شرح كتاب الإيمان - يوسف الغفيص

يوسف الغفيص

شرح كتاب الإيمان [1]

شرح كتاب الإيمان [1] معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، ويعتقدون أن هذا الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وقد اهتم سلف هذه الأمة بمسألة الإيمان اهتماماً عظيماً لأنها أول مسألة اختلف فيها أهل القبلة، ولم يكن قبلها نزاع في شيء من مسائل الأصول، وإنما كان الخلاف في مسائل الفروع والفقه.

مقدمة شرح كتاب الإيمان للإمام أبي عبيد

مقدمة شرح كتاب الإيمان للإمام أبي عبيد الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين. أما بعد:

أهمية كتاب الإيمان للإمام أبي عبيد

أهمية كتاب الإيمان للإمام أبي عبيد فإن هذه الرسالة للإمام العالم المحدث اللغوي أبي عبيد القاسم بن سلام، وهي رسالةٌ شائعةٌ بين أهل العلم، ولها اختصاص: 1 - من جهة مصنِّفها، وما له من الإمامة وفقه حقائق الأقوال في هذا الباب. 2 - ومن جهة موضوعها؛ فإنها في أصل من أصول الدين أشكل شأنه ليس على أهل البدع والكلام فقط، وإنما على طائفةٍ من متقدمي أهل السنة والجماعة ومتأخريهم أيضاً.

طرق التأليف في مسائل الإيمان عند الأئمة المتقدمين

طرق التأليف في مسائل الإيمان عند الأئمة المتقدمين عُني بالتصنيف في باب الإيمان جملة من أعيان أئمة السنة والجماعة، حتى إن كثيراً من المحدِّثين فيما صنفوه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم قد صدروا جملة من كتبهم بهذا الاسم-أي: باسم كتاب الإيمان-. والمراد بهذه التسمية في الجملة أحد وجهين: الوجه الأول: أن يُراد بكتاب الإيمان الجملة من مسائل أصول الدين، وعلى هذا المراد يًذكر القول في مسمى الإيمان وغيره من المسائل، كالقول في الصفات، والقدر، والشفاعة، ومسائل الكبائر إلى غير ذلك. وهذه طريقة جماعة من أئمة السنة من المصنفين في الحديث وغيرهم. وعلى هذه الطريقة صنف الإمام مسلم رحمه الله كتاب الإيمان من صحيحه، فقد وضع في صدر صحيحه كتاب الإيمان، وأراد به القول في جملة مسائل أصول الدين، وكأن المراد بالإيمان هنا: الإيمان العام الشرعي الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله). الوجه الثاني: أن يراد بكتاب الإيمان مسماه، والمسائل المتعلقة به، كالقول في زيادته ونقصانه، والفرق بين اسم الإيمان والإسلام، وما يتعلق بمسألة الاستثناء. وقد وضع الإمام البخاري رحمه الله كتاب الإيمان في صحيحه على هذه الطريقة. وممن استخدم هذا الوجه مَنْ يُدخل على ذلك ما يكون فرعاً عن هذا الأصل، وهو: القول في باب الأسماء والأحكام. ولهذا يجد الناظر في كتاب الإيمان من صحيح مسلم وكتاب الإيمان من صحيح البخاري فرقاً بيّناً؛ فإن مسلماً رحمه الله ذكر أحاديث التوحيد والشفاعة والصفات وأحاديث من القدر، بخلاف البخاري؛ فإنه قصد إلى تقرير اسم الإيمان وأنه قول، ودخول العمل فيه، والقول في زيادته ونقصانه، والرد على المرجئة إلى غير ذلك من المسائل. وقد وضع الإمام المصنف كتابه هذا على المراد الثاني، فإنه لم يقصد بكتاب الإيمان جملة المسائل في أصول الدين، وإنما قصد هذه المسألة الخاصة، وما يلتحق بها من المسائل أصولاً كانت أو فروعاً.

الفروع التي تندرج تحت قول السلف: الإيمان قول وعمل

الفروع التي تندرج تحت قول السلف: الإيمان قول وعمل من المعلوم أن الذي درج عليه السلف أن الإيمان قولٌ وعمل. ويتفرع عن هذا القول ثلاث مسائل أصول: المسألة الأولى: أنه يزيد وينقص، وهذه مسألة ملتحقة -ولابد- بتقرير مسمى الإيمان. ثم ثمة مسألتان أصول قد تذكران في حال وتؤجلان في حال، وهما: أولاً: مسألة الأسماء، ويراد بها أسماء أهل الإيمان والدين، والعصاة من المسلمين، وما يتعلق بشأنهم في دار الدنيا من تسميتهم مؤمنين أو فساقاً أو غير ذلك. وهذه المسألة فرعٌ عن القول في مسمى الإيمان كما سيأتي تفصيله. ثانياً: مسألة الأحكام، ويراد بها أحكام أهل الملة في الآخرة من جهة الثواب والعقاب. وهذه المسألة -أيضاً- فرعٌ عن القول في مسمى الإيمان. وثمة مسألتان تذكران على هذا التقدير في حال وتتركان في حال، وهما ليستا من الأصول على التحقيق، وهما: أولاً: الفرق بين اسم الإيمان والإسلام. ثانياً: الاستثناء في الإيمان، وقول الرجل: هو مؤمنٌ إن شاء الله .. وهاتان المسألتان من حيث الإجمال نَزَعَ بعض أهل السنة من المتأخرين إلى تقوية شأنهما، وجعلهما في مسائل الأصول والإجماع. والصواب: أنهما ليستا كذلك، فإن جمهور الخلاف فيهما بين السلف إما خلاف لفظي أو خلاف تنوع، ولم يحفظ عن أحد من الأكابر من السلف مادة من خلاف التضاد فيهما، وإن كان حكي ذلك عن بعض أعيانهم، إلا أن النقل يسقط أو يتأخر على أحد وجهين: الوجه الأول: أن النقل لا يكون مثبتاً، كما نقل عن سفيان الثوري رحمه الله في ذلك. الوجه الثاني: أن يكون فهم بعض المتأخرين لمراد بعض المتقدمين فيه غلط، كما فهم جملة من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله بعض أجوبته على غير وجهها في هذه المسألة. وعلى هذا تكون المسائل الأصول في باب الإيمان والتي عُني الأئمة بتقريرها: 1 - القول في مسماه. 2 - القول في زيادته ونقصانه؛ فهي مسألة أصل، والخلاف فيها مع المرجئة وغيرهم معروف ومثبت. 3 - القول في باب الأسماء والأحكام كفرعٍ عن القول في مسمى الإيمان. هذه جملة لابد لطالب العلم من اعتبارها في فهم مراد المصنفين من أهل السنة والحديث. وقد تقدم أن لهذه الرسالة اختصاصاً من جهة فقه مؤلفها لحقائق الأقوال، وهذه مسألةٌ أنبه إليها في صدر هذه الرسالة؛ لأن كثيراً من المتأخرين قد فاتهم هذا الفقه؛ فإن مؤلفها -كما سيأتي في صدرها- ينزع إلى أن المخالفين من المرجئة الفقهاء أتباع حماد بن أبي سليمان رحمه الله هم في دائرة السنة والجماعة، ومن المعدودين في أتباع السلف. وهذا من فقهه؛ فإن هذا هو التحقيق في شأن هذا القول كما سيأتي بيانه. لكن إذا قيل: إنه قولٌ لطائفة من أهل السنة فإن هذا لا يستلزم أن لا يقال فيه: إنه بدعة، ولا يستلزم أن لا يقال فيه: إنه مخالفٌ للإجماع، بل يقال: إنه قول لطائفة من أهل السنة، ومع ذلك هو قولٌ بدعة، وقولٌ مخالفٌ للإجماع، كما سيأتي تقريرة وبيانه.

شرح باب نعت الإيمان في استكماله ودرجاته

شرح باب نعت الإيمان في استكماله ودرجاته [قال أبو عبيد: أما بعد: فإنك كنت تسألني عن الإيمان، واختلاف الأمة في استكماله وزيادته ونقصه، وتذكر أنك أحببت معرفة ما عليه أهل السنة من ذلك، وما الحجة على من فارقهم فيه، فإن هذا -رحمك الله- خطبٌ قد تكلّم فيه السلف في صدر هذه الأمة وتابعيها ومن بعدهم إلى يومنا هذا، وقد كتبت إليك بما انتهى إليَّ علمه من ذلك مشروحاً مخلَّصاً وبالله التوفيق].

أسباب أهمية مسألة الإيمان عند السلف

أسباب أهمية مسألة الإيمان عند السلف ذكر المصنف رحمه الله في مقدمته أن هذه المسألة فيها خطب عند السلف، أي: أنها مسألةٌ كبيرة عظيمة الشأن؛ وإنما كان أمرها كذلك لسببين: السبب الأول: أنها أول مسألة تنازع فيها أهل القبلة، ولم يكن قبلها بين المسلمين نزاع في شيء من مسائل أصول الدين، إنما كانوا يختلفون في مسائل الفروع ومسائل الفقه وما يتعلق بذلك. السبب الثاني: أن حماد بن أبي سليمان، ومن وافقه من الفقهاء لم يستعملوا في الاستدلال على قولهم شيئاً من الطرق المحدثة المبتدعة، بل كان طريقهم في الاستدلال هو طريق الأئمة المعروفين، وإنما اشتبه عليهم مقام في كتاب الله، وهو ما ذكر في القرآن كثيراً في قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وكذلك جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يأتي التنبيه إليها. وسوف نتكلم في هذا المقام عن السبب الأول، بذكر شيء من تتابع ظهور البدع، أما الكلام عن السبب الثاني فسيأتي في ثنايا الكتاب عند الحديث عنه.

ظهور البدع في الإسلام

ظهور البدع في الإسلام تقدم أنه إذا اعتبرت المسائل التي حدث فيها نزاع بين أهل القبلة أمكن القول أن أول نزاع وقع في اسم الإيمان، وتحقيق القول في مسماه، وقد حدث هذا في آخر خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. وفي آخر عصر الصحابة رضي الله عنهم، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه حدث النزاع في القدر، وذلك زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير رضي الله عنه وبين بني أمية. وقد ظهر القول في القدر في البصرة، ثم شاع في بلاد الشام، ودخل على بعض مدن الحجاز، وظهرت القدرية بقوليهم الغالي وما دونه. وقد تقلد القول بنفي خلق أفعال العباد المعتزلةُ وجملةٌ من أصحاب الرواية، وإن لم يكونوا من كبار المحدثين، وإنما هم من رواة الحديث، وفرقٌ بين أعيان الرواة وبين أئمة الرواية، وعن هذا قال الإمام أحمد: "لو تركنا الرواية عن القدرية لتركنا أكثر أهل البصرة". وينبه -وإن كان الباب ليس في القدر- إلى أن ثمة فرقاً بين قول هذا النفر من رجال الإسناد في القدر، وبين قول المعتزلة، وإن كانت النتيجة في الجملة واحدة، فإن الفريقين يقولون بأن أفعال العباد ليست مخلوقة لله؛ لكن المعتزلة بنوها على مقدمات كلامية وأصول نظرية، وطردوا لها فروعاً أخرى في مسائل التكليف والتحسين والتقبيح وتحكيم العقل إلى غير ذلك، بخلاف هذه الجملة من أهل الحديث؛ فإن قولهم لم يبن على علم الكلام، ولم يتفرع عنه كثير من النظر والفروع، وإن كانوا متأثرين بالمعتزلة في نتيجته الكلية. هذه هي ثاني مسألة من المسائل الأصول التي حدث فيها نزاع. وقد انقرض عصر الصحابة ولم يحدث نزاعٌ بين أهل القبلة في مسائل الإلهيات، أي: القول في أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله. وفي المائة الثانية ظهرت بدعة التعطيل لأسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته على يد الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وأمثال هؤلاء من أئمة التعطيل، وظهر ما يقابله من قول غلاة المشبهة من أتباع الشيعة الإمامية، وأخصُّ مَنْ ذُكِر عنه مثل هذا القول هو هشام بن الحكم الشيعي الرافضي. ثم شاعت الأقوال في مسائل الصفات، وظهر أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي، وانتسبوا إلى السنة والجماعة، وظهر في أقوال أهل التشبيه أتباع محمد بن كرام السجستاني من الحنفية، وقد كان مائلاً إلى شيءٍ من طرق التشبيه. ثم شاعت هذه الأقوال وانتشرت، وإن كان قول السلف بقي محفوظاً بعد الأئمة على يد المحققين من أصحاب الأئمة الأربعة؛ فإنه ما من طائفة من أتباع الأئمة الأربعة إلا وفيها محققون حافظون لمذهب الأئمة، وإن لم يكن أتباع الأئمة الأربعة -أعني: من انتسب إليهم من الفقهاء- على درجة واحدة؛ فإن منهم المنتحل لطريقٍ بدعيٍ معروف كبعض معتزلة الحنفية، والغلاة من متكلمة الأشعرية النظّار، ومنهم من هو متأثر بعلم الكلام تأثراً عاماً، ومنهم المبالغ في تقرير السنة الزائد على كلام السلف إلى قدرٍ من الغلو، كما هي طريقة أبي إسماعيل الأنصاري الهروي في مسائل التكفير؛ فإنه يبالغ في مسائل التكفير ويزيد فيها بما لم يعرف عن السلف والأئمة كـ أحمد وغيره إلى غير ذلك من الطرق التي ليس هذا موضعاً لذكرها.

ظهور الخوارج والمعتزلة

ظهور الخوارج والمعتزلة بهذا يتبين أن أول مسألة حصل فيها نزاعٌ بين أهل القبلة هي القول في اسم الإيمان، وأول من أحدث الخلاف في هذا الأصل، بل وفتح باب الخلاف في مسائل أصول الدين: هم الخوارج. هم قومٌ حدّث النبي صلى الله عليه وسلم بشأنهم، حتى قال الإمام أحمد رحمه الله: "صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه". وقد روى الإمام مسلم في صحيحه هذه العشرة وأخرج البخاري طرفاً منها، وهي مخرَّجة في الصحاح والسنن والمسانيد، وقد تلقاها أئمة الحديث بالقبول. وقد ورد حديثهم من رواية أبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وأبي أمامة وطائفة من الصحابة، وهو يعد عند أهل العلم في الحديث من المتواتر، لكن على معنى المتواتر عند المحدّثين وأهل الأصول من أئمة السلف كـ الشافعي رحمه الله، وسيأتي بيانه إن شاء الله. ومن أوجه روايته الثابتة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه قسم فقسمه بين أربعةِ نفر، فقام رجل غائرُ العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار فقال: اعدل يا محمد! فإنك لم تعدل. فقال خالد بن الوليد -وفي وجهٍ عمر بن الخطاب، وكلاهما في الصحيح-: دعني أضرب عنقه. فقال صلى الله عليه وسلم: لعله أن يكون يصلي. قال: وكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه. قال: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم. ثم نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُقفٍّ؛ فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا -أي: من صلبه، قيل: حقيقةً، وقيل: كنايةً وهذا هو الأقرب- قومٌ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ لأن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وفي وجهٍ: (قتل ثمود) وفي وجهٍ: (قاتلوهم؛ فإن لمن قاتلهم أجراً عند الله) وفي وجهٍ: (لو يعلم المقاتل لهم ما أعد له لنكل عن العمل). وقد ذكر صلى الله عليه وسلم آيتهم فقال: (آيتهم: رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة) وذكر صلى الله عليه وسلم شدة مروقهم من الدين فقال: (كمروق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله -أي: الرامي- فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجدُ فيه شيء، سبق الفرث والدم). ومع هذا الوجه من كلامه صلى الله عليه وسلم، والتشديد والتغليظ على هؤلاء، كقوله صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) إلا أن الصحابة لم يفهموا منه أنهم كفار؛ ولهذا لما ظهر الخوارج في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقاتلهم في النهروان، ورأى آيتهم، مع هذا كله فإن الصحابة لم يمضوا فيهم بسنة الكفار. وقد جاء أن علي بن أبي طالب قيل له: "يا أبا الحسن! أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً". ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيراً لها، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم، لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين". فهم قومٌ ظالمون لأنفسهم من أهل البدع، وإن كان قد يقع في أعيانهم من هو منافق أو من قد غلب عليه وجه من الكفر، وهذا علمه وشأنه عند الله سبحانه وتعالى. وقد استطالوا على المسلمين بما أحدثوه في هذا الأصل، فإنهم فهموا أن الإيمان هو جميع الواجبات الشرعية الظاهرة والباطنة، ولكنه شيءٌ واحد إذا ذهب شيءٌ منه فقد ذهب جميعه، وعن هذا قالوا: إن مرتكب الكبيرة من المسلمين كافر، وإذا كان كافراً فإنه يكون مخلداً في النار. وعلى هذا درج أئمة الخوارج إلا الإباضية منهم الذين قالوا: إنه كافرٌ كفر نعمة، مع قولهم بأنه خالد مخلدٌ في النار. هذا هو مبتدأ هذا النزاع، ومنه بدأ الأئمة -رحمهم الله- يطعنون على أهل البدع ويذمون أهل الأهواء. وقد قارب الخوارج في قولهم طائفةٌ وهم المعتزلة، والفرق بين المعتزلة والخوارج فرق يسير؛ فإن المعتزلة تقول عن مرتكب الكبيرة: إنه فاسق، ولا تسميه مؤمناً، بينما تقول الخوارج: إنه كافر. أما في الآخرة فقد اتفقتا على أنه مخلد في النار. فجمهور الفرق بين المعتزلة وبين الخوارج هو في دار الدنيا؛ فإن المعتزلة يرونه فاسقاً، والخوارج تراه كافراً. وأما أصل القول في اسم الإيمان: أنه قولٌ وعملٌ، ظاهرٌ وباطنٌ لا يزيد ولا ينقص .. فهذا متفق عليه بين الطائفتين، وإن كان قول الخوارج أشد غلواً.

ظهور المرجئة

ظهور المرجئة قابل الخوارجَ والمعتزلةَ المرجئةُ، فقد قالوا قولاً على الضد من قول الخوارج والمعتزلة. وهم طوائف، فقد ذكر أبو الحسن الأشعري رحمه الله في المقالات أن المرجئة ثنتا عشرة طائفة، أشدهم إرجاءً الجهم بن صفوان وأبو الحسين الصالحي وأمثال هؤلاء من غلاة المرجئة، الذين يقولون: إن الإيمان هو العلم والمعرفة. وأما أخفهم إرجاءً فهم من سموا بمرجئة الفقهاء، وهم قومٌ من علماء السنة والجماعة خرجوا في مسألة العمل عن المعروف عند سلفهم، فقالوا: إن الأعمال الظاهرة- أي: أعمال الجوارح- لا تدخل في اسم الإيمان، وإن كانت ركناً وأصلاً وواجباً في الدين؛ ولهذا لا يرون أن الصلاة داخلة في اسم الإيمان، وإن كانوا يعتبرونها ركناً من الإسلام وأصلاً في الدين، وهذا الاعتبار لا يعني أنهم يكفرون بتركها؛ فإن هذه مسألة أخرى لا يلتزم بها جميع من أخرج العمل من مسمى الإيمان. والمقصود من هذا: أن أول من أحدث القول في الإيمان على خلاف طريقة السلف هم الخوارج، ثم شاعت البدعة، وأول من خرج من أهل السنة عن قول سلفهم هو حماد بن أبي سليمان تلميذ إبراهيم النخعي، وهو من كبار أعيان فقهاء الكوفة، ومن العلماء والعباد والنساك العارفين بالسنن والآثار ومقاصد الشرع، لكنه في هذه المسألة خالف سلفه، وخرج بقوله: إن الأعمال الظاهرة لا تدخل في اسم الإيمان، وتبعه على هذا قومٌ من فقهاء الكوفة، وأخص من تقلد هذا القول واشتهر به هو الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وإن كان هناك تردد بين بعض أهل العلم والمقالات في صحة القول عن أبي حنيفة، لكن الصحيح أنه قولٌ معروفٌ للإمام أبي حنيفة رحمه الله.

منهج الأئمة في تقرير الأقوال والمذاهب

منهج الأئمة في تقرير الأقوال والمذاهب [اعلم رحمك الله أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر فرقتين:]. ظاهرٌ في كلام المصنف رحمه الله أنه لم يقصد هنا ذكر أقوال أهل القبلة؛ ولهذا لم يذكر قول الخوارج ولا أقوال جماهير المرجئة، وإنما ذكر أقوال أهل العلم والعناية بالدين، ويقصد بهم أهل السنة والجماعة، وهذا فقهُ حسن. فإن هذه الطريقة منهج في تقرير الأقوال، فإن أقوال أهل البدع تؤخر، ولا تُجعل مقارنة لأقوال أئمة السلف رحمهم الله.

خطأ بعض الباحثين في تسمية الخلاف بين أهل السنة وبين أهل البدع خلافا مقارنا

خطأ بعض الباحثين في تسمية الخلاف بين أهل السنة وبين أهل البدع خلافاً مقارناً وقد درج بعض الباحثين من المعاصرين على تسمية الخلاف بين أهل السنة وبين أهل البدع خلاف مقارنة، وهذه اللفظة فيها بعض التردد؛ فإن مادة التقارن في اللغة توحي بشيء من التشاكل، والموازنة، والبحث عن الأرجح .. إلى غير ذلك، وهذا غير حاصل بين أقوال أهل السنة وبين أقوال أهل البدع. أما إذا استخدم الباحث في مسائل الفقه هذه اللفظة فقال: هذا فقهٌ مقارن أو هذه كتبٌ في الفقه المقارن، فهذا استعمال لا بأس به؛ لأن هذه المقارنة بين مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد وأمثالهم من الفقهاء والأئمة، وهذه المذاهب لا يجوز أن يجزم أن أحدها أرجح من الآخر على الإطلاق، لأن المسائل التي اختلفوا فيها قد اختلف فيها الأئمة قبل هؤلاء الأربعة. وبهذا يتبين أن تسمية الخلاف بين أهل السنة والجماعة وأهل البدع خلافاً مقارناً فيه بعض التردد، وهي ليست طريقةً معروفةً عند السلف، فإنهم إذا ذكروا اختلاف الفقهاء ذكروه على طريقة من التقارب، وإذا ذكروا أقوال أهل البدع ذكروها على طريقة من الخروج عن الإجماع، والتنبيه إلى تركها، والتحذير من شأنها.

بماذا يعتبر الرجل مبتدعا؟

بماذا يعتبر الرجل مبتدعاً؟ من فقهه رحمه الله أنه جعل مرجئة الفقهاء وعلى رأسهم حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة رحمهما الله في دائرة أهل السنة والجماعة؛ فإن هذا هو الصحيح، وعلى هذا لا يجوز أن يُعد أمثال هؤلاء في أهل البدعة. وهذا يدل على قاعدة؛ وهي: أن من وقع في شيء من الأقوال البدعية وعامة أمرهِ على السنة والجماعة فإنه لا يسمى مبتدعاً عند السلف، وإنما المبتدع -وهو اسم فاعل- من غلب عليه حالٌ من البدعة: إما أن يكون هذا الحال يغلب على دلائله -أي: في المنهج- كمن ينتحل علم الكلام، ويجعله هو المعتبر في تقرير مسائل أصول الدين. وإما أن يغلب على حاله كثرة الاستعمال لأقوال أهل البدع، كأن يوافق أهل البدع في القدر والأسماء والأحكام والإيمان ومسائل أخرى. وإما أن يغلب عليه بدعة ولو واحدة لكنها مغلظة، كمن قال في مسألة الصفات قولاً من التعطيل واستقر عليه، فهذا وإن استقر أمره في الإيمان والأسماء والأحكام والقدر على مذهب السلف إلا أنه يسمى مبتدعاً. وإذا اعتبر هذا التحقيق فإننا لا نجد في أعيان الناس من استقر على بدعة مغلظة في أصل وحقق مذهب السلف في أصولٍ أخرى، فإن الباحث عمن يقول بتمام قول المعتزلة -مثلاً- في تعطيل صفات الرب سبحانه وتعالى، والذي قال عنه السلف: إنها أقوالٌ كفر، كالقول بخلق القرآن، وإنكار العلو وأمثال ذلك لا يجد واحداً من الأعيان يستقر على تحقيق هذه البدعة المغلظة، ومع ذلك يحقق السنة وقول السلف في مسائل الأصول الأخرى. وإنما الذي يعرض أن بعض الأعيان من المنتسبين إلى السنة والجماعة قد يغلطون في شيء من مسائل الصفات، أو القدر أو الإيمان وإن كان أصل بابها عندهم على طريقة السلف. وقد عرض هذا لإمام الأئمة ابن خزيمة -وهو من كبار أعيان أصحاب الشافعي رحمه الله - فقد قال في مسألة حديث الصورة قولاً لم يُتابع عليه، وقد قال الإمام أحمد عن هذا القول لما سأل عنه: "هذا قول الجهمية"؛ ومع ذلك لا يجوز أن ينسب ابن خزيمة إلى الجهمية، ولا أن يخرج عن السنة والجماعة بوجهٍ ما، وإن كان قوله غلطاً. ومن أمثلة ذلك أيضاً: أن الإمام أحمد لما تكلم الجهمية باللفظ بالقرآن قال قوله المشهور في رواية أبي طالب: "من قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوقٍ فهو مبتدع". ومع ذلك ثبت القول بمسألة اللفظ على مرادٍ صحيح عن جملة من أئمة السلف؛ فإن محمد بن يحيى الذُهلي كان يقول: "إن اللفظ بالقرآن ليس مخلوقاً" ويشنع على من يقول: إنه مخلوق. وعن هذا هجر البخاري، وحصل بينه وبين الإمام البخاري ما حصل في المسألة المعروفة. وكان مراد الذهلي من قولته تلك: أن القرآن ليس مخلوقاً. فمراد محمد بن يحيى الذُهلي من هذا اللفظ مرادٌ صحيح، وإن كان الجمهورُ من أئمة السنة كـ أحمد وغيره يرون أنه لفظ محدث. وقد نقل عن الإمام البخاري وثبت عن غيره ثبوتاً جازماً أنهم إذا سُئلوا عن هذه المسألة أجابوا بقولهم: اللفظ بالقرآن مخلوق. فـ البخاري كان مراده صحيحاً، فإنه لما قال: "اللفظ بالقرآن مخلوق" أراد أفعال العباد؛ ومن المعلوم أن الإمام البخاري كان على عناية بمسألة خلق أفعال العباد، وعن هذا صنّف كتابه "خلق أفعال العباد" في تقرير هذا والرد على القدرية. وهنا فرقٌ لطيفٌ لطالب العلم، وهو أن ثمة فرقاً بين من قال قولاً جواباً وبين من قاله ابتداءً، فـ البخاري قاله جواباً وكذلك الذُهلي؛ لأن هذه المسألة ابتلي الناس بالسؤال عنها، وقد سئل عنها الإمام أحمد، فأجاب بقوله: "من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق؛ فهو مبتدع". وأما أن أحداً من أعيان أئمة السلف ابتدأ ذكر المسألة فلا. فالقصد: أنه لا يجوز أن يقال عن البخاري أو الذهلي: إنه مبتدعٌ أو جهمي؛ وقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "وأحمد وأمثاله وإن قالوا هذا القول إلا أنه لا يراد بذلك أن الواحد من الأئمة إذا أطلق مثل هذا القول صح أن يسمى كذلك، فضلاً عن أن يعطى حكم الجهمية أو أهل البدع". إذاً: ثمة أقوال في باب الصفات أو القدر أو الإيمان هي أقوالٌ غلط، ويمكن أن يقال: هي أقوالٌ بدعة، ومع ذلك لا يضاف أصحابها إلى أهل البدع. وبعبارة أخرى: لا يلزم من وقوع الرجل من أهل العلم في بدعةٍ من البدع اللفظية- أي: بدع الأقوال- أن يسمى مبتدعاً، فإن هذا لو تُكلِّف لزاد الشر والفتنة، ومن غلب حاله على السنة والجماعة اعتبر بها واعتبر بإضافته إليها، ومع هذا يقال: إن هذا القول الذي قاله بدعةٌ مخالفة. وقد بين الإمام ابن تيمية رحمه الله أن أبا عبيد رحمه الله كان يذهب إلى أن قول مرجئة الفقهاء بدعةً؛ ولهذا نقل عن فقهاء الكوفة أكثر من نقله عن غيرهم؛ ليبيّن مفارقة حماد بن أبي سليمان للكوفيين، وأن هذا ليس إجماعاً عند أهل الكوفة. والمقصود بهذا أن عدم إخراج المصنف لـ حماد بن أبي سليمان وأتباعه من دائرة السنة والجماعة لا يلزم منه عدم الحكم على قولهم بأنه بدعة، وتسميته بدعة لا يلزم منه أن يسمى من يقول به مبتدعاً، وهذا كالقول أنه لا يلزم من قول الرجل ما هو كفرٌ أن يسمى كافراً.

الخلاف بين السلف في تفسير الإيمان خلاف لفظي

الخلاف بين السلف في تفسير الإيمان خلاف لفظي [فقالت إحداهما: الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب وشهادة الألسنة وعمل الجوارح ..] هذا هو قول السواد من السلف، وألفاظ السلف في القول في مسمى الإيمان متعددة، واختلافها هو من باب الخلاف اللفظي، وهذا أدق من أن يقال: إنه خلاف تنوع. فإن الخلاف عند النظّار ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - خلافٌ لفظي. 2 - خلاف تنوع. 3 - خلاف تضاد. وخلاف التضاد: هو أن يكون بين القولين تضاد، أي: لا يمكن اجتماعهما، كأن يقول قائل: إن العمل يسمى إيماناً، ويقول الآخر: إن العمل لا يسمى إيماناً. وخلاف التنوع: هو أن تكون المادة المستعملة تختص في قول ما لا تختص في القول الآخر، بمعنى: أن صاحب القول الأول يذكر وجهاً من المعنى لا يذكره صاحب القول الثاني، وصاحب القول الثاني يذكر وجهاً من المعنى لا يذكره صاحب القول الأول، ويكون المعنى الأول والثاني كلاهما صحيح، ويحصل التمام باجتماعهما. وغالب ما يكون خلاف التنوع في كلام السلف في التفسير، فإن الناظر في كتب التفسير كتفسير ابن جرير -وهو أخص كتاب في المأثور- يرى أن أقوال الصحابة والتابعين -ولا سيما من انشغل منهم بالتفسير- فيها اختلافٌ كثير، وعامةُ هذا الاختلاف إما لفظي وإما تنوع، بمعنى: أن يذكر أحدهما معنى، ويذكر الآخر معنى آخر، لكن يمكن اجتماعهما، ويكمل أحدهما الآخر. إذاً: غالب الاختلاف في الألفاظ المنقولة عن السلف في اسم الإيمان هو خلافٌ لفظي، ولا نقول: إنه خلاف تنوع؛ لأن هذا القول يقتضي أنهم إذا عبروا عن هذه الحقيقة بعد الخلاف فيها يقتصرون على جملة من معناها.

الألفاظ المنقولة عن السلف في مسمى الإيمان

الألفاظ المنقولة عن السلف في مسمى الإيمان الألفاظ المنقولة عن السلف كثيرة، أشهرها وأكثرها شيوعاً في كلام الأئمة: أن الإيمان قولٌ وعمل، وإن لم يكن هذا هو الشائع عند المتأخرين؛ فإن الشائع في المختصرات عند المتأخرين هو كلام الشافعي: "إن الإيمان قولٌ وعملٌ واعتقاد" وهو مقارب لكلام المصنف. وقد نقل عن طائفةٍ كـ البخاري في صحيحه في إحدى الروايتين -فإن لفظ البخاري روي بوجهين-: "وقال أبو عبد الله: الإيمان قولٌ وعمل". والرواية المشهورة في صحيح البخاري أن البخاري قال: "وهو قولٌ وفعل" وهذا حرفٌ صحيح، وقد بحث الشراح عن وجه الفرق بين الفعل والعمل إلخ، وهذا كله تكلف، حيث إنه لا فرق عند البخاري بين قوله: الإيمان قولٌ وعمل، أو الإيمان قولٌ وفعل، وقد يكون أراد مراداً من التحقيق .. وهذا أمر آخر. وقال سهل بن عبد الله التستري -وبعض شيوخ العُباد من السلف- لما سئل عن الإيمان ما هو؟ فقال: "الإيمان قولٌ وعملٌ ونية وسنة". وهؤلاء يعللون قولهم بأن العمل والقول والنية إذا خرج عن السنة صار بدعة. لكن هل هذا القيد قيد لازم أو قيدٌ بياني؟ هو قيد بياني؛ لأن من المقطوع به أن من قال: الإيمان قولٌ إنما يقصد الأقوال الشرعية وليس البدعية والعادية. والقيود البيانية من جنس الاصطلاح، لا مشاحة فيها. وإذا قيل: هل الفاضل ذكرها أو تركها؟ قيل: الأمر متعلقٌ بمصلحة ذكرها، فإن كان ذكرها يقتضي مصلحة كفهم المخاطبين كان ذكرها حسناً، وإن كان ذكرها يقتضي قدراً من الاختلاف وإشاعة الخلاف وما إلى ذلك فإن ذكرها لا يكون مصلحةً؛ ولهذا العامة والجمهور من السلف لم يزيدوا على قولهم: الإيمان قولٌ وعمل، وقال الشافعي: "قولٌ وعملٌ واعتقاد". وقال المصنف قوله السابق. وهذه كلها أقوالٌ صحيحة، فمن قال منهم: قولٌ وعمل واعتقاد .. فقوله واضحٌ، وهو أبين من جهة ذكره للمواضع الثلاثة: أن الإيمان يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بعمل الجوارح.

معنى قول السلف الإيمان قول وعمل

معنى قول السلف الإيمان قول وعمل أما الكلمة الشائعة عن جمهور السلف وهي قولهم: إن الإيمان قول وعمل فيراد بالقول: قول اللسان وقول القلب، ويراد بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، وعلى هذا تكون أصول الإيمان من حيث المحل أربعة:

قول القلب

قول القلب المحل الأول: قول القلب، وهو تصديقه، وهذا هو أشرف مواضع الإيمان، ولهذا وإن كان السلف يقولون: إن الإيمان قولٌ وعمل، إلا أنهم كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وعامة السلف مع هذا القول يذهبون إلا أن أصل الإيمان مبناه على تصديق القلب" ولهذا إذا تعذر التصديق سقط الإيمان كله، بخلاف العمل فإنه قد يدخله التفصيل، فإن التصديق يقابله التكذيب، والأمر يقابله المخالفة، ولهذا كان الوعيد الشديد في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] حتى قال الإمام أحمد: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك". وهذا الوعيد ليس في حق من خالف من عصاة المسلمين، أي: من وقع في معصية، وهو على إقرارٍ بكونها معصيةً واستقامةٍ في جملة أمره على الإسلام وأحكامه، ولا يقال: إنه داخل في الآية؛ لأنه قد خالف بترك واجب أو فعل معصية، لأن المراد بالآية -على الصحيح- الإعراض عن شيءٍ من أمر الله وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم. وسبب تفسير المخالفة بالإعراض هو أن الفعل (خالف) يتعدى بنفسه من حيث الأصل؛ فتقول: خالف زيدٌ عمراً، لكنه في الآية عُدِّي بالحرف فأعطي حكم الفعل اللازم؛ وذلك لأنه ضُمن معنى فعل آخر، وأقرب ما يقاربه الإعراض، وهذا هو المناسب لسياق الآيات في هذه السورة. والمقصود من هذا: أن القول قول القلب هو أشرف مقامات الإيمان، ولهذا لما سمى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان قال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ...) إلخ، فجعل مبناهُ على التصديق.

قول اللسان

قول اللسان المحل الثاني: قول اللسان، ويراد به ما هو بيِّن، من الشهادتين وغيرها من شرائع الإسلام والإيمان التي تقال باللسان.

