شرح كتاب التدليس في الحديث للدميني - محمد حسن عبد الغفار

محمد حسن عبد الغفار

المقدمة

التدليس في الحديث - المقدمة لقد اهتم العلماء اهتماماً منقطعاً بعلم مصطلح الحديث، وأولوه كل عنايتهم، بل هم الذين وضعوه، وأسسوا قواعده وأصوله، وذلك حفاظاً على حديث النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب والوضع، فوضعوا أعظم المناهج والمصطلحات في ذلك، وتتبعوا رواة الحديث وأخبارهم، وقسموا الحديث إلى أنواعه المعروفة عند أهل العلم، حتى استقر على ما هو عليه اليوم، ومن الأنواع التي وضعوها: الإرسال والتدليس، وتتبعوا رواية المرسلين والمدلسين، وصنفوها إلى طبقات، وذلك كله من أجل الحفاظ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فرحمهم الله، وأجزل مثوبتهم.

التعريف بمؤلف كتاب: التدليس في الحديث

التعريف بمؤلف كتاب: التدليس في الحديث إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: نستهل الكلام على هذا الكتاب الجليل، كتاب: (التدليس في الحديث، حقيقته وأقسامه وأحكامه ومراتبه والموصوفون به)، يعني: طبقات المدلسين، وهو للشيخ الفاضل الكريم الدكتور: مسفر بن غرم الله الدميني من الرياض، وقد أخذ الدكتوراة من الأزهر، وهو رجل وتد في علم الحديث، وإن كان ليست له تخريجات أو تعليقات أو تحقيقات، فقد كان يهتم بالجانب النظري أكثر، فهو فحل في هذا الجانب، وله كتب ماتعة، منها: نقض في السنة، ومنهج الترمذي في كتابه، وهذا الكتاب الذي نشرحه.

أهمية السنة النبوية

أهمية السنة النبوية إن السنة النبوية من الأهمية بمكان، وتظهر أهمية السنة بعلاقتها مع كتاب الله جل في علاه، فهما صنوان متلازمان، لا يمكن أن يفترقا بحال من الأحوال. وسنة النبي صلى الله عليه وسلم قال عنها عمران بن حصين: إن القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، وما ذلك إلا لأن الله جل في علاه قال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]، وهذا التبيين يكون من النبي صلى الله عليه وسلم بسنته وبشرعه الذي شرعه، أو نقلاً لشرعه وحياً عن الله جل في علاه وقد قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. وتظهر أهمية السنة النبوية في أنها مبينة لكلام الله جل في علاه، ومبينة لمراده جل في علاه في كتابه، وهذا التبيين أنواع: فقد تكون مفسرة للمجملات، أو مبينة للمشكلات أو مقيدة للمطلقات ومخصصة للعمومات. فالسنة النبوية هي التي تفسر لنا وتبين لنا مراد الله في كتابه، فمثلاً: لما أمر الله بالصلاة والزكاة في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، فإنه لم يبين أن صلاة الصبح ركعتان، وصلاة الظهر والعصر أربع ركعات، وصلاة المغرب ثلاث ركعات، وصلاة العشاء أربع ركعات، ولم يبين وقت كل صلاة، ولا شروط الصلاة وأركانها، وإنما أتت الآية مجملة، آمرة بإقامة الصلاة فقط. فبينت السنة كل هذا، وهذه الآية من أعظم ما يرد به على القرآنيين، الذين يقولون: لا نأخذ إلا بالقرآن، ويرمون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم خلفهم ظهرياً، فإن قولهم هذا يؤدي إلى تعطيل الدين في نهاية المطاف؛ لأن أغلب الأحكام بينتها السنة، ولم تذكر في القرآن.

أهمية صلاح الباطن في تعلم العلم

أهمية صلاح الباطن في تعلم العلم إن التوفيق مداره على صلاح الباطن لا على الظاهر؛ لأن الله جل وعلا يقول: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]، ويقول: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] والميزان الرباني: هو النظر إلى القلوب وإلى طهارتها، حتى العلم لا يناله إلا نقي القلب، وقد جاء عن ابن عباس بسند صحيح أنه كان يقول: يؤتى المرء الفهم بنيته. فرد المسألة بالفهم إلى النية، وهذه أيضاً مستقاة من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]. وهذه ليست دليلاً على العلم، ولكن المعنى: إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً تفرقون به بين الحق والباطل. وأسال الله جل وعلا أن يجمعنا وإياكم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، وأن يغفر لنا زلاتنا، ويستر علينا عيوبنا، ويعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا.

اهتمام السلف بالسنة والنبوية

اهتمام السلف بالسنة والنبوية القرآن والسنة صنوان لا يفترقان بحال من الأحوال؛ لأن القرآن كما قال عمران بن حصين: إن القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن. وقد بينا أن السنة تبين مجملات أو مشكلات القرآن، وضربنا المثل بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ولم يبين نصاب الزكاة، ولا اشتراط الحول لإخراجها، وإنما بينتها السنة. ولما ظهرت أهمية السنة عند علمائنا وعند السلف الصالح علموا أنه لابد من الحفاظ على هذه السنة، وعلى هذا التراث العظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها هي المبينة لمراد الله جل في علاه، ونحن إنما خلقنا كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. ولن نعبد الله جل في علاه حق العبادة إلا إذا عقلنا عن الله ما أمرنا به، ولن نعقل عن الله مراده إلا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك اهتم العلماء بالسنة، وفهموا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أنس وعن غيره: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).

شدة تحري الصحابة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم

شدة تحري الصحابة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان الصحابة من أشد الناس تحرياً في ضبط القول، وهل قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ أم لا؟ ولذلك جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما حدثني أحد - من الصحابة أو من التابعين - بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أمرته أن يقسم بالله، -يعني: حلفته بالله جل في علاه أسمعت هذا من رسول الله؟ إلا أبا بكر قال: وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر فهو صديق من فوق سبع سماوات. فهذا بيان لتحري الصحابة على ضبط أن هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم. وكان عمر بن الخطاب لا يحدثه أحد بحديث إلا قال له: ائتني بشاهد. وتحري عمر هذا يحتج به بعض المتنطعين الذين يقولون: لا تقبل أحاديث الآحاد لا سيما في العقائد، والرد على ذلك وجيز، وهو أن عمر بن الخطاب ما كان يرد أحاديث الآحاد في هذه المواقف، بل لقد قبل كثيراً من أحاديث الآحاد، وإنما كان شديد التحري، فمثلاً: لما حدث عمار بن ياسر بحديث اليتيم، وأنه كان مع عمر، وقد نسيه عمر، فقال له عمر: انظر ما تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لو أردت لم أحدث به، قال: لا، أرو، ونوليك ما توليت. فهذا يدل على أنه قبله منه، وهو حديث آحاد، بل إن القصة كان فيها عمر، وقد علم أنه قد وهم، ولذلك ترك الأمر إلى الراوي نفسه، وقال: نوليك ما توليت، فهو لا يشدد في هذه المسألة إلا لحكمة، فالمسائل التي فيها أحكام وتحتاج لضبط كان يشدد فيها ويريد الشاهد، لا لأنه يرد حديث الآحاد، وحديث عمار ظاهر جداً في أنه لا يرد حديث الآحاد. فالغرض المقصود من هذا هو أن الصحابة كان لهم تحر فائق في أن هذا الحديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا، وأيضاً أبو بكر قد فعل ذلك لما جاءته الجدة تطلب ميراثها فقال: لا أعلم لكن ميراثاً في كتاب الله جل في علاه ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن انتظري حتى نسأل المهاجرين والأنصار، فقام المغير بن شعبة فقال: عندي فيها سنة، قد أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم السدس، فقال: ائتني بشاهد، ولم يقصد بقوله: ائتني بشاهد ليرد حديثه، وإنما لأن هذا حكم فيه مال، فأراد أن يعضده بغيره. إذاً: كان الصحابة شديدي التحري في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

شدة تحري العلماء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم

شدة تحري العلماء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء الجهابدة بعدهم والسلف الصالح فقالوا: لما قعد النبي صلى الله عليه وسلم هذه القاعدة: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، ولما كانت السنة مكانتها من القرآن هذه المكانة فلا بد من أن نتأكد تأكداً تاماً أو غالباً على الظن أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا الكلام، فوضعوا له أصولاً وقواعد، لابد أن يتبعها طالب العلم، أو العالم الذي يريد أن يأخذ الحديث بسند صحيح كالشمس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الشروط والضوابط التي وضعوها منها شروط عامة، ومنها شروط خاصة.

الشروط العامة لصحة الحديث

الشروط العامة لصحة الحديث فأما الشروط العامة فإن الحديث لا يقبل عندهم بحال من الأحوال إلا إذا توافرت فيه خمسة شروط أو أربعة، وهي: أن يتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه، من غير شذوذ ولا علة. والضبط نوعان: ضبط صدر، وضبط كتاب، والمقصود هنا: ضبط الصدر، والفرق بين العدل والعادل: أن العادل متعدي، فهو عادل في أحكامه ومعاملاته، وأما العدل فهو ذاتي. فالشرط الأول هو أهم الشروط، وهو ما اتصل سنده، واتصال السند لا يكون إلا من رواية التلميذ عن شيخه، بأن يسمع من شيخه، ولذلك فإن العلماء أخذوا المدلسين ووضعوا عليهم سياجاً عظيماً، وذلك مثل أبي الزبير، فإنه مدلس، وروايته في مسلم عن جابر رضي الله عنه، ولكن العلماء لم يهملوا المدلسين، سواء في الصحيح أو غير الصحيح، فمثلاً: قالوا عن أبي الزبير: إنه يقبل حديثه بدون قيد أو شرط إذا روى عنه الليث بن سعد؛ لأن الليث كان يوقفه في حديثه ويسأله: أسمعت ذلك من جابر؟ فيقول: سمعت من جابر إذا كان سمعه، وإلا قال: حدثني به فلان عن جابر. فيكتب الليث كلامه. إذاً: فقد كان الرواة الثقات وعلماء الجرح والتعديل شديدي الحرص على اتصال السند؛ لأنه شرط أصيل لصحة الحديث.

العلاقة بين الإرسال والتدليس

العلاقة بين الإرسال والتدليس وعند الكلام عن اتصال السند لابد من الكلام عن التدليس والإرسال، والإرسال الخفي، وطبقات المدلسين؛ لأنها كلها ناتجة عن انقطاع السند. والإرسال مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتدليس، والعلاقة هي الإسقاط، فالمدلس يروي عن شيخه الذي عاصره ما لم يسمع منه، والمرسل: هو أن يروي عمن لم يعاصره بصيغة محتملة للسماع. إذاً: فهما يتفقان ويفترقان، فيتفقان في الإسقاط، ويختلفان في المعاصرة، فالمدلس قد عاصر من دلس عليه، وأما المرسل فلم يعاصر من أرسل عنه. مثل: سليمان بن مهران الأعمش، فقد كان مدلساً، وكان بحراً ثقة، كما قال الذهبي عنه: أنه إذا صرح بالسماع فلا كلام، فإذا قال الأعمش في إسناده: عن أنس بن مالك، نظرنا هل سمعه منه أو لا؟ وهو قد رأى أنساً، ولكن هل سمع منه أم لا؟ فينظر في هذه العنعنة؛ لأن الصحيح الراجح أنه لم يسمع من أنس، فيبحث عن الواسطة بينهما، الذي أسقطه، وهل هو ثقة أو لا؟ وكذلك إذا قال سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن سعيداً مختلف في سماعه من عمر، فكيف يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يعاصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من التابعين، وليس من الصحابة. إذاً: المدلس عاصر من دلس عليه، وأما المرسل فلم يعاصر من أرسل عنه، وأهل التحقيق يسمون هذا النوع من التدليس: إرسالاً خفياً.

الحديث المرسل وتعريفه

الحديث المرسل وتعريفه

تعريف المرسل لغة

تعريف المرسل لغة المرسل لغة: من أرسل الشيء، أي: أطلقه، ويأتي بمعنى: وجهه، ذلك أن المرسل هو الذي روى الحديث عمن لم يسمعه ولم يعاصره؛ فكأنه أطلقه عن راويه. مثل أن يقول سعيد بن المسيب: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقول أيوب السختياني -وهو من طبقة صغار التابعين- أو الزهري أو الشعبي: عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء أرسلوا هذا الحديث، أي: أنهم أطلقوه ولم يقيدوه براو معروف، فمثلاً: لم يقل سعيد بن المسيب: سمعت عثمان قال: قال صلى الله عليه وسلم، ولم يقل الزهري: سمعت أنس قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، وإنما أطلقوه ولم يقيدوه براو معروف، الذي هو أحد الصحابة رضي الله عنهم. وأيضاً يأتي المرسل في اللغة بمعنى: الاسترسال، والاسترسال بمعنى: الاطمئنان، أي: أن الراوي الذي أرسل الحديث اطمئن للطبقة التي فوقه، والتي أخذ منها، مثل أن نقول: إن الزهري أخذ الحديث عن أنس، فلما أخذه عن أنس اطمئن على صحة الحديث؛ لأنه لا كلام في أنس رضي الله عنه؛ لأنه معدل من فوق سبع سماوات، فلا يحتاج إلى أن يعدله أحد، فلما اطمأن على رواية أنس أسقطه، وروى مباشرة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أن هذا الحديث صحيح وليس ضعيفاً؛ لأنه من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه. فكأن الراوي في مجلس التحديث استعجل، أو استعجله طلبة الحديث فروى الحديث وأسقط السند، فرواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسله عنه، أي: أنه تعجل في روايته ولم يتأن، ولم يأت بالسند الذي فوقه.

تعريف المرسل اصطلاحا

تعريف المرسل اصطلاحاً وأما معنى المرسل في الاصطلاح فإن المحدثين اختلفوا في تعريفه على أقوال كثيرة جداً، وسنجملها -إن شاء الله تعالى- في ثلاثة أقوال: الأول: وهو قول كثير من المحدثين: أنه رواية التابعي الكبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا التعريف: أن الرواة بعد الصحابة إما أن يكونوا من التابعين أو لا، والتابعون قسمان: كبار وصغار، فالكبار مثل: سعيد بن المسيب وعبدالله بن عتبة بن مسعود ومسلم بن يسار، هؤلاء من طبقة كبار التابعين، وأما صغار التابعين فكـ الزهري وأيوب السختياني، وأما غير التابعين فمطلق وليس مقيداً، فقال أصحاب هذا القول في تعريف المرسل بأنه: رواية التابعي الكبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كـ سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكـ القاسم بن محمد بن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المرسل فقط عندهم. ووجهة ذلك: أنه لما كان النظر في الحديث المرسل إلى من أسقط من السند، فإن التقييد بكبار التابعين معناه: أن الذي أسقط سيكون صحابياً، وأن التابعي قد أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسقاط الصحابي، قالوا: وهذا في غالب ظننا أنه لا يكون إلا من التابعي الكبير؛ لأنه لو كان تابعياً صغيراً فيحتمل أنه أخذ من التابعي الكبير ولم يأخذ عن الصحابة، إلا من عاش دهراً من الصحابة، ومنهم أنس بن مالك، وهذا نادر؛ لأنه نادر؛ ولأنه يصعب على كل صغار التابعين الرحلة إلى هذا الصحابي الذي عُمِّر، حتى يسمعوا منه هذا الحديث، هذا هو التعريف الأول للمرسل عند العلماء، وهو الصحيح الراجح. القول الثاني: وهو قول جمهور المحدثين: أنه رواية التابعي بإطلاق عن النبي صلى الله عليه وسلم. قالوا: لأنه لا يشق على التابعي الصغير أن يذهب إلى هذا الصحابي ليأخذ منه الحديث ويرويه عنه، وقد كان هذا موجوداً، وإذا كان موجوداً وممكناً فلابد أن نلحقه بالحكم المجاور له. فقالوا: بأنه رواية التابعي بإطلاق عن النبي صلى الله عليه وسلم. القول الثالث: وهو قول الأحناف: أنه رواية التابعي وغير التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو من المتأخرين. وهذا غير مرضي بحال من الأحوال؛ لأننا إذا قلنا بأن المرسل هو: رواية التابعي الكبير، فيكون قد أسقط فيه الصحابي، فيكون احتمال الضعف قليلاً، وإذا قلنا بأن المرسل هو: رواية من تحت التابعي، بل تحت أتباع التابعين، فإنه يكون من المحتمل أنه قد سقط من السند أكثر من راو، فيكون احتمال الضعف كبيراً. وقال بعض العلماء: كل منقطع مرسل، فقالوا: المرسل: هو إسقاط راوٍ من أي طبقة من طبقات الإسناد، بشرط أن يكون الساقط واحداً فقط، أما لو سقط أكثر من واحد فإنه يكون معضلاً. وهذا أيضاً توسع غير مرضي، مثل رواية مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أسقط زيد أباه فرواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، أو أسقط مالك زيداً فرواه عن أسلم فإن أصحاب هذا القول يسمونه مرسلاً.

حكم العمل بالحديث المرسل

حكم العمل بالحديث المرسل جاء في حكم العمل بالحديث المرسل تسعة أقوال، ونجملها في الأقوال الآتية: جمهور علماء الحديث كـ أحمد وابن المديني والقطان وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن معين: يرون الحديث المرسل ضعيفاً، وليس بحجة، وهو قول المحققين من أهل الحديث، كما رجح ذلك الإمام النووي؛ لأننا لا نعلم من سقط منه، وهل هو صحابي أو غيره، فإن كان صحابياً فالحديث صحيح؛ لأن الصحابة كلهم عدول، وإن كان غير صحابي فلا نعلم هل هو ضعيف أو ثقة؟ فلما نشأ هذا الاحتمال ضعف الحديث المرسل، ولم يعمل به؛ لأنه يحتمل أن يكون الساقط ضعيفاً، فيضعف الحديث. ويرى الأحناف أنه يقبل مطلقاً إذا كان المرسل ثقة، وهي رواية عن أحمد وبعض المالكية، وحجتهم: أن من أسند فقد برئ. وهذه قاعدة عند المحدثين، ولذلك ترى كثيراً من العلماء عندما ينظرون في الكتب المتقدمة يقولون: هؤلاء قد برءوا ساحتهم، حتى ولو كان في كتبهم بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة؛ لأنهم قد أسندوا ما يروونه، ومن أسند فقد برئ، ومن أسند فقد أحال، أي: أحالك على التعب والشقاء والبحث، حتى ترى هذا السند صحيح أم لا؟ إذاً: فهذا الراوي الثقة عندما أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد أراحك، وهو لم يسند ولم يحلك على غيره، وإنما قال لك: أنا أثق بأن رواية هذا الحديث صحيحة. إذاً: فوجهة نظرهم: أنه لما أسقط فإنه قد تأكد من صحة الحديث، فحمل عنك هذا العناء، وقال لك تلميحاً: هذا الحديث صحيح، فخذه مني واعمل به. فمن أسند فقد أحال وأتعبك في البحث، ولكن من أسقط وأعطاك وهو ثقة فهذه دلالة على أنه يعلم يقيناً أن هذا الحديث من الصحة بمكان. القول الثالث: التفصيل، وفيه أقوال كثيرة، سنبينها ونجملها في أمرين: الأول: النظر إلى المرسل، والثاني: النظر إلى المرسَل، والمرسِل هو: الراوي، والمرسَل هو: المتن نفسه. فقال العلماء: إذا كان المرسِل لا يرسل إلا عن ثقة فيؤخذ حديثه ويؤخذ بمرسله ويعمل به، وذلك كمراسيل ابن المسيب، وقد قال الشافعي: أحسن المراسيل بعد التتبع هي مراسيل سعيد بن المسيب، فقد كان لا يرسل إلا عن ثقة، فقد وجد بعد البحث والتتبع أنه لا يسقط إلا الثقات، فإذا كان المرسل بهذه الحال فيكون حديثه حجة. وأما إن كان المرسِل لا يرسل عن ثقة فحديثه ليس بحجة، مثل الحسن البصري، قال فيه العلماء: مراسيله كالريح؛ لأنه كان يرسل عن الضعفاء والثقات، يأخذ من كل أحد، فمراسيله ضعيفة، وقد رجح هذا القول بعض الشافعية، وعليه تعقيب وتفصيل ليس هذا محله. وأما من جهة النظر إلى المرسَل فقال العلماء: إنه يمكن العمل بالمرسل ويكون حجة، وذلك إذا جاء من طريق آخر مرسلاً غير الطريق الأول، وذلك مثل رواية ابن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود مرتهن بعقيقته)، ورواية الشعبي أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً: (كل مولود مرتهن بعقيقته)، فيتفق هذا المرسل مع المرسل الأول، ويعضد كل منهما الآخر، فيحتج به؛ لأن العلماء يقولون: ضعيف مع ضعيف يتقوى أحدهما بالآخر، وكان بعض العلماء يضرب لطلبته مثلاً لذلك ويقول: لو أن أحداً عنده في رجله أو يده ضعف مثلاً، وجاء رجل آخر عنده نفس الضعف في رجله أو يده، فأخذ هذا بيد الآخر فإن كلاً منهما يتقوى بصاحبه، ويسيرون معاً. إذاً: إذا جاء المرسل من طريق آخر مرسلاً فإنه يكون حجة. وهذا كلام الشافعي. وقال أيضاً: إذا جاء من طريق آخر مسنداً فإنه أيضاً يقوي هذا المرسل، وهذا مأخوذ من كلام الشافعي، حيث قال: والمرسل حجة عندنا إذا جاء من طريق آخر من مخرج آخر أو جاء من رواية أخرى مسندة. فإن قيل: ولم تأخذ بالمرسل وقد أغناك الله بالمسند، فلا عبرة أن تقول هذا تقوى بالمسند؛ لأن المسند فيه غنية -وهذا مأخذ جيد-؟ فنقول: تظهر ثمرة ذلك عند الترجيح في التعارض، فلو جاء مثلاً مرسل ومسند يقول: طلاق الحائض يقع، وجاء مسند آخر يقول: لا يقع، ولم يمكن الجمع بينهما، فإننا نلجأ إلى الترجيح بينهما بطرقه المعروفة، ومن هذه الطرق: الترجيح بكثرة الطرق. وكذلك إذا عمل به جمع غفير من العلماء، أو كانت عليه فتوى العلماء، أو عمل به علماء العصر، فإذا عمل به علماء العصر غلب على الظن أنه مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال الشافعي: إن الحكم عندنا في المرسل لا الرد مطلقاً ولا القبول مطلقاً بل التفصيل؛ فننظر في المرسِل إن كان يرسل عن ثقات قبلناه، وإن كان لا يرسل عن ثقات كـ الحسن البصري فإنا لا نقبله، وأيضاً ننظر إلى المرسَل -المتن- فإن عضد بمتن آخر، أو جاء من طريق آخر أخذناه، أو كان له فتوى عالم من العلماء قبلناه أيضاً. هذا هو التفصيل، وإذا أردنا الترجيح فلابد أولاً من التقعيد التفصيلي، ولا بد لطالب العلم أن يؤصل أولاً، حتى إذا أراد أن يخرج بعد ذلك فإنه يخرج على هذا التفصيل. فنقول أولاً: كل مرسل ليس بحجة؛ لأنه قد اشترط العلماء في تصحيح الحديث أن يتصل إسناده، وهذا غير متصل، بل قد أسقط الراوي من روى عنه، ونحن لا نعلم أهو ثقة أو ضعيف؟ فإذاً: كل مرسل ليس بحجة، إلا إذا كان الذي أرسل لا يرسل إلا عن الثقات، وهذا ليس خاصاً بـ ابن المسيب، وإنما كل من أرسل عن الثقات فيؤخذ بإرساله، هذا هو الصحيح الراجح. إذاً: كل مرسَل ضعيف، إلا إذا كان من أرسل لا يرسل إلا عن ثقة، أو اعتضد بغيره.

