نلحظ أن الشيخ اعتبر العيافة هي الطيرة، وقد سبق الحديث عن الطيرة، وقلنا: إن المقصود بها التشاؤم بالطير. والعيافة من السحر، والخط الذي سماه الطرق من السحر أيضاً. والطيرة أو العيافة هي زجر الطير، بمعنى: أمر الطير، وكانوا يربون الطيور كما تربى الآن النسور والصقور للصيد، فإذا أرادوا تزويج شخص أتوا بهذا الطير وزجروه، فإذا ذهب يميناً تزوج، وإذا ذهب يساراً ترك، وكذلك في السفر، وكذلك الحال في الحرب، وكذلك الحال في أي باب من الأبواب التي يريدون أن يعملوها، فيقومون بزجر الطير، فإذا ذهب في أي اتجاه فسروا هذا الاتجاه على بناء وعلى اصطلاح عندهم. واعتبر ذلك من السحر لأن محل التأثير فيه خاف، وكذلك الطرق، والطرق هو نوع من الكهانة، وهو خط يخطه في الأرض يستدل به على الغيبيات. ومن أنواع الكهانة التنجيم، ومما يدخل في الكهانة العرافة، وهي أنواع من الاستدلال على المغيبات أو للبحث عن المفقود، فهذه كلها تدخل في نوع واحد، وهو الكهانة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد) رواه أبو داود وإسناده صحيح. وللنسائي من حديث أبي هريرة: (من عقد عقدةً ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه)]. هذا مثال للسحر، وهو العقد والنفث فيها، كما وصف الله عز وجل بقوله: {النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4]، وهو نوع من أنواع السحر يقومون به للتأثير على الناس، سواءٌ أكان بالصرف أم بالعطف، والصرف: هو صرف الرجل عن زوجته أو الصديق عن صديقه، بحيث يكره أحدهما الآخر، وأما العطف فهو أن يجمع بعضهم ببعض ويحب بعضهم إلى بعض، وقد سبق الحديث عن أنواع السحر وأحكام السحر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا هل أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة: القالة بين الناس). رواه مسلم]. اعتبر المؤلف النميمة من السحر؛ لأنها تدب في الناس وتأثر فيهم تأثير السحر في المسحور، فحين تنتشر النميمة في المجتمع تأثر فيه تأثيراً بليغاً جداً، فأنت عندما يأتيك شخص فيقول: فلان يقول فيك كذا؛ فإنك تتأثر، كما أن الإنسان المسحور يتأثر. فجاء بكلمة السحر من جهة العموم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من البيان لسحرا)]. البيان معناه: الفصاحة، وهل معنى هذا أنه يذم البيان؟ و A لا يذم وإنما هو حكاية عن الواقع، فالواقع هو أن البيان يؤثر في الإنسان كما يؤثر السحر في المسحور، وليس في هذا حكم عليه، بل هو بحسب نوع البيان، فإذا كان البيان فيما يرضي الله عز وجل فهو طاعة لله سبحانه وتعالى وإن كان مؤثراً في الناس، وإذا كان البيان في معصية، الله فهو معصية بحسب نوع البيان، فهذا وصف للبيان عليه بأنه مؤثر في الناس كتأثير السحر.

الكهانة

الكهانة الكهانة: هي الكلام في الغيبيات، ويشمل ذلك الكلام في الغيبيات عن طريق الخط مثلاً، أو الكلام في الغيبيات عن طريق الكف، أو الكلام في الغيبيات عن طريق الفنجان، أو الكلام في الغيبيات عن طريق استعمال الشياطين كما هو حال الكهان المشهورين. أو هي ادعاء علم الغيبيات، عن طريق النجوم، كأن يقول: نجمك -مثلاً- أو برجك الفلاني سيحصل لك فيه كذا وكذا وكذا، وستتزوج امرأة، ثم بعد ذلك ستنجب منها ولدين وتموت، ويموت ولدك البكر، ويتكلم عن الغيب وكأنه مكشوف بين يديه، فهذا كله من جنس واحد مع اختلاف الأنواع. ويدخل -أيضاً- في الكهانة البحث عن المسروق؛ لأن البحث عن المسروق ادعاء لعلم الغيب غير الحاضر بتعاون مع الجن، وهذه تسمى العرافة كما سيأتي معنا. والكهانة -وهي ادعاء علم الغيب- كفر؛ لأنها ادعاء لما اختص الله سبحانه وتعالى به، فالله عز وجل يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، وهذا من أقوى أنواع الحصر، {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل:65]، (من في السموات) يعني: كل ما في السموات؛ لأن (من) عامة؛ لأنها من الأسماء الموصولة، والأسماء الموصولة تعم كل شيء، فكل من في السموات وكل من في الأرض لا يعلمون الغيب، إلا الله، وهناك قاعدة عند العلماء، حيث يقولون: الاستثناء معيار العموم، أي: في المستثنى منه، وهو معيار الخصوص في المستثنى، ولهذا تعتبر الكهانة من الشرك الأكبر؛ لأنها ادعاء لعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. وأما الإتيان إلى الكهان فإنه ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يأتي شخص إلى الكاهن ليسأله دون أن يصدقه، فهذا لا تقبل له صلاة أربعين يوماً. الثاني: أن يصدقه، وحينئذ يكفر كفراً مخرجاً عن الملة. أما من جاء إلى الكاهن ليختبره فهذا ليس بكفر، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اختبر ابن صياد -وقد كان كاهناً- فسأله عن الدخان، فقال: الدخ، فجاء بنصف الكلمة، فقال له: (اخسأ، فلن تعدو قدرك)، وقد جاء في الحديث أن الكهنة يتعاونون مع الجن، وأن الجن يسترقون السمع، ويكذبون على ما يسمعونه مائة كذبة، لكن الناس عندما يرون صدق مرة واحدة ينسون كذبات الكهان كلها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الكهان ونحوهم. روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)]. هناك خلاف في كون زيادة (فصدقه) من أصل الحديث؛ لأنه روي الحديث بلفظ: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، والصحيح هو التفصيل كما قلت، فإذا لم يصدقه فإنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، وأما إذا صدقه فإنه يكفر كفراً مخرجاً عن الملة، وهذا الحديث في صحيح مسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). رواه أبو داود]. وهذا -أيضاً- إسناده صحيح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وللأربعة والحاكم -وقال: صحيح على شرطهما- عن أبي هريرة ضي الله عنه: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)]. والشيء الذي أنزل على محمد صلى عليه الصلاة والسلام هو أن الغيب لا يعلمه إلا الله، كما قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولـ أبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً وعن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعاً]. يعني: مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي: من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله، وأما الموقوف فهو الذي يقوله الصحابي أو يفعله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعاً: (ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). رواه البزار بإسناد جيد، ورواه الطبراني بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: (ومن أتى) إلى آخره]. هذه الأحاديث كلها دلالتها واحدة على نحو ما فصلنا فيمن أتى كاهناً، سواءٌ أكان عرافاً أم خطاطاً أم صاحب فنجان أم صاحب كف أم غير ذلك، وكل هؤلاء من هذا الجنس، وكل من أتى من ادعى علم الغيب فهذا حكمه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال البغوي: العراف: الذي يدعي معرفة

النشرة وحكمها

النشرة وحكمها المقصود بالنشرة: فك السحر، فإذا كان فك السحر بسحر مثله فهذا منهي عنه، وإذا كان فك السحر بالقرآن والرقى الصحيحة فهذا مباح ولا إشكال فيه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في النشرة. عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان). رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود، وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله. وللبخاري عن قتادة: قلت لـ ابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه. وروي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر. قال ابن القيم: النشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز]. وذلك لأن حل السحر قد يكون بسحر مثله، فهذا هو الذي نهي عنه العلماء وبينوا أنه من عمل الشيطان؛ لأن هذا فيه نشر وإشهار للسحرة، وفيه -أيضاً- من جهة أخرى شعور بالخضوع للشيطان وحزبه، فكل سحر لا يجوز أن يفك بسحر مثله، وإنما يفك بالرقى والتعاويذ الشرعية، كما حقق ذلك ابن القيم رحمه الله.

ذكر ما جاء في التنجيم

ذكر ما جاء في التنجيم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في التنجيم. قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينةً للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به]. التنجيم: هو الاستدلال بالنجوم، فينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الاستفادة من النجوم في جعلها علامات يهتدى بها، كما حقق ذلك قتادة رحمه الله؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، فإذا كان استخدامها لهذا الغرض فلا إشكال فيه، فهو جائز، ولهذا استقرأ قتادة رحمه الله فائدة النجوم في القرآن فوجدها أنها ثلاثة أنواع: الأمر الأول: أنها زينة للسماء. والأمر الثاني: أنها رجوم للشياطين. والأمر الثالث: أنها علامات، أما من جعلها لغير ذلك فقد أخطأ، وهو النوع الثاني. النوع الثاني: هو اعتقاد أن هذه النجوم لها تأثير في الحوادث الأرضية، فيرتبون عليها اعتقادات، ويعتقدون أن هذه النجوم تؤثر في الحوادث الأرضية، وذلك لا يجوز واعتقاد أن النجوم تؤثر في الكائنات الأرضية نوعان: النوع الأول: أن يعتقد أنها تؤثر بذاتها، بحيث يعتقد أن النجم له قدرة في التأثير على الأرض، سواءٌ بالتأثير على الإنسان أو بالتأثير على النبات أو بالتأثير على الحيوان، فمن اعتقد أن النجوم لها تأثير على الإنسان والحيوان والنبات من الكائنات الأرضية فهذا شرك أكبر. النوع الثاني: أن يعتقد أن هذه النجوم هي أسباب خلقها الله عز وجل للتأثير في الأرض، فهذا ليس شركاً أكبر، بل هو شرك أصغر؛ لأنه اعتقد شيئاً من الأشياء سبباً وهو ليس بسبب، وأصل اعتقاد أن النجوم لها تأثير في الكائنات الأرضية مأخوذ عن الفلاسفة والصائبة القدماء قوم إبراهيم عليه السلام، فقد كانوا يعتقدون أن هذه الكواكب ليست أجراماً، وإنما هي عبارة عن نور وروح، ولهذا يعتقدون أن الكون منبثق عنها، فيعتقدون أن القمر نتج عنه هذا العالم الذي نعيش فيه الآن، هذا هو أصل معتقدهم، ولهذا دعاهم إبراهيم عليه السلام إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، وبين لهم أن النجوم لا تؤثر، كما تقرأ في القرآن {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} [الصافات:88]، فأراد أن يبين لهم بطلان تأثير هذه النجوم على الكائنات الأرضية، ولهذا ذكر الله تعالى مناظرة إبراهيم عليه السلام معهم في سورة الأنعام عندما رأى شمساً بازغة فقال: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76]، وعندما رأى القمر بازغاً قال: ((قَالَ هَذَا رَبِّي)) فهذه المناظرة تدل على إبطال عبادتهم للكواكب واعتقاد أنها أسباب مؤثرة في الكائنات الأرضية. وأما من اعتقد أنها علامات للفصول ومواسم الزراعة، ولم يعتقد أن النجم بنفسه مؤثر فلا شيء عليه، كاعتقاد حدوث وقت الصباح عند طلوع الشمس، فإذا جاءت في الوسط جاء وقت الظهر، فإذا ذهبت جهة الغرب جاء وقت العصر مثلاً، فإذا كان ذلك من باب التوقيت فلا شيء في ذلك، وإنما يكون من الشرك إذا اعتقد التأثير، سواءٌ أكان تأثيراً مطلقاً -وهو من الشرك الأكبر- أم كان تأثيراً سببياً تحت إرادة الله عز وجل وقدرته، فهذا شرك أصغر وليس بشرك أكبر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق. وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر). رواه أحمد وابن حبان في صحيحه]. قوله: [وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق] المقصود بذلك: تعلم منازل القمر للحساب، ومعرفة الفصول ومعرفة الأوقات، وإنما كره من كره ذلك من أهل العلم لكيلا يكون فيه تشبه بأصحاب النجوم الذين يستدلون بها على التأثير، كالحوادث الأرضية، وليس المقصود اعتقاد التأثير في الحوادث الأرضية، فهذا لا شك في أنه لا يجوز، وأنه من التصديق بالسحر الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فاعله أحد الذين لا يدخلون الجنة، وهذا الحديث فيه ضعف، ولكن أصل موضوع التنجيم يدل عليه أحاديث كثيرة. وبهذا نكون قد انتهينا من هذا القسم الأول من أقسام الأعمال الشركية.

كتاب التوحيد [5]

كتاب التوحيد [5] شرك المحبة، وشرك الخوف، والتوكل على غير الله تعالى، وطاعة غير الله في تحليل الحرام أو تحريم الحلال، والتحاكم إلى الطواغيت، وطلب السقيا من غير الله تعالى كالأنواء ونحو ذلك كل هذه الأمور أعمال شركية تقدح في توحيد الألوهية الذي هو الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وتجر صاحبها إلى مصاف المشركين بالله تعالى.

شرك المحبة

شرك المحبة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد: فإن من الأعمال الشركية المتعلقة بتوحيد الألوهية شرك المحبة، والمحبة: هي تعلق القلب بالمحبوب.

أنواع المحبة

أنواع المحبة والمحبة نوعان: النوع الأول: المحبة الطبيعية، والنوع الثاني: محبة العبادة. فأما المحبة الطبيعية فهي الغريزة الفطرية التي جعلها الله سبحانه وتعالى في الإنسان، فتجد أن الرجل يحب ولده، ويحب أمه وأباه، ويحب كثيراً من الأمور المتعلقة بما يلائمه، ويحب -أيضاً- أن يدفع عن نفسه الشر، فهذه المحبة تسمى: المحبة الطبيعية، وهذه المحبة فطرة موجودة في نفس الإنسان لا يحاسب عليها، ولا ينبغي له أن يمنع نفسه منها؛ لأن هذا هو ما فطر الله سبحانه وتعالى الناس عليه، ومخالفة الفطرة مخالفة للمنهج النبوي والمنهج الشرعي، فإن هذا الدين جاء موافقاً لفطرة الإنسان وطبيعته، ولن يأتي مخالفاً لها، ولا مضاداً لها. النوع الثاني: هو محبة العبادة، ومحبة العبادة هي التي يسميها بعض العلماء محبة التأله، ومحبة التأله: هي المحبة التي يتعلق العبد فيها بمحبوبه تعلقاً فيه ذل وخضوع وانكسار، وهذا النوع من المحبة ليس محبة طبيعية عادية، وإنما هو محبة فيها ذل وخضوع وانكسار.

أنواع محبة العبادة

أنواع محبة العبادة وهذا النوع ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: محبة الله سبحانه وتعالى، ومحبة الله سبحانه وتعالى واجبة، وهي من أصل الدين، ومحبة الله عز وجل ليست على درجة واحدة، بل هي درجات يتفاوت العباد فيها تفاوتاً عظيماً كما سيأتي في مجموع الآيات التي سنوردها. ولمحبة الله سبحانه وتعالى لوازم، منها: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي لازمة لمحبة الله لزوماً أصلياً، فمن فقدت من قلبه محبة النبي صلى الله عليه وسلم فقداناً كلياً فليس بمسلم. ومن لوازم محبة الله سبحانه وتعالى محبة الصالحين، ومن لوازمها محبة الوالدين، ومن لوازمها الولاء للمؤمنين الصالحين بكل أصنافهم وأنواعهم. النوع الثاني: وهو محبة غير الله سبحانه وتعالى، ومحبة غير الله عز وجل معناها: التعلق التعبدي بغير الله سبحانه وتعالى، وبيان ذلك أن الإنسان إذا تعلق بغير الله عز وجل تعلقاً غير طبيعي كان ذلك بداية المحبة التعبدية، وإذا زاد هذا التعلق في قلب الإنسان إلى درجة أنه يذل له، ويخضع له، ويكون ديدنه التفكير فيه، والتعظيم له، وفعل الأفعال التي يأمر بها، وترك ما ينهى عنه، فهذه هي محبة التعبد لغير الله سبحانه وتعالى، وهذا من الشرك الأكبر المخرج عن دائرة الإسلام، فإذا وصل الإنسان إلى درجة أنه يتعلق بغير الله عز وجل تعلق ذل وخضوع وانكسار وتعظيم، وكان من علامات ذلك الظاهرة اتباع الأوامر، واجتناب النواهي، كان ذلك نوعاً من أنواع العبادة التي إذا صرفت لغير الله عز وجل فهي شرك أكبر مخرج من دائرة الإسلام. وهناك نوع من أنواع المحبة لا يصل إلى الكفر الأكبر مع أن فيه نوع تعلق، ومثاله محبة المال محبة زائدة على القدر الطبيعي بدون أن يصل إلى مرحلة الذل والخضوع والانكسار، بحيث أن يترك الإنسان ما أمر الله عز وجل به من أجل الدنيا والمال، أو محبة الزوجة، أو محبة الزوج، أو محبة الولد، أو نحو ذلك من أنواع المحاب التي تجعل الإنسان يعصي الله عز وجل من أجلها، ولكن لا تصل به إلى درجة الخضوع والذل والانكسار والتعظيم الذي هو عبادة من العبادات. فهذا النوع لا يعتبر شركاً أكبر مخرجاً عن الملة، بل هو من أنواع الشرك الأصغر، وهو داخل في كبائر الذنوب، وصاحبه مسلم، ويدخل في هذا بعض درجات عشق الصور في بدايتها إذا لم يستحكم العشق في قلب الإنسان، ويدخل في ذلك أيضاً حب الدنيا، وكراهية الموت، والتعلق بها، وترك الواجبات الشرعية من أجل الدنيا، ويدخل في ذلك حب الولد الذي يمنع الإنسان من الجهاد في سبيل الله إن كان واجباً، وكذلك المال، وكذلك سائر الأمور المحبوبة محبة طبيعية، فقد يبالغ بعض الناس في المحبة الطبيعية إلى درجة أكبر من المحبة الطبيعية. وبهذا نكون قد عرفنا هذا الباب العظيم من أبواب الدين، وهو باب المحبة، والأقسام المتعلقة به. وبعض العلماء يقسم المحبة تقسيماً آخر فيقول: محبة لله، ومحبة في الله، ومحبة مع الله. والأهم من هذا أن يفهم الإنسان الفكرة الأساسية، أما التقسيمات فإنه للإنسان أن يقسم بأكثر من تقسيم بحسب طريقة النظر في المسألة، فبعض الناس ينظر إليها من زاوية، وبعض الناس ينظر إليها من زاوية أخرى، فتختلف تقسيمات العلماء.

المحبة الشركية

المحبة الشركية أبرز أنواع المحبة الشركية المحبة التي تكون لمعظم، مثل محبة الصوفية لكبرائهم وسادتهم، ومثل محبة كثير من الناس لعلمائهم، أقصد المحبة التي تكون محبة تعظيم إلى درجة الطاعة المطلقة له، بحيث يحل له الحرام فيتبعه، ويحرم عليه الحلال فيتبعه، فهذا هو الشرك الأكبر المخرج عن دائرة الإسلام. ولعلي أكتفي بذكر مثال واحد، وهو عبد الوهاب الشعراني من أئمة الصوفية المتأخرين، له كتاب اسمه: الأنوار القدسية في معرفة آداب العبودية، يتحدث فيه عن آداب المريد مع شيخه، فتشعر بأنك تقرأ عن آداب الصلاة، أو آداب الصيام، أو آداب المسلم مع ربه، فهو يقول: (يجب ألا يكتم عنه شيئاً، وأن يكون بين يديه كالميت بين يدي مغسله، وأن يسمع منه كل أمر، حتى لو ظهر له أنه مخالف للشريعة) ويصرح بهذا، فيقول: (يجب أن تسمع لشيخك حتى لو ظهر لك في بادئ الأمر أنه مخالف للدين؛ لأن الدين حسب تصورك أنت قد يكونا قاصراً، أما الشيخ ففهمه أوسع من ذلك وأكبر). ومن المحبة التي هي من جنس البدع والمعاصي محبة بعض المذهبيين لأئمتهم إلى درجة مخالفة النصوص الشرعية، فتجد بعض المتعصبين عندما تذكر له حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقول: قال الإمام فلان كذا وكذا، وهذا لا شك في أنه من الأمور الخطيرة، حتى إن من علماء الحنفية من يقول في كتابه: كل حديث أو آية خالفت قول إمامنا فهي إما مؤولة أو منسوخة. يعني أن القطعي هو قول الإمام، وإما الحديث فهو إما مؤول أو منسوخ. ولا شك في أن هذا محادة لكلام الله عز وجل وكلام رسوله والعياذ بالله، ومنشأ هذا الأمر هو المحبة. ومن ذلك أيضاً طاعة المحكومين لحكامهم في معصية الله عز وجل.

صرف المحبة لغير الله شرك بالله

صرف المحبة لغير الله شرك بالله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]]. هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] المعنى الصحيح فيها هو أن هؤلاء يحبون الله عز وجل، لكن لهم أنداد يحبونهم مثل محبة الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الشرك الذي وقعوا فيه، فلهذا قال بعد ذلك: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، يعني: أشد حباً لله من هؤلاء لآلهتهم. وهذه الآية إنما ذكرها الشيخ هنا وجعلها عنوان الباب من أجل أن يبين أن من أعمال القلوب ما يقع فيه الشرك، وتوحيد الألوهية فيه أعمال الجوارح وأعمال القلوب، فأعمال القلوب مثل: المحبة، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل، ونحو ذلك من أنواع العبادات، وأعمال الجوارح مثل: السجود، والركوع، والصلاة، والمظاهر التعبدية التي تكون على جوارح الإنسان. فالمحبة نوع من أنواع توحيد الألوهية، إذا صرفت لغير الله صارت شركاً أكبر، ولهذا قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} [البقرة:165]. والأنداد: جمع ند، والند: هو النظير والمثيل والشبيه. وقوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، يعني: كحب الموحدين لله عز وجل، وهذا فيه إشارة إلى ضابط المحبة الشركية، فضابط المحبة الشركية هو: أن يحب الإنسان محبوبه مثل حب العابد ربه، فالعابد يحب ربه، بمعنى أن قلبه متعلق به ذلاً، وخضوعاً، وانكساراً، وتعظيماً، فهو ليس محبة عادية، فهذا هو المقصود من إيراد هذه الآية تحت هذا الباب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]]. هذا النوع درجة من درجات محبة غير الله سبحانه وتعالى وهي الدرجة التي سبق أن أشرنا إليها، وهي درجة فوق المحبة العادية، وقد لا تصل إلى المحبة الشركية. يقول تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} [التوبة:24] إلى آخر ذلك من الأمور الدنيوية {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:24]، فإذا كان هناك أوامر عند الأب أو الابن، أو كانت هناك متطلبات للتجارة، أو المساكن، أو نحو ذلك، فإنكم تطيعونها أكثر من طاعتكم لله عز وجل، فهذا هو الشرك الذي يقع الإنسان فيه، وهذه المحبة بحسب درجتها، فإذا كانت مثل محبة الله عز وجل أو أشد فهي الشرك المخرج، وإن كانت أقل من ذلك -كما هو المشهور عند الناس والغالب في المسلمين- فهي من الشرك الأصغر الذي لا يصل إلى الشرك الأكبر. ومن أنواع الشرك الأكبر فيما يتعلق بهذه الأمور الدنيوية إحجام بعض الناس عن الالتزام بالإسلام، كأن يكون كافراً وعنده رغبة في الالتزام بالإسلام، فيرده عن ذلك تعلقه ومحبته للوطن أو للأهل، أو للدولة، أو للأقارب، كمثل ما حصل لـ هرقل عظيم الروم، حيث عرف الحق، وأن هذا الدين هو دين الله عز وجل، ولكن الطمع في الدنيا، والتعلق بالملك جعله يعرض عن هذا الدين، مع أنه يعرف أنه الحق، والعياذ بالله. ومثل بعض أصحاب وفد نجران حيث أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيهم بعض رهبان النصارى، فعرفوا النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه على الحق، ولكن لأن لهم سلطاناً، ومكانة ومنزلة، وأثراً في الناس ما أحبوا أن يتخلوا عن هذه المكاسب الدنيوية من أجل الالتزام بالدين، فأعرضوا -والعياذ بالله- عن الالتزام بالدين لأجل هذه المكاسب الدنيوية، فهذا نوع أيضاً من أنواع الشرك. إذاً: شرك المحبة المخرج من الملة قد يقع فيه الإنسان الذي لم يسلم بعد، فيصده عن الإسلام، وقد يقع فيه من كان مسلماً، حيث تصل به محبة الدنيا إلى درجة أنه يحبها مثل محبة الله عز وجل أو أكثر.

أنواع المحاب المطلوبة

أنواع المحاب المطلوبة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده، والناس أجمعين)، أخرجاه]. هذا الحديث في محبة النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، نفي الإيمان فيه هو بحسب نوع المحبة التي صرفت لغير الله كما سبق أن بينا، وهذا يدل على أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم فرض في الإيمان مثل محبة الله سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، وفي رواية: (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى) إلى آخره]. وجه الدلالة من هذا الحديث هو من ناحية أن المحبة يتفاوت فيها الناس، فبعضهم يبلغ درجات عالية من المحبة، وبعضهم أقل من ذلك. ولهذا يخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن صنف معين من الناس وجد حلاوة الإيمان، وهو من أهل الإيمان، فالذي لم يجد حلاوة الإيمان لا يعني ذلك أنه ليس بمسلم، بل المراد درجة المحبة العالية، ولهذا سبق أن بينت أن توحيد الألوهية مثل الإيمان يزيد وينقص، وكل الأعمال المتعلقة بتوحيد الألوهية يزيد فيها الإيمان وينقص أيضاً، فالمحبة تزيد وتنقص، والرجاء يزيد وينقص، والخوف يزيد وينقص، والتوكل يزيد وينقص، والناس ليسوا على مرتبة واحدة، إلا أن هناك حداً أساسياً لازماً لكل هذه الأنواع جميعاً، فإيمان القلب له حد أساسي، وأعمال الجوارح لها حد أساسي، وعناصر أعمال القلب لا بد من أن يوجد فيها حد أدنى إذا لم يوجد في الإنسان يزول الإيمان بزواله، ولهذا جاء في حديث الجهنميين أن الله عز وجل يقول: (أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان). يعني: من كان في قلبه مثقال الذرة مع وهو مخلوط من المحبة والخوف والرجاء، والأمور الأساسية من أعمال القلب، مثل: تصديق القلب، ويقين القلب، والإخلاص، والانقياد، ونحو ذلك. فإيمان هؤلاء نقص حتى صار مثقال ذرة، وليس مثقال الذرة من المحبة فقط، بل من المحبة والخوف والرجاء، ومثقال الذرة لا يكفي وحده في النجاة عند الله عز وجل، بل لا بد من أن يكون معه عمل صالح في الظاهر، وهو نطق الشهادة والصلاة، واجتناب الكفر الأكبر المخرج من الملة، واجتناب نواقض الإيمان، وهذا الاجتناب هو في حد ذاته عمل. وقد يقول بعض الناس: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يعلموا خيراً قط). فنقول: ليس المقصود أنه ليس عندهم عمل، وإنما المقصود أنهم من قلة عملهم يكادون أن يصلوا إلى درجة أنهم لم يعلموا خيراً قط، والذي دعانا إلى أن نفسر هذا التفسير هو أحاديث الجهنميين التي تبين أنهم قالوا: لا إله إلا الله) وهذا عمل خير زيادة على مثقال الذرة، وتبين كذلك وتدل أيضاً أنهم من أهل الصلاة، ولهذا يعرفون بمواطن السجود، وتبين أنهم امتنعوا عن نواقض الإيمان العملية، وهذا خير أيضاً، فلا بد من أن نجمع بين هذه الأحاديث لنفسر هذا التفسير، وهذا سائر في لغة العرب، فالرجل إذا غضب على ولده يقول له: أنت لست بولدي، ولا يقصد بذلك أنه لم يأت من صلبه، وأنه يتهم هذا الولد بأنه ولد بغي -مثلاً- والعياذ بالله، وإنما المقصود أنه ليس بالولد الطائع، فالولد من طبيعته أنه يطيع والده، فالمقصود: لست من ولدي الذي يطيع والده. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله؛ وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولم يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجزي على أهله شيئاً. رواه ابن جرير]. هذا الأثر عن ابن عباس يضعفه بعض العلماء، وعلى وهو متعلق بمسألة لوازم المحبة، فالمحبة في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله، كلها من لوازم المحبة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166] قال: المودة]. يعني: تقطعت الأسباب بالكافرين فلم تنفعهم محبتهم لآلهتهم التي كانوا يتخذونها سبباً للنجاة عند الله سبحانه وتعالى.

الخوف وأقسامه

الخوف وأقسامه الخوف عمل من الأعمال القلبية، وهو من أصول الإيمان الواجبة، وهو -أيضاً- من توحيد الألوهية. والخوف ينقسم إلى قسمين: خوف طبيعي، وخوف تأله أو تعبد. فالخوف الطبيعي: هو الخوف العادي الذي يحصل للإنسان عندما يداهمه عدو، أو حيوان مفترس، أو نحو ذلك مما يخاف الناس في العادة منه. والضابط في هذا الخوف الطبيعي هو: انعقاد أسباب الخوف، فالخوف الذي تنعقد أسبابه هو الخوف الطبيعي، وذلك كمن رأى أسداً حقيقياً فخاف، فهذا خوف طبيعي. أو جاءه عدو بسلاح ووضعه في رأسه، فخاف واضطرب قلبه، فهذا خوف طبيعي يحصل للإنسان، ويخاف الإنسان من الموت، فالإنسان لا يذم ولا يلام على الخوف الذي تنعقد أسبابه. وأما الخوف غير الطبيعي فيمكن أن نقسمه إلى أقسام: القسم الأول: الجبن، والضابط فيه هو أنه خوف وهمي لم تنعقد أسبابه، والجبن مذموم، ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الجبن، فإنه خوف من غير مبرر، إذ يرى ما ليس بسبب سبباً، وهو ليس بسبب في الحقيقة، فهذا مذموم. القسم الثاني: خوف العبادة، وخوف العبادة ليس خوفاً طبيعياً عادياً، وإنما هو خوف تعلق بالمعبود. وخوف العبادة إما أن يكون خوفاً من الله، فهذا توحيد، ومعناه التعلق بالله عز وجل، والخوف من وعيده وعقابه. وإما أن يكون خوفاً من غير الله سبحانه وتعالى، وهو قسمان: القسم الأول: خوف شركي يصل إلى درجة الشرك الأكبر، وهذا هو الخوف الذي يسميه بعض العلماء خوف السر، ومعنى خوف السر: أن يخاف من غير الله عز وجل خوف تعظيم؛ لأنه يشعر أن هذا المخوف معظم، ويملك أموراً غيبية جعلت هذا الخائف يخاف منه، وهذا نوع من أنواع خوف السر، ومن أنواع خوف السر ألا يخفي على من يخافه شيئاً في قلبه؛ لتصوره أن له تأثيراً عليه، بحيث يجعل باطنه كظاهره عند من يخاف منه. وهذا النوع من أنواع الخوف شرك أكبر، ويمكن أن يمثل له بخوف المشركين من آلهتهم، فقد كانوا يتصورون أن هذه الآلهة لديها قدرات، كما يقع عند بعض من يشركون في الربوبية، حيث يعتقدون أن هؤلاء لهم قدرات مستقلة يؤثرون في العالم بسببها، فهذا شرك في الربوبية، أو يتصورون أن آلهتهم عندها قدرات بإعطاء الله لها، ولهذا يخافون منها، كما هو شرك المشركين في العالم، فهم يتصورون أن هؤلاء الصالحين الذين يعبدون الله عز وجل مستجاب من الله كلامهم مباشرة، فإذا طلبوا منه أن ينفع فلاناً فسينفعه، وإذا طلبوا منه أن يضره فسيضره، مثل الوكيل أو صاحب المنزلة عند الملك العظيم، فصاحب المنزلة عند الملك العظيم يقول له الملك: اسجن هذا فيسجنه، وأعط هذا مكافأة فيعطيه المكافأة. ومثل خوف بعض الناس من الأولياء، إذ يقول: لا تتكلم، فالولي إذا تكلمت سيضرك، ومثل خوفهم من السحرة، والكهان، والجن، ونحو ذلك، لا سيما إذا كان الخوف من معظم يعتقد صاحبه أن له قدرات تأثيرية في الناس، فهذا لا شك في أنه من الشرك الأكبر المخرج عن دائرة الإسلام والعياذ بالله. فهذا هو الضابط في الخوف الذي يكون خوفاً شركياً. القسم الثاني: الخوف من غير الله عز وجل الذي لا يصل إلى درجة الشرك الأكبر، وهو الخوف الذي لا يكون من معظم، بحيث يكون خوفاً سرياً يظهر معه ما في باطنه على جوارحه، وإنما هو خوف من البطش أو الأذى، سواءٌ أكان حقيقياً أم وهمياً، وفي الغالب يكون وهمياً، فيمتنع الخائف بسببه من الواجبات الشرعية. ومثاله في إنسان قيل له: لماذا لا تشتغل بالدعوة؟ فقال: إذا اشتغلت بالدعوة فسيحصل لي ضرر، ثم يبدأ يعدد بعض الأضرار التي حصلت لبعض الدعاة في التاريخ الإسلامي، فيقول: فلان من الدعاة دعا فقتل، وفلان من الدعاة دعا فسجن، وفلان من الدعاة دعا وجلد ظهره، وفلان من الدعاة دعا فنفي من الأرض، ويبدأ يعدد الأذى والمتاعب التي حصلت لبعض الدعاة، فيمتنع عن الدعوة إلى الله عز وجل خوفاً من هذه الأمور التي يتصورها، فهذا من كبائر الذنوب والعياذ بالله، وهو من الشرك الأصغر، ولكن لا يصل إلى الشرك الأكبر؛ لأنه لم يصرف عبادة محضة لغير الله، إذ ليس عنده خوف سر، وإنما عنده خوف وهمي ممن يخاف منه جعله يمتنع عن الصالحات، وهكذا الأمر فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو فيما يتعلق بالإصلاح بكل ألوانه، أو بالصلاة ونحو ذلك، وهو من الخوف الذي ليس له مسوغ، إلا أنه خوف الشيطان، وهو خوف ليس صاحبه مكرهاً، بل يستطيع أن يدعو إلى الله بكل سهولة، ومع هذا يمتنع؛ لأنه يخاف من أناس أن يؤذوه، فيكبر الموضوع تكبيراً غير طبيعي، وبهذه الطريقة يمتنع عن الصالحات، فيقع في ترك واجب من الواجبات الشرعية أياً كان هذا الواجب، سواء أكان هذا الواجب في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أم في الصلاة والزكاة والصيام ونحو ذلك من العبادات المشروعة، أم في إطلاق اللحية، أم في غير ذلك.

