شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد - الراجحي

عبد العزيز الراجحي

[1]

شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [1] مذهب أهل السنة أن الإيمان اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد خالف في هذا كثير من أهل البدع، وأقربهم إلى السنة مرجئة الفقهاء، حيث قالوا: الإيمان اعتقاد وقول، وقال المرجئة الجهمية: الإيمان اعتقاد فقط، وقال بعض المبتدعة: الإيمان قول فقط، وأنكر هؤلاء جميعاً كون الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

كتاب الإيمان وموضوعه

كتاب الإيمان وموضوعه الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذه الرسالة (كتاب الإيمان) صنفها الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام، وموضوعها: الإيمان ومعالمه وسننه واستكماله ودرجاته. وقد والمؤلف رحمه الله من علماء القرن الثاني والثالث الهجري، فإن ولادته سنة سبع وخمسين ومائة للهجرة، ووفاته سنة أربع وعشرين ومائتين. وقد ألف هذه الرسالة ليبين فيها حقيقة الإيمان، وما دلت عليه النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما قرره أهل العلم وفهموه من النصوص، ويرد على المخالفين، وهم طائفتان: الطائفة الأولى: المرجئة المحضة، الذين قولهم منكر، والطائفة الثانية: مرجئة الفقهاء الذين وافقوا جمهور أهل السنة في المعنى وخالفوهم في اللفظ.

الآثار المترتبة على خلاف مرجئة الفقهاء في مسألة الإيمان

الآثار المترتبة على خلاف مرجئة الفقهاء في مسألة الإيمان وأول من قال بالإرجاء حماد بن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة ولكن خلافهم له آثار تترتب عليه، فإنهم وإن وافقوا أهل السنة والجماعة في أن الأعمال لابد منها، وأن العمل واجب، وأن الواجبات واجبات، والمحرمات محرمات، وأن فاعل الواجب يستحق الثواب ويمدح على فعله، وفاعل المعصية والكبيرة يذم ويستحق الوعيد، ويقام عليه الحد إن كان لهذه المعصية حد، إلا أن خلافهم له آثار ترتبت عليه، حتى قال بعض أهل العلم: إن فتنتهم أشد من فتنة الأزارقة، وهم الخوارج؛ وذلك لأنهم خالفوا النصوص لفظاً، وإن وافقوها معنى. والواجب على المسلم أن يتأدب مع النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يوافق النصوص لفظاً ومعنى، وليس له أن يخالف النصوص لا لفظاً ولا معنى. من آثار خلاف مرجئة الفقهاء -وهم الأحناف- مع جمهور أهل السنة: قولهم: إن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، ففتحوا باباً للمرجئة المحضة، وهم الجهمية، فقالوا: إن الأعمال ليست واجبة وليست مطلوبة. ومن الآثار التي ترتبت على خلافهم: أنهم فتحوا باباً للعصاة والفسقة، فيأتي السكير العربيد فيقول: أنا مؤمن كإيمان جبريل وميكائيل وكإيمان أبي بكر وعمر! فإذا قيل له: إن أبا بكر وعمر لهما أعمال عظيمة، فقال: ليس الخلاف في الأعمال، الأعمال شيء والإيمان شيء آخر، أنا مصدق وأبو بكر وعمر مصدقان كل منهما مصدق! ومن الآثار كذلك: خلاف الأحناف ومرجئة الفقهاء مع جمهور أهل السنة في مسألة الاستثناء في الإيمان، وهي قول: أنا مؤمن إن شاء الله، فمرجئة الفقهاء لا يرون الاستثناء ويمنعونه، ويقولون: إن من استثنى فهو شاك في إيمانه، ويسمون الذين يستثنون في إيمانهم: الشكاكة. أما جمهور أهل السنة فإنهم يفصلون، ويرون أن المستثني إن قصد الشك في أصل إيمانه فهو ممنوع من الاستثناء، أما إن نظر إلى أعمال الإيمان وأنها متعددة، وأن الواجبات كثيرة، وأن الإنسان لا يزكي نفسه، ولا يجزم بأنه أدى ما عليه، فإنه يستثني في هذه الحالة، وكذلك إذا استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة فإنه يستثني، كذلك إذا أراد التبرك بذكر اسم الله فله أن يستثني. فالمقصود أن الخلاف بين مرجئة الفقهاء وجمهور أهل السنة ليس خلافاً لفظياً من جميع الوجوه، كما قاله شارح الطحاوية رحمه الله، ولكنه خلاف له آثار تترتب عليه كما ذكرنا مسبقاً.

ترجمة الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام

ترجمة الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام هو أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي، الإمام المجتهد البحر اللغوي الفقيه، صاحب المصنفات، ولد بهراة سنة سبع وخمسين ومائة، وكان أبوه عبداً رومياً لبعض أهل هراة، سمع جماعة من الأئمة الثقات مثل: سفيان بن عيينة وإسماعيل بن علية ويزيد بن هارون ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وحماد بن سلمة، وغيرهم، وحدث عنه الإمام الدارمي وأبو بكر بن أبي الدنيا وعلي بن عبد العزيز البغوي ومحمد بن يحيى المروزي وآخرون. قال الإمام إسحاق بن راهويه: الله يحب الحق، أبو عبيد أعلم مني وأفقه، وقال أيضاً: نحن نحتاج إلى أبي عبيد، وأبو عبيد لا يحتاج إلينا. وقال أحمد بن حنبل: أبو عبيد أستاذ وهو يزداد كل يوم خيراً. وسئل يحيى بن معين عنه فقال: أبو عبيد يسأل الناس عنه. وقال أبو داود: ثقة مأمون. قال الحافظ الذهبي: من نظر في كتب أبي عبيد علم مكانه من الحفظ والعلم، وكان حافظاً للحديث وعلله، عارفاً بالفقه والاختلاف، رأساً في اللغة، إماماً في القراءات له فيها مصنف، وقع لي من تصانيفه كتاب الأموال، وكتاب الناسخ والمنسوخ. ولذلك لما كان محدثاً فإنه يروي هذه الرسالة بالأسانيد بعضها مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها موقوفاً على الصحابة، وبعضها موقوفاً على من بعدهم. وقال الخطيب البغدادي: وكان ذا فضل ودين وفكر ومذهب حسن، وكتبه مستحسنة مطلوبة في كل بلد، والرواة عنه مشهورون ثقات، ذو ذكر ونبل، وكتابه الأموال من أحسن ما صنف في الفقه وأجوده. قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: ومع هذه المناقب والفضائل فإن الأئمة الستة لم يخرجوا له شيئاً من الحديث، فذلك من الأدلة الكثيرة على أنهم لم يخرجوا لجميع رواة الحديث الثقات، فلا غرابة بعد هذا ألا يخرج البخاري لبعض رواة أهل البيت الثقات منهم، رضي الله عنهم. ومن كلام أبي عبيد رحمه الله تعالى: المتبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو اليوم عندي أفضل من ضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل. قلت: هذا في زمانه، فماذا يقال في زماننا؟! أقام رحمه الله ببغداد مدة، ثم ولي القضاء بطرسوس، وخرج بعد ذلك إلى مكة فسكنها حتى مات بها سنة أربع وعشرين ومائتين. وبهذا يتبين أن الإمام أبا عبيد رحمه الله له عناية بالحديث والفقه والتوحيد والعقيدة.

ما جاء في نعت الإيمان في استكماله ودرجاته

ما جاء في نعت الإيمان في استكماله ودرجاته

سند الرسالة إلى أبي عبيد القاسم بن سلام

سند الرسالة إلى أبي عبيد القاسم بن سلام [أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن معروف أعني ابن أبي نصر في داره بدمشق في صفر سنة عشرين وأربعمائة قال: حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن أحمد بن يحيى العسكري صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام هذه الرسالة وأنا أسمع، قال أبو عبيد]. هذا سند الرسالة، فإن الذي رواها الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن أبي نصر، رواها عن صاحب الإمام أبي عبيد وهو أبو يعقوب إسحاق بن أحمد بن يحيى العسكري، وروى هذه الرسالة قبل وفاته بأربع سنين، وعلى هذا فتكون الرسالة ثابتة للمؤلف رحمه الله.