حكم مرسل الصحابي

حكم مرسل الصحابي وقد كان بعض الصحابة يرسلون الحديث، فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يقولون: أكثر أبو هريرة، والله الموعد، كان إخواننا من المهاجرين ينشغلون بالصفقة -أي: بالتجارة- وكان إخواننا من الأنصار ينشغلون بالزرع، وكنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شبع بطني. ويتصور الإرسال في صغار الصحابة كـ ابن عباس وابن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد أرسلت عائشة نفسها حديث بداية الوحي؛ لأنها لم تكن قد ولدت في ذلك الوقت، فقد جاء في الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم عن عائشة قالت: تزوجني الرسول صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين. وقد تزوجها وهو في المدينة بعد الهجرة، وكان قد مكث في مكة ثلاث عشرة سنة، إذاً عائشة رضي الله عنها وأرضاها قد أرسلت هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً ابن عباس أرسل حديث: (لا ربا إلا في النسيئة) فإنه لما روجع فيه قال: سمعته من أسامة بن زيد، فأرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد وردت أقوال عن أهل العلم في حكم مرسل الصحابي. القول الأول: قالوا: يقبل مطلقاً. القول الثاني: قالوا: هو وباقي المراسيل سواء. القول الثالث: التفصيل: فإن كان ممن يأخذ عن التابعين، فمرسله لا يكون حجة حتى في الغيبيات، وهذا كـ ابن عباس فإنه كان يأخذ عن كعب الأحبار، وكـ عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه كان يأخذ عن كثير من التابعين، وأما غيره فيكون حجة. والراجح الصحيح في ذلك قولاً قاطعاً: أن مرسل الصحابي صحيح، وهو حجة؛ لأنهم كلهم عدول، وقد عدلهم الله من فوق سبع سماوات، وعدلهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يحتاجون إلى التعديل، فمرسل الصحابي حجة بلا نزاع. ونرد على من قال: إن مرسل الصحابي كباقي المراسيل بأن نقول: لا والله لا يستويان مثلاً ولا يشتركان في الفضل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم)، فهم من أهل الخيرية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً لعظمة مكانتهم: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد)، وفي رواية في السنن بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يغزو فئام من الناس فيقال لهم: أفيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم. -بلا قتال ولا شيء بل ببركة الصحبة مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثم يغزو فئام من الناس، -وهذا أيضاً في الفضل- فيقال لهم: أفيكم من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم)، وقال كذلك في الثالثة. فهذا فيه دلالة على فضل الصحابة على غيرهم، فإنهم لا يستوون مع غيرهم، فقد جاء تعديلهم من فوق سبع سماوات، وعلى لسان النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحابة كلهم عدول. وأما قول القائل الذي قال: إنهم يأخذون عن التابعين، فهذا من الندرة بمكان، ولم يكن ابن عباس ولا عبد الله بن عمرو بن العاص يأخذون عنهم رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ الصحابة متوافرون، فكانوا يأخذون عنهم، ولم يكونوا ينزلون في السند، وعندهم العلو، إذ النزول مذموم إذا وجد العلو. هذا هو الصحيح الراجح في ذلك.

الصبر على طلب العلم

الصبر على طلب العلم إن طلب العلم شاق جداً في بدايته، فينبغي على طالب العلم أن يصبر عليه ويصابر، ويظهر لله أنه صادق في طلبه، فإن فعل ذلك فتح الله عليه الفتوح التي لا يمكن أن تفتح على مثله، وإن صدق الله صدقه، وليشرب ماء زمزم كثيراً على العلم، فقد شرب من هم أفضل منا جميعاً على طلب العلم، فمنحهم الله ما لم يتصوروا، فـ ابن حجر كان يقول: كنت آتي ماء زمزم - وهو يصحح حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن زمزم لما شرب له - وأشرب حتى أصل لحفظ الذهبي. فكان فحلاً موسوعة في حفظ الحديث. قال: شربت ماء زمزم لأصل لحفظ الذهبي، فما لبثت إلا أن تفوقت على حفظ الذهبي. وأيضاً أبو بكر بن العربي قال: شربت كثيراً ماء زمزم ليؤتيني الله الفقه والعلم، يعني: الفقه والحديث. فآتاه الله ما طلب، فكان مفسراً محدثاً بارعاً، فقال: وليتني تداركت الأمر أن أشرب ماء زمزم على العلم والعمل. إذاً: فاصدق الله يصدقك، وكلما استيقنت في ربك آتاك الله ما تريد، وإن الله عند ظن عبده به، وأختم: لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا وبعدها ستعرف الفرق الكبير بين مجلس العلم وبين مجلس الوعظ والتذكير. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

صيغ أداء الحديث مع بيان حكم الحديث المعنعن

التدليس في الحديث - صيغ أداء الحديث مع بيان حكم الحديث المعنعن لأداء الحديث صيغ كثيرة عند المحدثين، منها: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وقال، وسمعت، وعن، وأن، ومن هذه الصيغ ما يدل على السماع من الشيخ، ومنها ما يدل على القراءة على الشيخ، ومنها ما يدل على الرواية بالإجازة، ومنها ما لا يدل على السماع كصيغة عن وأن، فإن كانت من مدلس لم تقبل، وإن كانت من غيره وأمكن اللقاء قبلت.

جهود المحدثين في تنقيح الأحاديث

جهود المحدثين في تنقيح الأحاديث إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فما زلنا مع كتاب التدليس في الحديث للدكتور مسفر الدميني. العلماء وضعوا القواعد والضوابط في علم الحديث ليميزوا قول النبي صلى الله عليه وسلم من قول غيره، وكانوا يقمشون ثم ينقشون، أي: يجمعون الحديث ثم يحققون ويدققون هل هذا حديث النبي أو ليس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم, ولذلك وضعوا ضوابط وقواعد لمعرفة صحة الحديث. وهذه الشروط وضعوها بالاستقراء وبالبحث والتنقيب، ومن أهم الشروط: اتصال السند، وهذا الكتاب برمته يتكلم عن مسألة اتصال السند والانقطاع وغير ذلك، وقد ذكرنا أن المرسل نوعان: مرسل مطلق ومرسل خفي. واليوم إن شاء الله سوف نتكلم عن مسألة الحديث المعنعن، وصيغ التحمل والأداء. والعلماء عندما نقحوا الأحاديث نظروا فقالوا: لابد أن نعلم هل هذا الحديث فيه اتصال أم فيه انقطاع, والاتصال معناه: أن التلميذ يروي مباشرة عن شيخه، فيقول: حدثني، أخبرني، أنبأني، حدثنا، أخبرنا، أنبأنا، فإذا قال: حدثنا فهذه دلالة على أنه جلس في مجلس التحديث مع أقرانه الذين يسمعون من الشيخ. أما إذا قال: حدثني، فيكون المحدث ذكر لطالب الحديث هذا الحديث وهو يجلس معه وحده، فحدثني أقوى من حدثنا؛ لأنه يكون أتقن وأوعى وأضبط، وممكن أن يقول للشيخ: تمهل علي، وأعد هذه الكلمة، لكن ما يستطيع في مجلس التحديث أن يوقفه ويقول: أعد علينا هذا الحديث, لكن لو كان وحده يستطيع أن يفعل ذلك كما فعل مالك رحمه الله، ففي يوم العيد الناس ينشغلون بما ينشغلون به من اللحم وإدخال السرور على الناس, أما مالك فذهب فتوسد عتبة باب الزهري، فرأته الخادمة فقالت لـ الزهري: عبدك الأبيض بالباب، فأخذ لحماً وقال لها: أعطيه إياه, فأخذت اللحم وأعطته إياه، فقال: ما لهذا جئت؟ قالت: لم جئت؟ قال: هو يعرف لماذا جئت، فدخلت على الزهري فقال: أدخليه، فدخل مالك فجلس، فقال الزهري: ما تريد؟ قال: أريد حديث النبي، فسرد عليه حديثاً واحداً، ثم قال: زدني، فسرد عليه الحديث الثاني، ثم قال: زدني، قال: كفاك، قال: لا والله لا يكفيني، زدني فأعطاه الثالث إلى أن بلغ العشرين حديثاً, فلما بلغ العشرين حديثاً قال: الآن قم، قال مالك: والله ما اكتفيت زدني، قال: بشرط، قال: وما شرطك؟ قال: ردد علي هذه الأحاديث، وتلك الأحاديث يرويها الزهري بإسناده مثلاً يقول: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الولاء لمن أعتق) مثلاً، فهو يذكر السند سواء كان طبقتين أو ثلاثاً، فقال مالك -كأن الأحاديث بين عينيه مكتوبة-: أما حديثك الأول: فذكرته عن الشيخ الفلاني عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن سرد كل الأحاديث، فقام الزهري مدهشاً معجباً بالإمام مالك فكافأه مكافأة عظيمة فقال: إنك من أوعية العلم، ارحل وليس لك شيء, فيبين له أن هذه الأحاديث ليس لأحد أن يأخذها بهذا الكم في هذا الوقت؛ ولذلك تعلم الإمام مالك من هذه القصة فقال: ضياع العلم أن تؤتيه لغير أهله؛ ولذلك نحن نقول: طالب العلم هو أخص الناس بعلم الحديث وعلم الفقه وعلم الأصول, طالب العلم لا بد أن يستغرق أوقاته ويجهد نفسه في تحصيل علم النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أحق الناس به.

الحديث المعنعن

الحديث المعنعن قلنا: المحدثون يبحثون عن اتصال السند، وهل كل راو سمع من شيخه، فيقول مالك مثلاً: حدثني الزهري، والزهري يقول: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف , وأبو سلمة يقول: حدثني أبو هريرة، وأبو هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك جاء النساخ فيذكرون هذا الحديث هكذا: مالك عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, فوقف المحدثون وقفة عظيمة وقالوا: نحن لجناب حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن نغربل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم, لنعلم صحيحها من سقيمها، فقالوا: الآن عندنا حدثنا وحدثني وأخبرنا وأخبرني، وهذه صيغ اتفقت كلمة أهل العلم على أنها تدل على السماع، وإن كان بعضهم يخالف في مسألة أنبأني، لكن الصحيح الراجح أنها تحمل على السماع, وجاءت صيغ أخرى من صيغ الأداء فالعلماء بحثوا فيها هل هي على الاتصال أم هي على الانقطاع؟ وهذه هي صيغ العنعنة، ولذلك علماء المصطلح يفردون باباً فيقولون: الحديث المعنعن، فما معنى الحديث المعنعن؟ وما حكم الحديث المعنعن؟

صورة الحديث المعنعن

صورة الحديث المعنعن صورة الحديث المعنعن: أن يقول مالك في الموطأ: عن نافع، ونافع هذا رجل فارسي كان فحلاً في علم الفقه، عن ابن عمر، وهذه سلسلة ذهبية كما قال البخاري، قالوا: ولا أنبل من الشافعي وهو يروي عن مالك، فتزيد حلقة من الذهب أيضاً: الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، قالوا: ولا أحد أنبل من أحمد بن حنبل وهو يروي عن الشافعي , وفي المسند ثلاثة عشر حديثاً بهذه السلسلة: أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر. فعلماء الحديث ينظرون هل مالك سمع من نافع أم لا؟ وهل نافع سمع من ابن عمر أم لا؟ وهذا البحث والتنقيب ليتحقق شرط من شروط صحة الحديث. قال بعض العلماء: (عن) تحمل على الاتصال، وقال بعضهم: لا تحمل على الاتصال, بل يحمل على الاتصال حدثنا أو أخبرنا وهو لم يقل: حدثنا ولا أخبرنا. مثال آخر للعنعنة: رواية حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله، هذه الروايات هي أشهر السلسة، يقول حماد: عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله، فهنا العنعنة أيضاً ينظر ويقف أمامها المحدثون هل سمع أم لم يسمع؟ نأتي إلى سلسلة أخرى مثلاً: عبد الرزاق عن معمر بن راشد عن أنس. مثال آخر للعنعنة: عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة، أو معمر عن الزهري عن أنس. إذاً: صورة الحديث المعنعن أن يروي الراوي عن شيخه المباشر له بصيغة (عن)، فيقف المحدثون أمام هذا الحديث الذي فيه العنعنة وليس فيه تصريح بالتحديث, هل هذا الحديث يكون صحيحاً أو يكون ضعيفاً؟ وهل ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ والثمرة من معرفة المعنعن: أنك إذا علمت أن هذا الحديث متصل علمت أن شرطاً من شروط الصحة قد توافر, وإن قلت: فيه انقطاع, فيكون شرط من شروط الصحة لم يتوافر، فيكون الحديث ضعيفاً.

حكم الحديث المعنعن

حكم الحديث المعنعن صيغة (عن) ليست تصريحاً بالسماع, وهي تحتمل السماع، فيحتمل أن نافعاً سمعه من ابن عمر وأتى بهذه الصيغة، ويحتمل عدم السماع، وأنه قد سمعه من تلميذ ابن عمر ثم أسقط هذا التلميذ وأتى بهذه الصيغة (عن). والمحدثون لهم في حكم المعنعن أربعة أقوال: القول الأول: المنع من قبولها مطلقاً, قالوا: تحمل هذه الصيغة على الانقطاع, ولا يصح أن نقبل حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد إلا وفيه التصريح بالسماع، قال شعبة: كل حديث ليس فيه حدثنا ولا أخبرنا فهو خل وبقل. وهذا تشدد مرفوض؛ لأنه سيضيع علينا كثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. القول الثاني: قول أبي المظفر السمعاني قال: تقبل العنعنة بشروط: الشرط الأول: ألا يكون الراوي مدلساً. الشرط الثاني: أن يثبت لقاء التلميذ مع الشيخ. الشرط الثالث: طول الصحبة. وهذا تشدد؛ إذ لا يمكن لكل محقق أن يثبت طول الصحبة أو ينفيها. القول الثالث: قول البخاري جبل الحفظ أمير المؤمنين في الحديث شمس الحديث التي أشرقت على الدنيا فانهال الخير عليها بهذه الشمس, يقول: يشترط في قبول الحديث المعنعن ثلاثة شروط: الشرط الأول: ألا يكون الراوي مدلساً. الشرط الثاني: المعاصرة. الشرط الثالث: ثبوت اللقاء ولو مرة واحدة. فمثلاً: حبيب بن أبي ثابت يروي عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فإذا ثبت أن حبيب بن أبي ثابت التقى مع عروة بن الزبير مرة واحدة فنقبل عنعنته، وإلا لم نقبلها؛ لأنه يحتمل أنه أرسل عنه إرسالاً خفياً ولم يسمع منه، وإمكان اللقيا تعرف بالسن وتعرف بالبلد, فينظر سنة وفاة هذا، وسنة ولادة هذا، وأيضاً: حبيب بن أبي ثابت كوفي, وقد ثبت أن عروة دخل الكوفة, فإذا دخل عروة الكوفة فلا يبعد أن يذهب إليه حبيب وهو يعلم من عروة الذي انتشر اسمه وسط كل المحدثين، وهو الذي وقف عند الكعبة يدعو الله أن يأخذ عنه الناس علم حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تثبت اللقيا بالقصة كما قال الرواي عن عمران بن حصين: رأيت عمران بن حصين يرتدي قميصاً صفته كذا. فهذا القول الثالث هو قول فحول أهل الحديث, قول البخاري وقول شيخه علي بن المديني، والقول الأول الذي فيه تشديد هو قول الشافعي مع شعبة، فـ الشافعي صرح بذلك في الرسالة. القول الرابع: قول الإمام مسلم وهو الاكتفاء بالمعاصرة، فإن عنعن الراوي الذي لا يدلس عن شيخ معاصر له فإنه يقبل حديثه، وقد اشتد نكيره على البخاري في اشتراطه ثبوت اللقاء. فإذا روى سعيد بن المسيب عن عمر، وسعيد بن المسيب ليس مدلساً، وأتى بصيغة (عن) التي تحتمل السماع، فعلى القول الأول لا يقبل حديثه، وعلى القول الثاني: لا يقبل حديثه أيضاً؛ لأنه لم يثبت أن سعيداً أطال مصاحبة عمر، وعلى القول الثالث: يقبل حديثه؛ لأنه ثبت أن سعيداً حضر خطبة عمر، وعلى القول الرابع: أيضاً يقبل حديثه؛ لأنه عاصره، وإن لم يثبت أنه التقى به. إذاً: قول الإمام مسلم أسهل الأقوال الأربعة، وهو أن الحديث المعنعن يحمل على الاتصال بشروط ثلاثة: الأول: عدم الاتهام بالتدليس. الثاني: أن يكون التلميذ قد عاصر شيخه. الثالث: إمكان اللقاء في الرحلة وغيرها.

القول الراجح في حكم الحديث المعنعن

القول الراجح في حكم الحديث المعنعن والقول الراجح هو قول البخاري وابن المديني، وهذا الذي عليه كثير من المحدثين من أهل التحقيق، وقد ذكر مسلم كلاماً شديداً جداً في القائل بهذا القول، واختلف العلماء هل يقصد مسلم بكلامه ذلك البخاري أم يقصد ابن المديني؟ والصحيح أنه يقصد البخاري، قال الذهبي: وفي مسلم حدة في خلقه حتى أنه لم يذكر البخاري بحديث واحد في صحيحه، والدارقطني يقول: لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء، فـ البخاري هو الجبل بحق، وكلام مسلم الشديد هو قوله: وقال بعض المنتحلين لعلم الحديث! فهل البخاري ينتحل علم الحديث؟! هل البخاري يقال فيه: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)؟! البخاري هو أبو الحديث وأم الحديث وابن الحديث، البخاري هو جبل الحديث، البخاري هو الذي أشرقت شمسه علينا، وما عرفنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا من دقة وإتقان البخاري , فكيف يقول الإمام مسلم هذه القولة في شيخه البخاري؟! اعتذر كثير من أهل العلم لـ مسلم بأنه ما قال ذلك إلا حفاظاً على السنة, وخشي أن يأخذ المحدثون بقول البخاري لجلالة قدره ولمكانته فتضيع كثير من السنن, وما اشتدت لهجته للقدح في البخاري، بل حفاظاً على كثير من السنن من باب: شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه، ولو تهاون في الرد لقال العلماء: هذا هو البخاري فمن هو مسلم الذي يناطح هذا الجبل الشم الشامخ؟! وبعض العلماء رجح قول الإمام مسلم حتى لا تضيع كثير من السنن، وبعضهم رجح قول البخاري، وهذا هو القول الأقوى والأصح، وهذا هو الذي رجحه من المتأخرين ابن حجر والسخاوي؛ ولذلك كثير من المحدثين يقدمون صحيح البخاري على صحيح مسلم؛ لهذا الشرط الذي اشترطه البخاري وهو ثبوت اللقيا ولو مرة واحدة مع وجود المعاصرة.

الحديث المؤنأن وحكمه

الحديث المؤنأن وحكمه الحديث المؤنأن مثل الحديث المعنعن، لكن بدل كلمة (عن) يأتي بكلمة (أن) , والحديث المؤنأن له حكم الحديث المعنعن، مثاله أن يروي الشافعي أن ابن عيينة قال عن الزهري، أو أن الزهري قال: أن أنساً قال، مثال آخر: يقول مالك أن نافعاً أخبره: (أن ابن عمر أخبره: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته). مثال آخر: أن يروي حماد بن زيد أن عمرو بن دينار قال: إن جابر بن عبد لله قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كذا وكذا. فصيغة (عن) و (أن) كلاهما تحتمل السماع وليست صريحة فيه. وقد اختلف العلماء في حكم الحديث المؤنأن على أقوال: القول الأول: قول جماهير المحدثين وهو قول مالك كما نقله عنه ابن عبد البر أنه يحمل على السماع، وسووا بين العنعنة والأنأنة فقبلوها مطلقاً. القول الثاني: قول أحمد بن حنبل: أن الأصل في الأنأنة الانقطاع، وهذا صنيع البخاري في التاريخ الكبير وفي غيره، فجعلوا حكم الأنأنة حكم العنعنة لكنها أقل رتبة منها. وقد فصل ابن رجب الحنبلي في شرح علل الترمذي هذه المسألة تفصيلاً بديعاً، مما يدل على طول باعه وسعة اطلاعه وتضلعه في علم الحديث وعلم الفقه وعلم الأصول، وهو من فحول أهل العلم ومن فحول الفقهاء المحدثين, قال في شرح علل الترمذي: الحديث المؤنأن له حالتان: الحالة الأولى: حكاية قول, الحالة الثانية: حكاية فعل أو قصة. مثال الأول: مالك أن نافعاً أخبره أن ابن عمر أخبره، فهذه حكاية قول، مثال آخر: عن مالك أن نافعاً قال: إن ابن عمر قال: إن رسول صلى الله عليه وسلم قال. ومثال حكاية فعل أو قصة أن يروي محمد بن الحنفية (أن رسول الله مر بـ سلمان وهو يصلي فأشار إليه أن السلام عليكم). قال ابن رجب: ننظر في الحالتين, أما حالة حكاية القول فهي والعنعنة سواء، وإن كانت أقل رتبة، وهذا قول البخاري وهو الراجح الصحيح, فتقبل بالشروط التي ذكرناها في العنعنة. قال: وأما الثانية وهي حكاية الفعل فلا نقبلها إلا إذا ثبت السماع، ففي المثال السابق لا نقبل رواية محمد بن الحنفية لأنه لم يثبت سماعه من سلمان.

حكم الحديث المرسل والمنقطع

التدليس في الحديث - حكم الحديث المرسل والمنقطع من أنواع الحديث الضعيف: المرسل والمنقطع والمعضل والمعلق، وكلها فيها سقط في السند، إلا أن المرسل يكون السقط من آخر الإسناد، والمنقطع يكون السقط لراوٍ من أثناء الإسناد، والمعضل ما سقط منه راويان أو أكثر على التوالي، والمعلق ما سقط منه راوٍ من أول السند، والمرسل قد يقبل بشروط ذكرها الشافعي ورضيها كثير من المحدثين، ومعلقات البخاري لها حكم خاص بالنسبة للصحة والضعف.

الحديث المرسل

الحديث المرسل

تعريفه

تعريفه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: المرسل لغة: من أرسل بمعنى أطلق, واصطلاحاً: هو ما أضافه التابعي للنبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقول: هو الذي سقط منه الصحابي, والأولى أن نقول: ما سقط منه راوٍ من طبقات الصحابة, وليس من الصحابة؛ لأننا لو تأكدنا أن الصحابي قد سقط فإن هذا الإسناد يكون صحيحاً؛ لأن الصحابة كلهم عدول, فسواء أبهم الصحابي أو سقط الصحابي, فحكمه كأنه ذكر. والمرسل ضعيف؛ لأن هناك احتمالات, فيحتمل أن يكون الذي سقط هو الصحابي, ويحتمل أن يكون الذي سقط هو التابعي, فلما نجم الاحتمال, والأصل في الرواية الحيطة والتشديد؛ قلنا بالضعف.