عمل القلب

عمل القلب المحل الثالث: عمل القلب كالخوف، والرجاء، والاستعانة إلى غير ذلك. فإن قيل: فما الفرق بين قول القلب -الذي هو تصديقه- وبين عمل القلب؟ قيل: من هدي الصحابة رضي الله عنهم أن ثمة أموراً كثيرة يُعلم الفرق بينها ضرورة، تقوم في نفوس العقلاء، وإن كان كثيراً من العقلاء قد لا يحسنون ضبط الحد من جهة الكلام في التفريق بينها، أي: هناك أمورٌ كثيرة مستقرة من حيث الفرق أو مستقرة من حيث المعنى، وإذا طلب من الإنسان التعبير عن هذا الفرق قد لا يحسنه، ولربما كان ذكره للفرق مدعاة للشغب عليه من المخالفين، وإلزامه بشيءٍ من اللوازم. إذاً: الفرق بين التصديق وبين عمل القلب مستقر عند عامة المسلمين وسوادهم؛ فإنهم يفرقون بين تصديقاتهم وبين ما يقوم في قلوبهم من التعلق بالله سبحانه وتعالى، ومحبته، والخوف منه، والرجاء إلى غير ذلك، فهذا فرقٌ من حيث المعنى مستقر. وإنما ينبه هذا التنبيه؛ لأن الحد للأشياء -الذي يسمى التعريف، واسمه في المنطق الحد- والمعاني أمرٌ حادث في العلم، ينبغي لطالب العلم ألا يلتفت إليه كثيراً؛ لأن هذا الحد يقع عنه في كثير من الأحوال جملة من المفاسد، من أخصها: 1 - التضييق للمعاني. 2 - استباق المعاني. ما معنى استباق المعاني؟ مثلاً: مسألة السنة والبدعة، هي قبل أن تكون حداً وتعريفاً هي استقراءٌ في فقه الشرع. فإذا نقدنا مسألة الحد، وقلنا: إن الذين بالغوا في تقريرها هم علماء الكلام، فقيل: فما البديل عنها؟ قلنا: الذي كان عليه السلف -الصحابة والأئمة من بعدهم- هو الاستقراء؛ فيكون تحقيق المعاني باستقراء جميع مواردها. مثلاً: إذا قيل: ما هي البدعة؟ قيل: لقد عرفها الشاطبي -مثلاً- في الاعتصام بأنها: "طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه". وهذا الحد ليس بالضرورة أن يقال: إنه غلط، لكن نقول: أخذ مثل هذه المسائل الكبرى بحدٍ مختصر يقع لفظه في سطر، ويقع شرحه في صفحة أو صفحتين يظن الآخذ له أنه قد فقه وفهم الفرق بين مدلول السنة ومدلول البدعة، ومتى يسمى القول أو الفعل سنة، ومتى يسمى بدعة، ومتى يكون القائل أو الفاعل على السنة، ومتى يكون على البدعة، ومثل هذه الاستطالات عن طريق الحدود .. أمر غير متحقق. ومن يراجع في كتب المنطق وعلم الكلام يرى أنهم يذكرون الحد ويذكرون الرسم، وقد قال الإمام ابن تيمية: "إن المحققين من النظار يرون تأخر الحد عن جمهور الأشياء، وإنما يستعملُ معها الرسم". ما الفرق بين الحد والرسم؟ الحد: هو الضبط للماهية نفسها. أما الرسم: فهو التمييز للماهية عن غيرها. قال الإمام ابن تيمية: "وهذا هو التحقيق" فإن الممكن في جمهور المعاني هو التمييز لها عن غيرها، وأما تعيين ماهيتها فهذا في الغالب أنه يتأخر، ويقع عنه ضيقٌ .. وما إلى ذلك. إذاً يقال: الفرق بين التصديق وعمل القلب هو فرقٌ مستقر؛ فإن أحسن المسلم التفصيل له بلسانه وإلا فكما قال الإمام ابن تيمية: "وكثيرٌ من المسلمين، يقوم في نفوسهم من العلوم الضرورية في باب الإيمان بالله ورسوله والنبوة والشريعة وغير ذلك ما لا يستطيعون التعبير عنه .. ". فهذه مسألة مما ينبغي أن يتفطن له؛ فإن كثيراً من المسلمين يتأخر عن الإبانة عن فرق مستقر. ولا يفهم من هذا أننا نقصد إلى أن نقول: إن تعريف البدعة أو استعماله غلط. لكن لا ينبغي أن يستطال فيه وأن يعظم شأنهُ. فإذا ذكر الفرق بين التصديق وعمل القلب قيل التصديق: هو التصورات التي يقرُ القلب بثبوتها، فهو على باب الإثبات والنفي، ولهذا كان ما يقابل التصديق هو التكذيب. وأما عمل القلب فهو حركته بهذا التصديق بأعماله المناسبة له كالخوف والمحبة والرجاء. ومعنى هذا أن التصديق -وهذا من معاني أهل السنة في تقريرهم للإيمان- يوجبُ بذاته عمل القلب، وهذا هو الفرق بين التصديق الشرعي الإيماني، وبين التصديق المطلق المرادف للمعرفة؛ فإن المعرفة لا تستلزم عمل القلب؛ قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] وقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] فمعرفة الكفار هي علم محض، وأما التصديق الشرعي الذي يذكر في الإيمان فهو ما استلزم العمل. فإذا كان التصديق لا يستلزمُ عمل القلب فإنه يتأخر عن كونه تصديقاً على التمام الشرعي.

عمل الجوارح

عمل الجوارح المحل الرابع: أعمال الجوارح. فالتصديق الشرعي يستلزم: أولاً: العمل الظاهر والباطن. ثانياً: الإخلاص لله، فهو تصديقٌ بخبر الله سبحانه وتعالى أو خبر نبيه عنه؛ فمن فقه المصنف أنه قال: "الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب" فذكر مسألة الإخلاص. ومن هنا يتبين أن الإيمان هو التوحيد؛ لأن الإيمان يراد به الأقوال والأعمال الشرعية المتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى وحده. وشهادة الألسنة أَخَصُها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وبهذا يتبين أن جملة قول السلف: أن الإيمان قولٌ وعمل على هذا التطريد.

زيادة الإيمان ونقصانه

زيادة الإيمان ونقصانه ويقولون: "إنه يزيد وينقص" وهذا المعنى لابد منه، وهو أصل في ذكرِ مسمى الإيمان؛ فإن الغلط الكلي -كما سيأتي شرحه إن شاء الله- الذي خالف به أهل البدع مذهب السلف في اسم الإيمان ومسماه هو أنهم لا يلتزمون أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا الغلطٌ مشترك بين الخوارج والمعتزلة ومن يقابلهم وهم المرجئة؛ فإن كل طائفة من هذه الطوائف جعلوا والتزموا أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وجعلوا مورد الزيادة والنقص فيما حوله من الشرائع التي لا تسمى إيماناً عندهم كالمرجئة، أو في موردٍ آخر على طريقة الخوارج والمعتزلة. فهذه الجملة أصلٌ في مسألة الإيمان؛ لأن مبنى المخالفة للمخالفين إنما تفرع عن عدم تحقيقها، وإلا فإن في كتب الخوارج والمعتزلة أنهم أجمعوا على أن الإيمان قولٌ وعملٌ واعتقاد، ومنهم من يعبر بما يقارب من عبارة أهل السنة فيقول: قول باللسان، واعتقادٌ بالجنان، وعملٌ بالأركان، وإن كانت كتب الخوارج قليلة، لكنَّ الإباضيين منهم يقولون بهذا، لكن الفرق بينهم وبين السلف هو الزيادة والنقصان.

تعلق الزيادة والنقصان في الإيمان

تعلق الزيادة والنقصان في الإيمان يستعمل المتأخرون من أهل السنة في كتبهم عبارة: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا التعبير لا بأس به، لكنه ليس فاضلاً، فإنه يوحي -ليس عند العامة بل حتى عند بعض طلبة العلم المبتدئين- أن مورد الزيادة والنقصان هو في الأعمال الظاهرة فقط. وهذه المسألة فيها نزاع، فإن أبا محمد بن حزم رحمه الله يقرر أن الزيادة والنقصان لا يتعلقان بالتصديق. فهو يقرر أن الزيادة والنقصان تدخل أعمال القلوب لكونها أعمالاً، فالمحبة ليست واحدة، والرجاء ليس واحداً. وكذلك تدخل أقوال اللسان، فإن الناس متفاوتون في ذكرهم للشريعة وألفاظها وهديها وتوحيد الله وذكره إلى غير ذلك. وكذلك تدخل أعمال الجوارح. لكنه تأخر فقال: إنه ليس من طريقة أهل السنة أن الزيادة والنقصان متعلقان بالتصديق. وعلى هذا يكون التصديق واحداً. وهذا غلطٌ دخل عليه من المرجئة، فإنه بنى هذا على مسألة أن التصديق يقابله التكذيب، وأنه إذا نقص ذهب، فإما أن يصدق الإنسان وإما أن يكذب .. فما الوسط بينهما؟ وكيف تحصل الزيادة والنقصان في أمرٍ يدور بين الوجود والعدم؟ هذه هي شبهة المرجئة التي دخلت على ابن حزم رحمه الله، ولا وجه لها ألبتة، لا عقلاً ولا شرعاً. فإنه يقال: إن التصديق -لاشك- يقابله التكذيب، لكن التصديق عند عامة العقلاء يتفاوت؛ فإن من صدق بشيءٍ بناءً على دليلٍ واحد ليس كمن صدق بهذا الشيء بناءً على عشرة أدلة، ومن صدق بشيءٍ بناءً على حديث يرى أنه حسن، وهو متردد في ثبوته، ليس كمن صدق بهذا الشيء وقد بناهُ على حديثٍ متواتر متفق على قبوله. أي: أن تعدد الأدلة يوجب اختلاف التصديق. وحتى لو كان الدليل من حيث الثبوت واحداً، كآيةٍ من القرآن؛ فإن نظر المخاطبين والمكلفين فيها يتفاوت تصديقه. مثلاً: قول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] هذه الآية من قرأها من المسلمين يصدق بها، لكن لا يلزم أن كل من قرأها من العلماء والعامة يكونون على درجة واحدة في تصديقهم -هم ليس فيهم مكذب، هذه جملةٌ منتهية؛ لأن من كذب كفر- لأنهم في فقههم لمعناها وتأملهم فيها يتفاوتون، ومن هذا الوجه تفاوت إيمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم، ومن غيره، كأوجه العمل الظاهر والباطن. والمقصود من هذا بيان أن التصديق يتفاضل؛ فإن مما لا شك فيه: أن تصديق أبي بكر بالنبوة والقرآن والحديث ليس كتصديق آحاد الفساق، مع أن الفاسق لا يكذِّب. ولهذا اعتبر الشارع أن تحقيق التصديق تحقيق لتمام التوحيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة). قد يقول قائل: إن المسلمين يعلمون أنه لا إله إلا الله، إذاً أين وعيد أهل الكبائر؟ هل نقول: إن هذا حديث مطلق قيّدته أحاديث الكبائر؟ الجواب: لا؛ فإن الإطلاق والتقييد لا يستعملان في مثل هذه النصوص، والقول بأنهما يستعملان فيها غلط، ومع الأسف هذا الغلط شائع بين العلماء: المعاصرين والمتقدمين؛ لأنه غلب في تقرير مسائل الفقه والنظر في أدلة الشريعة الفقهية مسألة أن المطلق يحمل على ما يقيده، والعام يحمل على ما يخصصه، والعام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص، فصاروا يستعملون هذا في تقرير فقه نصوص الأصول، فصاروا يقولون: إن هذا مطلقٌ قيّدته أحاديث أهل الكبائر وما يلحقهم من الوعيد. وهذا الغلط فرع عن الغلط في استعمال الطرق النظرية والحدود والضوابط، وما إلى ذلك من الطرق التي كان المقصود منها تنظيم العلم وليس ذكر حقائق العلم؛ فإن حقائق العلم حقائق تستقرأ من كلام الله ورسوله، وقد ذم الله على أهل الكتاب أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، والبدع إنما نشأت في الإسلام من أخذ بعض النصوص وترك بعضها. فالصواب: أن الحديث على ظاهره، ومعناه: أنه من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة، فإن عُدِم العلم الذي هو التصديق لم يدخل الجنة، وإن نقص علمه تأخر دخوله. فإذا قيل: لماذا لم يدخل أصحاب الكبائر الجنة ابتداءً مع أنهم يعلمون أنه لا إله إلا الله؟ قيل: لن نخالف الحديث، هل هم يعلمونها على التمام؟ الجواب: لا؛ لأنهم لو حققوا العلم لحققوا العمل، لكن لما نقص علمهم أمكن تأخرهم. ومما يدل على هذا أن الصحابة لم يستشكلوا شيئاً عندما حدث الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، مع أن بعض الأعراب أو من أسلم حديثاً أحياناً كانوا يسألون عن بعض المشكلات، ولا يمكن أن يكون الصحابة لم يفقهوا المعنى ومع ذلك يسكتوا، كما يعتذر ويبرر بعض الناس هذا بقول أنس كما في الصحيح: (نهينا أن نسأل رسول الله عن شيء) فإن الصحابة لم ينهوا عن السؤال عما يتحقق به إيمانهم، وإنما نهوا عن الاستفصال في أمرٍ قد سُكت عنه، كما هو في قوله تعالى: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] وأما ما يتحقق به إيمانهم وتصديقهم فلا يجوز شرعاً ولا عقلاً أن ينهى الصحابة أو غيرهم عن السؤال عنه، بل هذا السؤال مما أمر الله تعالى به، كما في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] وكذلك لم يستشكلوا عندما حدث النبي صلى الله عليه وسلم الناس بما قد يظهر على أنه مقابل لحديثه هذا، مثل قوله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث ابن مسعود -: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) إنما استشكل رجل فقال: (يا رسول الله! الرجل يحبُ أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحبُ الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) فكان سؤال الرجل عن هذه المسألة اليسيرة يدل على أنه قد فقه المقصود بأصل الحديث، وأنه لا يراد به أن من في قلبه ذرة من كبر يحرم من الجنة على الإطلاق أو أنه يؤبد في النار. وسبب هذا الفقه أن الصحابة كانوا على قدرٍ من الاستقراء لفقه الإسلام، وهذا هو الذي ينصح طلاب العلم بتتبعه والقصد إليه. والمقصود من هذا: أن تمام العلم بتمام العمل. إذاً: من المسائل الأصول في مسمى الإيمان: القول في زيادته ونقصانه، والزيادة والنقصان تقع في مواردهِ الأربعة: 1 - في قول القلب الذي هو تصديقه، وقد خالف في هذا ابن حزم وطائفة من أصحاب أحمد والشافعي، وبعض المنتسبين إلى السنة من المتأخرين، وقولهم مخالف لنص الإمام أحمد وغيره من السلف، بل هو مخالف لظواهر الحقائق الشرعية والعقلية، والتي تدل على أن التصديق يتفاضل. 2 - في أعمال القلوب، وهذا بيّن؛ فإن محبة المسلمين ورجاءهم لله وخوفهم منه سبحانه وتعالى ليس واحداً. 3 - في أقوال اللسان وفي أعمال الجوارح على قدرٍ مشهور معروفٍ مدرك بالبديهة. ومن المسائل الأصول: التلازم بين الظاهر والباطن، ومعناه: أنه إذا عدم الإيمان الباطن عدم الإيمان الظاهر، فمن أظهر شرائع الإسلام أو بعض خصال الإيمان كالصلاة وغيرها ولا باطن معه من الدين فهذا هو المنافق. إذاً: إذا عدم الباطن عدم الظاهر حقيقةً وليس حالاً، ومعنى: ليس حالاً: أي قد يظهر حالاً كما ظهر من المنافقين الذين يقع لهم صلاة أو زكاة أو حج أو ما إلى ذلك، ومع ذلك قال الله فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:145] فهم كفارٌ بالكتاب والسنة والإجماع. وأما إذا عدم الظاهر فهل يعدم الباطن؟ هذه المسألة فيها تفصيل ليس هذا محله، إلا أن من أسباب الإشكال فيها عند المعاصرين مسألة الحدود، والألفاظ المتأخرة -ككلمة "جنس العمل"- التي بدأت تحاط بها المسائل الكبرى في مسائل أصول الدين. ويتلخص من هذا أن مسألة مسمى الإيمان تتضمن ثلاثة أصول: الأصل الأول: أنه قولٌ وعمل. وهذا ينتج عنه أن الإيمان من حيث المحل أربعةُ أصول: 1 - قول القلب، وهو تصديقه. 2 - عمل القلب. 3 - قول اللسان. 4 - عمل الجوارح. الأصل الثاني: أنه يزيد وينقص، وهذه اللفظة أفضل من لفظة: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وإن كان تصديق القلب إذا تحقق سمي طاعة، لكن كلمة الطاعة والمعصية لما تأخر أمر الناس صارت تتبادر إلى الأعمال الظاهرة، ولهذا يقال: يزيد وينقص ظاهراً وباطناً. الأصل الثالث: التلازم بين الظاهر والباطن.

شرح كتاب الإيمان [2]

شرح كتاب الإيمان [2] اختلف مذهب السلف عن مذهب مرجئة الفقهاء في أن السلف يعتقدون أن الإيمان قول باللسان والقلب، وعمل باللسان والجوارح والقلب، وهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، بينما يعتقد مرجئة الفقهاء أن الأعمال الظاهرة ليست داخلة في مسمى الإيمان، كما يعتقدون أن الإيمان واحد لا يزيد ولا ينقص.

قول مرجئة الفقهاء أن الإيمان اعتقاد بالقلب وقول باللسان

قول مرجئة الفقهاء أن الإيمان اعتقاد بالقلب وقول باللسان [وقالت الفرقة الأخرى: بل الإيمان بالقلوب والألسنة، فأما الأعمال فإنما هي تقوى وبر وليست من الإيمان]. هذا هو المذهب الثاني، وهو مذهب طائفةٍ من علماء السنة، وأول من تقلد هذا المذهب هو حماد بن أبي سليمان، الفقيه الكوفي، وقد أخذه عنه طائفة من الكوفيين وغيرهم، واشتهر هذا المذهب بتقلد أبي حنيفة له، حتى شاع في الحنفية هذا القول، وأصحاب هذا القول هم الذين عُرفوا فيما بعد بمرجئة الفقهاء، وقد ذكر أبو الحسن الأشعري هذا لما ذكر المرجئة، وأنهم ثنتا عشرة طائفة، فقد جعل آخر هذه الطوائف وأخصها الفقهاء كـ أبي حنيفة وأمثاله. وهؤلاء يقولون: إن الإيمان يكون بالقلب واللسان، وأما الأعمال فقد أخرجوها عن مسمى الإيمان، وقالوا: هي برٌ وتقوى.

الفرق بين قول السلف وبين قول مرجئة الفقهاء

الفرق بين قول السلف وبين قول مرجئة الفقهاء الفرق بين مذهب جملة السلف وبين مذهب مرجئة الفقهاء يتحصل من جهتين: الجهه الأولى: أن هذا المعشر من الفقهاء لا يجعلون الأعمال الظاهرة داخلةً في مسمى الإيمان، بل يجعلونها براً وإسلاماً وتقوى، ويقول متأخروهم: هي من ثمرات الإيمان. ولهذا إذا قيل لهم: هل لها أثرٌ في الإيمان؟ قالوا: هي من ثمراته، ولكنها لا تدخل في مسماه. الجهة الثانية: أنهم لا يرون أن الإيمان يزيد وينقص، بل يرونه واحداً. هذان الوجهان هما أخص ما يفرق به بين مذهب المرجئة الفقهاء وبين مذهب الجمهور من السلف. ولزيادة التوضيح نقول: أما الفرق الأول: وهو أنهم لا يجعلون العمل داخلاً في مسمى الإيمان، فهذا فرقٌ متحقق بهذا القدر الكلي، ولكن هذا لا يعني عندهم أن إيمان القلب لا يوجب الأعمال، بل ظاهر مذهبهم أنهم يجعلون إيمان القلب يوجب الأعمال، وإن كان هذا الإيجاب لا يستلزم بالضرورة أصل الإيمان. وعليه: فإن أصل الإيمان عندهم يثبت بالقلب واللسان، وإن لم يكن معه ثبوتٌ في أعمال الجوارح، لكنهم يجعلون ما يقع من أعمال الجوارح فرعاً عن الإيمان الذي في القلب. وهذا فرقٌ قد يكون فيه بعض الدقة لابد من إدراكه، وهو أنهم لا يجعلون الإيمان الباطن أو إيمان القلب يستلزم العمل فضلاً عن كونه يدخل في مسماه -أي: العمل- لأنه لو كان كذلك لكان عندهم من ترك العمل يكون كافراً. فهم لا يجعلونه لازماً له لزوماً تاماً، بل يرون أن أصل الإيمان يثبت دون الأعمال، وهذا يسلمون به، لكنهم مع ذلك إذا ذكر الإيمان على التمام عندهم جعلوا الأعمال الظاهرة تتفرع عنه، وجعلوه موجباً للأعمال الظاهرة ومقتضياً لها. وفرق بين مقام الاقتضاء الإيجاب العام وبين مقام اللزوم للأصل. والمحصل من هذا أنه إذا قيل: هل الأعمال الظاهرة لازمة لأصل الإيمان عند حماد والفقهاء ممن وافقه؟ فالجواب: لا، ليست لازمة، فضلاً عن كونها داخلةً في مسماه. وأما إذا قيل: هل الأعمال هي اقتضاء لهذا الإيمان؟ فالجواب: نعم. فهم لم يذهبوا إلى قطع الأعمال وفكها عن الإيمان القلبي من كل وجه، بل وقعوا على هذا القدر من التوسط، ولا يقطع الأعمال عن الإيمان القلبي إلا الغالية من المرجئة. وإنما يحسن هذا التنبيه لأن أكثر من تكلم في قول مرجئة الفقهاء -فيما وقفت عليه- يصفونهم بأنهم يقطعون الأعمال عن الإيمان القلبي من كل وجه، وهذا غلط في تقرير مذهبهم؛ فهم لا يجعلون الأعمال داخلةً في مسماه، ولا يجعلون الأعمال لازمةً لأصله، لكنهم يجعلونها من مقتضاه العام الخارج عن مسماه وعن لزوم أصله. أما إذا أتينا إلى الجهة الثانية وهي: أن الإيمان عندهم واحد لا يزيد ولا ينقص، فهذا القول قد نسبه إليهم خلق كثير، وممن نَسَبَ إليهم هذا القول الإمام ابن تيمية رحمه الله، فإنه يقرر بالتصريح أن جميع المرجئة -حتى الفقهاء منهم- يجعلون الإيمان واحداً، لا يزيد ولا ينقص. وهذه الجملة -أي: مسألة أنهم يجعلون الإيمان واحداً- فيها قدر من الإجمال، فإنه وإن صح أن يقال كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأصل نزاع هذه الفرق من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، أنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً إذا زال بعضه زال جميعه". إلا أن الناظر في كتب الخوارج أو المعتزلة وجمهور كتب المرجئة يجد أن جمهور هذه الطوائف يصرحون بأن الإيمان يزيد، وبعضهم يصرح بنقصه، وإن كان ذكر لفظ الزيادة هو الدارج في كلامهم؛ لكونه حرفاً منصوصاً عليه في كتاب الله سبحانه وتعالى. حتى إن أبا حامد الغزالي والبغدادي -وهما من الأشعرية- يحكيان الإجماع عندهم على أن الإيمان يزيد، ومنهم من يحكي الإجماع على الزيادة والنقصان. ولا شك أن هذا القدر الكلي الذي يحكونه في كتبهم -أعني الطوائف المخالفة- لا يعارض ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم. والجمع بين الأمرين -أي: بين ما في كتبهم وبين ما ذكره الشيخ عنهم- هو أن الذي يسلِّمون به إنما هو وجه من أوجه الزيادة؛ ولهذا إذا شرحوا الإجماع الذي يحكونه في كتبهم على التفصيل قالوا: ويزيد الإيمان -إذا كان المعين من هؤلاء يفسر الإيمان بالتصديق- بكثرة أدلته، فالمصدق بخبر على دليل واحد ليس كالمصدق به على عشرة أدلة. وقالوا: ويزيد الإيمان باستمراره في القلب. فهم فسروا زيادة الإيمان بأوجه صحيحة لكنها قاصرة، فهم إذا سئلوا: هل يمكن أن تدخل الإيمانَ الذي يدور بين الإثبات والنفي الزيادةُ والنقصانُ؟ فالجواب عندهم: لا؛ فإن الإيمان عندهم إذا ما فسر بمقام الإثبات والنفي فهو واحد، إما أن يثبت جميعه وإما أن ينفى جميعه، وحصروا زيادته في مثل هذه الأوجه. فقالوا: يزيد بتعدد أدلة الإيمان بين المجتهدين وبين المخاطبين .. وهذا لا شك أنه وجه في زيادة الإيمان، لكن مقصود السلف رحمهم الله بتقرير هذه المسألة ليس هذا الوجه؛ فإن هذا من الأوجه البدهية الثابتة بضرورة العقل، لكن المقصود الأجلّ في تقرير زيادة الإيمان في القرآن وفي كلام السلف هو: أنه يزيد باعتبار مقام الإثبات والنفي، بمعنى أن الشخص قد يترك بعض الواجبات ولا يذهب إيمانه، مع أن هذا الواجب المعين الذي تركه ونفي عنه يسمى إيمانا، ولكنه لا يسمى تاركاً لكل الإيمان، وإنما سماه الشارع تاركاً للإيمان باعتبار المقارنة، على معنى أنه ترك واجباً فيه، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فإن العفاف عن الزنا واجب .. وما إلى ذلك. وبهذا يتبين أن الوجه الثاني في التفريق بين قول جمهور السلف وبين قول مرجئة الفقهاء هو: أن الإيمان عند الفقهاء واحد لا يزيد ولا ينقص .. وهذه الجملة هي مذهب لهم إذا قصد قدرها الكلي، وأما إذا قصد تمامها ولوازمها فهي ليست مذهباً لهم. والفرق بين الأمرين: أنهم يجعلون ما لزم في أصل الإيمان إذا دار بين الإثبات والنفي فإنه يكون الكفر والإيمان فحسب؛ ولهذا لم يجعلوا العمل داخلاً في مسمى الإيمان؛ لأنه لو دخل في مسمى الإيمان لأمكن نفي بعضه بالترك، وهذا يستلزم عندهم ترك جملة الإيمان. وأما إذا قصد أنهم يقولون: إن الإيمان واحد لا يزيد ولا ينقص، وأنهم يذهبون إلى تساوي المؤمنين في درجة الإيمان .. فهذا ليس بصحيح كمذهب لـ حماد بن أبي سليمان، ولكنه مذهب لجملة من الأحناف الذين شرحوا قول حماد بن أبي سليمان وما أخذه عنه أبو حنيفة.

مرجئة الفقهاء طائفتان

مرجئة الفقهاء طائفتان وعلى هذا يمكن القول: إن مرجئة الفقهاء طائفتان: الطائفة الأولى: وهم متقدموهم كـ حماد بن أبي سليمان مؤسس هذا المذهب، فهذا الإمام لا يجعل الأعمال داخلة في مسمى الإيمان ولا يكفر بتركها. أما أنه يجعل المؤمنين متساوين في الإيمان فإن هذا لم يثبت عنه، وليس لازماً لمذهبه. وهذا المذهب مذهب لجملة من فقهاء الكوفة. الطائفة الثانية: وهم جملة ممن شرحوا مذهب حماد باعتباره مذهباً للإمام أبي حنيفة، وقد قرر هؤلاء هذا المعنى؛ لأنهم أخذوا هذه المادة من جمل المرجئة الأخرى. وعلى هذا فالمتحقق ثبوته عن حماد: أولاً: أنه لا يجعل العمل داخلاً في مسمى الإيمان. ثانياً: أنه لا يكفر بترك العمل الظاهر كالصلاة ونحوها. ثالثاً: أنه يجعل الإيمان واحداً باعتبار الأصل، وأما باعتبار التفاضل فإن المؤمنين يتفاضلون في الإيمان، ولم يقل حماد رحمه الله ولا أمثاله من كبار فقهاء الكوفة الذين انتحلوا هذا القول: إن إيمان المؤمنين واحد. بل يمكن أن يقال هنا: إن القول بأن المرجئة يذهبون إلى أن إيمان أبي بكر كإيمان أحد الفساق من المسلمين ليس مذهباً مصرحاً به في كلام أحدهم ولكنه لازم قولهم.

أقسام الجمل التي يستعملها الأئمة في حكاية مذاهب الطوائف

أقسام الجمل التي يستعملها الأئمة في حكاية مذاهب الطوائف هنا تنبيه لمن يقرأ في كتب المقالات، وهو أن أئمة السنة والجماعة الذين صنفوا في بيان معتقد السنة كـ ابن أبي عاصم وعبد الله بن أحمد والآجري وابن خزيمة وأمثال هؤلاء، أو حتى الإمام ابن تيمية رحمه الله -وإن كان أكثر تفصيلاً في هذا الباب- لهم استعمال قد تراجع عليه أهل العلم، وعلى الناظر في كتبهم أن يكون على فقه لوجهه: وهو أنهم إذا حكوا مذهباً لطائفة، فإنهم يصفونه بجملة من الجمل، وهذه الجملة يمكن تقسيمها على النحو الآتي: الجملة الأولى: هي قول مطابق للمذهب الذي نسبت إليه. الجملة الثانية: هي قول متضمن في المذهب الذي نسبت إليه. الجملة الثالثة: هي قول لازم للمذهب الذي نسبت إليه. وأضرب لذلك مثلاً: بعض من يحكي مذهب مرجئة الفقهاء يقول: فعند حماد بن أبي سليمان ومن وافقه كـ أبي حنيفة أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان عندهم واحد لا يزيد ولا ينقص، وأن إيمان أبي بكر وأئمة المؤمنين كإيمان آحاد المسلمين والفساق. فهل هذا مذهب تام؟ الجواب: لا. بل هذا وصف للمذهب. فالجملة الأولى -وهي أنهم لا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان- مطابقة مطابقة تامة لمذهبهم. والجملة الثانية -وهي أن الإيمان عندهم واحد لا يزيد ولا ينقص- متضمنة في المذهب كقدر كلي، وليس كقدر تفصيلي. ولهذا نجد أن الجملة المطابقة جملة متحققة في المذهب جملة وتفصيلاً، بخلاف الجملة المتضمنة، فهي تثبت كجملٍ كلية أو مطلقة أو عامة، ولا يلزم بالضرورة أن سائر تفاصيلها تكون متحققة عندهم. أما الجملة الثالثة -وهي أنهم يجعلون إيمان أبي بكر وأئمة المؤمنين كإيمان آحاد المسلمين والفساق- فهي جملة لازمة، لكنهم لما جعلوا الإيمان واحداً لزم أن جميع المسلمين على قدر من التساوي فيه. والمذاهب تضبط بحقائقها المطابقة أو المتضمنة أو اللازمة، لكن يجب أن تبقى المطابقة مطابقة، وأن تبقى المتضمنة متضمنة، ولا يزاد على التضمن إلى درجة التطابق. وأما لازم المذهب -وإن كان فيه خلاف يسير عند بعض النظار- فقد حكي جملةُ الإجماع على أن لازم المذهب ليس مذهباً للطائفة، سواءً من أهل السنة أو من غيرهم، ولكنه طريق يذكر ليظهر به غلط هذه الطائفة المخالفة للسنة والجماعة. لأن من قرأ هذه الجمل الثلاث إنما تكون الجملة الثالثة هي الأظهر في نفسه مفارقة للعقل ومفارقة لبدهيات الشرع. ومثال هذا: لو أن عامياً قرئت عليه هذه الجمل فإنه قد لا يستوعب الأولى -وإن كان الإشكال فيها- وربما الثانية، لكن لو قيل له: هؤلاء يقولون: إيمان أبي بكر كإيمان الفساق، لقال: هذا مذهب فاسد .. إذاً لوازم المذاهب إنما تذكر لتوزن بها المذاهب، وأما أنها مذاهب تنسب إلى أصحابها فهذا لا يجوز. وقد كان ابن حزم رحمه الله يقرر هذا الرأي -أن لازم المذهب ليس مذهباً- لكنه أخذ كثيراً من الطوائف بلوازم أقوالهم وعن هذا كفرهم، وهذا -أيضاً- موجود عند من عندهم زيادة في التكفير للمخالفين للسلف من أهل البدع في الغالب، حيث يظهر أنهم يعتمدون على اللوازم، ومن اعتمد على اللوازم وفرض أنها مذاهب لأصحابها فإنه لن يسعه في هذا المقام إلا أن يذهب إلى التكفير. والمقصود من هذا: أنه ينبغي لطالب العلم أن يضبط هذه القاعدة، وأن يكون فقيهاً في قراءته لكلام علماء السنة، وهو أنهم يجملون المسائل، فيذكرون المذهب على الوجه المطابق والمتضمن واللازم، وأحياناً يذكرون المطابق فقط. فهذه القاعدة ليس بالضرورة أنها قاعدة مطردة. وهذان الوجهان على ما فيهما من التقرير والتقييد هما أخص أوجه الفرق بين مذهب حماد بن أبي سليمان ومن وافقه وبين مذهب جمهور أئمة السلف. ومن هنا يظهر أن شرح جملة من فقهاء الأحناف لهذا المذهب ليس بالضرورة أنه ممثل له. وهذا هو السبب الذي جعل بعض المتأخرين من أهل العلم ينسبون إلى حماد والفقهاء من المتقدمين من أهل الكوفة بعض القول الشديد؛ فقد نُقل عنهم أقوال مجملة ليس فيها التصريح بهذا الكلام، وبعد ذلك جاء الحنفية وعندهم إشكال أن مادتهم مختلفة، فإن من الأحناف كرامية وهؤلاء عندهم مادة تجسيم في الصفات ومبالغة في الإثبات. ومنهم ماتريدية. ومنهم أهل حديث. ومنهم أهل فقه. فهم مع تعدد مآخذهم في تقرير مسائل أصول الدين بين علم الكلام والتصوف وبين طريقة الفقهاء وطريقة أهل الأثر إلا أنهم التفوا غالباً -وليس دائماً- في مسألة الإيمان على الجملة المروية عن أبي حنيفة، ثم أخذوا يشرحونها ويفرعون عنها، وكل من شرح أو فرَّع من هؤلاء فإنه يتأثر بمادته. فالماتريدية يتأثرون بمادتهم، حتى إن منهم -وهذا قول مشهور لـ أبي منصور - من لا يجعلون قول اللسان داخلاً في مسمى الإيمان، بل يجعلون الإيمان هو التصديق كالقول المروي عن أبي الحسن الأشعري؛ فصار الماتريدية يحاولون الجمع بين أقوال بعض أئمة الماتريدية المتكلمين الذين يقولون أن الإيمان هو التصديق وبين قول أبي حنيفة، فيخففون قول أبي حنيفة عن محتواه ويقربونه إلى قول من يقول: إن الإيمان هو التصديق. وقد تأثر بمثل هذه التفريعات بعض فقهاء الأحناف أو الأثرية منهم؛ وليس المقصود من هذا أن نعين واحداً كـ أبي جعفر الطحاوي أو غيره إنما المقصود أن شرح المتأخرين من الأحناف لقول حماد رحمه الله ليس بالضرورة أن يكون شرحاً ممثِّلاً لقول حماد نفسه، بل المروي عن حماد جمل عامة، المتحقق منها ما سبق ذكره. ولهذا لم يذكر عنهم المصنف إلا المجمل فقط، لكنه لما تكلم في آخر كتابه هذا عن أقوال المرجئة المغلظة بيّن ما عندهم من الخروج في مسألة الأعمال، وفي مسألة أن الإيمان واحد، وحقيقة هذه القول عندهم، وأنهم يلتزمونه على قدر من التحقيق.

شرح كتاب الإيمان [3]

شرح كتاب الإيمان [3] اختلاف أهل السنة والجماعة مع مرجئة الفقهاء في تعريف الإيمان مبني على إنكار المرجئة لدخول العمل في مسمى الإيمان، وبالتالي فهو لا يزيد ولا ينقص عندهم، وأهل السنة والجماعة يردون قولهم هذا مستدلين بما نطق به القرآن، وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.

ترجيح مذهب السلف القائل بأن الإيمان قول وعمل

ترجيح مذهب السلف القائل بأن الإيمان قول وعمل [وإنا نظرنا في اختلاف الطائفتين فوجدنا الكتاب والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً، وينفيان ما قالت الأخرى. والأصل الذي هو حجتنا في ذلك: اتباع ما نطق به القرآن؛ فإن الله -تعالى ذكره علواً كبيراً- قال في محكم كتابه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] وإنا رددنا الأمر إلى ما ابتعث الله عليه رسوله صلى الله عليه، وأنزل به كتابه فوجدناه قد جعل بدء الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة عشر سنين أو بضع عشرة سنة يدعو إلى هذه الشهادة خاصة].

الدخول في الإيمان بالنطق بالشهادتين

الدخول في الإيمان بالنطق بالشهادتين هذا من شريف فقه المصنف رحمه الله؛ فإنه أبان أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بعث -وهذا مجمع عليه بين المسلمين- إنما بعث بالشهادتين، فمن قال الشهادتين فإنه يكون مؤمناً، ولهذا لم يكن صلى الله عليه وسلم يكتفي من أحد باعتبارها في قلبه، بل كان لا بد من التصريح بذكرها؛ ونتيجة هذا الاستدلال أن القول بالإيمان أصل فيه، ولهذا كان الشارع صلى الله عليه وسلم يعتبر ثبوت الإسلام والإيمان بالنطق بها على يقين وتصديق في معناها. وهذا يبين أيضاً: أن أصل الإيمان هو أصل الإسلام، ويبين أن أصل الإيمان هو تصديق القلب، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الأمر. [وليس الإيمان المفترض على العباد يومئذٍ سواها، فمن أجاب إليها كان مؤمناً لا يلزمه اسم في الدين غيره، وليس يجب عليهم زكاة ولا صيام ولا غير ذلك من شرائع الدين، وإنما كان هذا التخفيف عن الناس يومئذٍ -فيما يرويه العلماء- رحمةً من الله لعباده ورفقاً بهم؛ لأنهم كانوا حديث عهد بجاهلية وجفائها، ولو حملهم الفرائض كلها معاً نفرت منه قلوبهم، وثقلت على أبدانهم؛ فجعل ذلك الإقرار بالألسن وحدها هو الإيمان المفترض على الناس يومئذٍ، فكانوا على ذلك إقامتهم بمكة كلها وبضعة عشر شهراً بالمدينة وبعد الهجرة، فلما أثاب الناس إلى الإسلام وحسنت فيه رغبتهم زادهم الله في إيمانهم أن صرف الصلاة إلى الكعبة بعد أن كانت إلى بيت المقدس، فقال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] ثم خاطبهم وهم بالمدينة باسم الإيمان المتقدم لهم في كل ما أمرهم به أو نهاهم عنه، فقال في الأمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] وقال في النهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]]. وجه هذا الاستدلال أن اقتران خطاب العمل بنداء الإيمان دليل على أن هذه الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وهذا معروف من جهة لسان العرب؛ فإن ما طلب فعله بنداء مختص بصفة داخل في الصفة التي وقع بها هذا الطلب أو لازم لها، ولهذا لزم من مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77] أن يكون هذا الركوع لازماً للإيمان أو داخلاً في مسماه.

الجواب عن شبهة المرجئة: لو كان العمل أصلا في الإيمان لما أمكن ثبوت الإيمان قبل فرض العمل

الجواب عن شبهة المرجئة: لو كان العمل أصلاً في الإيمان لما أمكن ثبوت الإيمان قبل فرض العمل [وعلى هذا كل مخاطبته كانت لهم فيها أمر أو نهي بعد الهجرة، وإنما سماهم بهذا الاسم بالإقرار وحده إذ لم يكن هناك فرض غيره. فلما نزلت الشرائع بعد هذا وجبت عليهم وجوب الأول سواء، لا فرق بينها؛ لأنها جميعها من عند الله، وبأمره وبإيجابه]. هذا الكلام فيه رد على شبهة بعض المرجئة، فإن من شبههم وحججهم أنهم يقولون: إن الإيمان كان ثابتاً في أول الإسلام قبل العمل، فلو كان العمل أصلاً في الإيمان لما أمكن ثبوت الإيمان في أول الإسلام. وهذا غلط من جهة العقل قبل أن يكون غلطاً من جهة الشرع؛ لأن الإيمان هو ما وجب الإيمان به في كلام الله ورسوله، والعمل قبل فرضه ليس حكماً شرعياً. وهذه القاعدة التي فرضوها لو طردوها ما صحت لهم؛ فإن هناك تصديقات ذكرت في الكتاب والسنة بعد كلمة الشهادتين -كالتصديق بقصص الأنبياء، فإن من لم يؤمن بقصص الأنبياء والمرسلين في القرآن وكذبها يكون كافراً- ومع ذلك أصبح التصديق بهذه الأخبار من الإيمان، مع أن إيمان المؤمن قبل بلوغ الخطاب كان ثابتاً. فقولهم: لو كان العمل أصلاً في الإيمان لما أمكن ثبوت الإيمان قبل فرض العمل، يرد عليه بأنه لو كان الأمر كذلك لقيل أيضاً: إن ما زاد على أصل الإيمان من التصديقات لا يعد من الإيمان؛ لأن الإيمان الأول ثبت قبل نزولها أو قبل الخبر بها، فكل ما فرضوه على العمل يلزم فرضه على التصديقات التي تأخر الإخبار بها.