سبب تأليف الرسالة

سبب تأليف الرسالة قال المصنف رحمه الله تعالى: [أما بعد: فإنك كنت تسألني عن الإيمان، واختلاف الأمة في استكماله، وزيادته ونقصه، وتذكر أنك أحببت معرفة ما عليه أهل السنة من ذلك، وما الحجة على من فارقهم فيه، فإن هذا رحمك الله خطب قد تكلم فيه السلف في صدر هذه الأمة وتابعيها ومن بعدهم إلى يومنا هذا، وقد كتبت إليك بما انتهى إلي علمه من ذلك مشروحاً ملخصاً، وبالله التوفيق]. إذاً موضوع الرسالة هو الجواب عن هذا Q ما الإيمان؟ وما حقيقته؟ وما الخلاف في استكماله وزيادته ونقصه؟ وهل من خالف أهل السنة والجماعة ومن خالف السلف من الصحابة والتابعين له حجة أو دليل؟ وقول المؤلف رحمه الله: (فإن هذا رحمك الله) هذا من نصح المؤلف رحمه الله أنه يعلمك ويدعو لك، وهذه طريقة العلماء الربانيين، يعلمون الناس ويدعون لهم. قوله: (خطب) يعني: أمر عظيم ليس بالأمر الهين، فلابد من تحقيقه. قوله: (وقد تكلم فيه السلف) أي: أن خير هذه الأمة وتابعيها تكلموا في مسألة الإيمان: هل العمل من الإيمان؟ وهل الإيمان يزيد وينقص؟ فإن هذا الأمر عظيم، ولابد من تحقيقه؛ لأن فيه سلامة دين المرء وإيمانه واعتقاده في ربه ونبيه ودينه، والمؤلف يقول: قد تكلم فيه السلف من الصحابة ومن بعدهم، كما سيأتي أن المؤلف رحمه الله ساق الأدلة والنصوص عن الصحابة كقول معاذ بن جبل: (اجلس بنا نؤمن ساعة) يعني: يزيد إيماننا. فالسلف من الصحابة والتابعين والأئمة ومن بعدهم بينوا حقيقة الإيمان، وأنه إقرار باللسان وتصديق بالقلب، وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، فهذه هي حقيقة الإيمان التي دلت عليها النصوص من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبينها أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم. إذاً: حقيقة الإيمان تشمل هذه الأمور الأربعة: قول اللسان وهو النطق، فلابد أن يتلفظ المسلم بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولابد من قول القلب وهو الإقرار والاعتراف والتصديق، ولابد من عمل القلب، وهو النية والإخلاص والصدق والمحبة والانقياد، ولابد من عمل الجوارح، كالصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين، وصلة الرحم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والإحسان إلى الجيران، وكف المسلم نفسه عن المحرمات التي أعظمها وأغلظها الشرك بالله عز وجل، والعدوان على النفس في الدماء، والعدوان على الناس في الأموال، والعدوان على الناس في الأعراض، فينتهي عن المحرمات تديناً وإيماناً بالله، وبما جاء عن الله وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك المحرمات، فهذه هي حقيقة الإيمان التي دلت عليها النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقد قال كثير من السلف: الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان، يعني: القلب، وعمل بالأركان، يعني: الجوارح. وقال بعضهم: الإيمان عمل ونية، عمل القلب وعمل الجوارح، وهذه هي حقيقة الإيمان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (إن هذا خطب قد تكلم فيه السلف في صدر الأمة وتابعيها ومن بعدهم إلى يومنا هذا) يعني: هذا أمر واضح، ليس أمراً خفياً؛ لأن الإيمان هو الذي أراده الله تعالى من عباده وخلقهم من أجله، فالله خلق الخلق ليعبدوه ويؤمنوا به ويوحدوه، ويمتثلوا أمره ويجتنبوا نهيه، ويلتزموا شرعه ودينه، ويقفوا عند حدوده، ويستقيموا على شرعه ودينه، فهذا الأمر لا بد أن يكون واضحاً وجلياً، ولهذا فإن النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واضحة في هذا، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]. {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:4]. فبين الله سبحانه وتعالى أن من صفات المؤمنين حقاً أنهم الذين توجل قلوبهم عند ذكر الله، ويزدادون إيماناً عند تلاوة آياته، ويتوكلون على الله، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهذه الأعمال شملت أعمال الجوارح وأعمال القلوب، فوجل القلب عند ذكر الله من أعمال القلوب، وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فهذه أعمال، وكلها داخلة في مسمى الإيمان، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، فهؤلاء هم الصادقون في إيمانهم، آمنوا بالله وبرسوله، ولم يرتابوا ولم يشكوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، فدل على أن من لم يأت بالأعمال ليس صادقاً في إيمانه، فيقال: ليس بصادق الإيمان، ليس بمؤمن حقاً، فالفاسق والعاصي والمرتكب للكبيرة، وإن كان داخلاً في اسم الإيمان، إلا أنه لا يطلق عليه الإيمان، بل لابد من النفي، نفياً وإثباتاً، فلا يقال: مؤمن بإطلاق، ولا يقال: ليس بمؤمن بإطلاق، بل لابد أن يقيد في النفي وفي الإثبات، في الإثبات تقول: مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن فاسق بإيمانه، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وفي النفي تقول: ليس بمؤمن حقاً، ليس بصادق الإيمان؛ لأنك إذا أثبت له الإيمان قلت: هو مؤمن بإطلاق، وهو عاص يرتكب الكبائر، فقد وافقت المرجئة، وإذا قلت: ليس بمؤمن ونفيت عنه الإيمان، فقد وافقت الخوارج والمعتزلة، فلابد من التقييد في النفي والإثبات، مؤمن ناقص الإيمان، وفي النفي ليس بصادق الإيمان، قال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، وهذه رواية مسلم، وفي رواية البخاري: (الإيمان بضع وستون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). فهذا الحديث دل على أن الإيمان شعب متعددة كثيرة كلها داخلة في مسمى الإيمان، ومثل النبي صلى الله عليه وسلم لأعلاها وأدانها، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، أي: كلمة التوحيد، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وبين الأعلى والأدنى شعب متفاوتة منها ما يقرب من شعبة الشهادة، ومنها ما يقرب من شعبة الإماطة، والصلاة شعبة، والزكاة شعبة، والصوم شعبة، وبر الوالدين شعبة، وصلة الرحم شعبة، والأمر بالمعروف شعبة، والنهي عن المنكر شعبة، والإحسان إلى الجيران شعبة، والإحسان إلى اليتامى والأرامل والمساكين والحيوانات كلها من شعب الإيمان وهكذا. ومثل النبي صلى الله عليه وسلم للشعبة القولية بكلمة التوحيد، والشعبة العملية بإماطة الأذى عن الطريق، والشعبة القلبية بالحياء، فدل على أن أعمال الجوارح وأعمال القلوب وأقوال اللسان كلها داخلة في المسمى، وهذا هو الذي أقره أهل السنة والجماعة، ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أهل العلم كـ سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وإسحاق بن راهويه، وهو الذي عليه الصحابة والتابعون والأئمة. وفي حديث وفد عبد القيس: (لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنه يحول بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، ولا نستطيع أن نخرج إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل نعمل به ونخبر به من وراءنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بأربع: شهادة أن لا إله إلا الله، أتدرون ما شهادة أن لا إله إلا الله؟ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)، وفي اللفظ الآخر: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)، ففسر الإيمان بهذه الأمور الخمسة، بالشهادة: أي: بكلمة التوحيد، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأداء الخمس، وهذه أعمال، فدل على دخول الأعمال في مسمى الإيمان، والأدلة في هذا كثيرة، وأقوال العلماء في هذا كثيرة، كما بين أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله وبينه غيره من أهل العلم، وقد ألف أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاباً في الإيمان، كتاباً كبيراً وكتاباً صغيراً، وكلاهما عظيم في بيان الإيمان وما يكون في مسمى الإيمان وبيان من خالفه.