مثال الحديث المرسل

مثال الحديث المرسل فالمرسل هو ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, كـ مالك عن نافع عن النبي صلى الله عليه وسلم, أو كـ مالك عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم, فـ نافع من طبقات التابعين, والزهري أيضاً من طبقات التابعين, فأضاف التابعي ورفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يبين لنا الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم. ومثاله أيضاً أن تقول: عن الأعمش عن النبي صلى الله عليه وسلم, أو عن ابن عيينة عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم, فهذا مرسل؛ لأن طبقة الصحابي ما وجدت, وسقطت الواسطة بين الراوي وبين النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم الحديث المرسل

حكم الحديث المرسل الصحيح الراجح ضعف الحديث المرسل؛ لأننا لا نعلم هل الذي سقط صحابي أو تابعي, وسقوط طبقة من طبقات الإسناد تدل على ضعف الإسناد؛ لأن الحديث الصحيح شروطه خمسة, ومن هذه الشروط الخمسة: الاتصال, وضد الاتصال: الانقطاع أو الإسقاط، والانقطاع أو الإسقاط يدخل فيه المرسل والمنقطع والمعضل والمعلق، فالإرسال إذاً ضعف لاختلال شرط من شروط الحديث الصحيح, وهو عدم اتصال السند.

الحديث المنقطع

الحديث المنقطع

تعريف الحديث المنقطع

تعريف الحديث المنقطع المنقطع لغة: اسم فاعل من الانقطاع، وهو ضد المتصل، واصطلاحاً: هو ما سقط من أثناء السند راوٍ. فالمنقطع له شروط: الشرط الأول: سقوط راوٍ من الرواة لا أكثر. الشرط الثاني: أن لا يكون السقط من آخر السند. الشرط الثالث: أن لا يكون السقط من أول السند. والمنقطع غير المقطوع، فالمنقطع من صفات الإسناد، والمقطوع من صفات المتن.

حكم الحديث المنقطع

حكم الحديث المنقطع حكم الحديث المنقطع أنه ضعيف, مع أن الساقط قد يكون ثقة ثبتاً, وقد يكون من الفحول الجبال الحفاظ, لكن لما نجم احتمال أن يكون ثقة ثبتاً، ونجم احتمال أن يكون ضعيفاً، ونجم احتمال أن يكون مجهولاً, ونجم احتمال أن يكون راوياً يخطئ كثيراً أو متروكاً؛ قلنا: الحديث طالما اعتورته الاحتمالات فإن الأصل في الرواية الحيطة، فنقول بضعف الحديث حتى يتبين لنا أنه صحيح.

مثال الحديث المنقطع

مثال الحديث المنقطع بعض العلماء يرى أن مطلق السقط يسمى إرسالاً حتى لو كان من أثناء السند, والمعتمد هو التفريق بين المرسل والمنقطع، فالمنقطع هو ما كان السقط في أثناء السند، مثال ذلك: أن يروي البخاري عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم, فسقط راوٍ بين البخاري ومالك، فإن البخاري يروي عن محمد بن مسلمة عن مالك، ولم يدرك مالكاً. ومحمد بن مسلمة كان سكيراً عربيداً, يشرب الخمر كثيراً, وفي يوم رأى كوكبة عظيمة من الشباب يطوفون حول شيخ ويبجلونه تبجيلاً عظيماً، وكان محمد بن مسلمة مخموراً، فنظر إليه نظرة إعجاب, فقال لمن حوله: من هذا؟ قالوا: هذا شعبة , قال: وما شعبة؟ فلم يعرفوا كيف يجيبونه, فذهب إليه فقال: من أنت؟ قال: شعبة , قال: وما شعبة؟ قال: محدث, قال: بم تحدث؟ قال: أحدث عن رسول الله, قال: حدثني, قال: نح نفسك عني, قال: والله لا أتركك حتى تحدثني, قال: لن أحدثك, فأشهر سيفه وقال: لتحدثني أو لأعلونك بالسيف, فقال: نعم, حدثني فلان عن فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فسقط السيف من يده وبكى، وذهب فاغتسل, وتاب إلى الله توبة نصوحاً، وصار زاهداً عابداً، وكان من أحفظ الناس وأروى الناس للموطأ، والبخاري أخذ عنه الموطأ, فهو يروي أحاديث مالك بواسطة محمد بن مسلمة , والترمذي أيضاً يروي أحاديث مالك من طريق القعنبي , ولو رواها من طريق أحمد لكان بينه وبين مالك راويان؛ لأن أحمد ما أخذ عن مالك , وقال: قد كفانا الله بـ ابن عيينة أحاديث مالك. مثال آخر للمنقطع: أن يروي القعنبي عن مالك عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم, فهذا منقطع؛ لوجود سقط أثناء السند، فـ مالك لا يروي عن ابن عمر مباشرة.

الحديث المعضل

الحديث المعضل

تعريف الحديث المعضل

تعريف الحديث المعضل الإعضال: مأخوذ من أعضله أي: أعياه, وهو الشيء المعجوز عنه, كالدواء الذي أعضل الأطباء. واصطلاحاً: ما سقط من أثناء سنده راويان فأكثر بشرط التوالي. فيشترط في المعضل شرطان: الشرط الأول: أن يسقط راويان. الشرط الثاني: أن يكون السقوط على التتابع, فإذا سقط من أثناء السند راوٍ من الطبقة الأولى، ثم سقط راوٍ من الطبقة الثالثة أو الطبقة الرابعة أو الخامسة, فهذا السقط غير متتالٍ, فليس بمعضل.

مثال الحديث المعضل وحكمه

مثال الحديث المعضل وحكمه مثال المعضل: أن يروي القعنبي عن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم, فبين مالك والنبي صلى الله عليه وسلم راويان, مثل الزهري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم, فهذا معضل. والزهري قد أدرك أنساً وسمع منه، فهو من المعمرين من الصحابة، ومن المعمرين منهم سويد بن غفلة وكان قد صلى بالناس التراويح وقد بلغ مائة وعشرين سنة, وبعدما صلى بالناس مات, وكان قد تزوج بكراً وعمره مائة وخمس عشرة سنة! وحكم الحديث المعضل أنه ضعيف؛ لاختلال شرط من شروط الصحة وهو اتصال الإسناد.

الحديث المعلق

الحديث المعلق

تعريف الحديث المعلق ومثاله

تعريف الحديث المعلق ومثاله الحديث المعلق: هو الحديث الذي سقط منه راو من أول السند. مثال المعلق: أن يروي أحمد عن مالك عن نافع عن ابن عمر , فـ أحمد يروي عن مالك بواسطة الشافعي , أو بواسطة ابن عيينة , فـ أحمد لو روى عن مالك لابد أن يكون بينه وبين مالك واسطة مثل الشافعي , وفي المسند ثلاثة عشر حديثاً بهذه السلسلة: أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. مثال آخر: أن يروي البخاري عن نافع عن ابن عمر , والبخاري كثيراً ما يقول: قال رسول الله, أو يقول: قال ابن عباس، ولا يأتي بالسند أو لا يأتي بشيخه المباشر فيقول: قال مالك , فهذا يسمى معلقاً؛ لأن السقط من أول السند, وهذا إذا أسقط طبقة واحدة, لكن لو أسقط راويين على التوالي فالحديث معلق معضل, لكن يكفي أن نقول: هذا معلق.

حكم الحديث المعلق

حكم الحديث المعلق المعلق حكمه الضعف؛ لأنه اختل فيه شرط من شروط الصحيح. إذاً: يدخل في الانقطاع: المرسل والمنقطع والمعضل والمعلق, وأحكام هذه الأربعة الضعف؛ لاختلال شرط من شروط الحديث الصحيح.

حكم معلقات البخاري

حكم معلقات البخاري نتكلم عن معلقات البخاري ومسلم، ومسلم ما علق كثيراً, أما البخاري فمعلقاته كثيرة, ولها حالان: الحالة الأولى: أن يأتي بها بصيغة الجزم, كأن يقول: قال ابن عباس , قال النبي، أو يقول: ذكر ابن عباس , ذكر مالك , ذكر نافع , قال نافع. الحالة الثانية: أن يرويه بصيغة التمريض, مثل أن يقول: يروى, يقال, يذكر, فهذه الصيغة تسمى صيغة تمريض. وكتاب تغليق التعليق للحافظ ابن حجر اهتم بهذه المعلقات جداً، وبين أسانيدها، وبين أن كل ما علقه البخاري بصيغة الجزم فهو صحيح. وهذا يرد على الذين يقولون: إن حديث المعازف حديث ضعيف؛ لأنه معلق, فنقول لهم: قد ذكره البخاري بصيغة الجزم, قال: وقال هشام بن عمار، ثم هشام بن عمار هو شيخ مباشر للبخاري. هذا حكم الحالة الأولى، أما الحالة الثانية وهي أن يأتي به بصيغة التمريض, نحو: يقال, يذكر, يروى, فهذه لابد من التتبع والنظر في الأسانيد، وقد بين ابن حجر أنه يكون منها الصحيح والضعيف والحسن. إذاً: توجد حالة للمعلقات لا تبحث فيها، وهي إذا ذكرها بصيغة الجزم نحو: قال, وحالة تبحث فيها إذا ذكرها بصيغة التمريض نحو: يذكر أو يروى.

تعريف التدليس - أنواع التدليس - حكم التدليس

التدليس في الحديث - تعريف التدليس - أنواع التدليس - حكم التدليس التدليس هو رواية الراوي من شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه، وهو أنواع، والمدلسون على مراتب، وحكم التدليس يختلف باختلاف نوعه وحال المدلس، وقد بين المحدثون حكم رواية المدلس إذا عنعن ولم يصرح بالتحديث.

تعريف التدليس

تعريف التدليس إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. التدليس مأخوذ من الدلس، والدلس: هو اختلاط الظلمة، وقيل: هو من التغطية والإخفاء والستر، والظلمة فيها ذلك أيضاً. ومن التدليس أن يبيع رجل سلعة لرجل ويخفي ما فيها من العيوب، فيجعل للمشتري الخيار في رد البيع، فهذا تدليس من البائع؛ لأنه أخفى عيب هذه السلعة، فكأن المدلس يخفي عيب الإسناد. أما في الاصطلاح فاختلف العلماء في تعريف التدليس على أربعة أقوال، وهذه الأقوال لا تخرج عن النظر في السماع والمعاصرة والإدراك: القول الأول: قول كثير من أئمة الحديث وهو الذي رجحه الحافظ ابن حجر وهو: رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمع منه. يعني: تلميذ سمع من شيخه أحاديث ورواها هذا التلميذ عنه، ثم روى أحاديث أخرى لم يسمعها التلميذ عن شيخه بل أخذها بواسطة ثم رواها عنه بدون الواسطة، مثلاً: ابن عيينة يجلس في مجلس الزهري، وابن عيينة يروي عن الزهري، وهو ثقة لازم الزهري مدة وأخذ من أحاديثه ثم عن له أمر فرحل، فلما رحل كان الزهري يعقد مجالس التحديث، ثم رجع ابن عيينة من سفره فيجد أحاديث كثيرة قد فاتته، فيكتب الأحاديث التي فاتته من التلميذ الذي سمعها من الزهري، ثم يقول ابن عيينة: أنا أروي عن الزهري مباشرة، وأروي عنه بعلو، فكيف أنزل وأروي عنه بواسطة؟! فيأتي إلى التلميذ فيسقطه من الرواية ولا يذكره، فيقول ابن عيينة: عن الزهري، فيحدث عنه ما لم يسمع منه بصيغة تحتمل السماع وعدمه وهي: عن، أو يقول: قال الزهري، ولا يصرح بالتحديث، وهذا القول رجحه الحافظ ابن حجر. القول الثاني: التدليس هو رواية الراوي عمن عاصره ولقيه ما لم يسمعه منه بصيغة توهم السماع، مثلاً: الأعمش عاصر أنس بن مالك ولم يسمع منه، فيقول الأعمش: قال أنس بن مالك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا. والأعمش مدلس، ورواية الأعمش عمن عاصره بصيغة ليس فيها التصريح بالسماع يعتبر تدليساً. القول الثالث: هو رواية الراوي عن رجل لم يسمع منه بصيغة توهم السماع، كـ مالك عن سعيد بن جبير مثلاً، أو الثوري عن إبراهيم النخعي، وهذا توسع غير مرضي؛ لأنهم ما اشترطوا المعاصرة ولا اللقاء. ومعنى ذلك أنهم أدخلوا تحت التدليس الإرسال الخفي. القول الرابع: أن يروي عن أي راو فوق طبقته، ولو طبقة شيوخ شيوخه، بصيغة توهم السماع، ومعنى هذا أنه سيدخل في تدليس الإرسال المطلق، وعلى هذا لن يسلم أحد من التدليس، فمثلاً: مالك قد يرسل عن سعيد بن المسيب، وهو لم يعاصره، فعلى التعريف سيكون مالك مدلساً. وأيضاً سعيد بن المسيب يقول: عن النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا سيقال عن سعيد بن المسيب أعلم التابعين: مدلس، فهذا توسع من بعض العلماء غير مرضي؛ لأنه سيدخل في التدليس كثير من المحدثين الذين يرسلون؛ وفي التراجم يقولون عن الراوي: ثقة ثابت يرسل كثيراً، مثل عامر بن شراحيل الشعبي، وهذا ليس قدحاً، فـ مالك معلوم أنه ليس معاصراً لـ ابن المسيب، وظاهر جداً أن هناك واسطة سقطت بين مالك وبين سعيد بن المسيب. وأيضاً معلوم أن ابن المسيب لم يعاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك واسطة سقطت، فلا يمكن أن نقول: هذا فيه إخفاء وفيه تدليس. فهذا التعريف ليس بسديد، ولا يدخل في تعاريف التدليس، فتنحصر التعاريف الصحيحة في التدليس على ثلاثة أقوال: الأول وهو المعتمد: رواية الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه، الثاني: رواية الراوي عمن عاصره وأدركه ما لم يسمع منه، الثالث: رواية الراوي عن رجل لم يسمع مه بصيغة توهم السماع. وفي التعريف الثاني ليس شيخاً مباشراً له، فلم يسمع منه، فهناك معاصرة لكنه لم يسمع منه، كـ الأعمش عن أنس ما لم يسمعه منه، والتعريف الثالث وإن كان له وجاهة لكنه سيخلط بين التدليس وبين الإرسال الخفي، فيصفو لنا تعريفان: التعريف الأول والثاني، والفرق بين التدليس والمرسل الخفي: أن التدليس هو الراوية عمن عاصره ولقيه، والمرسل الخفي هو الرواية عمن عاصره ولم يلقه. إذاً: التعريف المعتمد في التدليس هو: رواية الراوي عمن لقيه أو عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه بصيغة توهم السماع.

أنواع التدليس

أنواع التدليس التدليس ينقسم إلى نوعين: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ، وبعضهم يجعل التدليس ثلاثة أقسام: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ، وتدليس التسوية. والصحيح الراجح المعتمد عند المحققين أن التدليس تدليسان: تدليس إسناد وتدليس شيوخ، ويندرج تحت تدليس الإسناد: تدليس العطف وتدليس السكوت.

حكم المدلس

حكم المدلس هل المدلس مجروح أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال لأهل العلم: القول الأول: قول الأصوليين، قالوا: المدلس مجروح مطلقاً، وهو قول بعض المحدثين، ووجهة نظر هؤلاء العلماء: أن المدلس يخفي الإسناد على الواقف على الإسناد، وعلى الناقد الذي يريد أن يغربل الأحاديث ويميز الأحاديث الصحيحة عن الأحاديث الضعيفة، فيخفي عليه البحث عن هذا الإسناد. القول الثاني: القبول مطلقاً، قالوا: وليس التدليس بجرح بحال من الأحوال؛ لأن المدلس كالمرسل، هذا يسقط وهذا يسقط، وباتفاق المحدثين أن الذي يرسل غير مجروح. القول الثالث: التفصيل، قالوا: ينظر في هذا المدلس؛ لأن المدلسين لهم أحوال: الأول: مدلس لا يدلس إلا عن ثقة، مثل ابن عيينة فإنه لا يدلس إلا عن ثقة. الثاني: يدلس وإذا روجع ذكر من أسقط، مثلاً: إذا روى زيد بن أسلم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قيل لـ زيد بن أسلم: سمعت هذا من أبيك؟ يقول: لا، سمعته من فلان عن أبي. وقد ورد أن ابن عيينة روى حديثاً وأسقط فيه ثلاثة رواة، فلما روجع بين من حدث عنه. الرابع: إذا دلس لا يدلس إلا عن الضعفاء، ويسوي فيسقط ضعيفاً بين ثقتين، وهذا شر التدليس، أي: يروي إسناداً فيه ثقتان بينهما راو ضعيف، فيسقط الضعيف، ويكون الثقة الأول معاصراً للثقة الثاني، وإلا سيتهم بالكذب، فيسقط الضعيف الذي بينهما. فالأول الذي لا يدلس إلا عن ثقة كـ ابن عيينة معدل مطلقاً، فهذا يقبل ولا كلام في أحاديثه وإن عنعن. والثاني الذي تدليسه قليل كنقطة من بحر، مثل الزهري، فتدليسه قليل بالنسبة لرواياته التي ملأت الكتب، فهذا تقبل روايته ولا يقدح فيه. والثالث الذي يدلس وإذا روجع رجع وبين، فهذا ينظر فيمن أسقطه، فإن كان عامة من يسقط من الضعفاء فلا يقبل حديثه، وهذا جرح عند بعض العلماء، والصحيح أنه ليس بمجروح. والرابع الذي يدلس كثيراً عن الضعفاء وغير الضعفاء كـ الأعمش، فبعض العلماء قبلوا حديثه مطلقاً، وبعضهم قالوا: لا تقبل عنعنته بحال من الأحوال، وقيل: قد تقبل في الصحيحين ولا تقبل في غير الصحيحين، وهذا من باب إحسان الظن بالصحيحين. والصحيح الراجح في الأعمش وأمثال الأعمش من المكثرين من التدليس: أنه لا تقبل عنعنتهم إلا في حالات خاصة، مثل: إن كان يدلس عن شيخ أكثر الحديث عنه، فطول الملازمة والصحبة تغفر له هذا التدليس، وهذا ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال، كـ الأعمش مع أبي وائل ومع أبي صالح. وقد كان شعبة من أشد الناس على المدلسين، وقال: التدليس أخو الكذب، وقال عن نفسه: لئن يزني خير له من أن يدلس، وجاء الشافعي فقبل كلام شعبة ورجحه وأخذ به وقال: التدليس أخو الكذب، فجعل التدليس جرحاً، وهؤلاء هم الذي تشددوا وقالوا: لا تقبل أي عنعنة بحال من الأحوال من مدلس، سواء كان يدلس عن ثقة أو عن ضعيف، وهذا الكلام غير مقبول؛ لأنه تشدد ظاهر، والعلماء تتبعوا عنعنة المحدثين المدلسين فوجدوا منهم من لا يدلس إلا عن ثقة، ومنهم من يدلس قليلاً، ويكون ذلك مغموراً في بحر أحاديثه، ولو رددنا حديثه فسنرد كثيراً من الأحاديث التي تحتاج إليها الأمة مثل أحاديث الزهري.

أحاديث المدلسين المعنعنة في الصحيحين

أحاديث المدلسين المعنعنة في الصحيحين جاءت روايات مدلسين في الصحيحين بالعنعنة، فكثير من أهل العلم يرون أن رواية المدلس في الصحيحين مقبولة، سواء كان يدلس عن ضعفاء أو غير ضعفاء، إحساناً للظن بالصحيحين، فمثلاً: أبو الزبير يدلس عن جابر، وإذا عنعن عن جابر لا يقبل حديثه؛ لأن أبا الزبير يدلس عن ضعفاء، لكن روى له مسلم بالعنعنة، فقالوا: مسلم رجل نقاد، وليس بحافظ فقط، فهو ينتقي من أحاديث أبي الزبير ما سمعها من جابر، فكأنه يقول: هذه الرواية جاءت من طريق آخر صرح أبو الزبير بالتحديث عن جابر، فهذا اعتذار لـ مسلم حيث قد روى في صحيحه كثيراً من أحاديث أبي الزبير عن جابر. وبعض العلماء يرون أن الصحيحين كغيرهما، فلا نقبل عنعنة المدلس إلا إذا صرح بالتحديث، وبعض رواة الصحيحين من المدلسين تقبل روايتهم بالعنعنة لقرائن، فمثلاً الليث لا يحدث عن أبي الزبير عن جابر إلا بما سمعه أبو الزبير من جابر؛ لأنه طلب منه أن يميز له ما سمعه منه مما لم يسمعه منه. فرواية الليث عن أبي الزبير عن جابر تقبل سواء في الصحيحين أو في غير الصحيحين؛ لأن الليث قد كفانا تدليس أبي الزبير عن جابر. وقال شعبة كفيتكم تدليس ثلاثة: قتادة، وأبي إسحاق، والأعمش. فإن وجدنا قتادة يروي عنه شعبة فلا ننظر في عنعنته سواء في الصحيحين أو في غير الصحيحين. والصحيح أن الصحيحين كغيرهما، لكن ليس لأي إنسان أن يدخل في هذا الباب ويرد أحاديث بالعنعنة في الصحيحين، إلا أن ينظر في أقوال المتقدمين الذين استدركوا على البخاري بعض الأحاديث، واستدركوا على مسلم بعض الأحاديث، مثل الدارقطني والحافظ ابن حجر والإمام النووي، فقد كانوا يعتذرون لـ مسلم في بعض الأحايين، ويقرون الدارقطني في بعض الأحايين. فرد أحاديث في الصحيحين بسبب عنعنة المدلس لا تكون إلا من المتقدمين لا من المتأخرين؛ لأن المتقدم هو الذي عاصر الرواية، وهو الذي عنده الملكة والدربة التي يمكن أن يقطع بضعف حديث موجود في الصحيحين، وهذه الروايات التي أخذت على مسلم بسبب تدليس الإسناد أو أخذت على البخاري بسبب تدليس الإسناد قليلة جداً.

بيان حكم تدليس القطع والسكوت

التدليس في الحديث - بيان حكم تدليس القطع والسكوت من أنواع التدليس: تدليس الإسناد، وهو أنواع، كل نوع يختلف عن الآخر من حيث الصيغة والحكم، وقد اختلف العلماء في حكم تدليس الإسناد بين القبول والرد والتفصيل، وكل له دليله ووجهة نظره، وأرجحها هو التفصيل بين القبول والرد.

تدليس الإسناد

تدليس الإسناد إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. التدليس -كما قلنا سابقاً- نوعان: تدليس إسناد وتدليس شيوخ، وكل قسم يندرج تحته أقسام أو أنواع كثيرة. فتدليس الإسناد ينقسم إلى: تدليس القطع، وتدليس السكوت، وتدليس العطف، وتدليس التسوية.