أثر الامتناع عن العمل في الإقرار والفرق بينه وبين ترك العمل

أثر الامتناع عن العمل في الإقرار والفرق بينه وبين ترك العمل [فلو أنهم عند تحويل القبلة إلى الكعبة أبوا أن يُصلّوا إليها وتمسكوا بذلك الإيمان الذي لزمهم اسمه، والقبلة التي كانوا عليها لم يكن ذلك مغنياً عنهم شيئاً، ولكان فيه نقض لإقرارهم؛ لأن الطاعة الأولى ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة الثانية، فلما أجابوا الله ورسوله إلى قبول الصلاة كإجابتهم إلى الإقرار صارا جميعاً معاً هما يومئذٍ الإيمان، إذ أضيفت الصلاة إلى الإقرار]. وهذا أيضاً فقه منه رحمه الله، فهو يقرر أنهم لو امتنعوا عن العمل بعد المخاطبة به لبطل إقرارهم. وفي مقام العمل هنا مقامان: المقام الأول: الترك الذي لا يصاحبه إباء وامتناع. المقام الثاني: الامتناع عن العمل. أما الترك لآحاد الأعمال فإنه لا يستلزم النفي لأصل الإيمان، وأما جملة الأعمال فهذا له تفصيل يأتي إن شاء الله. وأما الامتناع فإن المصنف يقرر أن حقيقة الامتناع عن العمل هو الترك للإقرار الأول. وقد يقول قائل: باب الامتناع ليس هو باب الترك للعمل؛ فإن الامتناع فوق الترك .. وهذا صحيح، لكن لما كان الامتناع عن العمل مسقطاً للإقرار -وهذا وجه بيّن من جهة الشرع- دل على أن هذا العمل داخل في مسمى الإيمان؛ لأنه لو لم يكن داخلاً في مسماه لما أمكن أن يكون الامتناع عن فعله يستلزم إفساد الإيمان الأول؛ فإنه لو كانت الجهة منفكة تمام الانفكاك بين العمل وبين الإيمان الأول -الذي هو الإقرار- لما أمكن أن يكون الامتناع عن هذا موجباً لإبطال هذا. وبعبارة أخرى: إن مما هو متقرر في الشريعة أن الامتناع عن الاستجابة للعمل الذي أمر الله ورسوله به يعد إسقاطاً للإقرار، وهذا يدل على أن الأعمال أصل في الإيمان أو داخلة في مسماه على أقل درجة؛ لأنه لو لم يكن العمل داخلاً في مسمى الإيمان لما كان الامتناع عنه مسقطاً لأصل الإقرار. وهذا فقه شريف من الإمام رحمه الله، ولاسيما أن كلامه يعتبر بوجه؛ لكونه إماماً في اللغة فضلاً عما له من الإمامة في الشريعة.

التلازم بين تصديق القلب وعمل الجوارح

التلازم بين تصديق القلب وعمل الجوارح وتمام هذا المعنى يكون بوجه يفصل به كلامه، وهو يحتاج إلى قدر من التأمل؛ فإن من فقهه بان له أن كل من يقول بأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان قولهم ممتنع في العقل فضلاً عن كونه غلطاً في الشرع. وتقرير هذا الوجه يكون بالآتي: أن جميع المرجئة فضلاً عن فقهائهم المقاربين للسنة والجماعة يسلِّمون أن تصديق القلب إيمان وبعضهم يقول: هو الإيمان؟ إذاً مسألة التصديقات لا خلاف بين المسلمين أنها إيمان .. هذه المقدمة الأولى. والطرد لها أن يقال: كل عمل من الأعمال الظاهرة كالصلاة والطواف بالبيت والسعي بين الصفاء والمروة والوضوء ونحوها، مركب من تصديق ومن حركة ظاهرة، فإذا انفك أحدهما عن الآخر امتنع ثبوت العمل في نفس الأمر، وبعبارة أوضح: امتنع ثبوت العمل في الخارج، أي: في الوجود. وسوف نبين هذا الكلام بضرب عدة أمثلة: المثال الأول: لو أن إنساناً قال: أنا أؤمن بالصلاة وأصدق بحديث النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصلاة. لكنه لم يفعل .. هل يسمى مصلياً؟ بإجماع العقلاء أنه لا يسمى مصلياً، ولو كان مصدقاً حافظاً عارفاً بماهية الصلاة. المثال الثاني: لو أظهر شخص الحركة الظاهرة لا نقول: دون تصديق، بل دون نية .. هل يسمى فاعلاً للعمل الشرعي؟ الجواب: لا. فمن باب أولى إذاً فعله دون تصديق. المثال الثالث: لو فعل شخص فعل الوضوء، لكنه لم يقصد به الوضوء، بل قصد به التبرد .. هل يجزئه؟ الجواب: لا يجزئه. المثال الرابع: لو أن شخصاً يبحث عن شخص آخر في المسجد الحرام بين الطائفين، وعند بحثه عنه كان يدور حول الكعبة بحثاً عن صاحبه، هل يسمى طائفاً؟ الجواب: لا يسمى. المثال الخامس: لو أن شخصاً حنى ظهره أمام مدربه من باب الرياضة أو من باب اللعب أمامه .. هل يسمى هذا قد فعل الركوع لغير الله؟! الجواب: لا؛ لأن هذا العمل أصلاً لم تدخل عليه نية العبادة، فضلاً عن مسألة ارتباط هذا بكونه تصديقاً واستجابة لله ورسوله. ومن هنا يتضح أن الأعمال الشرعية الظاهرة يمكن أن يفعلها بعض الناس على جهة عادية لا يقصد بها فعل العبادة، وفي هذه الحال لا تسمى أعمالاً شرعية يسقط بها الوجوب ويحصل بها الثواب. وبهذا يظهر أن الأعمال الشرعية مركبة من مادتين: 1 - التصديق والنية وما يتعلق بالقلب. 2 - والحركة الظاهرة. وأما أن تقوم الأعمال الشرعية بأحد الجهتين فهذا ممتنع، فإنه إذا وُجد التصديق ولم توجد الحركة الظاهرة فإن فاعل هذا لا يسمى مصلياً ولا طائفاً، وإذا وجدت الحركة الظاهرة ولم تكن عن نية وتصديق واستجابة .. إلخ، فإنه لا يسمى مصلياً ولا طائفاً .. إلى غير ذلك.

قول المرجئة بأن التصديق إيمان يلزمهم به إدخال الأعمال في مسمى الإيمان

قول المرجئة بأن التصديق إيمان يلزمهم به إدخال الأعمال في مسمى الإيمان فإذا كان كذلك فمن يقولون: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان. يقال لهم: أنتم أدخلتم التصديق في مسمى الإيمان، وحقيقة هذه الأعمال أنها تصديقات، ولكنها تصديقات يلتحق بها ويقترن بها الحركة الظاهرة لإثبات هذا التصديق، ولهذا لا شك أن الفاعل للصلاة أشرف تصديقاً من المصدق بالصلاة بقلبه -حتى لو فرضنا جدلاً أنه لا يكفر-. وبهذا يعلم أن الجواب عن قولهم: إن الأعمال الظاهرة هي حركات فكيف تسمى إيماناً .. هو أن الحركات الظاهرة المجردة عن التصديقات لا وجود لها في الأعمال الشرعية. فإذا قيل: الصلاة. قيل: هي قبل أن تكون حركة ظاهرة هي تصديق، واستجابة، ونية في القلب إلى غير ذلك. وبهذا يتضح أن إدخال الأعمال في مسمى الإيمان لازم لجميع المرجئة؛ لأنهم أدخلوا التصديق، والأعمال مركبة من التصديق والحركة الظاهرة، وإذا انفكت إحدى الجهتين عن الأخرى امتنع وجود العمل الشرعي في الخارج. وبهذه القاعدة يعلم أن الأعمال الظاهرة يلزم بضرورة العقل أن تكون داخلة في مسمى الإيمان، وأن قول السلف رحمهم الله: إن الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإيمان هو ضرورة شرعية لدلالة النصوص عليه، وهو ضرورة عقلية أيضاً. والعجيب قول بعض المرجئة -كالأشاعرة-: هذه حركة ظاهرة، والعرب لا تعرف أن تسمي الحركات الظاهرة العادية إيماناً! فيقال: وهل أحد من علماء السنة يقول: إن مشي الإنسان إيمان، وأكله وشربه إيمان، وكل أعماله الظاهرة إيمان؟!! كلا، بل هم يقصدون الأعمال الشرعية، والأعمال الشرعية حقيقتها التصديقات قبل أن تكون حركة ظاهرة، ولهذا من لم يصدق بالصلاة كفر بالإجماع، بخلاف من تركها وهو مصدق بها، لأن التصديق أشرف من مقام الحركة الظاهرة.

من الأدلة على أن الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإيمان

من الأدلة على أن الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإيمان [والشهيد على أن الصلاة من الإيمان قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143] وإنما نزلت في الذين توفوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وهم على الصلاة إلى بيت المقدس، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فنزلت هذه الآية، فأي شاهد يلتمس على أن الصلاة من الإيمان بعد هذه الآية؟]. (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) أي: صلاة من صلى إلى بيت المقدس، وعلى هذا درج أئمة التفسير من الصحابة وغيرهم، وهذه الآية من أخص دلائل السلف على أن الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإيمان، وإذا دخل واحد منها -ولو كان هو الأشرف- فإن غيره يكون كذلك. وقد أجاب المرجئة عن هذه الآية فقالوا: معنى قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) أي: تصديقكم الأول بالصلاة إلى بيت المقدس. ومعنى كلامهم أن هناك أمرين وقت الصلاة إلى بيت المقدس: الأمر الأول: التصديق بالصلاة إلى بيت المقدس واعتقاد أن هذا حكم. الأمر الثاني: العمل. فهم يقولون: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) أي: تصديق المصدقين بوجوب الصلاة إلى بيت المقدس. فنقول: هذا ليس بصحيح من جهة النظر في سياق الآية لغة وشرعاً وعقلاً؛ لأن التصديق بالصلاة إلى بيت المقدس في تلك المرحلة لم يكن تصديقاً قصد الشارع رفعه، إنما قصد إيجاد حكم آخر من التصديقات؛ فإنه يمتنع أن يتبادر إلى ذهن أحد من المكلفين الذين صلوا إلى بيت المقدس أو من بقي من أقاربهم أن تصديقهم الأول قد فسد، لكن الذي قد يتبادر إلى الذهن هي مسألة العمل، حيث إن هؤلاء اتجهوا إلى بيت المقدس وهؤلاء اتجهوا إلى الكعبة. [فلبثوا بذلك برهةً من دهرهم، فلما أن داروا إلى الصلاة مسارعةً وانشرحت لها صدورهم أنزل الله فرض الزكاة في إيمانهم إلى ما قبلها، فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:110] وقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] فلو أنهم ممتنعون من الزكاة عند الإقرار، وأعطوه ذلك بالألسنة، وأقاموا الصلاة غير أنهم ممتنعون من الزكاة كان ذلك مزيلاً لما قبله، وناقضاً للإقرار والصلاة، كما كان إباء الصلاة قبل ذلك ناقضاً لما تقدم من الإقرار.]. من فقه المصنف رحمه الله أنه يعبر بالامتناع، وقد تقدم أن هناك فرقاً بين الامتناع وبين الترك، فإن الامتناع يقارنه إباءُ في القلب، بخلاف الترك؛ فإنه من جنس ترك الفساق، ولذا كان الممتنع من الصلاة كافراً بلا خلاف بين السلف، وكذلك الممتنع من الزكاة على شرط معروف فيه يأتي ذكره إن شاء الله، بخلاف التارك فهو محل نزاع كما سيأتي إن شاء الله.

القتال الذي وقع في زمن أبي بكر رضي الله عنه

القتال الذي وقع في زمن أبي بكر رضي الله عنه [والمصدق لهذا جهاد أبي بكر الصديق -رحمة الله عليه- بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء، لا فرق بينها في سفك الدماء وسبي الذرية واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها]. حصل في زمن أبي بكر رضي الله عنه القتال لثلاث طوائف: الطائفة الأولى: من ارتد عن أصل الإسلام، وأعلن الكفر بالله وبرسوله .. فهؤلاء لا خلاف بين المسلمين أنهم كفار مرتدون. الطائفة الثانية: من جحد وجوب الزكاة، ورأى أن الزكاة شريعة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك لا زكاة في الإسلام، فهؤلاء أيضاً بالإجماع المتحقق أنهم كفار؛ لأنهم جحدوا واجباً معلوماً من الدين بالضرورة بعد قيام الحجة عليهم. الطائفة الثالثة: من لم يظهر جحد وجوب الزكاة، وإنما منعوا أداءها، وهم أهل شوكة ومنعة -أي: أهل قتال-. وهذه الطائفة يقرر جمهور الفقهاء المتأخرين من أصحاب الأئمة -بعد طبقة الأئمة الكبار، والقرون الثلاثة الفاضلة- في كتب الفقه أنها طائفة باغية، وليست طائفةً مرتدة، وممن ذكر هذا وكرره ونسبه إلى الجمهور من الفقهاء الخطابي والنووي رحمهما الله وغيرهما، وهو موجود في كتب الفقه للمذاهب الأربعة. ونزع جملة من فقهاء المذاهب الأربعة -وهم المحققون في مذاهب أئمتهم- إلى أن هؤلاء مرتدون. أما قول السلف الأول في شأن هؤلاء فإن المشهور، والذي عليه التقرير في نقل أقوال المتقدمين من السلف أنهم كانوا ينزعون إلى أن هذه الطائفة طائفةٌ مرتدة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد اتفق الصحابة والأئمة من بعدهم على قتال مانعي الزكاة، وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان، وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة، ولهذا كانوا مرتدين وهم يقاتلون على منعها، وإن أقروا بالوجوب كما أمر الله". وقد غلَّط الإمام ابن تيمية طائفة من الفقهاء كـ الخطابي وغيره فيما قرروه من أن هؤلاء قوم بغاة. وبهذا يظهر عدم وجود إجماع صريح على أن الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة كافرة، لكن هذا هو المتقرر في كلام المتقدمين؛ فإنه لم ينضبط عن أحد من المتقدمين أنه جعل هذه الطائفة ليست طائفة مرتدة. وقد أشار المصنف رحمه الله عند ذكر قصة أبي بكر ومراجعة عمر له إلى الإجماع بقوله: "والمصدق لهذا جهاد أبي بكر الصديق -رحمة الله عليه- بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة، كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء". فهو التمس هذا الإجماع التماساً من القصة، لكن الإجماع الذي أشرت إلى أنه لم يصرح به عند المتقدمين: هو الإجماع الذي عليه تواردُ الكبار حتى تكون المسألة لا تحتاج إلى نظر، كإجماعهم على أن الإيمان قول وعمل أما أن بعض المتقدمين فقه من القصة وجه إجماع عند الصحابة فذكره فهذا موجود، ومن أَخَصِ من ذكر هذا المصنف رحمه الله. فكون هؤلاء الممتنعون أهلَ ردة هذا هو المعروف في كلام المتقدمين من السلف كـ مالك وأحمد والأوزاعي وأمثالهم، وهو المذهب الصحيح.

حكم تارك الزكاة

حكم تارك الزكاة أما مسألة هل يكفر تارك الزكاة أو لا يكفر فإنها مسألة نزاع، ولو سلِّم أن هذه الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة كافرة بإجماع متحقق؛ فإنه لا يلزم من هذا أن ترك الزكاة يكون كفراً؛ لأن هذه الطائفة ليس أمرها في ترك الزكاة فحسب، بل أمرها في اجتماع ترك الزكاة مع الامتناع والقتال. وللأئمة أقوال في كفر تارك الزكاة: القول الأول: أن ترك الزكاة كفر، ولو كان التارك فرداً من المسلمين، فلو أن شخصاً واحداً وجبت عليه زكاة ماله فترك الزكاة، ولم يؤد من ماله زكاة إلى أن توفي؛ فإنهم يجعلون تركه للزكاة وهجره لها كفراً مخرجاً من الملة، فيوافي ربه بالكفر على هذا الافتراض، ومن هنا يمكن أن يقام عليه حد الكفر إذا حقق عليه قضاءً إلى غير ذلك. وهذا المذهب مذهبُ ضعيف، وقد نسب إلى ابن عباس، وإن كان لم ينضبط صحةً عنه، ونسب إلى سعيد بن جبير وبعض كبار فقهاء الحجاز؛ ولهم دلائل على ذلك ليس هذا موضع تفصيلها، لكن أخص ما يستدلون به أن الله ذكر الصلاة والزكاة في القرآن على الاقتران، وهذا وجه ليس بلازم. القول الثاني: أن ترك الزكاة ليس كفراً. وهذا المذهب عليه طائفة من الفقهاء، وهو المشهور في مذهب مرجئة الفقهاء ابتداءً، وعليه غيرهم من الفقهاء. القول الثالث: أن ترك الزكاة ليس كفراً إلا إذا قاتل عليه، وهذه هي الرواية الراجحة في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وهو الصحيح. وأخص ما يستدل به كثير من الفقهاء الذين ينتصرون لعدم كفر غير المقاتل حديث أبي هريرة في الصحيحين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها ...) إلخ، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار) وهو دليل على أنه ليس من الكفار، بل من أهل الوعيد. وهذا وجه صريح في الاستدلال من جهة السنة، وهناك وجه صريح من القرآن أن هذا مؤمن بالله ورسوله، ومصدق، ومصلِّ، ومؤمن بالله وملائكته .. إلخ فلا يكون كافراً، وهذا الوجه ذكره الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن مسألة ترك الزكاة. وبهذا يتبين أن السلف كانوا يفرقون بين حال من قاتل أبو بكر رضي الله عنه وبين حال من ترك الزكاة من الآحاد؛ فإن الإمام مالكاً يذهب إلى أن تارك الزكاة من الآحاد لا يكفر، ومع ذلك هو نفسه يذهب إلى أن من قاتلهم الصديق كانوا كفاراً مرتدين؛ مما يدل على أن ثمة تفريقاً عند السلف بين ترك الزكاة كآحاد وبين الذين قاتلهم الصديق من الممتنعين المنابذين لحجج الإسلام في القرآن والسنة، والتي استدل بها على وجوب دفع الزكاة إلى غير ذلك، فهذه القرائن المجتمعة الظاهرة تدل على إباءٍ في القلب. إذاً: تارك الزكاة إذا كان ممتنعاً يكون كافراً؛ ولذلك من دعي قضاءً إلى فعل الزكاة فامتنع عن أدائها، حتى قيل له: إن عقوبتك القتل ثم صبر على السيف؛ فإن هذا لا يكون إلا عن جحد وإباء، كما أن من دعي إلى الصلاة فلم يصلِّ حتى قتل فبالقطع أن هذا لا يقتل إلا كافراً مرتداً؛ لأنه يمتنع أن عاقلاً يصبر على السيف من غير كفر وارتداد وتكذيب في باطنه لهذا الحكم أو ذاك. هذا ملخص لمسألة قتال الصديق رضي الله عنه لمانعي الزكاة، وما فيها من الخلاف بين المتأخرين والمتقدمين. وهذا يدل على أن ثمة مسائل قد يحكي المتأخرون فيها مذهباً هو الشائع عند جمهورهم، ويكون مذهب الجمهور من المتقدمين على خلافه. وعلى هذا ليس بلازم أن جمهور المتأخرين يوافقون جمهور المتقدمين، بل قد يكون العكس. وقد تقدم أنه لم ينضبط عن أحد من السلف أنه صرح أن قتال الصديق لهؤلاء ليس قتال ردة، ومع ذلك لا يعتبر هذا الإجماع إجماعاً قطعياً .. لكن قد صرح بعض الأئمة كالمصنف وغيره بكونه إجماعاً كفهمٍ في الإجماع، والله أعلم.

شرح كتاب الإيمان [4]

شرح كتاب الإيمان [4] من الأدلة التي استدل بها أهل السنة والجماعة على بطلان قول مرجئة الفقهاء في الإيمان: أن الشرائع في دين الإسلام كلما نزل شيء منها ألحق باسم الإيمان، كما أنهم يردون على قولهم بعدم زيادة الإيمان ونقصه بأن الإيمان ذكر مطلقاً ومقيداً، وذكره بهذه الصورة دليل على زيادته ونقصه؛ لأن الله أثبت أصله دون الإسلام أو العمل في مقام، وذكره على التمام والكمال في مقام آخر.

من الأدلة على أن الإيمان قول وعمل: أنه كلما نزلت شريعة التحقت باسم الإيمان

من الأدلة على أن الإيمان قول وعمل: أنه كلما نزلت شريعة التحقت باسم الإيمان قال المصنف رحمه الله: [ثم كذلك كانت شرائع الإسلام كلها، كلما نزلت شريعة صارت مضافة إلى ما قبلها لاحقة به، ويشملها جميعاً اسم الإيمان فيقال لأهله: مؤمنون]. قوله رحمه الله: (ثم كذلك كانت شرائع الإسلام كلها) هذا إلحاق بما ذكره في شأن مسألة الزكاة، وهو لا يريد بهذا أن كل شرائع الإسلام تعطى الحكم الذي ذكره في مسألة الزكاة وقتال أبي بكر لمانعيها، وإنما مراده أن الإيمان ابتدأ بذكر الشهادتين، ثم كلما نزلت شريعة من الشرائع فإنها تكون داخلة في مسماه. أما أن الشريعة الواحدة إذا تركها قوم، وقاتلوا على تركها، وامتنعوا عنها يكفرون بذلك فإن هذا ليس مراداً له؛ فإن هذا أمرٌ اختص بمسألة الزكاة وأمثالها من المسائل الكبار. وأما ما دونها من المسائل فإن هذا الحكم لا يلزم أن يكون مطرداً فيها. [وهذا هو الموضع الذي غلط فيه من ذهب إلى أن الإيمان بالقول، لما سمعوا تسمية الله إياهم مؤمنين، أوجبوا لهم الإيمان كله بكماله، كما غلطوا في تأويل حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإيمان ما هو؟ فقال: (أن تؤمن بالله ..) وكذا وكذا، وحين سأله الذي عليه رقبة مؤمنة عن عتق العجمية فأمر بعتقها وسماها مؤمنة، وإنما هذا على ما أعلمتك من دخولهم في الإيمان، ومن قبولهم وتصديقهم بما نزل منه، وإنما كان ينزل متفرقاً كنزول القرآن]. هذا كله تقرير لاستدلاله الأول: أنه كلما نزلت شريعة من الشرائع التحقت باسم الإيمان. وهو بهذه الطريقة يشير إلى أصل عند المرجئة في الجملة -من الفقهاء وغيرهم- في تقريرهم لمسألة الإيمان، وهو أنهم اعتبروا ظاهر جملة من النصوص النبوية وكذلك جملة من الآيات القرآنية التي فيها ذكر الإيمان قبل ورود العمل، فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77] فأثبت لهم الإيمان قبل ثبوت العمل، فإن المدعو إلى فعل العمل ثبت له الاسم قبل فعل العمل. وقد سبق تقرير استدلال السلف بهذا النوع من الآيات -وهي آيات النداء-. ومن هنا نقول: إن كثيراً من الآيات في باب الإيمان هي محل تردد من جهة الاستدلال بين أئمة السلف وبين المرجئة، والفقهاء هم أخص طوائف المرجئة استدلالاً بآيات القرآن، بمعنى أن مرجئة الفقهاء -كـ حماد ومن وافقه من المتقدمين من الفقهاء- ما كانوا يستعملون في الاستدلال على قولهم الجمل الكلامية أو الأصول الكلامية النظرية التي أدخلها غلاة المرجئة فيما بعد، إنما كانوا يعتبرون بعض ظواهر النصوص. وأما الجواب عن قول المرجئة: إن الله ناداهم باسم الإيمان قبل فعلهم العمل؛ فدل على ثبوته قبل ذلك. فيقال: هذا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، فإنه بإجماع أهل السنة وبإجماع أئمة السلف المخالفين لأئمة المرجئة من الفقهاء وغيرهم، أن الناس قبل فعلهم العمل -الذي ابتدأ ذكره بخطاب مختص- على الإيمان، وإنما الاعتبار بتحقيق هذا الأمر بعد وروده، فمن حققه فقد استكمل الإيمان وزاد إيمانه، ومن لم يحقق الأمر؛ فإن كان الأمر في الأصول فتركه فقد ترك أصل الإيمان، وإن كان من مسائل الفروع فتركه فقد نقص إيمانه. وعلى هذا يمكن القول من وجه آخر: إن استدلال المرجئة فرع -وقد أشار إلى هذا المصنف- عن قولهم: إن الإيمان واحد لا يزيد ولا ينقص.

استعمال الإيمان مطلقا ومقيدا

استعمال الإيمان مطلقاً ومقيداً وهنا قاعدة تطرد، وبها يعرف الجواب عن آيات الإيمان وأحاديثه في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهي: أن الإيمان يستعمل مطلقاً ويستعمل مقيداً، فإذا استعمل مطلقاً أريد به مراد، وإذا استعمل مقيداً أريد به مراد، والمرادان وإن اختلفا باعتبار السياقين إلا أن اختلافهما لا يستلزم اختلاف المراد بمسمى الإيمان في الشرع. والمقصود باستعماله مطلقاً هو ذكره على وجه الإطلاق، إما بذكره باسم الإيمان أو بذكره صفة للمؤمنين. فمن الأول: قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه وأصله في البخاري: (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث وفد عبد القيس وهو في الصحيحين: (الإيمان: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم) ومن الثاني: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] والمراد بالإيمان في هذا الاستعمال -أي: المطلق- الدين؛ فإن اسم الإيمان في السياقات السابقة تدخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة. مثلاً: قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] هذا تحقيق للإيمان في القلب. {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} [الأنفال:2] وقوله سبحانه وتعالى: (زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً) هذا الإطلاق يشمل الظاهر والباطن. وقوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] هذا من مسائل القلب. ثم قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3] هذا من مسائل العمل. فهذا بيان كون الإيمان قولاً وعملاً. وأما الاستعمال المقيد فهو: أن يقترن بذكر اسم الإيمان اسم الإسلام أو العمل. فمن الأول: قول الله تعالى: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] وتفريق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل بينهما. ومن الثاني: قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف:107] وهذا الاستعمال يراد به وجه من الاختصاص، كأن يراد به أصل الإيمان الذي هو القلب، وهو الإيمان الذي ذكر مع الإسلام في قول الله تعالى: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] فمن صريح السياق أن الإيمان أشرف من الإسلام، وإنما أريد بالإسلام هنا الظاهر من الأعمال؛ ولهذا قال: {وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]. فإذا استعمل الإيمان في الكتاب أو السنة مقيداً فإن ما قارنه أو قيده -وهو الإسلام أو العمل الصالح- يكون خارجاً عن مسماه -أي: عن مسمى الإيمان- في هذا السياق وإن كان لازماً له، وخروجه عن مسماه في هذا السياق لا يستلزم خروجه عن مسماه في سائر السياقات، والدليل على أنه لا يستلزم: أن الله أدخل الأعمال الصالحة في الإيمان في ذكر الإيمان المطلق؛ فخروجه عن مسماه في هذا السياق لا يستلزم الخروج في سائر السياقات، فضلاً عن الحقيقة الإيمانية الشرعية التي هي مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتي هي مجموع السياقات المطلقة والمقيدة. وهذا الأصل من فقهه بان له تفصيل السلف في هذه المسألة، وبان له أن غلط المرجئة من عدم فقههم لهذا الأصل. وهذا الأصل هو الطريق المحقق في هذه المسألة، ويتفرع عنه أن الإيمان له أصل وله كمال، وأنه يزيد وينقص.

إذا اقترن الإيمان بالعمل فهو من باب عطف الخاص على العام

إذا اقترن الإيمان بالعمل فهو من باب عطف الخاص على العام ويوجد جواب لبعض أهل السنة، وهو لا بأس به، لكنه ليس هو الجواب الراجح، حيث يقولون: إذا اقترن الإيمان بالعمل فإن هذا من باب عطف الخاص على العام، أي: إن المراد بالإيمان في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277] القول والعمل. فإذا قيل لهم: فكيف قيل: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)؟ قالوا: هذا من باب عطف الخاص على العام كقولك: جاء الرجال وزيد. وهذا جواب لا بأس به، لكنه ليس هو الجواب الراجح؛ لأن المراد هنا: بيان أن الإيمان أصل، وأن له تماماً وكمالاً وهو الأعمال الصالحة، ولهذا رجح الإمام ابن تيمية رحمه الله هذا الجواب في مقام التقييد، سواء قيد بالعمل أو قيد باسم الإسلام.

الرد على جميع فرق المرجئة والوعيدية بأن الإيمان يستعمل مطلقا ومقيدا

الرد على جميع فرق المرجئة والوعيدية بأن الإيمان يستعمل مطلقاً ومقيداً وهذا الفقه لكون الإيمان يستعمل مطلقاً ويستعمل مقيداً يحصل به الرد على جميع طوائف المرجئة والوعيدية؛ فإن الوعيدية اعتبروا من النصوص السياق المطلق، واستدلوا به على أن الله سبحانه وتعالى لا يسمي المؤمنين إلا وقد استكملوا الأعمال الظاهرة والباطنة. فمن يقرأ في كتب المعتزلة يجد أنهم إذا استدلوا على قولهم يستعملون قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] إلى أمثال ذلك. وإذا قيل: ما وجه هذا التنوع في كتاب الله وفي كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قيل: إنما تنوع ذكر الإيمان؛ لأن الإيمان ليس واحداً، ولهذا نقول: إنَّ ذكره مطلقاً وذكره مقيداً دليلٌ قاطع على كون الإيمان يزيد وينقص؛ لأن الله أثبت أصله دون الإسلام أو العمل في مقام، وفي مقام آخر ذكره على التمام والكمال. أما قول المصنف: "حين سئل عن الإيمان ما هو؟ فقال: (أن تؤمن بالله ...) فهو يشير إلى حديث جبريل، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الإيمان في حديث جبريل ذكره في القلب والاعتقاد، وهو الإيمان بالله وملائكته ... إلخ، فنقول: هذا السياق في ذكر الإيمان المقيد؛ لأنه قيد باسم الإسلام، ولهذا إذا ذكر الإيمان مقيداً فإنما يراد أصله. ومن تأمل آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي ذكرت الإيمان مقيداً إما باسم الإسلام وإما باسم العمل، يرى أن الإيمان يذكر في مورد الإيمان القلبي لا في مورد العمل، وهذا دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن له نقصاً وكمالاً، وهو دليل على الحقيقة التي سبق أن أشرنا إليها وهي أن أصل الإيمان في القلب، والسلف وإن قالوا: هو قول وعمل، وجعلوا العمل أصلاً في الإيمان إلا أنهم متفقون أن أصل الإيمان في القلب، وهو محل اتفاق بين السلف: أن أصل الإيمان في القلب.

استدلال المرجئة على مذهبهم بحديث الجارية والجواب عنه

استدلال المرجئة على مذهبهم بحديث الجارية والجواب عنه قال: "وحين سأله الذي عليه رقبة مؤمنة عن عتق العجمية" قوله هذا إشارة إلى حديث معاوية بن الحكم السلمي، وهو حديث رواه مسلم في صحيحه، في قصة معروفة في مجيء معاوية بن الحكم وما تحدث به من القول في الصلاة، فلما طاب له خلق الرسول صلى الله عليه وسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مسائل، وكان بآخر مسائله أن قال: (وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوَّانية، فاطلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكةً. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظّم ذلك علي، قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها. قال: فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة). وقد استدل بهذا الحديث المرجئة فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى للحكم بإيمانها بمجرد أنها شهدت أن الله في السماء وأنه رسول الله؛ فدل ذلك على أن الإيمان هو التصديق، أو كما يقول فقهاؤهم: فدل على أن العمل لا يدخل في الإيمان. وقد أجيب عن هذا الحديث بجوابين: الجواب الأول: أن لفظ "فإنها مؤمنة" فيه إعلال، ولهذا قال الإمام أحمد في بعض جواباته: "ليس جميع الناس يقولون: إنها مؤمنة" يقصد بذلك الرواة. الجواب الثاني: على التسليم بصحة هذا الحرف -وهو في مسلم كما تقدم- فإنه ليس مشكلاً، بل هو على القاعدة المطردة، لكن السؤال: هل يعد هذا السياق النبوي من سياق الإيمان المطلق أو من سياق الإيمان المقيد؟ الجواب: هذا السياق من سياق الإيمان المقيد. وقد يقول قائل: أين التقييد؛ فإنه لم يذكر الإسلام ولا العمل؟ الجواب: ليس بالضرورة أن يقتصر التقييد على هذين؛ فإن التقييد إما أن يكون بالأسماء، وإما أن يكون بالأحوال. وفي هذا الحديث المقام ليس مقام ثناء وتزكية، بل هو مقام إجراء لحكم من الأحكام الدنيوية، وهو العتاق. وإذا كان الإيمان في مقام إجراء الأحكام الدنيوية، فإنه يعتبر أصله ولا يعتبر كماله، وهذا إبانة لكون الإيمان له أصل وكمال، وإبانة لكونه يزيد وينقص، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ومع ذلك اتفق الفقهاء: أن المراد بالإيمان هنا الأصل، ولهذا لو أعتق فاسقاً صح عتقه بإجماع أهل العمل. فقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] أي: معها أصل الإيمان. ويظهر هذا واضحاً عند التأمل في تدبير الشارع صلى الله عليه وسلم للسياقات، ففي حديث سعد بن أبي وقاص -وهو في الصحيحين- الذي قال فيه: (قسم النبي قسماً فقلت: يا رسول الله! أعط فلاناً فإنه مؤمن. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم. قال سعد: أقولها ثلاثاً ويرددها عليَّ ثلاثاً: أو مسلم. ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه، مخافة أن يكبه الله في النار) هنا السؤال: لماذا منع النبي صلى الله عليه وسلم سعداً أن يسمي الرجل مؤمناً، وقد سمى صلى الله عليه وسلم الجارية مؤمنة، مع أن الرجل الذي زكاه سعد بالقطع أنه يشهد أن الله في السماء وأن محمداً رسول الله، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: (وغيره أحب إلي منه) فالرجل واضح أنه من المؤمنين بدليل تزكية سعد له وبدليل إقرار النبي لجملة تزكيته، وإبانته صلى الله عليه وسلم بأن له قسطاً من محبته واختصاصه؟ الجواب: لأن المقام يختلف، ففي حديث الجارية المقام مقام تقييد بالحال، ولهذا إذا ذكر اسم الإيمان في مقام إجراء الأحكام الدنيوية كالإرث، والعتاق، والولاية وما إلى ذلك فإنه يعتبر أصله. وأما إذا اعتبر في مقام الثناء والتزكية، فإنه يعتبر بتمامه؛ ولذلك لما كان سعد رضي الله عنه يريد بقوله: (يا رسول الله! أعط فلاناً فإنه مؤمن) أنه مزكى بالإيمان المحقق، أي أنه من أهل التقوى ومن أهل التحقيق، نهاه صلى الله عليه وسلم؛ لأن التزكية على هذا الإطلاق ليست مما قصد الشارع إلى إطلاقه. هذا هو وجه تعدد جوابه صلى الله عليه وسلم أو تقريره في المقامين. فهذا الباب لابد من فقهه حتى لا يقع اختلاط في تقرير مسألة الإيمان وما يتعلق بها من الدلائل.

من الأدلة على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان

من الأدلة على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان [والشاهد لما نقول، والدليل عليه كتاب الله تبارك وتعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه، فمن الكتاب قوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] في مواضع من القرآن مثل هذا]. فهذا السياق من كتاب الله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3] يدل على أن الأعمال الظاهرة والباطنة تدخل في اسم الإيمان. [أفلست ترى أن الله تبارك وتعالى لم ينزل عليهم الإيمان جملة كما لم ينزل القرآن جملة؟ فهذه الحجة من الكتاب، فلو كان الإيمان مكملاً بذلك الإقرار ما كان للزيادة إذاً معنى ولا لذكرها موضع]. أي: لو كان الإيمان هو محض التصديق الأول لما أمكن زيادته ونقصانه، فلما ذكر الله في كتابه -كثيراً- أن الإيمان يزيد، وأن المؤمنين يزدادون إيماناً دل على أن جميع الشرائع تدخل فيه.