مسمى الإيمان

مسمى الإيمان

افتراق أهل العلم في الإيمان إلى فرقتين

افتراق أهل العلم في الإيمان إلى فرقتين قال المصنف: [اعلم رحمك الله أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر فرقتين، فقالت إحداهما: الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب، وشهادة الألسنة، وعمل الجوارح، وقالت الفرقة الأخرى: بل الإيمان بالقلوب والألسنة، فأما الأعمال فإنما هي تقوى وبر، وليست من الإيمان]. قوله: (اعلم) يعني: انتبه وألق سمعك لهذا الأمر. قوله: (رحمك الله) دعاء، وهذا من نصحه رحمه الله. قوله: (أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر) يعني: في مسمى الإيمان، ما هو مسمى الإيمان؟ قوله: (فرقتين) الفرقة الأول: الصحابة والتابعون وتابعوهم والأئمة، قالوا: إن مسمى الإيمان قول باللسان، وقول القلب وعمل القلب، وعمل الجوارح، وقالوا: الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب، وشهادة الألسنة، وعمل الجوارح، وهذا هو المذهب الحق الذي دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فينطق الإنسان بلسانه، ويشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أن محمداً رسول الله، ويعمل بجوارحه، فيصلي ويصوم ويزكي ويحج ويبر بوالديه ويصل رحمه ويحسن إلى جيرانه، ويحسن إلى الفقراء واليتامى والمساكين والأرامل، ويكف جوارحه عما حرم الله عز وجل، فكل هذه أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (فقالت إحداهما: الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب) عمل القلب، (وشهادة الألسنة) يعني: النطق باللسان، الألسنة جمع لسان، (وعمل الجوارح) الجوارح تعمل، واللسان ينطق، والقلب عنده إخلاص، وبر ونية وانقياد، ومحبة وخوف ورجاء من الله عز وجل، كل هذه من أعمال القلوب، والخوف من الله والرجاء، والنية والإخلاص، والمحبة والانقياد مع قول اللسان ومع أعمال الجوارح، كل هذه داخلة في مسمى الإيمان، هذه الفرقة الأولى. قوله: (وقالت الفرقة الأخرى: بل الإيمان بالقلوب والألسنة) وهذا هو مذهب مرجئة الفقهاء، كـ أبي حنيفة وأصحابه من أهل الكوفة وهم طائفة من أهل السنة، قالوا: إن الإيمان شيئان: في القلب، وفي اللسان، في القلب التصديق والإقرار، وفي اللسان النطق، أما عمل الجوارح كالصلاة والصوم والزكاة والحج، فليست من الإيمان، ولكنها تقوى وبر، قالوا: نسميها تقوى ونسميها براً، ولا نسميها إيماناً ولو كانت مطلوبة، قالوا: فالإنسان عليه واجبان، واجب الإيمان وواجب العمل، ولا يدخل أحدهما في مسمى الآخر. واختلفوا في أعمال القلوب: هل هي داخلة أو ليست داخلة؟ فمنهم من أدخلها ومنهم من أخرجها من مسمى الإيمان، وأما جمهور أهل السنة فقالوا: الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، أعمال القلوب وأعمال الجوارح، نسميها إيماناً ونسميها تقوى ونسميها براً، هي تقوى وبر وإيمان، أما مرجئة الفقهاء فقالوا: هي تقوى وبر وليست إيماناً، فالبر والتقوى غير الإيمان، الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان، وأما أعمال الجوارح نسميها تقوى ونسميها براً وهي مطلوبة وواجبة، ويثاب فاعلها، ويعاقب تاركها، ويقام الحد على من ارتكب كبيرة، لكن لا نسميها إيماناً، فهي ليست من الإيمان. وإذا نظرنا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجدنا أن النصوص أدخلت الأعمال في مسمى الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:2 - 4] وفي الحديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، والبضع من ثلاثة إلى تسعة. وقد ألف الإمام البيهقي رحمه الله مؤلفاً في هذا سماه شعب الإيمان، تتبع ما ورد في النصوص بتسميته إيمان ووضعه في كتابه، وأوصلها إلى تسع وسبعين شعبة. فالمؤلف رحمه الله يقول: إن أهل العلم والعبادة بالدين افترقوا في هذا الأمر فرقتين: جمهور أهل السنة، ومرجئة الفقهاء، كلهم من أهل العلم والدين؛ لأن مرجئة الفقهاء طائفة من أهل السنة، لكنهم خالفوا النصوص في اللفظ وإن كانوا من أهل العلم والدين، إلا أن الفرقة الأولى أسعد منهم بالدليل، وهم الذين وافقوا النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لفظاً ومعنى، وتأدبوا مع النصوص وسموا الأعمال إيماناً، وأما مرجئة الفقهاء فإنهم أخرجوا الأعمال ولم يدخلوها في الإيمان. وهناك فرقة ثالثة، لكنهم ليسوا من أهل العلم والدين، وهم المرجئة المحضة كالجهمية وغيرهم فإنهم قالوا: إن الإيمان مجرد معرفة القلب، ويتزعمهم الجهم بن صفوان ويقول: الإيمان معرفة الرب بالقلب، والكفر هو جحد الرب بالقلب، فمن عرف ربه بإيمانه فهو مؤمن عند الجهمية، ومن جهل ربه بقلبه فهو كافر، وعلى هذا ألزم العلماء الجهم بأن إبليس مؤمن؛ لأنه عرف ربه بقلبه، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36]، وكذلك فرعون الذي ادعى الربوبية وقال للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] مؤمن على مذهب الجهم؟ لأنه يعرف ربه بقلبه، قال الله تعالى عنه وعن ملائه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، واليهود على مذهب الجهم مؤمنون؛ لأنهم يعرفون ربهم بقلوبهم ويعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]، وأبو طالب ثبت في صحيح البخاري أنه مات على الشرك، فيكون على مذهب الجهم مؤمناً؛ لأنه يعلم صدق النبي صلى الله عليه وسلم، قال في قصيدة مشهورة: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا والجهمية ليسوا من أهل العلم والدين، ولهذا ما ذكرهم رحمه الله، ويسمون المرجئة المحضة، فهم يرون أن الأعمال ليست واجبة، وأن الإنسان لو ارتكب جميع الكبائر والمنكرات، وهدم المساجد وقتل الأنبياء والصالحين، وهو يعرف ربه بقلبه يكون مؤمناً! هذا مذهب الجهم كما بين ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية، والجهم بن صفوان ملحد كفره أهل العلم، والجهمية هناك من العلماء من كفرهم بإطلاق، ومنهم من بدعهم، ومنهم من كفر غلاتهم، وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله أنه كفرهم خمسمائة عالم، قال: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان أي خمسمائة والإمام اللالكائي قد حكاه عنهم بل قد حكاه قبله الطبراني. فالمقصود أن أهل العلم والدين -كما قال المؤلف رحمه الله- افترقوا في مسمى الإيمان إلى فرقتين: فرقة أدخلت أعمال القلوب وأعمال الجوارح في مسمى الإيمان مع تصديق القلب، والإقرار باللسان، وهذا هو مذهب الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، وغيرهم من أهل العلم. والطائفة الثانية: مرجئة الفقهاء وهم أبو حنيفة وأصحابه وأهل الكوفة ومن تبعهم يرون أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان إنما هو الإقرار باللسان وتصديق القلب، وأما أعمال الجوارح وأعمال القلوب فهي مطلوبة، ويجب على الإنسان أن يؤدي الواجبات ويترك المحرمات إلا أنهم لا يسمونها إيماناً بل يسمونها تقوى وبراً، وأما جمهور أهل السنة فإنهم يسمونها إيماناً ويسمونها تقوى ويسمونها براً، فهي تقوى وإيمان وبر.

[2]

شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [2] الأعمال الصالحة تدخل في مسمى الإيمان، والأدلة على هذا كثيرة من القرآن والسنة وآثار سلف الأمة، وقد ذكرها العلماء في ردهم على مرجئة الفقهاء الذين أخرجوا الأعمال من مسمى الإيمان، ولهم شبهات يستدلون بها، وقد بين أهل السنة بطلان استدلالهم بما استدلوا به، وأنه لا يدل على ما ذهبوا إليه، وقد خالفوا بمذهبهم ظاهر الكتاب والسنة.

رد أبو عبيد نزاع الفرقتين إلى الكتاب والسنة

رد أبو عبيد نزاع الفرقتين إلى الكتاب والسنة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإنا نظرنا في اختلاف الطائفتين، فوجدنا الكتاب والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً، وينفيان ما قالت الأخرى]. بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله الخلاف في مسمى الإيمان، عمل بقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، وهذه هي طريقة أهل العلم، أنهم يردون ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عملاً بقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، وقوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]. فالواجب على المسلم أن يرد ما تنازع فيه الناس، وأن يعرض خلاف الناس وخلاف العلماء على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما وافق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو الحق، وما خالفهما فهو مردود. فالمؤلف الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله من الراسخين في العلم، ومن أهل العلم والبصيرة، ومن أهل الفقه في الدين، ولذلك رد نزاع هاتين الفرقتين إلى الكتاب والسنة، فوجد أن الكتاب والسنة يوافقان قول جمهور أهل السنة، وأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، فتبين بهذا أنه الحق، وأن قول مرجئة الفقهاء في إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان قول ليس بصحيح، يخالف النصوص في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال المصنف: [والأصل الذي هو حجتنا في ذلك اتباع ما نطق به القرآن، فإن الله تعالى ذكره علواً كبيراً قال في محكم كتابه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]. وإنا رددنا الأمر إلى ما ابتعث الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتابه، فوجدناه قد جعل بدأ الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم]. المؤلف رحمه الله يقول: إن هذه المسألة من مسائل النزاع، والأصل الذي هو حجتنا اتباع ما جاء في القرآن، وقوله: (اتباع ما نطق به القرآن) أخذ من قول الله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية:29]. وبين المؤلف رحمه الله أن أصل الدين وأساس الملة أن تشهد لله تعالى بالوحدانية، وأن تشهد لنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأن توحد الله وتخلص له العبادة، وهذا هو الأمر الذي أنزل الله به الكتب، وأرسل به الرسل، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وكل نبي ابتعثه الله يدعو قومه ابتداء إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، ويأمرهم بعبادة الله، ويقول: اعبدوا الله، كما قال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وقال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]، وقال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]، وقال: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85]. هذا هو الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، والنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله بين قوم مشركين، فدعاهم إلى التوحيد، وقال لهم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) ومكث على هذا بضع عشرة سنة، يدعو إلى هذه الشهادة الخاصة، ولم يأمرهم بالصلاة ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج؛ لأن أصل الدين وأساس الملة هو التوحيد، فلا تصح الأعمال إلا بالتوحيد، إلا الصلاة فإنها فرضت أول البعثة لسنة أو لسنتين أو ثلاث على خلاف، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة شرع الله الشرائع ففرضت الزكاة في المدينة، وفرض الصوم وفرض الحج، وشرع الأذان، وشرعت الحدود، أما في مكة فإن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على دعوتهم إلى التوحيد؛ لأن التوحيد هو أصل الدين وأساس الملة وهو الذي تبنى عليه الأعمال، ولا تصح الأعمال إلا به، فإذا ثبت التوحيد استقر في القلوب، وعند ذلك تبنى عليه الأعمال وتصح. أما إذا عمل الإنسان عملاً وهو لم يوحد، كأن يصلي ويصوم ويزكي ويحج وهو مشرك فإن ذلك لا ينفعه، إلا بعد ثبات التوحيد والإيمان في القلب.

الإيمان في مكة اقتصر على الشهادتين فقط

الإيمان في مكة اقتصر على الشهادتين فقط قال المصنف رحمه الله تعالى: [فأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة عشر سنين أو بضع عشرة سنة يدعو إلى هذه الشهادة خاصة، وليس الإيمان المفترض على العباد يومئذ سواها، فمن أجاب إليها كان مؤمناً، لا يلزمه اسم في الدين غيره، وليس يجب عليهم زكاة، ولا صيام، ولا غير ذلك من شرائع الدين]. هذا في مكة أول الأمر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإنما كان هذا التخفيف عن الناس يومئذ فيما يرويه العلماء رحمة من الله لعباده، ورفقاً بهم؛ لأنهم كانوا حديث عهد بجاهلية وجفائها، ولو حملهم الفرائض كلها معاً نفرت منه قلوبهم، وثقلت على أبدانهم]. ولأنها لا تصح إلا بعد استقرار التوحيد والثبات في القلب؛ لأن هذه الصلاة والزكاة والصوم والحج لا تصح ولا تقبل ولا تكون نافعة عند الله إلا بعد التوحيد، ولهذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، وكل نبي يدعو قومه إلى التوحيد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فجعل ذلك الإقرار بالألسن وحدها هو الإيمان المفترض على الناس يومئذ، فكانوا على ذلك إقامتهم بمكة كلها وبضعة عشر شهراً بالمدينة وبعد الهجرة]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلما أثاب الناس إلى الإسلام وحسنت فيه رغبتهم، زادهم الله في إيمانهم أن صرف الصلاة إلى الكعبة، بعد أن كانت إلى بيت المقدس، فقال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144]. ثم خاطبهم وهم بالمدينة باسم الإيمان المتقدم لهم في كل ما أمرهم به، أو نهاهم عنه، فقال في الأمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]]. أثاب: يعني اجتمع أي: لما اجتمع الناس على الإسلام في المدينة واستقر التوحيد وثبت في القلوب، وحسنت رغبتهم فيه؛ شرع الله الشرائع، فحددت الأوقات والصلوات، وشرع الأذان، وشرعت الجماعة، وفرضت الزكاة، وفرض الصوم، وفرض الحج، وشرعت الحدود. والمعنى: أنه لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى المدينة، شرعت الشرائع، فناداهم الله باسم الإيمان، أمراً ونهياً، وطلب منهم سبحانه وتعالى امتثال الأوامر واجتناب النواهي؛ لأنهم موحدون فقال في الأمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، فقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:77] يعني: وحدوا الله، وعندما ثبت التوحيد أوجب الله عليهم الصلاة {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77] , وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]، فأمرهم بالوضوء، وفي النهي نهاهم عن الربا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]، فشرعت الشرائع، وفرضت الواجبات، وحرمت المحرمات، فامتثلوا أمر الله واجتنبوا نهيه.