تدليس القطع

تدليس القطع النوع الأول: تدليس القطع: وهو أن يأتي الراوي فيروي عن شيخ من شيوخه سمع منه مباشرة، ولكنه يروي حديثاً لم يسمعه منه، ويقطع صيغة التحديث، فلا يأتي بها، كأن يقول مثلاً: الزهري عن أنس، فلا يقول: حدثنا، ولا: أخبرنا، ولا: عن، ولا: قال. ومثل العلماء على هذا القسم بما قاله علي بن خشرم عن ابن عيينة، قال: جلس ابن عيينة معنا يحدثنا في مجلس التحديث، وابن عيينة كان فحلاً ثقة ثبتاً، قال فيه الإمام أحمد: تحسرنا حسرة كبيرة على ما فاتنا من الإمام مالك، ولعل الله يجعل لنا في ابن عيينة خلفاً لـ مالك، أي: يستعيض به عن مالك، فهو كان كثيراً ما يتردد على مالك، ومالك هو شيخ من شيوخ الشافعي، وكان ابن عيينة كذلك من شيوخ الشافعي، فـ ابن عيينة كان دائماً يسأل الإمام الشافعي عن المسائل التي تعرض له في فقه الحديث، حتى إنه في مجلس التحديث روى حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً، فجاءت امرأته صفية تزوره، ثم خرج معها إلى بيتها، فرآه رجلان واقفاً معها، فمرا مسرعين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما، إنها صفية)، يعني: أحسنا الظن إنها صفية، فأشكل ذلك على ابن عيينة جداً؛ لأن الصحابة قالوا له: سبحان الله يا رسول الله! أي: أنظن برسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاًَ! فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم)، فـ ابن عيينة أشكل عليه فهم هذا الحديث، فقال للشافعي وكان بحانبه في حلقة التحديث: يا شافعي! ما معنى هذا؟ فقال له الشافعي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفه ربه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]؛ خشي عليهما فأراد أن يقطع عنهما دأب الشيطان، أي: خشي عليهما من الهلكة بأن يجري الشيطان منهما مجرى الدم فيظنا بالنبي صلى الله عليه وسلم ظن السوء، ولو ظنا بالنبي صلى الله عليه وسلم ذلك فإنهما يكفران ويخرجان من الملة، وذلك لأن من فعل ذلك فقد كذّب كتاب الله تعالى؛ لأن الله جل وعلا عدل رسوله صلى الله عليه وسلم أتم التعديل، قال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل البشر أجمعين، وهو رسول الله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29]، وقال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] فما أقسم الله بحياة أحد إلا بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، فظن السوء برسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر تكذيباً بهذا، فإن كذبوا فقد هلكوا. وقد يقول قائل: كيف يكفر من ظن سوءاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يكون جاهلاً بذلك؟ فنقول: إن التعظيم والتبجيل والاستهزاء لا عذر بالجهل فيه، فهذه الثلاثة يكفر من وقع فيها دون أن ننظر إلى إقامة حجة ولا إزالة شبهة، فإن الاستهزاء أو التعظيم والتبجيل لا عذر فيه بالجهل في حال من الأحوال. وهناك إشكال آخر، وهو أنه قد يقول قائل: إن عائشة ظنت برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيتركها ويذهب إلى إحدى نسائه، وهذا ظن سوء، ولذلك قال لها النبي صلى الله عليه وسلم منكراً عليها: (أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟)، يعني: ظنت هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ظلم بأن يتركها لا قسم لها، ويترك ليلتها، ويذهب إلى زوجة أخرى، وهذا عند بعض الفقهاء الذين يقولون: إن القسم واجب على النبي صلى الله عليه وسلم. فنقول: إن الرجلين ليس لهما مسوغ، فإن المسألة كلها من تعظيم وتبجيل النبي صلى الله عليه وسلم، أما بالنسبة لـ عائشة رضي الله عنها وأرضاها فلها مسوغ من وجهين: الوجه الأول: أنها ترى قسم النبي صلى الله عليه وسلم واجباً عليه، فلا يذهب لغيرها، والوجه الثاني: أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قد أقر النبي صلى الله عليه وسلم غيرتها، وهذه من باب الغيرة التي إذا حصلت للمرأة فإنها تعذر في بعض الأحكام، كما قال الإمام مالك: إن المرأة إذا غارت فقذفت لا حد عليها؛ لأن الغيرة تغطي على العقل، فكان هذا عذراً لها في هذه المسألة، وهذا هو الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يرفق بها، ويقول لها: (أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله)؟ وكما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما رأيت الله إلا يسارع في هواك، وذلك عندما أنزل الله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا} [الأحزاب:50] فلها عذر في هذه المسألة، وعذرها هي الغيرة القاتلة التي يمكن أن تغطي على العقل، بل هي تكلمت في خديجة كلمة أشد ما تكون، وما عوقبت، ولذلك استنبط الإمام مالك، بفقه عالٍ، فقال: المرأة إذا غارت فقذفت لا حد عليها. فـ ابن عيينة بعدما فهم هذا الحديث من الشافعي جلس بمجلس التحديث فقال لهم: الزهري عن أنس، وابن عيينة تلميذ مباشر للزهري، فقال له علي بن خشرم: يا ابن عيينة! أسمعته من الزهري؟ فسكت ولم يرد عليه، ثم سأله وقال: أسمعته من الزهري؟ فسكت، ثم سأله الثالثة، فقال: لا والله ما سمعته من الزهري ولا ممن سمعه من الزهري، بل سمعته من عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، ورواية ابن عيينة عن عبد الرزاق تعتبر من رواية الأقران؛ لأنهما من طبقة واحدة. فهنا ابن عيينة قال: الزهري، فقطع وأسقط الصيغة، فلم يقل: حدثني، ولا قال: أنبأني، ولا قال: قال، ولا قال: عن، بل قال: الزهري مباشرة، فلما قالوا: أسمعته من الزهري؟ قال: لا ولا ممن حدث عن الزهري، سمعته عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس، فهذا هو النوع الأول من تدليس الإسناد.

تدليس السكوت

تدليس السكوت النوع الثاني: تدليس السكوت: وهو أن يذكر الشيخ الصيغة ويسكت عن ذكر شيخه، ثم يذكر شيخاً فوقه بطبقة، كأن يقول: حدثنا، ثم يسكت هنيهة، فيسمي اسماً في نفسه لا يسمعه الذين يجلسون معه في مجلس التحديث، ثم بعد ذلك يذكر شيخاً فوقه بطبقة، ومثلوا على ذلك بقول عمر بن عبيد الطنافسي: حدثنا وسكت، ثم قال: هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، فالمتأمل لهذا السند يظن أن هذا المحدث قد سمعه ممن فوقه -من هشام بن عروة - ويكون السند أمامه ظاهراً نقياً نظيفاً، ليس فيه شيء؛ لأن المحدث لا عنعن ولا قال: قال، ولا قطع، بل قال: حدثنا وتنفس، ثم قال: هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ولكن لما روجع المحدث في الواسطة بينه وبين هشام بن عروة، قال: ما سمعته من هشام بن عروة. فهذا هو تدليس السكوت، وهو أشد وأنكى من النوع الأول؛ لأن المحدث هنا يذكر الصيغة فيقول: حدثنا أو أخبرنا أو سمعت، ثم بعد ذلك يسكت، ويسمي من سمع منه في نفسه دون أن يعلم مجلس التحديث أنه سماه، ثم يأتي باسم من الطبقة التي فوقه، ويجري الإسناد على ذلك فيصبح كأنه لا إظلام فيه؛ لوجود صيغة التحديث، وكلها مستوية بين التلميذ وبين الشيخ، وهذا هو النوع الثاني من أنواع تدليس الإسناد.

تدليس العطف

تدليس العطف النوع الثالث: تدليس العطف: وهو أن يروي الراوي عن شيخ سمع منه أحاديث كثيرة، ثم يعطف على هذا الشيخ شيخاً آخر لم يسمع منه هذا الحديث. فيقول مثلاً: حدثني فلان وفلان، وفلان الثاني هذا لم يسمع منه، بل هو سمع من الأول فقط، ولأن الأصل في العطف مقتضاه الاشتراك؛ فإن السامع له يظن أنه سمع منهما جميعاً. ومن فعل هذا النوع من التدليس -كما مثّل العلماء به في هذا النوع- هو هشيم بن بشير، أحد رجال الكتب الستة، ولكنه هو والوليد بن مسلم والثوري والأعمش اتهموا بتدليس التسوية الذي سيأتي تعريفه إن شاء الله. فقد قام ذات يوم في مجلس التحديث، وكان له دعابة مع طلبة الحديث، والطلاب يعلمون أن هشيماً من الثقة بمكان، ومن الحفظ بمكان، وهو ثقة ثبت، لكنه يدلس ليعلو بالإسناد -وللتدليس بواعث كثيرة سنبينها إن شاء الله تعالى- ولهذا اجتمع طلبة العلم ذات يوم وقالوا: والله لا نأخذ منه حديثاً قد دلس فيه، واتفقوا على أنه إذا قال: عن، فإنهم سيقولون له: أسمعت هذا الحديث؟ فوقفوا بالمرصاد لكل عنعنة، فيأتي هشيم فيقول: عن فلان، فيقولون: لو سمحت يا شيخ! أسمعت هذا الحديث من شيخك؟ فيقول: لا، وهكذا حتى فطن هشيم أنهم تربصوا به الدوائر على ألا يدلس بحال من الأحوال، فقال: هل تظنون أنكم ستغلبونني؟ انتظروا مني ما سيأتيكم، فقال: حدثني حصين وحصين بن عبد الرحمن ثقة ثبت- حدثني حصين والمغيرة والمغيرة بن قاسم الضبي فقيه من فقهاء الكوفة؛ كان عابداً زاهداً- ثم سرد الإسناد، وأتى بأكثر من إسناد على مثل هذا بالعطف، فبعدما انتهى من مجلس التحديث، قال لهم: أدلست عليكم بشيء؟ قالوا: لا والله، قال: ما من حديث قلت فيه: حصين والمغيرة، فإني لم أسمع من المغيرة حرفاً واحداً، أي: دلست عليكم في المغيرة، ولأن كثرة الطرق تبين كثرة اطلاع طالب الحديث، فإن الطالب سيأتي ويقول: حدثني هشيم حدثني حصين، وفي الطريق الآخر يقول: حدثني هشيم حدثني المغيرة، فيكون قد وقع في التدليس، وهذا هو تدليس العطف. وفي هذا تأديب لطالب العلم، بأن يجلس عند شيخه مجلس التلميذ حتى وإن كان الشيخ يتحدث عن مسألة قد أتقنها، فالشيخ هنا أدب طلابه وكأنه قال لكل واحد منهم: علمت مسألة وأنت تجهل حراً من المسائل، فتأدب حتى تصل، فإن جلست مجلس التلميذ فالبس ثوب التلميذ، وإن جلست مجلس الشيخ، فالبس ثوب الشيخ.

تدليس التسوية

تدليس التسوية النوع الرابع: تدليس التسوية: وهذا أشر أنواع التدليس على الإطلاق، وهو أن يسقط الراوي ضعيفاً بين ثقتين قد سمع أحدهما من الآخر أو لقيه، وممن اتهم بذلك الأعمش وابن جريج، كانا يدلسان عن الضعفاء، وتصوير المسألة: أن يأتي هذا الراوي فيحدث عن شيخه الثقة، وشيخه هذا يحدث عن ضعيف، وهذا الضعيف قد حدث عن ثقة، فهنا الناظر والواقف من النقاد على إسناد الحديث سوف يحكم عليه بأنه إسناد ضعيف؛ لأنه في طبقة من طبقات الإسناد يوجد راو واحد فيه لين أو فيه ضعف، وفي هذه الحالة نقول: هذا الحديث إسناده ضعيف، ولا نقول: حديث ضعيف؛ لأن الفارق بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا قلت: حديث ضعيف، فهذا يعني أنك بحثت في الشواهد والمتابعات ولم تجد أي طريق يجبر هذا الطريق، بعكس قولك: إسناده ضعيف، فإنه يدل على أنك بحثت في الإسناد هذا فقط، فهذه مسألة مهمة يجب أن تعلم، ففي (مجمع الزوائد) مثلاً فإن نور الدين الهيثمي عندما يذكر حديثاً يقول مثلاً: وهذا حديث إسناد رجاله ثقات، أو: هذا حديث رجاله رجال الصحيح إلا فلان، ولكن قد وثقه فلان، والترمذي يقول: وهذا حديث صحيح، والبخاري مثلاً يقول: هذا حديث إسناده غير مستقيم، فأنت يجب أن تفرق بين أقوال أهل الجرح والتعديل والنقاد في الحديث، فإذا قال: هذا حديث إسناده ضعيف، أو حسن مثلاً، فيكون قد كفاك الإسناد فقط، فعليك أن تبحث في الشواهد والمتابعات. ففي هذه الحالة يأتي الراوي فيسقط الضعيف من بين الثقتين حتى يصبح السند مستقيماً كله، ثم يأتي بالعنعنة، ولذلك كثير من المدلسين لا يقبل منه إلا إذا صرح بالتحديث، كما قال الذهبي في بقية، قال: أما بقية إن قال: عن، فلا تلتفت إليه، وإن صرح بالتحديث فذاك، يعني: إذا قال: حدثني، فخذ، فالمدلس هنا يقول: حدثني ثم يأتي بشيخه الثقة، ثم يقول: عن؛ لأنه لو قال: حدثني، لكان كاذباً، فيسقط الضعيف من بين الثقتين ويأتي بصيغة موهمة للسماع وهي عن، ويكون شيخه قد عاصر الثقة الذي بعد الضعيف. فيكون الإسناد -أمام الناظر إليه- إسناداً! مستقيماً، فالمدلس صرح بالتحديث، وشيخه ثقة، وحدث عن شيخ معاصر له ثقة أيضاً، ومع أن ذلك بالعنعنة لكنه قد لقي هذا الشيخ أو عاصره. ولذلك قال العلماء: إن شر أنواع التدليس هو تدليس التسوية، واتهم بذلك الثوري -وكان مقلاً- والأعمش والوليد بن مسلم وهشيم بن بشير وبقية بن الوليد، وهو أبو الباب، ولذلك قالوا: أحاديث بقية ليست بنقية، فكن منها على تقية. والعلماء غلظوا جداً على التدليس عامة، وعلى تدليس التسوية خاصة، وأغلظ ما رأيته قول ابن حزم حيث قال: إن الذي يدلس تدليس التسوية ساقط العدالة، رقيق الديانة؛ لأنه سيضيع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو نقول: يدخل في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منها.

أقوال العلماء في تدليس الإسناد

أقوال العلماء في تدليس الإسناد نأتي الآن إلى حكم العلماء على تدليس الإسناد عامة، فهناك خمسة أقوال للعلماء في التدليس عامة: القول الأول: الرد مطلقاً، وهذا قول المتشددين، وأبو الباب في ذلك هو شعبة بن الحجاج. وأصحاب هذا القول قالوا: أما المدلس فمجروح عندنا، وإليك الأقوال التي قيلت فيه: أما شعبة فقال: التدليس أخو الكذب، وقال في كلمة أخرى: لأن أخر من السماء خير لي من أن أدلس، وقال عن نفسه: لأن يزني خير له من أن يدلس، فجعل التدليس أخا الزنا، ولذلك ابن الصلاح لما سمع هذه الكلمة ونقلها عن الإمام أمير المؤمنين في الحديث شعبة أنكر عليه، وقال: وهذا فحش في القول، فجاء البلقيني فأنكر على ابن الصلاح وعضد قول شعبة، وقال: ولم لا وهو يعمي على الناس حديث النبي صلى الله عليه وسلم! وإن التدليس أضر من الربا؛ لأن الربا فيه الظلم في أمور دنيوية، أما الحديث ففيه الظلم في أمور دينية، من تضييع للشرع، وجعل الحرام حلالاً، أو الحلال حراماً، فقال: فإن التدليس أضر من الربا، وقد وردت الآثار أن درهماً واحداً أشد من ست وثلاثين زنية، وقال: والتدليس أضر من الزنا، فيكون حديث واحد فيه تدليس أشد من ست وثلاثين زنية. وورد عن عبد الرزاق الصنعاني، وهو ثقة ثبت، وشيخ الإمام أحمد بن حنبل، وكان فحلاً من أهل اليمن، ورد أنه كان يكره التدليس، بل يذم التدليس، ولأن المحدثين من أهل اليمن كانوا ينزلون مكة لبركتها، وكذلك كل المحدثين كانوا يتوافدون عليها، فيعقدون مجلس التحديث، فقد نزل عبد الرزاق مكة، وسمع به أهل الحديث ولم يأتوه، فكاد يموت، فذهب فتعلق بأستار الكعبة وبكى بكاءً شديداً، ثم قال: رب! لمَ لم يأتني أصحاب الحديث؟ أكنت كذاباً؟ أكنت مدلساً؟ فانظر كيف قرن التدليس بالكذب، وهو يقول: حق لمن يدلس ألا يسمع له أحد، فما لبث أن انتهى من دعائه حتى وجد الناس يكتظون على المسكن الذي نزل فيه، فيسمعون منه الحديث، فالمقصود أنه قرن الكذب بالتدليس. وكان أبو عاصم النبيل يقول: إن التدليس شر كله، ودعا بعضهم على المدلسين فقال: خرب الله بيوت المدلسين، خرب الله بيوت المدلسين، ونقل عن أبي عاصم أنه قال: إن المدلس هو المتشبع بما لم يعط، والمتشبع بما لم يعط عنده تزوير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، لأن من فعل ذلك أصلاً ليس بمحدث، ويضع نفسه أمام الناس على أنه محدث، أو ليس بفقيه، ويضع نفسه أمام الناس على أنه فقيه. وقال آخرون: إن التدليس غش، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا). وكل هذه الأقوال تعضد قول من قال: إن المدلس مجروح، فلا يؤخذ منه حديث، فلذلك ردوا حديثه مطلقاً، سواء عنعن أو صرح بالتحديث، وموجب هذا القول رد الأحاديث التي وردت عن الأعمش وعن الثوري وعن ابن عيينة وعن الزهري وعن الوليد بن مسلم وعن هشيم بن بشير، وهؤلاء جاوزوا القنطرة، فسوف تضيع ثلاثة أرباع السنة، إذاً هذا القول فيه غلو وتشد، فلا يقبل بحال من الأحوال؛ لأننا لو عملنا بموجب هذا القول لرددنا أغلب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. القول الثاني: القبول مطلقاً، وأصحاب هذا القول يحتجون بقول الشافعية: إن المدلس ليس بكذاب، فقد ورد عن الشافعي أنه قال: إن التدليس ليس بالكذب، ولكنه ضرب من الإيهام بلفظ يحتمل، أي: يوهمك بأنه سمع وهو لم يسمع، ثم قال الشافعي رحمه الله: فلا نقبل حديثه حتى يقول: حدثني أو أخبرني، فهم لم يأخذوا الشطر الأخير من كلام الشافعي، لكن قالوا: المدلس ليس بكذاب، وليس بمجروح، وحديثه حكمه حكم المرسل؛ لأن الإرسال إسقاط، والتدليس إسقاط كذلك -كما بينا ذلك في العلاقة بين التدليس والإرسال- فكل منهما أسقط واسطة، فلذلك قالوا: من قبل الإرسال لزاماً عليه أن يقبل التدليس. وهذا قول أكثر الأحناف، وبعض المالكية، بأن الأصل في رواية المدلس القبول مطلقاً، سواء عنعن أو صرح بالتحديث. القول الثالث: التفصيل: وهذا القول نقل عن المحدثين، فقد قالوا: إن الشافعي قال: إن التدليس ليس بالكذب، وهذا ليس بجرح صريح، فيكون المدلس غير مجروح، وكذلك قالوا: إنه قال: هو ضرب من الإيهام، أي: فيه إيهام، ونحن نريد أن نقف على الإسناد هل سمع أم لا، فلا نقبل منه حتى يقول: حدثني أو أخبرني أو أنبأني. إذاًَ هم فصلوا وقالوا: إن المدلس إذا أتى بصيغة توهم السماع كأن يأتي بالعنعنة فلا نقبل حديثه، وإذا أتى بصيغة التصريح فيقبل حديثه؛ لأنه غير مجروح العدالة، وهذا القول من القوة بمكان، فإذا كان معنا إسناد فيه مدلس أتى بصيغة العنعنة مثل: الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، فنقول: إن هذا الإسناد ضعيف، والعلة في ذلك أن فيه إيهاماً يوجب لنا الانقطاع، أي: أن ضعف الحديث علته ليست العدالة والضبط، فإن العدالة والضبط متوافرتان، وإنما العلة هي إيهام بانقطاع، فإذا زال هذا الإيهام بأن صرح الراوي بالتحديث، فتكون الشروط قد توافرت، ويكون الإسناد صحيحاً، ولذلك نحن قلنا: إن الذهبي قال في بقية: إن قال: حدثني، فعض عليه بالنواجذ. وليعلم أن أصحاب هذا القول يشترطون في المدلس أن يكون ثقة لا ضعيفاً، أي: أن الكلام في القول الثالث عن الثقات وليس عن الضعفاء؛ لأن الضعيف لو عنعن فإن هذا سيصبح ظلمات بعضها فوق بعض، فإن الراوي هنا متهم أصالة، فكيف إذا زاد فوق ذلك تدليساً! القول الرابع: قالوا: ننظر للمدلس نفسه، فإن كان لا يدلس إلا عن الثقات فحديثه يكون صحيحاً ويقبل منه، ويعرف ذلك من خلال تصريحه عمن سمع منه، فإن كان دائماً يصرح عن ثقات فنقول: إنه يدلس عن الثقات فقط، وذلك مثل ابن عيينة، فإنه كان إذا طلب منه التصريح لا يصرح إلا عن ثقة، أما إذا كان يصرح عن الثقات والضعفاء فلا يقبل منه حتى يصرح بالتحديث. وقد قال أصحاب هذا القول: إن هذا الشرط لم يتوفر إلا في ابن عيينة. القول الخامس: قالوا: يشترط في قبول حديث المدلس أن يكون المحدث كثير التحديث وقليل التدليس، قالوا: لأن القاعدة عند علمائنا تقول: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، فيغمر قليل التدليس في كثير الحديث، ومثلوا على ذلك بـ الثوري وابن عيينة وابن المديني وغيرهم، فـ الثوري كثير الحديث، بل أمير المؤمنين في الحديث، فهو أكثر حفظاً من شعبة، ولكنه كان يدلس، فقالوا: نقبل عنعنة الثوري؛ لأنه مكثر في الحديث، وكذلك الزهري، فهو أيضاً أمير المؤمنين في الحديث، وأوسع الناس حفظاً منه، فتدليسه يغمر في بحر أحاديثه. هذه هي الأقوال الخمسة، والراجح والصحيح في ذلك هو القول الثالث، والقولان الرابع والخامس يندرجان تحته، أي: أن هذين القولين تابعان للقول الثالث؛ لأننا قد ننزل العنعنة منزلة التصريح لعوارض وضوابط في المدلس، من حيث ثقته أو كثرة حديثه.

روايات المدلسين المقبولة

روايات المدلسين المقبولة وهناك نوادر وروايات جاءت عن طريق بعض المدلسين لكنها مقبولة حتى عند الذين يردون حديث المدلس مطلقاً، منها: رواية يحيى بن سعيد القطان عن الثوري -مع أن الثوري كثير الحديث- قالوا: إذا وجدت يحيى بن سعيد القطان يروي عن الثوري فخذ عنعنة الثوري ولا تقف؛ لأن يحيى بن سعيد القطان كان لا يرضى أن يحدث عنه إلا ما سمع. أيضاً الأعمش وأبو إسحاق السبيعي وقتادة، هؤلاء إذا وجدت في الإسناد شعبة فخذ بأحاديثهم ولو عنعنوا؛ لأن شعبة قال: كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش وقتادة وأبي إسحاق السبيعي. أيضاً رواية الليث عن أبي الزبير عن جابر، لأن الليث كان لا يحدث أحاديث أبي الزبير إلا وهو يعلم ما سمعه من جابر وما لم يسمعه؛ لأن أبا الزبير خاف أن يتهم بالكذب، فأخبر الليث بكل الأحاديث التي سمعها من جابر والتي لم يسمعها منه، فكان يقول: هذا سمعته من جابر، وهذا لم أسمعه من جابر، فعلم الليث كل ما سمعه من جابر، فحيث ما وجدت في الإسناد: الليث عن أبي الزبير عن جابر -وهذا السند موجود في صحيح مسلم - فإذا وجدت هذا السند فاضرب عن العنعنة ولا تتكلم عنها؛ لأنه لا يروي عنه إلا ما سمعه من جابر.