تخويف الشيطان أولياءه وأثره على التوحيد

تخويف الشيطان أولياءه وأثره على التوحيد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]]. هذه الآية: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175] فيها تقدير: (يخوفكم من أوليائه)، يعني أن: الشيطان يأتي ويخوفكم من أوليائه، فيقول لكم مثلاً: إن الأعداء أقوياء، وعندهم أسلحة كبيرة، ومكانة عظيمة، وقدرات هائلة، وهذا كالخوف الحاصل الآن من إسرائيل، إذ هناك خوف عظيم عند كثير من المسلمين مع الأسف الشديد، وما هذا إلا من تخويف الشيطان، كما قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175]. يقول تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، ففي هذه الآية شرط، وهو قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]. فالخوف من الله شرط في الإيمان، والخوف من غير الله عز وجل قادح في الإيمان، سواء أكان القدح من جنس الشرك الأصغر أم من جنس الشرك الأكبر، فهو بحسب درجة الخوف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة:18]]. والشاهد هو قوله تعالى: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة:18]، فهنا نفي وإثبات، والنفي والإثبات يدلان على الحصر والقصر والاختصاص. فالنفي في قوله تعالى: {لَمْ يَخْشَ} [التوبة:18]، والإثبات في قوله تعالى: {إِلَّا اللَّهَ} [التوبة:18]، وهذا يدل على أن الخشية يجب أن تكون لله خالصة. ويفرق بعض العلماء بين الخوف والخشية، فيقول: إن الخشية خوف عن علم، ويستدلون على ذلك بقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فاستخدم في هذه الآية الخشية؛ لأنها مضافة إلى العلماء.

عظيم خطر الالتزام بالتوحيد وعدم الخوف من الناس

عظيم خطر الالتزام بالتوحيد وعدم الخوف من الناس قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]]. هذه الآية تدل على أن الالتزام بالتوحيد ليس أمراً هيناً، وأن الالتزام بالتوحيد لا يكون في السراء فقط، أو عند عدم الأذى، ولا يكون بحسب التشهي، بل الموحد هو الإنسان الصادق الذي يصبر في السراء والضراء، سواء أكانت فتنته بالدنيا من مال أو نساء أو نحو ذلك، أم كانت فتنته بالقوة والأذى، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بايع أصحابه في العقبة بايعهم بقوله -كما في لفظ أبي داود -: (وأن تعضكم السيوف)، والعض معروف، والمعنى أن السيوف تضربكم، فبايعوه على أن يصبروا على ذلك، ولهذا لما كانوا في البيعة قال سعد بن عبادة لأصحابه: هل تعلمون على ماذا تبايعون هذا الرجل؟! إنكم تبايعونه على مفارقة الأسود والأبيض، وتبايعونه على مفارقة الأهل والخلان وكل الناس فوفوا بهذه البيعة في مواطن كثيرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره)]. هذا الحديث معناه عظيم جداً، وإسناده فيه ضعف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)، رواه ابن حبان في صحيحه]. هذا الحديث يدل على ثمرة الخوف من الله سبحانه وتعالى، وتعظيم الله عز وجل، وأن ثمرته تكون في الدنيا والآخرة أيضاً.

التوكل وأنواعه

التوكل وأنواعه التوكل معناه: الاعتماد القلبي، وينقسم إلى قسمين: الأول: الاعتماد على المخلوق فيما يقدر عليه. والثاني: الاعتماد على المخلوق فيما لا يقدر عليه. فأما الاعتماد على المخلوق فيما يقدر عليه فإنه ينقسم إلى قسمين: اعتماد مباح، واعتماد محرم. فأما الاعتماد المباح فهو أن يعتمد الإنسان على شخص يوكله في أمر من الأمور يقدر عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم وكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أن ينحر بقية الإبل عندما كان في الحج، والوكالة باب من الأبواب الفقهية، والله عز وجل يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، فالاعتماد على الآخرين في الأمور التي يقدر عليها الإنسان في العادة هو من جنس التعاون، وإن كان الأولى تركه، لا سيما فيما يمكن للإنسان أن يقوم به، ولهذا كان السلف -رضوان الله عليهم- إذا سقط سوط أحدهم تناوله بيده ولم يقل لأحد: ناولنيه، أو: أعطني إياه. وأما الاعتماد المحرم على المخلوق فيما يقدر عليه فهو الاعتماد عليه فيما يقدر عليه وتعليق القلب به، فتعليق القلب بهذا المخلوق محرم، حتى لو كان يقدر عليه، ومثال ذلك كون الإنسان يتعلق بالوظيفة التي هو فيها، وقد يترك بعض ما أمر الله عز وجل به بسبب اعتماده على هذه الجهة أو تلك في عطائه أو رزقه، فهذا من المحرم، فإذا تعلق القلب بالمخلوق وصار فيه نوع افتقار وقع في الإثم، والعياذ بالله. أما التعلق بالمخلوق والاعتماد عليه فيما لا يقدر عليه -سواءً أكان ذلك مما يقدر عليه الإنسان في الأصل، ولكن طلب من ميت أو من غائب، أم كان لا يقدر عليه جنساً وأصلاً -فهو شرك أكبر مخرج عن دائرة الإسلام، والتوكل على الله لا شك في أنه من أعظم أنواع العبادات. ويمكن أن نقسم الاعتماد القلبي بالطريقة السابقة إلى قسمين: الاعتماد على الله، والاعتماد على غير الله. فأما الاعتماد على الله فهو أصل عظيم من أصول التوحيد، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خماصاً وتروح بطاناً). يعني: تخرج من أوكارها جائعة خمصته البطون، وترجع في آخر النهار وقد امتلأ بطونها، وكل ذلك من رزق الله عز وجل، وهذا يدل على أنها منذ خروجها كانت معتمدة على الله عز وجل؛ إذ هو المتكلف بأرزاق العباد سبحانه وتعالى. وأما الاعتماد على غير الله عز وجل فهو بحسب التفصيل السابق.

دلائل منزلة التوكل على الله من الإيمان

دلائل منزلة التوكل على الله من الإيمان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]]. ووجه الدلالة من هذه الآية أنها تدل على التوكل، فقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة:23] أمر بالتوكل على الله، وهذا يدل على أن التوكل والاعتماد يكون على الله سبحانه وتعالى. والدلالة الثانية هي في قوله تعالى: {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، فهي تدل على أن التوكل شرط في الإيمان، وأن زوال التوكل يزيل الإيمان، فيزيل أصل الإيمان أو يزيل كماله الواجب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]]. هو قوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، والآية كلها في موضوع الإيمان، وقد ذكرت أصنافاً متعددة من أنواع الإيمان، وآخرها يتعلق بالتوكل، وهو موطن الدلالة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]]. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] المقصود هنا عطف قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] على الضمير المتصل بالمصدر وهو: {حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال:64]، والمعنى: الله حسبك وحسب من اتبعك، والحسب هو الاعتماد والتوكل. وقد فهم القبوريون الضالون من هذه الآية فهماً فاسداً، فظنوا أن العطف في قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} [الأنفال:64]، كائن على لفظ الجلالة، أي: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ))، ويا أيها النبي حسبك المؤمنون، وهذا شرك، وقالوا: فهذا يدل على أن التشريك في التوكل والاعتماد ليس من الشرك الأكبر، وهذا فهم فاسد، وقد أطال ابن القيم رحمه الله في الرد على هذه القضية في بداية زاد المعاد.

ثمرة التوكل على الله

ثمرة التوكل على الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]]. هذه الآية دلالتها ظاهرة، وفيها بيان ثمرة التوكل، وهي أن الله عز وجل حسبه وكافيه من كل شيء، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:81]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، رواه البخاري والنسائي]. قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران:173]، هؤلاء ركب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد: إن أبا سفيان ومن معه سيغزونكم بعد هزيمتكم في أحد، وسيستأصلون شأفتكم ويزيلونكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، يعني: كافينا الله عز وجل، و (نعم) من صيغ المدح، فقوله: {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] يعني: نعم المعتمد عليه سبحانه وتعالى. ومن الفوائد في هذا الأمر ما ذكره ابن القيم في مقام التوكل على الله في كتابه مدارج السالكين، حيث يقول: (لو أن مؤمناً توكل على الله عز وجل في إزالة جبل لأزاله)، وهذا من الأشياء العجيبة التي ذكرها رحمه الله، فالتوكل على الله عز وجل يعطي قوة في الدنيا، كما أنه من مقامات الإيمان، ولهذا لما اجتمع العالم كله والتحالف الدولي على أفغانستان، وطلبوا منهم طلباً محرماً، فرفضوا وأبوا، وتوكلوا على الله عز وجل واعتمدوا عليه ووهبهم الله تعالى هيبة عدوهم لهم، ووقف موقفاً تاريخياً لا يمكن أن ينسى ضد دول الكفر، فالدولة المحاربة له ليست دولة واحدة، مع أنها لو كانت دولة واحدة لكانت كافية في إزالة نظام ضعيف من الناحية المادية كنظام طالبان، ومع ذلك لما اجتمع التحالف الدولي، والدول الصناعية ومن معها من المنافقين على هذه الجماعة المؤمنة، فتوكلوا على الله وصبروا أصبح أولئك وإلى الآن هم يخافونهم ويخشونهم، ويترددون في المواجهة معهم. فالتوكل على الله يرزق الإنسان من القوة والصمود ومواجهة الباطل الشيء الكثير.

الطاعة وأقسامها

الطاعة وأقسامها الالتزام بالطاعة المطلقة للأمر والنهي عبادة يجب أن تصرف لله سبحانه وتعالى، فمن صرفها لغير الله عز وجل فقد وقع في الشرك. والطاعة نوعان: طاعة الله عز وجل ورسوله، وطاعة غير الله. فأما طاعة الله عز وجل ورسوله فهي من التوحيد الخالص. وأما طاعة غير الله عز وجل فتنقسم إلى قسمين: القسم الأول: طاعته في طاعة الله عز وجل. والقسم الثاني: طاعته في غير طاعة الله. فأما إذا أطاعه في طاعة الله عز وجل فهذا لا إشكال فيه، مثل: طاعة العلماء، والصالحين، وولاة الأمر إذا أمروا بما فيه مرضاة الله عز وجل، ومنها طاعة الوالدين في طاعة الله عز وجل، فهذا لا إشكال فيه؛ لأن الأصل هو طاعة الله سبحانه وتعالى. وأما طاعة غير الله عز وجل في معصية فهي نوعان: النوع الأول: أن تكون هذه الطاعة مبنية على أساس اعتقاد حل الحرام، وتحريم الحلال، أي: يطيع غير الله عز وجل وهو يعتقد أنه يملك أن يحلل ويحرم، ويملك التشريع، فهذا شرك أكبر مخرج عن دائرة الإسلام، وهذا هو معنى اتخاذ اليهود لأحبارهم والنصارى لرهبانهم أرباباً من دون الله، كما جاء في حديث عدي بن حاتم، بمعنى أنهم يحلون لهم الحرام فيتبعونهم، ويحرمون عليهم الحلال فيتبعونهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فتلك عبادتهم). النوع الثاني: أن تكون هذه الطاعة مبنية على أساس أن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله سبحانه وتعالى، لكن يطيعه لشهوة ورغبة، ويطيعه لدنيا، مع أنه يعتقد أن أصل تحليل الحلال وتحريم الحرام بيد الله لا بيد الخلق، وإنما أطاع هذا الإنسان في معصية الله عز وجل من أجل شهوة من الشهوات الدنيوية، فهذا النوع لا يصل إلى درجة الشرك الأكبر، وإنما هو من الشرك الأصغر، فإذا أمر عالم من العلماء بأمر فيه معصية لله عز وجل -كما لو أمر عالم من العلماء بأكل الربا مثلاً- فإن الذي يطيعه في ذلك ويعتقد أنه يحل الحرام يقع في الشر الأكبر، وإذا كان يعتقد أن المحلل والمحرم هو الله عز وجل، وعقيدته في تحريم الربا ثابتة، ولكن استغل هذه الفرصة ليكثر أمواله، حتى إذا سأله أحد احتج بفتوى هذا العالم أو غيره، كان هذا من الشرك، ولكن لا يصل إلى درجة الشرك الأكبر، وإنما هو من الأصغر.

تقديم طاعة المتبوعين على طاعة الله ورسوله يجعلهم أربابا من دون الله

تقديم طاعة المتبوعين على طاعة الله ورسوله يجعلهم أرباباً من دون الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله، فقد اتخذهم أرباباً من دون الله. وقال ابن عباس رضي الله عنه: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!]. كان هذا في موضوع المتعة، حيث كان أبو بكر وعمر ينهيان عن المتعة، وكان ابن عباس يجيزها، وكان إذا ناقش بعض الناس يقول لهم: قال رسول الله، فيقولون: كرهها أبو بكر وعمر، فيغضب غضباً شديداً -وحق له ذلك- ويقول: أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر! يعني: كيف تعارضون قول رسول الله بقول أبي بكر وعمر، فهذا إنكار ابن عباس على من يعارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول هاذين الفاضلين اللذين هما من خيار الناس وأفضل الناس، فكيف من يعارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول كاتب من الكتاب في الصحافة، أو يعارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول حاكم من الحكام، أو بقول شخص من الأشخاص، بل بعضهم وصل به الحال إلى أن يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول سفيه من السفهاء ليس له أي قيمة في علم ولا عمل، ولهذا فإن التدني في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في الواقع الذي نعيش فيه وصل إلى مرحلة منحطة بشكل عجيب، وهو يحتاج منا جميعاً إلى التعاون على بيان طاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم هذا الأمر، وطاعة الله عز وجل وتعظيم هذا الأمر، وعدم مخالفة أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنها مهلكة للإنسان، ولهذا قال: يوشك أن تنزيل عليكم حجارة من السماء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، أتدري ما الفتنة؟ الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك]. هذا في النوع الأول من أنواع الطاعة، وهو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه دلالة على أن الأمر يقتضي الوجوب؛ لأنه رتب الفتنة والعذاب الأليم على مخالفة قول النبي صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال رحمه الله: وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: ({اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ} [التوبة:31]، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم! قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم)، رواه أحمد والترمذي وحسنه]. هذا الحديث إسناده حسن كما قال الترمذي رحمه الله، وقد حسنه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، وهو يدل على تفسير الآية في كونهم اتخذوهم أرباباً؛ لأنهم أعطوهم حق التشريع، يحلون لهم الحرام فيتبعون، ويحرمون عليهم الحلال فيتبعونهم. كما هو حال أصحاب القوانين الوضعية، فإنهم أعطوا حق التشريع للجان معينة، أو لقانونيين يشرعون بخلاف ما أمر الله عز وجل به، وهذا لا شك في أنه من الشرك الأكبر كما بين ذلك الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في تحكيم القوانين، فليراجع. والتحاكم والحكم من العبادة، ولهذا يقول الله عز وجل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]، فحصر الحكم في الله عز وجل، فلا يجوز لأحد أن يطلب الحكم من غير الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال بعدها: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] وذلك يدل أن الحكم عبادة، فيجب أن تصرف لله، وكما أن المحبة والخضوع والذل والخوف ونحو ذلك من الأعمال عبادات، فكذلك التحاكم، فلا يجوز للإنسان أن يتحاكم إلى أي قانون من قوانين الجاهلية، وإنما يجب عليه أن يتحاكم إلى الله عز وجل ورسوله في كل شيء.

خطر التحاكم إلى الطواغيت وجره إلى الشرك

خطر التحاكم إلى الطواغيت وجره إلى الشرك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]]. هذه الآية فيها بيان أن من يريد التحاكم إلى غير الشريعة فهو من المنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، فهم يبطنون الكفر حيث لا يريدون التحاكم إلى الشريعة، ولهذا يظهر ذلك على فلتات ألسنتهم عندما يطلبون التحاكم إلى غير الشريعة. ومن الأدلة على أن التحاكم يجب أن يكون لله سبحانه وتعالى قول الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. ونحو ذلك من الآيات التي تدل على وجوب التحاكم إلى الله ورسوله، كقول الله عز وجل في المتحاكم إلى غير الشريعة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56]]. هذه الآيات عامة تشمل الإفساد بالعقائد الباطلة، والإفساد بالشرك، ومنه الإفساد بالتحاكم إلى غير شريعة الله عز وجل بعد أن أصلحها الله بشريعته، فالذي خلق الإنسان هو الله، وهو أعلم بما يصلحه وما ينفعه، ولهذا أنزل عليه شريعة تصلحه وتنفعه، فإذا ابتغى الإنسان شريعة أخرى يخترعها ويضعها هو وهو إنسان محدود العلم، محدود الفكر، محدود التصورات، فسيضع لنفسه شريعة غير الشريعة التي وضعها الله عز وجل، وهذا إفساد في الأرض بعد أن أصلحها الله عز وجل بالشريعة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50]]. هذا استفهام إنكاري، وحكم الجاهلية هو كل حكم مخالف لحكم الله عز وجل، فإن الجاهلية اسم عام لكل أمر مخالف لدين الله عز وجل، حتى ولو كان من الذنوب والمعاصي، ولهذا لما عير أبو ذر بلال بن رباح رضي الله عنهما فقال له: يا ابن السوداء! قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، يعني: فيك خصلة من خصال الجاهلية. وبوب البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان (باب الذنوب من أمور الجاهلية) فكل شيء مخالف لشريعة الله فهو من الجاهلية، سواءٌ كان من الكبائر أم من الكفريات المخرجة عن الملة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به). قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح]. هذا الحديث ذكره النووي رحمه الله في الأربعين، وهو من الأحاديث التي انتقدت على الإمام النووي في ذكره لها في الأربعين؛ لأنه حديث ضعيف، وممن فصل في بيان ضعفه شارح الأربعين النووية ابن رجب الحنبلي رحمه الله في (جامع العلوم والحكم) فيمكن أن يراجع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد؛ لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود؛ لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهناً في جهينة فيتحاكما إليه، فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء:60]]. هذا الأثر المروي عن الشعبي أثر مرسل، فـ الشعبي من التابعين، ولم يكن من الصحابة الذين عايشوا التنزيل، فيعتبر أثراً ضعيفاً في سبب النزول، ودلالة الآية على موضوع التحاكم صريحة في لفظها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟! قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله]. هذا الأثر فيه ضعف، وقد يكون موضوعاً؛ لأن في إسناده محمد بن السائب الكلبي، وهو كذاب، وأبو صالح الراوي عنه متروك. والخبر فيه إشكال عند بعض الناس؛ إذ كيف يقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الرجل دون أن يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أو يستأذن صاح

الاستسقاء بالأنواء وأقسامه وأحكامه

الاستسقاء بالأنواء وأقسامه وأحكامه الاستسقاء معناه: طلب السقيا بالأنواء، والأنواء: جمع نوء، والنوء: هو النجم، فالاستسقاء بالأنواء معناه: طلب السقيا من النجوم، وطلب السقيا من النجوم ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يطلب السقيا من النجوم على اعتبار أنها سبب. الثاني: أن يطلب السقيا منها على اعتبار أنها مؤثرة، وهذا يلحق بالكلام الذي سبق الحديث عنه في موضوع التنجيم، فالتنجيم ينقسم إلى قسمين: تنجيم يعتقد أصحابه أنه له تأثير في الأرض وفي الناس، وأن هذا التأثير ليس على أساس أنه سبب وإنما هو تأثير مستقل، فهذا شرك في الربوبية. والقسم الثاني: تنجيم يعتقد أنه سبب، فاعتقاد أنه سبب شرك أصغر؛ لأنه زعم في شيء من الأشياء أنه سبب وهو ليس بسبب، وفي حالة واحدة يعتبر شركاً أكبر، وهو إذا طلب السقيا من النجوم بقوله: يا نوء كذا! اسقنا، فهذا شرك أكبر مخرج عن الملة؛ لأن الاستسقاء وطلب السقيا من جنس الدعاء، وذلك لا يقدر عليه إلا الله، فإذا طلبه من غير الله فقد وقع في الشرك الأكبر، أما إذا نسب هذا الأمر إلى الأنواء على أنها سبب فهو شرك أصغر؛ لأنه نسب السقيا إلى النجوم على أنها سبب، وهي -في الحقيقة- ليست بسبب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء. وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82]. وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)، وقال: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب)، رواه مسلم، ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب). ولهما من حديث ابن عباس معناه، وفيه: قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75]، إلى قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82]]. هذا الباب فيه ذكر النوعين الذين سبق أن أشرنا إليهما، فطلب السقيا من النجوم شرك أكبر، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أمر الجاهلية. وأما نسبة السقيا إلى النجوم والأنواء فهي من الشرك الأصغر. وفيه مأخذ آخر، وهو نسبة النعمة إلى غير الله عز وجل، وهذا الأمر سيأتي الحديث عنه -بإذن الله تعالى- عند حديثنا عن الشرك في الربوبية والأسماء والصفات.

واجب المسلمين تجاه أحداث فلسطين وأفغانستان وغيرهما

واجب المسلمين تجاه أحداث فلسطين وأفغانستان وغيرهما لا شك في أن أهل الإسلام يجب عليهم أن يتناصروا ويتعاونوا، وأن يتألم الإنسان عندما يسمع عن إخوانه في أي مكان في العالم حين يحصل لهم الأذى والقتل، ولا يخفى علينا ما يحصل لإخواننا في فلسطين من القتل والتدمير، وقتل الأطفال والنساء، وقتل الرجال بالجملة، حيث يقتل ثلاثون أو أربعون من خيرة شباب هذه الأمة في وقت واحد وهم عزل ليس معهم سلاح يدافعون به عن أنفسهم. فهذه المظاهر جعلت كل مسلم يشعر بالأسى، ويشعر بمدى الذلة التي وصلت إليها هذه الأمة. وإذا نظرنا إلى الحال الذي فيه هذه الأمة خلال هذا العام فسترى أن اليهود والنصارى وأمم الأرض جميعاً استذلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم استذلالاً عجيباً وغريباً، ففي أفغانستان يقتلون بالجملة، وتجرب فيهم جميع أنواع الأسلحة، ويجرب فيهم جميع أنواع الصواريخ المدمرة، وفي فلسطين يحصل للمسلمين هذا الاستذلال على مرأى ومسمع من كل المسلمين في العالم، ولا أحد يستطيع أن يقوم بإغاثتهم ونجدتهم، بل إن كثيراً من المسلمين -مع الأسف- ما زالوا في غيهم، وما زالوا في معاصيهم، فالذي يشتغل بالزنا ما زال يشتغل به، والذي يشتغل بالربا ما زال يشتغل به، والذي يشتغل بمعصية غير ذلك ما زال يشتغل بها.

الحل العملي لمآسي المسلمين

الحل العملي لمآسي المسلمين وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الحل لهذا الأزمة ولغيرها من الأزمات، وهو الجهاد في سبيل الله، فهذا هو الحل الأساسي لكل مآسي المسلمين ومصائبهم، وهو الذي يرفع هامة الإنسان ويجعله عزيزاً شامخاً قوياً، بل يجعل الله الرزق منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف -يعني: بالجهاد- حتى يعبد الله وحده). فانظر إلى الوسيلة المستخدمة في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من أعظم الوسائل التي هجرت في هذا الزمان، ألا وهي وسيلة الجهاد في سبيل الله، ثم انظر إلى الغاية التي من أجلها شرع الجهاد، إذ هي تعبيد الناس لرب العالمين حتى يعبد الله وحده. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل الصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)، فهذا الذل والصغار الذي يعيشه المسلمون في العالم اليوم سببه الأساسي هو نحن، ومن القواعد الأساسية في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى أننا لا نرد الأخطاء دائماً إلى عدونا، أو نقول: عدونا قوي، أو: عدونا يملك أسلحة الدمار الشامل، أو: عدونا لديه القدرات الهائلة والفائقة في التخطيط والقدرات العسكرية الكبيرة، فنسند ضعفنا وذلتنا ومهانتنا إلى العدو الخارجي، بل المشكلة الأساسية كائنة منا، يقول الله عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، فهذه آية واضحة تبين أن أي مصيبة تصيب الإنسان أساسها من الإنسان نفسه، وأساسها معصية الله سبحانه وتعالى التي نقع فيها.

أسس رفع راية الجهاد

أسس رفع راية الجهاد ولا يمكن أن نرفع راية الجهاد ونجاهد في سبيل الله إلا إذا أصلحنا أنفسنا، والإصلاح ممكن، ونحن قادرون عليه، ولهذا ينبغي أن نستثمر هذه الأحداث في إصلاح أنفسنا، وفي العودة الصادقة إلى الله سبحانه وتعالى. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة) والعينة نوع من أنواع الربا، والربا اليوم يملأ البلاد الإسلامية مع الأسف، (وأخذتم بأذناب القبر، ورضيتم بالزرع) يعني: رجعتم إلى الدنيا، ورغبتم فيها، وأحببتموها (وتركتم الجهاد)، وهذا هو الواقع الموجود في حياة العالم الإسلامي اليوم (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم). فالدين تركناه بكوننا أكلنا الربا، وهذا رمز للذنوب كلها، وبحب الدنيا وكراهية الموت، وبترك الجهاد. فهذه الأمور هي التي جعلت هذه الأمة في ذلة وصغار، ولهذا لا يمكن أن نخرج من هذه الضائقة إلا بالعودة الصادقة إلى الله سبحانه وتعالى. وكثير من الإخوان والمسلمين في العالم الإسلامي نسمع عنهم أنهم يقولون: نريد أن نجاهد، فما هو الطريق إلى الجهاد في سبيل الله؟! إنني أعتقد أن من أعظم الطرق إلى الجهاد في سبيل الله أن نبدأ بإصلاح أنفسنا، ونبدأ بالدعوة إلى الله عز وجل لإخواننا الآخرين، فهناك إخوان لنا قد وقعوا في شيء من الذنوب والمعاصي، ومع هذا إذا نظر أحدهم إلى إخوانه يقتلون في كل مكان فإنه يشعر بالألم والأسى، وقد يكون ممن يترك الصلاة، أو ممن يقع في الزنا ويشتغل بالمعاكسات، أو يأكل الربا، ومع هذا يتحرق مما يرى من أحوال المسلمين الذين يستذلون في كل مكان، فهذه الحرقة عبادة له وأجر عند الله عز وجل، لكن ينبغي أن نفكر بعقل، وهو أن التصحيح يكون من أنفسنا، فينبغي أن نبدأ بنصيحة إخواننا هؤلاء بلطف، وبحسن خلق، وبأدب، ونقول: اتركوا هذه الحرقة وهذا الهم الذي تشعرون به، ومن حقكم أن تشعروا بهذا، وأنتم في عبادة عندما تحزنون إلى إخوانكم المسلمين، ولكن نبدأ فنصحح أوضاعنا الأخرى، فالذي يقع في شيء من الذنوب يبدأ يصحح حياته، ويكفي أن نوحد رأينا جميعاً في أنه لا خلاص لهذه الأمة إلا بالجهاد في سبيل الله، وقد سمعنا عن القومية العربية، وأن هذه القضية هي قضية العرب، وأن الأخوة العربية والدم العربي لا بد من أن نثأر له، وهذا كله كلام قد ذهب أدراج الرياح، فلا العالم العربي ولا غير العربي يستطيع أن يفك هذه الضائقة، بل لا يفكها إلا الجهاد في سبيل الله إذا كان خالصاً لوجه الله عز وجل، ويقوم به الصالحون الذين يرجون وجه الله, ويرجون الدار الآخرة، وإذا قتل أحدهم قتل وهو يرجو الجنة عند الله سبحانه وتعالى، فهو يضحي بدمه في سبيل الله سبحانه وتعالى. إذاً: هذا التوجه ينبغي أن يكون عندنا، وأنا لا أقول: إنه يخفف من حماسهم، بل الواجب أن نقوي حماسهم؛ لأن لهم حقاً في هذا، ولأن هذا عمل فاضل يقومون به، وخير كبير أن توجد مثل هذه المشاعر في نفوس إخواننا حتى ولو كان عندهم تقصير أو معاص أخرى، لكن ينبغي أن نستثمر هذا في إصلاح إخواننا، ونصيحة أخواتنا اللاتي يتبرجن، أو اللاتي يقبلن المعاكسة من الرجال، أو اللاتي يقعن في معصية من المعاصي، فهذه فرصة يمكن أن نشغلها في الدعوة إلى الله، وهناك أحداث في بعض الأحيان تهز الأمة فتجعلها تعود إلى الله عز وجل، فيجب أن نشارك في عودتها ما دام أن هذا الحدث قد وقع وهو مؤلم لنا جميعاً، ويجب أن نستفيد من هذا الحدث في نصيحة أكبر عدد من إخواننا، حتى نبدأ بالتصحيح الفعلي؛ لأن الحماسة المجردة يمكن أن تنتهي خلال أسبوع، أو شهر، أو شهرين، أو ثلاثة أشهر، ثم ينتهي. فهذه الحماسة إذا بقيت حماسة مجردة فإنها ستنتهي بعد أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، أو شهر أو شهرين، وربما تنتهي بعد سنة، ثم يعود المرء إلى معاصيه، ونحن لا نريد أن يكون عندنا حماسة مجردة، بل نريد أن تكون عندنا ثوابت، وهي أن يقتنع هؤلاء الإخوة المتحمسون والأخوات المتحمسات -وحق لهم ذلك- بأن الحماسة المجردة لا تكفي، بل لا بد من أن نعود في حياتنا إلى الله عز وجل، وإذا عدنا إلى الله عز وجل فإنه لن يستطيع أحد أن يقف في وجوه المجاهدين أبداً، فنحن نسمع في الأخبار أن الأمريكان في أفغانستان يشعرون بأنهم تورطوا مع أشرف قوة في العالم كما يسمونها، وأشرف قوة في العالم هي مجموعة لا تملك أسلحة الدمار الشامل، وليس عندهم طائرات، وليس عندهم دبابات، بل هم مجموعة يسيرة هنا وهناك، لا يقاتلون بحماسة مجردة؛ لأن الحماسة المجردة عند الجد تذهب ويرجع الإنسان إلى طبيعته وضعفه واستكانته، وربما تخونه قواه بسبب ذنوبه، فإن من خان (حي على الصلاة) يخون (حي على الكفاح)، ومن يخون حي على الصلاة ولا يكون مؤدياً لواجبه الشرعي سيخون الجهاد في سبيل الله. فوجدوا أن هؤلاء قوم يستلذون بالموت ويطلبونه، كما أنهم يستلذون بالحياة ويطلبونها؛ لأن هؤلاء الناس يعرفون أن حياتهم الحقيقية هي في الموت، ولذا فإنهم يطلبونها، وقد يتأثر بعضهم عندما يرى أخاه قد فارق هذه الدني

كتاب التوحيد [6]

كتاب التوحيد [6] توحيد الربوبية والأسماء والصفات ركنان عظيمان من أركان التوحيد الذي لا يقبل الله تعالى من العبد إيماناً ولا عملاً دون تحقيقه، وهناك قوادح توصل صاحبها إلى الشرك في الربوبية، ومنها: إنكار القدر أو إنكار مرتبة من مراتبه، وإنكار النعمة ونسبتها إلى غير الله تعالى، والأمن من مكر الله واليأس من رحمة الله، والتألي على الله، وسوء الظن به، وجحد شيء من الأسماء والصفات قادح في توحيد الأسماء والصفات.