الأسئلة

الأسئلة

حقيقة الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء في مسائل الإيمان

حقيقة الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء في مسائل الإيمان Q ما رأيكم فيمن يقول: إن خلافنا مع مرجئة الفقهاء خلاف حقيقي من وجوه عدة، من جهة مخالفتهم للنصوص الصريحة، وإجماع السلف على أن الأعمال من الإيمان، ومن جهة حكمهم على أهل الكبائر وعدم تكفيرهم لبعض من تلبس بالكفر العملي، ومن جهة ما يثمر عن ذلك من الولاء والبراء، وأن الفاسق والفاجر والمؤمن في الإيمان سواء، فالمحبة لهم سواء، والراجح أنهم فتحوا باباً للفسقة والفجرة أن يفعلوا ما شاءوا، ويقولون: إن إيماننا كامل؟ A نعم، سبق أن خلافهم ليس خلافاً لفظياً، ولكنه خلاف له آثار تترتب عليه، أما أهل السنة فقد تأدبوا مع النصوص فقالوا: إن العمل داخل في مسمى الإيمان، ومرجئة الفقهاء خالفوا النصوص في اللفظ وإن وافقوها في المعنى، ومنها فتح الباب للفسقة، وفتح الباب للمرجئة. أما حكم أهل الكبائر فمرجئة الفقهاء من أهل السنة يرون أن صاحب الكبيرة يستحق الوعيد، ويقام عليه الحد في الدنيا، إذا كانت الكبيرة عليها حد، أما المرجئة المحضة الجهمية، فهم الذين يرون أن صاحب الكبيرة ليس عليه شيء. وهم يرون أنه مؤمن كامل الإيمان؛ لأن التفاضل بين الناس بالأعمال ليس التفاضل بينهم بالإيمان، فالإيمان عندهم واحد وأهله في أصله سواء. أما عدم تكفيرهم لبعض من تلبس بالكفر العملي، فهم يفصلون في هذا؛ لأنهم يرون أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والكفر إنما يكون بالجحود، والجحود يكون بالقلب، فهم يرون أن الأعمال الكفرية دليل على الجحود، ودليل على ما في القلب، والصواب أن الأعمال الكفرية هي كفر، فمن سجد للصنم كفر على الصحيح، ومن سب الله أو سب الرسول أو سب دين الإسلام فهذا كفر، وليس هو دليل على الكفر، فهم يقولون: إن هذا دليل على الكفر ودليل على ما في قلبه. والصواب أن الكفر يكون بالجحود، كأن يجحد فرضية الصلاة وفرضية الزكاة أو فرضية الحج، أو ينكر البعث، أو الجنة أو النار، أو يجحد صفة وصف الله بها نفسه، أو خبراً أخبر الله به، بعد قيام الحجة، ويكون أيضاً بالقول كما لو سب الله، أو سب الرسول أو سب دين الإسلام، أو استهزأ بالله، أو بكتابه، أو برسوله أو بدينه، كما قال الله تعالى في الذين استهزءوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالقراء من أصحابة في غزوة تبوك، فأنزل الله فيهم هذه الآية: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]. فأثبت لهم الكفر بعد الإيمان، ويكون الكفر في العمل أيضاً، كما لو سجد للصنم، فالسجود للصنم كفر عمل، ويكون الكفر أيضاً بالإعراض عن دين الله، لا يتعلمه ولا يعبد الله. فالكفر يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بالعمل، ويكون بالرفض والترك والإعراض عن دين الله، أما المرجئة فإنهم يرون أن الكفر لا يكون إلا بالقلب، وأن السجود للصنم أو السب إنما هو دليل على ما في القلب، والصواب أنه كفر مستقل بنفسه، فالسجود للصنم كفر بنفسه، والسب والاستهزاء لله ولكتابه ولرسول دينه كفر بنفسه، وكذلك أيضاً الإعراض عن دين الله، فمن لا يتعلم الدين ولا يعبد الله كفر، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]. كذلك يرى مرجئة الفقهاء أن الناس قسمان: ولي لله، وعدو لله، فالمؤمن سواء كان عاصياً أو مطيعاً فهو ولي لله، والكافر عدو لله، وأما جمهور أهل السنة فيرون الناس ثلاثة أقسام: ولي لله كامل الولاية وهو المؤمن التقي، الذي أدى الواجبات، وانتهى عن المحرمات، وعدو شر العداوة وهو الكافر، وهناك قسم ثالث، ولي لله من وجه وعدو لله من وجه، وهو المؤمن العاصي، فهو ولي لله في إيمانه وطاعته، وعدو لله في معصيته وفسقه، فيوالى من وجه، ويعادى من وجه، ويحب من وجه، ويبغض من وجه، أما مرجئة الفقهاء فهم فتحوا باباً للفسقة أن يقولوا: نفعل ما نشاء، وإيماننا كامل لا يتأثر، فهم يرون أن المفاضلة بين الناس في أعمال البر وأن الإيمان ليس فيه تفاضل.

كيفية التعامل مع من يتبنى منهج الجهمية

كيفية التعامل مع من يتبنى منهج الجهمية Q ظهرت في الآونة الأخيرة ممن ينتسبون إلى مذهب السلف وأهل السنة ولهم جهود في ذلك مشكورة، ولكنهم وافقوا مرجئة الفقهاء، بل في بعض الجوانب وافقوا الجهمية، كعدم تكفيرهم من ادعى النبوة، وإن قامت عليه الحجة، حتى قالوا: يكفي أن يقول: لا إله إلا الله ولو عمل ما عمل من أعمال الكفر، وإذا قيل لهم: ما تقولون فيمن سب الله والرسول؟ قالوا: هو علامة على الكفر، فهل هؤلاء يحذر منهم، ويتعامل معهم كالتعامل مع أهل البدع، مع أن كبار أهل العلم قد أفتوا فيهم، وبينوا خطأهم وردوا عليهم، ولكنهم أصروا وعاندوا ولم يرجعوا؟ A هؤلاء هم المرجئة المحضة على مذهب الجهمية، الذين يقولون: إن من ادعى النبوة لا يكفر. فهم يرون أن الإيمان هو التصديق بالقلب، فيكفي معرفة الرب بالقلب فقط، وأنه لو فعل جميع الكبائر والمنكرات وأعمال الردة فلا يكفر، فهذا مذهب الجهمية وهم المرجئة المحضة، وليس من مرجئة الفقهاء الذين هم طائفة من أهل السنة، وإن كان خلافهم له آثار، لكنهم يرون أن الواجبات واجبات، وأن المحرمات محرمات، ويكفرون من كفره الله ورسوله، لكن هؤلاء جهمية وهم المرجئة المحضة. فإذا كان هناك أحد يرى هذا الرأي فهو على مذهب الجهمية، وهؤلاء يحذر منهم، ويبين أن مذهبهم مذهب باطل فاسد.

لا يتحقق الإيمان إلا بالعمل

لا يتحقق الإيمان إلا بالعمل Q رجل ترك جميع الأعمال فهل هذا مسلم، وبعضهم يحتج على إسلامه بحديث: (يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط)؟ A لا يتحقق الإيمان إلا بالعمل، فالإنسان لابد له من التصديق، وهذا التصديق والإيمان لابد له من عمل يتحقق به، وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون، إبليس مصدق، وفرعون مصدق، ليس عندهما انقياد بالعمل، إبليس لما أمره الله بالسجود لآدم رفض وعارض أمر الله، وقال: أنا خير منه، أنا أفضل منه، ولا يمكن أن يسجد الفاضل للمفضول: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وفرعون كذلك رفض أمر الله وأمر رسوله، ولم يؤمن بنبيه، فمن يدعي الإيمان والتصديق ويرفض العمل فيكون كفره بالاستكبار، ولابد لهذا الإيمان والتصديق الذي في القلب من عمل يتحقق به، أما إذا رفض العمل فقد استكبر عن عبادة الله، ويكون كفره بالاستكبار والعياذ بالله، ويقال له: أي فرق بين إيمانك وإيمان إبليس وفرعون؟! كما أن الذي يعمل، يصلي ويصوم ويتصدق ويحج، لابد لهذا العمل من إيمان يصححه، وإلا صار كإسلام المنافقين، فالمنافقون كانوا يصلون ويجاهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم لكن أعمالهم ليس لها إيمان يصححها، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8]. وقال: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]. فلابد للإيمان بالتصديق في القلب من عمل يتحقق به، وانقياد لأمر الله وأمر رسوله، وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون، ولابد للعمل من صلاة وصيام وزكاة وحج، لا بد من إيمان يصححها، وإلا صار كإسلام المنافقين.

التلازم بين العمل والحياء

التلازم بين العمل والحياء Q في الحديث: (الحياء شعبة من الإيمان) فلو أن رجلاً كان تاركاً لجميع الأعمال تركاً كلياً ولكن عنده حياء، فهل هذا معناه أنه يسمى مؤمناً؟ A الذي يترك الأعمال ليس عنده حياء، وكونه يدعي الحياء كذب، فالذي يستحي من الله ورسوله هو المؤمن المصدق الذي يعمل، فيمتثل أمر الله وليس منافقاً، أما من كان يرفض أمر الله وأمر رسوله فليس عنده حياء، وفي الحديث الصحيح: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) معنى هذا ليس عنده حياء.