طول الملازمة للشيخ سبب لقبول العنعنة عنه

طول الملازمة للشيخ سبب لقبول العنعنة عنه ونختم هذا بكلام الذهبي حيث يقول: إن التلميذ الملازم لشيخه بطول الصحبة وطول الزمان وكثرة الرواية تقبل عنعنته في الصحيح وفي غير الصحيح، فإن وجدت الأعمش عن أبي صالح فخذ هذه العنعنة على أنها تصريح؛ لأن الأعمش كان ملازماً لـ أبي صالح. لكن هناك بعض الرواة في مستدرك الحاكم أكثروا عن مشايخهم وكانوا مدلسين، ويقول الحاكم في بعضها: هذا إسناد صحيح، أو يقول: إسناد على شرط الصحيح، لكن الذهبي يتعقبه ويقول: فلان مدلس، فأنى يكون هذا الإسناد صحيحاً! فهو هنا كأنه ناقض هذه القاعدة التي قالها، لكن بعضهم قال: إن المستدرك أصلاً كان في شباب الذهبي، فلم يكن وقتها طاعناً في العلم، أما في (ميزان الاعتدال) فقد كان قد أكثر من العلم، وصراحة هذا الكلام من الذهبي كلام وجيه ومعتبر، ومن أخذ به فلا ينكر عليه، أي: من قبل حديث الأعمش عن أبي وائل أو عن أبي صالح، ومرر هذا الإسناد وقال: لا أعتبر العنعنة، ولا أجعلها قادحة في الإسناد، فلا ينكر عليه، ويكون الخلاف هنا خلافاً معتبراً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

بيان حكم تدليس الإسناد في الصحيحين

التدليس في الحديث - بيان حكم تدليس الإسناد في الصحيحين ذكر علماء الحديث بعض المسائل التي تحصل في التحديث ومع المحدثين على اختلاف أصنافهم، وحددوا مواقفهم منها، ومن ذلك التدليس في الحديث، فرد العلماء رواية المدلس إذا عنعن حتى يصرح بالتحديث، ولكن أشكل على بعض العلماء بعض الأحاديث التي رويت في الصحيحين عن بعض المحدثين المدلسين بالعنعنة دون التصريح بالسماع، فجمهور العلماء قالوا: تقبل هيبةً للصحيحين، وأن الأمة تلقت الصحيحين بالقبول، ثم حملوا هذه الروايات على محامل أخرى كثيرة.

تدليس الإسناد في الصحيحين

تدليس الإسناد في الصحيحين إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فما زلنا في موضوع التدليس وأقسام التدليس، تكلمنا في الأسبوع الماضي عن قسم من أقسام التدليس ألا وهو تدليس الإسناد، وبينا أقسام تدليس الإسناد وحكم تدليس الإسناد.

رأي بعض المحققين في عدم قبول التدليس في الصحيحين وأدلتهم

رأي بعض المحققين في عدم قبول التدليس في الصحيحين وأدلتهم نتحدث اليوم إن شاء الله عن تدليس الإسناد في الصحيحين، أي: عنعنة المدلس في الصحيحين، ولا يقال: إن عنعنة المدلس في الصحيحين قليلة، بل الصحيح الراجح أن في كتاب البخاري ومسلم أحاديث ليست باليسيرة، بل أحاديث كثيرة جداً فيها عنعنة المدلسين، كأمثال هشيم بن بشير، والوليد بن مسلم وسفيان بن عيينة والزهري وسليمان بن مهران الأعمش وأبي إسحاق السبيعي، ومعهم قتادة وابن جريج والحسن البصري، فكل هذه الأسماء أسماء مدلسين، وقد عنعنوا في الأحاديث وذكروا في البخاري ومسلم بالعنعنة، فما الحكم في هذه المسألة؟ جمهور المحدثين يفرقون بين الصحيحين وبين غير الصحيحين، فيرون إفراد الصحيحين بحكم غير حكم الكتب الأخرى. فيقولون: أي عنعنة في البخاري أو مسلم وردت عن هؤلاء المدلسين، فهذه تحمل على الاتصال ولا تحمل على الانقطاع، فانبرى لهم قلة من المحققين المتأخرين، كـ ابن دقيق العيد والحلبي وابن المرحل والمزي، فهؤلاء ما ارتضوا هذا التفريق بين الصحيحين وبين غير الصحيحين، ولذلك لما سئل المزي في سؤال صريح عن عنعنة الأعمش وقتادة وأمثال هؤلاء في الصحيحين، فقال: هم يحسنون الظن في الشيخين، أي: في أصحاب الصحيح؛ لأنهم لما سألوه قالوا: جمهور المحدثين يحملون عنعنة المدلسين في الصحيحين على الاتصال، فقال: يحسنون الظن بالشيخين، وكأنه لا يرضى بهذا، لكن صرح ابن دقيق العيد تصريحاً تاماً أنه لا يرتضي بهذا الكلام، وأن الصحيحين كغير الصحيحين، ويقول: قالوا: بأن الأحاديث التي في الصحيحين تقبل عنعنة المدلس فيها لاحتمالين: الاحتمال الأول: إجماع الأمة على قبول هذين الكتابين، وهذا الإجماع فيه عسر، يشق على الإنسان أن يبين لنا إجماع الأمة بذلك، إلا أن يقول: قد تلقت الأمة هذه الأحاديث بالقبول، ومع ذلك يقولون: إلا أحرفاً يسيرة انتقدت، كما انتقد الدارقطني وغيره على البخاري ومسلم بعض الأحاديث، فهذه ينخرم بها الإجماع، فتلقت الأمة الأحاديث بالقبول، فيقول: هذا الاحتمال الأول، ويشق على الإنسان أن يأتي بالإجماع. الاحتمال الثاني: أن أصحاب الصحيح قد اطلعوا على الرواية التي فيها العنعنة من طريق آخر فيه اتصال، قالوا: وهذا إحسان ظن بأهل الصحيح، وهو محتمل. إذاً: تكون هنا العنعنة احتملت الانقطاع ورواية البخاري لعنعنة المدلس تحتمل أنه سمعه، أو نقول: فيها اتصال، وهذا الكلام مع أن فيه احتمالاً لكن ليس بأكيد، أو ليس بمقطوع به، فلذلك لا يصح لنا أن نمرر عنعنة المدلس، مع أن القاعدة عند المحدثين العامة هي: أن كل مدلس قد عنعن في الإسناد لا بد أن نوقف الحكم على حديثه حتى يصرح بالسماع، قالوا: فإن لم يصرح فلا نمشي هذه الرواية، فالقاعدة العامة لا بد أن يعمل بها في الصحيحين وفي غيره.

قول الجمهور بقبول التدليس في الصحيحين وأدلتهم

قول الجمهور بقبول التدليس في الصحيحين وأدلتهم فأما جمهور المحدثين فقالوا: هذا من الغلط بمكان، بل كل عنعنة لمدلس في الصحيحين لا بد أن تمر، قلنا: لم؟ قالوا: لأمور عدة أولها: أن صاحب الصحيح هو البخاري، جبل الحفظ، وطبيب العلل، وهو عالمها؛ لأنه أخذ علم علل الحديث من علي بن المديني، وهو نفسه قال: ما استصغرت نفسي عند أحد كما استصغرتها عند ابن المديني. وأما مسلم فقد أخذ علم علل الحديث من شيخين جبلين وهما: محمد بن يحيى الذهلي، فقد كان وتداً عظيماً، وكان أعلم الناس بعلل حديث الزهري، فـ مسلم أخذ عنه. كذلك أخذ عن البخاري، فهو جبل في علم العلل، وهم الذين قعدوا التقعيدات المهمة جداً بأن عنعنة المدلس لا تمر، فلا يمكن أن يقعد البخاري هذه القاعدة ويأتي في الصحيح فيخرج من القاعدة، وكتابه أشرف الكتب، وفيه أشد الاجتهادات التي اجتهد فيها البخاري في تصنيف هذا الكتاب؛ لحاجة الناس إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم. الوجه الثاني: أن البخاري قال: صنفت هذا الكتاب من ثلاثمائة ألف حديث، فهو يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف من الضعيف، قال: فانتقيت من ذلك هذا الكتاب، وهو لا يأتي عشر هذه الأحاديث، فهذا يدل على حرص البخاري وتحريه جداً في أن تكون الأحاديث كلها من الصحاح. الوجه الثالث: كما قلنا عن البخاري أنه كان يستخير الله في كل حديث يكتبه. كذلك الإمام مسلم رحمه الله يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة -وأبو زرعة كان آية في الحفظ في ذلك الزمان- فكان إذا علَّم أو أشار لي على حديث أن فيه علة علمت عليه وتركته. فمعنى ذلك أن كتاب الصحيح مر على مسلم ومر على أبي زرعة الحافظ الثقة الثبت، فإذا ضيعنا أبا زرعة ومسلماً وقلنا: إنهم ما أدركوه، فهذا اتهام صريح لـ مسلم ولـ أبي زرعة، هذه وجهة نظر الذين ينافحون عن الصحيحين. وقالوا أيضاً: عندنا إجابات أخرى غير هذه الإجابات، وهي: أن العنعنة التي في مسلم ليست كالعنعنة في غير مسلم والبخاري؛ لأنكم لو نظرتم فستجدون العنعنة التي في مسلم عن مدلس لا يدلس إلا عن ثقة كـ ابن عيينة، وهذا بالإجماع أحاديثه تمر، كذلك البخاري ومسلم يروون عن مدلس إلا إذا كان مكثراً من الحديث، قليل التدليس، كـ سفيان الثوري، فإنه كان علماً معلماً كان رجلاً حافظاً بحراً في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والبخاري نفسه الذي أخرج له في صحيح البخاري قال عنه: ما سمع الثوري من حبيب بن أبي ثابت، ونحن لا نوافقه على هذا، فقد وردت أدلة تدل على أنه سمع، ولكن مقصود البخاري أن الثوري لم يسمع من حبيب بن أبي ثابت، قال: ما سمع من حبيب بن أبي ثابت وعدد، ثم قال: ما أقل تدليس الثوري! فتدليس الثوري قليل في بحر أحاديثه، وقلنا: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث. توجيه آخر: أنهم لما رووا عن مدلسين ما رووا عن أي مدلس، وليس المدلس الذي يروي عن الضعفاء وغيرهم، وإنما رووا عن بعض المدلسين الثقات الذين لا يدلسون إلا عن ثقة، أو يكون أحدهم بحراً في الأحاديث. الوجه الثالث: يقولون: لو قلنا بأن هناك من يدلس عن الضعفاء وأدخلوا أحاديثه في كتاب الصحيحين فهذا قول له وجهة نظر، قلنا: ما هي هذه الوجهة؟ قالوا: لأنهم ضمنوا عدم التدليس عن الضعفاء أو التصريح بالسماع ممن يروي عن هؤلاء المدلسين، كأمثال الأعمش وأبي إسحاق وقتادة، وكثيراً ما يرد في الصحيحين إن نظرت إلى هؤلاء الثلاثة الذين اتهموا بالتدليس الالتقاء، فـ البخاري ومسلم لا يرويان عنهم إلا برواية أخرى متصلة، وهذا ليس حصراً، لكن أقول: هذا الغالب، فيرويان عن شعبة، وشعبة قد قال: قد كفيتكم تدليس ثلاثة: تدليس أبي إسحاق، وتدليس قتادة، وتدليس سيلمان بن مهران الأعمش، فقالوا: وأيضاً يرويان كذلك عن يحيى بن سعيد القطان الذي يروي عن الثوري، وهو الذي تكفل لنا سماع الثوري؛ لأن ابن القطان ما كان يرضى بحال من الأحوال أخذ الأحاديث عن الثوري حتى يبين له سماعه، ويحيى بن سعيد القطان كان يروي عن أبي إسحاق بواسطة، فلا يروي عنه مباشرة، وإنما يروي عن زهير عن أبي إسحاق، وهم قالوا: نحن نأتي بهذه الرواية وفيها أبو إسحاق مدلس، لكن ابن القطان كان يأخذ من زهير سماع أبي إسحاق، وكان ينتقي من رواية زهير ما انتقاه من سماعات أبي إسحاق، فمكانه أيضاً يرضى بتدليسه، فإذا وجدت الرواية عن يحيى بن سعيد عن أبي إسحاق بواسطة زهير، فاعلم أنه انتقى من أحاديثه السماعات، ولو كانت عنعنة فتحمل أيضاً على السماع. الوجه الرابع: قالوا: نحن نحسن الظن بأصحاب الصحيح؛ لأن مسلماً كان يقول: كنت أعرض الحديث -يروي الحديث بإسناد عالٍ فيه عنعنة المدلس- لشهرة المتن، يعني: المتن مشهور وصحيح ما يحتاج إلى أحد، قال: ولم أنزل بالإسناد، فكان يعلو بالإسناد ولا ينزل لشهرة المتن، ولذلك قالوا: العنعنة تقبل في من هذه الحالة؛ لأن الحديث في كل أحواله سواء فيه العنعنة أو غير العنعنة قد اشتهر بين أهل العلم أنه من الأحاديث الصحيحة، فلا حاجة لنا أن نتكلم فنقول: هذه عنعنة ولا يستدرك على مسلم. وهذه الأوجه من إجابات ابن حجر والنووي على الدارقطني في استدراكه على مسلم والبخاري في نفس المسألة. فهذه الإجابات كلها لجمهور المحدثين الذين أحسنوا الظن بالصحيحين، وعموماً لا نستطيع أن نخالف الجمهور، ولسنا ممن يكون من الاجتهاد بمكان حتى يفصل في النزاع بين المحققين الذين قالوا: قاعدة التدليس لا بد أن نمرها على الصحيحين وغيرهما، لكن الأسلم لنا أن نكون مع الجمهور، لا سيما وأن فحل علم النقد وعلم الرجال المحدث الشهير الذهبي، أنه بعدما ترجم لـ خالد بن مخلد القطواني قال: ولا أدري كيف يروي البخاري لمثل هذا الرجل، ولولا هيبة الصحيح وسكت. فـ البخاري ومسلم أوقفوا الذهبي في أن يتكلم في مثل هذه المسائل، فهذه المسائل صراحة لا بد لنا أن نسلم فيها بإحسان الظن بـ البخاري ومسلم. وقد أعياني حديث مهم جداً، وهو حديث هشيم بن بشير، وهو مدلس تدليس التسوية، وتدليس التسوية ليس بالهين؛ ولذا يشترط العلماء في تمرير الإسناد الذي فيه تدليس التسوية: أن العنعنة تلغى من أول الإسناد إلى آخره، يعني: لا بد من التصريح بالسماع من أول الإسناد إلى آخره، فلا يكتفى بأن هشيماً يقول: حدثني شيخي، بل لا بد من التصريح بالسماع من الطبقة التي فوقه، والطبقة التي بعده؛ لأنه يسوي، فإذا كان يسوي في التدليس فيمكن أن يعملها في أي طبقة من طبقات الإسناد، فلذلك لا بد من التصريح في طبقات الإسناد. وقد أعياني البحث كثيراً في كثير من الروايات التي أجد فيها رواية الأعمش أو غيره يعنعن صراحة في مسلم، وقد وجدت في مستخرج أبي عوانة على صحيح مسلم كثيراً ما يأتي بالروايات التي تصرح بالسماع، وهذا من فوائد المستخرجات، من أهم فوائد المستخرجات أنه دائماً يبين لك التصريح بالسماع، أو يبين لك الانقطاع أين هو بالضبط، أو ضعف الراوي بالمتابعة والمشاهدات والشواهد، فهو له فوائد كثيرة، لكن هشيماً ما وجدت له تصريحاً بالسماع. وأعياني البحث أيضاً أنني لم أر أحداً استدرك على مسلم هذا الحديث الذي فيه تدليس التسوية، وهشيم بن بشير يعنعن، والحديث كله مليء بالعنعنة، ومع ذلك لم يستدرك الدارقطني هذا الحديث، وهذه جعلتني أقف وأقول: أسلم شيء على الإنسان أن يقف مع الجمهور، ولا يتكلف أو يتنطع.

القول الراجح في مسألة التدليس في الصحيحين

القول الراجح في مسألة التدليس في الصحيحين الصحيح الراجح أن نقول إحساناً للظن بالصحيحين: كل عنعنة جاءت من مدلس في الصحيحين فهي محمولة على الاتصال، وكما قلت: إن أصحاب الصحيح تلقت الأمة أحاديثهم بالقبول، فلا بد علينا أن نقول: تمر عنعنة المدلس كما هي على السماع في الصحيحين دون غيرهما.

تدليس الشيوخ

تدليس الشيوخ القسم الثالث من التدليس: تدليس الشيوخ، وتدليس الشيوخ يندرج تحته تدليس البلدان. وتدليس الشيوخ: هو أن يأتي التلميذ فيروي عن شيخه الذي سمع منه ما سمع منه، لكن يكني شيخه أو يسميه باسم غير مشهور، أو ينسبه نسبة لقبيلة أو نسبة إلى جد أو والد غير مشهور، كأن يكون اسمه محمد فيسميه حماداً من الحمد، ويكنيه الناس أبا الفضل، فيكنيه هو بأبي العباس، أو يسميه باسم غير مشهور، فيقول: الزيات أو السمان أو السماك أو الحذاء في خالد الحذاء، فهذا هو تدليس الشيوخ.

بواعث تدليس الشيوخ

بواعث تدليس الشيوخ تدليس الشيوخ له بواعث كثيرة، من هذه البواعث: أولاً: محبة الإغراب، فيريد أن يبين للناس أنه رجل كثير المشايخ، فيغرب الاسم عن الذين يسمعون ويقفون على الإسناد، فيبحثون ويشق عليهم البحث حتى يأتوا بهذا الراوي. والإغراب هذا إما أن يكون نيته فيه حسنة، وهو الاختبار، ليختبر أذهان العلماء، كما قال ابن دقيق العيد في الاقتراح: وهذا حسن غير مذموم، وهو أن تختبر الطلبة عندك، أو تختبر المشايخ، ولذلك الذهبي كان تلميذ ابن دقيق العيد وتلميذ ابن تيمية أيضاً، فـ ابن دقيق العيد علم بانشغال الذهبي بعلم الرجال، فأراد أن يختبره فسأله: يا أبا عبد الله! من هو أبو محمد الهلالي؟ فهو أغرب الكنية فقال له الذهبي: سفيان بن عيينة، فانبهر ابن دقيق العيد من شدة استحضار الذهبي، والذهبي كما قلت كان فحلاً، وفارس الميدان في علم الرجال، فانبهر منه ابن دقيق العيد، وقال: هنا المصلحة، أي: بين أن المصلحة في الإغراب أن تختبر حفظ التلميذ أو الشيخ. الباعث الثاني: إن كان يقصد هذا لبيان تكثير الشيوخ فهذا يدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، فهذا فيه نوع من الذم وإن كان أخف من تدليس الإسناد. كذلك من البواعث على تدليس الشيوخ: الإحن التي توجد بين التلميذ والشيخ، فقد يوجد تشاحن بين التلميذ وشيخه، كما حصل للإمام البخاري مع محمد بن يحيى الذهلي، فـ البخاري روى له ديانة، وكان يغرب في اسمه، وهذا غاية الإنصاف من الإمام البخاري رحمه الله؛ ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا)، فهذا هو ميزان العدل، فإذا سئلت عن رجل وتعلم ديانته وتعلم ما هو فيه من علم ودقة وإتقان، لا بد أن تتكلم عنه، لكن عندما تهواه وتحبه وتمشي معه ترفعه، وعندما تغضب تنزل من قدره، فهذا قدح فيك أنت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا)، ولذلك محمد بن يحيى الذهلي أقام الدنيا على البخاري ولم يقعدها، وهذا حسد منه صراحة على البخاري؛ لأن البخاري دخل نيسابور فاتجهت الأفواج المفوجة إلى البخاري صاعقة الحفظ لتسمع منه؛ فحسده محمد بن يحيى، فتكلم فيه، وقال: هو يقول بخلق القرآن، ووشاه عند الأمير، حتى إن البخاري من شدة غمه مما يحدث له قال: اللهم اقبضني إليك الساعة، ودعا على نفسه بالموت خشية الفتنة، فما مر أسبوع إلا وقد مات. لكن لما دفن -انظروا كرامات الأولياء- قال الراوي: والله لقد اشتممنا رائحة المسك من قبره شهراً لم تنقطع، والبخاري معلم من المعالم في الإسلام، وفعل محمد بن يحيى أراد به إبعاد الناس من الحضور له، ولذا قد يحجب الشخص الناس عن سماع الخير؛ لأنه يعلم أنه لو سمعوا من غيره سيعلمون ضعفه، وهو لا يريد ذلك، أو نقول: لو أنه جعل الناس يذهبون إليه ضاعت السلطة التي كان يبحث عنها؛ فهذه هي المصيبة الكبرى التي ابتلي بها الإخوة الملتزمون في هذه العصور، فنحن الآن الضرر علينا ليس من الخارج، لا تقولوا لي: إن الدواعي الأمنية عندنا كذا والدواعي الشرطية كذا نحن في دعوة سرور ونعمة بفضل الله سبحانه وتعالى، وعافية ما بعدها عافية، ولذلك ما استباح بيضتنا إلا نحن من الداخل فقط، كما قال ابن القيم يعتب على هؤلاء الذين جعلوا الأخوة في الله غربة داخل غربة، وصنفوا الناس هذا يسمع له! وهذا لا يسمع له! وإذا تكلمت عن عالم من علماء الأمة -بل هو من لجنة الفتوى مثلاً- يقول لك: لا، دعك من هذا لا تأخذ منه شيئاً، وهذا الذي يتكلم لا يعرف (ألف باء تاء)، والله لا يعرف شيئاً عن العلم ولا طلب العلم! فـ محمد بن يحيى الذهلي حسداً على البخاري حوط على طلبة العلم، ومنع الناس أن يسمعوا للبخاري، ومنع أحداً أن يحضر جلسة البخاري، وكان أنبل تلاميذ محمد بن يحيى الذهلي هو مسلم، وكان موجوداً في حلقة محمد بن يحيى، فقال على الملأ: من حضر لهذا المسمى محمد بن إسماعيل فلا يحضرن مجلسي أو لا يجلسن معنا، فقام مسلم في وسط الحلقة -وكل الحلقة تتمنى أن تشتم رائحة مسلم، وهذه رفعة للذهلي؛ لأن التلميذ يرفع شيخه- وأخذ كتبه فرحل وهجر مجلس الذهلي من أجل البخاري، ولما ذهب إلى البخاري يسأله عن حديث، فقال: هذا الحديث فيه علة، فجاء مسلم يتململ تحت يد البخاري، ويقبل يده ورجله ويقول: دعني أقبل يدك ورجلك، ما علة هذا الحديث؟ فلما أخبره قال له: دعني أقبل رجلك يا أستاذ الأساتذة، أو كلمة نحوها، ثم قال: لا يبغضك إلا حاسد. مسلم يفهم أنه لا يبغضه إلا حاسد، وسمع منه العلل، ولكنه لم يرو له للمسألة التي حدثت أولاً وهم من طبقة واحدة، والأمر الثاني: مسألة العنعنة واللقيا هذه التي باعدت بينهما حتى جعلت مسلماً لا يروي عن البخاري. الغرض المقصود هنا كانت المشاحنة بين البخاري وبين الذهلي، فكان البخاري يروي عنه ديانة؛ لأنه يعلم أنه حافظ ثقة، كان الذهلي جبلاً، يقول أحمد بن حنبل: ما رأينا مثل الذهلي في نيسابور، أعلم أهل نيسابور هو محمد بن يحيى الذهلي، فكان رجلاً جبلاً، وكان أتقن الناس وأثبتهم في رواية الزهري، وكان أعلم الناس بعلل حديث الزهري، فكان البخاري يروي عنه ديانة، وهذا هو الإنصاف، وأنا أردت أن أبين لكم هذا الإنصاف وهذا الدين، وهذا من باب الدين النصيحة، يعلم أنه رجل متقن فأخذ منه، لكن كان البخاري يغرب باسمه؛ لأنه لو قال: محمد بن يحيى الذهلي فكل التلامذة سيقولون للبخاري: لم ترو عنه؟ فهم أولاً: سيقولون: روايتك عنه تعديل له، فإن كان عدلاً عندك وثقة فما قال فيك هو الحق، فهو خشي من ذلك، والبخاري في نفسه يقول: إن محمد بن يحيى كان متأولاً، فيعتذر له كما يعتذر للكرابيسي، فقد كان من تلاميذ الشافعي وكان قريناً للإمام أحمد، فقال الكرابيسي: لفظي بالقرآن مخلوق، وهذا كلام حق؛ فإن لفظه مخلوق، لأن لفظه خرج من لسانه، ولسانه مخلوق، فيكون كل آلة يستخدمها مخلوقة، فهو يقصد ذلك، وهذا كلام صحيح كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وقرره، لكن أحمد أراد أن يحسم المادة، ويسد الذريعة، فقال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، أحمد قال ذلك، ونحن نقول: كيف يقول أحمد ذلك؟ أيكفر رجلاً يقول قولاً صحيحاً؟ فبحثنا ونقبنا وفتشنا فوجدنا عبد الله بروايته عن أبيه قال: فسألت أبي عمن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: إن قصد الصوت فليس بكافر، وإن قصد كلام الله فهو كافر. فيكون إذاًَ أحمد هنا يفصل المسألة، ويقول: لو قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقصد الآيات فهو كافر، وإن قصد الأصوات فليس بكافر، لكنه لما قالها على الملأ، من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، إنما ذلك سداً للذريعة، فاعتذر للإمام أحمد من أجل ذلك. فـ البخاري يعتذر أيضاً لـ محمد بن يحيى الذهلي ويقول: لعله يفعل ذلك حسماً للمادة، فعذره وروى عنه، وهذا من الإنصاف والديانة، وهذه إن وجدتها الآن بين طلبة العلم أو بين المشايخ مثلاً والعلماء فستجد النصر للدين؛ لأن هذه لا تدل ولا تنم إلا على أن المراد واحد وهو الله جل في علاه، ونصر الدين ابتغاء وجه الله جل في علاه. فـ البخاري كان يغرب ويقول: محمد، ولا يسميه، فلا يقول: محمد بن يحيى الذهلي، ويقول مرة: محمد بن عبد الله، أو محمد مجرداً من غير نسبه، أو ينسبه إلى جده. فهذه عرفت عن البخاري وليس فيها تدليس على الناس، لكن فعل ذلك من أجل المشاحنة التي حصلت بينه وبينه، فهذا باعث من بواعث تدليس الإسناد. كذلك من بواعث تدليس الشيوخ: التكبر، وهذه مذمة مشهورة (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) كما جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في الصحيحين. أحياناً ترى التلميذ يروي عن الشيخ، وإذا نظرت في التراجم تجد أن التلميذ أكبر من الشيخ بسنوات عديدة، فيكون إذاً التلميذ يروي عن شيخ أصغر منه، فهذه تجعل هذا التلميذ يقول: كيف أروي عن شيخ أصغر مني؟! وكيف يأخذ الناس مني هذا الحديث؟! فيغرب ويأتي بتدليس الشيوخ ويكنيه بكنية لا يعرفها، حتى يقال: إن هذا الشيخ هو أكبر منه، ولا يقولون: إنه يروي عن شيخ أصغر منه، وأذكر قصة لطيفة جداً وهي قصة ابن عيينة والأعمش، وقد قلتها أكثر من مرة. الأعمش لما نزل إلى مكة وقابل ابن عيينة فكان يقول له: حدث الزهري بأربعة أحاديث لفلان، قال: حديث بحديث، وهذا فيه تبادل منفعة درهم بدرهم، قال له: آخذ منك حديثاً للزهري وأنت تعطيني حديث فلان، فقال ابن عيينة