المتواتر والآحاد

المتواتر والآحاد [وأما الحجة من السنة والآثار المتواترة في هذا المعنى من زيادات قواعد الإيمان بعضها بعد بعض]. مراده رحمه الله بالتواتر: هو مراد من ذكر لفظ التواتر من الأئمة كـ الشافعي وأمثاله، فهم يريدون بمتواتر الآثار أو بمتواتر الحديث: ما استفاض وانضبط نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقاه أئمة الحديث بالقبول .. هذا هو المتواتر في مراد السلف، وهذا هو المتواتر في اقتضاء الشرع، وهذا هو المتواتر في العقل، وهو كثير في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان جملة مما يسمى متواتراً على هذا الوجه قد يكون أصله غريباً كحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات) وهنا مسألة لا بد من الإشارة إليها، وهي: مسألة الآحاد والمتواتر، فإن القارئ لكلام المتقدمين يجد أن منهم -كالمصنف والشافعي - مَنْ يذكرون لفظ متواتر السنة أو متواتر الأثر وما إلى ذلك، وهؤلاء مرادهم بالمتواتر ما استفاض وانضبط نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقاه أئمة الحديث بالقبول، وإن كان أصله قد يكون غريباً أو ما إلى ذلك. وعليه فجميع أحاديث أصول الدين: كنزول الله سبحانه وتعالى إلى سماء الدنيا، وأحاديث الشفاعة، وأحاديث عذاب القبر وأمثاله .. هي عند السلف من المتواتر. وأما التقسيم الذي ذكر في بعض كتب المصطلح، وهو: أن السنة تنقسم إلى متواتر وآحاد. وأن المتواتر هو: ما رواه جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، والآحاد: ما عدا المتواتر، فهذا التقسيم تقسيم بدعي باعتبار حده لا باعتبار لفظه، أما باعتبار لفظه فهو اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح. فإن من قال: السنة آحاد ومتواتر، والمتواتر: هو المستفيض، والآحاد: ما لم يستفض، أو المتواتر: هو ما أجمع على ثبوته، والآحاد: ما تردد في ثبوته عند أئمة الحديث .. فهذا التقسيم بهذا الحد لا يعارض؛ لأنه تقسيم على قدر من الاصطلاح والمعاني المناسبة. وأما إذا فسر المتواتر بما يوجد في بعض كتب الأصوليين، وكتب المصطلح المتأخرة، وهو: ما رواه جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأن الآحاد: ما عدا المتواتر. وإذا تأمل الباحث تفصيل حدهم فإنه يجد أنهم قد اختلفوا في عدد الجماعة التي ذكروها في قولهم (ما رواه جماعة) وفي الغالب يستقرون على عشرة تقريباً، فيلزم أن الحديث لا يكون متواتراً عن رسول صلى الله عليه وسلم إلا إذا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة عشرة، ورواه عن كل واحد من العشرة عشرة، فتكون الطبقة الثانية مائة، ورواه عن كل واحد من المائة عشرة، فتكون الطبقة الثالثة فإذا فسر المتواتر بهذا فهذا حد أصله من المعتزلة، وهو من بدعهم التي أدخلوها على سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان الطعن في آحاد روايات الصحابة منهج متقدم بدأه الخوارج، لكن لما جاء نظّار المعتزل نظروه على هذه الطريقة، ثم دخل على كتب الأصوليين. فإن قال قائل: كيف دخل على كتب الأصوليين وهم يكتبون في أصول فقه الشريعة؟! قيل: لا عجب؛ لأن أكثر من كتب في أصول الفقه هم المتكلمون، وأصل مادة المتكلمين المعتزلة، وقدماء النظار من الجهمية والأشاعرة والماتريدية أخذوا علم الكلام عن هؤلاء؛ فإن أبا الحسن الأشعري إنما أخذ علم الكلام عن المعتزلة، فقد كان معتزلياً ما يقارب الأربعين سنة من عمره. إذاً لا عجب أن ترى هذا في كتب أصول الفقه كالمعتمد لـ أبي حسين البصري، فهو وإن كان حنفياً لكنه معتزلي، والبرهان لـ أبي المعالي الجويني، والمحصول لـ محمد بن عمر الرازي، والمستصفى لـ أبي حامد الغزالي وهؤلاء كلهم أشعرية شافعية، وهم غالون في علم الكلام، وإن كان الغزالي متصوفاً من وجه آخر، فهذا باب آخر أيضاً. وكذلك لا عجب أن يدخل هذا الكلام -أيضاً- على من نقل عنهم ممن يلخص كتب متكلمة أهل الأصول وإن لم يكن هو متكلماً، كـ الموفق ابن قدامة رحمه الله، فإن روضة الناظر في الجملة تلخيص من كتاب المستصفى لـ أبي حامد. وكذلك علماء المصطلح من الحفاظ المتأخرين الذين قد ابتعد كثير منهم عن علم الكلام إلا أنهم تأثروا بأصحابه، فإنهم وإن اختلفوا عن المتكلمين إلا أنهم يشتركون معهم في النسبة والصحبة الفقهية. ومثال ذلك: الحافظ ابن حجر، فهو ليس متكلماً ولا يقول بعلم الكلام، ويرى الميل إلى طرق السلف وآثارهم، لكنه شافعي متأثر بأصحابه الشافعية، الذين هم إما متكلمون أو على تأثر كبير بعلم الكلام. فالمقصود: أن هذا الحد بمعناه بدعة في الإسلام؛ لأن أصحابه -أعني علماء الكلام الذين اخترعوه- لم يكونوا من أهل الرواية؛ فإن علماء المعتزلة على ما فيهم من القوة في باب العقليات وأمثاله إلا أنهم لم يكونوا من علماء الرواية، فهم لم يعتبروا حقيقة هذا التقسيم، وهل هو مطابق لواقع السنة وروايتها أم لا؟ ولما جاء من تقلد هذا التقسيم من الحفاظ -كـ ابن حجر وابن الصلاح مثلاً- أرادوا أن يبحثوا له عن مثال من السنة يصدق عليه بحسب أوجه الرواية والأسانيد والطرق أنه حديث متواتر، فكلما أوردوا مثالاً انقطع عليهم، حتى قال بعض الحفاظ المتأخرين العارفين بمخارج الأحاديث وطرقها: إن هذا الحد ليس له مثال. ومنهم من يقول: له مثال أو مثالان. فنقول: هب أن له عشرة أمثلة، فإنه يلزم من هذا أن عامة سنة النبي صلى الله عليه وسلم ليست متواترة، ونتيجة هذا أن عامة السنة تفيد الظن ولا تفيد العلم. وقد رتب المتكلمون على هذا أن الأحاديث الآحاد لا يعتد بها في العقائد، وحقيقة قولهم هي أن السنة لا يحتج بها في العقائد، وهذا تأخير لمقام النبوة والرسالة؛ لأنه يلزم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم ما بعث لتقرير مسائل أصول الدين. ولذا يجب إنكار هذا التعريف، وإن كان موجوداً في كتب ابن الصلاح وابن حجر رحمهما الله، فهؤلاء وإن كانوا أئمة حفاظ، لكن هذا التقسيم ليس من بنات فكرهم، بل هو تقسيم من النظار المتكلمين، وأصله من محدثات المعتزلة. أما المتواتر في كلام الأئمة: فهو ما انضبط نقله، وتلقاه أئمة الحديث -الذين لهم اعتبار في ضبط الرواية- بالقبول. وكثيراً ما يُرى الباحثون من أهل السنة وهم يجادلون المخالفين في مسألة الأحاديث المتواترة. فنقول: هب أننا لا نحتج بالآحاد، وهب أننا سلمنا أنه لا يحتج إلا بالمتواتر، فالسؤال لمن يقرر هذا الكلام: أين المتواتر؟ أين الأحاديث المتواترة في اليوم الآخر؟ أين الأحاديث المتواترة في عذاب القبر؟ أين الأحاديث المتواترة في صفات الله؟ أين الأحاديث المتواترة حتى في توحيد الألوهية؟ لكن إذا اعتبر التواتر على معنى السلف؛ فإن الأحاديث في باب توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، والصفات، والقبر، والشفاعة وأمثال ذلك تكون على هذه الطريقة جميعها متواترة.

من الأدلة على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان: حديث وفد عبد القيس

من الأدلة على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان: حديث وفد عبد القيس [ففي حديث منها أربع، وفي آخر خمس، وفي الثالث تسع، وفي الرابع أكثر من ذلك. فمن الأربع، حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه: (أن وفد عبد القيس قدموا عليه فقالوا: يا رسول الله! إنا هذا الحي من ربيعة، وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر، فلسنا نخلص إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نعمل به وندعو إليه من وراءنا. فقال: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: الإيمان -ثم فسره لهم-: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم، وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير) قال أبو عبيد: حدثناه عباد بن عباد المهلبي قال: حدثنا أبو جمرة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه بذلك]. هذا الحديث من رواية ابن عباس حديث متفق عليه، وقد أخرجه الإمام مسلم -أيضاً- في صحيحه من رواية أبي سعيد الخدري، وتفرد به. وهذا الحديث يعد من أشرف الأحاديث عند أهل السنة والجماعة في تقرير مسألة الإيمان ودخول العمل فيه، فهو صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان هنا بما فسر به الإسلام في حديث جبريل عليه السلام، فإنه لما جاء وفد عبد القيس قال: (آمركم بالإيمان بالله وحدة؛ أتدرون ما الإيمان بالله وحدة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم) فلم يقل: أن تؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وإنما قال: (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان). وعليه فمن قال من المرجئة -وهذا يقوله حتى فقهاؤهم-: إن دخول العمل في الإيمان هو من باب المجاز؛ يلزم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسر الإيمان لهم هنا؛ لأن المعاني المجازية يصح نفيها! وهذا غلط متين في تقرير المرجئة لمسألة العمل ودخوله في الإيمان، فإنه يلزم منه تفريغ النصوص من حقائقها الشرعية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا السياق لم يجبهم في تقرير مسألة الإيمان. إذاً: في ذكره صلى الله عليه وسلم لهذه الخصال في تقرير اسم الإيمان إبانة لمسألتين: المسألة الأولى: أن العمل داخل في مسمى الإيمان. المسألة الثانية: أن العمل أصل في الإيمان؛ لأن الشارع لما فسر الاسم المطلق جعل مادة تفسيره بالعمل؛ فدل على أن العمل أصل فيه، ولا سيما أن القوم إنما سألوا عن الأصل اللازم الذي تقع به النجاة. فإن قيل: إذا كانوا قد سألوا عن الأصل اللازم فلم لم يبين لهم صلى الله عليه وسلم المبدأ وهو تصديقات القلب؟ قيل: لأن القوم قد عرفوا أصول التصديق، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره فقد كانوا مسلمين، ولهذا أبان لهم الأصل الظاهر وهو العمل. أما قوله: (آمركم بأربع) ثم أمرهم بخمس .. فهذا مما تتجوز فيه العرب، وإنما أراد أن الأربع هي أصول الإيمان، وما زاد عليها فمن الشرائع، كقوله: (وأن تؤدوا خمس ما غنمتم). وقوله: (وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير) هذه منسوخة على الصحيح، وهو مذهب الجمهور وأصح الروايتين عن أحمد، فقد كان هذا التحريم في أول الأمر ثم نسخ بحديث بريدة رضي الله عنه: (نهيتكم عن الظروف، وإن ظرفاً لا يحل شيئاً ولا يحرمه، وكل مسكر حرام)

من الأدلة على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان حديث: (بني الإسلام على خمس)

من الأدلة على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان حديث: (بني الإسلام على خمس) [ومن الخمس حديث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت) قال أبو عبيد: حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي عن حنظلة بن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك]. الاستدلال بهذا الحديث مما يدل على أن للمصنف إشارات فاضلة في الفقه، فإن وجه استدلاله بحديث ابن عمر في مباني الإسلام على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان -مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس) ولم يقل الإيمان؟ - هو أن الإسلام إذا أطلق في كتاب الله أريد به الإيمان، ولهذا لما قال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) كان هذا اسماً للإسلام واسماً للإيمان. ولهذا لما ذكر الله سبحانه وتعالى الأنبياء ذكر إسلامهم، فقال تعالى عن إبراهيم: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128] ومن هنا فضلت طوائف من المرجئة اسم الإسلام على الإيمان، وعللوا ذلك بأن إبراهيم عليه السلام سأل ربه الإسلام ولم يسأله تحقيق الإيمان؛ فدل على أن اسم الإسلام أشرف. وهذا القول مجانب للصواب؛ لأن الإسلام المطلق يراد به الدين جميعه، بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] وقوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128] وقد يستعمل لفظ الإسلام ويراد به الظاهر فقط من العمل، كقوله تعالى في الأعراب: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14].

من الأدلة على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان: حديث: (إن للإسلام صوى ومنارا كمنار الطريق)

من الأدلة على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان: حديث: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق) [ومن التسع: حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق -قال أبو عبيد: "صوى" هي ما غلظ وارتفع من الأرض، واحدتها "صوة"- منها: أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره). قال أبو عبيد: حدثنيه يحيى بن سعيد العطار عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن رجل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم]. هذا الكلام إبانةٌ لتعدد شرائع الإيمان كما هو في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)؛ ففي هذا الحديث علق الشارع صلى الله عليه وسلم اسم الإيمان بالقول، وذلك في قوله: (فأعلاها قول لا إله إلا الله). وبعمل القلب، كما في قوله: (والحياء شعبة من الإيمان) وبالعمل الظاهر، كما في قوله: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق). وهذا الحديث فيه فضائل في تقرير مذهب السلف، وهو: أنه يمتنع تأويله بالمجاز؛ وذلك لأن الشارع صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) فجعل الواحدة من هذه الخصال شعبة مختصة لوحدها. وإذا كان الحياء شعبة من الإيمان وهو في القلب فمن باب أولى أن ما هو أجل منه من أعمال القلوب كالمحبة لله ورسوله، والخوف والرجاء وأمثال ذلك أنها أصول في الإيمان. وإذا كان إماطة الأذى عن الطريق شعبة من الإيمان فمن باب أولى أن يكون ما فوقه من الواجبات -فضلاً عن المباني والأركان- من شعب الإيمان.

مسائل تتعلق بترك العمل

مسائل تتعلق بترك العمل وقد أشار المصنف في قوله: (ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره) إلى مسائل يكثر الخلاف والنظر فيها، وهي ثلاث مسائل تتعلق بترك العمل: المسألة الأولى: اتفق أهل السنة والجماعة وعامة المسلمين على أن ترك آحاد الأعمال -أي: الأعمال المأمور بها- لا يوجب الكفر والخروج من الإيمان .. وهذا كقاعدة كلية مطردة، ولم يعارض في ذلك إلا الغلاة كالخوارج والمعتزلة. المسألة الثانية: من ترك جملة العمل -أي: من ترك جميع الأعمال الظاهرة، وهو ما يسمى في التعبير المعاصر بترك جنس العمل- هل يكون مؤمناً بما في قلبه أم أنه يكون كافراً بتركه هذا الأصل وهو الأعمال الظاهرة؟ هذه مسألة يأتي لها بحث إن شاء الله. المسألة الثالثة: ما يتعلق لا بترك جنس العمل ولا بترك مطلق آحاده، وإنما بالترك لأحد المباني الأربعة، والتي هي: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، مع الإقرار بوجوبها.

حكم ترك الصلاة

حكم ترك الصلاة السؤال هنا: هل يوجد إجماع للسلف على أن ترك أحد المباني الأربعة يكون كفراً وردةً وخروجاً من الإيمان .. إلى أمثال هذه العبارات؟ أجلُّ هذه المسائل الصلاة، فهل تركها مع الإقرار بوجوبها يكون كفراً؟ المسألة من جهة تحقق الإجماع أو عدم تحققه مسألة نزاع.

القول بأن ترك الصلاة كفر بالإجماع

القول بأن ترك الصلاة كفر بالإجماع نص إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ إسحاق بن راهويه -وأيوب السختياني وجماعة على أن ثمة إجماعاً عند الأئمة على أن ترك الصلاة يعتبر كفراً، قال أيوب: "ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه". وقال إسحاق بن إبراهيم فيما رواه عنه محمد بن نصر المروزي وأبو عمر ابن عبد البر: "كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا: أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر". ومن هنا ذهب جملة من أصحاب أحمد، وبعض أهل العلم من المعاصرين إلى القول بأن ترك الصلاة كفر بالإجماع. وهذا القول -أي: القول بكون ترك الصلاة كفراً مجمعاً عليه بين الصحابة والأئمة من السلف- قولٌ ضعيف.

وجود الخلاف في حكم ترك الصلاة

وجود الخلاف في حكم ترك الصلاة الصواب: أن المسألة ليس فيها إجماع عند السلف؛ لأن هذا الإجماع الذي ذكره إسحاق بن إبراهيم يعلم بالضرورة أنه ممتنع التحقق؛ فإن من يقولون بالإجماع أو من يكفرون تارك الصلاة لم يتفقوا على أن ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها كفر وخروج من الملة، بل عامة أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين على خلاف هذا، وهو الذي تدل عليه سائر النصوص الصريحة. وعلى هذا يكون كلام إسحاق فيه تعذر، إلا إذا حمل كلامه على الامتناع، ولهذا من نقلوا كلام إسحاق نقلوه على وجهين: الوجه الأول: منهم من يرويه عنه بالوجه السابق. الوجه الثاني: ومنهم من يرويه عنه بقوله: "كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا: أن تارك الصلاة عمداً من غير عذرٍ حتى يذهب وقتها كافر، إذا أبى من قضاءها، وقال: لا أصليها". فإذا حمل -أي قوله: وأبى قضاءها- على الممتنع فلا شك أن من ترك صلاةً ودعي إليها وامتنع عنها إلى حد القتل فإنه يكون كافراً؛ ولهذا قال شيخ الإسلام: "من دعي إلى صلاة واحدةٍ أو أكثر فامتنع، فقيل: هذا حده القتل، فصبر على السيف، فهذا كافر باتفاق المسلمين؛ قال: لأنه يمتنع أن يكون قتل على الفسق. قال: وأما قول بعض أصحاب الأئمة الثلاثة أن هذا يقتل على الفسق فهذا غلط على الشريعة وعلى أئمتهم". وبهذا يكون الأظهر في هذا أن هذه المسألة مسألة نزاع بين السلف، وإن كان يمكن أن يقال: إن الجمهور من السلف كانوا يذهبون إلى أن تارك الصلاة كافر. لكن الخلاف معروف ومشهور ومضاف للأكابر كـ الزهري ومالك والشافعي، فضلاً عن مرجئة الفقهاء، لكن لا يذكر مرجئة الفقهاء هنا؛ لأن الإشكال في أصلهم، وإنما نريد هنا بالسلف الذين يقولون: الإيمان قول وعمل. وأما قول عبد الله بن شقيق: "لم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة" فهو أثر محفوظ عن عبد الله بن شقيق، لكنّ مالكاً والزهري وإن كانوا متأخرين عن عبد الله بن شقيق إلا أنهم أعلم بآثار الصحابة رضي الله عنهم وبسننهم وبهديهم من عبد الله بن شقيق، والزهري لا شك أنه فوق عبد الله بن شقيق بمراحل في ضبط آثار الصحابة رضي الله عنهم، حتى إنه -كما قال الإمام ابن تيمية - لم يحفظ عليه غلط. فالمقصود: أن الأكابر كـ الزهري ومالك، وبعض أئمة المدينة، وبعض أئمة العراق ما كانوا يذهبون إلى أن تارك الصلاة كافر، وهذا يفيد أن هذه المسألة مسألة نزاع.

تنبيه على الكلام عن حكم ترك الصلاة

تنبيه على الكلام عن حكم ترك الصلاة وهنا ننبه إلى أنه قد يكون لدى بعض طلبة العلم عناية بقدر الصلاة وتعظيمها؛ فيحب أن ينزع إلى أن ترك الصلاة كفر بالإجماع، وأن المسألة مغلقة، وهذا ليس بلازم؛ لأن قول إسحاق لو أخذ على ظاهره للزم عنه تكفير كثير من المسلمين، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إن كثيراً من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس ولا هم بتاركيها بالجملة، بل يصلون أحياناً ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام". وكذلك كلام عبد الله بن شقيق يدل على أن هذا هو ظاهر مذهب الصحابة؛ لكن لا يدل على أن هذا إجماع متحقق للصحابة، وفرق بين المسألتين، فإن معنى القول بإنه إجماع متحقق معناه أنه لا يجوز الاستعلان بخلافه، ولو كان إجماعاً لما أمكن فواته على الزهري ومالك وأمثال هؤلاء، وكذلك اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله في مسألة تارك الصلاة هل يكفر أو لا يكفر، وإن كان الصحيح في مذهبه أن تارك الصلاة كافر، لكن جملة من محققي الحنابلة لا يذهبون إلى كفره، ويحققون أن هذا هو مذهب أحمد. فالمقصود أن هذه المسألة لها جهتان:- الجهة الأولى: تعظيم قدر الصلاة، وهذا لابد منه. الجهة الثانية: تعظيم ديانة المسلمين أيضاً، فلا ينبغي أن يفتات فيها بتسرع إلى درجة أن يقال: إن ترك الصلاة الواحدة يعد خروجاً من الملة، إلا إذا كان العالم قد بان له باجتهاد من الشريعة أن ترك صلاة واحدة يكون كفراً وخروجاً من الملة فأفتى بذلك فهذا اجتهاد قد سبق إليه أكابر من السلف والخلف، ولكن ليس من مقصود السنة والجماعة أن يقال: إن ترك الصلاة كفر بالإجماع.

ذكر الخلاف في حكم ترك الصلاة

ذكر الخلاف في حكم ترك الصلاة فإن قال قائل: ذكر الخلاف قد يهون من شأن الصلاة عند العامة أو عند من يتساهل بها. قيل: هنا قاعدة، وهي: أنه عند الحديث إلى العامة والسواد من المسلمين على المنبر وفي المجالس العامة يقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) وليس من الفقه أن يقال -إذا كان القائل لا يرى كفر تارك الصلاة-: والصحيح أن هذا ليس من الكفر المطلق بل هو كفر دون كفر؛ فإن العامة والسواد من المسلمين يُحدثون بما كان الرسول يحدث به الصحابة؛ لأن حديثه صلى الله عليه وسلم لم يكن للصحابة وحدهم، بل هو حديث للأمة جميعها. لكن إذا جاء مقام التحقيق أو وجد رجل قد مات وهو يترك بعض الصلوات، وردت مسائل: هل يغسل؟ هل يصلى عليه؟ هل يرث؟ هل يورث؟ هل يدعى له بالرحمة؟ هل يعد من المسلمين؟ .. فهذا مقام شديد أيضاً، وليس من السهولة أن يقال: من ترك صلاةً حتى خرج وقتها لا يصلى عليه، ولا يكفن، ولا يدفن في مقابر المسلمين أي: يعطى جملة أحكام الكفار. وقد استدل الموفق ابن قدامة رحمه الله على أن ترك الصلاة ليس كفراً بالإجماع. فقال: "لا نعلم في عصر من الأعصار أحداً من تاركي الصلاة تُرك تغسيله، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ولا منع ورثتُه ميراثَه، ولا منع من ميراث مورثه، ولا فرّق بين زوجين لترك صلاة من أحدهما، مع كثرة تاركي الصلاة، ولو كان كافراً لثبتت هذه الأحكام كلها". وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذا الاستدلال من الموفق وغيره من العلماء فقال: "إن كثيراً من يظن أن من قيل: هو كافر، فإنه يجب أن تجري عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة، فلا يرث ولا يورث، ولا يناكح، حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع، وليس الأمر كذلك". فهو يقرر أن هذا الاستدلال غلط من جملة من الفقهاء من أصحاب الأئمة؛ فقد فرضوا أن من قيل عنه: إنه مرتد أنه يلزم أن تطبق أحكام الردة الظاهرة عليه، والصحيح أن هذا غير لازم. فإن تطبيق أحكام الردة إنما يكون بحسب قيام الحجة، وفرق بين الكفر الذي يوافي العبد به الله، وبين الكفر الظاهر الذي تقوم عليه الحجة.

القول الراجح في حكم ترك الصلاة

القول الراجح في حكم ترك الصلاة محصل مسألة ترك الصلاة أن ظاهر مذهب الصحابة أن ترك الصلاة كفر، ومن الممكن أن يقال على تقسيم الأصوليين للإجماع: إن هذا إجماع سكوتي للصحابة؛ لأن النقلة كـ عبد الله بن شقيق وغيره نقلوا أن الصحابة كانوا يذهبون إلى كفر تارك الصلاة، ولم ينضبط عن صحابي واحد أنه ذهب إلى أن تارك الصلاة ليس كافراً، أو أن ترك الصلاة ليس كفراً. فلهذا يمكن أن يقال: إن هذا قدر من الإجماع السكوتي، ولكن الإجماع السكوتي ليس حجةً قاطعة، وجملة كثيرة من المسائل على هذا القدر ولا تكون من المسائل القاطعة. هذا هو أقوى ما يقال في الإجماع على مسألة تارك الصلاة، أما أنه إجماع قطعي بمنزلة الإجماع على أن أفعال العباد مخلوقة، وأن الإيمان قول وعمل وأمثال ذلك فهذا ليس بصحيح، وإذا قيل: نقله إسحاق؛ قيل: خالف مالك. وإذا قيل: قال أيوب؛ قيل: خالف الزهري، والزهري أجلُّ من إسحاق وأيوب عند الأئمة ولا شك. وبهذا يظهر أن المسألة فيها قدر من الخلاف، وإن كان الراجح أن تارك الصلاة كافر، أما كفره فلحديث بريدة وجابر بن عبد الله، وغيرها من الأدلة.

مسألة حكم ترك الصلاة وعلاقتها بمذهب المرجئة

مسألة حكم ترك الصلاة وعلاقتها بمذهب المرجئة هنا مسألة وهي: من لم يكفر تارك الصلاة، هل هذا أثر من المرجئة عليه؟ بعض من ينتصر بقوة لهذه المسألة يقول: إن من لم يكفر تارك الصلاة فقد دخل عليه الأثر من المرجئة. والصحيح عدم ذلك، فقد كان الزهري من أشد الناس على المرجئة، إلى درجة أنه في أحاديث الوعد كقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة) وغيره من الأحاديث، كان الزهري يذهب فيها إلى تأويل لم يوافقه عليه الجمهور من الأئمة. فقد كان يقول عن هذه الأحاديث التي علق النبي صلى الله عليه وسلم فيها دخول الجنة على كلمة الشهادتين: "إنما كان هذا في أول الإسلام، قبل نزول الفرائض والأمر والنهي"، وهذا التأويل بعيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث بهذه الأحاديث في المدينة النبوية. ولكن الزهري أجاب بهذا الجواب من باب إغلاق الرد على المرجئة؛ لأنه كان من أفطن الناس في مسألة الإرجاء والرد على أصحابها. لكن ننبه إلى أن هناك فرقاً بين من لم يكفر تارك الصلاة من الأئمة لكونه لم ير كفره بالأدلة، وبين من يقول إنه ليس بكافر؛ لأن الصلاة عمل، والعمل لا يدخل في مسمى الإيمان .. ومن هنا يتبين أن هناك فرقاً بين ترك أبي حنيفة لتكفيره، وبين ترك مالك والشافعي لتكفيره، فترك مالك والشافعي اجتهاد، يقال عنه: إنه مرجوح، أما ترك أبي حنيفة لكفر تارك الصلاة فهو بدعة؛ لأنه بناه على أن الصلاة عمل، والعمل لا يدخل في مسمى الإيمان. أي: من قال: إن ترك الصلاة ليس كفراً وكان معتبره أنها عمل والعمل لا يدخل في مسمى الإيمان فهذه بدعة المرجئة، وإن كان معتبره أن الأدلة لم تظهر بذلك فهذا قولٌ مما يسوغ فيه الاجتهاد، وإن كان مرجوحاً ومخالفاً لظواهر النصوص.

حكم ترك الزكاة والصوم والحج

حكم ترك الزكاة والصوم والحج إذا تحقق هذا في مسألة الصلاة فمسألة الصلاة والصوم والحج من باب أولى، بمعنى أنه ليس فيها إجماع. فالزكاة لم ينقل إمام من الأئمة الإجماع على كفر تاركها، بخلاف الممتنعة الذين قاتلهم الصديق؛ وهم شيء آخر، فإن من تركوا الزكاة وهم أهل شوكة ومنعة وامتنعوا وقاتلوا كفار، وأهل ردة كما هو ظاهر مذهب الصحابة، وقد حكي الإجماع عليه كما سبق. أما إذا ترك واحد من المسلمين الزكاة، ولم يحتسب عليه، فإن هذا الترك هل يعد كفراً وخروجاً من الملة أولا هذه مسألة نزاع، ولم يقل أحد من السلف أنها إجماع كمسألة الصلاة، وقد تقدم أن الأظهر أنه ليس بكافر إذا تركها لمجرد الترك، لحديث أبي هريرة: (فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار) ولغير ذلك من الأدلة. ومسألة الصوم من باب أولى؛ لأنه إذا لم يكفر بترك الزكاة فمن باب أولى مسألة الصوم، وإذا كانت مسألة الزكاة مسألة خلاف فمن باب أولى أن الصوم والحج مسائل خلاف. وعليه فالقدر المعتدل في هذه المسائل: أن ترك الصلاة كفر، وترك الزكاة كفر إن قاتل عليها، هذا هو ظاهر الأدلة، لكنها ليست من مسائل الإجماع.

حكم ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج جميعا

حكم ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج جميعاً وهذا الحكم السابق مقولٌ في ترك آحاد المباني الأربعة، أما من جمع ترك المباني الأربعة:- بمعنى أنه تارك للصلاة، تارك للزكاة، تارك للصوم، تارك للحج- فإن هذا لا يكون إلا عن كفر، ولهذا لا يمكن أن يقال أن مالكاً رحمه الله الذي لا يذهب إلى كفر تارك الصلاة لا يذهب إلى كفر من جمع ترك المباني الأربعة .. وإن كان هذا تخريجاً لبعض أصحاب مالك وبعض أصحاب الشافعي على مذهبهما في تارك الصلاة، ولكن هذا التخريج ليس بصحيح؛ لأنه يعلم بالشرع والعقل أن من ترك الصلاة وحدها ليس كمن تركها وجمع معها ترك الزكاة والصوم والحج، حيث أن تركها كلها أشد من ترك الصلاة فقط، وعليه فما قاله مالك وغيره في الواحد لا يلزم في المجموع، بل كما قال شيخ الإسلام: "إن من امتنع عن المباني الأربعة كلها فهذا لا يكون إلا كافراً". وهنا مقامان لمن بحث هذه المسألة أشير إليهما: المقام الأول: مقام من يقول: إن ترك الصلاة ليس كفراً ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج، ويقول: إن من عبر من الأئمة بكلمة كفر إنما أراد الكفر الأصغر، أو الكفر العملي، أو كفراً دون كفر، حتى إن بعضهم يحكي الإجماع على أن ترك الصلاة ليس كفراً مخرجاً من الملة .. وهذا لا شك أنه زيادة وتكلف في تقرير المسألة، فلا شك أن هناك أئمة صرحوا بأن تارك الصلاة كافر على معنى الكفر المخرج عن ملة الإسلام. المقام الثاني: من يقابل المقام الأول من أهل العلم، والذين يقولون: إن ترك الصلاة كفر بالإجماع، وترك الزكاة كفر بالإجماع، وترك الصوم كفر بالإجماع، وترك الحج كفر بالإجماع؛ فيجعلون التارك -أي: من عزم على تركه- لأحد المباني الأربعة مع فعل غيره كافراً بالإجماع. وقد قرر هذا بعض أهل العلم من الباحثين، واستدلوا عليه بآثار كقول عمر رضي الله عنه: "لا يبلغني أن أحداً وجد سعةً وزاداً فلم يحج إلا فرضت عليه الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين". واستدلوا كذلك بظاهر قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران:97] قالوا: (ومن كفر) أي: ومن ترك. ومن أدلتهم أيضاً أن الصحابة أجمعوا على كفر تارك الصلاة كما نقله عبد الله بن شقيق، وعلى كفر تارك الزكاة كما في قصة أبي بكر رضي الله عنه. فهذا القول إن كان يختاره ويذهب إلى أنه راجح فهذا كاختيار لا يثرب عليه؛ لأن طائفة من السلف كفروا تارك الصلاة، وطائفة من السلف كفروا تارك الزكاة، وطائفة من السلف كفروا تارك الصوم، وطائفة من السلف كفروا تارك الحج، فمن قال: إن هذا قول لطائفة من السلف فقد أصاب، وإن اختار هذا القول فقد اختار ما أداه إليه اجتهاده، وهذه المسألة مما يسوغ فيه الاجتهاد والاختلاف، وإن كان هذا القول ليس راجحاً. ولكن الذي يقصد إلى التنبيه إلى الغلط فيه: من يقول إن هذا إجماع .. فهذا القول حقيقةً غريب؛ لأنك لا تجد في الكتب أبداً أحداً حكى الإجماع على أن ترك الزكاة أو الصوم أو الحج كفر بإجماع الأئمة، إنما الذي نقل فيه أحرف الإجماع هو الصلاة، وأما ما دون ذلك فلا، وقد نبهت في شرح حديث الافتراق إلى أن مذهب السلف لا يجوز أن يؤخذ بالفهم، إنما مذهب السلف يعتبر بنقل الإجماع، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن حصل مذهب السلف بالفهم فهذا طريقة أهل البدع ومن شاركهم فيها من أصحابنا من الفقهاء، إنما مذهب السلف هو الإجماع المتحقق أو الإجماع المستفيض بحروفه".

أحاديث تدل على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان

أحاديث تدل على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان [فظن الجاهلون بوجوه هذه الأحاديث أنها متناقضة لاختلاف العدد منها، وهي بحمد الله ورحمته بعيدة على التناقض، وإنما وجوهها ما أعلمتك من نزول الفرائض بالإيمان متفرقاً، فكلما نزلت واحدة ألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم عددها بالإيمان، ثم كلما جدد الله له منها أخرى زادها في العدد حتى جاوز ذلك السبعين كلمة، كذلك في الحديث المثبت عنه أنه قال: (الإيمان بضعة وسبعون جزءاً، أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) قال أبو عبيد: حدثنا أبو أحمد الزبيري عن سفيان بن سعيد عن سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة بهذا الحديث. وإن كان زائداً في العدد فليس هو بخلاف ما قبله، وإنما تلك دعائم وأصول، وهذه فروعها زائدات في شعب الإيمان من غير تلك الدعائم. فنرى والله أعلم أن هذا القول آخر ما وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان، لأن العدد إنما تناها به، وبه كملت خصاله, والمصدَق له قول الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]. قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب: أن اليهود قالوا لـ عمر بن الخطاب رحمة الله عليه: (إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فذكر هذه الآية، فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت، وأي يوم أنزلت، أنزلت بعرفة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرف). قال سفيان: وأشك أقال يوم الجمعة أم لا. قال أبو عبيد: حدثنا يزيد عن حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار قال: تلا ابن عباس هذه الآية، وعنده يهودي، فقال اليهودي: لو أنزلت هذه الآية فينا لاتخذنا يومها عيداً، قال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيد: يوم جمعة ويوم عرفة. قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: نزلت عليه وهو واقف بعرفة حين اضمحل الشرك، وهدم منار الجاهلية، ولم يطف بالبيت عريان. فذكر الله جل ثناؤه إكمال الدين في هذه الآية، وإنما نزلت فيما يروى قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بإحدى وثمانين ليلة. قال أبو عبيد كذلك: حدثنا حجاج عن ابن جريج. فلو كان الإيمان كاملاً بالإقرار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في أول النبوة كما يقول هؤلاء ما كان للكمال معنى، وكيف يكمل شيئاً قد استوعبه وأتى في آخره؟! قال أبو عبيد: فإن قال لك قائل: فما هذه الأجزاء الثلاثة وسبعون؟ قيل له: لم تسم لنا مجموعة فنسميها، غير أن العلم يحيط أنها من طاعة الله وتقواه، وإن لم تذكر لنا في حديث واحد، ولو تفقدت الآثار لوجدت متفرقة فيها، ألا تسمع قوله في إماطة الأذى وقد جعله جزءاً من الإيمان؟ وكذلك قوله في حديث آخر (الحياء شعبة من الإيمان)، وفي الثالث (الغيرة من الإيمان)، وفي الرابع (البذاذة من الإيمان) وفي الخامس (حسن العهد من الإيمان). فكل هذا من فروع الإيمان ومنه حديث عمار: (ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الاقتار، والإنصاف من نفسك، وبذل السلام على العالم). ثم الأحاديث المعروفة عند ذكر كمال الإيمان حين قال: (أي الخلق أعظم إيماناً؟ فقيل: الملائكة، ثم قيل: نحن يا رسول الله، فقال: بل قوم يأتون بعدكم) فذكر صفتهم. ومنه أيضاً قوله: (إن أكمل -أو من أكمل- المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) وكذلك قوله: (لا يؤمن الرجل الإيمان كله حتى يدع الكذب في المزاح، والمراء وإن كان صادقاً) وقد روي مثله أو نحوه عن عمر بن الخطاب وابن عمر. ثم من أوضح ذلك وأبينه حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة حين قال: (فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، وبرة من إيمان، ومثقال ذرة) وإلا صولب. ومنه حديثه في الوسوسة حين سئل عنها فقال: (ذلك صريح الإيمان) وكذلك حديث علي عليه السلام: (إن الإيمان يبدأ لمظة في القلب فكلما ازداد الإيمان عظماً ازداد ذلك البياض عظماً) في أشياء من هذا النحو كثيرة يطول ذكرها تبين لك التفاضل في الإيمان بالقلوب والأعمال، وكلها يشهد أو أكثرها أن أعمال البر من الإيمان، فكيف تعاند هذه الآثار بالإبطال والتكذيب؟!]. هذا كله تفصيل من المصنف في تقرير الدلائل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان.

تفاضل الإيمان بالأعمال الظاهرة والباطنة

تفاضل الإيمان بالأعمال الظاهرة والباطنة [ومما يصدق تفاضله بالأعمال قول الله جل ثناؤه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [الأنفال:4] فلم يجعل الله للإيمان حقيقة إلا بالعمل على هذه الشروط، والذي يزعم أنه بالقول خاصة يجعله مؤمناً حقاً وإن لم يكن هناك عمل فهو معاند لكتاب الله والسنة]. هذا دليل على أن الإيمان يتفاضل بالأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، أي: بأعمال القلوب وأعمال الجوارح، فإن قوله تعالى: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) وقوله: (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) دليل على تفاضل الإيمان بهذا الوجه، وكذلك قوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [المائدة:55] دليل على تفاضل الإيمان بذلك، فإن إقامة الصلاة ليست على وجه واحد بين المكلفين، بل هم متفاوتون في تحقيق إقامتها. [ومما يبين لك تفاضله في القلب قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة:10] ألست ترى أنها هنا منزلاً دون منزل: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة:10] كذلك ومثله قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136] فلولا أن هناك موضع مزيد، ما كان لأمره بالإيمان معنى، ثم قال أيضاً: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3] وقال: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] وقال: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141]. أفلست تراه تبارك وتعالى، قد امتحنهم بتصديق القول بالفعل، ولم يرض بالإقرار دون العمل، حتى جعل أحدهما من الآخر؟ فأي شيء يتبع بعد كتاب الله وسنة رسوله ف ومنهاج السلف بعده الذين هم موضع القدوة والإمامة؟! فالأمر الذي عليه السنة عندنا ما نص عليه علماؤنا مما اقتصصنا في كتابنا هذا: أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا، وأنه درجات بعضها فوق بعض، إلا أن أولها وأعلاها الشهادة باللسان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءا، فإذا نطق بها القائل، وأقر بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه بالاستكمال عند الله، ولا على تزكية النفوس، وكلما ازداد لله طاعة وتقوى، ازداد به إيماناً].