مرجئة الفقهاء وصلتهم بأهل السنة

مرجئة الفقهاء وصلتهم بأهل السنة Q ذكرتم أن جمهور أهل السنة يقولون: إن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، فلماذا لم تقولوا: إن هذا قول كل أهل السنة؟ A لأن الإمام أبا حنيفة وأصحابه، والعباد من أهل الكوفة، يسمون مرجئة الفقهاء وهم من أهل السنة.

مذهب أهل السنة في إطلاق الإيمان

مذهب أهل السنة في إطلاق الإيمان Q هل هناك فرق بين الإثبات أو النفي لمطلق الإيمان، وبين الإثبات أو النفي للإيمان المطلق؟ وإن كان هناك فرق فما أثره؟ A مذهب أهل السنة والجماعة عدم إطلاق الإيمان نفياً أو إثباتاً للعاصي والفاسق ومرتكب الكبيرة، بل لابد من التقييد في النفي وفي الإثبات، فلا يقال عن الفاسق والعاصي ومرتكب الكبيرة: مؤمن بإطلاق، ولا يقال: ليس بمؤمن بإطلاق، لابد من التقييد في النفي، ولابد من التقييد في الإثبات، ففي الإثبات تقول: مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته؛ لأنك إذا قلت: (مؤمن) وسكت، وافقت المرجئة، والمرجئة يقولون عن العاصي: إنه مؤمن، وفي الإثبات لابد أن تقيد، وفي النفي لابد أن تقيد، فتقول: ليس بصادق الإيمان، ليس بمؤمن حقاً؛ لأنك إذا قلت: (ليس بمؤمن) وسكت، وافقت الخوارج والمعتزلة، وفي الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربه وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)، هذا نفي الإيمان الكامل، لكن الزاني والسارق عنده أصل الإيمان، والشارب والمنتهب عنده أصل الإيمان، والنصوص في هذا كثيرة: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه)، هذا من ينافي كمال الإيمان.

قول شيخ الإسلام في مرجئة الفقهاء

قول شيخ الإسلام في مرجئة الفقهاء Q ما الفرق بين كتاب الإيمان لـ أبي عبيد القاسم بن سلام وكتاب الإيمان لـ ابن أبي شيبة؟ ثم هل لشيخ الإسلام ابن تيمية قول حول رأي فقهاء الأحناف؟ A كتاب الإيمان لـ ابن أبي شيبة نصوص وآثار، فهو أوسع في التفصيل، وأما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد نقل نقولاً عن العلماء بأن مرجئة الفقهاء وإن كان خلافهم لفظياً في كون مرتكب الكبيرة لا ينفى عنه الإيمان وأن مرتكب الكبيرة عليه الوعيد، نقل نقولاً عن بعض العلماء بأنهم أشد من فتنة الأزارقة الخوارج، نظراً لما يترتب عليه معتقدهم من الآثار التي سبق الكلام عليها.

الفرق بين القول والعمل في القلب واللسان

الفرق بين القول والعمل في القلب واللسان Q ما الفرق بين قول القلب وعمله، وقول اللسان وعمله؟ A قول القلب التصديق والإقرار، وعمل القلب النية والإخلاص، والصدق والمحبة، وقول اللسان النطق، وقد يسمى قول اللسان عملاً.

الفرق بين كمال الإيمان واستقامته

الفرق بين كمال الإيمان واستقامته Q هل هناك فرق بين هاتين الكلمتين: يكمل ويستقيم يعني الإيمان؟ A قد يقال: يستقيم الإنسان على طاعة الله، هنا يقول: يكمل إيمانه، من كمل إيمانه صار مستقيماً، يعني: كأن الاستقامة نتيجة لكمال الإيمان، من كمل إيمانه استقام على طاعة الله، واستقام دينه، ومن استقام دينه فقد كمل إيمانه، يعني: قد يقال: إن إحداهما نتيجة للأخرى.

استمرار دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد في مكة والمدينة

استمرار دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد في مكة والمدينة Q بعض المؤلفين في علوم القرآن يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت دعوته للتوحيد فقط في مكة، أما الشرائع فكانت في المدينة، ما صحة هذه المقولة؟ A هذا صحيح، فالنبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة يدعو إلى التوحيد؛ لأن التوحيد هو أصل الدين، وأساس الملة؛ ولأن الأعمال لا تصح حتى تبنى على التوحيد، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة شرعت الشرائع، أما إن كان يقصد أنه فقط دعا للتوحيد في مكة دون المدينة، فهذا خطأ، فالدعوة إلى التوحيد كانت من أول حياته إلى آخرها كما في حديث معاذ: (تدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟)، وحديث أبي هريرة: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه).

[3]

شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [3] يعتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وبهذا نطقت النصوص، كما يعتقدون دخول الأعمال في مسمى الإيمان، لا كما تزعمه المرجئة الضالة، فالإيمان قول وعمل.

الإيمان يشمل التوحيد الذي في مكة والشرائع التي نزلت في المدينة

الإيمان يشمل التوحيد الذي في مكة والشرائع التي نزلت في المدينة قال المصنف: [وعلى هذا كل مخاطبة كانت لهم فيها أمر أو نهي بعد الهجرة، وإنما سماهم بهذا الاسم بالإقرار وحده، إذ لم يكن هناك فرض غيره، فلما نزلت الشرائع بعد هذا وجبت عليهم وجوب الأول سواء لا فرق بينهما؛ لأنها جميعاً من عند الله وبأمره وبإيجابه، فلو أنهم عند تحويل القبلة إلى الكعبة أبوا أن يصلوا إليها، وتمسكوا بذلك الإيمان الذي لزمهم اسمه، والقبلة التي كانوا عليها لم يكن ذلك مغنياً عنهم شيئاً، ولكان فيه نقض لإقرارهم؛ لأن الطاعة الأولى ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة الثانية، فلما أجابوا الله ورسوله إلى قبول الصلاة كإجابتهم إلى الإقرار صارا جميعاً معاً هما يومئذ الإيمان، إذ أضيفت الصلاة إلى الإقرار]. يقرر المؤلف رحمه الله مذهب جماهير أهل السنة والجماعة، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة والعلماء: أن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالقلب وبالجوارح، وأن مسمى الإيمان يشمل هذه الأمور كلها، وهو الذي تدل عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وذكر المؤلف أيضاً: أن المؤمنين في أول الأمر لما كانوا مستضعفين في مكة وفي أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فرض الله عليهم سبحانه وتعالى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وفرض عليهم أن يوحدوا الله وأن يخلصوا له العبادة، ولم يفرض شيئاً من الشرائع، لا الصلاة ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج، ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر المسلمون إلى المدينة، فرض الله الفرائض من الأذان وصلاة الجماعة والصوم والحج بعد ذلك كما شرعت بقية الحدود. فالمسلمون قبلوا ذلك، وآمنوا بذلك، فكان هذا من الإيمان، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانت الصلاة إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، ثم بعد ذلك حولت القبلة إلى الكعبة فقبل المسلمون ذلك، وصار هذا من الإيمان، فلو أن أحداً امتنع من الصلاة إلى الكعبة بعد أن حولت لصار ناقضاً لإيمانه الأول، وكذلك لو أن أحداً لم يقبل الصلاة، ولم يقبل شرعية الصلاة، وشرعية الصوم، وشرعية الزكاة، وشرعية الحج، لكان عدم قبوله ناقضاً لإيمانه الأول ولإقراره الأول، ففي الأول كان المؤمن في مكة هو الموحد الذي لا يشرك بالله شيئاً، ولم تفرض الصلاة إلا قبيل الهجرة بسنة أو بسنتين أو بثلاث، ولم تفرض الزكاة ولم يفرض الصوم، فصار المؤمن والموحد هو الذي وحد الله وآمن برسوله، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة شرعت الشرائع، فخاطب الله المؤمنين بقوله: (يا أيها الذين آمنوا)، ففي الأوامر خاطبهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6]، وفي النواهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]، فهذا كله داخل في مسمى الإيمان. قول المؤلف: (وعلى هذا كل مخاطبة كانت لهم فيها أمر أو نهي بعد الهجرة) كله داخل في مسمى الإيمان، (وإنما سماهم بهذا الاسم) يعني: الإيمان، (بالإقرار وحده لما لم يكن هناك فرض غيره) لما كانوا في مكة سماهم المؤمنين بالإقرار وحده، وهو التصديق والتوحيد والإيمان، ولم يكن هناك شروط، فلم تفرض الصلاة، ولم يفرض الصوم، ولم يفرض الحج، (فلما نزلت الشرائع بعد هذا) أي: فلما فرضت الفرائض، وحدت الحدود، وشرعت الشرائع في المدينة، (وجبت عليهم وجوب الأول سواء) يعني: وجب عليهم أن يقبلوا شرع الله ودينه، يقبلوا شرعية الصلاة وشرعية الصوم، كما قبلوا في مكة الإيمان والتوحيد؛ لأن هذين (لا فرق بينهما؛ لأنهما جميعاً من عند الله بأمره وإيجابه) كما أن الله أمرهم بالإيمان وحده في مكة، أمرهم في المدينة بالصلاة والزكاة والصوم والحج، فلا فرق بينها؛ لأنها جميعاً من عند الله، وبأمره وإيجابه. قوله: (فلو أنهم عند تحويل القبلة إلى الكعبة أبوا أن يصلوا إليها، وتمسكوا بذلك الإيمان الذي لزمهم اسمه، والقبلة التي كانوا عليها) يعني: لو أن أحداً قال: أنا أكتفي بالإيمان الأول في مكة، ولا أقبل الشرائع التي نزلت في المدينة، وأكتفي بالتوجه إلى بيت المقدس، ولا أقبل التوجه إلى الكعبة، يقول المؤلف: (لم يكن ذلك مغنياً عنهم شيئاً، ولكان فيه نقض لإقرارهم) يعني: لو قال أحد هذا لانتقض إيمانه، وانتقض تصديقه، وانتقض توحيده السابق؛ (لأن الطاعة الأولى ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة الثانية) فالطاعة الأولى وهي الإيمان في مكة ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة الثانية، وهي الشرائع التي شرعت في المدينة، (فلما أجابوا الله ورسوله إلى قبول الصلاة) يعني: في المدينة، (كإجابتهم إلى الإقرار) يعني: الإيمان في مكة، (صارا جميعاً معاً هما يومئذ الإيمان) يعني: لما كان الإيمان في مكة هو التصديق فقط، فلما هاجر المسلمون إلى المدينة شرع الله الشرائع التي شرعت في المدينة، صارا جميعاً معاً هما يومئذ الإيمان، لا فرق بينها، (إذ أضيفت الصلاة إلى الإقرار)؛ لأن الصلاة أضيفت إلى الإقرار، يعني: التصديق والإيمان. إذاً: شرع الله الشرائع فصار قبولها من الإيمان، وصار الإيمان والتوحيد الذي قبلوه بمكة إضافة إلى الشرائع التي شرعت في المدينة، صارا جميعاً معاً هما يومئذ الإيمان، فصار التوحيد والإيمان الذي في مكة والشرائع التي نزلت في المدينة كلها من الإيمان لا فرق بينهما، فإذا أضيفت الصلاة إلى الإقرار صارت من التصديق والإيمان.