الشرك في توحيد الربوبية وصوره

الشرك في توحيد الربوبية وصوره الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد. فهذا الدرس في موضوع: الشرك في توحيد الربوبية والأسماء والصفات. وتوحيد الربوبية: هو توحيد الله عز وجل في الخلق والرزق والتدبير، وهذا هو أدق تعريف لتوحيد الربوبية، وقد عرّفه بعض العلماء بأنه توحيد الله بأفعاله سبحانه وتعالى، كالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، ونحو ذلك. لكن التعريف بأنه هو توحيد الله بالخلق والرزق والتدبير أدق؛ لأن تعريفه بأنه: توحيد الله بأفعاله يرد عليه أن أفعاله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين: أفعال لازمة، وهذه لا تدخل في توحيد الربوبية، كالنزول، والضحك، والغضب، ونحو ذلك، وأفعال متعدية، وهذه تدخل في توحيد الربوبية، وعليه فإن تعريف التوحيد بأنه توحيد الله بأفعاله فيه إجمال، والتعريف الأول أدق.

الإيمان بالقدر وعلاقته بتوحيد الربوبية

الإيمان بالقدر وعلاقته بتوحيد الربوبية تحدث الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في موضوع الشرك في توحيد الربوبية في كتاب التوحيد في موضوعات متعددة، ومنها القدر، فالقدر داخل في توحيد الربوبية، وجهة دخوله في توحيد الربوبية هي أن القدر من أفعال الله سبحانه وتعالى وصفاته، وقد بحث الشيخ موضوع القدر في بابين: الباب الأول: (باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله)، والباب الثاني عن منكري القدر. والقدر له أربع مراتب: المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله سبحانه وتعالى الشامل لكل شيء، للماضي والمستقبل. والمرتبة الثانية: كتابة الله سبحانه وتعالى للمقادير، ويشمل ذلك كل شيء، فإنه كتب سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى قيام الساعة. والمرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة العامة، فلا يمكن أن يحصل في كون الله سبحانه وتعالى وفي خلقه إلا ما شاءه وأراده سبحانه وتعالى. والمرتبة الرابعة: خلقه سبحانه وتعالى لأفعال العباد، فكل أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه وتعالى. وهذه المراتب الأربع هي قواعد القدر الأساسية، فمن آمن بها جميعاً فقد آمن بالقدر، ومن لم يؤمن بها جميعاً فهو غير مؤمن بالقدر، وسيأتي الكلام على حكم منكر القدر. فنبدأ أولاً بالباب الرابع والثلاثين، وهذا الباب هو الذي تحدث فيه عن الصبر على أقدار الله المؤلمة.

من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله

من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله. وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت). ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: (ليس منا من ضرب الخدود، أوشق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية). وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط). حسنه الترمذي. ] هذا الباب يتعلق بموضوع الصبر على أقدار الله سبحانه وتعالى، والصبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة. وعكس الصبر على أقدار الله: السخط من أقدار الله، فالصبر على أقدار الله من الإيمان، والسخط يدخل في الكفر، وسيأتي الحديث عن أنواع السخط، وما يترتب عليها من الأحكام. فأما الصبر على أقدار الله عز وجل فلا شك في أنه من الإيمان، والصبر عموماً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم نصف الإيمان يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، والمقصود بالإيمان هنا: الإيمان بالقدر، ولهذا فسّرها علقمة بذلك كما سيأتي، فقوله تعالى: ((يَهْدِ قَلْبَهُ)) يعني: يجعل قلبه مهتدياً مطمئناً؛ لأن الإنسان إذا صبر على قدر الله عز وجل المؤلم فإنه يطمئن قلبه بذلك. وعلقمة هو ابن وقّاص، وهو من علماء الكوفة، ومن أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه، قيل: إنه صحابي، وقيل: إنه تابعي، والصحيح أنه تابعي. يقول رحمه الله تعالى: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. فالإنسان إذا أصابته المصيبة فإنه يجب عليه الصبر، ويستحب له الرضا، والفرق بين الرضا والصبر. أن الصبر يكون مع وجود الألم والتعب والمشقة النفسية. وأما الرضا فإنه درجة عالية في الإيمان تجعل الإنسان راضياً بما قدره الله عز وجل وقضاه من هذه المصيبة التي جاءته، ويمكن أن يسمى الرضا عن الله سبحانه وتعالى في أقداره. وأما الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اثنتان في الناس هما بهم كفر) فإن كلمة (كفر) هنا جاءت نكرة، وقد سبق أن بيّنا أنه إذا وصف العمل أو القول بأنه كفر وكان اللفظ معرفاً بـ (أل) فإنما يقصد به الكفر والشرك الأكبر، وأما إذا كان نكرة فإنه يقصد به الكفر الأصغر والشرك الأصغر. فالأولى: (الطعن في النسب)، والمقصود بالطعن في النسب عيب الأنساب، كأن يعيّر قبيلة كذا بكذا، أو يعيّر هذا الشخص بوالده أو بوالدته أو بجد له، فهذا كله طعن في نسبه. الثانية: (والنياحة على الميت) والنياحة على الميت نوع من أنواع السخط، والنياحة على الميت تكون بالقول، وسميت نياحة أخذاً من نوح القمري، وهو صوت للحمامة عندما تغرد، وذلك أن الشخص إذا مات له ميت فبدأ بالبكاء والصياح واستمر فإنه يُخرِج صوتاً كهذا.

السخط على الأقدار وخطره على التوحيد

السخط على الأقدار وخطره على التوحيد والسخط على قدر الله عز وجل يكون على ثلاثة أنواع: السخط بالقلب واللسان والجوارح. فأما السخط بالقلب فهو بغض قدر الله عز وجل، أو بغض الله سبحانه وتعالى بسبب هذا القدر الذي حصل، وهذا كفر أكبر مخرج عن الملة؛ لأنه مناقض للمحبة، وقد سبق أن بيّنا أن من شروط (لا إله إلا الله) محبة الله سبحانه وتعالى، وأن من زالت عنه محبة الله فأبغض الله عز وجل فهو كافرٌ ولا شك في ذلك. وأما النوع الثاني من السخط على القدر فهو السخط باللسان والكلام، كالصياح مثلاً، أو ذكر محاسن الميت، ونحو ذلك، وهذا يعتبر من الكفر والشرك الأصغر، ووجه اعتبارنا له من الشرك أو الكفر الأصغر هو وصف النبي صلى الله عليه وسلم له بالكفر، فإنه قال: (هما بهم كفر) فالنبي صلى الله عليه وسلم وصفه بالكفر، وبناء على هذا فإنه يكون من الكفر الأصغر. وأما السخط بالجوارح فمثل شق الجيوب، ولطم الخدود، فهذا تسخط بالفعل، وهو -أيضاً- يدخل في الكفر؛ لكونه تسخُط على قدر الله عز وجل، إلا أنه ليس من الكفر الأكبر، بل من الكفر الأصغر. قوله: (ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)). قوله: (ليس منا) من ألفاظ الوعيد، فيحتمل أن يكون كفراً أكبر، ويحتمل أن يكون كفراً أصغر، والمقصود به هنا الكفر الأصغر لا الكفر الأكبر، وهذا يدل على أن عكس السخط -وهو الصبر على أقدار الله- واجب؛ لأن عكسه -وهو السخط- محرم، ولهذا عبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك اعتبره من الكبائر فقال: (ليس منا من ضرب الخدود) وهو واضح، (وشق الجيوب) وهو شق جيب القميص، وهو مدخل الرأس في القميص. قوله: (ودعا بدعوى الجاهلية) يحتمل أن يكون المقصود به ما كان عند الجاهلية من دعاوى في ذكر محاسن الموتى، وقد كانوا يستأجرون نوائح للبكاء على الميت، ويندبونه ويذكرون محاسنه. وأما حديث أنس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له بالعقوبة في الدنيا) وهذا دليل على أن العقوبة إذا حصلت للإنسان في الدنيا وصبر واحتسب فإنها خير له؛ لأنها تكفير لذنوبه وخطاياه. قال: (وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة)، وهذا من الاستدراج والعياذ بالله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء)، فمن ابتلي ببلية فلا يعني ذلك بالضرورة أن تكون عقوبة على معصية، وإنما قد تكون رفعة له في الدرجات، وقد تكون تكفيراً لذنوبه، فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عظم الجزاء مع عظم البلاء) معناه أنه إذا كان البلاء عظيماً فصبر فإن الجزاء يكون عظيماً، وليس مجرد وجود البلاء العظيم كاف في عظم الجزاء؛ لأنه قد يبتلى ببلاء عظيم ثم يسخط ولا يصبر.

ما جاء في إنكار القدر وخطره على التوحيد

ما جاء في إنكار القدر وخطره على التوحيد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في منكري القدر. وقال ابن عمر: والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). رواه مسلم. وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: يا بني! إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: رب! وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) يا بني! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات على غير هذا فليس مني). وفي رواية لـ أحمد: (إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة). وفي رواية لـ ابن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار). وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي قال: أتيت أُبي بن كعب، فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار، قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. حديث صحيح، رواه الحاكم في صحيحه. ] الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، وقد جاء في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبريل أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى) كما جاء في بعض الروايات.

حكم منكري القدر

حكم منكري القدر فالإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، ولا يستقيم إيمان العبد إلا إذا آمن به، فالمنكر للقدر بكل المراتب الأربع كافر كفراً أكبر عند العلماء، وهو ليس من المسلمين، ولهذا فإن ابن عمر عندما جاءه اثنان من أهل البصرة فقالا له: إنه ظهر عندنا أقوام يتقفرون العلم -أي: ينتسبون إلى العلم- يقولون: لا قدر والأمر أنُفْ -أي: أن الأمر الذي يقوم به الإنسان جديد، وليس فيه قدر مكتوب سابقاً فقال لهم ابن عمر رضي الله عنه: لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. وهذا يدل على أن ابن عمر رضي الله عنه كان يرى كفر من أنكر القدر؛ لأن ابن عمر في هذا الحديث بيّن أن صدقة الإنسان لو كانت عظيمة لا يقبلها الله عز وجل منه إلا إذا كان مؤمناً بالقدر، والله عز وجل يقبل الصدقة من أصحاب المعاصي، بل ومن أصحاب الكبائر، ولا يقبل الصدقة وغيرها من العبادات من الكفار، ولهذا سألت عائشة رضي الله عنها الرسول صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان، وهو رجل كريم غني من أهل مكة من الكفار، كان يضع السفرة الكبيرة فيجتمع عليها الفقراء والمساكين، وكان يطعم الطعام، ويقسم الكساء على الناس، فقالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: هل ينفعه ذلك؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا؛ إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين). وقد بيّن الله سبحانه وتعالى أن الكفار لا يقبل منهم أي عمل بقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] فأعمالهم مثل الرماد الذي يوضع على رأس جبل في يوم شديد الهواء فلا يبقى منه شيء، ولهذا يقول الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] فالشرك يحبط العمل، فلا تقبل معه الصدقات، وهذا يدل على أن من أنكر القدر كله فليس من المسلمين، ولا من المؤمنين، ولا من الموحدين، أما من أنكر بعض مراتب القدر فهو بحسب المرتبة التي أنكرها، وبحسب نوع الإنكار، فمن أنكر علم الله سبحانه وتعالى فهو كافر بإجماع السلف، ولهذا يقول الشافعي رحمه الله: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أجابوا خُصِموا، وإن أنكروا كفروا. فمن أنكر صفة العلم لله عز وجل فهو كافر، أما من أنكر شيئاً من المراتب الثلاث الباقية فإنكاره إما أن يكون إنكار تكذيب، وإما أن يكون إنكار تأويل. فأما إنكار التكذيب فهو أن ينكر تكذيباً لخبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بهذه المراتب الثلاث، فمن أنكرها وهو مكذِّب فليس بمسلم إجماعاً؛ لأن المسلم لا يمكن أن يكذب بخبر الله عز وجل. وأما من أنكرها وهو متأول فإن الحكم على المتأول ينقسم إلى قسمين: فإن كانت له شبهة في التأويل قريبة من حيث اللغة العربية فلا يكفّر، بل هو من أهل البدع؛ وأما إذا لم تكن له شبهة من حيث اللغة العربية فإنه يكفّر. مثال الأول: من أوّل بعض صفات الله عز وجل، كتأويل الأشعرية لليد بأنها القدرة، فهذا ليس بكفر، بل هو بدعة؛ لأن اليد تستخدم في لغة العرب بمعنى القدرة، فيقال: فلان له يد قوية، أي: له قدرة قوية يستطيع أن يعمل، وقد تفسر بمعنى النعمة، فيقال: فلان له يد عليك، وليس المقصود اليد الحقيقية، فمثل هذا لا يكفّر صاحبه، لكن يعتبر من أهل البدع؛ لأنه حرّف معاني كلام الله عز وجل، فالله عز وجل نسب لنفسه هذه الصفات، فلا يجوز لنا أن نغير معانيها، فإذا احتج بعض الناس بأن هذا يستلزم تشبيه الله بخلقه نقول: نحن نثبت هذه الصفات وننفي عنها المشابهة، أما أن نغير المعاني فهذا لا يصح ولا يجوز، بل هو من البدع. ومثال المتأوِّل الكافر: الباطنية الذين قالوا في قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، فقالوا المقصود بالبقرة هنا: عائشة، فليس هناك ارتباط بين مسمى البقرة وبين اسم عائشة، وليس هناك ارتباط بين حقيقة البقرة وبين عائشة، وليس هناك استخدام في لغة العرب من قريب ولا من بعيد لكلمة البقرة يراد بها عائشة، ولم يستخدم أحد من الشعراء ولا من الأدباء ولا من العرب السابقين كلمة (بقرة) يريد بها عائشة رضي الله عنها، فهذا لا شك في أنه كفر مخرج عن الإسلام. إذاً: الحق في مسألة التأوُّل أنَّه ليس كل متأوِّل يعذر، وليس كل متأوِّل يكفّر، بل لا بد من التفصيل فيها على النحو السابق الذي بيّنا، فإذا كان المنكر لبقية المراتب الثلاث عنده شبهة فإنه لا يكفّر، ولهذا فإن أهل العلم لهم قاعدة في تكفير أهل البدع، حيث يقسمون البدع إلى قسمين: بدع مكفّرة، وبدع غير مكفّرة، فأصحاب البدع غير المكفّرة لا يكفّرونهم، ولهذ

فرق القدرية

فرق القدرية يدخل في منكر القدر القدرية الذين أنكروا القدر بالجملة، والذين أنكروا القدر وقالوا: إن الله يعلم ما يفعل العبد، ولكنه لم يكتب شيئاً ولم يشأ من العباد شيئاً، ولم يخلق أفعالهم، بل العباد يخلقون أفعال أنفسهم، وهؤلاء يسمون القدرية، وهم المعتزلة. والنوع الثاني: الجبرية، وهم الذين أثبتوا القدر، ولكن أنكروا معناه الحقيقي الشرعي. فالقدرية والجبرية مع أن كل واحد منهما على النقيض من الآخر إلا أن كلاً منهما يعتبر منكراً للقدر؛ لأن معنى إنكار القدر هنا هو إنكار القدر المشروع الذي بيّنه الله عز وجل وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فالقدرية أنكروا، والجبرية أثبتوا، إلا أن الإثبات ليس إثباتاً شرعياً، فهو يتضمن إنكار القدر بالمعنى الشرعي. والجبرية قالوا: إن الله عز وجل جبر العباد على المعاصي والذنوب، وإنهم معذورون لذلك. وأما القدرية فقالوا: إن الله عز وجل لم يكتب مقادير العباد، ولم يخلق أفعالهم، بل العبد يخلق فعل نفسه، فنسبوا الخلق إلى العبد، ولهذا سماهم السلف مشبهة الأفعال مأوِّلة الصفات، فهم معطِّلة ومشبِّهة في ذات الوقت، معطِّلة بالنسبة لبقية الصفات، ومشبِّهة بالنسبة لأفعال الله سبحانه وتعالى، حيث شبّهوا العباد بالله في كونهم يخلقون ويقومون بهذه الأعمال بدون أن تكون هناك قدرة وإرادة من الله عز وجل عليهم. والإيمان الصحيح بالقدر يكون بالإيمان بالمراتب الأربع التي سبق أن أشرنا إليها، ويكون بما ورد في حديث عبادة بن الصامت، وبما ورد في الحديث الأخير -وهو حديث ابن الديلمي -: أن يعلم الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ذلك كله بتقدير الله سبحانه وتعالى.

إنكار النعمة وخطره على توحيد الربوبية

إنكار النعمة وخطره على توحيد الربوبية قال المؤلف رحمه الله: [باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83]. قال مجاهد ما معناه: هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي. وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان لم يكن كذا. وقال ابن قتيبة: يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا. وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: إن الله تعالى قال: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) الحديث وقد تقدم: وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به. قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير. ]. هذا الباب يتعلق بموضوع إنكار النعمة، وموضوع إنكار النعمة يتعلق بالربوبية؛ لأن النعمة من خلق الله سبحانه وتعالى، فيجب أن نثبتها لله سبحانه وتعالى، فمن نسب النعمة لغير الله عز وجل فقد وقع في الشرك بحسب حاله في نسبة النعمة كما سيأتي تفصيله إن شاء الله. يقول الله عز وجل: ((يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ)) يعني: يعرفون أن هذه النعمة من الله سبحانه وتعالى، ثم قال: ((ثُمَّ يُنكِرُونَهَا)) يعني: ينسبونها إلى غير المنعم. قال مجاهد ما معناه: هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي. وظاهر العبارة أنه لا شيء فيها، فقوله: (هذا مالي) يقال فيه: نعم هو ماله، (ورثته عن آبائي) يقال: قد يكون ورثه عن آبائه، ولكن بحسب ما قام بقلبه، فإن ذكره على سبيل الحكاية فهذا لا شيء فيه، وإن ذكره على سبيل أن هذا جاءه بسبب الإرث، فنسب هذه النعمة إلى السبب، فهذا من الشرك الأصغر؛ لأن الإرث سبب حقيقي كوني وقدري، وهو في نفس الوقت شرعي، لكن الشرك وقع فيه من جهة نسبة هذه النعمة إلى أهله أو إلى وراثته.

أقسام نسبة النعمة إلى غير الله

أقسام نسبة النعمة إلى غير الله يمكن أن نقسِّم نسبة النعمة إلى غير الله عز وجل إلى أقسام: القسم الأول: أن ينسبها إلى سبب حقيقي. القسم الثاني: أن ينسبها إلى من يعتقد فيه التأثير. القسم الثالث: أن ينسبها إلى سبب وهمي وليس حقيقياً. فأما القسم الأول -وهو الذي نسبتها إلى سبب حقيقي- فهو نوعان: النوع الأول: أن ينسبها إلى سبب حقيقي على سبيل الحكاية، فهذا لا شيء فيه، وهو جائز. والنوع الثاني: أن ينسبها إلى غير الله عز وجل وهي سبب حقيقي، لكن على سبيل تعظيم السبب، وضعف إيمانه بأن هذه النعمة من جهة الله سبحانه وتعالى، فهذا النوع شرك أصغر، ولا يعتبر من الشرك الأكبر؛ لعدم وجود عبادة معينة ومحددة صرفها لغير الله، وقد سبق أن بيّنا أن الضابط في الشرك الأكبر هو صرف العبادة لغير الله، واعتبرنا ذلك من الشرك الأصغر لأنها من الوسائل التي توصل إلى الكفر الأكبر، مثل إنكار النعمة عن الله بالكلية. وأما القسم الثاني: فهو نسبة النعمة إلى معظّم يعتقد فيه التأثير، فهذا من الشرك الأكبر، ومثاله: أن ينسب نعمة إلى ولي من الأولياء ميت، أو إلى نبي من الأنبياء ميت، أو ينسبها إلى النجوم مع اعتقاده أن النجوم مؤثرة، كما كان حال الصابئة، وكما هو حال كثير من المشركين الذين يعتقدون أن للنجوم تأثيراً في الحوادث الأرضية، فهذا شرك أكبر. وأما القسم الثالث: فهو أن ينسبها إلى سبب وهمي ليس حقيقياً، فهذا شرك أصغر، مثل التمائم التي سبق أن أشرنا إليها. أما إنكار النعمة عن الله سبحانه وتعالى فينقسم إلى أقسام: القسم الأول: أن ينكرها عن الله عز وجل تكذيباً، فهذا من الشرك الأكبر. القسم الثاني: أن ينكرها عن الله سبحانه وتعالى، بمعنى أنه لم يفعلها مطلقاً، فينسب كل الأنعام إلى غير الله عز وجل، وهذا كفر أيضاً. القسم الثالث: ألا ينكر النعمة صراحة، وإنما ينكرها بالتضمن، بأن ينسبها إلى غير الله تعالى، فتدخل فيها الأحكام التي سبق أن أشرنا إليها في أنواع نسبة النعمة لغير الله عز وجل. ولهذا نلحظ أن تفسير السلف رضوان الله عليهم للآية السابقة جاء بأكثر من معنى، فقد جاء بالكفر الأكبر، وجاء بالكفر الأصغر. فقوله تعالى: ((يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا)) جاء في قول مجاهد: هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي. وهذا نوع من أنواع نسبة النعمة لغير الله عز وجل، من جهة أنه نسبها إلى سبب حقيقي ليس على سبيل الحكاية المجردة. وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان لم يكن هذا. وهذا من النوع الذي ينسب النعمة إلى سبب وهمي ليس حقيقياً. وقال ابن قتيبة: يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا. وهذا نسبة النعمة إلى الآلهة ممن يعتقدون فيها التأثير، وهذا هو الكفر الأكبر، وجميع هذه الثلاثة سبق أن تحدثنا عنها. وقال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثيرة.

نسبة النعمة إلى النفس من دون الله عز وجل وقدحه في التوحيد

نسبة النعمة إلى النفس من دون الله عز وجل وقدحه في التوحيد قال المؤلف رحمه الله: [باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت:50] قال مجاهد: هذا بعملي، وأنا محقوق به. وقال ابن عباس: يريد من عندي. وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]. قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل، وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف]. هذا الباب فيه نسبة النعمة إلى النفس، فبدلاً من أن يثني المرء على الله عز وجل بأن هداه وأعطاه، وأنه سبحانه وتعالى أكرمه وفضّله بهذه النعمة التي عنده ينسبها إلى نفسه كما فعل قارون عندما نسب إلى نفسه الأموال والخزائن الكثيرة التي كانت العصبة من الرجال تتعب وتنوء بحمل مفاتيحها، فضلاً عن المال الذي هو داخل هذه الخزائن. فقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] يعني: بحذقي، وفهمي، وقدراتي، وإمكاناتي، وحسن تدبيري، وهكذا. يقول الله عز وجل: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت:50] يعني: إذا أصابه ضر -كالفقر أو المرض، أو أي نوع من أنواع البلاء- ثم مسّه الله عز وجل برحمة منه نسبها إلى نفسه، فقال: هذا بجهدي، وهذا بقدرتي، أو نسبها إلى غير الله، كقوله: هذا من فعل الطبيب الحاذق الذي استطاع أن يستأصل الورم مثلاً، أو أن يعطيني علاجاً قوياً مؤثراً، أو نحو ذلك، فهذا كله من الشرك. قال مجاهد: [هذا بعملي] يعني ما عنده من الرزق وما عنده من الخير. [وأنا محقوق به] يعني: أنا مستحق له. وقال ابن عباس: [يريد: من عندي]، يعني: نسبه إلى نفسه. وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] هذه قصة قارون، قال قتادة: [على علم مني بوجوه المكاسب]، يعني: أنا رجل صاحب مواهب وقدرات، وهذا الرزق الذي بين يدي بقدراتي وإمكاناتي وحسن تخطيطي وتدبيري، فنسب النعمة إلى نفسه ولم ينسبها إلى الله عز وجل. وقال آخرون: [على علم من الله أني أهل له]، وهذا تفسير ثان، يعني: أن الله أعطاني ذلك لمكانتي عنده، وهذا من الغرور الذي يحصل لبعض الناس إذا أوتي خيراً. وهذا معنى قول مجاهد: [أوتيته على شرف]، ثم ساق حديثاً طويلاً في قصة الأبرص والأقرع والأعمى، وأن الله عز وجل أرسل إليهم ملكاً، وأن بعضهم أنكر نعمة الله سبحانه وتعالى، وبين كيف كانت عقوبة الأقرع والأبرص وكيف كانت مثوبة الأعمى. وهذه كلها بابها واحد، وهو ما سبق أن بيّناه من موضوع نسبة النعمة إلى غير الله سبحانه وتعالى على التفصيل السابق.

الأمن من مكر الله واليأس من رحمة الله وخطره على توحيد الربوبية

الأمن من مكر الله واليأس من رحمة الله وخطره على توحيد الربوبية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، وقوله: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال: (الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله). وعن ابن مسعود قال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله. رواه عبد الرزاق. ] هذا الباب يتعلق بخصلتين سيئتين تتعلقان بالشرك في توحيد الربوبية: الأولى: هي الأمن من مكر الله عز وجل، والأمن من مكر الله سبحانه وتعالى يقتضي ترك ركن من أركان الإيمان، وهو الخوف من الله سبحانه وتعالى. والثانية: اليأس من روح الله عز وجل، واليأس من روح الله سبحانه وتعالى يقتضي ترك ركن من أركان الإيمان، وهو الرجاء. ولهذا ذكر أهل العلم أن هناك ثلاثة أعمال من أعمال القلوب تعتبر أصول الإيمان، وهي: الخوف، والرجاء، والمحبة، وعندما تكلم أهل العلم عن الخوف والرجاء قالوا: إنهما كالجناحين للطائر. والتشبيه يقتضي أمرين: الأمر الأول: أنه لا بد من وجود الاثنين. والأمر الثاني: أنه لا بد من الاعتدال فيما بين هذين الاثنين، فإن الطائر لا يمكن أن يطير بجناح واحد، وكذلك لا يمكن أن يطير وأحد جناحيه أقل من الآخر، بل لا بد من أن يكونا مستويين. ولهذا روى أبو نعيم في الحلية عن مكحول أنه قال: (من عبَد الله بالحب وحده فهو زنديق)، ومن عبَد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبَد الله بالخوف وحده فهو حروري، يعني: من أهل حروراء من الخوارج. أما الأمن من مكر الله فمعناه: أن الإنسان يأمن من عقوبة الله سبحانه وتعالى، ومكر الله المقصود به نوع من أنواع العقوبة، وهو الإيقاع بمن أراد أن يعاقبه من حيث لا يشعر، فهذا هو مكر الله سبحانه وتعالى، والمكر ليس بصفة نقص، بل هو صفة نقص إذا ابتدأه الإنسان بدون سبب، أما إذا كان المكر عقوبة لمن يستحق ذلك فهذا وصف محمود يدل على القوة والقدرة، ولهذا لا يصح أن يوصف الله عز وجل بالمكر مطلقاً، ولا أن يؤخذ من هذا الوصف اسم فيقال: الله الماكر مثلاً، وينسب إليه فيقال: عبد الماكر مثلاً، وإنما يؤتى بهذا الوصف منسوباً إلى الله عز وجل عند وجود مقتضاه، كقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]. فإن العقوبة قد تأتي بشكل واضح يشعر به الإنسان، وقد تأتي بشكل لا يشعر به، فتسمى مكراً.

أقسام الأمن من مكر الله

أقسام الأمن من مكر الله الأمن من مكر الله ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: هو الأمن المطلق من مكر الله عز وجل، بحيث يزول الخوف من الله عز وجل من قلب العبد كلية، وهذا النوع من الكفر الأكبر المخرج عن الملة. والنوع الثاني: الأمن من مكر الله نسبياً وجزئياً لا مطلقاً، فيوجد في الإنسان خصلة من خصال الأمن من مكر الله سبحانه وتعالى هي التي تجرئه على المعاصي والذنوب، وتجعله يقترف كثيراً من الذنوب والمعاصي دون شعور بالخوف، ولكن لا يعني هذا انتفاء أصل الخوف، بل أصل الخوف من الله موجود، فإذا خوّف خاف، وإذا تذكر خاف، وهذا الأصل في وجود الخوف في قلب الإنسان هو أصل الإيمان، فإذا انتفى بالكلية وخرج جذر الخوف من قلب الإنسان من الله عز وجل خرج من الإيمان، يقول الله عز وجل: ((أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ)) وهذا إنكار عليهم {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] وهذا وصف لأهل الكفر.

اليأس من رحمة الله

اليأس من رحمة الله وأما الخصلة الثانية فهي القنوط من رحمة الله عز وجل، ومعنى القنوط من رحمة الله: اليأس من رحمة الله، والشعور بأنه لا يمكن لرحمة الله أن تناله مطلقاً، والقنوط من رحمة الله عز وجل طعن في قدرة الله عز وجل ورحمته، فالقنوط المطلق كفر مخرج عن الإسلام، والقنوط المطلق: هو الذي لا يكون معه رجاء مطلقاً، بحيث لا يوجد عنده أصل الرجاء، فهذا كفر مخرج عن الملة. والنوع الثاني من القنوط: هو القنوط الذي يجعل الإنسان يخاف من عدم المغفرة إلى درجة سوء الظن بالله عز وجل، ولكن يبقى عنده أصل الرجاء، فهذا ليس بكفر أكبر، بل هو من الكفر الأصغر والشرك الأصغر. والدليل على أن اليأس من رحمة الله سبحانه وتعالى من الكفر هو قول الله عز وجل في قصة يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] وروح الله: رحمة الله سبحانه وتعالى، واليأس: هو القنوط، يقول الله عز وجل: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56]، فلا بد من وجود أصل الرجاء عند العبد، ولهذا جاء في حديث ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال: (الشرك بالله، واليأس من روح الله) واليأس معناه: القنوط، والقنوط معناه: اليأس، وروح الله: رحمة الله، ثم قال: (والأمن من مكر الله) فهذه أمور معدودة في الكبائر. وعن ابن مسعود قال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله. رواه عبد الرزاق، وإسناده صحيح. ويلحظ في كلام ابن مسعود التفريق بين القنوط من رحمة الله واليأس من روح الله، وقد ذكر بعض الشُرَّاح فرقاً لطيفاً، وهو أن القنوط استبعاد لرحمة الله، واليأس استبعاد لزوال المكروه؛ فكأن اليأس مرتبط بالمكروه الذي يحصل للإنسان، مثل المرض والبلاء ونحو ذلك، والقنوط كأنه من الأمور المتعلقة بالذنوب والمعاصي، فإذا أذنب وعصى فإنه قد يصل إلى مرحلة يقنط فيها من رحمة الله. فهذا هو التفريق الذي ذكره بعض الشُرَّاح، وإن كان أن القنوط واليأس بمعنى واحد في العموم.

ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله وأثر ذلك على توحيد الربوبية

ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله وأثر ذلك على توحيد الربوبية قال المؤلف رحمه الله: [باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله). رواه ابن ماجه بسند حسن]. هذا الباب متعلق بالشرك في توحيد الربوبية، ووجه علاقة هذا الموضوع بتوحيد الربوبية أن من لم يقنع بالحلف بالله فإن ذلك يدل على عدم تعظيمه لله سبحانه وتعالى، وهذا نقص في توحيده، فمن حُلف له بالله وهو يعرف أن الحالف صادق، ثم لم يقنع دل ذلك على أنه لا يعظّم الله سبحانه وتعالى، وليس لله مكانه في قلبه. وهناك فرق بين نوعين من الناس: نوع يحلف وهو كاذب وتعرف أنه كاذب، فهذا لا يلزم أن تصدّقه؛ لأن الشك ليس في الحلف، بل الشك في الشخص الحالف. والنوع الآخر المقصود بهذا الحديث، وهو من عُرف بالصدق ثم حُلِّف بالله عز وجل، فلم يقنع بالحلف، بل يريد أن يحلف بمعظّم آخر، أو يريد أن يقنعه بأمر آخر غير الحلف، كأثر من الآثار المادية ونحو ذلك، فهذا لا شك في عدم تعظيمه لله عز وجل، وهذا يدل على نقص في توحيد هذا الإنسان، والحديث هو عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحلفوا بآبائكم) وهذا من الشرك؛ لأن الحلف تعظيم، فإذا حلف بغير الله فمعنى هذا أنه عظّم غير الله عز وجل، والأصل في الحلف بغير الله أنه شرك أصغر، وأنه من الشرك الذي يتعلق بالألفاظ، وسيأتي الحديث عنه في شرك الألفاظ. قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدُق)، وهذا أمر بأن يبتعد الإنسان عن الكذب في الحلف بالله؛ لأن من كذب وهو يحلف بالله عز وجل فقد وقع في اليمين الغموس إن كان ما يحلف عليه أمراً ماضياً، وإن كان أمراً مستقبلاً دل ذلك على عدم تعظيمه لله سبحانه وتعالى، والحلف بالله في أمر ماض كقوله مثلاً: والله لقد حصل قبل أيام كذا وكذا وهو كاذب، فهذه هي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في نار جهنم، ومن حلف بالله مستقبلاً وهو ينوي أنه لن ينفذ، أو جاء الوقت ولم ينفذ كان ذلك دليلاً على عدم تعظيمه لله سبحانه وتعالى، قال: (ومن حلف له بالله) أي: من حلف له بالله من شخص صادق (فليرض) يعني: فليرض بالحلف بالله سبحانه وتعالى، (ومن لم يرض فليس من الله) وهذا وعيد شديد يدل على أن من لم يقنع بالحلف بالله عز وجل فهو غير معظّم لله. وبعض الناس -مثل أصحاب القبور- قد يأتي ويحلف بالله عز وجل كثيراً ولا يصدُق، ولا يمكن أن يحلف بالولي مرة واحدة ويكذب، وذلك لأن هذا نابع عن عقيدة فاسدة عنده، وهي أن الولي له تأثير على أولاده، وماله، وصحته، وأهله، ويقول: الله عز وجل غفور رحيم، ويأمن من مكر الله سبحانه وتعالى.

ما جاء في الإقسام على الله وأثره على توحيد الربوبية

ما جاء في الإقسام على الله وأثره على توحيد الربوبية قال المؤلف رحمه الله: [باب ما جاء في الإقسام على الله. عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك). رواه مسلم. وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد، قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته. ] هذا التألي على الله عز وجل، والإقسام عليه عز وجل، وهو من سوء الأدب معه والإدلال عليه سبحانه وتعالى، وهذا راجع إلى عدم تعظيمه لله عز وجل، وهو مناف للتوحيد، ولهذا نحن جعلناه متعلقاً بتوحيد الربوبية؛ لأنه ليس في قلبه تعظيم لله سبحانه وتعالى. ولقد جاء في هذا الحديث: (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك) فهذا يدل على وجود عجب في قلب هذا الإنسان. ولهذا فإن كثيراً من الناس قد يحتقر بعض أصحاب المعاصي إلى درجة أنه يشعر بأنهم من أهل النار والعياذ بالله، وأنه هو -لحصول بعض الطاعات منه- من أهل الجنة، وهذا خطأ، فإن الواجب أن ينظر الإنسان إلى نفسه بنظر المقصر ولا يتألى على الله عز وجل، فقد تكون عند الآخر معصية واحدة، وعندك معاص كثيرة وأنت لا تشعر بها، فقد يكون عندك رياء، أو سمعة، أو أي معصية من المعاصي، ولهذا لا يجوز للإنسان أن يتألى على الله عز وجل، فيقول: والله لا يغفر الله لفلان، أونحو ذلك من العبارات.

ما جاء في الاستشفاع بالله على خلقه وخطره على توحيد الربوبية

ما جاء في الاستشفاع بالله على خلقه وخطره على توحيد الربوبية قال المؤلف رحمه الله: [باب: لا يستشفع بالله على خلقه. عن جبير بن مطعم قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللهً! نُهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله، سبحان الله!) فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك! أتدري ما الله؟! إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه). وذكر الحديث، رواه أبو داود. ] هذا الباب متعلق بمسألة عدم تعظيم الله سبحانه وتعالى، فإن هذا الرجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنا نستشفع بالله عليك، يعني: نتوسط بالله عندك، فالشفاعة: هي الوساطة، يعني: ندعو الله عز وجل بأن يتوسط عندك فتدعو الله عز وجل، وهذا عدم تعظيم لله عز وجل، فإن الله عز وجل لا يستشفع به على أحد من خلقه، بل هو -سبحانه وتعالى- مالك الشفاعة، وهو معطيها سبحانه وتعالى، وهذا اللفظ يدل على عدم تعظيم الله عز وجل، وهو منافٍ لتوحيد الربوبية من جهة أنه عدم تعظيم لله سبحانه وتعالى. وهذا ليس من الشرك الأكبر، بل هو من الشرك الأصغر؛ لأنه يتعلق باللسان، وغالب الناس لا يقصد حقيقة أن الله عز وجل أقل شأناً من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يكون معنى اللفظ خطير، لكن قد لا يكون صاحب هذا اللفظ يقصد ذلك المعنى، ولهذا لم يرتب النبي صلى الله عليه وسلم أحكام الردة عليه، ولم يستتبه النبي صلى الله عليه وسلم. أما الإقسام على الله عز وجل السابق فهو بحسبه، فإن كان تألى على الله عز وجل -بمعنى أنه قال: والله لا يغفر الله لفلان- من جهة أنه رأى أن هذا العبد مفرّطاً فالحبوط الموجود في العمل هو حبوط جزئي، وإن كان المقصود أنه إلزام لله عز وجل بأن الله لا يغفر لهذا الشخص؛ فهذا لا شك في أن الحبوط المقصود به حبوط كلي، ويكون ناقلاً عن الملة، فالإقسام على الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يتألى شخص على الله عز وجل تألياً مطلقاً تاماً، فهذا من الشرك الأكبر. والثاني: أن يرى أن هذا الشخص صاحب معصية، فيرى أنه من أهل النار، وهذا يكون الحبوط فيه حبوطاً جزئياً، والشرك فيه شركاً أصغر.

ظن السوء بالله وخطره على توحيد الربوبية

ظن السوء بالله وخطره على توحيد الربوبية قال المؤلف رحمه الله: [باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]. وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح:6] قال ابن القيم في الآية الأولى: فسِّر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل. وفسِّر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسِّر بإنكار الحكمة وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره الله على الدين كله. وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق. فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره بحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار. وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده. فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء. ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك، هل أنت سالم؟ فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا أخالك ناجياً] هذا الباب: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154] المقصود به هو ظن السوء بالله سبحانه وتعالى، وهو متعلق بتوحيد الربوبية؛ لأنه عدم ثقة بأفعال الله عز وجل وأخباره وأقواله سبحانه وتعالى، وقد فسّره ابن القيم رحمه الله ونقل كلام أهل العلم في تفسيره، بأمرين: الأمر الأول: هو ظن أن الله عز وجل لن ينصر رسوله ولن يظهر أمره، وأن أمر هذا الدين سيضمحل. والأمر الثاني: هو ظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته، وهذا يدل على أنهم من المنكرين للقدر. بناء على ذلك نقول: حكم الظن بالله غير الحق ظن الجاهلية إذا كان المقصود به أن الله عز وجل لن ينصر هذا الدين تكذيباً لخبر الله عز وجل، وتكذيباً لوعده سبحانه وتعالى بظهور هذا الدين، حكمه أنه كفر أكبر مخرج من الملة، ولهذا جعل الله هذه الصفة -وهي الظن بالله غير الحق ظن الجاهلية- في هؤلاء المنافقين. وأما إذا كان المقصود بالظن هنا: أنهم يظنون أن ما يحصل لهم من المصائب، وما يحصل لهم من النعم ليس بقدر الله عز وجل، فذلك داخل في الموضوع الذي سبق أن شرحناه، وهو حكم إنكار القدر؛ وقد بيّنا حكم إنكار القدر بالتفصيل.

الشعور بالإحباط من انتصار دين الله من سوء الظن بالله

الشعور بالإحباط من انتصار دين الله من سوء الظن بالله هناك نوع من الظن بالله غير الحق ظن الجاهلية لا يدخل في الكفر الأكبر، وهو الشعور بالإحباط في انتصار هذا الدين مع الإيمان بوعد الله سبحانه وتعالى، والإيمان بخبر الله سبحانه وتعالى في انتصاره، فهذه المشاعر التي تحصل عند كثير من الناس عندما يرى أحدهم جهامة الباطل وقوته، ويرى ضعف أهل الحق، قد يخالطه شعور بأنه لن ينتصر هذا الدين مع وجود أسلحة الدمار الشامل، ولن يظهر هذا الدين، ولن تكون له صولة وجولة بشكل كبير. فنقول لمن هذا حاله أولاً: لا يشترط في ظهور هذا الدين أن يكون له دولة عظيمة وكبيرة، وإنما ظهور هذا الدين هو ظهور حجته وبيانه، واستمراره وعدم انقطاعه، وقبول كثير من الناس له. ثانياً: أن الله عز وجل أخبر أن هذا الدين سيظهر، ولا بد من الإيمان بخبر الله عز وجل ووعده، ولا بد من التصديق بذلك، ومن شك فهو على خطر في عقيدته، وأما من خالطته مشاعر وهو غير شاك فذلك دليل على ضعف الإيمان عنده، ولكن لا يخرجه ذلك من الملة، وإنما يخرج من الملة من كذّب خبر الله أو شك فيه، مع أن الواقع هو أن الحق منتصر ولله الحمد، وليس الانتصار دائماً بالسيف، وإنما يكون بالحجة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، قال الشيخ عبد الرحمن با بطين: ظاهرين بالحجة دائماً. يعني: أصحاب حجة وبيان، وبالسيف أحياناً، فقد تكون لهم دولة في بعض الأحيان وقد لا تكون لهم دولة في بعض الأحيان.

بيان عظمة الله تعالى وقدرته ومكانته

بيان عظمة الله تعالى وقدرته ومكانته قال المؤلف رحمه الله: [باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67]]. هذا فيه بيان أن المشركين ما عظّموا الله عز وجل، ولا عرفوا قدره ومكانته وكبرياءه وعظمته، مع أن الأرض يوم القيامة ستكون في قبضة الله عز وجل، ولهذا ستأتي أوصاف تبيّن أن الله عز وجل هو الكبير المتعالي سبحانه وتعالى، وأنه صاحب الكبرياء سبحانه وتعالى، وتبيّن أن الإنسان إذا عظّم الله عز وجل فإنه يكون موحداً توحيداً صحيحاً، وكل ما سبق من نسبة النعمة لغير الله، أو عدم القناعة بحلف من حلف بالله عز وجل وهو من الصادقين المعروفين، أو من أقسم على الله وتألى عليه، أو استشفع به على غيره، أن كل ذلك يدل على عدم تعظيم الله عز وجل ومعرفة منزلة الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على أصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67]). وفي رواية لـ مسلم: (والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك وأنا الله). وفي رواية للبخاري: (يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع) أخرجاه. ولـ مسلم عن ابن عمر مرفوعاً: يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟. وروي عن ابن عباس قال: ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم. وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس). قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض). وعن ابن مسعود قال: بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم. أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله. ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله. قاله الحافظ الذهبي رحمه الله، قال: وله طرق. وعن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله سبحانه تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم). أخرجه أبو داود وغيره]. هذا الباب الأحاديث المذكورة فيه كلها تدل على تعظيم الله عز وجل ومكانته وكبريائه سبحانه وتعالى، وقد عقده المصنف ليبيّن أمرين مهمين: الأمر الأول: أن تعظيم الله سبحانه وتعالى ومعرفة كبريائه سبحانه وتعالى، ومعرفة منزلة الله سبحانه وتعالى سبب في البعد عن الشرك في الربوبية، سواء في إنكار القدر، أو في الإقسام على الله، أو في التألي عليه، أو في الاستشفاع به على غيره من خلقه، أو نحو ذلك من أنواع القدح في الربوبية التي سبق أن أشرنا إليها. الأمر الثاني: أنه أراد أن يختم كتابه (كتاب التوحيد) ببيان برهان من أعظم براهين توحيد الألوهية، وهو عظمة الله سبحانه وتعالى وكبرياؤه، فإن من عرف عظمة الله عز وجل وكبرياءه عرف أنه هو المعبود وحده، وأنه هو المستحق للعبادة وحده دون شريك، فهذا برهان من براهين توحيد الألوهية، ولهذا ختم به المصنف رحمه الله كتابه. وبقي معنا موضوع واحد، وهو: إنكار توحيد الأسماء والصفات. وهذا الدرس سميناه: الشرك في توحيد الربوبية والأسماء وا

الأسماء والصفات وحكم من جحدها أو جحد شيئا منها

الأسماء والصفات وحكم من جحدها أو جحد شيئاً منها قال المؤلف رحمه الله: [باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات. وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]. وفي صحيح البخاري: قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله؟! وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك، فقال: ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه؟! ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]]. توحيد الأسماء والصفات ثابت لله عز وجل، وهو نوع من أنواع التوحيد الثلاثة. والأسماء الثابتة لله عز وجل هي الأسماء الحسنى، والمقصود بالحسنى: التي بلغت الغاية في الحسن والجمال والكمال لله سبحانه وتعالى، والصفات: هي الصفات العليا الثابتة لله سبحانه وتعالى، والصفات تنقسم إلى أقسام متعددة بحسب جهة التقسيم، فهي تنقسم باعتبار تعلقها بذات الله عز وجل إلى قسمين: صفات ذاتية، وصفات فعلية. أما الصفات الذاتية: فهي الصفات التي لا تنفك عن الله عز وجل، ولا تتعلق بالمشيئة، مثل العلم، والحياة، والإرادة، والعينين، واليدين، والوجه، ونحو ذلك من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله عز وجل بأي وجه من الوجوه. النوع الثاني من الصفات: الصفات الفعلية، وقد يعبّر عنها بعض العلماء بالصفات الاختيارية، وهي الصفات التي يفعلها الله سبحانه وتعالى بإرادته ومشيئته واختياره، فإذا شاء فعلها وإذا لم يشأ لم يفعلها، فهي متعلقة بمشيئة الله عز وجل، مثل الكلام، والضحك، والغضب، والنزول، والاستواء، ونحو ذلك من الصفات التي تسمى بالصفات الفعلية. والصفات الفعلية تنقسم إلى قسمين: صفات لازمة لذات الله عز وجل ليس لها أثر متعد، وصفات متعدية إلى الخلق، وتسمى صفات الربوبية. ومثال الصفات اللازمة: الضحك، والغضب، والنزول، والاستواء. ومثال الصفات المتعدية: الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والتدبير، ونحو ذلك. ومن جحد الأسماء والصفات ففي توحيده خلل؛ لأنه يجب أن يسمي الله بما سمى به نفسه وبما سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن جحد شيئاً من أسماء الله، أو من صفات الله سبحانه وتعالى فقد وقع في خلل وقدح ونقض للتوحيد، والجحد: معناه الإنكار. والإنكار ينقسم إلى قسمين: إنكار تكذيب، بحيث يكذّب بأسماء الله عز وجل أو ببعضها، أو يكذّب بصفات الله عز وجل أو ببعضها، فالمكذِّب لو كذّب بصفة واحدة أو باسم واحد فهو كافر وليس بمسلم. القسم الثاني: جحود من جحد شيئاً من أسماء الله عز وجل وصفاته، أو جحدها جميعاً يكون متأولاً، فعنده جحد التأول أو التأويل، وهذا النوع من أنواع الجحد يدخل في قاعدة تكفير المتأول التي سبق أن أشرنا إليها، وهي أنه إذا كان تأوله قريباً، وكانت عنده شبهة وإشكال من حيث اللغة فلا يكفر، وإنما يكون تأوله بدعة مخالفة لطريقة الصحابة رضوان الله عليهم وسلف هذه الأمة، وأما إذا كان تأوله بعيداً من حيث اللغة فهذا كفر مخرج عن الملة، والشيخ إنما ساق هذه الأدلة ليدلل على هذه القضية، ومن ذلك قول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] فإنكار أسماء الله سبحانه وتعالى من صفات الكفار، فقوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] يعني: لا يؤمنون به، ولهذا لما جاء سهيل بن عمرو قبل إسلامه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الحديبية وكتب كتاب الصلح بينهم قال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب: (اكتب باسم الله الرحمن الرحيم) فقال: أما الرحمن فلا نعرفه، قل: (باسمك اللهم)، ولهذا قال الله عز وجل عنهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] وكفرهم بالرحمن لا يعني أنهم ينكرون وجود الله، وإنما يكفرون بالاسم، فهم يعترفون بوجود الله بدليل قول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، ولكن يكفرون بأن يكون هذا اسماً لله سبحانه وتعالى، وفي صحيح البخاري قال علي: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله؟! ولهذا روي عن ابن مسعود أنه قال: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. وهذه الآثار ساقها الشيخ هنا ليبيّن أن كثير من الناس ممن يتكلم في الأسماء والصفات قد لا يحسن الكلام فيها، فيشكك الناس فيها، ولا يعني هذا أننا لا نتكلم مع الناس في الأسماء والصفات، فالقرآن مليء بالأسماء والصفات، والسنة

كتاب التوحيد [7]

كتاب التوحيد [7] أول شرك وقع في حياة البشرية كان بسبب الغلو في الصالحين وتعظيم آثارهم، والعكوف على قبورهم، ومن هنا بدأ شرك القبوريين حتى أصبح من أبرز أنواع الشرك في حياة الناس، وحقيقته هو عبادة أصحاب القبور من دون الله تعالى، وللقبوريين شبهات يتعلقون بها ويسوغون بها شركهم وباطلهم، وقد أجاب عنها علماء أهل السنة والجماعة بما يشفي العليل ويروي الغليل، ومن أبرزهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه كشف الشبهات.

القبوريون وشبهاتهم

القبوريون وشبهاتهم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا هو الدرس السابع، وهو في شبهات القبوريين، والقبوريون: هم الذين يعبدون القبور، ويعكفون عندها، ويعظمونها، ويغلون فيها. وقد بدأت القبورية في تاريخ الإنسانية منذ بداية الشرك، بل إن أول شرك وقع في حياة الإنسانية كان بسبب الغلو في الصالحين، وتعظيم آثارهم، والعكوف على قبورهم. وهكذا استمر الشرك في الإنسانية، وفي التاريخ البشري، وكان أبرز نوع من أنواع الشرك في حياة الناس هو التعبد لأصحاب القبور. والشبهات التي عند أصحاب القبور التي يسوغون بها الشرك كثيرة جداً، بل إنه عند التفصيل وعند تكثير الأنواع يمكن أن تصل إلى ثلاثمائة شبهة تقريباً، وهذه الشبه جمع أهمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب (كشف الشبهات)، فقد جمع قرابة عشر شبهات، وهي من أهم الشبهات التي يتذرع بها أصحاب القبور فيما يقومون به من شرك مناقض لتوحيد الألوهية. وسبق أن بينا أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، وأن بعثة الرسل كانت من أجل تقرير هذا النوع من أنواع التوحيد، ولهذا كان أهل الشرك في زمن الأنبياء يعرفون أن الله هو الخالق، الرزاق، المحيي، المميت، المدبر، الذي بيده مقاليد كل شيء، وأنه لا خالق إلا هو، ولا رازق إلا هو سبحانه وتعالى. كانوا يعرفون ذلك معرفة تفصيلة، ولكن وقع الشرك عندهم في توحيد الألوهية في عبادة غير الله سبحانه وتعالى، يقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31]، وهناك مجموعة كبيرة من الآيات تدل على هذا المعنى. فإذا عرف الإنسان حقيقة شرك المشركين، وعرف أنهم كانوا يقرون لله سبحانه وتعالى بتوحيد الربوبية، ويعتقدون أن الله هو الخالق، الرزاق، المحيي، المميت وحده، وعرف أن هذا التوحيد لم ينفعهم عند الله سبحانه وتعالى مع أنه نوع من أنواع التوحيد، إذا عرف ذلك عرف التوحيد المطلوب في النجاة عند الله سبحانه وتعالى، وهو توحيد الألوهية. فمن جاء إلى الله عز وجل وهو مقر بتوحيد الربوبية وغير مقر بتوحيد الألوهية فلا يقبل الله عز وجل منه هذا النوع من التوحيد، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]. فأثبت لهم نوعاً من أنواع الإيمان، لكن هذا النوع من أنواع الإيمان ما كان لينفعهم؛ لأنهم كانوا يشركون مع الله سبحانه وتعالى في الألوهية، ولهذا استحل النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم، وفارقهم، وفاصلهم، وقاتلهم، وميز بين أتباع دينه وأتباع دينهم، وحصلت بينه وبين قومه معارك كبيرة ومشهورة، وولاء لأصحابه، وعداء للمشركين. كل هذا يدل على أن الإيمان بتوحيد الربوبية وحده غير كاف، وأنه لا بد للإنسان -ليكون موحداً عند الله عز وجل- من أن يؤمن بتوحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات. وينبغي أن يعلم الإنسان أن أهل الشرك ما زالوا إلى اليوم، وأنه لم ينقطع الشرك في حياة هذه الأمة، وسيأتي معنا باب عن هذا الأمر بالتفصيل، فالشرك ما زال واقعاً في هذه الأمة، ولا يمكن أن تطبق هذه الأمة بأكملها على عبادة غير الله سبحانه وتعالى وتقع كلها في الشرك. وسنبدأ في بداية الأمر بالباب الثاني والعشرين، وهو الباب الذي يتعلق بكون بعض هذه الأمة يعبد الأصنام ويعبد الأوثان، وهذا يدل على أن الشرك سيبقى في حياة الأمة، ويحتاج منا إلى أن نتعلم العقيدة الصحيحة، ونتعلم كيفية مواجهة هؤلاء المشركين.

وقوع الشرك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم

وقوع الشرك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله: [باب: ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان. وقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51]، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60]، وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]. وعن أبي سعيد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟! قال: فمن؟!)، أخرجاه]. الآيات الثلاث الأولى في هذا الباب تتعلق بالأمم الأخرى، فقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [النساء:51] يعني: اليهود والنصارى، {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] الجبت: هو السحر، والطاغوت: هو الشرك عموماً، وفسره جابر بأن كهاناً في أحياء من العرب كانوا يتكهنون للناس ويخبرونهم بالمغيبات، فهذه الآية هي في شرك المشركين السابقين، ولا علاقة لها بهذه الأمة بشكل مباشر. والآية الثانية هي قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60]، والطاغوت: هو الشرك، وهذه الآية أيضاً في اليهود. والآية الثالثة قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، وهذا كان في زمن أصحاب الكهف. فالآيات الثلاثة كلها في الأمم السابقة، ولكن علاقتها بموضوع كون بعض هذه الأمة يعبد الأصنام هي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر خبراً عن أمر سيقع في هذه الأمة، وهو مشابهة جزء من هذه الأمة لليهود والنصارى والمشركين، فقال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه). فإذا كان المشركون السابقون قد وقعوا في الشرك فإنه سيقع في هذه الأمة أيضاً بمقتضى خبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أن من هذه الأمة من شابه الأمم السابقة في كثير من الأمور، سواء المتعلقة بالعقائد أو السلوك، فكذلك في هذه الأمة من سيقع في عبادة الأوثان كما وقع فيها بعض الأمم السابقة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولـ مسلم عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها -أو قال: من بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً)، ورواه البرقاني في صحيحه وزاد: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى)]. الشاهد من هذا الحديث هو في الزيادة التي رواها البرقاني في صحيحه وهي جزء من حديث ثوبان الطويل، وموطن الشاهد فيه هو قوله: (ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين)، وهذا تصريح بوقوع الشرك في هذه الأمة، (وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان)، وهذا أيضاً واضح، (وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي)، يعني من يدعي النبوة، والعدد في قوله: [ثلاثون] ليس مقصوداً، أو يحمل على أنه أقل نوع كما ذكر ذلك بعض الشراح. قال: (وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي) ثم قال: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق)، إلى آخره. والداعي لعقد هذا الباب هو أن الشيخ وجد من القبوريين من يزعم أن الشرك لا يمكن أن يقع في هذه الأمة، وعندما أظهر الشيخ الدعوة إلى توحيد الألوهية ونبذ الشرك في الألوهية انتقده البعض من هؤلاء وقالوا: إن الشرك لا يمكن أن يعود مرة أخرى في المسلمين،

الرد على شبهات القبوريين

الرد على شبهات القبوريين ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كشف الشبهات عشر شبهات ثم رد عليها. وفي بداية الكتاب قدم الشيخ بمقدمة عن حقيقة التوحيد، وعن حقيقة الشرك الذي وقع فيه المشركون، وعن طريق المعرفة الصحيحة لتوحيد المرسلين، وتحدث عن أعداء التوحيد، وأن الله سبحانه وتعال قدر لهذه الأمة أن يوجد لها أعداء: للأنبياء الذين بعثوا فيهم، ولأتباع الأنبياء أيضاً، يقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]. فهؤلاء الأعداء عندهم علم وفهم وحجج وكتب، ولديهم قدرات وإمكانات، فيأتون بالشبه إلى الناس، ويلبسون عليهم، كما قال الله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83]، وهذا يدل على أن عندهم شيئاً من العلم أثبته الله لهم ففرحوا به، فهم أهل فصاحة، وأهل حجاج، وأهل علم، وهذا يقتضي من الموحد أن يتعلم التوحيد على صورته الصحيحة وبشكله الصحيح، ثم يعرف شبهات هؤلاء فيفندها ويرد عليها. ثم بين رحمه الله تعالى أن الرد على شبهات هؤلاء يكون بطريقتين: الطريقة الأولى: طريقة مجملة أو جواب مجمل، والطريقة الثانية: طريقة مفصلة، أو جواب مفصل.

الرد المجمل على شبهات القبوريين

الرد المجمل على شبهات القبوريين فأما الطريقة المجملة فإنها تصلح في كل شبهة من الشبهات، وهي: تطبيق قول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7]. فإذا وجدت أمراً مشكلاً فعليك أن ترده إلى الأمر المحكم، والمحكم هو الواضح البين الجلي، وأما المتشابه فهو الغامض والخفي. فإذا جاءك أحد القبوريين وأراد أن يستدل على جواز عبادة الأولياء، فبدأ يعظم لك الأولياء ويقول: إن الله عز وجل يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، ويقول في الحديث القدسي: (من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وبدأ يذكر لك فضل الولاية ومنزلتها ومكانتها يريد أن ينتقل من ذلك إلى جواز عبادته، وأنت لا تستطيع أن تجيب عليه جواباً تفصيلياً؛ فإنك تقول له بالجواب المجمل: إن الله عز وجل أخبرنا في الكتاب، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في السنة أنه يجب أن نعبد الله عز وجل وحده، وعندي على هذا مئات الأدلة التي تدل على أنه يجب أن أعبد الله عز وجل وحده، وإن هذا الكلام الذي تقوله عن الأولياء والأنبياء لا أكذبه، ولكن كونك تستدل به على جواز العبادة استدلال فاسد؛ لأنه يناقض مئات الآيات التي هي عندي محكمة واضحة، وهذا مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله. فهذا جواب مجمل عن كل الشبهات الخاصة بتوحيد الألوهية. وهكذا الشبهات التي تتعلق بالأسماء والصفات، وهكذا الشبهات التي تتعلق بالإيمان، فإنك تذكر الشيء المحكم البين الواضح وتقول: هذا أمر بين ومحكم وواضح لا أحيد عنه شيئاً؛ لأن أصحاب الشبهات يأتون إلى بعض النصوص من القرآن، أو السنة، أو أعمال بعض الصالحين التي يكون فيها إشكال أو غموض، أو يكون لها تفسير آخر غير التفسير الذي يعرفه الإنسان، فيشغبون بذلك على العامة ويضللونهم. فلو قال لك قائل: إن هناك نبياً من الأنبياء شك في قدرة الله وهو يونس، وذلك عندما قال الله عز وجل: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87]، وكيف يظن نبي من الأنبياء أن الله لن يقدر عليه، ولن يستطيع أن يعاقبه؟ فهو بهذا الأمر يتلاعب بك ويحاول إيهامك، مع أن المراد بقوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87]، يعني: نضيق عليه، وليس معنى (نقدر عليه) هنا من القدرة، وإنما المقصود به: نضيق عليه، فهي كقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7]، يعني: من ضيق عليه رزقه. وهكذا يأتون إلى نماذج من هذه الآيات أو الأحاديث ثم يستدلون بها في غير موطنها وموضعها فيشككون الناس، فعلى الإنسان أن يكون عنده أدلة محكمات بينات واضحات يرجع إليها دائماً، وهذا هو المقصود بالجواب المجمل الذي ذكره الشيخ.

الرد على شبهة جاه الصالحين عند الله تعالى

الرد على شبهة جاه الصالحين عند الله تعالى أما الجواب المفصل فإنه بحسب تفصيل الشبهات، والشبهة الأولى التي ذكرها تتعلق بمفهوم التوحيد، وهي أنهم يقولون: نحن على التوحيد، ولا نرضى بالشرك، ونحن نؤمن بأن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، ولكن هؤلاء الصالحين لهم جاه عند الله عز وجل، ونحن نريد أن نصل إلى الله عن طريقهم. والخلل في هذه الشبهة هو في فهم التوحيد، فهؤلاء الأشخاص لم يفهموا التوحيد؛ إذ ظنوا أنه يكفي الإنسان أن يؤمن بأن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، فإذا آمن بذلك حصل له حقيقة التوحيد، وانتفى عنه الشرك، وتصبح بقية أعماله صحيحة. فنقول لهم: لقد فهمتم خطأ، فهذا جزء من التوحيد لا يكفي في الإيمان، فقد كان المشركون على ما أنتم عليه، إذ كانوا يقولون بأن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، وعندنا آيات كثيرة تدل على ذلك، منها قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، وكانوا لا يريدون من أصنامهم إلا أن تقربهم إلى الله زلفى، أي: قربة، كما قال الله عز وجل: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وعليه فإنكم وقعتم في نفس الشرك الذي وقع فيه الكفار السابقون. فهذه الشبهة عندهم الجواب عنها هو أن نردهم إلى أصل محكم عندنا، وهو أن أهل الشرك كانوا يوحدون الله بتوحيد الربوبية، فما نفعهم ذلك؛ لأن توحيد الربوبية -مع أنه جزء من التوحيد- لا يكفي وحده، بل لا بد من أن يضاف إلى ذلك إفراد الله بالعبادة، فإذا لم يضف إلى ذلك فإن الإنسان يبقى على الشرك إذا أشرك.