شرح كتاب الإيمان [5]

شرح كتاب الإيمان [5] الخلاف في مسألة الاستثناء في الإيمان إذا كان متعلقاً بأصل يخالف قول السلف في الإيمان وأنه قول وعمل؛ فإنه يكون خلافاً في الأصل، وأما إذا كان على قدر من تعدد المرادات فإنه لا يعد أصلاً، فيكون مدار مسألة الاستثناء على المقاصد، ومنه يعلم سبب تعدد أجوبة أئمة السنة والجماعة عن هذه المسألة.

باب الاستثناء في الإيمان

باب الاستثناء في الإيمان قال المصنف رحمه الله: [باب الاستثناء في الإيمان]. المراد بهذا الباب بيان حكم قول الرجل: هو مؤمن إن شاء الله. ويراد بالاستثناء: هو التعليق بالمشيئة، وهذا أوسع من الاستثناء في كلام النحاة.

حكم الاستثناء في الإيمان

حكم الاستثناء في الإيمان الخلاف في مسألة الاستثناء في الإيمان إذا كان متعلقاً بأصل يخالف قول السلف في الإيمان -أي: في مبدئه، وأنه قول وعمل- فإنه يكون خلافاً في الأصل. وأما إذا كان على قدر من تعدد المراد -من المرادات الصحيحة- فإنه لا يعد من الأصول. وتفصيل هذا المعنى: أن من ترك الاستثناء قد يكون مبتدعاً وقد يكون ترك أمراً سائغاً، فإن من ألزم ترك الاستثناء -أي قال: لا بد أن يقول الرجل هو مؤمن، ولا يصح له أن يقول: هو مؤمن إن شاء الله- على معنى أن الإيمان واحدٌ وهو التصديق؛ فإن هذا التفريع تفريع عن بدعة مخالفة لإجماع السلف. وأما من قال بترك الاستثناء في الإيمان -أي: أن يقول الرجل: هو مؤمن ولا يلزمه أن يقول: إن شاء الله- لأن العلم بأصل الإيمان علم ضروري، وكان الإيمان عنده قولاً وعملاً، فهذا الترك للاستثناء ترك واسع. إذاً: هذه المسألة قد يتكلم فيها الأعيان فيكون بعضهم مخرجاً قوله على السنة؛ فتكون المسألة ليست من الأصول، وإذا تكلم فيها من خرّج قوله على أصله المخالف لقول السلف في باب الإيمان فإن قوله بدعة. فإذا قيل: هل قرر السلف رحمهم الله وجهاً واحداً في هذه المسالة؟ فالجواب: أما باعتبار مراداتها فنعم، وأما باعتبار إطلاق اللفظ فإنهم متوسعون في ذلك، فإن طائفة منهم يميلون إلى ذكر الاستثناء، ومعتبرهم في هذا أن الإنسان المسلم المؤمن لا يجزم لنفسه بالتمام؛ فإن الإيمان المطلق هو فعل الواجبات وترك المحرمات، وهذا لا أحد يجزم باستتمامه، ومن هنا استحبوا وأمروا بالاستثناء على هذا الوجه. ومنهم من أمر بالاستثناء واستحبه وحسنه على معنى أن تركه فيه تزكية، والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32] فهذان الوجهان هما مراد من استحب الاستثناء من السلف وقصد إليه. وطائفة من السلف رخصوا في الاستثناء وتركه، فإذا أمروا بالاستثناء فعلى هذين المرادين، وإذا رخصوا في الترك فعلى مراد أن أصل الإيمان يصح الجزم به؛ لأن كل مسلم ومؤمن يجزم بأن معه الأصل، وهذا لابد من اليقين فيه، وليس هو من التزكية، بل هو من العلم الواجب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله صدقاً من قلبه)، وقال أيضاً: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله) والجملة جملة حال. وعلى هذا من ترك الاستثناء على معنى أنه يجزم بأصل إيمانه، وأنه مصدق بالله كافر بالطاغوت، يكون تركه سائغاً. أما مسألة هل الحكم بهذين الاعتبارين على الوجوب أم على السعة؟ فنقول: إذا ما أراد المتكلم بقوله "هو مؤمن إن شاء الله" ترك التزكية، فهذا ليس من المسائل الواجبة، بل هو من المسائل الواسعة. أما إذا كان قاصداً لأصل الإيمان فنقول: هناك تفصيل: فإن كان تعليقه من باب التردد فلا شك أن هذا إبطال للجزم. وأما إن كان على معنى أنه يجوز في الأمور المحققة ذكر مشيئة الرب فهذا سائغ؛ لأن التعليق بمشيئة الله لا يلزم عنه التردد، والدليل على ذلك قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] مع أن دخولهم كان متحققاً مجزوماً به. وبهذا يتبين أن مدار مسألة الاستثناء على المقاصد؛ فمن كان على باب من السنة والجماعة ويقول: إن الإيمان قول وعمل؛ فإن مسألة الاستثناء في حقه لا تعد من مسائل الأصول، بل يستثني في مقام ويترك في مقام آخر، ويكون ذلك بحسب مقصده، فإذا استثنى تركاً للتزكية فهذا مما يسوغ، وإذا ترك الاستثناء على معنى أنه جازم بأصل الإيمان فهذا أيضاً مما يسوغ، وإذا استثنى على معنى أنه يعلق أمره بمشيئة الرب النافذة في كل شيء -حتى الأشياء المحققة- فإن هذا أيضاً مما يسوغ. وبهذا التفصيل يفهم سبب تعدد أجوبة أئمة السنة والجماعة عن هذه المسألة.

السبب في اختلاف السلف في مسألة الاستثناء في الإيمان

السبب في اختلاف السلف في مسألة الاستثناء في الإيمان إن قيل: فلم كان جملة من السلف ينزعون إلى الاستثناء ويؤكدون شأنه، وجملة من الأئمة ينزعون إلى تركه؟ قيل: هذا من حكمتهم وفقههم؛ فإن من نزع من السلف إلى تأكيد مسألة الاستثناء فإن مراده بذلك الرد على المرجئة، الذين جمهورهم يحرمون الاستثناء ويمنعونه؛ لكون الإيمان عندهم واحداً بالتصديق ونحوه .. ولهذا إذا قيل: صاحب السنة من بعدهم ينزع إلى أي الوجهين في أجوبة السلف؟ قيل: ينزع إلى جميعها بحسب المقاصد والأحوال؛ ولهذا قال الله للمؤمنين: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة:136] ولم يلزم من ذلك أن يقولوا: إن شاء الله، والعبد يقول: لا إله إلا الله ولا يقول: إن شاء الله. فالقول بأن الاستثناء واجب في الإيمان ليس بصحيح، ومن نُقل عنه الوجوب من السلف فإنه معلق بمقصد من المقاصد الشرعية، وأما أن أحداً من السلف يوجب الاستثناء في سائر المقامات وباعتبار سائر المقاصد فهذا لا يصح عن واحد من السلف، ومن حكى عن أحد من السلف إيجاب الاستثناء في سائر المقامات، وباعتبار سائر المقاصد فهذا غلط عليه، وإن كان هذا قد حكاه بعض المتأخرين من أهل العلم. بل الصواب: أن جوابات السلف هنا هي على مادة التنوع، وليس التضاد أو الخلاف اللفظي؛ لأن الخلاف اللفظي معناه أن لا فرق بين حقيقة الأقوال، وخلاف التنوع: أن يكون لكل معنى، وليس بين المعاني تعارض. أي: أن هذا يقصد معنىً فيستثني، ويقصد الآخر معنى آخر فيترك الاستثناء، فمن استثنى قصد ترك التزكية أو قصد أن الإيمان قول وعمل وهو لم يستتم التمام في القول، ومن ترك الاستثناء قصد أن أصل الإيمان مما يجزم به، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الجارية: (أعتقها؛ فإنها مؤمنة)، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: إن شاء الله؛ مع أن الجارية لم يستفض إيمانها، حتى كان معاوية بن الحكم متردداً في شأنها إلى أمثال ذلك.

مذهب المرجئة في مسألة الاستثناء في الإيمان

مذهب المرجئة في مسألة الاستثناء في الإيمان أما أهل البدع فكما أسلفت أنهم تكلموا في هذه المسألة على أصول بدعهم، ومن هنا حرّم عامة المرجئة الاستثناء في الإيمان؛ لأنه يعني الشك، وهذا غلط من جهتين: الأولى: أنهم فرعوا هذا القول عن أن الإيمان واحد، والصواب: أن الإيمان يزيد وينقص، وهو قول وعمل. الثانية: أنه لو فرضنا جدلاً أن الإيمان واحد، فإن الاستثناء بذكر مشيئة الرب في الأمور المحققة أمر سائغ، بشرط أن يكون المتكلم لا يقصد التردد، وهذا كقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] ولهذا قال الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24] ولو كان الإنسان عازماً وجازماً في مقصد فعله.

كلام أبي عبيد عن مسألة الاستثناء في الإيمان وعرضه لأقوال السلف

كلام أبي عبيد عن مسألة الاستثناء في الإيمان وعرضه لأقوال السلف [قال أبو عبيد: حدثنا يحيى بن سعيد عن أبي الأشهب عن الحسن قال: قال رجل عند ابن مسعود: أنا مؤمن. فقال ابن مسعود: أفأنت من أهل الجنة؟ فقال: أرجو. فقال ابن مسعود: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟. قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن سعيد عن الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: بينا نحن نسير إذ لقينا ركباً فقلنا: من أنتم؟ فقالوا: نحن المؤمنون! فقال: أولا قالوا: إنا من أهل الجنة؟!. قال أبو عبيد: حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر كلاهما عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن إبراهيم عن علقمة قال: قال رجل عند عبد الله: أنا مؤمن! فقال عبد الله: فقل: إني في الجنة! ولكن آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله. قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن محل بن محرز قال: قال لي إبراهيم: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن معمر عن ابن وطاس عن أبيه قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن عن حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين قال: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [البقرة:136] قال أبو عبيد: حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن إبراهيم قال: قال رجل لـ علقمة: أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو إن شاء الله. قال أبو عبيد: ولهذا كان يأخذ سفيان ومن وافقه الاستثناء فيه، وإنما كراهيتهم عندنا أن يبسوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين، لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان، ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين. قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي قال: من قال: أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن، لقول الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] وقد علم أنهم داخلون. وهذا عندي وجه حديث عبد الله حين أتاه صاحب معاذ فقال: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر، فمن أيهم كنت؟ قال: من المؤمنين. إنما نراه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين، فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده، فكيف يكون ذلك والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى} [النجم:32]! والشاهد: (على ما نظن) أنه كان قبل هذا لا يقول: أنا مؤمن على تزكية ولا على غيرها، ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله، لا يزيد على هذا اللفظ، وهو الذي كان أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين، ثم أجاب عبد الله إلى أن قال: أنا مؤمن؛ فإن كان الأصل محفوظاً عنه فهو عندي على ما أعلمتك، وقد رأيت يحيى بن سعيد ينكره ويطعن في إسناده؛ لأن أصحاب عبد الله على خلافه]. هذا يبين أن ابن مسعود وأصحابه يميلون إلى الاستثناء ويؤكدون شأنه، ولكن أجوبتهم تدور على المعاني السابقة: أنهم يتركون التزكية .. أنهم يقصدون أن الإيمان قول وعمل، وأن الإنسان لا يجزم لنفسه باستمامهما، ولهذا قال للرجل: (أفأنت من أهل الجنة؟) يعني: إن المؤمن المطلق يكون من أهل الجنة، وهذا مما لا يجزم بتحققه، وهكذا نقل بعد ذلك عن أصحاب ابن مسعود كـ علقمة وغيره. وهنا مسألة في مسألة الاستثناء، وهي فرق لطيف فات بعض المتأخرين ممن علق على هذه المسألة؛ فقد تبين أن من أوجه السلف في الاستثناء أنهم يستثنون باعتبار ترك التزكية، وباعتبار أن الإيمان قول وعمل، وأن الإنسان لا يجزم بهذا التحقق.

من أوجه الاستثناء أن الإنسان لا يدري بماذا يختم له

من أوجه الاستثناء أن الإنسان لا يدري بماذا يختم له هنا وجه ثالث أيضاً في مقاصد السلف في الاستثناء: وهو أن الإنسان لا يعلم ماذا يختم له، فيقول: هو مؤمن إن شاء الله؛ لأنه لا يدري بالخاتمة، والله سبحانه وتعالى هو العليم بذلك. إذاً قد يستثني من يستثني من السلف أو يسّوغ الاستثناء أو يأمر به؛ لكون الإنسان لا يدري ماذا يختم له. وهذا الوجه -أعني الثالث- يختلف عن الوجه الذي كان يعلل به ابن كلاب، فقد كان يذهب إلى إيجاب الاستثناء في الإيمان؛ ويعلل ذلك بأن الإنسان لا يدري ما يوافي به ربه. فالمؤمن عنده الموافي. والفرق بين اعتبار ختم العمل عند من يستثني من السلف وبين مسألة الموافاة عند ابن كلاب ومن وافقه، أن ابن كلاب كانت عنده قاعدة -وهي قاعدة بدعية- وهي: أن الإيمان هو ما يوافي العبد به ربه، فمن علم الله أنه يوافيه بالإيمان فإنه لا يزال محبوباً له حتى حال كفره، ومن علم الله أنه لا يوافيه إلا بالكفر فإنه لا يزال مبغَضاً عنده حتى حال إيمانه الذي يعقبه كفر وردة .. وهذا الوجه من البدع الحادثة في كلام ابن كلاب؛ ولهذا إذا قال شيخ الإسلام: "وهذا الوجه في الاستثناء لم ينطق به أحد من السلف"، فلا بد أن يفرق بينه وبين مسألة الختم؛ فمسألة ختم العمل وجه معروف في كلام السلف، وأما الموافاة فمراد ابن كلاب بها: أن الإيمان هو الموافاة، وأما الإيمان الأول -الذي لا يوافي به، أو يعقبه ردة وما إلى ذلك- فليس إيماناً، وكذلك الكفر الأول الذي يعقبه إيمان لا يكون صاحبه حال كفره مبغضاً .. ! ولا شك أن هذا غلط، بل الكفار حال كفرهم مع أن الله يعلم أن منهم من يؤمن مبغضون عنده سبحانه وتعالى.

كلام أبي عبيد عمن قال إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل

كلام أبي عبيد عمن قال إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل [وكذلك نرى مذهب الفقهاء الذين كانوا يتسمون بهذا الاسم بلا استثناء، فيقولون: نحن مؤمنون، منهم عبد الرحمن السلمي، وإبراهيم التيمي، وعون بن عبد الله، ومن بعدهم، مثل عمر بن ذر، والصلت بن بهرام، ومسعر بن كدام، ومن نحا نحوهم، إنما هو عندنا منهم على الدخول في الإيمان لا على الاستكمال. ألا ترى أن الفرق بينهم وبين إبراهيم وبين ابن سيرين وطاوس إنما كان أن هؤلاء كانوا به أصلا، وكان الآخرون يتسمون به. فأما على مذهب من قال: كإيمان الملائكة والنبيين! فمعاذ الله، ليس هذا طريق العلماء، وقد جاءت كراهيته مفسرة عن عدة منهم. قال أبو عبيد: حدثنا هشيم أو حدثت عنه عن جوير عن الضحاك: أنه كان يكره أن يقول الرجل: أنا على إيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام. قال أبو عبيد: حدثنا سعيد بن أبي مريم المصري عن نافع عن عمر الجمحي قال: سمعت ابن أبي مليكة وقال له إنسان: إن رجلاً في مجالسك يقول: إن إيمانه كإيمان جبرائيل! فأنكر ذلك وقال: سبحان الله! والله لقد فضل جبريل عليه السلام في الثناء على محمد صلى الله عليه فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21]. قال أبو عبيد: حدثنا عن ميمون بن مهران: أنه رأى جارية تغني فقال: من زعم أن هذه على إيمان مريم بنت عمران فقد كذب. وكيف يسع أحداً أن يشبه البشر بالملائكة، وقد عاتب الله المؤمنين في غير موضع من كتابه أشد العتاب، وأوعدهم أغلظ الوعيد، ولا يعلم فعل بالملائكة من ذلك شيئاً فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [النساء:29 - 30] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] وقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]. فأوعدهم النار في آية، وآذنهم بالحرب في أخرى. وخوفهم بالمقت في ثالثة، واستبطأهم في رابعة، وهو في هذا كله يسميهم مؤمنين، فما تشبه هؤلاء من جبريل وميكائيل مع مكانهما من الله؟! إني لخائف أن يكون هذا من الاجتراء على الله والجهل بكتابه].

شرح كتاب الإيمان [6]

شرح كتاب الإيمان [6] معتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، وأن هذه الزيادة والنقصان تكون في الأعمال الظاهرة والباطنة، وهذا محل إجماع عندهم, وإن وجد اختلاف بين بعض السلف في معنى الزيادة والنقصان فإنما هو خلاف ألفاظ، وقد خالف بعض أهل البدع في هذه المسألة ففسروا الزيادة بمعان مخالفة لما جاء في الكتاب والسنة.

باب الزيادة في الإيمان والانتقاص منه

باب الزيادة في الإيمان والانتقاص منه يعتبر هذا الباب من المسائل الأصول في الإيمان، فليس هو كمسألة الاستثناء، بل هو من أشرف أصول هذه المسألة، وهو إجماع للسلف. وجُمل السلف رحمهم الله كما أنها تنوعت في مسمى الإيمان، فقالوا فيه أقوالاً هي من باب الخلاف اللفظي، وقالوا في جوابهم في الاستثناء أقوالاً تنوعت هي من باب خلاف التنوع، كذلك نقول هنا: كلام السلف في مسألة الزيادة والنقصان فيها خلاف لفظي، فالجمهور من السلف يقولون: الإيمان يزيد وينقص، ويطلقون هذا. ومنهم من يقول: الإيمان يتفاضل، وهذا جواب معروف عن عبد الله بن المبارك وأمثاله. وقد نقل عن مالك في إحدى الروايتين أنه قال: الإيمان يزيد، وسكت عن لفظ النقصان، وأما المعنى فإنه ثابت عنده. فهذه هي أجوبة السلف رحمهم الله، والخلاف بينها من باب الخلاف اللفظي؛ فإن معنى التفاضل في قول بعضهم: إنه يتفاضل، أي: أنه يزيد وينقص، وأن أصحابه على درجات.

الأدلة على أن الإيمان يزيد وينقص

الأدلة على أن الإيمان يزيد وينقص أما دليله: فما جاء ذكره صريحاً في كتاب الله في عدة مواضع من ذكر لزيادة الإيمان، وأما النقصان فإنه كما قال الإمام أحمد وغيره: "إن الإيمان كما يزيد فإنه ينقص". ولم يعبر بلفظ النقصان في القرآن، وإنما نفى الشارع الإيمان عمن ترك بعض الواجبات أو فعل بعض الكبائر، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في الصحيحين: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ونفي الاسم أبلغ من ذكر لفظ النقصان في هذا الفعل من الكبائر؛ لأن ذكر لفظ النقصان لا يلزم منه أن يكون الفعل من الكبائر، بخلاف نفي الاسم الشرعي؛ فإن القاعدة -كما نص عليها شيخ الإسلام وغيره-: "إن الله ورسوله لا ينفي اسم مسمى أمرٍ -أمر الله به ورسوله- إلا إذا ترك بعض واجباته". فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) دل هذا على أن الزاني قد فعل كبيرةً من الكبائر، وكذلك قوله: (لا إيمان لمن لا أمانة له) إلى أمثال ذلك، ولهذا كان قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) دليلاً على أن قراءة الفاتحة لازمة في الصلاة إما ركناً وإما وجوباً على ما هو معروف. [قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال قال: قال معاذ بن جبل لرجل: اجلس بنا نؤمن ساعة -يعني: نذكر الله-. وبهذا القول كان يأخذ سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس يرون أعمال البر جميعاً من الازدياد في الإسلام؛ لأنها كلها عندهم منه، وحجتهم في ذلك ما وصف الله به المؤمنين في خمس مواضع من كتابه، منه قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] وقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} [المدثر:31] وقوله: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] وموضعان آخران قد ذكرناهما في الباب الأول، فاتبع أهل السنة هذه الآيات وتأولوها أن الزيادات هي الأعمال الزاكية]. بهذه الأدلة يعلم أن ذكر زيادة الإيمان صريح في كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد سبق الإشارة إلى أصل جامع ذكره ابن تيمية رحمه الله حيث قال: "وأصل نزاع هذه الفرق من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، أنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً إذا زال بعضه زال جميعه"، أي: إن الأصل الذي تفرعت عنه جميع البدع في مسألة الإيمان، وخالف أصحابها قول السلف، هو: أنهم اعتبروا أن الإيمان واحد لا يزيد ولا ينقص، فعند الخوارج والمعتزلة أنه قول وعمل، لكنه لا يزيد ولا ينقص، فمن ترك واجباً فيه فقد كفر -أو فسق عند المعتزلة- وعدم الإيمان. وعند المرجئة يجعلونه هو التصديق، أو مع القول، أو القول وحده على حسب أقوال المرجئة، ويكون الإيمان عندهم واحداً. وقد تقدم أن في كتاب الله تصريحاً تاماً بزيادة الإيمان، وإن لم يكن هو الدليل الوحيد الدال على أن الإيمان يزيد وينقص، بل هو نوع من الأدلة، وإلا من الأدلة: الضرورة الشرعية؛ فإن الضرورة الشرعية تدل على أن المؤمنين ليسوا درجة واحدة، وهذا هو اللازم في حكم العقل؛ فإنه ما من شيء يؤمر به بنو آدم من الأمور الشرعية أو الدينية أو الدنيوية إلا ويتفاضلون فيه. فهذا التفاضل ضرورة حسية قاطعة، وهي مدركة بضرورة العقل. وعلى هذا يكون القول بتساوي الإيمان ممتنعاً في العقل والحس.

مذهب المرجئة والخوارج في تفسير الآيات الدالة على زيادة الإيمان

مذهب المرجئة والخوارج في تفسير الآيات الدالة على زيادة الإيمان وقد يرد هنا سؤال: ما هو موقف المخالفين للسلف من هذا التصريح في كتاب الله بزيادة الإيمان؟ [وأما الذين رأوا الإيمان قولاً ولا عمل فإنهم ذهبوا في هذه الآيات إلى أربعة أوجه]. هذا التفسير ليس خاصاً بمن يقول: إنه قول، فمن المعروف أن من يقول: إن الإيمان قول فقط هو محمد بن كرام السجستاني، بل هو -أيضاً- تفسير من يقول: إن الإيمان هو التصديق كجمهور المرجئة، ومن يقول: إن الإيمان قول وعمل ولكنه لا يزيد ولا ينقص، كالمعتزلة والخوارج، فإن جميع هؤلاء يفسرون هذه الآيات بما يأتي .. [أحدها أن قالوا: أصل الإيمان الإقرار بجمل الفرائض مثل الصلاة والزكاة وغيرها، والزيادة بعد هذه الجمل، وهو أن تؤمنوا بأن هذه الصلاة المفروضة هي خمس، وأن الظهر هي أربع ركعات، والمغرب ثلاثة .. وعلى هذا رأوا سائر الفرائض. والوجه الثاني أن قالوا: أصل الإيمان الإقرار بما جاء من عند الله، والزيادة تمكن من ذلك الإقرار. والوجه الثالث أن قالوا: الزيادة في الإيمان الازدياد من اليقين. والوجه الرابع أن قالوا: إن الإيمان لا يزداد أبداً، ولكن الناس يزدادون منه]. هذا هو تفسير المرجئة ويشاركهم في بعضه الخوارج، وإن كان الخوارج يرتبونه على قولهم المعروف. وهذا التفسير لما ذكر من زيادة الإيمان في القرآن لأهل العلم تجاهه طريقان: الطريق الأول: أن هذا التفسير غلط؛ لأنه وإن كان بعضه ممكناً من جهة جملة المعاني إلا أن تفسير الآيات المعينة به خروج عن السنة ومراد الله ورسوله. الطريق الثاني: أن هذا تفسير قاصر، وفيه تحكم. أي: قصر للزيادة على هذه المعاني، ولا شك أن الزيادة أجل من هذا المعنى، فهي في الأعمال الظاهرة والباطنة المذكورة في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:2 - 3] فمن هذا السياق وأمثاله أن الزيادة متحققة في الأعمال الظاهرة والباطنة، وأنها متحققة في التصديقات، ولهذا قال: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً) أي: تصديقاً ويقيناً، كما أنها زادتهم بقوله: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) توكلاً، وهذا فعل القلب، وزادتهم فعلاً في الجوارح وهو قوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]. فبينٌ من سياق الآيات أن الزيادة والنقصان متعلقة بأوجه الإيمان كلها الظاهرة والباطنة، فيكون القصر على هذا من التحكم في تفسير كلام الله ورسوله.

تفسير المرجئة والخوارج للآيات الدالة على زيادة الإيمان بدعة محدثة

تفسير المرجئة والخوارج للآيات الدالة على زيادة الإيمان بدعة محدثة [وكل هذه الأقوال لم أجد لها مصدقاً في تفسير الفقهاء ولا في كلام العرب، فالتفسير ما ذكرناه عن معاذ حين قال: (اجلس بنا نؤمن ساعة) فيتوهم على مثله أن يكون لم يعرف الصلوات الخمس ومبلغ ركوعها وسجودها إلا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فضله النبي صلى الله عليه وسلم على كثير من أصحابه في العلم بالحلال والحرام، ثم قال: (يتقدم برتوة) هذا لا يتأوله أحد يعرف معاذاً! وأما في اللغة فإنا لم نجد المعنى فيه يحتمل تأويلهم، وذلك كرجل أقر له رجل بألف درهم له عليه، ثم بينها فقال: مائة منها في جهة كذا، ومائتان في جهة كذا، حتى استوعب الألف، ما كان هذا يسمى زيادة، وإنما يقال له: تلخيص وتفصيل، وكذلك لو لم يلخصها ولكنه ردد ذلك الإقرار مرات، ما قيل له زيادة أيضاً، إنما هو تكرير وإعادة؛ لأنه لم يغير المعنى الأول ولم يزد فيه شيئاً. فأما الذين قالوا يزداد من الإيمان، ولا يكون الإيمان هو الزيادة، فإنه مذهب غير موجود، لأن رجلاً لو وصف ماله فقيل: هو ألف، ثم قيل: إنه ازداد مائة بعدها، ما كان له معنى يفهمه الناس إلا يكون المائة هي الزائدة على الألف، وكذلك سائر الأشياء، فالإيمان مثلها، لا يزداد الناس منه شيئاً، إلا كان ذلك الشيء هو الزائد في الإيمان]. "في تفسير الفقهاء" مقصوده: في تفسير السلف، أي أن السلف -رحمهم الله- ما كانوا يفسرون هذه الآيات بهذه الأوجه، إنما يقولون: إن هذه الآيات تدل على أن الإيمان يزيد في جميع أوجهه وموارده. ومن هنا يمكن أن يقال: إن هذا التفسير بدعة بهذا الاعتبار، ووجه كونه بدعةً هو كونه مخالفاً لتفسير السلف، لكن لا يلزم أن تكون المعاني المذكورة في هذا التفسير باطلة. فإن قول من قال: إن المؤمنين يزدادون إيماناً بكثرة أدلته -وهذا من تفسير المرجئة لآيات الزيادة- في جملته صحيح، لكن قصر التفسير عليه بدعة مخالفة للسلف، وهو من التحكم الذي لا دليل عليه، وهو من جنس الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض. ومن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض؛ فإن القدر الذي آمن به من حيث جملته يعتبر إيماناً، لكنه لم ينفعه؛ لأنه فاسد وباطل؛ لكونه قابله بالكفر بالبعض الآخر. ومن هنا يصح أن يقال: إن هذا التفسير باعتبار مادته الأصل فيه صحة؛ لأن معنى القول بإن هذا التفسير خطأ من الأصل أن يكون قول من قال: إن الإيمان يزيد بزيادة الأدلة. خطأ، وهذا غير صحيح. لكنه مع ذلك يسمى بدعةً؛ لكونه مخالفاً لتفسير السلف؛ لأن فيه تحكماً بتفسير القرآن، وقصراً على معنى دون معنى. ومعنى هذا باختصار: أن السلف -رحمهم الله- الذين يقولون: الإيمان يزيد وينقص، إذا سئل أحدهم: هل الإيمان يزيد بالطاعة؟ فسيقول: نعم. وإذا قيل له: هل الإيمان يزيد بأعمال القلوب؟ فسيقول: نعم. ولو قيل له: هل الإيمان يزيد بتعدد أدلته؟ فسيقول: نعم. مثلاً: من المقطوع به أن الإيمان بعذاب القبر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم يتفاضل إذا ذكر في عشرة أحاديث عنه بحديث واحد، وهذه ضرورة في عقول بني آدم. وكذلك إذا نظر شخص في مسألة من المسائل الفقهية عليها دليل واحد، ومسألة عليها عشرة أدلة، فإن التي عليها عشرة أدلة تكون أقوى في الثبوت. وعلى هذا يصح أن يقال: إن تعدد الأدلة يزيد في التصديق، واليقين، والمعرفة، والعلم، والإيمان هو العلم، وإنما أخطأ هؤلاء المفسرون من المرجئة وأمثالهم من جهة مخالفة تفسير السلف، ومن جهة قصر تفسير الآيات على هذه الأوجه التي حدوها، فمن هنا كان تفسيرهم بدعة، وإن كانت أصول معانيه مقبولة، لكن السلف لا يقتصرون عليها، بل يذكرون الزيادة فيها وفي غيرها.

الرد على المرجئة القائلين بأن زيادة الإيمان هي ازدياد اليقين

الرد على المرجئة القائلين بأن زيادة الإيمان هي ازدياد اليقين [وأما الذين جعلوا الزيادة ازدياد اليقين فلا معنى لهم لأن اليقين من الإيمان، فإذا كان الإيمان عندهم كله برمته إنما هو الإقرار، ثم استكمله هؤلاء المقرون بإقرارهم .. أفليس قد أحاطوه باليقين من قولهم؟! فكيف يزداد من شيء قد استقصي وأحيط به؟! أرأيتم رجلاً نظر إلى النهار بالضحى حتى أحاط عليه كله بضوئه هل كان يستطيع أن يزداد يقيناً بأنه نهار ولو اجتمع عليه الإنس والجن؟! هذا يستحيل ويخرج مما يعرفه الناس]. هذا وجه فاضل في الرد. وهو الوجه الآخر في الرد على المرجئة الذين فسروا الزيادة بهذا، وهو أن المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان واحد وهو التصديق، يمنعون الاستثناء فيه ويجعلونه واحداً، فما وجه زيادة اليقين فيه؟!! أي: إن معنى القول بأن الإيمان واحد يلزم منه نفي زيادة الإيمان من كل وجه؛ فإذا أُثبتت زيادة الإيمان ولو من وجه تعدد الأدلة أو من وجه تمام اليقين، أو أمثالها من التفسيرات التي أريد بها التخلص من معارضة القرآن فإن هذا يكون من باب التناقض. فمن يقول: إن الإيمان واحد، ومع ذلك يقول: يزداد، فإن مجرد تسليمه بزيادته على أي وجه فسر هذه الزيادة يعد تناقضاً؛ فإنه إذا سوغ زيادته باعتبار تعدد الأدلة فمعناه أن أهله تفاضلوا. وإن قال: إنه لم يتفاضل إيمانهم وإنما تفاضلت أدلتهم؛ قيل: الدليل يدل على حكم في مدلوله، وهذا الحكم هو الذي يجب الإيمان به، ولهذا يكون الحكم المُؤمَن به -وهو إيمان بالقطع- متفاضلاً بين المخاطبين. فمقصود هذا الوجه: أن من قال: إن الإيمان واحد -وهو قول كل من خالف السلف- يمتنع أن يقر بزيادة الإيمان بأي وجه من الأوجه، فمن أقر بذلك كان متناقضاً. وخلاصة هذا الرد هي: أنه إذا كان الإيمان واحداً سواء كان هو التصديق أو الإيمان أو المعرفة أو ما إلى ذلك فقد استكملوه بالأول، فما وجه الزيادة؟! ومن المعلوم في النظر العقلي أن من يقول: إن هذا الشيء واحد، يمتنع عليه أن يقول: أنه يزيد، بأي وجه فسر الزيادة. وهذا من باب تناقض أهل البدع.

شرح كتاب الإيمان [7]

شرح كتاب الإيمان [7] طائفة من المرجئة يذهبون إلى أن الإيمان شهادة باللسان، وإقرار بالقلب، وهذا القول المنسوب إلى المرجئة قال به بعض فقهائهم ومتكلميهم، من المعروفين بالسنة ومن الخارجين عنها، وهذا الاتفاق إنما هو اتفاق في جملة القول وقدره الكلي وليس في تفصيله.

باب تسمية الإيمان بالقول دون العمل

باب تسمية الإيمان بالقول دون العمل [قال أبو عبيد: قالت هذه الفرقة: إذا أقر بما جاء من عند الله وشهد شهادة الحق بلسانه، فذلك الإيمان كله؛ لأن الله عز وجل سماهم مؤمنين، وليس ما ذهبوا إليه عندنا قولاً، ولا نراه شيئاً، وذلك من وجهين:- أحدهما: ما أعلمتك في الثلث الأول أن الإيمان المفروض في صدر الإسلام لم يكن يومئذ شيئاً إلا إقرار فقط. وأما الحجة الأخرى: فإنا وجدنا الأمور كلها، يستحق الناس بها أسماءها مع ابتدائها والدخول فيها، ثم يفضل فيها بعضهم بعضاً، وقد شملهم فيها اسم واحد، من ذلك أنك تجد القوم صفوفاً بين مستفتح للصلاة، وراكع وساجد .. وقائم وجالس، فكلهم يلزمه اسم المصلي، فيقال لهم: مصلون، وهم مع هذا فيها متفاضلون].

الطائفة التي تقول بأن الإيمان هو الإقرار والشهادة

الطائفة التي تقول بأن الإيمان هو الإقرار والشهادة هذه الطائفة التي أراد المصنف رحمه الله ذكرها في هذا الباب هم من يقولون بأن من أقر وشهد فقد آمن. وكلمة "أقر" تعني: إقرار القلب، و"شهد" أي: بلسانه. وقد تقدم أنه يقرر أن المرجئة من الفقهاء يذهبون إلى أن الإيمان يكون بإقرار القلب وتصديقه وبقول اللسان، ومع ذلك ذكرهم على أنهم طائفة من أهل العلم والديانة، أما من ذكرهم في هذا الباب فمن الملاحظ أنه مغلظ في ذكره لهم، فهو لم يذكرهم على أنهم طائفة من أهل العلم والديانة كما سبق في مرجئة الفقهاء. وهو يريد بهذا إحدى طائفتين: إما من يقول بأن الإيمان هو القول، وهذا القول قاله محمد بن كرام السجستاني، وهو متأخر في التاريخ عن المصنف، وعلى هذا يكون هذا القول قد قاله طوائف من قدماء المرجئة الذين أدركهم المصنف فنَسَبَ هذا القول على إطلاق عام، ونسبه المتأخرون إلى محمد بن كرام؛ لأنه هو الذي نظمه وشهره، وليس بالضرورة أن يكون هو الذي ابتدعه واخترعه .. فهذا وجه التفسير لكلامه.

طوائف المرجئة عند المتأخرين

طوائف المرجئة عند المتأخرين قبل أن نتكلم عن التفسير الصحيح لكلام المصنف نريد أن نبين أن المتأخرين إذا ذكروا المرجئة فإنهم يقسمونهم إلى طوائف، فيقولون: منهم من يقول: الإيمان المعرفة .. وهذا قول الجهم بن صفوان، وأبي حسين الصالحي وأمثالهم. ومنهم من يقول: هو التصديق، وهذا القول لـ بشر المريسي وجماعة. فإذا قالوا: ومنهم من يقول: إنه قول اللسان وتصديق القلب، جعلوا هذا القول قول مرجئة الفقهاء، وكأن هذا القول هو قول المرجئة الفقهاء فقط. والصحيح: أن القول بأن الإيمان شهادة باللسان وإقرار بالقلب هو قول لكثير من المرجئة، من فقهائهم ومتكلميهم، من المنتسبين إلى السنة كـ حماد بن أبي سليمان، وممن هو خارج عن السنة والجماعة ممن عرفوا بالابتداع، والخروج عن طريقة الأئمة. لكن الاشتراك بين فقهائهم كـ حماد بن أبي سليمان وبين غيرهم من متكلميهم أو من خرج عن السنة والجماعة هو اشتراك في قدره الكلي.