تدليس البلدان

تدليس البلدان هناك قسم آخر من تدليس الشيوخ يندرج تحته وهو: تدليس البلدان، وتدليس البلدان مشهور؛ لكنه أهون بكثير من غيره، وتدليس البلدان: هو أن يأتي الراوي فيوهم السامعين أنه سمع من رجل مشهور في بلاد بعيدة وما سمع منه، وإنما سمع من شخص آخر يشترك معه في الاسم أو غيره، وهذه معروفة الآن في الإسكندرية فأكثر الناس يمكن أن يدلسوا هذا التدليس؛ لأنه والحمد الله عندنا الشوارع عامرة، شارع بور سعيد، وشارع سوريا، وشارع دمشق، ومدينة زايد، فيمكن شخص يأخذ شيخاً أو طالب علم غير مشهور إلى شارع سوريا ويقول: حدثني فلان، ويكون هذا من طلبة العلم المشهورين، فيقول مثلاً: حدثني الشيخ محمد بن إسماعيل في سوريا، كأن الشيخ محمد بن إسماعيل كان في سوريا، والرجل رحل من مصر من أجل أن يسمع منه في سوريا. والأغرب من ذلك أن يقول: حدثني علي حسن، ويكون هذا ليس طالب علم، إنما هو رجل يقفل المسجد ويفتحه، واسمه علي حسن، قال: الحمد لله، تعال، فأمسكه وجعله يروي حديثاً في البخاري بسند متصل للنبي صلى الله عليه وسلم، فيروي الحديث ويقول: حدثني علي بن حسن الحلبي في حلب، وهو إنما حدثه رجل عادي في شارع هنا اسمه شارع حلب. أو أنه يأتي خلف ترعة المحمودية ويقول: حدثني فلان في بلاد ما وراء النهر. فهذا اسمه تدليس البلدان، فهو يريد أن يتشبع بما لم يعط، أي: أنه رجل كان رحالاً يذهب إلى البلاد والقفار، ويتحمل هذه الأسفار من أجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كما قلت: أخف أنواع التدليس.

حكم تدليس الشيوخ

حكم تدليس الشيوخ ما حكم تدليس الشيوخ؟ أقول: إن كان للاختبار فممدوح وفيه مصلحة، وإن كان لبيان الإكثار من المشايخ فهذا متشبع بما لم يعط، لكن روايته صحيحة، وإن كان لإسقاط الضعيف فكثير من المحدثين يرى أنه ليس بجرح، والصحيح الراجح أنه جرح، وروايته تكون غير مقبولة. أقول: إذا كان يريد كـ عطية العوفي يسقط الضعيف محمد بن السائب الكلبي، ويضع مكانه ثقة كـ أبي سعيد الخدري، فهذا اختلف العلماء في قبول روايته. فكثير من المحدثين يرون أنه غير جرح؛ لأنه إيهام فقط، والصحيح أن هذا جرح، وأن رواية الراوي الذي يتعمد إسقاط الضعيف ووضع الثقة مكانه لا تقبل، وهذا جرح فيه. هذا حكم تدليس الشيوخ وتدليس البلدان، ونكون بهذا قد انتهينا من الكلام على التدليس، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الرد على من اتهم البخاري ومسلما بالتدليس

التدليس في الحديث - الرد على من اتهم البخاري ومسلماً بالتدليس من مراتب التدليس: أن هناك محدثين اتهموا بالتدليس وليسوا مدلسين، كالإمام البخاري والإمام مسلم والدارقطني وأيوب السختياني، والراجح أنهم لم يكونوا مدلسين؛ وقد أجيب عن اتهامهم بإجابات معلومة.

محدثون اتهموا بالتدليس

محدثون اتهموا بالتدليس المرتبة الأولى من مراتب التدليس: قوم أرسلوا، فاتهمهم العلماء بالتدليس، وسنبين كيف ذلك.

اتهام أيوب السختياني بالتدليس

اتهام أيوب السختياني بالتدليس من الذين اتهموا بالتدليس: أيوب السختياني وهو أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري، وكان زاهداً عالماً ثقة فاضلاً ورعاً، وكان أبعد الناس عن حب الظهور؛ ولذلك قال: لو صدق العبد ما أحب الشهرة، ولما سألوه عن علامة الصدق قال: علامة الصدق عدم حب الشهرة إلا إذا أراد الله ذلك له، فكان أيوب السختياني ثقة إماماً، قال ابن عيينة: لحقت به فلم أر مثله، وأيوب السختياني رأى أنساً، قال ابن حبان: رأى أنساً وروى عنه بعض الأحاديث، فقال بعض العلماء: هو دلس عن أنس؛ لأنه لم يسمع من أنس شيئاً. فـ أيوب السختياني رأى أنساً وروى عنه بعض الأحاديث، وقال المصنف: ما رأيت له إلا حديثاً واحداً عن أنس، وقال ابن حجر: أكثر من حديث. فروى عن أنس، وقال العلماء: لم يسمع من أنس، فاتهموه بالتدليس، وكان هذا عنه نادراً، فلذلك وضعوه في المرتبة الأولى، ونحن أردنا أن نبين أن هناك صنفاً رابعاً اتهموا بالتدليس، وبعد التحقيق وجدنا أن الحق أنهم غير مدلسين. أيوب السختياني الثقة الثبت الفحل الزاهد العابد الورع اتهموه بالتدليس؛ لأنه قالوا: رأى أنساً وروى عنه أحاديث ولم يسمع منه.

الرد على من اتهم أيوب السختياني بالتدليس

الرد على من اتهم أيوب السختياني بالتدليس هذه المسألة معقدة، ونريد الآن الرد عليها من وجهين، قلنا: ابن حبان قال: رأى أنساً، ثم روى عنه أحاديث، وقالوا: لم يسمع منه، وهذا له توجيهان: التوجيه الأول: توجيه البخاري ومسلم من حيث المعاصرة واللقيا. فرواية الراوي عن شيخه الذي لقيه، من كلام البخاري، على أساس أنه اشترط اللقيا، فقال: الذي لقيه، ما قال: سمع منه، وأما على كلام مسلم ستقول: الذي عاصره، هذا الفرق بينهما، ووجه هذه المسألة: نقول: إذا قلنا بقول البخاري -وهي اللقيا- يكون هذا يُروى عنه تدليساً؛ لأنه معاصر له، نقول: الرد في هذا عن أيوب السختياني من وجهين: الوجه الأول: تدقيق النظر في مسألة اللقيا ومسألة المعاصرة، فعند من يقول باللقيا فإنه سيقول: هذا تدليس، وعند من يقول بالمعاصرة سيقول: ليس بتدليس، بل يحمل هذا على التصريح بالسماع، وهذا كلام مسلم، وقلنا: إن هذا أوسع وأشمل، والعلماء رجحوا هذا القول: وإن قالوا: الأدق قول البخاري. والوجه الثاني: نقول: هذا الذي حدث من أيوب إن قلنا: إنه لم يسمع من أنس، فإن هذا ليس بتدليس، وإنما هو إرسال خفي وأنزلتموه أنتم منزلة التدليس؛ لأنه عاصر أنس ولم يسمع منه، ولا توجد رواية أثبتت السماع، ولا عالم من علماء الجرح والتعديل قالوا: إنه سمع مرة واحدة منه، وقد روى عنه بالعنعنة، فنقول: هذا يسمى إرسالاً. إذاً: أنس عاصره أيوب ورآه، وأيوب هذا من صغار التابعين وليس من كبار التابعين، ونقول: إن اللقيا كثيرة مع أنساً؛ لأن أنس من المعمرين، وأيوب السختياني من صغار التابعين رأى أنساً، إذاً: المعاصرة موجودة، ولكنْ لم تثبت رواية واحدة يقول فيها أيوب: حدثني أنس، إذاً: الإجابة من وجهين: الأول: إما أن نتكلم عن اللقيا والمعاصرة ونرجح كلام مسلم، وإما أن ننظر فيها من الوجه الثاني: وهو أن تكون هذه رواية الراوي عن شيخ معاصر لم يسمع منه ما لم يسمع منه، وهذا يسمى إرسالاً خفياً، وبهذا يصح لنا أن نقول: أيوب أرسل عن أنس ولا نقول: دلَّس عنه. فإذا سأل سائل: ما الفرق بين أن أقول: أيوب دلس عن أنس، أو أيوب أرسل عن أنس؟ أقول: إن الحفظ غير العلم، الحفظ يثبت العلم، لكن الحفظ غير العلم، فالعلم شيء والحفظ شيء، إذاً: لا بد من التدريب على التطبيق، فالفقه الذي نحن نأخذه، أضرب لكم به مثلاً: رجل أراد التوضؤ، وأراد الاغتسال، وأراد أن يفعل كذا وكذا، حتى يكون تطبيقاً عملياً، وأنت إذا كنت تعلم الفرق بين الإرسال والتدليس، سوف آتي وأقول لك: ما الفرق بين الإرسال والتدليس؟ أنا أقول لك: أيوب قالوا عنه: يرسل عن أنس، ويدلس عن أنس، ما هو الفرق بينهما؟ A يتفقان ويفترقان، يتفقان إذا قلنا: إن أيوب قال: عن أنس، في الإرسال والتدليس، إذاً أتى بصيغة توهم السماع، وهي (عن)، ويفترقان، إذاً لما أقول: أيوب دلس، إذاً أيوب سمع أحاديث عن أنس وثبت السماع له، وهناك أحاديث ثبت عدم سماعه لها، فأتى بها بالعنعنة بالصيغة الموهمة. الثاني: نقول: لا، الراجح أن أيوب أرسل عن أنس، معنى ذلك: أن أيوب أتى بالعنعنة برواية عن أنس وهو لم يسمعْ منه شيئاً البتة وكان معاصراً له، فنقول: أرسل عنه. إذاً: الأصل في ذلك أن أيوب السختياني الصحيح أنه يوضع في مرتبة الذين يرسلون لا الذين يدلسون، ولا يصح اتهامه بالتدليس.

اتهام الدارقطني رحمه الله بالتدليس

اتهام الدارقطني رحمه الله بالتدليس أيضاً الدارقطني ممن اتهم بالتدليس؛ وذلك لأنه كان يروي عن البغوي، قال ابن طاهر: الدارقطني يدلس تدليساً خفياً، يقول فيما لم يسمعه من البغوي: قرئ على أبي القاسم البغوي حدثكم فلان، فيوهم أنه سمع منه، وقد أجبنا عن مثل هذا، والصحيح الراجح: أن الدارقطني لا يتهم بالتدليس، والوحيد الذي وضعه في مراتب التدليس هو ابن حجر، ولم يضع أحد من العلماء الدارقطني في المدلسين.

اتهام البخاري رحمه الله بالتدليس

اتهام البخاري رحمه الله بالتدليس من هؤلاء أيضاً أمير المؤمنين في الحديث، جبل الحفظ البخاري، هذا الفتى الفذ، اتهمه ابن منده، وابن حزم نقل هذا، فـ ابن منده اتهم البخاري ومسلماً بالتدليس، فقال: إن البخاري في أجزاء أخذها إجازة أو مناولة أو مذاكرة، يقول: قال فلان، قال الشيخ فلان، كما أخذ على البخاري في حديث: قال هشام بن عمار، قال الحجاج بن منهال، قال: فهذا تدليس من البخاري، واتهم مسلماً بنفس الاتهام.

الرد على من اتهم البخاري بالتدليس

الرد على من اتهم البخاري بالتدليس والصحيح الراجح في الكلام على البخاري: أنه يروي الأحاديث تعليقاً، وبعضهم أجاب بأن قال: كانت هذه الرواية من البخاري في المذاكرة، أي: أخذها منه في مجلس التحديث، أخذها من شيخه مذاكرة، فما كان يأخذه مذاكرة يقول: قال، وما كان يأخذه في مجلس التحديث يقول: حدثنا، ويقول: سمعت، وإجابات أخرى أيضاً أن هذا تعليق، والتعليق له دواعيه؛ لأنه كان يعلق في المتابعات، والمتابعات يغتفر له فيها ما لا يغتفر في الأصل، هذه القاعدة عند المحدثين وعند الأصوليين. وقالوا أيضاً: كان يعلق لأمور أخرى، ليس نحن الآن بصدد تفصيلها؛ لأنه ليس الكلام على معلقات البخاري الآن، لكن الغرض المقصود أنه كان يعلق لأمور عنده، فقالوا: إن خضتم في اتهام البخاري بالتدليس في قوله: (قال) عن شيخ من شيوخه، فنحن نقول: إن لم يكن تدليساً في الإسناد فتدليس الشيوخ يلزم البخاري، قالوا: وقد دلس عن شيخه الفذ وهو الذهلي، كأن يقول: محمد بن عبد ال له أو محمد بن يحيى أو محمد ويسكت ولا ينسبه، قالوا: وهذا يُعَدُّ تدليساً، والإجابة عن البخاري في مثل هذا، قد أجبنا عنه قبل ذلك، فهم قالوا: البخاري مدلس من وجهين: الوجه الأول: يروي عن بعض المشايخ بصيغة توهم السماع، فيقول: قال هشام بن عمار، قال الحجاج بن منهال. قلنا: أولاً: الحجاج بن منهال أو هشام بن عمار شيخان مباشران للبخاري، فهو أخذ منهم، فلا يلزم أن نقول: إن البخاري دلس هذا الحديث ولم يسمعه منهم، بل يمكن أن يكون سماعه مذاكرة، أو يكون أتى لهذا الحديث متابعات، أو علقه البخاري لأمور أخرى عنده. قالوا: إذاًَ: إذا فات عنه هذا، فيتهم من أمر آخر وهو تدليس الشيوخ؛ لأنه كان يقول: محمد ولا ينسبه، محمد بن عبد الله ولا يعرفه بـ محمد بن يحيى، فنقول: لا يتهم بتدليس الشيوخ، وقد أجبنا عن هذه المسألة قبل ذلك. وقد كان البخاري متأولاً، فله تأويله، ولم يكن يطرح أحاديثه، بل كان يروي عنه ديانة، وهذا الإنصاف من البخاري، وكان يفعل ذلك ويعمي باسمه وبكنيته، لأنه لو ذكره باسمه لقالوا: قد عدلت الرجل، فيكون كلامه فيك صدقاً، فأنت إذاً تقول بخلق القرآن، فهو سيخشى على نفسه بتعديله له أن يصدق الناس كلامه في البخاري، فكان يعمي عنه، وكان لا يطرح الرواية عنه ديانة منه.

الرد على من اتهم مسلما بالتدليس

الرد على من اتهم مسلماً بالتدليس وكذلك وصفهم مسلماً بهذا الاتهام، واتهمه أيضاً ابن منده وقال: إن مسلماً في مقدمة الصحيح كان يروي عن شيوخه بصيغة: قال، وهذا تدليس، وهو لم يسمع منهم، والعراقي قد كفانا الرد بفضل الله، وقال: هذا الكلام من الخطأ بمكان على مسلم بالذات؛ لأن مسلماً لم يكن عنده معلقات، فـ مسلم لم يقل: قال، في أي شيخ من شيوخه، فكل رواية في مسلم عن شيخ من شيوخه: سمعت، حدثني، أخبرني، أخبرنا، أنبأنا، حدثنا. واتهموا أيضاً عبد الرزاق ومعمراً، وستراجعون هذا في الكتاب، هذا هو الأولى. وفي كل أسبوع سنأخذ راوياً من الرواة في مرتبة من المراتب نتكلم عنه في الترجمة، ونبين إن كان يدافع عنه أو يقال: إن عنعنته لا تمر. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

مراتب التدليس والأشخاص الذين اتهموا بالتدليس

التدليس في الحديث - مراتب التدليس والأشخاص الذين اتهموا بالتدليس التدليس له مفاسد عظيمة منها: تحليل الحرام وتحريم الحلال، وعدم الإخلاص، وتضعيف الثقات وتوثيق الضعفاء، وإيهام العلو ولا علو، إضافة إلى ما فيه من توعير الطرق على الواقفين على الحديث والباحثين عن صحته، ولقد كره السلف التدليس أيما كراهة وبعضهم حرمه. وللمدلسين مراتب خمس، وكل مرتبة من المراتب لها حكمها الخاص بها، ويمكن معرفة التدليس في الحديث بطرق وأساليب متبعة معلومة لدى العلماء.

مفاسد التدليس

مفاسد التدليس إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فإن التدليس له مفاسد عظيمة جداً، وهذه المفاسد قد عدها كثير من العلماء لا سيما شعبة، وهو يقول: لئن أخر من السماء خير لي من أن أدلس، وكان يقول عن نفسه: أن يزني خير له من أن يدلس؛ وذلك لفحش التدليس، وحماد بن زيد كان يبين أن المدلسين من الذين يتشبعون بما لم يعطوا، فيدرجهم تحت حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور).

من مفاسد التدليس تحليل الحرام وتحريم الحلال

من مفاسد التدليس تحليل الحرام وتحريم الحلال مفاسد التدليس عظيمة جداً ومتعددة، منها: أولاً: أعظم هذه المفاسد التي تنبع وتنتج من التدليس: تحليل الحرام وتحريم الحلال، بمعنى: أن المدلس إذا دلس على حديث ضعيف مثلاً، أو فيه راو ضعيف، فأسقط الضعيف وجعل سلسلة الإسناد كلها سلسلة منتقاة من الثقات، كل تلميذ فوقه شيخ ثقة، فالحديث أمام الناظر إليه أو غير المدقق يراه حديثاً صحيحاً، ويكون هذا الحديث مثلاً قد أحل حراماً كأن النبيذ حلال، أو أن لحم الخنزير حلال، فإن كانت الرواية رفعت للنبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح فلابد أن يقال: هذا حلال؛ لأنه مستثنى من الأصل العام، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك، فمن المفاسد العظيمة أنه إما أن يحل حراماً بحكم مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم، أو يحرم حلالاً أيضاً بحكم رفع للنبي صلى الله عليه وسلم، وطبعاً هذا نابع ومستقى من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإنما حرم رسول الله كما حرم الله، ألا وإنما أحل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أحل الله)، فإذا رفع حديثاً حكمه حكم الرفع للنبي صلى الله عليه وسلم يحل شيئاً أو يحرم شيئاً، وهذا الحديث في ظاهره الصحة، وفي باطنه أنه ضعيف، وأنه في بعض الطبقات من الوهن بمكان، فقد أحل حراماً وحرم حلالاً، وهذه جناية شديدة جداً على الشرع، وهو أيضاً من مفاسد الشريعة. وهذه المسألة بينها جلياً نوح الجامع الذي قال فيه العلماء: نوح الجامع قد جمع كل شيء إلا الصدق، وعندما أخذوه ليعاقب على ذلك فيصلبوه قال: كيف تفعلون بألف حديث قد وضعت على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو كلمة نحو ذلك، يعني عدد نحو هذا، فقال له الأمير: يعيش لها الجهابذة، هم الذين يقفون بالمرصاد لهذه الأحاديث، لكن بتوعير الطرق على النقاد وبتضعيف حديث أو تصحيح حديث ينقلب الحرام حلالاً وينقلب الحلال حراماً.