الرد على شبهة التفريق بين عبادة الأصنام وعبادة الصالحين

الرد على شبهة التفريق بين عبادة الأصنام وعبادة الصالحين الشبهة الثانية: تتعلق بالمقارنة بين معبود المشركين ومعبود القبوريين، حيث يقول هؤلاء القبوريون: كيف تقرنون بيننا وبين المشركين الأولين، مع أن المشركين الأولين كانوا يعبدون الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام، وكيف تجعلون الصالحين والأنبياء كالأصنام؟! فالأصنام -ولو قال المشركون: إنها تقربهم إلى الله زلفى- لا تقرب إلى الله في الحقيقة، وأما الأنبياء فيختلفون عن الأصنام، فإنهم سيقربوننا حقيقة؛ لأن لهم جاهاً حقيقياً عند الله سبحانه وتعالى! والإشكال في هذه الشبهة هو أنهم ظنوا أن المشكلة التي وقع فيها المشركون الأوائل هي في كونهم اتخذوا آلهة من الأصنام الصماء التي لا تضر ولا تنفع، أما هؤلاء اتخذوا آلهة من الأنبياء والصالحين الذين لهم مكانة. والرد عليهم يكون من وجهين: الوجه الأول: أن نقول: إن حقيقة الشرك واحدة، سواء صرفت لصنم ووثن أصم، أو صرفت لنبي له جاه ومكانة، فعبادة غير الله واحدة. الوجه الثاني: أن نقول: إن الله عز وجل بين في القرآن أن من المشركين من كان يعبد الأنبياء، ومنهم من كان يعبد الصالحين، ومنهم من كان يعبد الملائكة، يقول الله سبحانه وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، فهذه الآية نزلت في قوم كانوا يعبدون قوماً من الجن، وكان هؤلاء الجنيون المعبودون يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى، أي: كانوا من الصالحين وكان أولئك يعبدونهم. فهؤلاء عبدوا جناً صالحين، ومع ذلك اعتبرهم الله عز وجل من المشركين، فالتفريق بين الأصنام والأنبياء والصالحين ليس له مسوغ، يقول الله عز وجل: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:75 - 76]، فهذه طائفة -وهم النصارى- يعبدون المسيح من دون الله، والمسيح نبي من الأنبياء، ومع ذلك لم يعذرهم الله عز وجل بكونه نبياً، فالله عز وجل ما كفر المشركين لعبادتهم الأصنام لأنها حجارة صماء، بل لأن الذي يعبد نبياً أو ولياً أو صالحاً لا يكون معذوراً، فالعبادة في حقيقتها واحدة، سواء صرفت هنا أو هنا. ويقول الله عز وجل عمن يعبد الملائكة: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41]، وهكذا. فهذه الآيات تدل على أنه ليس هناك فرق بين من يعبد الأصنام وبين من يعبد الأولياء والصالحين، كما أنها تدل على أن هناك طائفة كبيرة من المشركين كانوا يعبدون الأنبياء، والأولياء، والملائكة، والجن، والصالحين، ومع ذلك اعتبرهم الله عز وجل كفاراً.

الرد على شبهة إشراك المشركين الأولين في توحيد الربوبية

الرد على شبهة إشراك المشركين الأولين في توحيد الربوبية الشبهة الثالثة: تتعلق بمسألة حقيقة شرك المشركين، فنحن قد ذكرنا أن حقيقة شرك المشركين كانت في توحيد الألوهية، وكان المشركون يقرون بتوحيد الربوبية كما سبق أن بينا، ويدل على ذلك أدلة كثيرة جداً، فهذه الشبهة الثالثة هي أنهم يناقشون في ذلك ويقولون: المشركون الأولون كانوا يشركون في الربوبية، ولهذا اعتبرهم الله عز وجل من المشركين؛ لأنهم قدحوا في توحيد الربوبية. والرد عليهم أولاً بأن نستدل بالآيات الواردة في إثبات أن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية وقد سبقت. ثانياً: نستدل عليهم ببيان غرض المشركين من عبادتهم لهذه الأصنام، يقول الله عز وجل عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]. إذاً: كانوا يعرفون أن الله هو الخالق، الرازق، وكانوا يتخذون هذه الآلهة لتشفع لهم عند الله. ثالثاً: أن الذي يتتبع واقع المشركين في أشعارهم، وأخبارهم، وأحوالهم، يعلم أنهم كانوا يعرفون الله؛ لأنهم كانوا يعظمون البيت، وكانوا يطوفون به عرايا، والسبب في طوافهم عرايا هو أنهم كانوا لا يريدون أن يطوفوا بالبيت بثياب أخذوها من الحرام تعظيماً لله، وكانوا يعرفون الأشهر الحرم ويحرمونها، وكانوا يسقون الحجاج، وكان الحجاج من كل الجزيرة العربية يأتون ويطوفون بالبيت، ويسعون، ويذهبون إلى منى، وإلى مزدلفة، ثم تذهب عامة العرب إلى عرفات، ويبقى القرشيون في مزدلفة ويقولون: نحن الحمس لا نخرج من الحرم تعظيماً له، ثم يعودون مرة أخرى، وكان الرجل إذا وجد غريماً له قتل أباه أو أخاه في الحرم لا يقتله أبداً تعظيماً للحرم. ولهذا لما ذهب عبد المطلب إلى أبرهة قال له: كيف تسألني عن أبل وأنا جئت لأهدم كعبتكم؟ فقال: أنا رب أبلي وللبيت رب يحميه. فكل هذا يدل على أنهم كانوا يعرفون الرب، ويعرفون الله، ويعرفون أنه هو المتفرد بالخلق، والرزق، والتدبير، لكن جعلوا هذه الأصنام وسائط بينهم وبين الله. فالذي يريد أن ينكر حقيقة شرك المشركين عليه أولاً أن ينكر الآيات الدالة على ذلك، وينكر الآيات التي تدل على طبيعة شركهم وأنها في الشفاعة، وينكر حقائق التاريخ. ومن أعجب ما وقفت عليه لهؤلاء القبوريين في رد الآيات الواردة الصريحة في أن المشركين كانوا يقرون بأن الله هو الخالق الرازق ما قاله محمد علوي المالكي في كتاب (مفاهيم يجب أن تصحح) لما جاء إلى قول الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، قال: (هذا قاله المشركون وهم كذبة) أي أن المشركين قالوا هذا الكلام وهم كاذبون في قولهم. فنقول له: كيف عرفت أنهم كانوا كاذبين؟ فإن قال: لأنهم مشركون، فيكون شركهم معارضاً للتوحيد، وحقيقة التوحيد هي توحيد الربوبية، فكيف يعترفون بأن الله هو الخالق، الرازق؟! فلا بد من أن يكونوا كذبة. إن قال ذلك قلنا له: فلماذا لم يكذبهم الله في الآيات؟! وكيف يسكت الله عن ذلك؟ ثم إن هناك آيات أخرى كثيرة تدل على ذلك، ثم إن الواقع التاريخي يدل على ذلك، لكن الإنسان إذا كان في قلبه مرض، وكان يريد أن يصل بشبهته إلى شهوته فسيكون من هذا النوع، والعياذ بالله. وعلى هذا عامة الصوفية المتأخرين من القبوريين وإن لم يكن كل الصوفية، ففي الصوفية من لم يصل إلى هذه الدرجة.

الرد على شبهة حصر العبادة في التقرب إلى من يعتقد فيه الخلق والرزق

الرد على شبهة حصر العبادة في التقرب إلى من يعتقد فيه الخلق والرزق الشبهة الرابعة: تتعلق بمفهوم العبادة، فيقول القبوري: إن الشرك هو عبادة غير الله، وأنا لا أعبد هذه القبور ولا أعبد هذه الأضرحة، فنقول له: أنت تأتي فتذبح عندها، فيقول: هذا ليس عبادة، فنقول: أنت تأتي فتضع النذور عندها، فيقول: هذا ليس عبادة، فنقول: أنت تسجد لها، فيعيد ويقول: هذه كلها ليست عبادة، فنقول له: فما هو تعريف العبادة عندكم؟ فيقول: العبادة عندنا: هي أن تقدم الأعمال التعبدية لمن تعتقده خالقاً رازقاً أي: يربط الأفعال بالربوبية، وعليه لا يقع الشرك إلا في الربوبية فقط، أما في الألوهية فلا يمكن أن يقع الشرك استقلالاً، بل لا بد من أن يربطه بالشرك في الربوبية؛ لأن التوحيد عندهم هو توحيد الربوبية فقط، وأما الألوهية فليست داخلة في التوحيد، وإنما هي من الكمالات ومن الأمور المستحبات، وليست داخلة في أصل الدين. والرد عليهم في هذه الشبهة يكون بأمور: أولاً: نبين لهم مفهوم العبادة الشرعي، ونبين لهم مفهوم العبادة في اللغة، وأن العبادة في اللغة لم تستخدم في الأفعال التي تقدم لمن يعتقد فيه الرزق، والخلق، والرزق، والتدبير، والربوبية، وإنما التعبد في اللغة هو التذلل، والخضوع، فهي مأخوذة من قولنا: طريق معبد: إذا ذللته الأقدام بكثرة المسير عليه. وهكذا في عامة لغة العرب، فليس فيها التعريف الذي جاءوا به. ثم إذا جئنا إلى الشرع سنجد أن الله عز وجل وصف المشركين بأنهم يعبدون غير الله مع أنهم يقرون بأن الله هو الخالق، الرازق وحده، ولا يصرفون لآلهتهم الربوبية، ولهذا فهم يعترفون حقيقة بأنهم لا يضرون ولا ينفعون، ولكن يريدون منهم الشفاعة، والوساطة عند الله سبحانه وتعالى. ونقول لهم: إن الله عز وجل يقول: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، فهل الصلاة إذا صليت لله عبادة؟ فسيضطر إلى أن يقول: نعم، فنقول: هل الذبح لله يوم عيد النحر عبادة؟ فسيقول: نعم هو عبادة، فنقول: إذا صرفتها لله اعتبرتها عبادة، وإذا صرفتها لغير الله لا تعتبرها عبادة! من أين لك هذا التفريق؟! فهذا التفريق ليس له مسوغ وليس عليه دليل، وإنما هو تحكم وهوى. والرد الآخر: بيان حقيقة عبادة المشركين، وأنهم وقعوا في شرك الدعاء والذبح وطلب الشفاعة من دون الله عز وجل كما سبق بيانه.

الرد على شبهة إثبات الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم لطلبها منه في الدنيا

الرد على شبهة إثبات الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم لطلبها منه في الدنيا الشبهة الخامسة: شبهة طلب الشفاعة، فإنهم يقولون للموحد: هل تنكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فيقول لهم الموحد: لا، فيقولون له: إذاً: نحن نطلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يملك الشفاعة. والرد عليهم أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك الشفاعة الآن ولا يملكها في القبر، وإنما يملكها يوم القيامة بعد أن يسجد بين يدي الله عز وجل ويدعو بما ييسره الله عز وجل له، ثم يقول الله له: (ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع)، أما قبل ذلك فإنه لا يملكها. فإذا قال لنا: ما هو الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك لا يملكها؟ نقول: الله عز وجل يقول: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]، فالله عز وجل يحصر الشفاعة له، فهو مالك الشفاعة لا يعطيها إلا يوم القيامة في وقت محدد، وبناء على هذا فالذي يطلبها منه في الدنيا فإنه يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم مالا يملك، وكذلك الذي يطلبها من المقبور يطلبها ممن لا يملك هذه الشفاعة. ولهذا لم يطلب أحد من الصحابة رضوان الله عليهم الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وهو حي، وإنما كانوا يطلبون منه أن يدعو الله لهم، أما الشفاعة فإنها تكون يوم القيامة. الرد الثاني: أن يوم القيامة لا يشفع فيه الرسول فقط، بل الملائكة يشفعون، والشهداء يشفعون، والصالحون يشفعون، والعلماء يشفعون، فلماذا لا تطلبون هذه الشفاعة منهم الآن أيضاً؟! فإن قالوا: نعم نطلبها منهم الآن، نقول: وقعتم في الشرك الذي وقع فيه المشركون، كما قال الله عز وجل: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، وحينئذ يلزمكم أن تعبدوا وأن تطلبوا الشفاعة من هؤلاء جميعاً، وهم لا يقولون بذلك، وإن قالوا: إنا لا نطلب من هؤلاء الأولياء من الصالحين والشهداء والملائكة الشفاعة الآن؛ لأنهم لا يملكونها الآن، فإننا نقول: وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لا يملكها الآن، وإنما يملكها يوم القيامة، والدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره لا يملك الشفاعة الآن هو أن الله عز وجل بين أن الشفاعة عنده لا تنفذ ولا تنفع إلا بإذنه، فإذا كان الإنسان يطلبها من النبي صلى الله عليه وسلم الآن وتحصل له فما هي فائدة ربطها بالإذن؟! فهذا يدل على أن الشفاعة لا تملك الآن. الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في قصة الحشر والبعث يوم القيامة إذا اجتمعوا بين يدي الله عز وجل قوله: (أنا أول شافع وأول مشفع)، والأولية هنا في قوله: (أنا أول شافع)، تدل على أنه لو كان هناك أحد يشفع الآن في زمن البرزخ أو في زمن الحياة لما كان هو الأول، فقوله: (أنا أول شافع) يدل على أن الشفاعة لا تكون إلا يوم القيامة بعد إذن الله سبحانه وتعالى ورضاه عن المشفوع. وهذا يدل على أن عقيدتهم في الشفاعة عقيدة فاسدة وباطلة، ونحن لا ننكر الشفاعة المثبتة التي أثبتها الله عز وجل وأثبتها الرسول صلى الله عليه وسلم بشروطها الشرعية يوم القيامة بعد إذن الله ورضاه عن المشفوع، وأما طلبها الآن فلا شك في أنه شرك؛ لأنه طلب من المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى.

الرد على شبهة حصر الشرك في صرف العبادة لمن تعتقد ربوبيته

الرد على شبهة حصر الشرك في صرف العبادة لمن تُعتقد ربوبيته الشبهة السادسة: خلل في مفهوم الشرك، كما أن عند القبوريين خلل في مفهوم التوحيد، حيث اعتبروا التوحيد هو توحيد الربوبية فقط، وأن التوحيد الذي يكون الإنسان به موحداً هو أن يعتقد أن الله هو الخالق، الرزاق، المحيي، المميت وحده، ولو أنه عبد غير الله في الأعمال بدون ربط ذلك بالخلق والإيجاد، فلا يعتبرونه مشركاً. وكذلك حصل الانحراف عندهم في موضوع الشرك، فجاءوا إلى مفهوم الشرك وقالوا: الشرك هو أن يصرف شيئاً من الأفعال والأعمال التعبدية لمن يعتقد فيه الربوبية، أما من لم يعتقد فيه الربوبية فليس صرف العبادة له بالشرك، ولهذا قالوا: نحن لسنا من المشركين ولو صلينا لأهل القبور، وسجدنا لهم، أو ذبحنا لهم، أو طلبنا الشفاعة منهم؛ لأننا نعتقد أنهم لا يملكون الخلق والرزق والتدبير، لأن الذي يملك ذلك هو الله، ونحن نقول لهم: إن اعتقاد امتلاك الخلق، والرزق، والتدبير شرك في الربوبية، وهو نوع من أنواع الشرك. ومن أنواع الشرك أيضاً أن يصرف الإنسان نوعاً من أنواع العبادة لغير الله، كأن يطوف بقبر، أو يذبح لغير الله، أو يستغيث بغير الله، ولو كان لا يعتقد أنه هو الخالق والرازق؛ لأن المشركين كانوا لا يعتقدون أن الخالق والرازق هي تلك الأصنام، بل يعتقدون أن الخالق والرازق هو الله عز وجل، ومع ذلك بين الله سبحانه وتعالى أنهم وقعوا في الشرك عندما صرفوا لها شيئاً من أنواع التعبدات بالجوارح أو بالقلوب أو بالألسنة. فعندما يقولون: نحن لسنا مشركين، نسألهم فنقول: ما هو الشرك؟ فإذا قالوا: الشرك عبادة الأصنام، نقول لهم: وما معنى عبادة الأصنام؟ وإذا قالوا: إن الشرك هو التعبد لغير الله، أو عبادة غير الله، نقول: وما معنى عبادة غير الله؟ فمثل هذه المصطلحات لا بد من تحريرها؛ لأن الخلاف بيننا وبينهم هو في مفاهيم هذه المعاني الشرعية، فهم يخالفوننا في مفهوم التوحيد، ويخالفوننا في مفهوم الإيمان، ويخالفوننا في مفهوم الشرك، ويخالفوننا في مفهوم الكفر، ويخالفوننا في مفهوم العبادة. فلا بد من أن نعرف ماذا يعنون بهذه المصطلحات إذا قالوها؛ لأنهم قد يقولونها وفي أذهانهم مساحة معينة لها، ولها عندنا مساحة أخرى، فلا بد من الاستفصال، وهذه المسألة تسمى مسألة المصطلحات، وهي مسألة حساسة جداً، فلا بد من معرفة مراد المتكلم بهذا المصطلح، ففي اللغة العصرية الجديدة يقولون: لا بد من أن يكون عند الدعاة انفتاح فكري، فلا بد من أن نقول: ما معنى الانفتاح؟ بدلاً من أن نقول: عندنا انفتاح فكري، ونحن لا نعرف يعنون بهذا الانفتاح، فقد يقصدون بقولهم: ليس عندكم انفتاح معنى أنكم أناس منغلقون على الشريعة التي عندكم، وليس عندكم استعداد لأن تقتنعوا بالنظريات الغربية في الحياة الموجودة الآن، سواء في مجال العلوم الإنسانية مثلاً، أو الفلسفية، أو السياسة، أو في أي باب من الأبواب. ومعنى هذا أن هؤلاء الذين يريدون الانفتاح يريدون أن نترك ديننا، وأن ننفتح على الغرب ونأخذ ما عندهم من العقائد الفاسدة باسم التنوير والتطوير، وحينئذ نكون منفتحين. فنقول: هذا انفتاح لا نريده؛ لأنه انفتاح فاسد، وهو انفتاح يقتضي التخلي عن أحكام الشريعة، فإن ظننتم أن الشريعة نفسها لا تحث الإنسان على العلم والنظر والتفكير فهذا ظن فاسد، وظن سوء في الشريعة. والشاهد هو أن المصطلحات لا بد من تحريرها وتحديدها عند المناقشة.

الرد على شبهة تكفير المشركين بغير عبادة الأصنام

الرد على شبهة تكفير المشركين بغير عبادة الأصنام الشبهة السابعة: هي أنهم قالوا: إن سبب تكفير الله عز وجل للمشركين الأوائل ليس هو مجرد أنهم كانوا يعبدون غير الله كعبادة الأصنام، وإنما كانوا يكفرون بالقرآن، وبنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وبالإسلام، فكيف تشبهوننا بهؤلاء المشركين؟! فهؤلاء المشركين يكفرون بالقرآن ونحن نؤمن به! وهؤلاء المشركون يكفرون بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نؤمن بها! وهؤلاء المشركون يكفرون بالإسلام ونحن نؤمن به! فكيف تشبهوننا بهؤلاء؟ فنقول لهم في الرد و A إن الإنسان لو كان مؤمناً بكل أحكام الدين ثم أنكر الصلاة فقط فهل يكون كافراً أم لا؟ والجواب: أنه يكون كافراً بإجماع العلماء. ولو كان مقراً بكل شيء وأنكر الزكاة فهل يكون كافراً أم لا؟ ولهذا قاتل الصحابة الذين أنكروا الزكاة وسموهم مرتدين، ولو أن إنساناً أقر بكل شيء في أحكام الدين إلا أنه أنكر الحكم بما أنزل الله، وقال: لا نحكم بما أنزل الله فهل يكون كافراً؟ والجواب: يكون كافراً. إذاً: لا بد من أن يعلم الإنسان أن كونه مقر بالقرآن، وبنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وبالإسلام، مع إنكاره لشيء واحد لا يعني أنه يكون غير كافر، فإذا أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة -ولو كان أمراً واحداً- فإنه يكفر، حتى ولو كان يقول: لا إله إلا الله، ويصلي، ويصوم، ويزكي، أو كان يعمل أي عمل من الأعمال الصالحة، ما دام أنه أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة ليس فيه خلاف ولا إشكال. وأنتم -أيها القبوريون- أنكرتم عبادة الله عز وجل، وصرفتم العبادة لغير الله، فلو أقررتم بنبوة الرسول، وأقررتم بالقرآن، وأقررتم بكل أحكام الإسلام، ثم صرفتم العبادة لغير الله عز وجل، فهذا وحده كاف في أن يكفركم وأن يخرجكم من الدين. ولهذا فإن كثيراً من الناس يشغب على أهل السنة ويقول: هؤلاء تكفيريون، وهؤلاء يشتغلون بالتكفير، ونحن نقول: إن أي دين ليس فيه تكفير فإنه ليس بدين، إذ لا بد من أن يكون له حياض، وإلا فلو أن إنساناً جاءنا وأنكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وكفرناه، فقال: لا تكونوا تكفيريين، فتركنا تكفيره، ثم جاء واحد آخر وأنكر القرآن فما كفرناه، ثم جاء آخر وأنكر وجود الله فما كفرناه، ثم جاء آخر وسب الله فما كفرناه، فإنه بهذه الطريقة لا يكون لنا دين أصلاً. فنحن نكفر هؤلاء الذين أنكروا معلوماً من الدين بالضرورة وليقل الناس ما شاءوا، فلا يهمنا ذلك، بل ما يهمنا هو أننا منضبطون بالنصوص الشرعية، وأننا لا نكفر إلا من كفره الله، فلا نكفر اعتباطاً، وإنما نكفر من كفره الله سبحانه وتعالى، وكفره الرسول صلى الله عليه وسلم بالأدلة الواضحة البينة المقنعة التي ليس فيها إشكال ولا جدال. والشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذه الشبهة أطال الكلام في ذكر الأمثلة التي يكفر الإنسان بسببها، فذكر مثال الصلاة والحج والصيام وغير ذلك من الأحكام وأطال في ذلك وذكر أمثلة متعددة.

الرد على شبهة عصمة الدم والمال بنطق كلمة التوحيد

الرد على شبهة عصمة الدم والمال بنطق كلمة التوحيد الشبهة الثامنة: هي شبهة المرجئة المشهورة، وهي أن من قال: لا إله إلا الله فإنه يعصم دمه وماله ولا يقتل ولا يكفر، واستدلوا على ذلك بحديث إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد عندما قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، والحديث هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أسامة: (أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟!)، وذلك أن أسامة بن زيد تصارع مع رجل من المشركين في إحدى السرايا، فهرب المشرك من أسامة فطلبه أسامة، فلما علاه بالسيف قال: (لا إله إلا الله) فقتله، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: (أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!) فقال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً، يعني: قالها خوفاً من السيف، فقال: (أشققت عن قلبه؟). ونحن نعامل الناس بالظاهر، فمن قال: لا إله إلا الله، فإنا نكف عنه القتل ثم نطالبه بالعمل، فإذا عمل بأحكام الإسلام صار من المسلمين، لكن لو قال: (لا إله إلا الله) ثم اشتغل بالكفر كأن -سجد لغير الله، أو مزق المصحف، أو نقض لا إله إلا الله بأي ناقض من النواقض- فإنه يكفر، فقول (لا إله إلا الله) يكفي في مسألة عصمة دم ونفس من قالها ابتداء، ثم ينظر في حاله، فإن أسلم واستمر على الإسلام وحسن إسلامه فهذا هو المسلم، وأما إذا لم يستمر على إسلامه، وارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام فإننا نستتيبه؛ فإن تاب وإلا قتل وهو غير مسلم. فهذه شبهة ليست في مكانها، ولهذا أجمع الفقهاء على أنه الفقهاء لو أن إنساناً قال: (لا إله إلا الله) وجحد الصلاة فإنه يكفر، أو قال: (لا إله إلا الله) وجحد الصيام فإنه يكفر، ولو قال: (لا إله إلا الله) وجحد العبادة يكفر، ولو قال: لا إله إلا الله وجحد أي أمر من الأمور الشرعية فإنه يكفر بإجماع الفقهاء، ويقتل مرتداً، ولهذا فإن الفقهاء عندهم باب من أبواب الجنايات يسمى (باب حكم المرتد)، ويقولون فيه: إن الذي يرتد عن الدين يقتل ردة.

الرد على شبهة استغاثة الناس بالأنبياء يوم القيامة لفصل القضاء

الرد على شبهة استغاثة الناس بالأنبياء يوم القيامة لفصل القضاء الشبهة التاسعة: استدلوا بأن الناس -كما في حديث الشفاعة الطويل- يأتون يوم القيامة ويستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، وجاءت لفظة (يستغيثون) في صحيحي البخاري ومسلم، فقالوا: إذا كان الناس يستغيثون يوم القيامة بآدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وهم أنبياء، فلماذا تكفروننا إذا استغثنا بهم الآن؟ والجواب على هذا هو التفريق بين أنواع الاستغاثة، فالاستغاثة تنقسم إلى قسمين: استغاثة فيما يقدر عليه المخلوق، وهذا مباح ولا شيء فيه، واستغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى. فالاستغاثة التي يستغيث بها الناس يوم القيامة معناها أنهم جاءوا إلى الأنبياء وطلبوا منهم أن يدعوا الله عز وجل ويطلبوا منه سبحانه وتعالى أن يخفف عنهم ما هم فيه. فهذا من النوع المباح في الاستغاثة، وهو كما تستغيث بصديق لك ليعطيك مالاً، أو ليعطيك كتاباً وهو قادر عليه، فهذا لا شيء فيه، ويصبح معنى الاستغاثة حينئذ: طلب الغوث، وهو النجدة، ولهذا يقول الله عز وجل: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15]. يعني: طلب منه الغوث فيما يقدر عليه، وهو أن يمنعه من هذا الفرعوني الذي يريد أن يؤذيه.

الرد على شبهة عرض جبريل إغاثته على الخليل حين ألقي في النار

الرد على شبهة عرض جبريل إغاثته على الخليل حين ألقي في النار الشبهة العاشرة: هي قصة إبراهيم عندما ألقي في النار، ففيها أنه لما ألقي في النار اعترض له جبريل في الهواء فقال: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم عليه السلام: أما إليك فلا، فقالوا: لو كانت الاستغاثة شركاً لما عرضها عليه جبريل. والجواب على هذا سهل جداً، وهو أن هذا الخبر ليس صحيحاً، ولم يرد بإسناد صحيح ولا ضعيف، فالخبر لا أصل له كما يعبر المحدثون، وهو مثل حديث (تعلموا السحر ولا تعملوا به) فهذا حديث لو بحثت عنه فلن تجد له أصلاً في الكتب التي خصصها العلماء للأحاديث الموضوعة. والأمر الثاني: أنه لو تنزلنا وقلنا: إن هذا الحديث صحيح فإننا نقول: إن جبريل عرض له ما يستطيع عليه، وهو أن يأخذه من الهوى وهو قادر على ذلك، ولكن لا نحتاج إلى هذا التنزل؛ لأن هذا الخبر مكذوب ولا يصح، فلا يكون مقبولاً. هذه هي الشبهات التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في هذا الكتاب الصغير المليء بالعلم والفائدة، وهو (كشف الشبهات). ونكون بهذا قد انتهينا من موضوع شبهات القبوريين، وهي أكثر من هذا، ولكن اقتصرنا على هذا الكتاب لأننا لا نريد الإطالة.

الشفاعة وأقسامها

الشفاعة وأقسامها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب الشفاعة: وقول الله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:51]، وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]، وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:22]. وقال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك، أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، وقال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه). فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه]. هذا النص مأخوذ من (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)، وبهذا يتبين من خلال النصوص الواردة في الشفاعة أنها تنقسم إلى قسمين: شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة. فأما الشفاعة المنفية: فهي الشفاعة التي ادعاها المشركون، وأما الشفاعة المثبتة: فهي الشفاعة الثابتة في القرآن والسنة بشروطها، وهي: الإذن، والرضا عن المشفوع بأن يكون من أهل التوحيد، ويكون ذلك يوم القيامة.

التوسل وأقسامه

التوسل وأقسامه التوسل معناه: الدعاء والطلب بوسيلة. والتوسل ينقسم إلى قسمين: توسل مشروع، وتوسل ممنوع.

التوسل المشروع

التوسل المشروع فأما التوسل المشروع: فهو التوسل -أولاً- بأسماء الله وصفاته، وثانياً بالإيمان والعمل الصالح، وثالثاً: بدعاء أحد الصالحين. فهذه ثلاثة أنواع من أنواع التوسل المشروع، أما التوسل إلى لله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى، فيقول الله عز وجل فيه: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، فقوله: {فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] يعني: اطلبوه بها، وبواسطتها وبوسيلتها، كأن تقول: اللهم إنك أنت الرحمن الرحيم الواحد الأحد الفرد الصمد، فاغفر ذنبي، وهكذا. النوع الثاني: هو التوسل إلى لله عز وجل بالأعمال الصالحة، ومثاله قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، فدعا كل واحد منهم الله عز وجل بصالح عمله. النوع الثالث: هو التوسل إلى الله عز وجل بدعاء الرجل الصالح، وهذا وارد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبون منه أن يدعو لهم، كما في قصة حديث الأعمى على القول بأنه صحيح، فالأعمى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يدعو الله له، فلما دعا الله عز وجل سأل الله عز وجل بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم شفعه في وشفعني فيه) فهذه هي أنواع التوسل المشروع.

التوسل الممنوع

التوسل الممنوع أما التوسل الممنوع فينقسم إلى قسمين: توسل بدعي، وتوسل شركي. أما التوسل البدعي: فهو التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأي وسيلة من الوسائل غير الثلاث السابقة، مثل التوسل إلى الله عز وجل بجاه فلان من الصالحين، أو بمنزلة فلان من الصالحين. فهذه بدعة؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذن فيها، والعبادات مبنية على التوقيف، ولا يصح للإنسان أن يشرع في دين الله عز وجل ما ليس منه، فلا يصح للإنسان أن يدعو الله عز وجل بجاه فلان من الصالحين أو بمنزلته، ثم إن جاه فلان ومنزلته ليس له أي ارتباط عملي وسببي من الناحية الشرعية ولا من الناحية الطبيعية، فليس هناك أي ارتباط. وهناك نوع من أنواع التوسل فيه خلاف بين العلماء، وهو التوسل إلى الله عز وجل بذات النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يجوز للإنسان أن يتوسل إلى الله عز وجل بذات النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: اللهم إني أسألك بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو: أسألك بجاه محمد صلى الله عليه وسلم؟! فهذه الصيغة موطن خلاف بين العلماء، والصواب أنها لا تجوز؛ لعدم ورود الدليل الواضح الذي يدل على جوازها. وغاية ما عند الذين أجازوا هذه الصيغة هو التعلق بحديث الأعمى، وحديث الأعمى فيه إشكالان: الإشكال الأول: أن الحديث لم يثبت عند كثير من العلماء. الثاني: أن الحديث فيه غموض وفيه مواطن مشكلة. ولهذا لا يصح الاستدلال بالحديث الذي فيه غموض ومواطن مشكلة في قضية عقدية كهذه، ولكن هل نتهم من يجوز الدعاء بجاه النبي صلى الله عليه وسلم بالبدعة؟ و A لا نتهمه بالبدعة. فإن قيل: فما هو الفرق بين التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم -بمعنى: دعاء الله بجاه النبي صلى الله عليه وسلم- وبين دعائه بجاه أي شخص آخر؟ قلنا: هناك فرق: فجاه غيره لم يرد فيه أثر ولا حديث، فهو بدعة. وأما جاه النبي صلى الله عليه وسلم فورد فيه حديث مشكل، فإذا اجتهد أحد العلماء وأجاز ذلك -لا سيما أنه ورد عن بعض الصحابة أنه كان يجيز ذلك- فيكون هذا من الاجتهاد الذي يعذر فيه صاحبه، لا نبدعه ولا نعصمه في نفس الوقت، وإنما نقول: الصواب هو ترك هذا لضعف حديث الأعمى، ولغموض الاستدلال به. ثانياً: التوسل الشركي، وهذا -في الحقيقة- ليس توسلاً، وإنما أدخلناه في التوسل لأن القبوريين يسمونه توسلاً، والتوسل الشركي هو دعاء غير الله عز وجل والاستغاثة بغيره، كدعاء الأولياء والأنبياء. فنحن نقول: أولاً إن تسميتكم إياه توسلاً خطأ. الأمر الثاني: إنكم لو سميتموه توسلاً فإنا سندخله في التوسل الشركي، فكونكم سميتموه توسلاً لا يعني أنه سيكون من نوع التوسل المشروع، أو أنه داخل في حديث الأعمى؛ لأن حديث الأعمى الدعاء فيه واضح لله، ففيه (اللهم إني أسألك)، وليس فيه (يا محمد! أدخلني الجنة وأخرجني من النار). والاستغاثة بغير الله أمرها محكم، فهي من الشرك بغير خلاف بين العلماء المعتبرين، وأما القبوريون فلا يعتبر بهم في هذا الصدد، وخطأناهم في اعتبارهم الاستغاثة بغير الله توسلاً لأن التوسل معناه: الطلب بوسيلة، والاستغاثة معناها: الطلب مباشرة. فالتوسل هو: طلب الله بوسيلة، والاستغاثة ليس فيها طلب لله أصلاً، وإنما الطلب فيها لغير الله، فلا تصح تسميتها توسلاً. ولهذا ناقش هذه القضية كثيراً ابن تيمية رحمه الله في الرد على البكري في كتاب (الاستغاثة والرد على البكري)، وفي كتاب (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)، وفي: (الجواب الباهر)، وناقشه -أيضاً- أئمة الدعوة في كثير من كتبهم، وبينوا الخلط الوارد عند القبوريين في هذه المسألة، وأن الصحيح هو أن نقول: إن التوسل أصبح مصطلحاً مجملاً قد يريد به أشخاص معاني هي في الحقيقة ليست توسلاً، ولكنهم يسمونها توسلاً، فلا بد من التفصيل فيها. فنقول: إن أردت بالتوسل دعاء غير الله فهذا ليس توسلاً، وهو شرك، وإن أردت بالتوسل دعاء الله بوسيلة فبحسب نوع الوسيلة، فإن كانت بالثلاث السابقة فهذا مشروع، وإن كانت بجاه النبي صلى الله عليه وسلم فهذا فيه خلاف، والصواب عدم جوازه، وإن كانت بجاه غير النبي صلى الله عليه وسلم فهذا بدعة، وهو ليس من السنة في شيء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]: ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]، قال: يشركون. وعنه: سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز. وعن الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها]. سبق أن تحدثنا عن الشطر المتعلق بإنكار الأسماء والصفات في موضع سابق، وأما ما يتعلق بالتوسل فهو واضح في الآية: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وهذا نوع من أنواع التوسل المشروع كما سبق بيانه.