قول طائفة من المرجئة بأن الإيمان هو الإقرار والشهادة

قول طائفة من المرجئة بأن الإيمان هو الإقرار والشهادة إذاً نقول: إن طائفة من المرجئة يذهبون إلى أن الإيمان شهادة باللسان، وإقرار بالقلب. وهذا القول هو قول طائفة من المرجئة من فقهائهم ومتكلميهم، من المعروفين بالسنة والخارجين عنها، وهذا الاتفاق اتفاق في جملة القول وقدره الكلي وليس في تفصيله؛ فإنه من حيث التفاصيل ثمة فرق. وقبل تقرير الفرق نورد تقريراً لمقدمة أخص، وهي: أن فقهاء هذا النوع من المرجئة المعروفين بالسنة والجماعة كـ حماد أقرب في تقرير هذا القول ومرادهم به إلى السنة والجماعة من متكلمة هذا القول، فإن هؤلاء يبتعدون في تقريرهم عن كلام الأئمة من جهة الدلائل ومن جهة تقرير الحقائق. والفرق بين فقهائهم ومتكلميهم الذين يشتركون في تقرير هذه الجملة من وجهين: الوجه الأول: من جهة الدلائل وطرق الاستدلال، فإن حماداً وأمثاله لم يخرجوا في طرق الاستدلال عن المعروف عند السلف، وهو الاعتبار بكلام الله ورسوله في الدليل. أي: لم يستعملوا علم الكلام وغيره من الطرق المبتدعة في الاستدلال، بخلاف متكلمة المرجئة؛ فإنهم استعملوا هذا العلم. وكذلك حماد بن أبي سليمان وأمثاله، لم يطعنوا في شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما يطعن متكلمة المرجئة، كطعنهم في أخبار الآحاد. الوجه الثاني: من جهة المعاني؛ فإن تقرير حماد بن أبي سليمان لمقام العمل أشرف من تقرير متكلمة المرجئة، وإن كان حماد وأبو حنيفة رحمهما الله لا يدخلون العمل في مسمى الإيمان، إلا أنهم يعظمون شأنه، ويعظمون شأن الواجبات، ويذكرون مسألة الوعيد .. وما إلى ذلك؛ ولهذا هم في مسألة وعيد أهل الكبائر لا يخالفون جملة السلف. إذاً: تقرير حماد لمسألة العمل وإن كان خارجاً عن السنة والجماعة، باعتباره لا يجعل العمل داخلاً في مسمى الإيمان، إلا أنه أشرف من تقرير متكلمة المرجئة. وإذا تبين أن هذا القول: -وهو أن الإيمان إقرار بالقلب وقول باللسان- هو قول لكثير من المرجئة، وليس مختصاً بفقهائهم؛ تبين ما سبق الإشارة إليه، وهو أن كثيراً من شراح الحنفية -ولا سيما متكلمة الحنفية- لمقالة أبي حنيفة التي أخذها عن حماد، إنما ينسب عند التحقيق إلى الحنفية المتكلمين به، ولا يلزم أن ينسب إلى حماد وأمثاله. ولسنا هنا نقصد إلى المدافعة عن قول حماد؛ فقد تقدم أن قول حماد بدعة بإجماع السلف، وخارج عن السنة والجماعة بإجماع السلف، ولكن الزيادة أيضاً على الأعيان في الأقوال مما لا ينبغي أن يصار إليه، فقد شرح المتأخرون كثيراً من الأقوال وزادوا عليها، كزيادة بعض الحنابلة الذين قصدوا السنة والجماعة على أقوال الإمام أحمد في الصفات، كزيادات أبي عبد الله بن حامد مثلاً، ومنهم من تأولوا أقواله إلى شيء من التعطيل كـ ابن الجوزي وابن عقيل في أول أمره، وكذلك القاضي أبو يعلى في أول أمره. ومن هنا يتبين أن شرح أصحاب الأئمة لكلام الأئمة لا يلزم أن يكون جميعه صواباً. هذا ليس من مسائل الأصول التي قد يتعذر على كثير منهم الضبط لها، ولا سيما أصحاب أبي حنيفة، فإنهم مختلفون في ضبط عقيدته اختلافاً واسعاً، فصوفيتهم يميلون إلى الصوفية، والكرامية يميلون إلى التشبيه، والماتريدية يميلون إلى طريقتهم، وأشعريتهم كذا ومن المعروف أن أكثر ما استعمل من المذاهب الفقهية مذهب الأحناف .. فهذا المذهب فيه إشكال من هذا الوجه. وكذلك فيه إشكال من جهة أن أبا حنيفة رحمه الله رجل اختلف عليه كثيراً، وروي عنه أشياء، وبلغت الأئمة الكبار كـ أحمد وأمثاله عنه بلاغات شديدة، لو صحت عنه لكان من كبار أهل البدع، كما يذكر ذلك عبد الله بن أحمد والخطيب البغدادي وابن عدي وأمثال هؤلاء. وقد يقول قائل: إن بعض الأسانيد في السنة لـ عبد الله بن أحمد أسانيد صحيحة عن فلان وفلان من الأئمة .. فنقول: صحة الإسناد لا تعني أن المتكلم أخذ هذا القول أو سمعه من أبي حنيفة، إنما هذا الإمام الذي صح الإسناد إليه بحسب إسناد عبد الله بن أحمد بلغه هذا القول عن أبي حنيفة فقاله، وهذه بلاغات، فليس الشأن مقتصراً على الطعن في أسانيد ثابتة إلى فلان وفلان من الأئمة، بل الشأن في المقدمة التي هي أهم من هذا، وهي: أن هذا المتكلم -في الغالب- لم يسمع هذا القول من أبي حنيفة، وإنما بلغه بلاغاً، ولهذا لم ينضبط عن أبي حنيفة شيء ثابت، ولو انضبط لشاع عند الأئمة، ولهذا يجعل شيخ الإسلام ابن تيمية أبا حنيفة على السنة والجماعة، وإنما نستثنيه في مسألة الإيمان، وهذا هو التحقيق. ولو فرض جدلاً أن أبا حنيفة كان عنده بدع ما بلغت فهذا بينه وبين ربه، وليس من المقصود في السنة أن يتهم أحد أو يجزم له بشيء لم ينضبط عنه.

الأدلة الشرعية والعقلية على أن الإيمان يزيد وينقص

الأدلة الشرعية والعقلية على أن الإيمان يزيد وينقص [وكذلك صناعات الناس، لو أن قوماً ابتنوا حائطاً .. وكان بعضهم في تأسيسه، وآخر قد نصفه، وثالث قد قارب الفراغ منه، قيل لهم جميعاً: بناة، وهم متباينون في بنائهم. وكذلك لو أن قوماً أمروا بدخول دار، فدخلها أحدهم، فلما تعتب الباب أقام مكانه وجاوزه الآخر بخطوات، ومضى الثالث إلى وسطها، قيل لهم جميعاً: داخلون، وبعضهم فيها أكثر مدحاً من بعض. فهذا الكلام المعقول عند العرب السائر فيهم، فكذلك المذهب في الإيمان، إنما هو دخول في الدين، قال الله تبارك وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر:1 - 3] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] فالسلم الإسلام، وقوله: (كافة) معناها عند العرب الإحاطة بالشيء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) فصارت الخمس كلها هي الملة التي سماها الله سلماً مفروضاً. فوجدنا أعمال البر وصناعات الأيدي ودخول المساكن كلها تشهد على اجتماع الاسم وتفاضل الدرجات فيها، هذا في التشبيه والنظر، مع ما احتججنا به من الكتاب والسنة، فهكذا الإيمان هو درجات ومنازل، وإن كان سمى أهله اسماً واحداً وإنما هو عمل من أعمال تعبّد الله به عباده وفرضه على جوارحهم، وجعل أصله في معرفة القلب، ثم جعل المنطق شاهداً عليه، ثم الأعمال مصدقة له، وإنما أعطى الله كل جارحة عملاً لم يعطه الأخرى، فعمل القلب الاعتقاد، وعمل اللسان القول، وعمل اليد التناول، وعمل الرجل المشي، وكلها يجمعها اسم العمل، فالإيمان على هذا التناول إنما هو كله مبني على العمل، من أوله إلى آخره، إلا أنه يتفاضل في الدرجات على ما وصفنا. وزعم من خالفنا أن القول دون العمل، فهذا عندنا متناقض، لأنه إذا جعله قولاً فقد أقر أنه عمل، وهو لا يدري بما أعلمتك من العلة الموهومة عند العرب في تسمية أفعال الجوارح عملا. وتصديقه في تأويل الكتاب في عمل القلب واللسان، قول الله في القلب: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] وقال: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] وقال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج:35] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وهي القلب) وإذا كان القلب مطمئناً مرة، ويصغى أخرى، ويوجل ثالثة، ثم يكون منه الصلاح والفساد، فأي عمل أكثر من هذا، ثم بين ما ذكرنا قوله: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8] فهذا ما في عمل القلب. وأما عمل اللسان فقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} [النساء:108] فذكر القول ثم سماه عملاً، ثم قال: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41] هل كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم إلا دعاؤه إياهم إلى الله، وردهم عليه قوله بالتكذيب، وقد أسماها هاهنا عملاً؟ وقال في موضع ثالث: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] * {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:52] إلى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] فهل يكون التصديق إلا بالقول، وقد جعل صاحبها هاهنا عاملاً؟! ثم قال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} [سبأ:13] فأكثر ما يعرف الناس من الشكر أنه الحمد والثناء باللسان، وإن كانت المكافأة قد تدعى شكراً. فكل هذا الذي تأولنا إنما هو على ظاهر القرآن وما وجدنا أهل العلم يتأولونه، والله أعلم بما أراد، إلا أن هذا هو المستفيض في كلام العرب غير المدفوع، فتسميتهم الكلام عملاً، من ذلك أن يقال: لقد عمل فلان اليوم عملاً كثيراً، إذا نطق بحق وأقام الشهادة، ونحو هذا، وكذلك إن أسمع رجلٌ صاحبه مكروهاً، قيل: قد عمل به الفاقرة، وفعل به الأفاعيل، ونحوه من القول، فسموه عملاً، وهو لم يزده على المنطق. ومنه الحديث المأثور: (من عد كلامه من عمله، قلّ كلامه إلا فيما ينفعه). فوجدنا تأويل القرآن، وآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وما مضت عليه العلماء، وصحة النظر، كلها تصدق أهل السنة في الإيمان، فيبقى القول الآخر، فأي شيء يتبع بعد هذه الحجج الأربع؟! وقد يلزم أهل هذا الرأي ممن يدعي أن المتكلم بالإيمان مستكمل له، من التبعة ما هو أشد مما ذكرنا، وذلك فيما قص علينا من نبأ إبليس في السجود لآدم، فإنه قال: {إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} [ص:74] فجعله الله بالاستكبار كافراً وهو مقر به غير جاحد له، ألا تسمع: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] وقوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] فهذا الآن مقر بأن الله ربه، وأثبت القدر أيضاً في قوله: (أَغْوَيْتَنِي) وقد تأول بعضهم قوله: (وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ) أنه كان كافراً قبل ذلك! ولا وجه لهذا عندي، لأنه لو كان كافراً قبل أن يؤمر بالسجود لما كان في عداد الملائكة، ولا كان عاصياً إذا لم يكن ممن أمر بالسجود. وينبغي في هذا القول أن يكون إبليس قد عاد إلى الإيمان بعد الكفر لقوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] وقوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فهل يجوز لمن يعرف الله وكتابه وما جاء من عنده أن يثبت الإيمان لإبليس اليوم؟!]. هذا هو ما سبق: وهو أن زيادة الإيمان دليلها آيات في القرآن، وأيضاً دليلها الضرورة الشرعية والضرورة العقلية، فإن تماثل بني آدم في فعل ما شرعي أو غير شرعي تماثل ممتنع، ولهذا لا يوجد فعل من الأفعال، إلا وأهله القاصدون إليه يتفاضلون فيه، وهذا هو مقصود المصنف لما قال: "وكذلك صناعات الناس". أي: أن من قصدوا إلى صناعة شيء لابد أن يتفاضلوا، ولهذا يكون هذا في مبدأ الصناعة، وهذا في وسطها، وهذا في منتهاها، وهذا تقدم على هذا، وهذا أتقن من هذا .. إلى غير ذلك. فالقول: بأن الإيمان لا يتفاضل قول ممتنع في العقل .. ممتنع في الخارج، ولهذا كان من فقه السلف أنهم ألزموا الذين لا يقولون بتفاضل الإيمان، وزيادته ونقصانه بلازم يلزمهم، وإن كان عند التحقيق ليس مذهباً لهم، قالوا: يلزم من هذا القول أن يكون إيمان جبريل كإيمان آحاد الناس، وأن يكون إيمان أبي بكر كإيمان الفساق .. وهذا فعلاً لازم، يدل على بطلان هذا المذهب، لأن من يقول: إن الإيمان واحد، يلزمه أن إيمان أبي بكر كإيمان الحجاج بن يوسف، أو أمثال هؤلاء ممن اشتهر بشيء من القتل أو الفجور أو الفسوق. فهذا القول يعلم بديهةً بضرورة العقل أنه ممتنع، وعلى هذا يكون أصل هذا القول ممتنعاً عقلاً وشرعاً.

شرح كتاب الإيمان [8]

شرح كتاب الإيمان [8] معتقد غلاة المرجئة والجهمية في الإيمان أنه العلم والمعرفة، ولازم قولهم هذا أن أغلظ الكفار كفراً- كفرعون وإبليس- مؤمنون؛ لأنهم عرفوا الله وعرفوا دينه، وهذا قول باطل ترده العقول السليمة والفطر المستقيمة، فالعلم الإداركي المعرفي لا يحصل به الإيمان، وإنما يحصل الإيمان بعلم القبول.

باب من جعل الإيمان المعرفة بالقلب وإن لم يكن عمل

باب من جعل الإيمان المعرفة بالقلب وإن لم يكن عمل [قال أبو عبيد: قد ذكرنا ما كان من مفارقة القوم إيانا في أن العمل من الإيمان، على أنهم وإن كانوا لنا مفارقين، فإنهم ذهبوا إلى مذهب قد يقع الغلط في مثله. ثم حدثت فرقة ثالثة شذت عن الطائفتين جميعاً ليست من أهل العلم ولا الدين، فقالوا: الإيمان معرفة بالقلوب بالله وحده، وإن لم يكن هناك قول ولا عمل! وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية؛ لمعارضته لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالرد والتكذيب، ألا تسمع قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة:136]. الآية، فجعل القول فرضاً حتماً، كما جعل معرفته فرضاً ولم يرض بأن يقول: اعرفوني بقلوبكم. ثم أوجب مع الإقرار الإيمان بالكتب والرسل كإيجاب الإيمان ولم يجعل لأحد إيمانا إلا بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه} [النساء:136] وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجعل الله معرفتهم به إذ تركوا الشهادة له بألسنتهم إيماناً؛ ثم سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) في أشياء كثيرة من هذا لا تحصى. وزعمت هذه الفرقة أن الله رضي عنهم بالمعرفة! ولو كان أمر الله ودينه على ما يقول هؤلاء ما عرف الإسلام من الجاهلية، ولا فرقت الملل بعضها من بعض، إذ كان يرضى منهم بالدعوى على قلوبهم، غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة والبراءة مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بالألسنة بعد القلوب، ولو كان هذا يكون مؤمناً ثم شهد رجل بلسانه أن الله ثاني اثنين كما يقول المجوس والزنادقة، أو ثالث كقول النصارى، وصلى للصليب، وعبد النيران بعد أن يكون قلبه على المعرفة بالله لكان يلزم قائل هذه المقالة أن يجعله مؤمناً مستكملاً الإيمان كإيمان الملائكة والنبيين! فهل يلفظ بهذا أحد يعرف الله أو مؤمن له بكتاب أو رسول؟ وهذا عندنا كفر لم يبلغه إبليس فمن دونه من الكفار قط!].

قول غلاة المرجئة والجهمية أن الإيمان هو العلم والمعرفة

قول غلاة المرجئة والجهمية أن الإيمان هو العلم والمعرفة هذا القول -وهو أن الإيمان هو العلم، أو الإيمان هو المعرفة- هو قول غالية المرجئة، وهو مضاف إلى الجهم بن صفوان الرجل المعروف باختراع البدع، وهو من كبار أئمة الضلال الذين أجمع السلف على ذمهم وتبديعهم، بل وذهب طائفة إلى تكفيره، وقد قتل، وإن كان اختلف السبب في قتله، ويضاف ما يقارب هذا القول إلى أبي الحسين الصالحي وهو من كبار المرجئة.

أنواع العلم

أنواع العلم هنا سؤالان:- السؤال الأول: أليس العلم يعد إيماناً في كتاب الله سبحانه وتعالى؟ أليس قد عظم الله شأن العلم به، وقال صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله، دخل الجنة) وفي قول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد:19] والجواب: أن العلم ينقسم إلى نوعين: النوع الأول: علم إدراك. النوع الثاني: وعلم قبول. والذي عظمه الشارع ووصف المؤمنين به هو علم القبول، وهذا هو الذي وصِف أهل الإيمان به في قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18] فالمقصود بالعلم هنا علم القبول لا علم الإدراك، وهو العلم الإيماني. وأما علم الإدراك فإنه يقع لغير المسلمين، وهو التصور المحض للشيء، والذي لا يتبعه إذعان وقبول، وهو المذكور عن الكفار في مثل قول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] فهذه معرفة إدراك لا معرفة قبول، وهذا هو المذكور في قول الله تعالى عن أغلظ الكفار كفراً وهو فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] وبهذا يتبين ضرورة اعتبار الأسماء في كتاب الله بسياقاتها. وقد يقول قائل -مثلاً-: إن الجهل ليس عذراً في مسألة التكفير؛ لأن الله كفّر الكفار وقد وصفهم بالجهل في آيات كثيرة في كتابه، فقد وصفهم بأنهم أهل جاهلية إلى غير ذلك، مما يدل على أن علمهم ليس بلازم، وأن الجهل ليس عذراً في التكفير، وليس مانعاً من التكفير. وهناك أيضاً من ينظر على العكس في هذه المسألة، فيقول: إن الله لم يكفر الكفار إلا بعدما قام عليهم العلم، ولهذا وصفهم بقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] فنقول: ألا يصح أن يقال عن القوم الذين قال الله عنهم: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] أو قال عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] فأثبت لهم شديداً من قدر العلم الإدراكي أن هؤلاء في كتاب الله هم أهل الجهل والجاهلية؟ أليس الله يقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] واليهود يدخلون في هذا السياق؟ إذاً: لهم قلوب لا يفقهون بها، ومع ذلك هم في السياق الآخر يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. إذاً: الله سبحانه وتعالى وصف المشركين بالجهل في مقام، ووصفهم بالإدراك في مقام آخر، فهو سبحانه وتعالى قد نفى عنهم تحقيق علم القبول، أما علم الإدراك فهو موجود، وإلا لو كان علم الإدراك غير موجود فإن الحجة لن تقوم عليهم، وإذا كان الرسل يبعثون، ولا يقوم على المكلفين العلم الإدراكي، فما معنى أن الرسل بعثت؟! وما معنى أن الحجة قامت؟! ولهذا لما بعث الله الرسل قامت بهم الحجة؛ لأن المخاطبين حصلوا علم الإدراك، وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء من نبي إلا قد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر) أي: ما مثله يجب أن يؤمن البشر به. وهذه المسألة -وهي اختلاف مورد الأسماء في كتاب الله- يأتي إن شاء الله ذكرها في كتاب شرح حديث الافتراق؛ لأنه يقع عنها كثير من الاختلاف. إذاً: العلم الإدراكي يقع للكفار، وأما علم القبول فهو العلم الإيماني.

ما هو العلم الذي أراده الجهم في قوله أن الإيمان هو العلم والمعرفة

ما هو العلم الذي أراده الجهم في قوله أن الإيمان هو العلم والمعرفة السؤال الثاني: هل أراد الجهم بن صفوان لما قال: إن الإيمان هو المعرفة العلم الإدراكي، أم أراد العلم القبولي ولكنه أخرج العمل منه؟ هذا أمر متردد فيه، والرجل ليس نزيهاً عن الأخذ عن الفلسفة، ومن المعلوم أن أساطين المتكلمين لخصوا كثيراً من كلامهم في مسائل أصول الدين عند المسلمين من فلسفة الفلاسفة إما فلسفة اليونان أو غيرهم، وقد كان يقال عند الفلاسفة: إن العلم هو أشرف المقاصد. ويريدون بالعلم العلم الإدراكي، وليس العلم الذي عنه قبول؛ لأنهم لا يؤمنون بمقام العبودية لله سبحانه وتعالى. فإذا قيل: ماذا أراد جهم بقوله هذا؟ قيل: هذا متردد، ف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يميل في تقاريره -وإن كان لا يصرح به- أن الجهم بن صفوان يذهب إلى أن العلم هنا هو العلم الإدراكي، ولهذا يعريه عن أعمال القلوب والقبول، ويرى أن الإيمان محض معرفة .. فهذا فهم لكلام جهم. والفهم الثاني: فهم أبي الحسن الأشعري، فقد قال الأشعري في مقالاته: "إن جهماً يقول: الإيمان هو المعرفة والعلم". لكن لما فسر أبو الحسن الأشعري مقالة جهم ضمنها -كما في كتاب مقالات الإسلاميين- معانٍ قلبية كالمحبة والخضوع، فقال: "فإذا عرف محبةً وخضوعاً كان عنده مؤمناً". فواضح من تفسير الأشعري لمقالة جهم أن الأشعري يفسر العلم عند الجهم بعلم القبول، ولكنه يغلو في تضييقه حتى يخرج جملة أعمال القلوب منه، ويخرج الأعمال الظاهرة منه. فهذا هو التردد في تفسير كلام الجهم. وقد تقدم أن شيخ الإسلام إذا أراد تفسير قول الجهم وحده فكأنه يميل في تقريره إلى أن جهماً يذهب إلى أنه علم إدراكي، ولكن يشكل عليه في كلام شيخ الإسلام نفسه أنه إذا تكلم عن مذهب أبي الحسن الأشعري فإنه يقول: "إن قول أبي الحسن هذا -أي: أن الإيمان هو التصديق- أصله قول جهم بن صفوان ". مع أن أبا الحسن الأشعري قطعاً لا يقصد بالتصديق العلم الإدراكي، وإنما يريد علم القبول، فهل أراد ابن تيمية بهذا التردد في تفسير كلام جهم، أم أنه أراد أن الأشعري يشارك الجهم في الأصل دون التحقيق للقول؟ هذه مسألة تردد. وقد يقول قائل: فما هو الراجح؟ أقول: لا يلزم العلم بالراجح، فـ الجهم أقل من أن نهتم بترجيح إلى أي المذهبين يذهب، لكن المهم أنه يذهب إلى مذهب باطل بدعي إلخ؛ فالسلف كـ وكيع وأحمد وعبد الرحمن بن مهدي وأمثالهم جعلوا مقالة جهم بن صفوان كفراً، وقد نقل هذا شيخ الإسلام وغيره، وهذا ما أشار إليه المصنف في قوله: "وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية".

حقيقة الخلاف بين مرجئة الفقهاء وبين السلف في مسألة الإيمان

حقيقة الخلاف بين مرجئة الفقهاء وبين السلف في مسألة الإيمان قبل أن ننتقل عن تقرير الفرق بين قول مرجئة الفقهاء وقول السلف، يمكن أن يلخص هذا الفرق من أوجه؛ لأن هذا الفرق يتلخص عند المتأخرين بجملة من الألفاظ، والمعتبر هو أن تذكر الحقائق المتضمنة لهذا الفرق، فإن بعض الحنفية المنتصرين لقول أبي حنيفة يقولون: إن الخلاف بين أبي حنيفة وأمثاله، وبين العامة من السلف خلاف لفظي، ومنهم من عبر بأن هذا الخلاف من الخلاف الصوري، أما الإمام ابن تيمية رحمه الله فإنه يقول: "إن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي". ويقول: "إن بدعة حماد بن أبي سليمان ومن وافقه من الفقهاء من بدع الأقوال وليست من بدع العقائد". وهذه التعبيرات في حقيقتها ليست تقريراً للفرق بقدر ما هي أوصاف لهذا المذهب وحقيقة مخالفته. أما القول بأن الخلاف لفظي، فهذا تعبير حنفي لم ينتصر له إلا من يعظم قول أبي حنيفة من الأحناف، وهو مائل إلى الإرجاء. وهذا التعبير لا شك أنه غلط؛ فإن الخلاف بين الجمهور من السلف، وبين أبي حنيفة وحماد وأمثالهم ليس خلافاً لفظياً، ولاسيما أن السلف الأول لم يعرفوا هذا المصطلح -وهو مصطلح الخلاف اللفظي- وإنما درج على هذا المصطلح أهل النظر، حيث يعبرون به عن المسائل التي لا ثمرة للخلاف فيها؛ أي: إنما اختلفت الألفاظ .. وهذا لا شك أنه غلط، بل الخلاف اللفظي في هذه المسألة إنما هو في جمل الأئمة في تعريف الإيمان، فإن منهم من يقول: الإيمان قول وفعل، ومنهم من يقول: قول وعمل، ومنهم من يقول: قول وعمل ونية .. فهذا هو الذي يصح أن يقال: إنه خلاف لفظي؛ لأنه لا ثمرة له، بل المعنى متفق على التمام. وأما قول حماد ومن وافقه كـ أبي حنيفة وقول العامة من السلف فإن الخلاف بينهما ليس لفظياً على هذا التقرير. ولهذا من عبر بأنه لفظي أو صوري وأطلق فإن قوله هذا غلط وفيه توهم كثير. وأما شيخ الإسلام رحمه الله فإنه لم يعبر بهذا في شيء من كتبه، وإنما قال: "إن أكثر الخلاف لفظي". ومراده بهذا أن الفقهاء كـ حماد وأمثاله يوافقون السلف في مسألة الأحكام في الآخرة من جهة وعيد أهل الكبائر، ويوافقون السلف في مسألة لزوم الواجبات، وفي الطعن على أهل الكبائر بالفسق وأمثال هذه المسائل، ولم يرد الإمام ابن تيمية رحمه الله أن الخلاف لا ثمرة له من كل وجه. وكذلك قوله رحمه الله: "إن بدعتهم -يعني: الفقهاء- هي من بدع الأقوال وليست من بدع العقائد .. " إنما هو مصطلح متأخر ينبغي أن يفقه على وجهه، فإنه يمكن أن يقال باعتبار آخر: إن بدعة حماد بدعة عقدية، فإنه تكلم في مسألة تعد من أصول العقائد، وإخراج العمل من الإيمان يعد غلطاً صريحاً على الشريعة، وعلى إجماع السلف الأول قبل ظهور مقالة حماد. ومثل هذه التعبيرات من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيها نفس متأخر لا يقصد إلى نقدها أو عدم التحقيق لها، وإنما يقصد إلى ضرورة ولزوم فقهها على وجهها؛ حتى لا يفهم من قول شيخ الإسلام ويتبادر إلى ذهن ما أن هذه المسألة مما يسوغ فيها الخلاف أو الاجتهاد، أو أنه لا ينكر على حماد ومن وافقه، أو أن هذا ليس من باب الأصول وإنما هو من باب الفروع .. فهذه التبادرات الذهنية لم يردها شيخ الإسلام رحمه الله، فإننا نجد أن شيخ الإسلام مع أقواله السابقة إلا أنه في مقام آخر يشنع على هذا القول ويقول: "إن أصحابه خالفوا السنة والكتاب والإجماع الأول -إجماع الصحابة- في إخراجهم العمل عن مسمى الإيمان"، وقال: "إن السلف ممن شارك هؤلاء في العصر أو سبقهم قد نصوا على أن العمل أصل في الإيمان ... " إلى غير ذلك. أي: أن ابن تيمية رحمه الله يعارض هذا المذهب بشدة. فتعبيره السالف في وصفه لهذا المذهب هو وصف يفقه على وجهه، ويمكن أن يقال: إنه يفقه من كلام شيخ الإسلام نفسه في مواضع أخرى. وعليه فهذا اصطلاح حين يقال: إن هذا من بدع الأقوال، فمن قال: إن هذه من بدع الأقوال وأراد بذلك أن من قال هذا القول لم يخرج به عن مسمى السنة والجماعة من كل وجه، ولم يصبح من أئمة أهل البدع، فهذا مراد صحيح، وإن أراد به أن المسألة من الفروع، أو مما يسوغ فيه الاجتهاد، أو أنها لم تخالف إجماعاً منضبطاً أو ما إلى ذلك فهذا كله غلط. وعلى هذا يصح أن يقال: إنها -أي بدعة الفقهاء- من بدع الأقوال، ويصح أن يقال أيضاً: إنها من بدع العقائد. ومن قال: إنها بدعة عقدية؛ فإنه لا يمكن أن ينازع في قوله هذا، وإنما المهم أن يضبط هذا المراد. إذاً تلخص لنا: أن تسمية بدعة حماد بن أبي سليمان ومن وافقه -أو ما يسمى بقول مرجئة الفقهاء- بدعةً قولية أو بدعة عقدية التحقيق فيه أن هذا اصطلاح وصفي، وإنما المهم في شأنه المراد به. فمن قال: إنها بدعة قولية، وفسرها من جنس تفسير شيخ الإسلام فهذا صحيح. ومن قال: إنها بدعة قولية، وأراد بذلك أنها من مسائل الفروع أو مما يسوغ فيه الاجتهاد، أو لم ينضبط للسلف فيها إجماع، أو ما إلى ذلك من الافتراضات، فهذا قول غلط وإن كان اللفظ قد يكون مشتركاً. وبعبارة أخرى: أن وصف بدعة الفقهاء بكونها بدعة قولية أو بدعة عقدية، يقال فيه: هذه ألفاظ أو أوصاف مشتركة، فقد يصح في مقام أن يقال: إنها بدعة قولية، وقد يمنع ذلك في مقام آخر، وكذلك تسميتها بدعة عقدية قد يصح في مقام ويمنع في مقام بحسب مراد من تكلم به. ولهذا ليس المهم عند طالب العلم أن يحرر: هل نقول إنها بدعة قولية أو نقول: إنها بدعة عقدية، إنما المهم أن يحرر المعاني المرادة بهذه الأوصاف.

الفروق بين مذهب مرجئة الفقهاء ومذهب السلف في مسألة الإيمان

الفروق بين مذهب مرجئة الفقهاء ومذهب السلف في مسألة الإيمان أما الفروقات بين مذهب حماد بن أبي سليمان وبين مذهب العامة من السلف فهي كالتالي: أولاً: قد تقدم أن في المسألة إجماعاً قطعياً من السلف قبل ظهور مقالة حماد، ولهذا نقول: هو قول السواد أو الجمهور من السلف باعتبار، ولكن إذا قررنا الإجماع قيل: القول بأن الإيمان قول وعمل، وأن العمل داخل في مسمى الإيمان، هو إجماع للسلف. أي: إذا أردنا تقرير الدلائل على هذا القول؛ فإن الدلائل على أن الإيمان قول وعمل وأن العمل داخل في الإيمان، الكتاب والسنة والإجماع القطعي، وليس الإجماع الظني أو السكوتي. فإن قيل: لقد سُمي حماد ومن وافقه من أهل السنة ومن السلف! قيل: هم كذلك، وهم مخصومون بالإجماع المنضبط الصريح قبلهم؛ ولهذا كان قولهم بدعة، وإلا لو لم يخصموا بالإجماع قبلهم ما كان قولهم بدعة، بل كان من مسائل النزاع والخلاف بين السلف. ثانياً: أن حماداً ومن وافقه لا يذهبون إلى أن العمل أصل في الإيمان، ولا يُدخلون العمل في مسمى الإيمان، فهم لم يدخلوه في مسمى الإيمان فضلاً عن أن يجعلوه أصلاً، وعلى هذا فإن حماداً ومن وافقه لا يذهبون إلى التكفير بترك العمل سواء كان ترك آحاد من العمل أو ترك جملة العمل. وهذا الفرق باعتبار جملة العمل هو فرق لازم، أما باعتبار آحاد العمل فإن فيه تفصيلاً تقدمت الإشارة إليه. ثالثاً: أن حماداً خالف صريح الكتاب والسنة؛ فإن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أدخلا العمل في مسمى الإيمان. فإن قيل: إن هذه مخالفة لفظية. قيل: بل هي مخالفة على الحقيقة، فإن تسمية العمل إيماناً ليس أمراً لفظياً، بل له حقيقة شرعية دينية. رابعاً: أن السلف يذهبون إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وحماداً ومن وافقه يجعلون الإيمان على قدر متوحد، وإن لم يكن قولهم هذا مطرداً من جنس اطراد في قول المتكلمين الذين يجعلون الإيمان واحداً إلى أمثال ذلك من الفروقات. ومن نتائج بعض هذه الفروقات أن أبا حنيفة والأحناف لا يكفرون تارك الصلاة؛ لأن الصلاة عمل. ومن هنا قيل: إن من لم يكفر تارك الصلاة ينظر في مبنى قوله: فإن كان مبنى قوله أن الصلاة عمل والعمل لا يكفر تاركه، فهذا القول بدعة. وإن كان معتبر النظر في الأدلة فهذا دائر بين الراجح والمرجوح.

مسألة عدم تكفير الإمام مالك والشافعي لتارك الصلاة

مسألة عدم تكفير الإمام مالك والشافعي لتارك الصلاة من المهم هنا أن ننبه إلى مسألة وهي: أن القول بأن مالكاً والشافعي -كما يقول بعض أهل العلم من المعاصرين- لم يثبت عنهما أنهما لم يكفرا تارك الصلاة وأنه من غلط المتأخرين من أصحابهما، قول ليس بصحيح؛ لأمرين: الأمر الأول: أن لدى أصحاب مالك إطباقاً -في الجملة- على أن مالكاً لا يكفر تارك الصلاة، فمن المتعذر أن الأصحاب بجملتهم ومحققيهم وطبقاتهم يجمعون على غلط على مالك، بل هذا فيه تكلف وزيادة، وهم علماء وأجلاء وعقلاء، ولاسيما أن كباراً من المالكية القدماء كانوا يذهبون إلى ذلك ويجعلونه مذهباً لإمامهم، فمن المتعذر عقلاً أن يطبق المالكية على قول ومالك بريء منه براءة تامة، بل إن مالكاً يجعله إجماعاً على خلافه. الأمر الثاني: أن من هو خبير بأقوال الفقهاء والأئمة، وهو من المتقدمين في الجملة، وهو محمد بن نصر، والذي يعتبر من أضبط الناس للخلاف، وقد أشاد به ابن تيمية رحمه الله وقال عنه: "إنه من أضبط الناس لأقوال الأئمة وخلافهم" يقرر أن هذا قول معروف لـ مالك وجملة من السلف؛ وهو أنهم لا يذهبون إلى كفر تارك الصلاة. إذاً من يقول: إن هذا غلط من متأخري المالكية .. قوله هذا ليس بصحيح، بل هو توارد عند المالكية وتوارد عند الشافعية، وإن كان هذا المذهب مرجوحاً، لكنه مذهب محفوظ وباق؛ مما يجعل المسألة لا يمكن أن تعد من الأصول التي يبدع فيها المخالف. ويلزم من يقول: إن الصلاة مجمع عليها أن يكون مالك خالف إجماع السلف، وأن يكون قوله فرعاً عن قول المرجئة وما إلى ذلك؛ كما قيل عن حماد بن أبي سليمان. وهذه اللزومات ما نطق بها أحد من المحققين لا عن مالك ولا عن الشافعي. وكذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله لم ينكر الخلاف، مع أنه ينتصر لكون ترك الصلاة كفراً، إلا أنه يقر في الجملة بهذا الخلاف، ولا يطعن فيه، وإنما يطعن في مسألة واحدة، وهي: أن من ترك الصلاة -عند الشافعي ومالك - ودعي إليها فإن أبى قتل. قال: "إن المتأخرين من أصحاب مالك قالوا: يقتل فاسقاً. قال: وهذا غلط على مالك، بل هذا إذا قتل لابد أن يقتل كافراً كضرورة عقلية، فإنه يمتنع أن يصبر على السيف مقابل أن يؤدي صلاة أو صلاتين مما حضر وقتها .. ". فهذا ما يقال في هذه المسألة.

شرح كتاب الإيمان [9]

شرح كتاب الإيمان [9] ذم السلف لأهل البدع سنة سلفية ماضية، وهم عند ذمهم لهم إنما يريدون الطعن على بدعتهم، وبيان أحوالهم وما إلى ذلك، لا التقرير لمآلهم في الآخرة، فإنه لم يكن من منهج السلف الاشتغال بمسألة تقرير المآلات في الجملة، وإنما كانوا يكفرون الأعيان الذين استقر وظهر كفرهم.

باب ذكر ما عابت به العلماء من جعل الإيمان قولا بلا عمل وما نهوا عنه من مجالستهم

باب ذكر ما عابت به العلماء من جعل الإيمان قولاً بلا عمل وما نهوا عنه من مجالستهم [قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو السيباني قال: قال حذيفة: إني لأعرف أهل دينين، أهل ذينك الدينين في النار، قوم يقولون: الإيمان قول، وإن زنا وإن سرق، وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس؟! وإنما هما صلاتان! قال: فذكر صلاة المغرب أو العشاء وصلاة الفجر. قال: وقال ضمرة بن ربيعة يحدثه عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن حميد المقرائي عن حذيفة قارن حديث حذيفة هذا قد قرن الإرجاء بحجة الصلاة، وبذلك وصفهم ابن عمر أيضاً: قال أبو عبيد: حدثنا علي بن ثابت الجزري عن ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر قال: صنفان ليس لهم في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية. حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن سلمة بن كهيل قال: اجتمع الضحاك وميسرة وأبو البختري، فأجمعوا على أن الشهادة بدعة، والإرجاء بدعة، والبراءة بدعة. قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن الزهري قال: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أعز على أهلها من هذا الإرجاء. قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن مهدي بن ميمون عن الوليد بن مسلم قال: دخل فلان (قد سماه إسماعيل ولكن تركت اسمه أنا) على جندب بن عبد الله البجلي فسأله عن آية من القرآن؟ فقال: أحرج عليك إن كنت مسلماً لما قمت، قال: أو قال: أن تجالسني أو نحو هذا القول). قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب قال لي سعيد بن جبير غير سائله ولا ذاكراً له شيئاً: لا تجالس فلاناً (وسماه أيضاً) فقال: إنه كان يرى هذا الرأي. والحديث في مجانبة الأهواء كثير، ولكنا إنما قصدنا في كتابنا لهؤلاء خاصة. وعلى مثل هذا القول كان سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس، ومَنْ بعدهم من أرباب العلم وأهل السنة الذين كانوا مصابيح الأرض وأئمة العلم في دهرهم، من أهل العراق والحجاز والشام وغيرها، زارين على أهل البدع كلها، ويرون الإيمان قولاً وعملاً]. في هذا الباب يذكر المصنف رحمه الله ذم السلف لأهل البدع، الذين خالفوا في مسألة الإيمان، وهو مستعمل في كلام السلف رحمهم الله، ومرادهم بذلك: 1 - الذم لأقوالهم. 2 - الذم لأحوالهم. 3 - الذم لطوائفهم. وإن لم يكن هذا الذم مراداً به بالضرورة إبانة المآل. أي: إن ذم الأئمة لأهل البدع ذمٌ متواتر، وإنما يراد به الطعن على بدعتهم، وبيان أحوالهم وما إلى ذلك، لا التقرير لمآلهم في الآخرة؛ فإن مسألة التقرير للمآلات لم يشتغل بها السلف في الجملة، وإنما كانوا يكفرون الأعيان الذين استقر وظهر كفرهم. وننبه إلى أن البعض قد يقول: السلف لا يكفرون الأعيان .. وهذا غلط، بل الأعيان هم الواحد من الناس، وكل من ظهر كفره واستقر وبان عليه أمر الله ورسوله الموجب لكفره فإنه يسمى كافراً، ولا يصح القول: إن السلف لم يكن من طريقتهم التكفير للأعيان، بل يقال: من كفره الله ورسوله، أو ظهر كفره بدليل الشرع فإنه يجب العلم بتكفيره.