الأدلة على أن الأعمال من الإيمان

الأدلة على أن الأعمال من الإيمان

بيان معنى قول الله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم)

بيان معنى قول الله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والشهيد على أن الصلاة من الإيمان قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143]]. لعله أراد بالشهيد: الشاهد الذي هو الدليل، فالدليل على أن الصلاة من الإيمان قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143]، ويتبين هذا بمعرفة سبب نزول هذه الآية الكريمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وهاجر المسلمون وجههم الله إلى بيت المقدس للصلاة ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، ثم حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فتوجه المسلمون إلى الكعبة، حتى إن أهل قباء لم يبلغهم تحويل القبلة إلا في صلاة الفجر، وقد كان تحويل القبلة في صلاة العصر، فذهب ذاهب إلى أهل قباء فوجدهم يصلون إلى بيت المقدس، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حولت القبلة إلى الكعبة، فاستداروا وهم في الصلاة إلى الكعبة، فكانوا في أول صلاتهم متجهين إلى بيت المقدس وفي آخرها متجهين إلى الكعبة، فلما تحولوا صارت النساء مكان الرجال، وصار الرجال مكان النساء. وسمي هذا المسجد بمسجد القبلتين، وهذا من كمال طاعتهم لله ولرسوله، وفيه دليل على قبول خبر الواحد. وقد مات بعض الصحابة قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة، فقال بعض المسلمين: كيف حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس وقد حولت القبلة إلى الكعبة؟ فأنزل الله هذه الآية: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143]، والمراد بقوله: (إيمانكم) أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيماناً، فالمسلمون الذين توفاهم الله وهم يصلون إلى بيت المقدس لا لوم عليهم؛ لأنهم ممتثلون لأمر الله، وإيمانهم وعملهم صحيح في ذلك الوقت، وهو مشروع، فلهم إيمانهم ولهم عملهم، والله لا يضيع إيمانهم. وهذه الآية من أقوى الأدلة في الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، فإن الله سمى الصلاة إيماناً وهي عمل. والمرجئة -كما سبق- طائفتان: مرجئة محضة، وهم الجهمية، ومرجئة الفقهاء، وهم أهل الكوفة. فـ أبو حنيفة وأصحابه يرون أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، ولكنها مطلوبة، وأما المرجئة المحضة فيرون أن الأعمال ليست مطلوبة، فالآية فيها رد على الطائفتين من المرجئة، وذلك أن الله تعالى سمى الصلاة إيماناً، والصلاة عمل، فدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: والشهيد -أي: الدليل- على أن الصلاة من الإيمان قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما نزلت في الذين توفوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على الصلاة إلى بيت المقدس، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية]. والحديث ثابت في صحيح البخاري. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأي شاهد يلتمس على أن الصلاة من الإيمان بعد هذه الآية؟!]. يعني: فأي دليل يطلب على أن الصلاة من الإيمان بعد هذه الآية؟! فهذه الآية صريحة وواضحة في أن الأعمال من الإيمان؛ لأن الله سمى الصلاة إيماناً وهي عمل، فدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهذا يرد قول المرجئة الذين يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان.

دلالة قرن الزكاة بالصلاة

دلالة قرن الزكاة بالصلاة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلبثوا بذلك برهة من دهرهم، فلما أن داروا إلى الصلاة مسارعة وانشرحت لها صدورهم أنزل الله فرض الزكاة في إيمانهم إلى ما قبلها فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]]. يقول المؤلف رحمه الله: لبث المسلمون بعد هجرتهم إلى المدينة برهة من دهرهم -أي: وقتاً من الزمان- وقد قبلوا الصلاة وتوجهوا إلى بيت المقدس، ثم نسخ الله توجههم إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة، وقبلوا شرع الله وسارعوا إلى مرضاته، وامتثلوا أمره وانشرحت لذلك صدورهم، ورضيت به نفوسهم، وبعد ذلك أنزل الله فرض الزكاة في السنة الثانية من الهجرة، فصار قبول فرض الزكاة والإيمان والتصديق بذلك من الإيمان، فأضافه الله إلى إيمانهم فصار داخلاً في مسمى الإيمان، ولهذا قال رحمه الله: [أنزل الله فرض الزكاة في إيمانهم إلى ما قبلها] يعني: من فرضية الصلاة، يعني: ضم فرضية الزكاة إلى فرضية الصلاة في الإيمان، فأنزل الله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فقرن الله الزكاة بالصلاة، وقد قرن الله تعالى الزكاة بالصلاة في مواضع كثيرة من كتابه، فهي أختها، ولهذا يقول القحطاني رحمه الله في نونيته: فصلاتنا وزكاتنا أختان وقال سبحانه في بيان وجوب الزكاة وفرضيتها مخاطباً النبي عليه الصلاة والسلام: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103]، يعني: الزكاة. {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، فهذا أمر من الله تعالى بأخذ الزكاة. وقوله: (تطهرهم) يعني: تزكي نفوسهم، فالزكاة تطهر نفس المزكي من أدران الشح والبخل واللؤم، وتطهر المال وتحفظه، ولهذا قال: ((تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)).

وجوب قبول فرضية الزكاة والإقرار بها

وجوب قبول فرضية الزكاة والإقرار بها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلو أنهم ممتنعون من الزكاة عند الإقرار، وأعطوا ذلك بالألسنة، وأقاموا الصلاة غير أنهم ممتنعون من الزكاة كان ذلك مزيلاً لما قبله، وناقضاً للإقرار والصلاة، كما كان إباء الصلاة قبل ذلك ناقضاً لما تقدم من الإقرار]. يبين المؤلف رحمه الله في هذا: أن قبول فرضية الزكاة من الإيمان وأنه لابد منه، وأن من لم يقبلها وامتنع كان ناقضاً لإيمانه الأول وتصديقه وقبوله بالصلاة؛ لأن الجميع من الله عز وجل، فالذي يقبل فرضية الصلاة ولا يقبل فرضية الزكاة ينتقض إيمانه، فلو أنهم امتنعوا من الزكاة بعد فرضيتها واكتفوا بالإيمان بها بالألسنة فقط وأقاموا الصلاة، لكان امتناعهم عن الزكاة وعدم قبولهم لها مزيلاً لما قبله من الإيمان، وناقضاً للإقرار والصلاة، فعدم قبول فرضية الزكاة وعدم الإيمان بذلك ينقض إيمانهم السابق بالله، وإيمانهم بفرضية الصلاة، فكما أن إيتاء الصلاة لو لم يقبله أحد لكان ناقضاً لما تقدمه من الإيمان، فكذلك عدم قبول الزكاة ينقض ما تقدمه من قبول الصلاة والإيمان.