من مفاسد التدليس عدم الإخلاص

من مفاسد التدليس عدم الإخلاص ثانياً: من مفاسد التدليس عدم الإخلاص؛ لأن المدلس له مقاصد كثيرة منها: المقصد الأول: أن يبين كثرة الشيوخ كتدليس الشيوخ، فيكنيه مرة، ويسميه مرة، ويسمي بلداً مرة، ومكاناً آخر مرة أخرى، ورحلته مرة، وهذه كلها داخلة في النية، فالمدلس يريد أن يبين للناس أنه رحل كثيراً، ذهب إلى الشام، وذهب إلى بيت المقدس، وذهب إلى بلاد ما وراء النهر، كما بينا في الأمثلة السابقة، فهو يوهم الناس أنه رحل كثيراً حتى يأتي بهذه الأحاديث، فتجتمع الناس عليه من كثرة رحلته، وهذه تدخل على نيات الشخص، بل تدخل الرياء عليه. المقصد الثاني: أن فيه من الغش ما فيه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) لأنه إنما أخذ عن شيخ واحد فقط، فهو يسميه مرة، ويكنيه مرة، ويلقبه مرة، فكأنه يكثر من شيوخه ليبين أنه له شيوخاً كثر أخذ عنهم، فهذه أيضاً من مفاسد التدليس، وهي مذمومة عند الله جل في علاه، فإن الإنسان إذا أراد وجه الله يعلم أن الممدوح بحق هو من مدحه الله جل في علاه، والمذموم بحق هو من ذمه الله جل في علاه، بل ألسنة العباد وقلوب العباد بيد الله. دخل أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا محمد! -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- يا محمد! أعطني فإن مدحي فين)، بمعنى: أنك لو أعطيتني مدحتك (فإن مدحي فين، وذمي شين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك الله)، فإن الممدوح بحق هو من مدحه الله، والمذموم بحق هو من ذمه الله جل في علاه، فالذي يتشبع بما لم يعط ليمدح فهو مدخول في نيته.

من مفاسد التدليس توعير الطريق على الواقف على الحديث

من مفاسد التدليس توعير الطريق على الواقف على الحديث ثالثاً: من مفاسد التدليس: توعير الطرق على الناقد البصير، أو الواقف على الحديث، فإنه يسمي شيخه بغير اسمه، أو يلقبه بلقب غير مشهور، أو يكنيه بكنية غير مشهورة، فالواقف على الحديث ليصححه أو يضعفه حتى يبين للأمة أن هذا الحديث منسوب نسبة صحيحة للنبي، أو غير منسوب نسبة صحيحة للنبي صلى الله عليه وسلم، يوعر عليه الطريق، فلا يستطيع أن يكشف أمر هذا المجهول الذي وعر طريقه المدلس، وهذا فيه ما فيه من الذم، وفيه ما فيه من الجرح، بل بعض العلماء قال: إن قصد ذلك فهو مجروح لا تؤخذ روايته ولا يروى عنه.

من مفاسد التدليس تضعيف الثقات وتوثيق الضعفاء

من مفاسد التدليس تضعيف الثقات وتوثيق الضعفاء رابعاً: من المفاسد العظيمة للتدليس: تضعيف الثقات وتوثيق الضعفاء، وهذا موجود حتى في عصرنا، فقد يسمي الواحد منا شيخه بغير اسمه مرة -وقد يكون جالس شيخاً مرة واحدة- ويكنيه مرة بغير كنيته المشهورة؛ ليشتبه على السامعين -نسأل الله أن يعافينا من هذا الداء العضال- فالثقة بالتدليس يمكن أن يطعن فيه، والضعيف بالتدليس يمكن أن يرتقي بالثقات، كما في حديث بقية، أو حديث ابن أرطأة أو الوليد بن مسلم، وهذه مشهورة عن الوليد بن مسلم، فكان الأوزاعي يروي عن ضعفاء، والوليد بن مسلم يروي عن الأوزاعي، فيأتي الوليد بن مسلم مثلاً فيسقط الضعيف بين الأوزاعي وبين الثقة الذي هو شيخ شيخه، فيكون الإسناد مباشرة: الوليد بن مسلم وهو الثقة، عن الأوزاعي وهو الثقة، عن شيخ شيخ الأوزاعي الثقة أيضاً، أما الضعيف الذي بين الثقتين فأسقطه، لا سيما وإن كان شيخ شيخ الأوزاعي لم يكن معاصراً له ولم يسمع منه، فالناظر والناقد لهذا الحديث في أول وهلة يرى أن سلسلة الإسناد سلسلة صحيحة، لكن الناقد البصير الجهبذ سينظر فيقول: إن الأوزاعي لم يرو عن شيخ شيخه هذا، ولم يرو الأوزاعي عن فلان إلا بواسطة، وهذه الواسطة لم يسقطها الوليد؛ لأنه يقول: حدثني الأوزاعي، ويقول: الأوزاعي أسقط الضعيف وعنعن عن الثقة، فـ الأوزاعي مدلس، فيتهمون الأوزاعي بالتدليس بسبب فعل الوليد بن مسلم، أو بسبب فعل بقية بن الوليد. فهذا من المفاسد العظيمة: أن يجعل الثقة ضعيفاً بين العلماء، وإذا ضعف العلماء أو جرحوا الأوزاعي فستكون كل الأحاديث التي من طريق الأوزاعي ضعيفة ولا يؤخذ بها، وبهذا نكون قد ضيعنا كماً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. فالمقصود أن التدليس يجعل الثقة في محل الضعفاء، ويجعل الضعيف في محل الثقات.

من مفاسد التدليس إيهام العلو ولا علو

من مفاسد التدليس إيهام العلو ولا علو خامساً: من مفاسد التدليس: إيهام العلو ولا علو، وبهذا اتهم مالك؛ لأن مالكاً كان يروي عن ثور بن يزيد عن عكرمة عن ابن عباس، فكان مالك يقول: بلغني عن ابن عباس، فيرويه عن ابن عباس بلاغاًً، فبعض العلماء قالوا: كأنه إيهام بالعلو وهو ليس بعلو، وهو ظاهر طبعاً، وبعضهم اتهم مالكاً بالتدليس في ذلك. ومثله في ذلك البخاري في التعليق.

من مفاسد التدليس الغش

من مفاسد التدليس الغش سادساً: من مفاسد التدليس: الغش، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا)، فهذا فيه تزوير وترويج للضعفاء، وفيه طمس للحقائق، وهو طمس للثقات، ونحن نعيش في أزمنة طمس الحقائق فيها موجود، حيث تصدر الدعاة للعلم والفتوى، أما العلماء فتأخروا خلف الدعاة، وشمس الدعاة هي التي أشرقت، والبعض يتهمني بأني تكلمت كثيراً عن مسألة الدعاة وطلبة العلم، وفهم أني قللت من شأن الدعاة، وإني لم أقلل من شأن العلماء والدعاة قط، ولكن هم الذين يقصدون ذلك، فكثير من الناس يريدون العلو لمن لا علو له، ويريدون الانخفاض لمن لا انخفاض له، وهذا من طمس الحقائق، فالواجب أن ندور مع قول الله تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85]، وأن نخشى من قول الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1]، وأن نعمل بقول عائشة رضي الله عنها كما في مقدمة الصحيح: (أمرنا أن ننزل الناس منازلهم)، وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم (لا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا أهل الفضل). ولذلك نقول: دعاتنا لهم فضل عال وعظيم جداً، فكفى بجهودهم النيرة، وكفى بسهر الليالي، ودعوة الناس بشتى البلاد، وإدخال الناس أفواجاً في دين الله جل في علاه، لكن كان يجب عليهم -وهذا هو الذي أنوه له- كان يجب عليهم أن يقولوا: هذه مهمتنا، والمهمة الأكبر عند فلان وعند علان، وأن يبينوا للناس هذا، فهذا هو الطلب، وهذه هي الدعوة؛ حتى يعلم الناس من الذين يذهب إليهم في الملمات؛ لأن الدنيا الآن تتخبط بمسائل عويصة جداً، ومسائل شائكة جداً، لا يفصل فيها إلا العلماء، بل لا يفصل فيها إلا الراسخون في العلم، فإذا زورنا على الناس فقد دخلنا في باب التدليس والطمس للحقائق أيضاً، فإظهار الحقائق واجب، رضي به من رضي وأنكره من أنكره، فهذا دين، والدين لا بد أن يحكم على الرءوس. فإن قيل: المفسدة ستكون أعظم من المصلحة عند إظهار الحقائق، فنقول: إن كانت المفسدة هي شحن الصدور فالمخلص لا يشحن صدره شيء، والداعي المخلص أو طالب العلم المخلص عندما يسأل في مسألة لا يعرفها يقول: لا أحسنها، أو لا أعلم حلها، والواجب عليه أن يقول: لست لها، بل لها فلان وفلان، اذهبوا إلى فلان وتعلموا منه، فهذا هو الإخلاص، ودين الله لا يمكن أن ينتصر إلا بمثل ما فعل الأولون، كما قال الإمام مالك: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وكان ابن عباس يسأل في وجود زيد بن ثابت فيقول: كيف أجيب في وجود هذا الرجل، وهو شيخه ويحيل على زيد بن ثابت، بل معاذ بن جبل تحال عليه المسائل، وعقد مجلس كامل لمسألة معينة اختلف فيها المجتهدون من الصحابة أمثال عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب، وهي مسألة الإنزال، وهي: إذا جامع رجل امرأته فلم ينزل فماذا يفعل؟ فـ عثمان وفريقه يقولون: لا يغتسل، ويستندون لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الماء من الماء)، وعمر بن الخطاب يرى الاغتسال إذا التقى الختانان، فأحال عمر بن الخطاب المسألة على عائشة، وهذا من إنصافه، وإلا فـ عمر بن الخطاب أعلم من عائشة، فقد كان عمر بن الخطاب أعلم الصحابة في وقته بعد موت أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك علم أن إتقان هذه المسائل تأتي لمن احتك بها، والمتخصص فيها هو عائشة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فأحال المجلس بأسره إلى عائشة، وما سكتت عائشة، بل قالت كأنها تنكل بهم: كان أولى بكم أن تأتوني أولاً وتسألوني، ووهمت ابن عمر، وعمر، واستدركت على كثير من الصحابة؛ لأنها ترى الإتقان في هذه المسألة. فهم لما تركوا النفس خلفهم ظهرياً، وقدموا الدين والإخلاص ارتفعوا وارتقوا، وكل واحد منهم كان يقدم من حقه التقديم، ويؤخر من حقه التأخير، أما الآن ففي الأمور تخليط، وهذا التخليط سيضيع الأمة، ونحن لا نحتاج للغثائية بحال من الأحوال، بل نحتاج إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم)، فإظهار الحقائق ليس طعناً في أحد، فإن قلنا: هذا المدير مدير في مسألة التجارة والمحاسبة، لم يحزن إذا قلنا عنه: ليس مديراً في الهندسة، أو الطب، وهؤلاء العوام إذا وضعت المحاسب في مكانه يفرح ويتعب، والناس يقولون: ضع الرجل في مكانه، وإن وضعته طبيباً على الناس قلنا: أنت مدان شرعاً وعقلاً وفطرة، فهذا الدين هو أحق ما يكون فيه هذا القطع والفصل بين الطائفتين، وليس الفصل هو الطعن أبداً، بل كل صاحب ثغرة يسدها ويعمل فيها، لكن عندما يعمل الناس في التئام ووئام واتفاق، مع معرفة كل إنسان قدره، فحينئذ ترتفع الأمة وتعلو، فهذه الأمة خابت وخسرت لأنها لم تعرف قدر رجالاتها. ونحن الآن نطبق التدليس والطمس بالحقائق تطبيقاً عملياً، وأمثلة الواقع الكثيرة تدل على هذا، من ذلك ما حصل في عنيزة، حيث كان يعقد الشيخ صالح بن عثيمين فيه مجلساً، هذا الشيخ الجبل الذي لم نجد له خلفاً حتى الآن، فشمس فقهه أشرقت على دنيانا ثم غابت، ولم نجد من يحل محله حتى الآن، حتى الشيخ صالح الفوزان الذي قال فيه الشيخ ابن باز لما سألوه من نستفتي بعدك؟ فقال: صالح بن فوزان، ولكن لم يرتق أيضاً لمنزلة دقة نظر الشيخ صالح بن عثيمين، وانظر إلى كلامه وإفتاءاته، وانظر إلى ترجيحات الشيخ صالح بن عثيمين، هذا الشيخ صالح بن عثيمين كانت تعقد له مجالس العلم، وتعقد مجالس للشيخ سلمان أيضاً، فترى القلة تذهب إلى الشيخ صالح بن عثيمين، والكثرة تذهب إلى الشيخ سلمان العودة، وهذا من مقت الحقوق وتضييع الأمة؛ لأن الأمة لا تعرف ممن تأخذ، فالراسخون في العلم لا بد أن يوجد تحت أرجلهم، ويأخذ منهم العلم، أما الآخرون فهم يشيرون إلى أولئك، وإني لأستيقن أن الشيخ سفر، أو الشيخ سلمان، أو الشيخ ناصر العمر، وغيرهم من الدعاة للناس في السعودية كانوا يحيلون النظر على العلماء في الملمات، إلا إذا كان عندهم نظر فقهي مثلاً فيعود على شيخ من هؤلاء المشايخ المفتين، فيقول: أنا أخالف، ويبين الدليل، فمن رأى أنه راجح أخذ به. فالمقصود أن هؤلاء هم الذين يحيلون الناس على هؤلاء، بل الطامة الكبرى التي حدثت مع الشيخ في السعودية لم يفصل النزاع فيها إلا الشيخ صالح بن عثيمين، فالمقصود أن ملمات المسائل لا يفصل فيها إلا العلماء الراسخون، وعندما نبين مكانة العلماء الراسخين من مكانة الدعاة ليس هذا طعناً في الدعاة، بل الدعاة لهم المنة على الأمة بأسرها، فهم الذين يرققون قلوب الناس، ويدخلون الناس أفواجاً في حضيرة الالتزام، بل يرشدون الناس إلى من يأخذون منه العلم، فلهم عظيم المنة علينا وعلى الأمة بأسرها، لكنهم ليسوا بعلماء، ولا يمكن أن يستفتى واحد منهم في مسائل مشكلة أو في الملمات بحال من الأحوال؛ لأنهم ليسوا بعلماء، فالواجب أن نبين العالم من الداعي، فإذا خرج علينا العالم الداعي فهذا هو المطلوب، لكن طالما أن الصف الآن منشق إلى علماء ودعاة، فالدعاة المخلصون هم الذين يرشدون الناس إلى العلماء حتى يرجعوا إليهم في الملمات، والعلماء يرشدون الناس للدعاة المخلصين بأن يسمعوا لهم، ويجلسوا في مجالسهم، حتى ترقق قلوبهم، ويرتفعوا إلى ربهم جل في علاه، فالدعاة هذه هي مهمتهم، (فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فانظروا إلى هذه المهمة العظيمة، والثغرة الكبيرة الجسيمة الذي يسدها الدعاة، فعندما نفرق بين العالم وطالب العلم والداعي فنحن لا نطعن في الدعاة بحال من الأحوال، ولا نرفع العلماء لمنزلة غير منزلتهم، لكن نحدد الطريق، ونبين للناس؛ لأن عدم التمييز هو الذي ضيع البشر كلهم، وهو الذي ضيع العامة كلها، والعامة الآن يهرفون بما لا يعرفون، وكل منهم يردد قولاً لا يعرف معناه، وذات مرة قال أحدهم لآخر: أنت سروري، فأتى الأخ إلي وهو يبكي فقال: أنا سروري، قلت له: سروري أحسن من حزيني، لكن من قال لك هذا هل يعرف معنى سروري؟ أقسم بالله أنه لا يعرفه، وأنا على يقين من ذلك، فكثير من الناس يهرفون بما لا يعرفون. فالواجب أن يقف كل منا عند قدره وحده، ولا يهتم بمهاترات بعض الجاهلين، فإنه لن يسلم منها أحد، ولقد قيل للشيخ صالح بن عثيمين: إنك لا تنقي التلاميذ، والمنهج عندك لا بد أن يكون منضبطاً، فمن طلابك من هو سروري وحروري، ونحو من هذا الكلام، فقال الشيخ: أنا لن أرد، لم يسلم رب العالمين، ولم يسلم الرسل، فأسلم أنا! يستدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت أحداً أصبر على أذى من الله، يسبونه فيرزقهم ويعافيهم)، فعلى الإنسان أن يخلص لله جل في علاه في أموره ولا يلتفت لمثل هذه الأمور؛ لأن المعترك في الساحة هين، وينتهي في وقته، أما المعترك في الداخل فهو الأصعب، وهو الذي يجب أن ينتبه له، فإن كانت النية الأصلية أن تجعل طائفة أهل العلم هم الذين ترتكز عليهم الأمة بأسرها، وتنتصر بهم، فأنت على خير، أما إن كانت النية هي الشهرة والظهور فهي قاصمة الظهور، والله يعلم ما في القلوب، والمنافق يستدرجه الله جل وعلا حتى يقع على رقبته ورأسه ويلقى حتفه. فالإنسان لابد أن يبين الحقائق، ويبين أن التدليس والطمس لا يصح بشرعنا، فشرعنا ليس به طمس للحقائق، والنبي صلى الله عليه وسلم جعلها صراحة أمام الصحابة عندما كان في مرض موته وقال كما في الصح

مراتب التدليس

مراتب التدليس نختم الكلام على كتاب التدليس بذكر مراتب المدلسين، ومراتب المدلسين خمس، وعدها بعضهم أربعاً، والصحيح أنها خمسة مراتب:

المرتبة الأولى من اتهم بالتدليس باطلا

المرتبة الأولى من اتهم بالتدليس باطلاً المرتبة الأولى: لها أقسام ثلاثة: منهم من اتهم بالتدليس وليس منهم، وذكره من صنف في التدليس لينبه على أن هذا اتهام باطل وأنه ليس من المدلسين، ومن أمثلة هذا القسم الإمام مالك، حيث اتهم مالك بالتدليس في بلاغاته، وذلك أن الحديث يكون عن ثور بن يزيد عن عكرمة عن ابن عباس مثلاً، فيقول مالك: بلغنا عن ابن عباس كذا، فيسقط ثور بن يزيد، ويسقط عكرمة، ويأتي بـ ابن عباس، فقالوا: هذا مدلس. ومن أمثلته أيضاً البخاري فقد اتهموه بالتدليس، وممن اتهم أيضاً ابن حزم، أما البخاري فاتهم لما قال في حديث: (يأتي زمان على أمتي يستحلون الحر والحرير)، قال: قال هشام بن عمار، و (قال) هذه من الصيغ الموهمة، فاتهموه بالتدليس على ذلك، وأيضاً لما كان بينه وبين شيخه محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري مشاحنة، حيث رأى الكثرة في مجلسه فقال: البخاري يقول بخلق القرآن، وهذا زور وبهتان، لكن البخاري ديانة وإنصافاً روى عنه حديثاً؛ لأنه يعلم أنه من الثقة بمكان، فكان يأخذ عنه الحديث لكن كان يعمي عليه حتى لا يقول الناس: عدلته بالرواية عنه فكلامه فيك صحيح، فكان يفعل ذلك. وممن اتهم بالتدليس أيضاً: مسلم وهشام بن عروة، فهؤلاء جبال لا يمكن أن يقترب منهم أحد، فهؤلاء قسم اتهموا بالتدليس وهم منه براء. القسم الثاني: قوم دلسوا لكن على ندرة وبقلة جداً، مثل أبي سعيد الأنصاري، ويزيد بن هارون الواسطي، حيث قال: ما دلست إلا في حديث واحد وما بورك لي فيه، فهؤلاء من الندرة بمكان، وهم أيضاً في المرتبة الأولى من المدلسين. القسم الثالث: قوم خلط العلماء بين إرسالهم وتدليسهم، فأنزلوا الإرسال مكان التدليس؛ لأن الإرسال الخفي أقرب ما يكون إلى التدليس. فالمرتبة الأولى عنعن أو لم يعنعن فحديثه صحيح، وأحاديثه كلها محمولة على الاتصال، وسواء اتهم أم لم يتهم، أو كان في تدليسه ندرة أو لم يكن.

المرتبة الثانية من ثبت عليهم التدليس وهم أئمة عظام

المرتبة الثانية من ثبت عليهم التدليس وهم أئمة عظام المرتبة الثانية: قوم دلسوا وثبت عليهم التدليس لكن هم أئمة عظام، جبال في الحفظ وبحور في التحديث كـ الزهري والثوري، وبعضهم أدخل الأعمش، وبعضهم أدخل سليمان بن مهران معهم؛ لأنه كثير الحديث، وهذا فيه نظر، أما الثوري والزهري ومن في طبقة كثرة الحديث وعظم المكانة وقلة التدليس فهؤلاء لا يدلسون إلا عن ثقة كـ ابن عيينة، قال ابن حبان: ما أجد في الدنيا مثل ابن عيينة، فكأنه خص الحكم هذا بصنف واحد هو ابن عيينة فقط، وكأنهم بحثوا ونقبوا فوجدوا الذين يدلسون لا يدلسون إلا عن الثقات، وما وجدوا إلا ابن عيينة، فهؤلاء أيضاً العنعنة عندهم كالتحديث، فإن وجدت الثوري يعنعن فقل: هذا على الاتصال، وإن وجدت الزهري والعنعنة موجودة في الصحيحين فقل: هي على الاتصال، فالمرتبة الثانية أيضاً محمولة على الاتصال ولو عنعن، في الصحيحين أو في غير الصحيحين.

المرتبة الثالثة من أكثروا من التدليس وهم ثقات في أنفسهم

المرتبة الثالثة من أكثروا من التدليس وهم ثقات في أنفسهم المرتبة الثالثة: قوم أشبعوا أنفسهم بالتدليس، وهذه أليق بـ الأعمش وابن جريج، فأصحاب المرتبة الثالثة يدلسون كثيراً، وهم ثقات في أنفسهم، أقلهم صدوق وإن كان يهم فهو صدوق، وأصحاب هذه المرتبة لا تقبل عنعنتهم عند جماهير أهل العلم، بل لابد من التصريح بالسماع، وقال الجماهير: تقبل عنعنتهم في حالة واحدة هي: إن كانت الرواية في الصحيحين؛ لأن جميع أهل العلم قالوا: إن أصحاب الصحيح اشترطوا على أنفسهم شروطاً فلا يمكن أن يخلوا بها، بل قالوا: يمكن أنهم اطلعوا على طرق أخرى صرحوا فيها بالسماع. أما الأمور الأخرى التي منها إن كان مكثراً أو غير مكثر ففيها نظر كما قلت، وهذه الذي قالها الذهبي عن الأعمش عن أبي وائل؛ لأنه قال: كان مكثراً وملازماً، فلو عنعن لا بد أن يكون قد سمع في مجلس من المجالس، وقلنا: إن هذا منتقد في راوٍ من الرواة كان مكثراً عن شيخه واتهمه أيضاً الذهبي بالتدليس في التذييل على المستدرك.