مسائل متعلقة بذم السلف لأهل البدع

مسائل متعلقة بذم السلف لأهل البدع ذم السلف لأهل البدع سنة سلفية ماضية، لكن ينبه فيه إلى مسائل، سواء كان الذم في مسألة الإيمان أو غيرها: المسألة الأولى: أن بعض الناقلين لأقوال السلف زادوا عليها في الذم، كنقل أبي إسماعيل الأنصاري الهروي رحمه الله في كتابه: ذم الكلام، فإنه زاد في بعض كلام السلف، أو في النقل عنهم، وهو لم يزد عليهم كذباً ولكنه زاد عليهم تفسيراً. وهذا يبين أن بعض المتأخرين المنتصرين لمذهب أهل السنة، ممن لم يحقق طريقة الأئمة في هذا الباب، يزيدون بفهمهم لمذهب السلف في ذم المخالفين، وقد نص ابن تيمية رحمه الله على أن أبا إسماعيل قد زاد في ذم المخالفين من الجهمية وغيرهم وتكفيرهم. المسألة الثانية: أنه درج في ذم السلف لأهل البدع لفظ التكفير، ولا سيما إذا تكلموا في ذم المخالفين في باب الإلهيات -باب الأسماء والصفات- كالجهمية ومن أنكر الصفات أو عطلها، وعلى جملة من المخطئين في مسائل أخرى من مسائل القدر أو مسائل الإيمان، كتكفيرهم لقول جهم بن صفوان في مسألة الإيمان ونحو ذلك .. فهذا التكفير حكم على هذه المذاهب في الجملة بأنها كفر، وإن كان لا يلزم من ذلك أن أصحابها يكونون كفاراً. وسيأتي شرح هذه المسألة -إن شاء الله- مستوفى في شرح حديث الافتراق. المسألة الثالثة: أن بعض المصنفين من أهل السنة يذكر باباً في مصنفه لمثل هذا القول -وهو الذم لأهل البدع أو للمخالفين- ويروي في صدره شيئاً يُرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كحديث: (القدرية مجوس هذه الأمة) وغيرها من الأحاديث المرفوعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي صرحت باسم بعض طوائف أهل البدع كالقدرية، أو الرافضة، أو المرجئة .. والتحقيق فيها أنه لم يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث واحد في تسمية أية طائفة بدعية، لا القدرية ولا المرجئة ولا الرافضة ولا المعتزلة ولا الجهمية، ولهذا لم يعتبرها الأئمة كـ أحمد وأمثاله في ذم أهل البدع، إنما يرويه بعض المتأخرين وبعض من هو دون هذا القدر ممن صنف في السنة والجماعة. أما ما ورد من ذم عن بعض الصحابة فلاشك أن بعضه صحيحاً، ولاسيما ذم القدرية؛ فإنه محفوظ عن عبد الله بن عمر وأمثاله. والمقصود: أن هذه الأحاديث من حيث هي مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح منها شيء، إنما الثابت في وصف النبي صلى الله عليه وسلم هو وصفه للخوارج، وهو حديث متواتر متفق عليه.

شرح كتاب الإيمان [10]

شرح كتاب الإيمان [10] معتقد أهل السنة أن مرتكب المعصية لا يصرف عنه مسمى الإيمان، ولا يطلق عليه مسمى الكفر، حتى وإن كان المقصود به كفر النعمة، وقد فرع أهل السنة على مسألة زيادة الإيمان ونقصه أن نفي الإيمان عن مرتكب المعصية لا يقصد به نفي الأصل وإنما نفي الكمال.

باب الخروج من الإيمان بالمعاصي

باب الخروج من الإيمان بالمعاصي [قال أبو عبيد: أما هذا الذي فيه ذكر الذنوب والجرائم، فإن الآثار جاءت بالتغليظ على أربعة أنواع:]. أراد رحمه الله بهذا الباب بيان الأوصاف الشرعية في الكتاب والسنة في ذكر الذنوب المخالفة للإيمان؛ فإن الشارع وصفها بأربعة أوصاف سيذكرها المصنف رحمه الله، ويبين المذاهب في تفسيرها، ثم يبين الصواب عند السلف، وهذا باب فاضل، ولا سيما أن بعض المذاهب التي ذمها المصنف عند ذكره لها قد دخلت على كثير من متأخري أهل السنة، ففسروا ما هو من هذه الأحاديث بها.

أنواع الذنوب والمعاصي المخالفة للإيمان

أنواع الذنوب والمعاصي المخالفة للإيمان [فاثنان منها فيها نفي الإيمان، والبراءة من النبي صلى الله عليه، والآخران فيها تسمية الكفر وذكر الشرك وكل نوع من هذه الأربعة تجمع أحاديث ذوات عدة. فمن النوع الذي فيه نفي الإيمان حديث النبي صلى الله عليه: (لا يزني الرجل حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن) وقوله: (ما هو بمؤمن من لا يأمن جاره غوائله) وقوله: (الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن) وقوله: (لا يبغض الأنصار أحد يؤمن بالله ورسوله). ومنه قوله: (والذي نفسي بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا) وكذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (إياكم والكذب، فإنه يجانب الإيمان) وقول عمر رضي الله عنه: (لا إيمان لمن لا أمانة له) وقول سعد: (كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب). وقول ابن عمر: (لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقاً، ويدع المزاحة في الكذب). ومن النوع الذي فيه البراءة، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) وكذلك قوله: (ليس منا من حمل السلاح علينا) وكذلك قوله: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا) في أشياء من هذا القبيل. ومن النوع الذي فيه تسمية الكفر قول النبي صلى الله عليه وسلم حين مطروا فقال: (أتدرون ما قال ربكم؟ قال: أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما الذي يقول: مطرنا بنجم كذا وكذا، كافر بي مؤمن بالكوكب، والذي يقول: هذا رزق الله ورحمته مؤمن بي وكافر بالكوكب) وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وقوله: (من قال لصاحبه: كافر فقد باء به أحدهما) وقوله: (من أتى ساحراً أو كاهناً فصدقه بما يقول أو أتى حائضاً أو امرأة في دبرها فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أو كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) وقول عبد الله: (سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر)، وبعضهم يرفعه. ومن النوع الذي فيه ذكر الشرك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر؛ قيل: يا رسول الله! وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء) ومنه قوله: (الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل)، وقول عبد الله في التمائم والتيولة: (إنها من الشرك)، وقول ابن عباس: (إن القوم يشركون بكلبهم! يقولون: كلبنا يحرسنا، ولولا كلبنا لسرقنا)]. فالنوع الأول: أدلة شرعية ورد فيها نفي الإيمان لموجب عمل. ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة - وهو في الصحيحين-: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) والنوع الثاني: أدلة شرعية ورد فيها البراءة من النبي صلى الله عليه وسلم. ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة أيضاً -وهو في مسلم -: (من غش فليس منا). والنوع الثالث: أدلة شرعية ورد فيها تسمية الكفر. ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة أيضاً -وهو في مسلم -: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت) وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود -وهو في الصحيحين-: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جرير بن عبد الله -وهو في مسلم -: (أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم) وأمثال ذلك. والنوع الرابع: أدلة شرعية ورد فيها تسمية الشرك. ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر -وهو في الترمذي وغيره-: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). فهذه أربعة أوصاف: نفي الإيمان .. البراءة .. تسمية العمل كفراً .. تسمية العمل شركاً.

مذاهب المخالفين للسلف في نصوص الوعيد

مذاهب المخالفين للسلف في نصوص الوعيد [فهذه أربعة أنواع من الحديث، قد كان الناس فيها على أربعة أصناف من التأويل، فطائفة تذهب إلى كفر النعمة، وثانية تحملها على التغليظ والترهيب، وثالثة تجعلها كفر أهل الردة، ورابعة تذهبها كلها وتردها. فكل هذه الوجوه عندنا مردودة غير مقبولة، لما يدخلها من الخلل والفساد، والذي يرد المذهب الأول ما نعرفه من كلام العرب ولغاتها، وذلك أنهم لا يعرفون كفران النعم إلا بالجحد لأنعام الله وآلائه، وهو كالمخبر على نفسه بالعدم، وقد وهب الله له الثروة، أو بالسقم وقد منَّ الله عليه بالسلامة. وكذلك ما يكون من كتمان المحاسن ونشر المصائب، فهذا الذي تسميه العرب كفراناً إن كان ذلك فيما بينهما وبين الله، أو كان من بعضهم لبعض إذا تناكروا اصطناع المعروف عندهم وتجاحدوه. ينبئك عن ذلك مقالة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: (إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير- يعني الزوج- وذلك أن تغضب إحداكن فتقول: ما رأيت منك خيراً قط) فهذا ما في كفر النعمة. وأما القول الثاني المحمول على التغليظ فمن أفظع ما تأول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيداً لا حقيقة له، وهذا يؤول إلى إبطال العقاب، لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها كان ممكناً في العقوبات كلها. وأما الثالث الذي بلغ به كفر الردة نفسها فهو شر من الذي قبله، لأنه مذهب الخوارج الذين مرقوا من الدين بالتأويل، فكفروا الناس بصغار الذنوب وكبارها، وقد علمت ما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المروق وما أذن فيهم من سفك دمائهم. ثم قد وجدنا الله تبارك وتعالى يكذب مقالتهم، وذلك أنه حكم في السارق بقطع اليد، وفي الزاني والقاذف بالجلد، ولو كان الذنب يكفر صاحبه ما كان الحكم على هؤلاء إلا القتل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه) أفلا ترى أنهم لو كانوا كفاراً لما كانت عقوباتهم القطع والجلد؟ وكذلك قول الله فيمن قتل مظلوماً: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء:33] فلو كان القتل كفراً ما كان للولي عفو ولا أخذ دية، ولزمه القتل. وأما القول الرابع الذي فيه تضعيف هذه الآثار فليس مذهب من يعتد بقوله، فلا يلتفت إليه، إنما هو احتجاج أهل الأهواء والبدع الذين قصر عملهم عن الاتساع، وعييت أذهانهم عن وجوهها، فلم يجدوا شيئاً أهون عليهم من أن يقولوا: متناقضة. فأبطلوها كلها!]. أحاديث الوعيد تأتي على جهتين: 1 - وعيد في الآخرة. 2 - وعيد اسمي. فالوعيد في الآخرة كقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء:10] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل من الكعبين ففي النار). وأما الوعيد الاسمي فهو: إخراج مرتكب المعصية عن مسمى اسم شرعي، أو عدم إضافته إلى المسلمين أو إلى المؤمنين أو ما إلى ذلك. وهو كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) وما إلى ذلك.

المذهب الأول: من يفسر نصوص الوعيد بأنها من باب كفر النعمة

المذهب الأول: من يفسر نصوص الوعيد بأنها من باب كفر النعمة المذهب الأول: هو قول من يذهب إلى تفسير هذه النصوص بأنها من باب كفر النعمة، وقد اعترض المصنف على هذا بأن العرب لا تعرف هذا الطرد .. وهذا صحيح؛ فلا يجوز أن تفسر جميع هذه النصوص في جميع مواردها بأنها من باب كفر النعمة؛ لأن كفر النعمة هو الجحد للآلاء أو ما إلى ذلك، هذا هو الذي تعرفه العرب. ولكن ينبه إلى أن المصنف رحمه الله لم يرد إبطال هذا التفسير في جميع الموارد، وإنما أراد إبطال الطرد له، وإلا فإن الله يقول: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:2 - 3] فلا شك أن من خالف فقد كفر شيئاً من النعم. إذاً أراد المصنف أن بعض الأحاديث لا تناسب هذا التفسير لغة .. وهذا صحيح، أما أن هذا حكم على جميع مواردها .. فهذا لم يرده المصنف، وإنما الذي أراد نفيه: أن هذا يسمى في باب كفران النعم. وكأن المصنف إنما رفض هذا التفسير طرداً؛ لأنه من جنس تفسير الإباضية من الخوارج؛ فإنهم يحملون أحاديث الوعيد على تفسير واحد، وهو أنها تدل على كفر النعمة، فالجمهور من الخوارج يقولون: مرتكب الكبيرة كافر كفر ملة. والإباضية منهم يقولون: كافر كفر نعمة؛ فالتزموا تفسير جميع هذه الأحاديث بكفران النعمة. وهذا الطرد مخالف للغة، ومخالف لطريقة السلف، فقد كان السلف يفسرون كل وعيد من الوعيد الاسمي بحسب ما يقتضيه السياق، فقد يكون السياق يقتضي أنه كفر نعمة فيجعلونه كفر نعمة، وقد يكون السياق يقتضي غير ذلك فيفسرونه بموجبه. وقد يقال: إن كل من عصى الله سبحانه وتعالى فإنه يلزمه أن يكون كافراً لشيء من نعمه. فيقال: إن هذا من باب اللوازم صحيح، ولكن فرق بين تفسير الاسم بحقيقته وتضمنه وبين تفسيره بلازمه؛ فإن الأسماء تفسر بحقائقها المطابقة أو المتضمنة، وأما اللوازم فإنها باب آخر. فصحيح أن كل من أتى كبيرة من الكبائر فقد كفر؛ لأن الله لم يجعل الناس إلا أحد شخصين: إما شاكراً وإما كفوراً، ولكن هذا من باب اللوازم في بعض الموارد، وقد يكون من باب المطابقة في بعض الموارد، وأما جعله مطرداً مطابقاً، فهذا هو الذي أراد المصنف عيبه.

المذهب الثاني: من يحملها على التغليظ

المذهب الثاني: من يحملها على التغليظ المذهب الثاني: وهو مذهب من يحملها على التغليظ، وهذا المذهب قد شاع عند بعض المتأخرين من أهل السنة كذلك، ونسبوه إلى السلف، فقالوا: إن السلف يذهبون إلى أن هذه الأحاديث في الوعيد الاسمي -وبعضهم طرد هذا حتى في وعيد الآخرة- إنما هي من باب التغليظ والترهيب، وليست على ظاهرها أو حقيقتها .. وهذا القول أيضاً بدعة لم ينطق بها السلف، وإنما موجب إضافتها إلى طائفة من السلف: أنه جاء عن بعض السلف أحرف قد كانت زمن السلف من المفصل، وصارت زمن المتأخرين من المجمل .. فقد قال طائفة من السلف -مثلاً-: أمروها كما جاءت. وهذا كما قالوا في الصفات، أي: ترك تفسير أحاديث الوعيد، ولما سئل بعضهم عنها قال: هي على ما قال الله ورسوله، وعلى ما أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فكان بعضهم -أحياناً- يترك التفسير لها، ففهم من هذا بعض المتأخرين أنهم ما كانوا يذهبون إلى أنها على حقيقتها وظاهرها، فقالوا: إذاً يراد بها الترهيب والتغليظ .. فتفسير هذه النصوص بهذا المذهب طرداً وقصراً هو من باب تفسير المرجئة، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "من التزم أنها ترهيب محض فهذا من جنس تفسير الفلاسفة". أي: من جنس قول المتفلسفة الذين عطلوا الوعيد عن حقيقته، وأنكروا حقيقة الثواب والعقاب الجسماني. إذاً هذا قول منكر على هذا الوجه، وإن كانت هذه النصوص -بلا شك- تسمى ترهيباً، ويراد بها الترهيب والتغليظ، ولكن الذي قصد المصنف وغيره من أئمة السنة إبطاله هو أنه لا يصح أن تقصر على مجرد الترهيب الذي معناه أنها لا حقيقة لها في نفس الأمر. ومثال ذلك: أن نفي الإيمان الذي ورد في قول الشارع صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) له حقيقة؛ فالزاني لا يسمى مؤمناً. فإن قيل: كيف لا يسمى مؤمناً؟ قيل: لأن الإيمان هو ما ذكره الله بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] ومن صفاتهم: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] وهذا لم يحفظ فرجه؛ فلا يسمى مؤمناً، فهذا تطابق مع القرآن وليس مخالفةً له. إذاً لا شك أنها تغليظ وترهيب، لكن من قصد أنها تغليظ وترغيب بمعنى أنها لا تفسر، أو أن معانيها غير معلومة، أو أنه لا حقيقة لها .. فكل هذه المعاني بدعة من بدع المرجئة، ومن نسبها إلى أحد من السلف فقد غلط عليه.

المذهب الثالث: من يجعلها من باب كفر أهل الردة

المذهب الثالث: من يجعلها من باب كفر أهل الردة المذهب الثالث: وهو مذهب من يجعلها في باب كفر أهل الردة. وهذا المذهب لم يختلط على أحد من أهل السنة؛ فهو معروفٌ أنه قول الجمهور من الخوارج، وقولهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لم يدخل شيء من مادته على أئمة السنة والجماعة، أو من انتسب إليهم، وإنما الذي دخل شيءٍ من مادته على بعض أئمة السنة ومن اشترك معهم، ونصر مذهبهم، فهو قول المرجئة". إذاً تفسيرها بأنها من باب كفر الردة .. هذا لم يقل به أحد من أئمة السنة، ولا أشكل على أحد؛ لأنه مذهب معروف لجمهور الخوارج، وهو قولٌ بدعي، بخلاف التفسير الأول والتفسير الثاني فإن فيهما اشتباهاً كثيراً، وموجب اشتباههما أنهما ليسا غلطاً محضاً، وإنما الغلط في طردهما أو في القصر عليهما، أو ما إلى ذلك.

المذهب الرابع: من يذهبها كلها ويردها

المذهب الرابع: من يذهبها كلها ويردها المذهب الرابع: وهو مذهب من يذهبها كلها ويردها. وهذا قولٌ أشد نكارة من سابقه. فإن قيل: فمن الذي يذهب إلى هذا القول؟ قيل: لم يعرف عن طائفة معينة في المسلمين أنها تبطل سائر الوعيد، حتى من يقول بترك أخبار الآحاد وعدم الاستدلال بها لا يقولون هذا؛ لأن هذا الوعيد مستعمل في القرآن، وقد ذكر المصنف مثالاً له من القرآن، وهو قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] إذاً: من هي الطائفة التي ترد كل هذه الأحاديث؟ هنا يفسر كلام المصنف على أحد وجهين: الوجه الأول: أنه أراد الأحاديث؛ لأن أمثلته في الجملة من الأحاديث، وهو في مبدأ كلامه يقول: "فهذه أربعة أنواع من الأحاديث ... " إلى أمثال ذلك. فإن أراد الأحاديث فكأنه قصد من طعن في هذه الأحاديث، فلا معنى أنها ليست من المتواتر. الوجه الثاني: أنه أراد بهذا النوع حتى ما دخل فيه من نصوص القرآن، فالطائفة التي ترد هذا كله ليست طائفة معينة، وكأنه أراد الطوائف البدعية التي لم تحقق هذه الأحاديث، ولم تعتبر حقائقها، وخالفتها في أقوالها وما إلى ذلك؛ فيكون من باب المرادات العامة، وليس من باب المرادات الخاصة. وننبه هنا إلى أن مسألة تعيين الطوائف ليست أمراً مقصوداً لذاته. ونضرب مثالاً على هذا: أنه شاع عن غلاة المرجئة أنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، وأن مرتكب الكبيرة في الآخرة إلى الجنة، وأنه ليس هناك وعيد لأهل الكبائر إلى غير ذلك. مع أنه لم ينضبط قولاً لأحد من الأعيان، وقد نص الإمام ابن تيمية على هذا في منهاج السنة، وإن كان الأشعري في المقالات وكذلك ابن حزم قد نسبا هذا القول إلى مقاتل بن سليمان، لكن ابن تيمية يقول: "إن من أهل المقالات من ينسبه إلى مقاتل بن سليمان، ولا يصح ذلك عنه".

مذهب السلف في مرتكب المعصية

مذهب السلف في مرتكب المعصية [وإن الذي عندنا في هذا الباب كله أن المعاصي والذنوب لا تزيل إيماناً، ولا توجب كفراً]. قوله: "لا تزيل إيماناً" أي: لا تزيل أصل الإيمان. "ولا توجب كفراً" أي: لا توجب كفر الردة، ولا توجب اسم كفر النعمة على الإطلاق، وهذا من فقه المصنف؛ فإنه أراد أن مرتكب الكبيرة لا يصح أن يسمى كافراً، حتى لو أريد بالكفر كفر النعمة. [ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه الذي نعت الله به أهله واشترطه عليهم في مواضع من كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:111] إلى قوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112] وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:9 - 11] وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4]. قال أبو عبيد: فهذه الآيات التي شرحت وأبانت شرائعه المفروضة على أهله ونفت عنه المعاصي كلها، ثم فسرته السنة بالأحاديث التي فيها خلال الإيمان في الباب الذي في صدر هذا الكتاب، فلما خالطت هذه المعاصي هذا الإيمان المنعوت بغيرها، قيل: ليس هذا من الشرائط التي أخذها الله على المؤمنين ولا الأمانات التي يعرف بها أنه الإيمان، فنفت عنهم حينئذ حقيقته ولم يزل عنهم اسمه]. أي: الإيمان الفاضل الكامل المطلق، المذكور في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] وفي قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة) وقال: (أدناها إماطة الأذى). فهذا الإيمان الكامل الفاضل المطلق يتضمن الأركان والواجبات والمستحبات، فلا شك أن مرتكب الكبيرة ينفى عنه هذا الاسم، فهو لا يعتبر ممن قام بالإيمان على التحقيق والتمام. وإذا قيل: ما المراد من هذا النفي؟ قيل: المراد أنه تارك لواجب من واجبات الإيمان، فإن الاسم الشرعي كاسم الإيمان لا ينفى إلا إذا كان المخاطب قد ترك ما هو واجبٌ فيه، وأما تفسير هذا النص بأنه نفي الكمال؛ فإن ابن تيمية يقول: "إن هذا تفسيرٌ غلط". وقد ذكر ابن تيمية قاعدة وانتصر لها -وهي مستقرأة من كلام السلف- فقال: "إن الله ورسوله لا ينفي اسم مسمى أمر -أمر الله به ورسوله- إلا إذا ترك بعض واجباته ثم قال: أما إذا كان الفعل مستحباً في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، فإن هذا لو جاز لجاز أن ينفي عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج، لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا أبو بكر ولا عمر، فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه لجاز أن ينفي عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل". ولهذا يقول: "فمن قال: أن المنفي هو الكمال. فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق، وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله" قال: "والعرب لا تعرف نفي اسم إلا لترك ما هو واجبٌ فيه". وهذا الكلام من شيخ الإسلام كأنه مفرع عن كلام المصنف رحمه الله؛ فإن المصنف كان يميل إلى هذه القاعدة، كما سيأتي توضيحه.

المراد بنفي الإيمان عمن ارتكب بعض المعاصي

المراد بنفي الإيمان عمن ارتكب بعض المعاصي [فإن قال قائل: كيف يجوز أن يقال: ليس بمؤمن، واسم الإيمان غير زائل عنه؟]. "غير زائل عنه" أي: من جهة أصله وليس من جهة كماله، وهذا فرع عن قول السلف: "إن الإيمان يزيد وينقص". [قيل: هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله إذا كان عمله على غير حقيقته، ألا ترى أنهم يقولون للصانعِ إذا كان ليس بمحكمٍ لعمله: ما صنعت شيئاً، ولا عملت عملاً، وإنما وقع معناهم هاهنا على نفي التجويد، لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عاملٌ بالاسم، وغير عامل في الإتقان، حتى تكلموا به فيما هو أكثر من هذا، وذلك كرجلٍ يعق أباه ويبلغ منه الأذى، فيقال: ما هو بولد، وهم يعلمون أنه ابنه من صلبه. ثم يقال مثله في الأخ والزوجة والمملوك وأنما مذهبهم في هذا المزايلة من الأعمال الواجبة عليهم من الطاعة والبر. وأما النكاح والرق والأنساب، فعلى ما كانت عليه أمكانها وأسماؤها، فكذلك هذه الذنوب التي ينفى بها الإيمان، إنما أحبطت الحقائق منه الشرائع التي هي من صفاته، فأما الأسماء فعلى ما كانت قبل ذلك ولا يقال لهم: إلا مؤمنون، وبه الحكم عليهم]. هذا الكلام يبين أن سبب استشكال كثير من المتأخرين -حتى من أهل السنة- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) وأمثاله من النصوص إنما هو فساد اللغة، ولهذا وقفوا عند هذا الحديث على قدرٍ من التخريجات، وكل تخريج يُورَد عليه سؤالات وإشكالات ومعارضات، حتى لا يبقى إلا وجه مقارب. والأصل في شرح هذه الأسماء: أنها لا تقال بنوعٍ من الترجيح والظن والاحتمال والتقوية، بل تقال بتفسيرٍ واحدٍ صحيحٍ، فليس هناك مادة لمسألة التردد والاحتمال من جنس ما يقع في تفسير المسائل الفقهية الواقعة في باب العبادات والمعاملات وأمثال ذلك؛ لأن هذه الأسماء أسماء محققة المعاني وليست من محتمل المعاني، ولهذا لم يكن الصحابة يستشكلون مثل هذه الأحرف. وهذه قاعدة لابد لطالب العلم أن يتفطن لها، وهو أن الصحابة قد سألوا سؤالات في مواضع للنبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما نهوا عنه من سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن لما يتحصل به الفقه للدين. فمن يقول: إن معنى قول أنس وغيره: (نهينا أن نسأل رسول الله عن شيء)، أنهم كانوا ينهون عن السؤال مطلقاً .. فهذا غلط على الصحابة. فالصحابة إنما نهوا عن السؤال عما سُكت عنه، أو عما لم يأت أمره إلى أمثال ذلك، أما أنهم نهوا عن السؤال في أمرٍ لم يفقهوه، بل يسمعون الأحاديث أو يسمعون القرآن ويترددون في المعاني، ويستشكلونها، ومع ذلك أمروا ألا يستفصلوا ولا يتفقهوا .. فهذا ليس بصحيح، ولا يجوز أن يضاف إلى نبوة نبي من الأنبياء فضلاً عن نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم. إذاً: كان سكوت الصحابة في هذه الأحرف لأنها أحرف بينة، وليست مشتبهة، فهم سكتوا عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) لأنهم عرب، والعرب يقولون عن الرجل: ليس بشجاع، مع أنه شجاع، أو ليس بعادل مع أنه يعدل أحياناً، لكن لما ترك العدل في هذه القضية قيل: ليس بعادل .. وهلم جرا. إذاً: مسألة اللغة أصل في التفسير.

الأدلة على أن المراد بنفي الإيمان عمن ارتكب بعض المعاصي نفي كماله لا أصله

الأدلة على أن المراد بنفي الإيمان عمن ارتكب بعض المعاصي نفي كماله لا أصله [وقد وجدنا مع هذا شواهد لقولنا من التنزيل والسنة، فأما التنزيل فقول الله جلّ ثناؤه في أهل الكتاب حين قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران:187] قال أبو عبيد: حدثنا الأشجعي عن مالك بن مغول عن الشعبي في هذه الآية قال: (أما إنه كان بين أيديهم، ولكن نبذوا العمل به). ثم أحل الله لنا ذبائحهم ونكاح نسائهم فحكم لهم بحكم الكتاب إذا كانوا به مقرين، وله منتحلين، فهم بالأحكام والأسماء في الكتاب داخلون، وهم لها بالحقائق مفارقون، فهذا ما في القرآن. وأما السنة فحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يحدث به رفاعة في الأعرابي الذي صلى صلاة، فخففها فقال له رسول الله صلى الله عليه: (ارجع فصل، فإنك لم تصل) حتى فعلها مراراً كل ذلك يقول: (فصل) وهو قد رآه يصليها، أفلست ترى أنه مصلٍ بالاسم، وغير مصل بالحقيقة، وكذلك في المرأة العاصية لزوجها، والعبد الآبق، والمصلي بالقوم الكارهين له أنها غير مقبولة. ومنه حديث عبد الله بن عمر في شارب الخمر: (أنه لا تقبل له صلاة أربعين ليلة) وقول علي عليه السلام: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) وحديث عمر رضي الله عنه في المقدم ثقله ليلة النفر: (أنه لا حج له) وقال حذيفة: (من تأمل خلق امرأة من وراء الثياب وهو صائم أبطل صومه). قال أبو عبيد: فهذه الآثار كلها وما كان مضاهياً لها فهو عندي على ما فسرته لك وكذلك الأحاديث التي فيها البراءة، فهي مثل قوله: من فعل كذا وكذا فليس منا، لا نرى شيئاً منها يكون معناه التبرؤ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من ملته]. قوله: "فهو عندي على ما فسرته لك" أي: أنها نفي لتمام الإيمان الواجب. [إنما مذهبه عندنا أنه ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا وهذه النعوت وما أشبهها. وقد كان سفيان بن عيينة يتأول قوله: (ليس منا) أي: ليس مثلنا وكان يرويه عن غيره أيضاً، فهذا التأويل وإن كان الذي قاله إمام من أئمة العلم فإني لا أراه، من أجل أنه إذا جعل من فعل ذلك ليس مثل النبي صلى الله عليه وسلم، لزمه أن يصير من يفعله مثل النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا فرق بين الفاعل والتارك وليس للنبي صلى الله عليه وسلم عديل ولا مثل من فاعل ذلك ولا تاركه. فهذا ما في نفي الإيمان وفي البراءة من النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحدهما من الآخر وإليه يؤول]. " يتأول" أي: يفسر، "ليس مثلنا" أي: أنه ليس على شريعتنا المحققة الواجبة، ولم يرد سفيان بقوله: "ليس مثلنا" أي: أنه ليس كالنبي صلى الله عليه وسلم في التمام والإيمان، فإنه لا أحد -حتى من لم يغش- يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما مراده وأمثاله من السلف: أن هذا التارك لهذا العمل أو الفاعل لهذه الكبيرة قد خرج عن الولاية النبوية العامة، ولهذا أصبح لا يضاف إليه في مثل هذا المقام، وهذا يدل على أن هذه الفعلة كبيرة، أو أنها تركٌ لواجبٍ من واجبات الشريعة.

المراد بالكفر والشرك المذكور عن بعض المعاصي التي ليست كفرا ولا شركا

المراد بالكفر والشرك المذكور عن بعض المعاصي التي ليست كفراً ولا شركاً قال: [وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما بالمعاصي، فإن معناها عندنا ليست تثبت على أهلها كفراً ولا شركاً يزيلان الإيمان عن صاحبه]. إذاً: ليس المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر) أي: أنهم كفروا وارتدوا ككفر أبي جهل؛ فإن هذا مجمع على بطلانه. [إنما وجوهها أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون]. ولا يقال: إنها كفر النعمة باطراد؛ لأنه قد لا يكون المقام مناسباً، وإنما الغالب على مناسبتها: أن هذه من خصال الكفار، وهذا أضبط من قول: إنها من خصال الكفر. فهي من سننهم وأخلاقهم وأفعالهم، أي أنها ليس من سنن المؤمنين، ولا من هدي المرسلين، ولا من طرائق المسلمين، وإنما هي من أفعال الكفار وسننهم، والواجب على المسلمين الهجر لهذا الجنس: وهو ما كان من سنن الكفار وطرائقهم المباينة لسنن المؤمنين، فإن هذا هو تحقيق الولاء والبراء. وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأفعال كفراً تدل على أن هذه الأفعال من الكبائر المفارقة لتمام السنة ووجوبها. [وقد وجدنا لهذين النوعين من الدلائل في الكتاب والسنة نحواً مما وجدنا في النوعين الأولين. فمن الشاهد على الشرك في التنزيل قول الله تبارك وتعالى في آدم وحواء عند كلام إبليس إياهما: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف:189] إلى: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف:190] وإنما هو في التأويل أن الشيطان قال لهما: سميا ولدكما عبد الحارث. فهل لأحدٍ يعرف الله ودينه أن يتوهم عليهما الإشراك بالله مع النبوة والمكان من الله، فقد سمي فعلهما شركاً، وليس هو الشرك بالله. وأما الذي في السنة، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر) فقد فسر لك بقوله: (الأصغر) أن هاهنا شركاً سوى الذي يكون به صاحبه مشركاً بالله، ومنه قول عبد الله: (الربا بضعة وستون باباً، والشرك مثل ذلك) فقد أخبرك أن في الذنوب أنواعاً كثيرة تسمى بهذا الاسم وهي غير الإشراك التي يتخذ لها مع الله إله غيره، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فليس لهذه الأبواب عندنا وجوه إلا أنها أخلاق المشركين وتسميتهم وسننهم وألفاظهم وأحكامهم ونحو ذلك من أمورهم. وأما الفرقان الشاهد عليه في التنزيل فقول الله جلّ وعز: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وقال ابن عباس: (ليس بكفرٍ ينقل عن الملة). وقال عطاء بن أبي رباح: (كفر دون كفر). فقد تبين لنا أنه كان ليس بناقل عن ملة الإسلام أن الدين باقٍ على حاله وإن خالطه ذنوب، فلا معنى له إلا خلاف الكفار وسنتهم، على ما أعلمتك من الشرك سواء؛ لأن من سنن الكفار الحكم بغير ما أنزل الله، ألا تسمع قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50] تأويله عند أهل التفسير: أن من حكم بغير ما أنزل الله وهو على ملة الإسلام كان بذلك الحكم كأهل الجاهلية، إنما هو أن أهل الجاهلية كذلك كانوا يحكمون]. هنا مسألتان في قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].

حكم ترك الحكم بما أنزل الله

حكم ترك الحكم بما أنزل الله المسألة الأولى: هل ترك الحكم بما أنزل الله كفر مخرج من الملة أم ليس مخرجاً من الملة؟ هذه المسألة -كما هو معلوم- عند المتأخرين -ولاسيما المعاصرين- مسألة خفض ورفع، فمنهم من يقول: إن ترك الحكم بغير ما أنزل الله كفرٌ بالإجماع، ويستدلون على ذلك ببعض كلام إسحاق بن إبراهيم رحمه الله في مثل قوله: "أجمع أهل العلم أن من دفع شيئاً أنزله الله على نبيه أنه كفر". وهذا كلام لا جدال فيه، وليس هو من المشكلات، بل هو من بدهيات الإسلام، فإن قوله: " من دفع شيئاً". بمعنى: أباه ورده وطعن فيه أو كذبه، وهذا لا شك أنه كافر؛ ولهذا قال إسحاق رحمه الله: "من دفع شيئاً". أي: ولو كان شيئاً واحداً. ومعلوم أن ترك الحكم في مسألةٍ واحدة لم يذهب أحد من السلف ولا الخلف إلى أنه كفر يخرج من الملة. فتفسير كلام إسحاق لابد أن يكون على وجهه، وهو أن مراده بالدفع هنا الطعن وما إلى ذلك من أوجه الكفر الأكبر كالتكذيب ونحوه، وليس مجرد الترك؛ لأن آحاد الترك بالإجماع ليس كفراً. بقي إجمالٌ في هذه المسألة وليس تفصيلاً: هل الحكم بغير ما أنزل الله يعد كفراً مخرجاً من الملة، أم أنه كفر دون كفر؟ يقال: هذا المعنى -وهو الحكم بغير ما أنزل الله- معنى له إطلاقٌ وله تقييد، وفيه قدرٌ يخرج من الملة، وقدرٌ لا يخرج من الملة. والنتيجة من هذا: أن الإطلاق في هذه المسألة ليس فاضلاً، وإنما كان السلف يطلقون على مراداتهم من المعاني، بمعنى: أن ثمة صوراً من الحكم بغير ما أنزل الله يُعلم ضرورةً أنها كفر مخرجٌ من الملة، وثمة صور تسمى حكماً بغير ما أنزل الله، ومع ذلك نعلم إجماع السلف على أنها ليست من الكفر المخرج من الملة كبعض الآحاد وأمثال ذلك. وهنا صور قد تكون من باب التردد والمشتبه الذي يتردد المجتهدون في إلحاقه: هل يسمى كفراً مخرجاً من الملة أو ليس كذلك؟ ولذلك يوجد في تفسير السلف رحمهم الله لقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وما شابهه من الآيات في سورة المائدة يوجد فيه بعض التعدد، وهذا من باب التنوع؛ فإن من السلف من حمل ذلك على الكفر الأكبر وعلقوه بالاستحلال وأمثال ذلك .. وهذا من باب أن ثمة صوراً من الحكم بغير ما أنزل الله تعد من الكفر المخرج من الملة، وأن الاستحلال أحد هذه الصور، وثمة صور أخرى تعرف بالدلائل الشرعية. لكن ثمة صور من الحكم بغير ما أنزل الله تسمى حكماً بغير ما أنزل الله هي بإجماع السلف وبدلائل الشريعة لا تعد من الكفر المخرج من الملة. وثمة صور -أيضاً- هي محل تردد واجتهاد، وقد يقع لها قدرٌ من الاشتباه، وهذا بحسب مقامات العلماء. وعليه: فالقصد إلى التزام حرفٍ واحد، وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله مخرج من الملة، وهذه طريقة السلف، ثم يأتي مقابل ذلك من يقرر من السلفيين الفضلاء أن الحكم بغير ما أنزل الله ليس مخرجاً من الملة عند السلف، يؤدي إلى مثل هذا التعارض .. فإذا قيل: إن من السلف من حمل تفسير الآية على المخرج من الملة، ومنهم من حمله على غير المخرج من الملة. قيل: هذا بحسب فهم السلف للمراد من السياق، فمنهم من فهمه على مراد لا يخرج من الملة فسر الآية به، ومنهم من حمله على مراد يخرج من الملة ففسر الآية به. ولو فرُض جدلاً أن السياق المراد في كلام الله على أحد الصورتين، فإن هذا لا ينفي وجود الصورة الأخرى. أي: لو فرض أن السياق في ذكر الكفر الأكبر، قيل: لا شك أن ثمة حكماً بغير ما أنزل الله يسمى كفراً أكبر، فإن اليهود والنصارى كفار، وهم لا يحكمون بغير ما أنزل الله، ويسمى فعل اليهود والنصارى حكماً بغير ما أنزل الله مخرجاً لهم من ديانة المسلمين وديانة المرسلين، وهو كفرٌ بالكتاب إلى غير ذلك. وقد يراد بالآية ما هو من أخلاق المشركين أو ما إلى ذلك، فهذا هو الكفر الذي دون كفر، ولهذا تعدد تفسير السلف. وعليه إذا قيل: هل تفسير السلف لهذه الآية من باب خلاف التضاد؟ قد يقال: ظاهره أنه من باب خلاف التضاد؛ لأن منهم من يقول: كفرٌ دون كفر، ومنهم من يقول: كفرٌ أكبر -وهو الكفر بالله-. لكن الصواب: أنه خلاف تنوع؛ لأن من يقول: إنه كفرٌ دون كفر أراد به صوراً لا ينازع الآخر أنها ليست من الكفر بالله، ومن قال: إنه كفرٌ بالله في من استحل أو كذّب أو أنكر أو عظمَّ شرع غير الله على شرع الله، أو نحو ذلك من الصور، فهنا لا يمكن أن يقال: إن ابن عباس وأصحابه الذين قالوا: كفرٌ دون كفر ينازعون في أن هذا كفراً أكبر، ويلتزمون فيه أنه كفرٌ دون كفر. إذاً: إنما صار وجه الخلاف كالتضاد؛ لأن المرادات مختلفة، وهذا يبين لك أن المسألة عند السلف -وبحسب أدلة الشريعة- لها صور، بعضها كفر أكبر كحكم اليهود والنصارى، أو غيرهم من أجناس الكفار الذين يكذبون شرع الله، أو يعظمون غيره عليه، أو يستحلون، أو ما إلى ذلك من الصور. وبعضها -كآحاد المسائل- ليس من الكفر بإجماع أهل العلم، وهذا كالقاضي أو الحاكم إذا حكم في مسألة واحدة، كأن أتاه قريب له سارقٌ فما قطع يده، وقال: يكفي فيه التعزير .. فإن هذا حكم بغير ما أنزل الله لكنه بالإجماع لا يكفر، إلا إذا كان مكذباً للنص، وهذه مسألةٌ أخرى. وهناك صور -كما تقدم- محل تردد، وهذه الصور التي هي محل تردد أهم ما يقال من الواجب فيها: أنه لا ينبغي أن يخوض فيها بالتقرير إلا أهل العلم والبصيرة العارفون بالسنن والشرائع وهدي السلف والمصالح وما إلى ذلك.