الأسئلة

الأسئلة

خرافة سماع صوت امرأة عن طريق التلفون تعذب بسبب تركها للصلاة

خرافة سماع صوت امرأة عن طريق التلفون تعذب بسبب تركها للصلاة Q انتشرت شائعة بين الناس أن هناك رقماً يتصل به فيُسمع صوت امرأة تعذب بسبب تركها للصلاة، وقد سجل حارس ثلاجة هذا، فما رأيكم في هذا؟ A هذه خرافة من الخرافات، ولو كانت موجودة فلا يصح أن تنتشر بين الناس، وانتشار الخرافة بين الناس صار بشكل عجيب، ومثل هذا الرقم يجب أن يوقف من شركة الاتصالات. وهناك خرافة ثانية انتشرت أيام تدمير برجي التجارة العالمي في الحادي عشر من سبتمبر، حيث يقولون: إن هذا التدمير وارد في القرآن، واستدلوا بأرقام الآية، وهي: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة:109]. فأخذوا كلمة (انهار) وقالوا: هذه الكلمة في هذه الآية هي في الجزء الحادي عشر، ورقم السورة تسعة، وسبتمبر هو الشهر التاسع، إذاً: هي المقصودة. وهذا عبث في تفسير كلام الله عز وجل، وهو أمر خطير على عقيدة الإنسان، وبعضهم قد يصنع ذلك بحسن نية، لكنه جاهل، والواجب أن مثل هؤلاء الجهال لا يتكلمون، ولو أن كل جاهل سكت أو سأل من هو أعلم منه لما حصل في الناس مشاكل.

كيفية التوسل بدعاء الصالحين

كيفية التوسل بدعاء الصالحين Q نريد مثالاً واحداً على كيفية التوسل بدعاء الصالحين؟ A مثال ذلك أن تأتي إلى أحد الصالحين ليدعو لك، وبعد أن يدعو لك تدعوا الله عز وجل وتقول: اللهم إني أسألك بدعاء الرجل الصالح الذي دعاك أن تقبل هذا الدعاء ولكن بعد أن يدعو لك ذلك الرجل الصالح.

الحكم على حديث: (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي)

الحكم على حديث: (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي) Q ما رأيكم فيمن استدل بحديث: (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم)؟ A هذا الحديث غير صحيح.

بيان معنى الوسيلة

بيان معنى الوسيلة Q ما معنى قوله: (اللهم آت محمداً الوسيلة)؟ A الوسيلة: هي منزلة عند الله عز وجل لا تكون إلا لعبد واحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرجوها.

توجيه معنى استسقاء عمر بالعباس

توجيه معنى استسقاء عمر بالعباس Q ما قولكم في حديث عمر أنه استسقى بـ العباس رضي الله عنه؟ A المراد باستسقائه طلب منه الدعاء، إذ جاء إلى العباس وقال: ادع الله عز وجل أن يسقينا، فرفع العباس يديه ودعا الله عز وجل، ودعا الناس بدعائه، فسقاهم الله عز وجل، وهذا نوع من أنواع التوسل المشروع، وهو التوسل بدعاء الصالحين، ولم يدعوا الله بجاه النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم كانوا في المدينة، وجاه النبي صلى الله عليه وسلم له منزلة، مما يدل على أن تركهم كان مقصوداً.

أسس دعوة أصحاب الشبهات من أهل البدع

أسس دعوة أصحاب الشبهات من أهل البدع Q كيف ندعو الشيعة إلى الله عز وجل، خاصة الزيدية، حيث يكثرون في الحرم؟ A دعوة أصحاب الشبهات تحتاج إلى تأهيل علمي قبل أن تدعوهم، وبحيث تكون لديك القدرات العلمية في معرفة العقيدة الصحيحة والرد على الفرق، فتستطيع أن ترد عليهم، ويكون عندك منطق وحجة وقدرة على الحجاج والمناقشة. أما أن تتعرض لأهل البدع وأهل الضلالة المنحرفين وليس عندك علم فقد تقع في الغواية والعياذ بالله، والإنسان لا يجعل دينه عرضة للخصومات كما قال عمر بن عبد العزيز.

الرد على الاستدلال بحياة الرسول في قبره على الاستشفاع به

الرد على الاستدلال بحياة الرسول في قبره على الاستشفاع به Q ما رأيكم فيمن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره فلذلك نحن نتقرب إلى الله ونتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ليشفع لنا، وكيف ترد عليه؟ A نقول: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم حياً في قبره فإنه ليس هناك ارتباط سببي بيننا وبينه، سواء من الجهة الشرعية أو من الجهة الطبيعية. ولهذا فالقبر كان موجوداً عند الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يثبت أن أحداً من الصحابة كان يأتي إليه ويطلب منه الوسيلة أو يطلب منه الدعاء كما كانوا يأتونه في حياته ويطلبون منه الدعاء، وبناء على هذا يعرف أن هذا الكلام ساقط ولا يصح الاعتماد عليه.

حكم الحكم بغير ما أنزل الله

حكم الحكم بغير ما أنزل الله Q هل نكفر من يحكم بغير ما أنزل الله، أم نقول: هي كفر دون كفر؟ A الحكم بغير ما أنزل الله أنواع وليس نوعاً واحداً، وكل نوع له حكمه الشرعي، فالذي ينكر الحكم بما أنزل الله كافر، والذي يستحل الحكم بغير ما أنزل الله كافر، والذي يعرض عن الحكم بما أنزل الله إعراضاً تاماً ويستبدله بشريعة يضعها من عنده ويشرع للناس كافر. أما الحاكم القاضي الذي يقر بأحكام الله سبحانه وتعالى، ولكن يحكم في المسألة والمسألتين لهوى وشهوة في نفسه فإنه لا يكون كافراً؛ لأنه معترف بأن أصل الحلال والحرام من عند الله عز وجل، ولم ينقض هذا الاعتراف بفعله، وفعله من جنس الذنوب والمعاصي.

ما يجزئ المرء في دينه

ما يجزئ المرء في دينه Q ما حكم من يصلي ويصوم ويزكي ويتصدق ولا يعرف منهج التوحيد، مثل كبير السن؟ A لا يشترط أن يقرأ كتاب التوحيد، بل يكفي أن يعرف أن الله عز وجل واحد، وأن العبادة يجب أن تصرف لله سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن تصرف لغيره سبحانه وتعالى، ولا يشرط أن يكون كاتباً ولا دارساً ليكون موحداً.

حكم تكفير المسلم

حكم تكفير المسلم Q إذا قال شخص لآخر: (يا كافر) فهل معناه الكفر المخرج من الملة؟ A الواجب هو الابتعاد عن التكفير بغير علم، فلا يجوز للإنسان أن يتهم أخاه بالكفر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما)، يعني: إما أن تقع عليه فعلاً إذا كان كافراً، وإما أن ترجع وتقع عليك إذا لم يكن كافراً.

حكم السفر إلى دول الكفر لطلب العلم

حكم السفر إلى دول الكفر لطلب العلم Q ما حكم السفر إلى دول الكفر لطلب العلم؟ A هذا فيه تفصيل، والأصل هو جواز الذهاب إلى بلاد الكفر للتعلم لحاجة، وأما لغير حاجة فالأصل عدم الجواز.

حكم سؤال الله شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

حكم سؤال الله شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم Q لو دعا رجل وقال: اللهم شفع في نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، أو قال: اللهم ارزقني شفاعة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فما حكم دعائه؟ A هذا جائز؛ لأن هذا دعاء لله، وهذا لم يطلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما طلبها من الله المالك لها.

حكم قتل الكافر وأخذ أمواله

حكم قتل الكافر وأخذ أمواله Q هل يجوز اغتيال الكافر وأخذ أمواله؟ A الكافر ليس نوعاً واحداً، بل الكفار أنواع، فهناك كافر محارب، وهذا يجوز قتله وأخذ ماله، ويكون ماله غنيمة، وهناك كافر بيننا وبينه عهد وميثاق؛ فهذا لا يجوز أن نقاتله إلا إذا نبذنا إليه عهده، أي: أخبرناه أنه لا عهد بيننا وبينه، وهناك نوع آخر من أنواع الكفار، وهم الرسل الذين يأتونا من الكفار برسالة معينة في قضية معينة، وهؤلاء لا يجوز قتلهم. وهناك الكافر المستأمن، وهو كمن يأتي ليعمل في شركة من الشركات وبينه وبين الحكومة عقد وله أمان، فهذا لا يجوز قتله. ونحن أمة الإسلام لا نغدر ولا نخون، والقتل في حد ذاته ليس هدفاً مقصوداً، وإنما المقصود هو كسر شوكة الكفر والكافرين، ولهذا ينبغي التنبه لهذه المسألة، فالكفار ليسوا صنفاً واحداً، فنحن عندما نتحدث عن الكفار وأنه يجوز قتلهم وأخذ أموالهم، وأنهم أعداء لله ولرسوله فهذا صحيح في الجملة، لكن عند التفصيل العملي نقول: الكافر إذا كان مستأمناً لا يجوز قتله؛ لأن هذا خيانة وغدر، فإذا كان بينك وبينه عهد فلا بد من أن تنبذ إليه وتخبره بأنه ما عاد بيني وبينك عهد، ثم تقاتله، أما إذا كان كافراً حربياً في أرض المعركة فإنه يجوز قتله، ولا إشكال في ذلك.

كتاب التوحيد [8]

كتاب التوحيد [8] الشرك كما يقع بالعمل والاعتقاد يقع كذلك بالألفاظ، وعامة شرك الألفاظ تعتبر من الشرك الأصغر، وهو أنواع كثيرة يدخل فيها الحلف بغير الله، والتشريك بين الله وخلقه في الألفاظ، وإضافة الأشياء إلى غير الله، وعدم تعظيم الله تعالى في الدعاء ونحو ذلك. ومنه الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، وهذا من الشرك الأكبر عياذاً بالله.

تعظيم قول اللسان وخطره

تعظيم قول اللسان وخطره بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا هو الدرس الأخير الذي به نختم كتاب التوحيد للشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى. وهذا الدرس -إن شاء الله- سيكون محوره حول شرك الألفاظ، وقبل أن نستعرض الأبواب الموجودة في شرك الألفاظ أحب أن أنبه إلى مجموعة من القواعد المتعلقة بشرك الألفاظ، وقبل أن نبدأ بهذه القواعد أحب أن أمهد بقضية مهمة جداً، وهي قضية تعظيم قول اللسان وخطره. فنحن نعلم أن الإنسان يحاسب على ثلاث جوارح، أولاً: القلب، ثانياً: جوارحه الظاهرة، ثالثاً: قول اللسان، يقول الله عز وجل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] ويقول الله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فكل كلمة يتكلم بها الإنسان هو مسئول عنها يوم القيامة. وجاء في حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر بخطر اللسان قال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) فاللسان خطره عظيم، وكثير من الناس يتساهل في كلام اللسان وهذا خطأ، فالنكاح واستحلال الفروج يكون باللسان، والطلاق يكون باللسان، والكفر يكون باللسان، والإسلام يكون باللسان، فالإنسان يقول: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) فيدخل في الإسلام، ولو لم يقلها -حتى ولو كان مصدقاً بقلبه- لما دخل في الإسلام، والكفر يكون باللسان أيضاً، مثل الاستهزاء بالله أو برسله أو بآياته أو نحو ذلك، فهذا كله من الكفر ويكون باللسان، فاللسان شأنه شأن بقية الجوارح يحاسب عليه الإنسان استقلالاً. ونقرأ أحياناً بعض الكلمات التي قد يتساهل بعض الناس فيها، فيستغرب الإنسان من اعتبارها من الشرك مع أنها أصبحت عادة كثيرٍ من الناس مع الأسف الشديد. ونقول: نعم هذه من الشرك، وسيحاسب الإنسان عليها حتى ولو اتخذها بعض الناس عادة، وأصبحت أمراً مألوفاً في كلامه وخطابه. إذاً: لا بد من أن يضبط المرء كلامه كما يضبط جوارحه وكما يضبط أعمال قلبه، فكل هذه الجوارح لا بد للإنسان من أن يضبطها بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

قواعد عامة في دراسة شرك الألفاظ

قواعد عامة في دراسة شرك الألفاظ وهناك مجموعة من القواعد سأشير إليها في محور شرك الألفاظ: القاعدة الأولى: تعتبر عامة شرك الألفاظ من الشرك الأصغر؛ لأنه ليس فيه عبادة تصرف لغير الله عز وجل، إلا الدعاء والاستغاثة وما يتبع ذلك من العبادات. أما الشرك الذي ستأتي الإشارة إليه، مثل قوله: لولا الله وفلان، وما شاء الله وشئت، ومثل التعبيد بغير الله، كعبد الكعبة وعبد الحسين ونحو ذلك، فكل ذلك لا يصل إلى الشرك الأكبر؛ إذ ليس في ذلك عبادة تصرف لغير الله عز وجل، فهي من جنس الشرك الأصغر، إلا الدعاء بضوابطه التي سبق أن أشرنا إليها، وكذلك الاستغاثة والاستعانة والاستعاذة، فهذه كلها جنس واحد تدخل في عموم الدعاء، فتكون شركاً أكبر بالضوابط التي سبق أن أشرنا إليها. القاعدة الثانية: أن شرك الألفاظ أنواع، وقد حاولت أن أحصر الأنواع الموجودة في كتاب التوحيد في أربعة أنواع. النوع الأول: الحلف بغير الله، والنوع الثاني: التشريك بين الله وخلقه، والنوع الثالث: إضافة الأشياء إلى غير الله، والنوع الرابع: عدم تعظيم الله سبحانه وتعالى، فهذه الأنواع الأربعة تجتمع حولها جميع الألفاظ التي ذكرها الشيخ في كتاب التوحيد من الألفاظ الشركية، ولهذا سيأتي معنا عند الحديث التفصيلي أمثلة، وسنرد كل مثالٍ من هذه الأمثلة إلى واحد من هذه الأنواع الأربعة، فإما أن يكون حلفاً بغير الله، وإما أن يكون تشريكاً في اللفظ بين الله وبين خلقه، سواءٌ أكان بالواو أم بالتعبيد أم بغيرهما كما سيأتي معنا، وإما أن يكون إضافة أسباب وأشياء إلى غير الله سبحانه وتعالى، وإما أن يكون عدم تعظيمٍ لله سبحانه وتعالى، وعدم معرفة لقدره ومكانته سبحانه وتعالى. القاعدة الثالثة: أن الألفاظ الشركية التي ذكرها الشيخ تنقسم إلى قسمين: قسم يمكن اعتباره شركاً بدون النظر إلى قصد قائله، مثل الحلف بغير الله، والاستهزاء بكلام الله أو بكلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو نحو هذا. وقسم يفتقر إلى معرفة قصد صاحبه، مثل إضافة بعض الأشياء إلى غير الله عز وجل بـ (لولا) أو (لو) أو نحو ذلك، فهذه يُحتاج إلى أن نعرف ما يقصد صاحبها، فهل يقصد تعظيم السبب أم لا؟ وستأتي الإشارة إلى ذلك عند الكلام المفصل. القاعدة الرابعة: أن الألفاظ الشركية التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تدخل في الشرك إذا قالها على سبيل التعظيم، أما من تعود على قولها من غير قصد التعظيم فإن بعضها يكون من جنس يمين اللغو، وهو منهي عنه، ويجب أن ينهى عنه. ويمكن أن نختم هذه القواعد بالإشارة إلى أهمية معرفة أن قول اللسان منه ما يكون كفراً أصغر، ومنه ما يكون كفراً أكبر، كما أن أعمال الجوارح منها ما يكون كفراً أكبر، ومنها ما يكون كفراً أصغر، وكذلك أعمال القلوب منها ما يكون كفراً أكبر، ومنها ما يكون كفراً أصغر بحسب نوع القول أو الفعل أو الإرادة الشركية أو الكفرية، ولكن القاعدة الأولى أردت بها الألفاظ الشركية التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في هذا الكتاب كما سيأتي تفصيله بإذن الله تعالى.

ذكر ما يقع به الشرك من الألفاظ

ذكر ما يقع به الشرك من الألفاظ قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]. قال ابن عباس في الآية: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتِكِ يا فلانة، وحياتي، وتقول: لولا كليبةُ هذا لَأَتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك، رواه ابن أبي حاتم. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك) رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم، وقال ابن مسعود: لأن أحلفَ بالله كاذباً أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقاً. وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان) رواه أبو داود بسند صحيح، وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك، ويُجوِّز أن يقول: بالله ثم بك، قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا يقول: لولا الله وفلان]. نلحظ أن ابن عباس رضي الله عنها فسر آية البقرة: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] بأن المراد بها الألفاظ الشركية، وهذا التفسير ليس المراد به الألفاظ الشركية فقط، وإنما هذا من باب التفسير بالنوع، فالسلف رضوان الله عليهم كانوا يفسرون بعض الآيات بذكر نوعٍ من أنواع المفسر، ومثال ذلك قول الله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] يقول بعض المفسرين في قوله: (بحبل الله): هو القرآن، وبعضهم قال: هو الإسلام، وبعضهم قال: هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضهم قال: هو اتباع هذا الدين، وهكذا يفسرون في بعض الأحيان المعنى المجمل بذكر نوع من أنواعه، وهو يدل على غيره، فهذا يسمى التفسير بالمثال. فالألفاظ الشركية التي أشار إليها ابن عباس رضي الله عنه هي جزءٌ من قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]، وهذا يدل على أن اللسان يقع منه الشرك كما يقع من الجوارح ومن القلب، وهذا فيه الرد على المرجئة الذين حصروا الشرك في القلب لحصرهم الإيمان والتوحيد في القلب فقط. ونلحظ أن الأمثلة التي ذكرها ابن عباس رضي الله عنه داخلة في الأنواع الأربعة السابقة التي أشرنا إليها، فقوله: (والله وحياتِك يا فلان، وحياتي) داخل في الحلف بغير الله، وسيأتي له باب مستقل، وقوله: (لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص) يدخل في إضافة الأشياء إلى غير الله عز وجل. فهو هنا أضاف النجاة من اللصوص إلى الكليبة، وهي سبب، وأضاف النجاة والابتعاد من اللصوص إلى البط، والبط سبب؛ لأنه إذا دخل اللصوص يرفع صوته ويصيح وينبه أهل الدار. ولا يصح أن نطلق على هذه الألفاظ شركٌ مطلقٌ، بل لا بد من التفصيل، فإن كان صاحبها يريد بها السببية المجردة -وهي سبب في حقيقة- فإنها حينئذٍ لا تكون من الشرك، وأما إذا أراد الاعتماد على السبب وتعظيم هذا السبب وبيان أهميته ومكانته فهي داخلة في الشرك الأصغر. إذاً: لا بد من التفصيل في مثل هذه المضافات، فإذا أضاف الإنسان شيئاً من الأشياء إلى غير الله عز وجل فإنه ينظر: هل هو سبب في حصول هذا الشيء أم ليس بسبب؟ فإن كان سبباً فإنه ينظر إلى قصد قائله فهل هو معظم لهذا السبب أم ليس بمعظم لهذا السبب، فإن كان ليس بمعظم لهذا السبب فلا بأس، وإن كان معظماً له فهو داخل في الشرك الأصغر، وإن كان ما أسند إليه ليس بسببٍ شرعاً ولا قدراً فهو داخل في الشرك الأصغر، وهو يدخل فيما سبق التنبيه عليه في باب الرقية والتبرك والتمائم ونحو ذلك. وقوله: (وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت) داخل في التشريك بين الله وخلقه بلفظ الواو، والواجب أن يقول: (ما شاء الله ثم شئت) وهذه أيضاً لا يصح أن يطلق عليها أنها من الشرك الأصغر مطلقاً، إلا إذا أضيف إليها شيء من التعظيم لهذا المقرون بلفظ الجلالة، أما إذا لم يكن له مراد إلا مجرد الحكاية اللفظية فإنه لا يدخل في عموم الشرك الأصغر، وإنما يكون من الألفاظ المنهي عنها والمكروهة، ولا من الألفاظ المحرمة والداخلة في الشرك الأصغر. فقول الرجل: (لولا الله وفلان) دالٌ على التشريك في اللفظ، يقول ابن عباس: (لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك) وهذا الأثر المروي عن ابن عباس إسناده حسن إلى ابن عباس، وهو محتج

الشرك بالحلف بغير الله وقول ما شاء الله وشئت

الشرك بالحلف بغير الله وقول ما شاء الله وشئت قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب قول: ما شاء الله وشئت. عن قتيلة: (أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أردوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت) رواه النسائي وصححه]. هذا الحديث إسناده صحيح رواه أحمد أيضاً والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، ووجه الدلالة فيه هو بيان نوعين من أنواع شرك الألفاظ: النوع الأول: هو التشريك بين الله وخلقه في اللفظ بحرف الواو، كقوله: ما شاء الله وشئت، وفيه تشريك من نوع آخر، وهو إضافة السببية إلى العبد، وقد تكون على سبيل التعظيم في بعض الأحيان، ولهذا نهى الشرع عن استخدام هذه العبارة. والنوع الثاني: الحلف بغير الله، كقوله: والكعبة، فالكعبة مع أنها معظمة لا يجوز الحلف بها، وإنما يكون الحلف بالله سبحانه وتعالى، ولهذا قال: [فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة وأن يقولوا: ما شاء ثم شئت]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وله -أيضاً- عن ابن عباس أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده). هذا الحديث رواه النسائي بإسناد لا بأس به، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً) يدل على أن الشرك يدخل في الألفاظ، فهذا الرجل قال: ما شاء الله وشئت، فقال صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً؟!) يعني: أجعلت مشيئتي نداً لمشيئة الله سبحانه وتعالى؛ لأنه قال: (ما شاء الله) وكان الواجب أن يقول: (ثم شئت)، أو ما شاء الله وحده، فقوله: (بل ما شاء الله وحده) أفضل من قول: (ما شاء الله ثم شئت)، ولكن قوله: (ما شاء الله ثم شئت) مباح؛ لأنه ليس فيه تشريك، فالمذموم هو (ما شاء الله وشئت)، فكيف بالذي يقول: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار يقول هذا أحد الباطنية لزعيمٍ من زعمائهم، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى كما قال علماء السنة. قال: [ولـ ابن ماجة عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: (رأيتُ كأني أتيتُ على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته: قال: هل أخبرت بها أحداً، قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمةً كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده)]. هذا الحديث مثل الأحاديث السابقة، فإن لفظة (ما شاء الله وشاء فلان) -سواءٌ أكان المقصود النبي صلى الله عليه وسلم أم غيره- مذمومة من جهتين: الجهة الأولى: أنها تشريك مع الله سبحانه وتعالى بلفظ الواو. الجهة الثانية: أن فيها إثبات مشيئة الإنسان وإرادته في أمر من الأمور، والواجب أن يُفرَد الله سبحانه وتعالى بها فيقال: ما شاء الله وحده.

الشرك في سب الدهر

الشرك في سب الدهر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب من سب الدهر فقد آذى الله، وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]. وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار) وفي رواية: (لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر)]. المقصود بالدهر: الزمان والأوقات والأيام والليالي، فسب الدهر لا يجوز، والسبب في ذلك أن الدهر ليس له من الأمر شيء، ولا يعمل شيئاً بذاته، وإنما الذي يفعل هو الله سبحانه وتعالى، وليس الدهر سبباً في تدبير شيء، فهذا أمر. والأمر الثاني: أن الله عز وجل بين كونه سباً مذموماً، فقال: (وأنا الدهر أقلب الليل والنهار)، فمن سب الدهر وهو غير مالكٍ لشيء، فإن السب يعود إلى الله عز وجل المالك الذي دبر، فهو مذموم من ناحيتين. الناحية الأولى: أن فيه نسبة لشيء من التصريف للدهر. والناحية الثانية: أن هذا فيه سباً لله سبحانه وتعالى؛ لأن الدهر -في الحقيقة- ليس له أي تأثير، فيعود السب إلى المؤثر الذي سُبَّ الدَّهرُ من أجل تأثيره. وسب الدهر داخل في نوعين من أنواع الشرك: النوع الأول: التشريك بين الله وخلقه، ووجه التشريك في سب الدهر أن من سب الدهر فلا يمكن أن يسبه اعتباطاً، وإنما يسبه لأنه يعتقد أن له تأثيراً في شيء من الحوادث التي آذته والتي أزعجته. النوع الثاني: عدم تعظيم الله سبحانه وتعالى؛ لأن سب الدهر هو سبٌ لله سبحانه وتعالى، يقول الله عز وجل: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] وهذا فيه نفي لوجود الله عز وجل وتأثيره، ولهذا كانوا يقولون: ما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر، ولهذا كان يقول شاعرهم: أموتٌ ثم بعثٌ ثم حشرٌ حديث خرافةٍ يا أم عمرٍو يعني: لا يمكن أن يحصل شيءٌ من هذه الأشياء، ولهذا سموا دَهرية، قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] فذمهم الله سبحانه وتعالى. وجاء في الحديث الصحيح المروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر)، فلا يؤخذ من قوله: (وأنا الدهر) ومن قوله: (فإن الله هو الدهر) أن الله عز وجل اسمه الدهر، فليس من أسماء الله سبحانه وتعالى الدهر، ومن ظن أن من أسماء الله الدهر فقد أخطأ. وممن استدل بهذا الحديث على أن من أسماء الله الدهر ابن حزم الأندلسي رحمه الله. وقد أخطأ في ذلك، والسبب يعود إلى أمرين. الأمر الأول: أن الدهر ليس فيه مدح وليس فيه ثناء، وإنما هو الزمان والوقت، والزمان والوقت ليس فيه مدحٌ ولا ثناء، والله عز وجل وصف أسماءه بأنها حسنى، إذ يقول عز وجل: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، والحسنى على وزن (فعلى) يعني: التي بلغت الغاية في الحسن والجمال والكمال، والدهر ليس كذلك. والأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين معنى قوله: (وأنا الدهر)، فإنه قال: (وأنا الدهر أقلب الليل والنهار)، فالذي يأخذ من قوله: (وأنا الدهر) أن اسم الله هو الدهر يلزمه أن يعرب (وأنا الدهر) على أنها جملة تامة ليس لها أي ارتباط بالجملة التي تليها، وهي قوله: (أقلب الليل والنهار)، وهذا فهمٌ خاطئ للنص، فإن قوله: (أقلب) خبر ثانٍ، والمعنى: أنا المدبر لأمر الدهر، وليس المقصود أن اسمه الدهر.

الشرك في التسمي بقاضي القضاة وملك الملوك ونحو ذلك

الشرك في التسمي بقاضي القضاة وملك الملوك ونحو ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه. في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله)، قال سفيان: مثل شاهنشاه، وفي رواية: (أغيظُ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه) قوله: (أخنع) يعني: أوضع]. هذا الباب فيه نهي عن التسمي بقاضي القضاة وما شاكله من الألفاظ، مثل (ملك الأملاك)، و (زعيم الزعماء) وهكذا، وقول سفيان: (مثل شاهنشاه) شاهنشاه لفظة فارسية يقصد بها ملك الأملاك، أي: الملك المطلق الكبير الذي يشرف على الملوك جميعاً، ووجه النهي عن هذه اللفظة، وعلاقتها بشرك الألفاظ هو أن فيها تشريكاً بين الله وخلقه، فمن يسمي ملكاً من الملوك قاضي القضاة فمعنى ذلك أن هذا الملك مشارك لله عز وجل في القضاء المطلق، والله عز وجل وحده هو الذي يقضي بين العباد، ولهذا سيأتي معنا النهي عن التسمي بالحكم؛ لأنه اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، ومعناه أيضاً خاصٌ بالله سبحانه وتعالى. والحديث في الصحيح، والمنهي عنه نصاً هو ملك الأملاك، فقاس عليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب (قاضي القضاة)، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم ينَه عن هذه اللفظة خاصة، ولهذا قال سفيان: (مثل شاهنشاه) ويقاس عليها غيرها من هذه الألفاظ. وقاضي القضاة لفظة كانت تطلق عند علماء المشرق على القاضي الذي يكون مسئولاً عن جميع القضاة، وصارت تردد في كتب التراجم بشكل كبير، ولكن علماء المغاربة وعلماء الأندلس بوجه خاص كانوا يطلقون على القاضي الذي يشرف على القضاة جميعاً لفظاً أحسن من هذا، فقد كانوا يسمونه قاضي الجماعة، وهذا لفظ أحسن وأبعد عن التشريك في موضوع القضاء. فهذا النوع داخل في نوع من الأنواع الأربعة، وهو التشريك بين الله وخلقه؛ لأن التشريك بين الله وخلقه قد يكون في التعظيم، أي: قد يكون اللفظ دالاً على التعظيم، وقد يكون التشريك في اللفظ بالواو مثلاً، وقد يكون في التسمية، وستأتي أمثله لهذا كله.

الشرك في الأسماء

الشرك في الأسماء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك. عن أبي شريح أنه كان يكنى أبا الحكم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيءٍ أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين، فقال: ما أحسن هذا. فمالك من الولد؟ قلت: شريح ومسلم وعبد الله، قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح، قال: فأنت أبو شريح) رواه أبو داود وغيره]. وإسناد هذا الحديث صحيح، وفيه دليل على تغيير الكنى والأسماء إذا كانت محرمة، وفيه النهي عن التسمي بشيءٍ من أسماء الله سبحانه وتعالى الخاصة، فلو أن إنساناً سمى نفسه الرحمن أو الله أو نحو ذلك فذلك لا يجوز أبداً، فقوله: (إن الله هو الحكم وإليه الحكم) تعليل لنهيه عن التكني بأبي الحكم، وكنوه بذلك لا لأن له ولداً اسمه الحكم، وإنما لكونه كان يحكم بين قومه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما أحسن هذا) يعني: ما أحسن أن يصلح الإنسان بين قومه، وإلا فإن الحكم لا بد من أن يكون بالشريعة. فليس قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أحسن هذا) إقراراً لما كان يحكم به من الأمور الشركية لا، وإنما المقصود بالحكم هنا: الصلح، يعني: أن يجتهد في الصلح بينهم، ولو أن إنساناً وقال: لا، فالحديث صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على حكمه السابق، فإننا نقول له: هذا الحديث محتمل، والقاعدة أن أي حديث أو آية محتملة ترد إلى المحكمة، وعندنا عشرات الآيات محكمة في أن الحكم لله، حيث يقول الله عز وجل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، ويقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60] ونحو ذلك من الآيات المحكمة الظاهرة في أن الحكم يجب أن يكون لله عز وجل وبما أنزل الله سبحانه وتعالى، ولا يكون بالأهواء والشهوات.