المرتبة الرابعة قوم ثقات لا يدلسون إلا عن الضعفاء

المرتبة الرابعة قوم ثقات لا يدلسون إلا عن الضعفاء المرتبة الرابعة: قوم يدلسون كثيراً، ولا يدلسون إلا عن الضعفاء، حيث نقب المحققون والمدققون في الذين دلسوا عنهم فما وجدوهم إلا عن الهالكين الضعفاء، ومن هذه المرتبة الحسن البصري وابن جريج والحجاج بن أرطأة وبقية بن الوليد، والوليد بن مسلم، وحكم هذه المرتبة أننا لا نقبل منه حتى يصرح بالسماع، ونرى الشيخ الذي دلس عنه ثقة أم لا، فنحتاج إلى أمرين لقبول هذا الحديث: الأمر الأول: تصريح الراوي بالسماع، الأمر الثاني: النظر إلى الشيخ المصرح به هل هو ثقة أم لا؟

المرتبة الخامسة مدلسون وهم في أنفسهم ضعفاء

المرتبة الخامسة مدلسون وهم في أنفسهم ضعفاء المرتبة الخامسة: يدلسون وهم في أنفسهم ضعفاء، بخلاف المراتب الأربع فقد كان فيهم الثقات، وفيهم من هو صدوق، وفيهم من يهم وفيهم من يخطئ، لكن أصحاب المرتبة الخامسة مدلسون وضعفاء، وهؤلاء كأمثال ابن لهيعة، وكثير من الناس لا يقرون بتدليس ابن لهيعة لكن الصحيح الراجح أنه أيضاً مدلس. وحكم أحاديث أصحاب هذه المرتبة أنها ضعيفة، سواء صرح الراوي بالسماع أو لم يصرح فحديثه ضعيف؛ لأنه ضعيف في نفسه، فالجناية أصلاً مرتبطة بالضعف لا بالتدليس؛ لأن العلماء النقاد يقفون أمام أحاديث التدليس موقف التثبت أولاً فيقولون: نوقف الكلام في الحديث حتى نرى الراوي هل صرح بالسماع أو لم يصرح؟ أما الضعيف فلا يرجئون النظر فيه؛ لاختلال شرط من شروط الصحة وهو ضعف الراوي. فالضعيف المدلس لا يقبل حديثه بحال، إلا إذا كان ضعفه ضعفاً ينجبر كـ ابن لهيعة؛ لأن ابن لهيعة في حفظه شيء وفيه لين، فلو توبع وصرح بالسماع لقبل الحديث؛ لأن ضعفه ضعف ينجبر.

طرق معرفة التدليس في الحديث

طرق معرفة التدليس في الحديث يمكن معرفة أن العنعنة عنعنة مدلس، أو أن هذا الحديث فيه تدليس عن طريق أمور: أولاً: إخبار المدلس نفسه، بأن يقول: دلست عليكم كذا، وكما عمل من صرح بأنه دلس أحاديث عن المغيرة، فقال: ما حدثتكم عن المغيرة فإني ما سمعت حديثاً واحداً عنه. ثانياً: أن يلح عليه، كما قال الحاكم: يعرف تدليس المدلس بعد الإلحاح عليه، ومن ذلك ما حدث به ابن عيينة عن الزهري فقال: ما سمعته من الزهري، قال: ولا ممن سمعوا منه، إذ كانت السلسلة في الأصل عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، فأسقط شيخين بينه وبين الزهري، فهو صرح بالتدليس بعد أن ألح عليه. ثالثاً: أن يشترط الراوي على المدلس أن يصرح، فيعرف هذا مدلس أو لا، كأحاديث أبي الزبير، فإنه إن كان الليثي يحدث عنه علمنا أن هذا مصرح فيه بالسماع، أو كـ قتادة وأبي إسحاق السبيعي والأعمش، فكل هؤلاء إذا روى عنهم شعبة فقد كفانا تدليسهم. رابعاً: عن طريق جمع الطرق فتعرف علة الحديث، كما قال ابن المديني: لا يصل أحد إلى علة الحديث إلا بجمع الطرق، وذلك بأن تكون هذه الرواية تأتي بلا واسطة، ثم تأتي من طريق آخر بالواسطة، فنعلم من ذلك أن هذا الراوي مدلس، فنقول: هو لا يرويها عنه إلا بواسطة وقد أسقط الواسطة، إذاً: الطريق هذا طريق فيه علة. مثال ذلك: أن يروي الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيجيء تلاميذ الأعمش فيروونه عنه بطريقين: الطريق الأول: يروونه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والطريق الآخر: يروونه عن الأعمش عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيصير عندنا طريقان، وإحدى الطرق فيها إسقاط الواسطة، فالناقد البصير ينظر هذين الطريقين ويقول: الأعمش لا يمكن أن يروي عن أبي هريرة إلا بواسطة، فالطريق الذي ليس فيه الواسطة طريق فيه علة وهي علة التدليس، قد دلسه الأعمش عن أبي هريرة وأسقط أبا صالح. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

تابع مراتب التدليس

التدليس في الحديث - تابع مراتب التدليس التدليس علة تقدح في حديث الراوي الموصوف بالتدليس إذا عنعن، لكن ليس كل من وصف بالتدليس وعنعن يرد حديثه؛ ولذا قسم المحدثون الموصوفين بالتدليس إلى خمس مراتب، فأصحاب المرتبة الأولى والثانية تقبل روايتهم وإن عنعنوا، وأصحاب المراتب الأخرى لهم أحكام خاصة بينها المحدثون رحمهم الله.

المرتبة الأولى من مراتب المدلسين: عنعنة الأئمة الكبار حكمها حكم السماع

المرتبة الأولى من مراتب المدلسين: عنعنة الأئمة الكبار حكمها حكم السماع إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. المرتبة الأولى: كل عنعنة من اتهم بالتدليس في هذه المرتبة حكمها حكم السماع، سواء في الصحيحين أو في غير الصحيحين، مثل ابن عيينة عن الزهري، فإذا قال: حدثني الزهري، أو سمعت الزهري، أو قال: عن الزهري، فالحكم واحد. وهذه المرتبة أصناف: قوم اتهموا بالتدليس وهم من التدليس براء كبراءة الذئب من دم يوسف عليه السلام، كـ مسلم والبخاري، والدارقطني وشعبة، فهؤلاء اتهموا بالتدليس وهم أبأ ما يكون عنه. وقوم دلسوا مرة أو مرتين في حياتهم فقط، كـ يزيد بن هارون الواسطي، هذا دلس في حديث واحد وقال: دلست فيه فما بورك لي فيه. وقوم تدليسهم يسير جداً، وهو من تدليس الشيوخ، مثل راو كان يدلس عن شيخه محمد بن أحمد الثوري الجوزاني فيقول: حدثنا محمد بن أحمد الثوري الجوزاني، ومرة كان يقول: محمد بن أحمد الثوري الجوزاني، ومرة كان يقول: حدثنا محمد بن أحمد الثوري الجوزاني، ومرة أخرى قال: محمد بن أحمد الثوري الجوزاني، وقال مرة: حدثنا محمد بن أحمد الثوري الجوزاني، ومرة قال: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسين، وتدليسه عن شيخه ليس لأنه كان ضعيفاً، ولكن كان التدليس لأن الشيخ كان من أقرانه، فاستصعب أن يروي عنه وهو من أقرانه، لكن تقوى الله والورع والإخلاص يجعل الإنسان لا يبالي بمثل هذا، وقد قال ابن عيينة: لا ينبل المرء حتى يأخذ ممن هو دونه وممن هو فوقه وممن هو قرين له، وهذا التدليس أخف الأنواع، ولذلك جعل في المرتبة الأولى. ومن هؤلاء أيضاً: أحمد بن عبد الله الأصبهاني أبو نعيم الحافظ، وهو أشهر من أن يذكر فيه كلام، وهو ثقة تكلم فيه بلا حجة، تكلموا فيه من أجل العقيدة، واتهموه بالتدليس من وجهين: الوجه الأول: أنه كان يروي عن مشايخه الذين أجازوه إجازة، ويقول: أخبرني، وما يقول: إجازة، بمعنى أنه يكتب له شيخه: أجيزك ما في هذه الصحيفة، أجيزك في هذه الأحاديث، فهو يروي هذه الأحاديث عن شيخه إجازة، ولا يبين أنه يرويها إجازة، بل يرويها عن شيخه ويقول: أخبرنا، فقالوا: هذا نوع من أنواع التدليس، فقد كان لزاماً عليه أن يقول: أخبرنا إجازة، أو يقول: أجازني شيخي في كذا ويروي هذه المرويات. والوجه الثاني: أنه كان يدلس عن شيخه المكثر عنه، وهو عبد الله بن جعفر بن فارس، فهو من أكبر شيوخه وسمع منه كثيراً، كان يروي عنه ويقول: أخبرنا عبد الله بن جعفر فيما قرئ عليه، يقول الذهبي: هو يوهم أنه حضر المجلس؛ لأنه قال: فيما قرئ عليه، وكأنه سمع منه، وهو لم يكن في المجلس. والصحيح أن أبا نعيم لا يصح أن يوصف بالتدليس، والإجابة عن هذين الوجهين كما يلي: أما الوجه الأول فـ أبو نعيم كان من المحدثين الذين يجوزون أن يقول المحدث بالإجازة: أخبرنا، وهو بنفسه صرح وقال: إذا قلت في حديث حدثنا الشيخ، فهذا سمعته منه بأذني، وكل ما قلت: أخبرنا فهذا ليس سماع ولكنه إجازة، فأصبح هذا أشهر من النار على علم، وهو مصطلح لـ أبي نعيم وغيره في الإجازة يقول: أخبرنا، وفي السماع يقول: حدثنا. وابن عبد البر يقول بهذا القول، قال: تروى الإجازة عند محدثي الأندلس بصيغة أخبرنا، فهذا مصطلح بعض العلماء أخذ به، فلا يعاب عليه، وهو قد برأ ساحته؛ لأنه قال: كل ما قلت فيه: حدثنا فهو سماع، وكل ما قلت فيه: أخبرنا فهو إجازة. أما الوجه الثاني وهو روايته عن عبد الله بن جعفر بتلك الصيغة، فرد الذهبي هذا الاتهام بأنه قيل: لعله كان يحضر المجلس، فالأولى إحسان الظن بالمحدث، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل القاطع الذي يثبت أنه كان يدلس، فالصحيح الراجح أنه بريء من التدليس؛ ولهذا جعل من المرتبة الأولى، وهم قوم اتهموا بالتدليس وليسوا كذلك.

الكلام على تدليس ابن عيينة والثوري

التدليس في الحديث - الكلام على تدليس ابن عيينة والثوري لقد عني علماء الإسلام بعلم الحديث أشد الاعتناء، وشددوا فيه أيما تشديد، فدققوا في الأسانيد وانتقدوا الرواة حتى يميزوا بين الصحيح من الحسن من الضعيف من الموضوع، حتى إنهم من شدة اعتنائهم بعلم الحديث تكلموا في أناس جهابذة ثقات وردوا بعض مروياتهم، وآخرون ميزوا طريقة تحديثهم واكتشفوا أسلوب التدليس ونوعه عندهم على قوة علمهم وجلالة قدرهم، ومن هؤلاء سفيان بن عيينة والثوري رحمهما الله رحمة واسعة.

المرتبة الثانية من مراتب التدليس: من ثبت عليهم التدليس وهم أئمة كبار

المرتبة الثانية من مراتب التدليس: من ثبت عليهم التدليس وهم أئمة كبار إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. نتكلم عن المرتبة الثانية من مراتب التدليس، فالمرتبة الثانية لها أصناف وأنواع وأقسام وهي خمسة أقسام: منها: قوم ثبت عليهم التدليس، لكن لا يدلسون إلا عن ثقة؛ كـ ابن عيينة، وحميد الطويل، والذي دلس مرة واحدة هو يزيد بن هارون الواسطي، وابن حبان استوعب المسألة فقال: وأكاد أقول في هذه الأصناف: لا يوجد إلا ابن عيينة، وذلك بعد الاستقراء والبحث؛ لأنه لو سمى ابن جريج، أو سمى معمر بن راشد، أو سمى عبد الرزاق مثلاً فوف نقول: ما سمى إلا الثقات. الصنف الثاني من المرتبة الثانية: قوم دلسوا وثبت تدليسهم، ولكن التدليس بالنسبة لسعة الرواية قليل، فنقول: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، وهذا الباب أساسه هو الثوري؛ ولذلك نحن نتكلم اليوم عن تدليس ابن عيينة والثوري.

الإمام الثوري وتدليسه

الإمام الثوري وتدليسه

فضل الإمام الثوري ومكانته وعلمه

فضل الإمام الثوري ومكانته وعلمه الثوري: هو الإمام العالم الزاهد التقي الورع العابد، أمير المؤمنين في الحديث، واسع الاطلاع، يحفظ ألف ألف حديث في الآثار وفتاوى الصحابة والمقطوع والموقوف وغير ذلك، فقد كان أوسع الناس في حفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ثقة ثبتاً، عالماً بالرجال، عالماً بالعلل، ولكنه كان يدلس، بل اتهموه بتدليس التسوية، أي: أنه كان يسوي الإسناد، وتدليس التسوية من تدليس الإسناد، ومع ذلك اغتفر تدليس الثوري؛ لأنه كان واسع الرواية، كما قال البخاري: ما أقل تدليسه بالنسبة لروايته. يقول شعبة: أمير المؤمنين في الحديث الثوري، وكان إذا خالف الثوري شعبة قال شعبة: قدموا الثوري، فكان يقدم الثوري على نفسه؛ ولذلك كان ابن مهدي يقول: يقدم الثوري، فهو إمام زمانه، وكان يحيى بن سعيد القطان إذا قورن عنده بين شعبة والثوري قدم الثوري في علم الرجال، وأيضاً في حفظ المتون والروايات. قال بشر الحافي: الثوري في زماننا كـ أبي بكر وعمر في زمانهما، وهذه دلالة على إمامته وجلالة قدره، وكان الثوري مع حفظه للحديث وعلمه بالسنة عابداً زاهداً ورعاً تقياً، وكان يصلي بوضوء العشاء، كان يقوم الليل حتى الفجر، وكان يأكل كثيراً ويقول: أتقوى به على قيام الليل، فهو كمن قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره)، وقد طلبه الخليفة للقضاء فرفض ورعاً منه وتقوى، فطلبه الوالي، وهم بقتله؛ فهرب منه، ثم طلبه، فقالوا: هو في مكة قد دخل الحرم فتعلق بأستار الكعبة، وقال: عذت بربي جل في علاه أن يصل إلي؛ فجاءه الخبر أن الوالي مات في الطريق قبل أن يصل إلى مكة.

من أقوال الإمام الثوري رحمه الله

من أقوال الإمام الثوري رحمه الله كان الإمام الثوري يحمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويعمل به؛ لأنه قال: يا أهل الحديث! عليكم بزكاة الحديث، وزكاة الحديث في كل أربعين حديث أن تعملوا بحديث واحد، وقال: والله ما حفظت حديثاً ووعاه قلبي واحتجت أن أسترجعه إلا ختم الله به على قلبي جل في علاه حفظاً وإتقاناً وتثبيتاً. وهذا أيضاً من ورعه وتقواه تثبيتاً للحفظ والعمل به؛ لأنه قال: ما سمعت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فحفظته إلا وعملت به ولو مرة واحدة في حياتي، ولذلك ورد عنه أنه قال: يا أهل الحديث! إن تعملوا بالحديث مرة واحدة تكونوا من أهله. ومن درر كلام الثوري أنه قال: من اعتاد أفخاذ النساء ضيع عليه العلم. وأيضاً من درر كلام الثوري -وهذا الكلام فيه نظر- أنه قال: من تزوج فقد ركب البحر، ومن أنجب له أو ولد له فقد كسرت سفينته، يعني: قارب على الغرق والهلاك، مع أنه تزوج، وكذلك الشافعي ومالك وأبو حنيفة، ولكن إذا دققت النظر في كلام العلماء تجد بالتحليل والتدقيق أنهم كانوا ينهون الناس عن أن يتزوجوا قبل أن يتفقهوا، ولذلك كان الشافعي كثيراً ما يقول: تفقهوا قبل أن تسودوا. فأنت إذا طلبت الأصول وأتقنتها ثم تزوجت بعد ذلك فإن البركة تكون معك. كذلك من درر كلام الثوري أنه قال: على طالب العلم أن ينتقي. يعني: يعرف من يدخل عليه؛ لأن كثيراً من الناس لا ينتقون من يدخلون عليهم عند التعلم، وقد كان الثوري وابن عيينة والشافعي يقولون: الانتقاء هو أول الطريق، أي: انتقاء العالم هو أول الطريق؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من علامات الساعة طلب العلم عند الأصاغر) يعني: الأصاغر في العلم، الذين لم يتقنوه وما درسوه على أيدي مشايخ كبار في العلم، وما قرءوا على عالم فأجازهم، ولا أتقنوا المسائل، ما هي إلا نقل أقوال، أو سماع لبعض الأشرطة، مع عدم الإتقان والتمحيص والتنقيح والتدقيق.

تدليس الإمام الثوري ليس قادحا في عدالته

تدليس الإمام الثوري ليس قادحاً في عدالته كان الثوري أمير المؤمنين في الحديث، ومع ذلك اتهم بالتدليس، وهذا فيه دلالة كبيرة وواضحة جداً على أن التدليس ليس قادحاً، وليس جرحاً، إلا ما ظهر من التعمد في تدليس التسوية وغيرها، والتعمية على الباحث. الإمام الثوري رغم أنه كان أمير المؤمنين في الحديث وكان أوسع الناس حفظاً فقد كان فقيهاً مدققاً منقحاً، وهذه هي بركة العلم، وكان له مذهب مستقل، مع أنه كان من الكوفة، وكان مذهبه مذهب الكوفيين في كثير من المسائل كمسألة النبيذ وغيرها، لكن كان فقيهاً فحلاً، فجمع بين الفقه والحديث، لكن لم يحمله أصحابه في الفقه، وحملوه في الحديث فقط؛ ولذلك ترى أقوالاً متناثرة من أقوال الثوري في الفقه، وكان ينشغل بالحديث وفقهه؛ لذلك ذاع صيته بين الناس، وظهر علمه ودقة نظره في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم.

ابن عيينة وتدليسه

ابن عيينة وتدليسه ومن علماء المرتبة الثانية ابن عيينة، وتدليسه أرقى من تدليس الثوري؛ لأن الثوري كان يدلس عن ضعفاء الحديث وعن الثقات، أما ابن عيينة فكان تدليسه تدليساً منتقى، إذْ كان يحسن تجويد الإسناد، ولذلك كان يروي الحديث عن عمرو بن دينار، فيقولون: سمعته من عمرو؟ فيقول: اتركه على ما هو عليه، فيقولون: نردده عليك يا ابن عيينة أسمعته من عمرو؟ فيقول: جودته فاتركوه، فيقولون: لا، سمعته من عمرو؟ فيقول: لا، ما سمعته من عمرو. ومرة كان يحدث عن الزهري، وبين الزهري وبين ابن عيينة ثلاث طبقات؛ ولكن الزهري كان شيخاً مباشراً له؛ لأن ابن عيينة تعمر واحداً وتسعين سنة، فأدرك الزهري -هذا على الراجح- وكان يروي عنه وهو شيخه المباشر، فيقول: عن الزهري، فيقولون: سمعته من الزهري؟ فيقول: اتركوه، فيقولون: لا والله، سمعته من الزهري؟ فيقول: لا، ولا ممن سمعه من الزهري، سمعته من عبد الرزاق عن معمر بن راشد عن الزهري، ويسرد الحديث.

فضل الإمام ابن عيينة ومناقبه

فضل الإمام ابن عيينة ومناقبه كان ابن عيينة فحلاً ثقة ثبتاً، قال الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لضاع علم الحجاز، كان ابن عيينة -كما قلت- ثقة ثبتاً حافظاً، لكنه تغير في آخر عمه، والتغير بالآخرة ليس كالاختلاط، فهو أخف من الاختلاط، فهو أول درجات الاختلاط، وابن عيينة كان ثبتاً ورعاً تقياً، عالماً زاهداً، كريماً سخياً، والمؤرخون عندما يترجمون لـ ابن عيينة يقولون: كان ابن عيينة فحلاً ثقة ثبتاً يرحلون له من مشارق الأرض ومغاربها، من اليمن والكوفة والبصرة يريدون الحج وأصل مرادهم ابن عيينة بنية مدخولة، فهل هذا الحج حج مبرور أم لا، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات)؟ A لا تعارض بين أن يذهب لطلب العلم وينوي الحج؛ لأن الله يقول: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] وبما أن الله قد أباح المنافع الدنيوية فمن باب أولى أن تكون المنافع الأخروية مباحة كطلب العلم. إذاً: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28]، ومن أهم المنافع: طلب العلم؛ لأنه بالعلم تستقيم العبادة، فـ ابن عيينة كانوا يرحلون له، حتى إنه ذات مرة لما جلس مجلسه للحديث بكى وقال: (خلت الديار فسدت، إن هذا لزمان سوء)، رضي الله عنه وأرضاه، وقد قال فيه الشافعي: ما رأيت أحسن تفسيراً للحديث من ابن عيينة. كان مجلس ابن عيينة يضج بطلبة العلم الذين يطلبون منه الحديث، ولكنه لم يكن واسع الرواية كـ سفيان الثوري، لكنه كان ثقة ثبتاً، وكان له اعتبار بين علماء الحديث، وكان من كبار أهل العلم. وكان أيضاً عابداً ورعاً تقياً يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويعمل به؛ ولذلك بارك الله له في العلم.

من أقوال ابن عيينة رحمه الله

من أقوال ابن عيينة رحمه الله من درر كلامه قوله: تعلمنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله، وكان يقول: من عصى الله بالشهوة رجوت له التوبة، ومن عصى الله بالكبر فلا أرجو له ذلك، أو قال: لا رجوت له ذلك، فإن آدم عصى الله بالشهوة فتاب الله عليه فتاب، وأما إبليس فعصى الله بالكبر فلم يتب الله عليه، وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: الكبر ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما عذبته)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ومن درر كلامه رحمه الله قوله: بوابة العلم الصبر، وهذا الكلام أيضاً استقاه منه الشافعي، فقد بين أن بوابة العلم الصبر على الطلب، وإن كان الأمر فيه مشقة، فإن المشقة دائماً يلازمها بعد ذلك التيسير: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6]، وأنعم بقول السبكي عندما قال: من ألح الطرق فقد ولج، يعني: من أدام الطرق على الباب فقد ولج. فلنعم الرجال هؤلاء العلماء! وآخر ما أقول: إن المرء لا يعيش مع أهل زمانه، إن أراد الرفعة والارتقاء فعليه مد بصره إلى هؤلاء الأخيار إلى هؤلاء الأكارم إلى هؤلاء الأماجد، إن عاش معهم ارتقى بنفسه وبهمته كما ارتقوا بهمتهم، وإن كان يدب كدبيب النمل فإنه سيصل، كما قال الحسن البصري: من سار على الدرب وصل وإن مشى ببطء. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

§1/1