جهاد مانعي الزكاة كجهاد أهل الشرك

جهاد مانعي الزكاة كجهاد أهل الشرك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمصدق لهذا جهاد أبي بكر الصديق رحمة الله عليه بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء، لا فرق بينهما في سفك الدماء وسبي الذرية واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها]. يقول المؤلف رحمه الله: الدليل على أن من لم يقبل فرضية الزكاة ينتقض إيمانه قتال الصديق والصحابة رضوان الله عليهم لمانعي الزكاة من أهل الردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ارتد كثير من قبائل العرب، وهم على أنواع: فمنهم من أنكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لو كان نبياً ما مات، ومنهم من أقر بنبوة مسيلمة -وهم بنو حنيفة- فقال: إنه شريك للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من عبد الأصنام والأوثان، ومنهم من امتنع عن أداء الزكاة فقال: لا نؤديها إلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقاتلهم الصديق والصحابة رضوان الله عليهم، وسموهم كلهم مرتدين ولم يفرقوا بينهم، فالمؤلف رحمه الله يقول: (المصدق -يعني الدليل- على ما ذكرته لك من أن من امتنع من الزكاة ينتقض إيمانه بفرضية الصلاة وتوحيده: جهاد أبي بكر الصديق رحمة الله عليه بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة، فجاهدوهم وقاتلوا من منع الزكاة كما قاتلوا أهل الشرك وعباد الأوثان. فالمؤلف يرى أن من امتنع عن الزكاة فإنه يقاتل كما يقاتل أهل الشرك، ولهذا يقول: إن الصديق والصحابة قاتلوا مانعي الزكاة كما قاتلوا أهل الشرك، ولا فرق بينهم في سفك الدماء وسبي الذرية واغتنام المال، واعتبروهم مرتدين، فالذي عبد الأصنام، والذي أنكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، والذي أقر بنبوة مسيلمة، والذي منع الزكاة كلهم قاتلهم الصحابة واعتبروهم مشركين، وسبوا ذراريهم، وغنموا أموالهم. وقوله: [فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها] يعني: الذين منعوا الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانوا ممتنعين عن أدائها غير جاحدين بها، هذا ما ذهب إليه المؤلف، والصواب في المسألة: أن الذين منعوا الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم منعوها وقاتلوا على منعها، ولما منعوها وقاتلوا على منعها صار قتالهم عليها في حكم الجاحد لها، بل هو دليل على جحودهم لها، فصاروا من أهل الردة، أما لو منعوها ولم يقاتلوا عليها فإنها تؤخذ منهم بالقوة ويؤدبون، فالصواب في هذه المسألة: أن مانع الزكاة فيه تفصيل: فإن كان جاحداً للزكاة فهو كافر مرتد؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة. وإن منعها دون قتال عليها فهذا تؤخذ منه ويؤدب، فإن منعها وقاتل عليها صار مرتداً؛ لأن قتاله عليها يدل على جحوده لها، وهذه حال أهل الردة، فأهل الردة منعوا الزكاة وقاتلوا عليها، ولو أنهم منعوها ولم يقاتلوا عليها لأخذها منهم الصحابة وأدبوهم ولم يقاتلوهم، لكن لما منعوها وقاتلوا عليها صار قتالهم دليلاً على جحودهم، وهذا هو الصواب في هذه المسألة. وظاهر كلام المؤلف: أنهم كانوا مانعين لها غير جاحدين، لكن الصواب: أنهم لما قاتلوا عليها صاروا جاحدين لها، وأما من كان مقراً بوجوبها لكن منعها بخلاً وتهاوناً فإنها تؤخذ منه ويعزر ويؤدب، ولا يقتل على الصحيح من أقوال أهل العلم، بخلاف الصلاة، فإن الصواب في تركها: أنه كفر وردة؛ لما ورد في فرضية الصلاة من النصوص التي لم ترد في غيرها، فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) والذي يحبط العمل هو: الكفر، وقال عليه الصلاة والسلام: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) فأتى بالكفر معرفاً. وفي الحديث في النهي عن الخروج على الأمراء والولاة (قيل: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟! قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة) فدل على أنهم إذا لم يقيموا الصلاة فهم كفار ينابذون بالسيف. والصلاة قد ورد في شأنها من النصوص ما لم يرد في غيرها، فالصواب: أن ترك الصلاة -ولو أقر تاركها بوجوبها- كسلاً وتهاوناً كفر وردة، بخلاف الزكاة فإنه لا يكفر إلا إذا جحدها أو قاتل على منعها.

شمول اسم الإيمان لما نزل من شرائع الإسلام

شمول اسم الإيمان لما نزل من شرائع الإسلام قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم كذلك كانت شرائع الإسلام كلها، كلما نزلت شريعة صارت مضافة إلى ما قبلها لاحقة بها، ويشملها جميعاً اسم الإيمان، فيقال لأهلها: مؤمنون]. أي: بعد فرضية الزكاة فرضت بقية الشرائع، ففرض الأذان، وفرض السجود، وفرض الحج بعد ذلك، فكانت شرائع الإسلام كلها يجب على المسلم الذي بلغه الحكم الشرعي فيها أن يقبله وأن يلتزم به، فكلما نزلت شريعة صارت مضافة إلى ما قبلها لاحقة بها ويشملها جميعاً اسم الإيمان، فيقال لأهلها: مؤمنون، فكلها داخلة في مسمى الإيمان.

بيان غلط المرجئة في التسمية الإيمانية

بيان غلط المرجئة في التسمية الإيمانية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا هو الموضع الذي غلط فيه من ذهب إلى أن الإيمان بالقول لما سمعوا تسمية الله إياهم مؤمنين، وأوجبوا لهم الإيمان كله بكماله]. أي: أن هذا هو الموضع الذي غلط فيه المرجئة، وهم الذين ذهبوا إلى أن الإيمان بالقول، فالمرجئة يقولون: الإيمان: تصديق بالقلب فقط، فسبب غلطهم: أنهم سمعوا أن الله سماهم مؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104]، فظنوا أن كل من ناداه الله باسم الإيمان يكون إيمانه كاملاً، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] ثم قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيء} [البقرة:178]، فجعل القاتل أخاً للمقتول، وهذه أخوة الإيمان، لكن لا يلزم من هذا كمال الإيمان. فالمرجئة غلطوا وظنوا أن الله لما سماهم مؤمنين في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، أنهم حصلوا على الإيمان الكامل، وهذا من غلطهم وجهلهم؛ لأن القاتل ضعيف الإيمان وناقص الإيمان، فهذا منشأ غلط المرجئة، وهو أنهم لما سمعوا الله سماهم مؤمنين وإن كانوا عصاة ظنوا أن إيمانهم كامل، وهذا غلط، فالإيمان الكامل إنما يوصف به من أدى الواجبات، وانتهى عن المحرمات، والتزم بشرع الله ودينه، أما من فرط في بعض الواجبات، أو فعل بعض المحرمات، فهذا إيمانه ناقص وضعيف.

غلط المرجئة في تأويل حديث سؤال جبريل

غلط المرجئة في تأويل حديث سؤال جبريل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما غلطوا في تأويل حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإيمان ما هو؟ فقال: أن تؤمن بالله]. يعني: أن المرجئة غلطوا في تأويل حديث جبريل المشهور، وهو حديث عمر بن الخطاب الذي رواه الإمام مسلم في الصحيح مطولاً، ورواه البخاري عن أبي هريرة مختصراً، وذلك أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه أحد، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فأخبره بأركان الإسلام الخمسة، فقال: أخبرني عن الإيمان؟ فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). فالمرجئة ظنوا أن من آمن بقلبه بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، حصل له كمال الإيمان، ولو تساهل في الصلاة ولم يصل الصلاة في وقتها، ولو تساهل في أداء الزكاة، ولو فعل بعض المحرمات، كأن زنا، أو سرق، أو شرب الخمر، وهذا في الحقيقة مؤمن لكنه ناقص الإيمان، فغلطوا في تأويل هذا الحديث، وظنوا أن من آمن بالأركان الستة فإيمانه كامل ولو كان مقصراً في بعض الواجبات، أو مرتكباً لبعض المحرمات.

غلط المرجئة في تأويل حديث: (اعتقها فإنها مؤمنة)

غلط المرجئة في تأويل حديث: (اعتقها فإنها مؤمنة) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا حين سأله الذي عليه رقبة مؤمنة عن عتق العجمية فأمر بعتقها وسماها مؤمنة]. هذا حديث معاوية بن الحكم السلمي وهو في صحيح مسلم، والشاهد فيه: أنه كان له جارية أعجمية، أي: وليدة، وكانت راعية لغنمه، فجاء الذئب وأخذ شاة وهي تنظر، فغضب عليها وقال: كيف تتركين الذئب يأكل الشاة؟! فصكها، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فشدد عليه النبي صلى الله عليه وسلم الأمر وقال: كيف تعتدي عليها؟! فقال: يا رسول الله! إني آسف كما يأسف الناس، وأغضب كما يغضب الناس، وإن الذئب أخذ شاة فصككتها، فلما شدد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله! إنها حرة لوجه الله، فقال النبي: (أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار) وقال له: ائت بها، فسألها فقال: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة) وهذا فيه رد على أهل البدع الذين ينكرون علو الله، وأن الله فوق العرش وفوق السماوات، ويقولون: إن الله ليس فوق السماوات، ويقولون: إن الله في كل مكان، وهذا كفر وضلال. فهم يقولون: لو قلت: إن الله في السماء لجعلت الله في حيز، وهو في الجهات كلها. فإذا قيل لهم: هذا الحديث في صحيح مسلم شهد فيه النبي لهذه الأعجمية بالإيمان بعد أن قال لها: أين الله؟ فقالت: في السماء، قالوا: لا، هذه الأعجمية لا تفهم، والرسول صلى الله عليه وسلم سألها سؤالاً فاسداً يناسب عقلها، وأجابت بجواب فاسد، وأقرها على جواب فاسد؛ لأن هذا هو الذي كانت تفهمه! فاتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا -والعياذ بالله- من التعنت ومن الانحراف ومن الزيغ في تأويل النصوص. فالمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أعِتقها فإنها مؤمنة) فسماها مؤمنة، فهل هذا معناه أنها حصلت على كمال الإيمان أو حصلت على أصل الإيمان؟ A أنها حصلت على أصله، فآمنت بالله وبرسوله، فغلط المرجئة وظنوا أن إيمانها كامل ولو لم تعمل، كما غلطوا في تأويل حديث جبريل.

بيان نزول الإيمان مفرقا

بيان نزول الإيمان مفرقاً قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما هذا على ما أعلمتك من دخولهم في الإيمان ومن قبولهم وتصديقهم بما نزل منه، وإنما كان ينزل متفرقاً كنزول القرآن]. أي: كما أن القرآن نزل منجماً على حسب الحوادث في مدة ثلاثة وعشرين عاماً، فكذلك الإيمان نزل مفرقاً، وكلما نزل تشريع قبله المؤمنون وصار من الإيمان.