الشرك بالهزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

الشرك بالهزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب منهج من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65]، وعن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة -دخل حديث بعضهم في بعض- أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قراَّئنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، فقال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة تنكب رجليه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون) ما يلتفت إليه وما يزيده عليه]. هذا الباب يدخل في النوع الرابع من أنواع الألفاظ الشركية، وهو عدم تعظيم الله سبحانه وتعالى وعدم إجلاله سبحانه وتعالى، فإن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله من تعظيم الله سبحانه وتعالى، فمن هزل بشيء من القرآن أو من السنة أو بالرسول صلى الله عليه وسلم أو بالله أو بملائكته أو نحو ذلك فلا شك في أنه كافر كفراً مخرجاً من الملة، والسب أعظم، فإذا كان الاستهزاء مكفراً يكفر به الإنسان، ويكون خارجاً عن دائرة الإسلام؛ لأنه استهزاء واحتقار فالسب أعظم وأشد، فمن سب الله أو سب القرآن أو سب السنة أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو سب جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دون استثناء فلا شك في أنه كافر كفراً مخرجاً عن دائرة الإسلام، وهو عمل مناقض لأصول الإيمان، وآية التوبة صريحة في هذا الموضوع. والقصة التي هي سبب نزول هذه الآية صريحة في هذا الموضوع، فيؤخذ من هذا تعظيم حق الله عز وجل على الناس، وتعظيم حق الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعظيم أخبار القرآن والسنة، وأحكام القرآن والسنة، ونحن في زمن تجرأ فيه كثيرون على الله عز وجل، وتجرءوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكل ليس له مثيل مع الأسف في كثير من البلاد، ونحن نسمع عن كثير من الكتاب الآن وعن زمرة من الزمر الخبيثة التي ظهرت في العالم الإسلامي، قد اتخذت من الأدب الذي هو في الحقيقة ليس أدباً، وإنما هو قلة أدب، اتخذت وسيلة من الوسائل للطعن في الله أو في أحكامه أو في الرسالات أو في الأديان أو نحو ذلك، وأصبحوا يعتبرون الأديب المتفوق والمتميز والمبدع -كما يسمونه- والمتألق هو الذي يكون أكثر تهجماً على المقدسات، وأكثر استهتاراً بها. وقد صدرت عدة كتب من هذا القبيل، مثل كتاب (النص المؤسس ومجتمعه)، ومثل كتاب (وليمة لأعشاب البحر) للكاتب السوري حيدر حيدر، ومثل الرواية المشهورة (أطياف الأزقة المهجورة) لـ تركي الحمد، فكل هؤلاء كفار، وكلهم زنادقة وكلهم ليسوا من المسلمين؛ لأنه لا يمكن لأي إنسان مسلم أن يسب الله أو يستهزئ به أو يسب الرسول ويستهزئ به، فالكاتب الأخير -وهو تركي الحمد - في (أطياف الأزقة المهجورة) ذكر سباً واستحقاراً للأديان ولله سبحانه وتعالى ولرسوله ولملائكته وللأنبياء بشكل عجيب جداً، فكان كثير من الناس ينتقد تكفير هذا الرجل ويقول: إن تكفيره فيه تشدد، ويقول: السبب في هذا هو أن الأدب والكتابة الأدبية لا يقصد بها الشيء ذاته، وإنما هو خيال وطيف شعري أو أدبي ليس له أي ارتباط بموضوع الواقع ونفس الكاتب، ويقول: لا بد من أن تفصل بين الكتابة الأدبية وبين الكاتب، فالكاتب الأدبي -خاصة كاتب الرواية- قد يتخيل أشخاصاً لا وجود لهم في الواقع، وقد يتكلم على ألسنتهم بكلام لا وجود له في الواقع، فكيف تكفره بناءً على هذا؟! وأنتم تنظرون إلى قصة كليلة ودمنة، وهي كلام على ألسنة الدواب مترجم عن الأدب الفارسي، ونحن نجزم بأن الدواب لا تتكلم بهذا الكلام ولم تتكلم به، فهذه هي طبيعة الأدب، ويدافعون عن هذا الرجل بهذا الكلام، ولكنه صرح بما لا يحتاج إلى أن يناقش فيه، فقد قال: إن المقصود بهذه -يعني الشخصية الموجودة في روايته- هو نفسه، فكل الكلام الموجود في هذه الرواية هو المعني بها، فالسب والاستهزاء بالأديان هو المعني به وهو المقصود، وهذا لا شك في أنه ردة وكفر بالله رب العالمين. فإذا كان سب الله وسب الرسول ليس كفراً فماذا يكون الكفر؟ إنه لا يمكن أن يكون هناك كفر بعد هذا، وأنا لا أشك في كون هذا الرجل -إذا لم يرجع وإلى الله عز و

الشرك بتعبيد الأسماء لغير الله تعالى

الشرك بتعبيد الأسماء لغير الله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف:190] قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبدٍ لغير الله، كعبد عمرو، وعبد الكعبة وما أشبه ذلك، حاشى عبد المطلب، وعن ابن عباس في الآية قال: لما تغشاها آدم حملت فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتُطيعُنَّني أو لأجعلن له قَرَنْي أيلٍ، فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن -يخوفهما-، سِّمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت فأتاهما فقال مثل قوله وأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتاً، ثم حملت فأتاهما فذكر لهما، فأدركهما حب الولد فسمِّياه عبد الحارث، فذلك قوله تعالى: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف:190]، رواه ابن أبي حاتم، وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته، وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} [الأعراف:189] قال: أشفقا أن لا يكون إنساناً، وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما]. هذا الباب عقده الشيخ محمد عبد الوهاب في مسألة التعبيد لغير الله سبحانه وتعالى في الأسماء، فالأصل في التعبيد هو أن يعبد لأسماء الله سبحانه وتعالى، وأما التعبيد لغير أسماء الله عز وجل فلا يجوز بإجماع العلماء، كما حكى ذلك ابن حزم رحمه الله, والإجماع حجة، والدليل على حجية الإجماع هو قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، فالإجماع حجة. وأما اسم عبد المطلب فاختلفوا فيه، وانقسموا بذلك إلى فريقين، ففريق قالوا: لا يجوز، وهذا هو الصواب، لدخوله في التعبيد لغير الله. وفريق قالوا: بل يجوز، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) فرد عليهم الأولون بأن هذا ليس المقصود منه الإباحة، وإنما هو حكاية للواقع، لأن اسمه عبد المطلب فعلاً، فكونه يحكي أن اسمه عبد المطلب ليس فيه إباحة ذلك. فالصواب هو عدم جواز التسمي بعبد المطلب، أما ما يتعلق بالآية وسبب نزولها فالصحيح أن الآية معناها عام. وقوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف:190] يعني الذكر والأنثى، وليس المقصود به آدم وحواء، وقوله: (آتاهما) الضمير هنا عائدٌ على الذكر والأنثى من بني آدم، (جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا)، وذلك يكون عن طريق نسبة هذه النعمة إلى غير الله سبحانه وتعالى، أو أنهما ربياه على الشرك أو نحو ذلك مما ذكره المفسرون. وأما تفسير هذه الآية بالقصة الواردة هنا في آدم وحواء فلا يصح؛ لأن القصة غير صحيحة لعدة أمور. أولاً: أن كل الآثار الواردة فيها -كما قال ابن كثير - هي من الآثار الإسرائيلية، ولم تثبت بسندٍ صحيح. ثانياً: أنه لا يصح تصور ذلك في حق آدم عليه السلام، فهو نبي معصوم من الشرك لا يمكن أن يقع منه الشرك كما تصور هذه الرواية. وهناك اعتبارات أخرى يمكن مراجعتها في كتاب (القول المفيد) للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.

الشرك بقول: السلام على الله تعالى

الشرك بقول: السلام على الله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب لا يقال: السلام على الله. في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام)]. المقصود بهذا الباب هو النهي عن هذا اللفظ: (السلام على الله)، ووجه النهي عن هذا اللفظ هو أن السلام دعاء بحصول السلام والبركة والراحة والبعد عن المشاكل لمن يدعى له، فلا يصح استعمال ذلك مع الله، فإن الله عز وجل هو السلام، وهو الذي يعطي السلام، فهو سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أن تدعو له بالسلامة من الشرور، فهو سبحانه وتعالى سالم منها، واسمه السلام، وهو معطي السلام، فهذا داخل في النوع الرابع من شرك الألفاظ؛ إذ إن هذا اللفظ فيه عدم تعظيمٍ لله سبحانه وتعالى.

الشرك بعدم تعظيم الله في سؤال المغفرة

الشرك بعدم تعظيم الله في سؤال المغفرة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت. في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له) ولـ مسلم: (وليِّعَظَّم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيءٌ أعطاه). هذا الباب فيه النهي عن هذه اللفظة (اللهم اغفر لي إن شئت) وهو النهي عن تعليق الدعاء بهذه الطريقة في قضيةٍ معروفة، وهي المغفرة، ووجه النهي عن اللفظة أنه يفهم منها عدم تعظيم الله عز وجل؛ لأنه يفهم من هذه اللفظة: اللهم اغفر لي إن شئت، وإن شئت ألا تغفر لي فلا تغفر لي، وهذا لا يليق بالعبد.

كتاب التوحيد [9]

كتاب التوحيد [9] هناك جملة من الألفاظ المنهي عنها؛ لكونها وسيلة إلى الشرك بالله تعالى، ومن ذلك قول: (عبدي) و (أمتي)، وقول: (لو) عند الندم على ما فات، وسب الريح، وغير ذلك من الألفاظ التي يجب على العبد الحذر منها ليسلم له توحيده وإيمانه.

النهي عن قول: عبدي وأمتي وعلته

النهي عن قول: عبدي وأمتي وعلته بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد: فقد سبق في الدرس الماضي ما يتعلق بشرك الألفاظ، وسبق أن ذكرنا مجموعة من القواعد تتعلق بالألفاظ الشركية، وفي هذا الدرس سنكمل التطبيق في بيان شرك الألفاظ. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بابٌ لا يقول: عبدي وأمتي. في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي)]. إذا قال القائل: (عبدي)، لمن يملكه من العبيد، أو قال: (أمتي)، لجارية يملكها، فالأصل هو جواز هذا اللفظ، إلا إذا اقترن به قصد فاسد، وهو تعظيم النفس ومحاولة تشبيهها بالإله، وقد سبق أن بينَّا أن الألفاظ المنهي عنها لوجود شائبة من شوائب الشرك تنقسم إلى قسمين: قسم لا ينظر فيه إلى قصد صاحبه؛ لأن ظاهره أنه لفظ شركي، بغض النظر عن صاحبه، ولكن عند الحكم عليه لا بد من معرفة نيته وإرادته، وأما لفظه فإنه لفظ شركي، مثل (ما شاء الله وشئت)، ومثل الحلف بغير الله سبحانه وتعالى، والإقسام على الله عز وجل، إذا كان الله عز وجل حتى نحكم بأنه منهي عنه قصد القائل هو تعظيم النفس والإدلال على الله سبحانه وتعالى ونحو ذلك، أما إذا كان على سبيل الثقة بالله سبحانه وتعالى فهو جائز، كما فعله سعد بن عبادة، ولكن لا يكون من أي أحد، وإنما يكون من الأولياء الصادقين الصالحين الذين لهم تعبد ولهم صدق وصلاح. فالأصل هو جواز هذا اللفظ (عبدي) و (أمتي)، فيصح للإنسان أن يقول: هذا عبدي، وهذه أمتي، ولكن إذا كانت النية قصد التعظيم ومشابهة الإله في كون الإله له عبيد وإماء، فلا شك في أنه لفظٌ شركي وليس بلفظٍ شرعي. ولهذا يرى الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في (القول السديد) أن النهي عن قوله: (عبدي) و (أمتي) نهي للكراهة، وأن ترك ذلك مستحب، وليس المقصود بالنهي هنا التحريم، كما سبق في كلمة (لولا الكلبة لسرقنا اللصوص)، فإنها بحسب قصد القائل، فإذا قصد نسبة الأسباب إلى غير الله عز وجل وتعظيمها فلا شك في أن هذا من الألفاظ الشركية، وأما إذا لم يقصد ذلك، وإنما قالها على سبيل ذكر السببية -وكان ذلك الشيء سبباً في حقيقة الأمر- فهذا لا شيء فيه، ولا إشكال فيه، وهو جائز.

النهي عن رد من سأل بالله

النهي عن رد من سأل بالله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بابٌ لا يرد من سأل بالله. عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعو له حتى تُروا أنكم قد كافأتموه) رواه أبو داود والنسائي بسندٍ صحيح. بابٌ: لا يسأل بوجه الله إلا الجنة. عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) رواه أبو داود]. نلحظ هنا أن هذين البابين بينهما علاقة، فالباب الأول (لا يرد من سأل بالله) سبحانه وتعالى، فهذا خطاب للمسئول، فمن سأل بالله فلا يرده المسئول، والباب الثاني يتعلق بالسائل، فالسائل لا يسأل بوجه الله إلا الجنة، والمسئول إذا سأل بالله فلا يرده تعظيماً لله سبحانه وتعالى. والمقصود من هذا الباب هو بيان عظمة الله سبحانه وتعالى، وأن الإنسان إذا سأل بالله شخصاً سؤال عزيمة وليس هناك مفسدة تترتب على تحقيق سؤاله بالله عز وجل، فلا شك في أنه يجب عليه أن يجيب هذا السائل؛ لأن لله عز وجل منزلة عظيمة في نفس المسلم ونفس المؤمن، فلا بد من أن يجيب السائل إذا سأله بالله عز وجل، وهذا مقيد بشرط ألا يكون هناك مفسدة تترتب على هذا الأمر. والباب الثاني يتعلق بالسائل، وهو الحديث الذي رواه أبو داود: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة)، وهذا الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده سليمان بن قرم، وهو ضعيف، وقد تفرد بهذا الحديث، والمقصود من إيراد المصنف له هو تعظيم الله سبحانه وتعالى بألا يسأل بوجهه الكريم إلا أعظم أمرٍ يريده الإنسان، وهو الجنة، وأما الأمور اليسيرة فإنه لا ينبغي للإنسان أن يسأل فيها بوجه الله، وليس المقصود به النهي عن سؤال الله عز وجل بوجهه الكريم، وإنما المقصود نهي الخلق عن أن يسأل بعضهم بعضاً بذلك، أما سؤال الإنسان الله عز وجل بوجهه الكريم -أي: اتخاذه وسيلة- فالأصل فيه الجواز؛ لأنه من التوسل الجائز، فهو من التوسل بصفات الله عز وجل، والله عز وجل يقول: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] والوجه صفة من صفاته. إذاً: المقصود بالحديث أولاً ألا يسأل بوجه الله إلا أمراً عظيماً وهو الجنة، وقوله: (لا يسأل بوجه الله)، يحتمل أنه لا يسأل الله عز وجل، ويحتمل أنه لا يسأل المخلوق، فأما سؤال المخلوق بوجه الله فهو ظاهر وواضح، وأما سؤال الله عز وجل بوجهه الكريم فلا شك في جوازه؛ لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وهذا الحديث فيه ضعف كما سبق أن بينا.

النهي عن قول: لو فعلت كذا لكان كذا

النهي عن قول: لو فعلت كذا لكان كذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في اللو، وقول الله تعالى: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154] وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168]. وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَرُ الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان). يشترط في النهي عن (لو) القصد القلبي، فإذا قال الإنسان: لو حصل كذا لكان كذا وكذا وكان قصده الندم والتسخط على الماضي فلا شك في أن هذه تفتح عمل الشيطان، وهذه هي المرادة بالنهي. فالمراد بالنهي هنا: أن يكون قصد القائل عندما يقول: (لو) هو الندم والسخط والحزن ونحو ذلك من المعاني الفاسدة، أما إذا كان له قصد آخر -مثل أن يتمنى الخير- فلا شيء عليه. وقد استعملها النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حجة الوداع عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يحلوا بعد العمرة قال لهم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) فهذا تمنِّ للخير، وليس فيه حزن وتسخط على الماضي، وورد في الحديث المشهور في الرجل الذي يتمنى أنه يقول: لو أن عندي مالاً لفعلت فيه كذا وكذا، يعني: إذا تمنى الإنسان أن يكون له مال ينفقه في الطاعة فله أجر عظيم. وليعلم أن (لو) ورد النهي عن استعمالها، وورد استعمالها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الجمع بينهما؛ لأنه لا يمكن أن يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم وهي منهية عنها، وهذا يدل على أهمية القصد في مثل هذه الكلمات، فكلمة (لو) قد يطلقها الإنسان وهو حزين، وكأنه يتمنى استرجاع الماضي، واسترجاع الماضي ليس بيده، أو كأنه متسخط على الماضي، أما إذا كان متمنياً للخير فلا إشكال في ذلك؛ لأن الإنسان إذا قال: (لو)، وهو متسخط وحزين على الماضي فإن في قوله سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لم يرض بقدر الله عز وجل الذي قدره له، ولهذا قال: (فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)، ولهذا مثل بقوله: (ولا يقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)؛ لأنه لا يمكن أن يحصل ذلك له، ففيها سوء أدب مع الله عز وجل واعتراض على قدره، أما إذا قالها متمنياً للخير فليس فيها ذلك المحذور الشرعي، وبناءً على هذا تكون جائزة، بل فيها طلب للخير وتمنٍ له وتربية للنفس عليه.

النهي عن سب الريح

النهي عن سب الريح قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب النهي عن سب الريح. عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به) صححه الترمذي]. هذا الحديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده في عمل اليوم والليلة، وهذا الباب يدخل في الباب الذي سبق أن تحدثنا عنه، وهو النهي عن سب الدهر، فإن الدهر هو الأيام والليالي التي تحصل للإنسان، والحوادث التي تحصل في هذه الأيام والليالي، فالنهي عن سب الريح داخل في عموم النهي عن سب الدهر عموماً. والنهي عن سب الريح تعليله اعتقاد أن الريح مدُبَّرة، وليست هي التي تدبر نفسها بنفسها، وإنما هي سببٌ من الأسباب خلقه الله سبحانه وتعالى، فليس لها ذنب، وليست مريدة لما تقوم به من عمل، بل هي مسيرة مخلوقة لله عز وجل، ولهذا فإن من سب الريح كأنه سب الذي خلقها.

ذكر ما جاء في النهي عن كثرة الحلف

ذكر ما جاء في النهي عن كثرة الحلف قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في كثرة الحلف، وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب) أخرجاه، وعن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زانٍ، وعائلٌ مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه) رواه الطبراني بسند صحيح، وفي الصحيح عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم -قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً- ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)، وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)، قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار]. المراد بهذا الباب هو النهي عن كثرة الحلف لسببين: السبب الأول: أن كثرة الحلف مظنة للكذب، والكذب في اليمين يجعلها غموساً إذا كانت يميناً عن الماضي، وكونه لا يفي بها في المستقبل يدل على عدم تعظيمه لله سبحانه وتعالى. والسبب الثاني: أن كثرة الحلف فيها عدم تعظيم لله عز وجل. وقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] حفظ الإيمان جاء على قولين عند المفسرين، وكلا القولين صحيح: القول الأول: أن قوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] يعني: احفظوا أيمانكم من كثرة الحلف، فلا تكثروا الحلف إلا فيما هو نافع ومهم. القول الثاني: أن المعنى: إذا حلفتم ولم تستطيعوا الوفاء فأتوا بالكفارة؛ لأن الإنسان إذا حلف ولم يستطع الوفاء لا يجوز له أن يترك يمينه دون كفارة. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحلف منفقة للسلعة) يعني: الحلف وسيلة لترويج السلعة، لكنه ممحقة للكسب، والمحق معناه: الإزالة، والكسب معناه: بركة الكسب؛ لأن السلعة إذا راجت في الدنيا فإنه يكثر الكسب من حيث العدد، ولكن تمحق من حيث البركة، ولهذا أخبر الله عز وجل أنه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] ومحق الربا معناه: إزالة البركة منه، فتجد أن صاحب المال الربوي لديه مال كثير، ولكن لا ينفع صاحبه بشيء، وهذا فيه تنبيه للباعة الذين يبيعون ويحلفون على بيعهم، وهي مسألة تكثر عند كثير ممن يشتغل بالتجارة ويشتغل بالبيع والشراء، فيدفع سلعته للشراء بيمينه، وهذا لا شك في أنه منهي عنه. وفي الحديث الثالث: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زانٍ) والأشيمط: هو الشيخ الذي ظهر فيه الشيب كثيراً، فإن قيل: لماذا الأشيمط الزاني أشد من الشاب الزاني؟ فالجواب أن الإنسان إذا كان كبيراً تكون رغبته في الحرام وفي الزنا أقل وشهوته أضعف، فكونه يقترف الزنا من غير دافع قوي للشهوة يدل على أنه مستخف بهذا العمل، ولهذا فإن الزنا كله من الكبائر، ولكن زنا الرجل الكبير في السن أشد من زنا الشاب؛ لأن الشاب قد يكون دافعه هو الشهوةَ لديه، بينما ذلك ضعيفٌ عند الشيخ الكبير، وكلاهما يستويان في كون الزنا من الكبائر، ولكنَّه بالنسبة للأشيمط الزاني أكبر، ولهذا يقول أبو الفتح البوستي: هب الشبيبة أبدت عذر صاحبها ما عذر أشيب يستهويه شيطان يقول: هب الشبيبة -أي: كون الإنسان صغيراً في سنه- أبدت عذر صاحبها، بأن عنده نزوات قد لا يستطيع التحكم بها إذا كان ضعيفاً، والأصل أن المسلم يستطيع التحكم في نفسه، يقول: فما عذر أشيب -يعني: رجل كبير جرب الحياة وعرفها وأصبحت النزوات عنده أضعف من غيره- يستهويه شيطان، أي: لا عذر له. قال صلى الله عليه وسلم: (وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه) والعياذ بالله، وهذا هو الذي يتخذ اليمين وسيلة لإنفاق السلعة أو وسيلة للشراء، حيث يقلل المبلغ، مثل أن يأتي إلى شخصٍ فيقول: هذا المسجل وجدته في الدكان الفلاني، فيحلف على أنه وجده بكذا من السعر، فهو يكذب في هذا، وجعله أمراً مستديماً بالنسبة له، فلا شك في أن هذا يدل على عدم تعظيم الله سبحانه وتعالى. وبقية الحديث هي في القرون المفضلة الثلاثة، ثم ذكر أوصاف القرون التي تلي هذه القرون المفضلة الثلاثة، وهي عصورنا هذه التي نعيش فيها اليوم، ذكر من أوصافهم أنهم قوم (يشهدون ولا يستشهدون)، يعني: لا تطلب منهم الشهادة ومع هذا يشهدون، (ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن). وقوله: (يظ

ذكر ما جاء في تعظيم ذمة الله وذمه نبيه صلى الله عليه وسلم

ذكر ما جاء في تعظيم ذمة الله وذمه نبيه صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91]. وعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيشٍ أو سريةٍ أوصاه في خاصَّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، فقال: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلُّوا ولا تغدِروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصالٍ -أو خلال-، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم إنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، ويجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيءٌ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم، فإن همْ أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصنٍ فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه، وإذا حاصرت أهل حصنٍ فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله فيهم أم لا؟) رواه مسلم.

أهمية الوفاء بالعقود والعهود

أهمية الوفاء بالعقود والعهود المراد بهذا الباب هو تعظيم ذمة الله سبحانه وتعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو يدل على أهمية الوفاء بالعقود والعهود، سواء أكانت هذه العقود والعهود فردية أم جماعية، والله عز وجل يقول: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91] لأنَّ نقضَ العهد بدون نبذٍ لصاحب العهد خيانة وغدر، وهذا لا يجوز، ويدخل في هذا أن يدخل أحد الكفار بلاد المسلمين بعهد، فلا يجوز قتله ولو كان كافراً، فالكفار إذا كانوا غزاةً يختلفون عنهم إذا كانوا معاهدين، فليس المانع من قتل الكافر وهو في بلاد المسلمين كونه كافراً، وإنما المانع هو كونه معاهداً؛ لأنه دخل بأمان، فلا يصح قتله إلا في حالة أن يكون غازياً للمسلمين، فدخوله في بلاد المسلمين يجعله حلال الدم، فيجوز قتله بحسب قدرة أهل الإسلام وبحسب إمكاناتهم واستطاعتهم. والحقيقةُ أن هناك إشكالات كبيرة في هذه القضية، ولها جوانب متعددة، ولهذا نجد أن أشخاصاً قد يخطئون في فهم هذه القضية، وهي قضية حساسة، وينبغي التفريق بين من يأتي وهو غازٍ ومن يأتي وهو مستأمن، فهناك فرق كبير بين هاتين الحالتين، وكثير من الناس يخلط في هذه المسألة، وهي مسألة بحاجة إلى بحث وتحقيق ودراية، وهي من مسائل الفقه المهمة التي ينبغي للإنسان أن يدركها إدراكاً صحيحاً، خاصة أن كثيراً من العهود قد لا تكون عهوداً مشروعة، وقد لا تكون مشروعة، وبناءً على هذا قد يجد بعض الناس من يناقش في بعض هذه العهود وعلى هذه العقود وأنها عقود غير صحيحة، وبناءً على هذا لا يكونون -كما يقولون- معاهدين، أم من أهل الذمة، فهذه الآية فيها خلاف في تصور المعاهد، وكيف يكون معاهداً وكيف لا يكون معاهداً. وهي -كما قلت- من المسائل الحساسة التي ينبغي للإنسان أن يدركها إدراكاً جيداً.

توجيه الجيوش في قتالها في سبيل الله

توجيه الجيوش في قتالها في سبيل الله عليك أن تلحظ في الحديث صفة تأمير النبي صلى الله عليه وسلم لسرايا الجهاد، ثم قارن ذلك بالواقع الذي نعيشه فـ بريدة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيشٍ أو سريةٍ أوصاه بتقوى الله، وأول فائدة نستفيدها هي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندما يؤمِّر رجلاً على جيش يحرك الجيش للجهاد في سبيل الله، فالجيش ينبغي إذا وجه أن يوجه في سبيل الله سبحانه وتعالى، فلا يصح للإنسان أن يقاتل لعصبية، ولا أن يقاتل لقومية، ولا أن يقاتل للدفاع عن ملك فلان وفلان، وإنما يقاتل في سبيل الله بالطريقة المشروعة، وقد يكون الجهاد في سبيل الله أحياناً غزواً للعدو، وفي بعض الأحيان يكون رداً لصائل يصول على بلاد المسلمين، فيردونه وهذا في سبيل الله. فهل يجوز لإخواننا العراقيين أن يطيعوا صدام حسين في دخولهم إلى الكويت؟ والجواب أنه لا يجوز ذلك؛ لأنه ليس غزواً في سبيل الله وليس جهاداً في سبيل الله، وكيف لنا أن نقاتل المسلمين؟ وكان الواجب عليهم أن يقول بعضهم لبعض: يسأل كيف ندخل بلداً أهله من المسلمين، والذين نقتلهم من المسلمين، والذين نشردهم من المسلمين، فهل هذا جهاد؟ وكذلك عندما تثور أي نعرة جاهلية بين بلدين من البلدان الإسلامية فإنه لا يجوز للمسلم أن يدخل في القتال؛ لأن الراية جاهلية؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية) فمن قاتل تحت راية عمية مجهولة الهدف فقتاله جاهلية، فكيف إذا كان الهدف قومية أو كان الهدف عصبية أو كان الهدف هو الدفاع عن مكتسبات شخصية ليس لها أي ارتباط بالأمور الشرعية من قريب ولا من بعيد، فلا يجوز للمسلم أن يدخل في قتال من هذا النوع أبداً. وعند حصول الفتن في كثير من الأحيان يغيب هذا الفقه عن أذهان كثير من الناس، فتجد الناس يقاتل بعضهم بعضاً، وهدف القتال ليس هدفاً واضحاً، وأحياناً يكون قتالاً لجنس معين أو عرق معين أو جهة معينة، وهذا لا يجوز أبداً بأي حال من الأحوال، فأي جيش يتحرك للقتال لا بد له من أن يحدد هدفه وغايته، ويعلم كون الهدف شرعياً أم غير شرعي. ثم انظر إلى وصية النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يوصيهم بتقوى الله، ولا يحركهم على الموسيقى، وإنما يوصيهم بتقوى الله سبحانه وتعالى ويذكرهم بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الجهاد في سبيل الله من أعظم شعائر الدين، فيوصي الأمير بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم يقول: (اغزوا بسم الله في سبيل الله) وهذا هو الهدف، وليس الجهاد في سبيل أي غرض من أغراض الدنيا، (قاتلوا من كفر بالله) وهذا يدل على أهمية قتال من كفر بالله، (اغزوا ولا تغلوا) يعني: لا يأخذ أحدكم شيئاً من الغنيمة قبل أن تقسم، وهذا معنى الغلول. (ولا تغدروا) يعني: لا تغدروا أحداً، ولو كان كافراً عدواً، فإن قيل: كيف نجمع بين هذا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة)؟ قلنا: نعم الحرب خدعة، ولكن الغدر لا يجوز، فالخدعة هي أن تفاجئ عدوك وتأتيه من حيث لا يشعر ولا ينتبه، أما الغدر فهو أن تصالحه وتتفق معه على مواثيق معينة ثم تنقض هذه المواثيق، فهناك فرق بين الخدعة والغدر. (ولا تمثلوا) يعني: لا تمثلوا بعدوكم، فلا تجدعوا أنوفهم، ولا تقطعوا آذانهم، ولا تعملوا بهم مثلة. (ولا تقتلوا وليداً) يعني: لا تقتلوا طفلاً صغيراً ليس من أهل القتال. ومسألة النساء والأطفال مسألة فقهية من مسائل الجهاد، والحقيقة أن كثيراً من الناس يعمم فيها، مع أن فيها تفصيلاً فقهياً مشهوراً. فكثير من الناس يقول: الأطفال والنساء لا يقتلون، وهذا خطأ، وإنما هو بحسب الحال الذي نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم في عدم جواز قتل النساء والأطفال، أي: قصدهم بالقتل، فلوا أن جيشاً وجد طفلاً فقتله قائلاً: هذا يكبر ويكون عدواً لنا؛ فإن هذا لا يجوز، أو مر على امرأةٍ ليست من أهل القتال فقتلها، أو مر على شيخٍ كبيرٍ ليس من أهل القتال فقتله، فهذا لا يجوز. فقصد الأطفال وقصد النساء وقصد الشيوخ الكبار بالقتل هو المنهي عنه شرعاً. أما إذا كانت المرأة تقاتل فإنها تقتل، كما هو عند الغربيين الآن، حيث يوظفون النساء في القتال، وكثير من النساء يقدن الطائرة الحربية، فهل معنى هذا أن نتورع عن قتل هذه المرأة لأنها امرأة؟! ليس هذا صحيحاً. وكثير منهن قد تدخل لتعمل على الكمبيوتر في إطلاق الصواريخ أو في أي أمر من الأمور، فهذه لا بد من أن تقتل، وهي من الجيش، فلا يصح أن يقول أحد: إن مثل هذه لا تقتل. وأحياناً يكون العدو شيخاً كبيراً لا يستطيع حمل السلاح بيده، ولكنه صاحب فكر وتدبير يخطط لهم ويقول: ائتوا هؤلاء من هذه الزاوية واتركوهم من هنا، فإذا جئتموهم من هنا فإنكم تستطيعون قتلهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أجاز قتل دريد بن الصمة مع أنه لا يستطيع أن يقف على رجليه ويمشي، ف

دعوة الكفار قبل قتالهم إلى ثلاث خصال

دعوة الكفار قبل قتالهم إلى ثلاث خصال يقول: (وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال) يعني: قبل القتال ادعهم إلى الله سبحانه وتعالى، (فأيتهن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام) يعني: أول الأمور أن تدعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، فإذا أسلموا فالحمد لله؛ إذ هذا الذي نريده، فالقتال ليس هدفاً في ذاته، فإذا أسلموا فهم إخوتنا في الإسلام. يقول: (ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين) هذا إذا أسلموا، (وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين) يعني: إذا أسلموا ورفضوا التحول من دار الكفر إلى دار الإسلام فهم كأعراب المسلمين، يعني: هم من أهل الإسلام ولكنهم كالأعراب وليسوا كالمهاجرين، فيجري عليهم حكم الله تعالى، (ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين). قال: (فإن هم أبوا فاسألهم الجزية) يعني: يدفعون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون. أي: إما أن تزال حكومتهم ويكونوا تحت حكومة الإسلام، أو يكون هناك عقد أمان بينهم وبين المسلمين ويكون الحكم لهم، ولكن يدفعون الجزية عن يد وهم صاغرون. وهذه حقائق الإسلام لا تتغير، وقد يقول بعض الناس: كيف تطبق مثل هذه الأحكام في هذا الزمن؟! ونقول: إذا كان كثير من الناس لا يطبقونها الآن فإنها ستطبق بإذن الله، وصحيح أن هذا الكلام يشبه الخيال في بعض الأحيان في واقعنا اليوم، ولكن الحقائق الشرعية ثابتة لا يمكن أن تتغير أبداً، وسنطالبهم بها، وإذا كانت الأمة مستضعفة الآن فإنه يجب علينا أن نرفع عنها الاستضعاف بالدعوة إلى الله عز وجل والإصلاح، وتنمية روح الجهاد في سبيل الله في نفوس المسلمين، وجذبهم إلى الدين وتفهيمهم أحكام رب العالمين سبحانه وتعالى. يقول: (فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) وهذا يدل على أن القتال ليس مقصوداً لذاته، وإنما مقصود لرفع الظلم عن المسلمين، ورفع الكفر عن الناس. يقول: (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك) ثم علل ذلك، وكذلك الأمر في الحكم، وهذا هو موضع الشاهد، وهذا يدل على قاعدة مهمة جداً، وهي أن هناك فرقاً بين حكم الله وحكم العلماء، فقد يقضي القاضي بحكم من الأحكام، فهل هذا الحكم الذي يقضي به هو حكم الله؟ إن حكم الشخص قد يكون صحيحاً وقد يكون خطأً، ولهذا لا يصح للإنسان أن يقول: هذا هو عين حكم الله؛ لأنه قد يكون مخطئاً، وإنما يقول: هذا حكم القاضي، ويكون الناس ملزمين به إذا اجتهد القاضي في هذا الحكم اجتهاداً شرعياً وبالطريقة الشرعية، وأما إذا لم يكن بالطريقة الشرعية فإنه ينقض؛ لأنه ليس اجتهاداً مشروعاً، والاجتهاد المشروع ليس هو حكم الله دائماً، بل قد يكون خطأً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، وهذا يدل على أن المجتهد قد يخطئ في بعض الأحيان، وإذا أخطأ في الحكم دلَّ ذلك على أنه لم يكن حكم الله في نفسه، ولكن لا يكون عليه إثم؛ لأنه بذل وسعه وبذل جهده، والله عز وجل لا يكلف نفساً إلا وسعها.