تضعيف البعض لأثر ابن عباس: أن ترك الحكم بما أنزل الله كفر دون كفر

تضعيف البعض لأثر ابن عباس: أن ترك الحكم بما أنزل الله كفر دون كفر المسألة الثانية: وهي أن بعض من تكلم عن هذه المسألة -ولا سيما ممن ينزع إلى أن المقصود بالآية الكفر الأكبر المخرج من الملة- إذا ورد عليه ما روي عن ابن عباس أنه كفرٌ دون كفر، قال: هذا لم يصح عن ابن عباس، ومعتبره في عدم الصحة: أن الأسانيد التي روى بها ابن جرير في تفسيره هذه الآثار عن ابن عباس وأصحابه أسانيد منقطعة، وفيها إعلال من وجهٍ آخر. وعلى هذا يقول من يقول ممن يفسر الحكم بغير ما أنزل الله أنه كفر أكبر: إن هذا لم يصح عن أحدٍ من السلف، ونسبته إلى ابن عباس وأصحابه غير صحيحة لانقطاع إسنادها. وهذا غلط، بل الصواب: أن هذا قولٌ معروفٌ لـ ابن عباس. فإن قيل: فالإسناد عند ابن جرير ليس بصحيح أو منقطع أو ما إلى ذلك من التعبيرات. قيل: وليكن ذلك، ومن قال إن مدار أقوال ابن عباس على إسناد ابن جرير. فإن قيل: فيلزم على هذا أن إثبات إسناد آخر غير ما ذكر ابن جرير يصح إلى ابن عباس. قيل: إما أن يلزم هذا أو يكتفى بتصريح الأئمة بأن هذا قول لـ ابن عباس .. وهذا هو الذي يجزم به، فإنه لم يقع لي إلى الآن أن أتأكد من وجود أسانيد أخرى لـ ابن عباس. لكن الذي يجزم به أن هذا قولٌ معروف ل ابن عباس. ووجه الجزم به: أن الأئمة الكبار كانوا يعتبرونه قولاً لـ ابن عباس، فالإمام أحمد كان يقول بهذا القول في بعض تفسيره للآية وينسب هذا القول إلى ابن عباس. والإمام البخاري يفسر الآية بهذا التفسير ويضيف هذا القول إلى ابن عباس، والمصنف كذلك -وهو من أهل الحديث والفقه واللغة- يرويه إلى ابن عباس. وبهذا يظهر أن جملة من السلف نصوا على أن هذا قولٌ لـ ابن عباس، وأن الإسناد الذي عند ابن جرير إنما هو أحد الأسانيد، ومن المعلوم أن بعض الأحاديث لها عند بعض المحدثين أسانيد مظلمة، مع أن الحديث قد يكون من الأحاديث المتفقة عليها بين أهل الحديث. إذاً: إسنادٌ واحد ليس مقياساً للصحة أو للضعف كما هو معروفٌ عند أهل العلم. ثم إنه في الجدل والنظر: من الذي يمنع أن ابن عباس يريد هذا؟ هل ابن عباس أراد أن الحكم بغير ما أنزل الله في جميع صوره ليس كفراً مخرجاً من الملة؟ هذا ليس مراده، ويمتنع أن ابن عباس وغيره من أهل العلم دونه يريدون ذلك، إنما أراد أن منه صوراً ليست مخرجة من الملة، وهذا ليس محل جدل. فهذه الصور التي ليست مخرجة من الملة، وهي حكم بغير ما أنزل الله هذا لا يوجب إلا شيئاً واحداً، وهو أنها تسمى كفراً، ولهذا قال ابن عباس: كفر دون كفر.

تسمية الشارع لبعض الأعمال كفرا أو نفاقا مع عدم كفر فاعلها

تسمية الشارع لبعض الأعمال كفراً أو نفاقاً مع عدم كفر فاعلها [وهكذا قوله: (ثلاثةٌ من أمر الجاهلية: الطعن في الأنساب، والنياحة، والأنواء) ومثله الحديث الذي يروى عن جرير وأبي البختري الطائي: (ثلاثةٌ من سنة الجاهلية: النياحة، وصنعة الطعام، وأن تبيت المرأة في أهل الميت من غيرهم) وكذلك الحديث: (آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعدَ أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وقول عبد الله: "الغناء ينبت النفاق في القلب"]. تحصّل من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى بعض الأعمال كفراً أو نفاقاً، كقوله: (آية المنافق ثلاث) في حديث أبي هريرة في الصحيحين، وفي وجه عند مسلم: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)، وفي حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه: (أربعٌ من كُنّ فيه كان منافقاً خالصاً). وليس مراده صلى الله عليه وسلم بالمنافق هنا المنافق النفاق الأكبر الذي قال الله فيه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:145]. فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم) مشكل؛ لأن هذا اللفظ كأنه إخراج له عن الإسلام، أو حكمٌ عليه بالنفاق. قيل: لكن الواقع ليس كذلك؛ فإن الأسماء قد تتوارد على مسمىً واحد ويكون المقامُ مختلفاً؛ ولهذا صاحب الكبيرة نسميه مؤمناً في مقام، ونسميه مسلماً في مقام، ونسميه فاسقاً في مقام آخر. فإنه إذا ما أريد العتاق أو التوارث -مثلاً- قيل عن مرتكب الكبيرة: إنه مؤمن، على قول الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] فإنه لو أعتق فاسقاً صح بالإجماع، وهو معنى قول النبي: (أعتقها؛ فإنها مؤمنة). وإذا أريد بيان ما هو عليه من الكبيرة، والمفارقة للسنة والشريعة، وبيان الطعن عليه لإسقاط عدالته أو لذمه أو لذم فعله أو أمثال ذلك سمي فاسقاً. وإذا اعتبر الأصل فيه سمي مسلماً. وإذا تبين أن هذه الأسماء الثلاثة تستعمل في حق صاحب الكبيرة؛ فإنه يقال بعد ذلك: الأصل فيه اسم الإسلام. وأما من يقول: الأصل فيه اسم الفسق، فهذا خطأ؛ فإن الصحابة ما كانوا يلتزمون تسمية كل من أتى جرماً أو كبيرةً باسم الفسق، حتى لا يذكر بالإسلام في شيء. لكنه يسمى فاسقاً إذا اقتضى الأمر ذلك؛ وذلك إما بياناً لعدالته أو ذماً له أو لفعله أو ما إلى ذلك. وكذلك يسمى مؤمناً إذا اقتضى الأمر ذلك أو دخل في جملة الخطاب، كقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] فإنه يدخل في ذلك كل مسلم ولو كان فاسقاً.

حكم تسمية بعض الكبائر كفرا أو نفاقا قياسا على تسمية الشارع لبعض المعاصي كفرا أو نفاقا

حكم تسمية بعض الكبائر كفراً أو نفاقاً قياساً على تسمية الشارع لبعض المعاصي كفراً أو نفاقاً هنا مسألة، وهي: أن الشارع سمى بعض الأعمال نفاقاً أو كفراً، فهل يصح أن تسمى بعض الكبائر كفراً أو نفاقاً من باب الطرد للتسمية، أم أنه يجب الاقتصار على تسمية الشارع؟ مثلاً: لو أن قائلاً قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما عبدٍ أبق من مواليه فقد كفر) وهنا كبائر مثل إباق العبد أو أشد منه، فكما سمى الشارع إباق العبد كفراً ساغ لنا أن نسمي ما كان أشد منه مخالفة لله ولرسوله كفراً؟ قيل: هذا لا يصح؛ لأن الشارع إنما سمى ما سماه من الأقوال أو الأعمال كفراً أو نفاقاً مع عدم خروج صاحبها من الملة؛ لأنه اعتبر في ذلك القدر والمناسبة. ويظهر اعتبار الشارع للقدر - أي: لقدر الذنب- بعدم تسميته صغيرة من الصغائر كفراً أو نفاقاً، بل كل ما سماه كفراً أو نفاقاً هو من الكبائر. أما وجه اعتبار المناسبة فالمقصود مناسبة العمل للاسم الذي سمي به، ولهذا نرى المناسبة واضحة في تسمية الإباق كفراً؛ وذلك لأن على العبد لأهله نعمة، وهو ملك لهم إلى غير ذلك. إذاً الشارع إنما سمى ما سماه اعتباراً للقدر واعتباراً للمناسبة، وفي هذا التقرير منعٌ للقياس والطرد كما يستعمله ابن القيم رحمه الله؛ فإنه ليس بصحيح. ومما يبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم التفصيل في حديث ابن مسعود في الصحيح فقال: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر). ولهذا خالف العامة من السلف الحسن البصري فيما روي عنه أنه يسمي الفاسق منافقاً، وإن أراد بذلك أنه منافق النفاق الأصغر. وبهذا يتبين أن الصواب هو الاقتصار على تسمية الشارع، فلا يسمى عملٌ أو قولٌ أنه كفرٌ أو نفاق إلا إذا كان الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم سماه كذلك، وأما القياس فليس بصحيح؛ لأن مبنى ذلك على القدر والمناسبة، والعلم بالمناسبة هو من خصائص صاحب الشريعة، فهو الذي يضبط المناسبات. وأما الناس فإنهم يسمون الأعمال بمطلقها، وإذا انغلق هل يسمى نفاقاً أو يسمى كفراً أو ما إلى ذلك؟ قيل: لقد أورد الشارع أسماء مطلقة في الكبائر كاسم المعصية، والفسق، فيصح أن تسمى أي كبيرة معصية أو فسقاً، أما تسميتها كفراً ونفاقاً فهذا مختص بتسمية الشارع. [ليس وجوه هذه الآثار كلها من الذنوب أن راكبها يكون جاهلاً ولا كافراً ولا منافقاً وهو مؤمن بالله وما جاء من عنده، ومؤدٍ لفرائضه، ولكن معناها أنها تتبين من أفعال الكفار محرمة منهي عنها في الكتاب وفي السنة، ليتحاماها المسلمون ويتجنبوها فلا يتشبهوا بشيء من أخلاقهم ولا شرائعهم، ولقد روي في بعض الحديث: (إن السواد خضاب الكفار) فهل يكون لأحد أن يقول: إنه يكفر من أجل الخضاب؟! وكذلك حديثه في المرأة إذا استعطرت ثم مرت بقوم يوجد ريحها (أنها زانية) فهل يكون هذا على الزنا الذي تجب فيه الحدود؟ ومثله قوله: (المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان). أفيتهم عليه أنه أراد الشيطانين الذين هم أولاد إبليس؟! إنما هذا كله على ما أعلمتك من الأفعال والأخلاق والسنن. وكذلك كل ما كان فيه ذكر كفر أو شرك لأهل القبلة فهو عندنا على هذا، ولا يجب اسم الكفر والشرك الذي تزول به أحكام الإسلام ويلحق صاحبه للردة إلا بكلمة الكفر خاصة دون غيرها، وبذلك جاءت الآثار مفسرة. قال أبو عبيد: حدثنا أبو معاوية عن جعفر بن برقان عن ابن أبي نشبة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من أصل الإسلام: الكف عن من قال لا إله إلا الله، لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض من يوم بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار كلها). قال أبو عبيد: حدثنا عباد بن عباد عن الصلت بن دينار عن أبي عثمان النهدي قال: دخلت على ابن مسعود وهو في بيت مال الكوفة فسمعته يقول: (لا يبلغ بعبد كفراً ولا شركاً حتى يذبح لغير الله أو يصلي لغير الله). قال أبو عبيد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان قال: (جاورت مع جابر بن عبد الله بمكة ستة أشهر، فسأله رجل: هل كنتم تسمون أحداً من أهل القبلة كافراً؟ فقال: معاذ الله! قال: فهل تسمونه مشركاً؟ قال: لا)].

شرح كتاب الإيمان [11]

شرح كتاب الإيمان [11] الذنوب والمعاصي تنقسم إلى صغائر وكبائر، أما صغائر الذنوب فإنها تكفر بأمور مطردة، من أهمها: ترك الكبائر، ومحض المغفرة، وآحاد الأعمال الصالحة وغيرها، وأما الكبائر فإنها تكفر بالتوبة، ويمكن أن تكفر بالأعمال الصالحة أيضاً، ولكن ليس على إطلاقه، بل بحسب تحقيقها وبحسب حال صاحب الكبيرة.

باب ذكر الذنوب التي تلحق بالكبائر بلا خروج من الإيمان

باب ذكر الذنوب التي تلحق بالكبائر بلا خروج من الإيمان قال المصنف رحمه الله: [باب ذكر الذنوب التي تلحق بالكبائر بلا خروج من الإيمان]. [قال أبو عبيد: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله) وكذلك قوله: (حرمة ماله كحرمة دمه) ومنه قول عبد الله: (شارب الخمر كعابد اللات والعزى) وما كان من هذا النوع مما يشبه فيه الذنب بآخر أعظم منه، وقد كان في الناس من يحمل ذلك على التساوي بينهما، ولا وجه لهذا عندي، لأن الله قد جعل الذنوب بعضها أعظم من بعض فقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] في أشياء كثيرة من الكتاب والسنة يطول ذكرها، ولكن وجوهها عندي أن الله قد نهى عن هذه كلها وإن كان بعضها عنده أجل من بعض، يقول: من أتى شيئاً من هذه المعاصي فقد لحق بأهل المعاصي، كما لحق بها الآخرون، لأن كل واحد منهم على قدر ذنبه قد لزمه اسم المعصية، وإن كان بعضهم أعظم جرماً من بعض، وفسر ذلك كله الحديث المرفوع حين قال: (عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]) فقد تبين لنا الشرك والزور، وإنما تساويا في النهي نهى الله عنهما معاً في مكان واحد، فهما في النهي متساويان وفي الأوزار والمأثم متفاوتان، ومن هنا وجدنا الجرائم كلها، ألا ترى السارق يقطع في ربع دينار فصاعداً وإن كان دون ذلك لم يلزمه قطع؟ فقد يجوز في الكلام أن يقال: هذا سارق كهذا، فيجمعهما في الاسم وفي ركوبهما المعصية، ويفترقان في العقوبة على قدر الزيادة في الذنب، وكذلك البكر والثيب يذنبان فيقال: هما لله عاصيان معاً، وأحدهما أعظم ذنباً وأجل عقوبة من الآخر، وكذلك قوله: (لعن المؤمن كقتله) إنما اشتركا في المعصية حين ركباها، ثم يلزم كل واحد منهما من العقوبة في الدنيا بقدر ذنبه، ومثل ذلك قوله: (حرمة ماله كحرمة دمه) وعلى هذا وما أشبه أيضاً. قال أبو عبيد: كتبنا هذا الكتاب على مبلغ علمنا، وما انتهى إلينا من الكتاب، وآثار النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء بعده، وما عليه لغات العرب ومذاهبها، وعلى الله التوكل، وهو المستعان]. هذا الباب إشارةٌ من المصنف إلى أن الكبائر درجات وليست واحدة، وهو إشارة من وجهٍ آخر إلى أن ما سماه الشارع كفراً أو نفاقاً، أو نفى اسم الإيمان عن صاحبه، أو ذكر البراءة منه في الجملة أعظم من غيره، وهذا حكمٌ مجمل، ولا يلزم منه أن يكون حكماً مفصلاً. وأما ما قرره بعض المتأخرين من أن ما سماه الشارع نفاقاً أو سماه كفراً أعظم مما كان من الكبائر مما لم يسم في كلام الله أو رسوله بهذا الاسم، فهذا خطأ.

مسالك العلماء في تسمية بعض الكبائر كفرا قياسا على تسمية الشارع لبعض المعاصي كفرا

مسالك العلماء في تسمية بعض الكبائر كفراً قياساً على تسمية الشارع لبعض المعاصي كفراً بهذا التفصيل يظهر أن الأحاديث التي فيها تسمية بعض الأقوال أو الأفعال كفراً أو نفاقاً فيها مسلكان -كلاهما فيه نظر- لبعض أصحاب السنة المتأخرين: المسلك الأول: هو طرد التسمية على باب القياس، وهذا المسلك ليس بصحيح. المسلك الثاني: هو التزام أن ما سميّ من الأعمال كفراً أو نفاقاً يكون في الشدة والتحريم والتغليظ أعظم مما لم يسم كذلك. وهذا -أيضاً- خطأ، وهو فرعٌ عن الخطأ الأول؛ لأن هؤلاء اعتبروا أن تسمية الشارع عملاً ما كفراً إنما هي لاعتبار القدر فقط، لكن إذا عُلم أن الشارع إنما سمى هذا لاعتبار القدر والمناسبة ظهر أنه لا يلزم أن ما لم يسم كذلك يكون بالضرورة أخف. مثلاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما عبدٍ أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم) لكنه لم يسم من قتل نفسه منافقاً أو كافراً -وإن كان سمى قتل الآخرين من المسلمين، فقال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً) - مع أن قتل المؤمن أو المسلم لنفسه -بلا شك- أعظم من إباق العبد أو من الكذب الذي سمي نفاقاً، ومثل هذا أكل الربا وما شابهه. والمقصود: أن هذا الالتزام ليس بصحيح، فهذه أسماء، والأسماء معتبرة بمقاماتها في كلام الله ورسوله، والوعيد يقدر قدره بحسب تغليظ الشارع عليه في الدنيا والآخرة.

تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر

تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر أما تقسيم الذنوب فإنها تنقسم إلى صغائر وكبائر، وهذا هو صريح القرآن، كما في قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء:31] وقوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف:49] إلى غير ذلك. أما قول بعض المتكلمين من أصحاب أبي الحسن: إن الذنوب جميعها كبائر -وقد نسب هذا القول إلى بعض أهل السنة- فإن أرادوا به الإبطال لمقام الذنوب، وأن منها ما هو صغائر ومنها ما هو كبائر على ما ذكر في الكتاب والسنة فهو بدعة لفظاً ومعنى. وان أرادوا أن الذنوب جميعها كبائر باعتبار أنها خطأ أو تقصير في مقام الله سبحانه وتعالى ومخالفة له إلى غير ذلك .. فهذا المعنى صحيح، لكن اللفظ خطأ. والصواب -وهو الذي حكيّ الإجماع عليه، وهو الصريح في كتاب الله-: أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر.

بماذا تكفر الصغائر والكبائر؟

بماذا تكفّر الصغائر والكبائر؟ أما ما تكفّر به الذنوب الصغائر تكفر بأمورٍ مطردة، من أهمها: ترك الكبائر، ومحض المغفرة، وآحاد الأعمال الصالحة، وغير ذلك .. وهذه مسألة بينة. أما الكبائر فإنها تكفر بالتوبة، وهذا محل إجماع، لأن التوبة تكفر ما هو أشد من ذلك وهو الكفر والشرك. لكن بقي سؤال: هل الكبائر تكفر بالتوبة فقط، أم أنها قد تكفر بغير ذلك؟ هنا مقامان: المقام الأول: مقام الموافاة. ويقصد بالموافاة أي: موافاة العبد لربه بكبيرته. المقام الثاني: مقام الجزاء. وأما مقام الجزاء فقد اتفق أهل السنة -متقدموهم ومتأخروهم- على أن أصحاب الكبائر تحت المشيئة، وقد أجمع السلف وأئمة السنة على أن طائفةً من أهل الكبائر يعذبون، وأن طائفةً أخرى يغفر لهم .. وهذا هو الفرق بين مذهب السلف وبين مذهب المرجئة الواقفة كـ أبي الحسن وجمهور أصحابه؛ فإن المرجئة الواقفة يقولون: إن أهل الكبائر تحت المشيئة، لكن قد يغفر لجميعهم، وقد يعذب جميعهم ثم يخرجون إلى الجنة، وقد يغفر لطائفة وتعذب طائفة، ويقول غلاتهم: قد يعذب الأكثر حسنات، ويغفر للأكثر سيئات. لكن الصواب: أنهم تحت المشيئة، مع القطع أن طائفة تعذب، وطائفة لا تعذب، بل يغفر لها، إما بمحض مغفرة الله أو بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، وهذا مثبت في أحاديث الشفاعة الصريحة المتواترة. وهذا الفرق محل إجماع عند السلف نص عليه شيخ الإسلام وغيره. أما باعتبار الموافاة: فهل كلُ من لم يتب من كبيرته يقال: إنه يوافي ربه بالكبيرة ثم قد يغفر الله له وقد يعذبه، أم أن هذه الكبيرة قد تغفر بغير التوبة ولا يوافي العبد بها ربه؟ المشهور في تقرير كثيرٍ من متأخري أهل السنة ويحكون الإجماع عليه: إنه يوافي ربه بالكبيرة، ثم قد يغفر الله له وقد يعذبه، حتى إن ابن عبد البر مع إمامته وجلالته وتحقيقه يحكي الإجماع على ذلك. والصواب: أن الذي دلت عليه الدلائل وانتصر له الإمام ابن تيمية هو: أن الكبيرة قد لا يوافي العبد بها ربه وإن لم يتب منها. قال: "وعقوبة الذنب والموافاة به تسقط بالتوبة بالإجماع، ولكن قد تكفر الكبيرة بغير التوبة".

الأعمال التي تكفر بها الكبائر

الأعمال التي تكفّر بها الكبائر ما هي الأمور التي قد تكفر بها الكبائر؟ الحسنات الماحية، ويرادُ بها الأعمال الصالحة: كالصلاة، والجهاد، والحج .. وأمثال ذلك. أما الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر في التمهيد وغيره، حيث قال: "أجمع أهل العلم على أن المراد بتكفير الصلاة والحج وأمثالها أنها تكفر الصغائر". فهذا الإجماع إذا أريد به أن الذي يطرد تكفيره بالأعمال الصالحة كالصلاة وغيرها هو الصغائر .. فهو إجماعٌ صحيح. أما إذا أريد به أن الأعمال الصالحة كالصلاة وغيرها لا يمكن أن تكفر كبيرة من الكبائر .. فهذا الجزم غير صحيح. أليس الله سبحانه وتعالى يغفر الكبيرة للعبد وإن لم يتُب منها إنما بمحض رحمته وسعة فضله؟ إذاً: من باب أولى إذا اقترن بها سببٌ من العبد وهو أعمالٌ صالحة. وقد تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلام لا يفقه في اللسان العربي إلا على مراد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) فإذا جاء البيت رجلٌ صالح في جمهور أمره، أي: هو على التمسك بالسنة والشريعة والحدود وما إلى ذلك، ولكن عرضت له كبيرة، ثم حقق الحج تحقيقاً فاضلاً، وتقرب إلى الله رغباً ورهباً، فهل يمكن أن يقال: أجمع أهل السنة والجماعة على أن هذا يوافي ربه بكبيرته ما لم يتب منها، وأن الحج لا يمكن أن يكفرها؟ لا يمكن هذا الجزم، بل هو تكلف وقدر من الزيادة في الجزم بأحكام الله سبحانه وتعالى، وبأحكام نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أن عمرو بن العاص -كما ثبت في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن شماسة - لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مبايعاً على الإسلام، وبسط يده لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فقبضتُ يدي. فقال النبي: ما لك يا عمرو؟ قال: أردتُ أن أشترط. قال: تشترط ماذا؟ قلتُ: أشترط أن يغفر لي) ومن الواضح أن عمراً رضي الله عنه لم يكن يتكلم عن الصغائر؛ لأنه لم يكن في قاموس الجاهليين صغائر، بل كان يتكلم عن الجرائم .. والكبائر الموبقات، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يهدم -وفي رواية: يجُب- ما كان قبله، وأن الحج يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها) فمن الذي يستطيع أن يقول: الحج لا يمكن أن يكفر كبيرة؟ وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس كما في الصحيح: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم ...) وهذا هو قاعدة في القرآن، أليس الله يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فبأي حكم وبأي قضاء وبأي حجة يقال: هذا فقط في الصغائر؟! بل فضل الله سبحانه وتعالى واسع. وهذه أسبابٌ شرعية تدفع غضب الرب، والتوبة ليست إلا سبباً من الأسباب الشرعية. وكذلك من الأسباب الشرعية: تعظيم الشخص لحرمات الله ولشرعه، فهذا السبب قد يدفع ويسقط عقوبة الكبائر والموافاة بها. فالسلف يقولون: الذي يطّرد تكفير الكبائر به هو التوبة، أي: من تاب من كبيرة تاب الله عليه، أما القول بأن الحسنات يطرد التكفير بها، بمعنى أن من صلى الصلوات الخمس أو صام رمضان أو حج البيت تكفر كبائره ولا يحتاج إلى توبة فهذا القول ما قاله أحد من السلف، وحكاية الإجماع على هذا النفي صحيحة. لكن الذي أراد شيخ الإسلام رحمه الله إثباته -وهو ظاهر النصوص النبوية والقرآنية- هو: أن الأعمال الصالحة الكبرى -كأركان الإسلام، والجهاد، والهجرة- قد تكفر ما هو من الكبائر، وإن كان لا يلزم الاطراد كما يلزم في التوبة. وبهذا يكون الفرق بين القول بأن التوبة مكفرة، وبين القول بأن: الحسنات مكفرة، هو أن التوبة تكفر اطراداً، فكل من تاب تاب الله عليه، أما الأعمال الصالحة فإن إطلاق القول بتكفيرها للكبائر أو عدم تكفيرها ليس بصحيح، بل الصواب أن يقال: إن الأعمال الصالحة ولا سيما الشرائع الكبرى -كالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والهجرة وأمثالها- قد تكفر ما هو من الكبائر. وهذا بحسب تحقيقها وبحسب حال صاحب الكبيرة. ففرقٌ بين من أدى الحج أداءً يسيراً ونقص منه قدراً كثيراً، وهو عليه جرائر من الكبائر، وبين من أدى الحج على التحقيق وليس عليه إلا أفرادٌ من الكبائر فعلها على تخوف. إذاً: لا نقول: إن الأعمال الصالحة ولا سيما الكبرى تكفر الكبائر، بل نقول: إنها قد تكفر ما هو من الكبائر. فإن قيل: متى نعلم هذا؟ قيل: لا يلزم أن نعلم، الذي يعلم الله سبحانه وتعالى. فإن قال قائل: إنه يريد أن يعلم هل يتوب أو لا يتوب؟ قيل: التوبة واجبة في الحالين، أي: إذا قيل: إنها قد تكفر فهذا لا يعني إسقاط التوبة، فمع هذا التقرير إلا إنه يقال: إن التوبة واجبة. فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا حديث في الصحيح عن أبي هريرة - قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارةٌ لما بينهما إذا اُجتُنِبَت الكبائر) فأخرج الكبائر. قيل: إنما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هنا التكفير الاطرادي وليس العارض، والذي ذكرناه في تكفير الأعمال الصالحة للكبائر إنما هو العارض. فقوله: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ...) يعني الاطراد. إذاً: الأعمال الصالحة إذا أريد اطراد تكفيرها فهي تكفر الصغائر، وإذا أريد العروض بحسب فضل الله وحكمته وعدله فإنها قد تكفر ما هو من الكبائر، ولا يلزم من هذا أن يكون تكفيرها مطرداً. وهنا أنبه: إلى أن الحكاية عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يقول: إن الأعمال الصالحة كالصلاة تكفر الكبائر كما تكفرها التوبة على الإطلاق .. غلطٌ عليه، وعدمُ فقهٍ لقوله، وهذا لا شك أنه مخالف للإجماع. وإنما الصواب: أن هذه قاعدة الله أعلم بما يترتب على العباد، وهذا كله يؤمن به على عدل الله وفضله ورحمته، وإلا فالله يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] والحسنات هنا الكبار والسيئات هي الكبار، وإن دخلت فيها الصغائر فإن الكبائر ليس أولى منها بالدخول. ثم إن هذا القول فيه توسيع على المسلمين، وتحبيب لهم بهذه الشرائع والقيام بها. ومما يشار إليه هنا: أن هذه الشرائع لها فضل عظيم عند الله، بل هي من أخص نعمه على العباد، فلا ينبغي أن يهون شأنها وكأنها نوع من الأداء الواجب الذي لا ثمرة له على حال العبد ونفسه في الدنيا والآخرة، بل الله يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] وهذا كأنه إشارة إلى أن صاحب المنكر ينقطع بالصلاة عنها، ومن جملة انقطاعه أنه يباعد عنها، وإذا بُوعد عنها فإن هذا وجه من أوجه مغفرة الله سبحانه وتعالى. وقد بسط شيخ الإسلام هذه المسألة في المجلد السابع والعاشر من الفتاوى، وفي رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام، بل ذكر ما هو أقل من هذا، فقال: "دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب، والمصائب المكفرة قد تكفر أحياناً بعض المقارنات لها من الذنوب .. " إلى غير ذلك. فمذهبه في هذا مذهب محقق وليس مذهباً غلطاً، وهو لا يعارض قولاً للسلف فضلاً عن كونه يعارض آيةً في كتاب الله سبحانه وتعالى أو حديثاً عن نبيه.

الطوائف التي خالفت السلف في باب الإيمان

الطوائف التي خالفت السلف في باب الإيمان قال أبو عبيد: [ذكر الأصناف الخمسة الذين تركنا صفاتهم في صدر كتابنا هذا]. عني المصنف فيما تقدم بذكر من عندهم قدر من الفضيلة من مرجئة الفقهاء وما عندهم من الاستدلال، ثم ذكر الأقوال المغلظة من أقوال المرجئة وأقوال الوعيدية على خمسة أقوال. [من تكلم به في الإيمان هم الجهمية]. أتباع الجهم بن صفوان، وهو رجلٌ من أئمة الضلال والشر والبدع في الإسلام، وقد أجمع السلف على ذمه، وذهبت طائفة إلى تكفيره، وهو يقول: إن الإيمان هو المعرفة. وتنسب الجهمية إليه في باب الصفات. [والمعتزلة]. أتباع واصل بن عطاء الغزال، وعمرو بن عبيد، وهذان كانا على عناية بمسألة الكبائر وأفعال العباد، ثم جاء منظروهم وشرحوا مسألة الصفات والإلهيات، وإن كان أصلها عند هذين، لكن منظّر مسألة الإلهيات والصفات عند المعتزلة هو أبو الهذيل العلاف، ومن بعده إبراهيم بن سيار النظام، ثم انقسمت المعتزلة إلى طوائف. [والإباضية]. أتباع عبد الله بن إباض المري المقاعسي، وهذه الفرقة هي التي بقيت من فرق الخوارج، وهم في الجملة أخف فرق الخوارج، وإن كانوا يقولون بأن صاحب الكبيرة مخلد في النار، لكنه في الدنيا يسمى كافراً كفر نعمة. ومما ينبه إليه من شأن الإباضية: أنهم دخلت عليهم بدع المعتزلة. فهم إحدى طائفتين نقلنا كلام المعتزلة في القدر والصفات. والأخرى هي الشيعة الإمامية. فقد نقل الإمامية مذهب المعتزلة في الصفات وفي القدر ودخل عليهم؛ لأن مسألة القدر والصفات مسألة عقلية نظرية، إما أن تؤخذ بالآثار كما هو طريق السلف، أو تؤخذ بالعقل والنظر، والشيعة ليسوا من أهل الآثار ولا من أهل العقل، ولهذا اقتبسوا هذا من المعتزلة. أما قصة هذا الاقتباس -مع أن أحد أئمة الشيعة وهو هشام بن الحكم كان مشبهاً على خلاف طريقة المعتزلة- فهي أن بدعة المعتزلة بدأت بصرية، ثم ظهر نوع من المعتزلة في بغداد، ثم إن هؤلاء البغداديين تشيعوا وانتصروا لفضيلة علي بن أبي طالب، حتى فضله من فضله من المعتزلة على أبي بكر وعمر، فقاربتهم الشيعة لشأن الانتصار لـ علي بن أبي طالب في القتال، وأنه أفضل من غيره، ثم حصل اندماج بين المعتزلة وبين الشيعة، وخاصةً المعتزلة البغدادية، فأخذت الشيعة عنهم مسألة القدر بتفاصيلها. وبهذا يعلم أنه إذا ذكر بعض أئمة الشيعة النظار باب القدر والصفات ودخلوا في العقليات وعلم الكلام والمنطق وما إلى ذلك أنه ليس لهم فيه كبير علم، بل هذا كله نقل من أئمة المعتزلة وتلخيص من كتبهم. ومثلهم الإباضية، فقد أصبحوا في الجملة يقولون بقول المعتزلة في الصفات. قال: [والصفرية والفضلية]. وهاتان الطائفتان من الخوارج، ولا قيمة لهما؛ فقد هلكتا في الدهر.

أقوال الطوائف المخالفة للسلف في باب الإيمان

أقوال الطوائف المخالفة للسلف في باب الإيمان [فقالت الجهمية: الإيمان معرفة الله بالقلب، وإن لم يكن معها شهادة لسان، ولا إقرار بنبوة، ولا شيء من أداء الفرائض! احتجوا في ذلك بإيمان الملائكة فقالوا: قد كانوا مؤمنين قبل أن يخلق الله الرسل. وقالت المعتزلة: الإيمان بالقلب واللسان مع اجتناب الكبائر، فمن قارف شيئاً كبيراً زال عنه الإيمان، ولم يلحق بالكفر، فسمي فاسقاً ليس بمؤمن ولا كافر، إلا أن أحكام الإيمان جارية عليه! وقالت الإباضية: الإيمان جماع الطاعات، فمن ترك شيئاً كان كافر نعمة وليس بكافر شرك، واحتجوا بالآية التي في إبراهيم: {بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً} [إبراهيم:28]. وقالت الصفرية: مثل ذلك في الإيمان أنه جميع الطاعات، غير أنهم قالوا في المعاصي صغارها وكبارها كفر وشرك ما فيه إلا المغفور منها خاصة. وقالت الفضلية: مثل ذلك في الإيمان أنه أيضاً جميع الطاعات، إلا أنهم جعلوا المعاصي كلها ما غفر منها وما لم يغفر كفراً وشركاً، قالوا: لأن الله جل ثناؤه لو عذبهم عليها كان غير ظالم لقوله: {لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:15 - 16]. وهذه الأصناف الثلاثة من فرق الخوارج معاً، إلا أنهم اختلفوا في الإيمان، وقد وافقت الشيعة فرقتين منهم، ووافقت الرافضة المعتزلة، ووافقت الزيدية الإباضية. وكل هذه الأصناف يكسر قولهم ما وصفنا به (باب الخروج من الإيمان بالذنوب)، إلا الجهمية؛ فإن الكاسر لقولهم قول أهل الملة، وتكذيب القرآن إياهم حين قال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] فأخبر الله عنهم بالكفر إذ أنكروا بالألسنة، وقد كانت قلوبهم بها عارفة، ثم أخبر الله عز وجل عن إبليس أنه كان من الكافرين، وهو عارف بالله بقلبه ولسانه أيضاً، في أشياء كثيرة يطول ذكرها، كلها ترد قولهم أشد الرد، وتبطله أقبح الإبطال]. أي: أن قول الجهمية شر الأقوال؛ ولهذا قال شيخ الإسلام: "إن شر قولٍ قيل في مسألة الإيمان هو قول الجهمية". حتى عده من عده من السلف كفراً، كما ذكر ذلك ابن مهدي ووكيع والإمام أحمد وغيرهم. وفي ختم هذه الرسالة أوصي الإخوة القراء بالعناية بهذه الرسالة، وإننا لنعجب من بعض طلبة العلم، حيث قد يقرأ بعض المختصرات المتأخرة في العقيدة، ولربما أعادها على أكثر من شيخ، ولربما قرأ لها أكثر من شرح وأطال النظر فيها، مع أنها قد تكون حقائق مجملة عامة. وهذه الرسالة -ولا سيما في هذه المسألة- تعد من أشرف الرسائل السلفية؛ لأن إمامها ذو علم بالحديث، وكذلك هو إمام في اللغة، وهذه مسألة أصل في مسألة الإيمان؛ لأن مبناها على لغة العرب مهم. فهذا الإمام: أولاً: إمام سلفي متقدم. ثانياً: إمام أحسن التوصيف لهذه المسألة، وكذلك التفصيل للفرق بين قول مرجئة الفقهاء وقول غيرهم. ثالثاً: إمام في اللغة إلى آخر ذلك. فهذه الرسالة من الرسائل التي ينبغي لطلبة العلم أن يعتنوا بها قراءةً وشرحاً وتدبراً. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1