حكم تفسير آية التوبة بانهيار برجي التجارة في أمريكا

حكم تفسير آية التوبة بانهيار برجي التجارة في أمريكا ما زالت الخرافات وتفسير القرآن بالطريقة غير المشروعة منتشرة، فقد جاءني أحد الإخوة بورقة مكتوبة فيها ما نصه: معجزة القرآن الكريم في انهيار برج التجارة العالمي في نيويورك بتاريخ 11/ 9/2001م، والمكان شارع جرفٍ هار، والذي تحدث عنه رب العزة العلي القدير في القرآن قبل ألف وأربعمائة سنة. فهذا إما أن يكون إنساناً مغفلاً يتكلم في دين الله عز وجل وهو جاهل، وإما أن يكون إنساناً خبيثاً يريد أن يضلل الناس، والحقيقة أن المغفلين كثروا في الناس، والذين يتكلمون وهم جهال كثيرون مع الأسف، والواجب على الإنسان ألا يتكلم فيما لا يعرف ولا يحسن. يقول: وقبل أن يأتي العالم بمبنىً في شارع جرف هار، عندما قال تعالى في سورة التوبة في الآية التاسعة بعد المائة: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109] يقول: هذا في آية برقم مائة وتسعة، وتأتي سورة التوبة في الجزء الحادي عشر، وهو تاريخ يوم الانهيار، ورقم السورة تسعة، وهو شهر الانهيار، وعدد الحروف من بداية السورة إلى الآية التاسعة والمائة، ألفان وواحد، وهو تاريخ عام الانهيار، ورقم الآية مائة وتسعة، وهو عدد أدوار البرج، مع أنني سمعت أن عدد الأدوار مائة وعشرة وليس مائة وتسعة. يقول: ورب العزة يتكلم قبل الحدث بألف وأربعمائة عام بالكلمات والأحرف القرآنية، سبحان الله، فنقول للملحدين: آمنوا، ولمن ليس لديهم دين: آمنوا بأن الله أخبرنا بكل الأحداث في القرآن قبل أن تقع بألف وأربعمائة على لسان نبي أمين اسمه محمد صلى الله عليه وسلم، نرجو تصوير هذه المعجزة وإهداءها لكثير من الأحباب، وإن شاء الله تجزى عنها خيراً. ووالله لن تجزى عنها إلا إثماً لا خيراً. فانظر كيف يتلاعبون بالتفسير، وهل هذه الطريقة من طرق التفسير؟! وهل فسر النبي صلى الله عليه وسلم حدثاً من الأحداث في زمانه بهذه الطريقة؟! وهل فسر أحد من الصحابة القرآن بهذه الطريقة؟! وهل فسر أحد من العلماء المشهورين القرآن بهذه الطريقة؟ إن هذا التفسير لا يفسر به إلا الحمقى والمغفلون؛ لأنه إن قيل: إن الجزء الحادي عشر هو اليوم، فإنه يقال: لماذا لا يكون الشهر إذاً؟! وعلى أي أساس اختير اليوم دون الشهر؟! فهذه الآية تفسيرها الشرعي هو أن الله عز وجل يبين الفرق بين من أسس إيمانه تأسيساً صحيحاً على تقوى من الله عز وجل، وبين من كان عنده نفاق في قلبه، فشبهه بأنه مثل الذي يضع بنياناً على طرف حفرة ثمَّ يسقط هذا البنيان داخل الحفرة، فما علاقة البرجين بهذا؟! ثم إن المذكور هو جرف واحد، والبناء الذي سقط عمارتان لا واحدة. إذاً: لا بد من دليل آخر على المبنى الآخر، فهذه الآية -حسب مذهبهم- دليل على العمارة الأولى، ولا ندري هل هي الشمالية أم الجنوبية؟ فليتخير واحدة منها، والثانية يحتاج لها إلى دليل ثانٍ، فليبحث في القرآن وليحسب في الحروف حتى يتعب. إنَّ هذه الطريقة في التعامل مع القرآن طريقة فاسدة تشبه طريقة الباطنية، وهناك أناس ظهروا يسمون أصحاب الإعجاز العددي في القرآن، يعظمون الأحرف، حيث يقرأ الواحد منهم في مواضع من القرآن ويرى أنها مهمة، ويحسب حروفها ويبني عليها أشياء كثيرة جداً في الواقع وفي الأنفس وفي الآفاق وفي التاريخ، وهذه الطريقة عبث وهدم للقرآن الكريم، ويجب أن نحذر منها بقدر ما نستطيع، وأسأل الله عز وجل أن ينتقم ممن لعب بالقرآن وفسره بهذه الطريقة. فهناك أشخاص كثيرون يريدون لهذه الأمة وللصحوة الإسلامية أن يتشتت طريقها، وأن تختلف توجهات أصحابها، فتراهم يجمعون أسماءً لله سبحانه وتعالى، ويجمعون أحرفاً معينة فيخلطون بينها ويقولون: هذا علاج، حتى إنه مرت فترة من الفترات على العلمانيين رأوا فيها توجه الناس إلى التدين، فبدءوا يتكلمون عن القبور والأضرحة، حتى يوجهوا العاطفة الدينية المتوجهة إلى الله وجهة فاسدة، وحينئذٍ لا يكون لها تأثير، وأشد ما يخافون منه هو التوجه إلى المنهج السلفي الصحيح.

الأسئلة

الأسئلة

بيان من ينسب إلى السنة من الأشاعرة

بيان من ينسب إلى السنة من الأشاعرة Q ذكرتم أن المؤولين للصفات -كالأشعرية- ليسوا من أهل السنة، فهل معنى هذا أن العلماء الأعلام يشملهم هذا العموم؟ A منهج الأشاعرة منهج كلامي مشهور، فمن كان من أهل الكلام وممن يعرف عقيدة أهل الكلام واتفق مع الأشاعرة في أصل كلي من أصول العقيدة فهو أشعري وليس من أهل السنة والجماعة في هذا الباب من أبواب العقيدة، ولو كان عالماً مشهوراً، أو له مكانةٌ كبيرة، وقد يوجد عالم من العلماء لا نسميه أشعرياً، بل هو متأثر بالأشعرية، وقد يكون عالماً في الفقه أو عالماً في الحديث أو عالماً في الطب أو عالماً في أي باب من الأبواب، ويكون شيوخه علماء الأشاعرة، فيتأثر ببعض كلامهم، مثل الحافظ ابن حجر والنووي رحمهما الله، فهما ليسا من أهل الكلام، ولم يكونا من المتكلمين، بل إنهما ينقلان كلام السلف الصالح في ذم علم الكلام وذم المتكلمين. ولكنهما مع هذا تأثرا ببعض أقوال الأشاعرة، فننتقد نحن هذا التأثر، ولكنهما ليسا من الأشاعرة، ولهذا فإنهما انتقدا الأشاعرة في أكثر من مكان، فالحافظ ابن حجر انتقد الأشاعرة في مسائل في القدر ومسائل في الإيمان مع أنه أخطأ في بعض مسائل الإيمان، فمثله لا نعده من الأشاعرة، وإنما الأشاعرة هم علماء الكلام، مثل أبي المعالي الجويني والرازي والغزالي ونحوهم من علماء الكلام المشهورين.

الدعوة إلى توحيد الألوهية

الدعوة إلى توحيد الألوهية Q ما المقصود بالدعوة إلى توحيد الألوهية؟ A الدعوة إلى توحيد الألوهية هي حقيقة دعوة الرسل، فالرسل جميعاً يدعون إلى توحيد الألوهية، يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] فعبادة الله واجتناب الطاغوت هما مفهوم (لا إله إلا الله) وهما توحيد الألوهية، وهذا يدل على أن التوحيد هو أول أمر يجب أن يبدأ به الإنسان في الدعوة إلى الله عز وجل. وينبغي على الداعي إلى الله عز وجل أن تكون العقيدة محور دعوته، وأن يربط كل قضايا دعوته بالعقيدة؛ لأن العقيدة هي الأساس، ولهذا لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) وفي بعض الألفاظ: (إلى أن يوحدوا الله)، وهذا يدل على أن أول واجب يجب على الناس هو توحيد الله، وأول ما يجب أن ندعو إليه هو العقيدة والتوحيد. وبهذا يتضح لنا فساد كثير من المناهج الضالة، ومن ذلك فساد حوار الأديان وحوار الحضارات، فنحن نسمع عن حوار الأديان وحوار الحضارات، وحوار الحضارات هو نفسه حوار الأديان، ولكن لما كان موضوع (الأديان) حساساً جاءوا بكلمة (الحضارات)، والحضارات هي التي تكون متبعة في الغالب لدين من الأديان، والطريقة التي عليها حوار الأديان ليست طريقة واحدة، وإنما هي طرق متعددة، فمن الناس من يدعو إلى توحيد الأديان بعضها مع بعض مع عدم الإنكار، فلا ينكر بعضهم على بعض ولا يكفر بعضهم بعضاً، وهذه الدعوة بهذا المفهوم شرك وكفر؛ لأن عدم تكفير أهل الكتاب من الكفر، هذا النوع الأول. النوع الثاني: الدعوة إلى حوار الأديان، كما يحصل لكثير من الدعاة إلى الله عز وجل، حيث يقولون: نحن ندعو إلى حوار الأديان ولا نكفرهم، وإنما نسكت عن القضايا الخلافية، ونبحث في القضايا المشتركة بيننا، فمن القضايا المشتركة القضاء على الفقر -مثلاً- والمخدرات، والتعاون على رفع الظلم عن المظلومين والشعوب المضطهدة، وهكذا، وأما القضايا التي يكون فيها خلاف بيننا وبين اليهود أو بيننا وبين النصارى فلا نثيرها؛ لأننا إذا أثرناها يصبح هناك خلاف. فهذا النوع من أنواع الحوار بدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله كان بينهم وبين أقوامهم حوار، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يأتي إلى قومه كان يحاورهم. والحوار عبارة عن ترديد الكلام، فأنا أقول كلاماً وهذا يقول كلاماً، فكيف كان حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه وهم من أهل الأديان؟ وكيف كان حوار الأنبياء السابقين مع أهل الأديان؟! لقد كان عن طريق دعوتهم إلى التوحيد، فقد كانوا يأتون إلى أقوامهم ويقولون لهم: ما أنتم عليه شركٌ أكبر، فلا بد من أن تتركوه، والواجب أن تسلموا لهذا الدين، ثم يقومون بإثبات هذا الدين بالأدلة التفصيلية، وإبطال دينهم بالأدلة التفصيلية. أما حوارات الأديان الموجودة الآن فهي بدعة؛ لأنه يجتمع فيها مجموعة من القساوسة ومجموعة من المسلمين في مكان واحد، ولا يقول المسلمون للقساوسة: أسلموا، ولا يقولون لهم: هذا الدين خير لكم ونحن نثبت لكم بالبراهين والأدلة أن الإسلام دين صحيح وأن النصرانية دين فاسد، فهم لا يتناقشون في هذه القضايا، بل يتواصون على تركها ويتفقون، فيجتمع القساوسة والمسلمون في مكان واحد، ويقولون: لا نريد أن نثير الخلاف فيما بيننا، فأنتم لكم خصائص دينكم ونحن لنا خصائص ديننا، وأنتم ترون ديننا باطلاً ونحن نرى دينكم باطلاً، فلا نريد النقاش في هذا الموضوع؛ لأن هذا الموضوع يفرق، ونحن لا نريد أن نتفرق، بل نريد أن نجتمع، فيتناقشون في دفع الفقر، فيقولون: هناك بلدان كثيرة فقيرة علينا أن نتعاون في أن ندفع الفقر الموجود فيها. أو يقولون: هناك شعوب مضطهدة نريد أن ندافع عنها، والمسلمون الذين يشاركون في حوار الأديان هدفهم هو أن يحركوا النصارى لإنكار عمل اليهود في فلسطين، ومع هذا ما استطاعوا، وربما وجدوا مجموعةً أنكرت ومجموعةً لم تنكر. ومن أقوالهم: أننا نعيش في مرحلة استضعاف، وما دام أننا نعيش في مرحلة استضعاف فإن من الخطأ الكبير أن يكون بيننا وبين الحضارات الأخرى -مثل الحضارة الغربية- صدام، فنحن لا نستطيع الصدام. فنقول: إذا لم تستطيع الصدام فإنك لا تستطيع الحوار كذلك؛ لأن القوي سيغلبك، فإنَّه بإمكاناته الاقتصادية والسياسية والإعلامية أقوى منك من كل وجه. فالذين يدعون إلى حوار الحضارات يجرون في ركب الحضارات القوية ويتابعونها، ويقولون: نحن لا نريد الصراع بين الحضارات، مع أن الحقيقة أن الصراع مستمر بين الحق والباطل، سواءٌ أكان هذا الحق ديناً أم حضارةً، وسواء أكان الباطل ديناً أم حضارة، فلا بد من الصراع، ولكن الواجب هو الالتزام بالحق، والدفاع عنه، ودعوة الناس إليه بلغة صريحة، فيقال: ندعوكم إلى هذا الدين ذي البراهين الساطعة، و

كيفية الدعوة إلى التوحيد

كيفية الدعوة إلى التوحيد Q ذكرتم أن أول ما يدعو إليه الداعية توحيد الله، فإذا كنت في بلاد التوحيد فكيف يكون أسلوب الدعوة؟ A أحب أن أنبه إلى نقطتين: الأولى: ليس معنى أن الإنسان يبدأ بالتوحيد ألا يتكلم في أمور الإسلام الأخرى، فلا يتكلم في الأخلاق ولا يتكلم في الآداب ولا يتكلم في الأحكام، فالله عز وجل يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فالدين كامل، ولا بد من أن ندعو إلى دين الله عز وجل كله، ولهذا فإن الله عز وجل يقول: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] يعني: في الإسلام، فلا بد من أن ندعو إلى الدين كله. وتكون الدعوة إلى العقيدة في برنامجنا جزءاً أساسياً ومن الأولويات عندنا. الثانية: أن لا نقبل السكوت عن الشرك والقدح في توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات. فلا بد من أن نتصور كيفية الدعوة، فالدعوة تكون لأناس مسلمين أو لأناس غير مسلمين، فغير المسلمين لا بد من أن تبدأ معهم بالدعوة إلى الإسلام ابتداءً، ولا يصح أن تدعوهم إلى خُلُقٍ من أخلاق الإسلام وهم ليسوا بمسلمين، وإنما تدعوهم إلى الإسلام ابتداءً، أما إذا كنت تدعو المسلمين فلا بد من أن تدعو إلى الإسلام عموماً. ويكون موضوع الدعوة إلى التوحيد أساسياً في دعوتك، ومن الأولويات بالنسبة لك، ولا تقبل بالقدح فيه، وتربط بقية عناصر الدعوة به، ولهذا نجد أن القرآن الكريم يربط الأحكام الفقهية -مثل أحكام الحيض وأحكام الصلاة وأحكام الحج وأحكام البيوع- بالعقيدة، ويربطها بمعرفة أسماء الله وصفاته، ويربطها بتوحيد الله ومراقبة الله عز وجل، ويربطها بكثير من القضايا المتعلقة بالتوحيد، فهذا هو معنى الدعوة إلى توحيد الألوهية.

العذر بالجهل في التوحيد

العذر بالجهل في التوحيد Q هل هناك عذر بالجهل في التوحيد؛ إذ إن علماء الصوفية يُسمع لهم في كثير من بلاد المسلمين، ويطاعون في الغالب، وتشرف على الموالد وزارات الأوقاف؟ A الأصل هو أن التوحيد لا يعذر أحد بجهله، ولكن قد يفعل بعض المسلمين نوعاً من الشرك وهو لا يعلم بأنه يقدح في التوحيد، وبناءً على هذا فلا بد من إقامة الحجة عليه، ويعذر بجهله في هذه الحالة، فينبغي أن نفرق بين أمرين في مسألة الإعذار بالجهل. الأمر الأول: أن اعتقاد التوحيد والالتزام به والحذر من الشرك أمر واجبٌ ولازم ولا يعذر أحدٌ بجهله. الأمر الثاني: أن الذي يعذر بالجهل به هو بعض الصور الشركية التي يظن بعض الناس أنها ليست من الشرك، ويظن بعض الناس أنها ليست عبادة لغير الله، فمثل هؤلاء لا بد من إقامة الحجة عليهم، وإن ارتكبوا كفراً وارتكبوا شركاً مخرجاً من الملة، ولكن لا يصح تكفيرهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم. وينبغي أن نفرق بين أمرين، كون الأمر كفراً أو شركاً في ذاته، وكون المعين كافراً أو مشركاً، فالمعين لا يصح تكفيره إلا بعد أن توجد فيه الشروط وتنتفي عنه الموانع، أما الأمر في نفسه فهو كفر نحذر الناس منه، ونحكم عليه بكونه كفراً، مثل الاستغاثة بغير الله، فقد يرتكبها شخص ويكفر، وقد يرتكبها شخص آخر ولا يكفر؛ لأن الذي ارتكبها وكفر وجدت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع، كأن يكون في بلاد يتضح فيها هذا الأمر، أو ناظره العلماء ونصحوه وبينوا له الحق وعاند، أو نحو ذلك من الأمور التي تحصل للإنسان، وشخص آخر لا يكفر، إذ قد يكون في بادية بعيدة، أو يكون شخصاً ضعيف الإدراك، أو يكون مضلَّلاً من بعض العلماء الذين يدعون إلى هذا الأمر، مع أنه هو نفسه يعظم التوحيد ويعلم خطورة الشرك، ولكنه لا يعلم أن هذه الصورة المعينة توقعه في الشرك.

حكم قول: (ورب الكعبة) (ورب العرش) (ورب القرآن)

حكم قول: (ورب الكعبة) (ورب العرش) (ورب القرآن) Q ما حكم قول: ورب الكعبة، ورب العرش، ورب القرآن؟ A قوله: ورب الكعبة، ورب العرش جائز، وأما (ورب القرآن) فلا يجوز؛ لأن القرآن كلام الله عز وجل، والرب معناه الخالق سبحانه وتعالى، فلا يصح أن يكون القسم بهذه الصيغة.

نصيحة لمن يستخدم الحلف وسيلة لاستغلال الغير

نصيحة لمن يستخدم الحلف وسيلة لاستغلال الغير Q ما الذي ينبغي فعله مع من يستخدم الحلف وسيلة لاستغلال الغير؟ A ينبغي نصحه وإرشاده وتذكيره بالله سبحانه وتعالى.

حكم قول: (صاحب العظمة) للشخص المعين

حكم قول: (صاحب العظمة) للشخص المعين Q ما حكم قول: (صاحب العظمة) لشخص معين؟ A هذا بحسب نية القائل، فإذا كان قصده صاحب العظمة المطلقة فهذا لا شك في أنه محرم، وأما إذا كان يقصد أنه معظم عند قومه بعظمة تناسبه فيبدو لي أنه لا إشكال فيه، وإن كان الأولى هو البعد عن مثل هذه الألفاظ التي تكون عامة وشاملة للأمر المباح والمحرم.

حكم أفلام الكرتون

حكم أفلام الكرتون Q ما حكم أفلام الكرتون التي تبدو فيها الرسومات بأشكال غير واقعية وخيالية، كرسومات لحيوانات وحشرات قائمة على رجلين مثل الإنسان. A أفلام الكرتون التي تكون على شكل إنسان أو حيوان أو غير ذلك الفتوى واضحة فيها، ومبنية بناء شرعياً صحيحاً بحسب رأيي، ولكن يوجد من العلماء من يفتي بجوازها، فلجنة الفتوى التابعة لوزارة الأوقاف في الكويت تفتي بجواز رسم العلماء في شكل أفلام كرتونية، وهذه المسألة من المسائل الفقهية التي يعذر فيها الإنسان إذا اجتهد اجتهاداً شرعياً، وإن كان الصواب الذي أراه هو أن فتوى اللجنة الدائمة أقوى من حيث الدليل، وأرى أن هذه الفتوى الأخيرة خطأٌ، ولكن يعذرون؛ لأن المجتهد إذا اجتهد فأخطأ فله أجر، ويكون معذوراً، وإذا استفتاهم أحدٌ فأفتوه فإنه لا يثرب عليه؛ ولا ينكر عليه لأنهم من أهل الاجتهاد.

ما يترتب على ترك المعصية بعد العزم على فعلها

ما يترتب على ترك المعصية بعد العزم على فعلها Q عاهدت امرءاً على أنني سوف أعمل معه عمل شر، وبعد العهد ابتعدت عن عمل الشر، فهل تركه لي أجر فيه؟ A نعم إذا تبين أنه عمل شر، فلا يجوز العهد ولا ينعقد العهد على عمل شر، ولا يجوز للإنسان أن يعمل الشر بأي مسوغ.

حكم حلف المشتري عند شراء سلعة

حكم حلف المشتري عند شراء سلعة Q إذا حلف المشتري للبائع على أنه وجد هذه البضاعة أرخص مما يبيعها به، فهل يدخل في الحديث الوارد في الحلف في البيع مع أنه مشترٍ؟ A الحديث الوارد فيه نهي عن الحلف الكاذب وإن كان قليلاً، وفيه نهيٌ عن كثرة الحلف وإن كان صحيحاً، وهذا يقع على البائع الذي يريد ترويج بضاعته، ويقع على المشتري الذي يريد أن يأخذ بضاعة رخيصة، فإذا كان الحلف كذباً فهو محرم، وإذا كان غير كذب فكثرته محرمة منهيٌ عنها.

حكم الاستعانة بالكفار على المسلمين

حكم الاستعانة بالكفار على المسلمين Q ما حكم الاستعانة بالكفار على المسلمين؟ A الاستعانة بالكفار على المسلمين من أمثلتها أن يكون الكفار في حرب ضد المسلمين، ثم يطلب الكفار من بعض المسلمين أن يساعدوهم على إخوانهم المسلمين، فمساعدة الكفار كفرٌ بواح مخرج عن دائرة الإسلام، كما في فلسطين أو في أفغانستان، فلو أن إنساناً ساعد شارون على حرب المسلمين فحكمه الكفر سواءٌ أكانت المساعدة برجال أم بمال أم بسلاح أم برأي أم بأي وسيلة من وسائل المساعدة، فهذا كفر مخرج عن دائرة الإسلام، وإذا كانت مساعدة شارون على الفلسطينيين كفراً، فمساعدة أمريكا على أفغانستان كفر، وأي دولة من دول الكفر تحارب المسلمين فإن مساعدتها على المسلمين كفر لا شك فيه، وهذه من نواقض الإسلام المشهورة والمعروفة التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

معنى الشرك الخفي

معنى الشرك الخفي Q هل الشرك الخفي من الشرك الأصغر أم الأكبر؟ A يرى بعض العلماء أن إضافة الشرك إلى الخفي إضافة إلى نوع الشرك، يعني كون هذا الشرك خفياًّ وليس بظاهر، فيدخل فيها الشرك الأكبر الخفي والشرك الأصغر الخفي، وبعضهم يرى أن الشرك الخفي خاص بالأصغر.

حكم مقاطعة المنتجات الأمريكية والإسرائيلية

حكم مقاطعة المنتجات الأمريكية والإسرائيلية Q ما حكم مقاطعة المنتجات الأمريكية والإسرائيلية لما ينتج عنها من هزة للاقتصاد الأمريكي؟ A لا شك في أن أي وسيلة من الوسائل التي فيها إضعاف هؤلاء المشركين والكفار مطلوبة، فإذا كان في الإمكان أن يكون هناك تعاون على هذا الأمر فهذا أمر مطلوب وينبغي أن يحصل؛ لأن اقتصاد هؤلاء -مع الأسف- يقوم على شراء المسلمين له، ولو أنهم قاطعوا مثل هذه المنتجات فلعل المقاطعة تكون مجدية ومفيدة.

حكم التسمية بـ (عبده)

حكم التسمية بـ (عبده) Q ما حكم التسمي باسم عبده؟ A المشكلة في هذا الاسم أن الضمير مجهول، فلا يعرف إلى من يعود، فإذا كان المقصود به: عبد الله أو عبد الرحمن فلا شك في جوازه، وإن كان المقصود به غير ذلك فلا يجوز، وينبغي تغيير مثل هذه الأسماء المبهمة.

حكم الطعن في المجاهدين

حكم الطعن في المجاهدين Q ما حكم الذين يسبون المجاهدين وينتقدونهم ولا يشدون من أزرهم؟ A لا شك في أن هذا خطأ كبير، والواجب هو مساعدة المجاهدين وإعانتهم والدعاء لهم بأن يثبتهم الله عز وجل فإذا لم يكن للإنسان مشاركة مع إخوانه في الجهاد في سبيل الله فليدع لهم، وليسأل الله عز وجل أن ينصرهم على الكفار، وليدع الله سبحانه وتعالى أن يوفقهم، ويجتهد في أن يدافع عن أعراضهم في أي مكان من الأمكنة، فالمجاهدون لهم فضل عظيم جداً، ومن يقتل منهم وهو مخلص لله عز وجل له أجر عظيم عند الله سبحانه وتعالى، ويكفي هؤلاء أنهم جادوا بأنفسهم في سبيل الله، وقاتلوا أعداء الله سبحانه وتعالى، فالطعن فيهم وذمهم ونقدهم والتشنيع عليهم خطأ. ولا ينبغي أن يكون ذلك من العامي فضلاً عن الداعية إلى الله عز وجل، فإذا لم تكن معهم فادع لهم، وإذا لم تساعدهم بمالك فادع لهم، أو دافع عن أعراضهم أو اسكت عنهم، فما الذي يدعوك إلى أن تتكلم؟ وما الذي يدعوك إلى أن تجعل المجاهدين خصمك يوم القيامة؟ فبالله خبرني عن شخص خصمه يوم القيامة المجاهدون في سبيل الله، ففي أي كفة سيكون؟! فلا شك في أن الإنسان ينبغي له أن يبتعد عن الطعن في المجاهدين، وبعض الناس يكون في قلبه مرض، فيشكك في نياتهم، أو يشكك في أغراضهم ومقاصدهم، أو يشكك في جهدهم وهم من أصدق الناس ومن أكثر الناس تقوى لله عز وجل، فإذا كان الإنسان يصبر على القتال في سبيل الله حتى يقتل فهذا من أعظم الجهود ومن أعظم الحب لله سبحانه وتعالى، ولا نزكي على الله أحداً، فينبغي للإنسان أن يبتعد عن نقدهم وأن يجتهد في عونهم، وأن يجتهد في الدعاء لهم في الصلاة، وفي خاصة نفسه ومع أهله، وأن يُذَكِّر أهله وأولاده بالدعاء لهم، بل ينبغي أن يحيي الجهاد في المسلمين، ويحيي هذه الفريضة الغائبة التي أصبح الكلام عنها كأنه كلام تاريخي في كثير من بقاع المسلمين، ونحن نلحظ ما يفعله اليهود الآن، وما يفعله الأمريكان بالمسلمين في أفغانستان وفي فلسطين، وكيف يدمرون بلادهم على مرأى ومسمع من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم من أكثر الناس عدداً، فعددهم أكثر من مليار، فلو نفر من كل مائة رجل واحد لكونوا جيشاً قوياً لن يستطيع أن يقف أمامه الإسرائيليون ولا الأمريكيون أبداً، ولكن مشكلتنا هي أننا عصينا الله عز وجل أولاً، فترتب على ذلك هذا الهوان وهذا الضعف وهذا الذل. فالواجب في مثل هذه الظروف هو أن نحيي روح الجهاد في كل الناس، وأن نحييه في نفوس الشباب، وأن نحييه في نفوس الأطفال، وأن نحييه في نفوسنا نحن، وأن نحييه في كل مكان، ولو كان هناك شخصٌ غيرَ متدين في الظاهر فإنه ينبغي أن نحيي هذه الروح في نفسه؛ لأن هؤلاء الكفار لا يقاتلون المتدينين ويتركون الشباب الآخرين، بل يريدون اجتثاث أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الجذر ومن الأساس، فيقتلون كل أحد، يقتلون النساء ويقتلون الصبيان ويقتلون الذي لا ذنب له ويقتلون الشيخ الكبير ويقتلون الأعمى ويذلونهم. وقد رأينا ما حصل لأفغانستان، فقد دمرت وأصبحت -مع الأسف- قاعاً صفصفاً، وكل ذلك بسببنا نحن، والأمريكيون يشهدون فيقولون: لو لم يكن هناك تحالف بيننا وبين بعض الأفغان -يعنون التحالف الشمالي- لما استطعنا أن نقضي عليهم وأن ندمرهم بهذه الطريقة. إذاً: نحن الذين ندمر أنفسنا بأنفسنا، وهكذا الأمر في فلسطين، وهكذا الأمر في كثيرٍ من بلدان المسلمين، فالواجب في هذه الظروف أن نحيي روح الجهاد في كل الأمة، وصحيح أنه لن يكون هناك شيء عملي للجهاد، مع أن الكثير يطالبون بفتح باب الجهاد للدفاع عن إخواننا الفلسطينيين والمسلمين الذين يذبحون هناك، فقد لا يكون شيء واقعي الآن، ولكن -على أقل تقدير- نحيي هذه الروح في النفوس، ونشرك في ذلك، كل الشباب سواءٌ أكانوا ملتحين أم غير ملتحين، وسواءٌ أكانوا يقعون في شيء من المعاصي أم لا، حتى الذين يسمعون الدسكو، والذين يتأخرون عن الصلاة، والذين يقعون في الفسق والمعاصي، يجب أن نحيي روح الجهاد في نفوسهم، وأن يحدث الواحد نفسه يوماً من الأيام أنه سيحمل سلاحه ويقاتل أعداء الله، فهذا أمر واجب وأساسي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من لم يغز - يعني: من لم يقاتل في سبيل الله - ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق) فالذي لم يتكلم مع نفسه في يوم من الأيام، ولم يفكر ولم يتمنَّ أن يحمل سلاحه ويقاتل في صفوف المسلمين في إيمانه دخن، وفيه شعبة من شعب النفاق والعياذ بالله، فينبغي أن نحيي روح الجهاد.

§1/1