ذكر أدلة نزول الإيمان مفرقا

ذكر أدلة نزول الإيمان مفرقاً

أدلة الكتاب الكريم

أدلة الكتاب الكريم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والشاهد لما نقول والدليل عليه من كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم]. أي: الدليل لقولنا: إنه كلما نزل تشريع صار من الإيمان، ويجب على المسلم أن يؤمن به: هو النصوص من كتاب الله وسنة رسوله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمن الكتاب قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124]]. هذه الآية فيها دليل على أن الإيمان يزيد؛ لقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124] فالإيمان يزيد في القلب، فكلما عمل الإنسان بالطاعات وانتهى عن المحرمات زاد إيمانه، وكلما نزل تشريع وعلم به وقبله زاد إيمانه، والآية صريحة في هذا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]]. الشاهد من الآية قوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] فدل على أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد إذا فعل الإنسان الطاعات، وينقص إذا فعل المعاصي، ويزيد إذا قبل الأحكام الشرعية وعمل بها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [في مواضع من القرآن مثل هذا]. أي: وهناك أدلة أخرى تدل على هذا، مثل قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، وقوله: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] إلى غير ذلك من الأدلة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أفلست ترى أن الله تبارك وتعالى لم ينزل عليهم الإيمان جملة كما لم ينزل القرآن جملة؟!]. يعني: أن الإيمان نزل شيئاً بعد شيء، كما كان القرآن ينزل منجماً على حسب الحوادث. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذه الحجة من الكتاب]. أي: هذه هي الأدلة من الكتاب، وستأتي الأدلة من السنة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلو كان الإيمان مكملاً بذلك الإقرار ما كان للزيادة إذاً معنى، ولا لذكرها موضع]. أي: لو كان الإيمان مكملاً بالقلب -كما تقوله المرجئة- بمجرد الإقرار والتصديق ما كان للزيادة معنى، لأنهم يقولون: من قال: آمنت بالله ورسوله فإيمانه كامل كإيمان جبريل وميكائيل، وكإيمان أبي بكر وعمر، بل يكون إيمان أهل السماء وإيمان أهل الأرض واحداً، وإيمان السكير العربيد الذي يشرب الخمور ويقتل النفوس ويسرق الأموال مثل إيمان الصديق وعمر، ومثل إيمان جبريل وميكائيل، هكذا يقول المرجئة، فهذا مصدق وهذا مصدق، والأعمال ليس لها علاقة بالإيمان، فهي ليست من الإيمان، بل هي شيء آخر، فالأعمال بر وتقوى، أما الإيمان فواحد، فإيمان أفسق الناس وأتقى الناس سواء، وهذا باطل. فالمؤلف رحمه الله يرد عليهم ويقول: [لو كان الإيمان مكملاً بذلك الإقرار بمجرد التصديق كما تقوله المرجئة ما كان للزيادة إذاً معنى]. فقوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]، وقوله: {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] لا معنى فيهما للزيادة.

[4]

شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [4] الإيمان شعب كثيرة، وما مات النبي عليه الصلاة والسلام حتى أكمل الله للمسلمين الدين وأتم عليهم النعمة، فمن استكمل شعب الإيمان كلها فهو المؤمن حقاً، ومن انتقص منها شيئاً مع القدرة عليه نقص من إيمانه بقدرها.

الأدلة من السنة على أن قواعد الإيمان يأتي بعضها بعد بعض

الأدلة من السنة على أن قواعد الإيمان يأتي بعضها بعد بعض قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الحجة من السنة والآثار المتواترة في هذا المعنى من زيادات قواعد الإيمان بعضها بعد بعض ففي حديث منها أربع، وفي آخر خمس، وفي الثالث تسع، وفي الرابع أكثر من ذلك، فمن الأربع حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن وفد عبد القيس قدموا عليه فقالوا: يا رسول الله! إنا هذا الحي من ربيعة وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر، فلسنا نخلص إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نعمل به وندعو إليه من وراءنا، فقال: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله) ثم فسره لهم: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم، وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير). قال أبو عبيد: حدثناه عباد بن عباد المهلبي حدثنا أبو جمرة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم]. هذا الحديث صحيح ثابت في الصحيحين وفي غيرهما، وهو حديث وفد عبد القيس، فهذا دليل من السنة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [وأما الحجة من السنة والآثار المتواترة في هذا المعنى من زيادات قواعد الإيمان بعضها بعد بعض] يعني: وأما الأدلة من السنة ومن الآثار فإنها متواترة من جهة المعنى، فقد بلغت حد التواتر من جهة المعنى، فكلها متعاضدة ويقوي بعضها بعضاً وتدل على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن قواعد الإيمان يأتي بعضها بعد بعض، ويدل على ذلك أن في بعض الأحاديث ذكر أن الإيمان أربعة أشياء، وفي بعض الأحاديث ذكر أن الإيمان خمسة أشياء، وفي بعضها ذكر أن الإيمان تسعة، وفي بعضها أكثر من ذلك، بل في حديث أبي هريرة: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) كلها من الإيمان، فهذا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن قواعد الإيمان نزل بعضها بعد بعض، ثم ذكر مثالاً للأربع فقال: مثال الأربع حديث ابن عباس في وفد عبد القيس، وهو حديث مشهور، وبنو عبد القيس أسلموا قديماً، وكانوا في المنطقة الشرقية، وهي الآن في الأحساء، وبلدتهم هي جواثا، ومسجد جواثا هو ثاني مسجد أقيمت فيه الجمعة، إذ الأولى كانت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. فهؤلاء أسلموا قديماً، وكان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة مسافة، وكانت بين العرب حروب ولكنهم كانوا يتوقفون عن الحرب في الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وشهر رجب، فوفد عبد القيس كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مسافة، فقالوا: يا رسول الله! إن هذا الحي من ربيعة يسكن في مكان بعيد عن المدينة، ولا نستطيع أن نصل إليك، وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر يقاتلوننا، فلا نخلص إليك إلا في شهر حرام، أما في غير ذلك فلا نستطيع، فمرنا -يا رسول الله- بأمر نعمل به وندعو إليه من وراءنا. أي: أعطنا من جوامع الكلم، ما نعمل به ونخبر به من وراءنا. فقال: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع)، ثم ذكر لهم أول الأربع، وهو الإيمان، ثم فسر الإيمان فقال: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) ففسره بأربعة أشياء: الشهادة لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأداء الخمس. فدل على أن قواعد الإيمان يأتي بعضها بعد بعض. وقال: (أنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير) وهذه أوعية كانوا ينتبذون بها الشراب، فيجعلون فيها عصيراً كالتمر أو العنب أو غيرهما ويجعلونه في هذه الأوعية، والمزفت هو المطلي بالقار، والنقير جذع النخل ينقرون وسطه، والحنتم جرار خضر من الطين المصلي بالنار، والدبا القرع اليابس، فهذه الأشياء الصلبة كانوا يجعلون فيها العصير من التمر، أو من الشعير، أو من الزبيب، ويضعون عليه الماء فيكون شراباً حلواً، يشربون منه اليومين والثلاثة، لكنه بعد مدة مع شدة الحر يصير خمراً بعد ثلاثة أيام في الغالب، فيتخمر ولا يدرون به فيشربونه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لا تضعوا العصير في هذه الأشياء لأنه يتخمر، ولكن ضعوا العصير في الأسقية من الجلد؛ لأنها إذا تخمر فيها العصير تمزقت، فعرفتم أنها خمر فتجتنبونها، أما هذه الأشياء الصلبة فإنها يتخمر فيها العصير ولا تعلمون فتشربون الخمر. ثم بعد ذلك لما استقرت الشريعة وعرف الناس تحريم الخمر نسخ ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا الخمر). [ومن الخمس حديث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)]. حديث ابن عمر هذا في الصحيحين، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإسلام فقال: (بني الإسلام على خمس) وفي حديث جبريل كذلك ذكر هذه الخمس، وبين أنها دعائم الإسلام وأركانه، وهي: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان، والإيمان فسره في حديث وفد عبد القيس بأربع، وفي حديث ابن عمر بخمس، فدل على أن الإيمان متعدد. [قال أبو عبيد: حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي عن حنظلة عن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن التسع حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق) قال أبو عبيد: هي ما غلظ وارتفع من الأرض، واحدتها صوة، منها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره. ]. هذا الحديث فيه بيان أن للإسلام قوى ومناراً كمنار الطريق، أي: علامات ودلائل تدل على الإسلام، وذكر منها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً، وهذا هو أصل الدين، والثاني إقام الصلاة، والثالث إيتاء الزكاة، والرابع صوم رمضان، والخامس حج البيت، والسادس الأمر بالمعروف، والسابع النهي عن المنكر، والثامن أن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، والتاسع أن تسلم على القوم إذا مررت بهم، قال في آخر الحديث: (فمن ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن تركهن -يعني جميعاً- فقد ولى الإسلام ظهره) أي: فقد ترك الإسلام؛ لأن أولهن التوحيد، والتوحيد هو أصل الدين وأساس الملة. [قال أبو عبيد: حدثنيه يحيى بن سعيد عن عطاء عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن رجل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم]. هذا الحديث أخرجه جمع منهم الحاكم، وصححه على شرط البخاري ووافقه الذهبي.

بيان المراد من اختلاف الإخبار بعدد خصال الإيمان

بيان المراد من اختلاف الإخبار بعدد خصال الإيمان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فظن الجاهلون بوجوه هذه الأحاديث أنها متناقضة لاختلاف العدد منها، وهي -بحمد الله ورحمته- بعيدة عن التناقض، وإنما وجوهها ما أعلمتك من نزول الفرائض بالإيمان متفرقاً، وكلما نزلت واحدة ألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم عددها بالإيمان، ثم كلما جدد الله له منها أخرى زادها في العدد حتى جاوز ذلك السبعين كلمة، كذلك في الحديث المثبت عنه أنه قال: (الإيمان بضعة وسبعون جزءاً، أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)]. يقول رحمه الله تعالى: هذه الأحاديث التي فيها أن الإيمان أربع خصال وخمس وتسع ظن الجاهلون بوجوه هذه الأحاديث أنها متناقضة لاختلاف العدد، وهذا من جهلهم، ولكنها -بحمد الله- بعيدة عن التناقض، فالرسول عليه الصلاة والسلام كلامه يصدق بعضه بعضاً، يقول: [وإنما وجوهها -أي: تأويلها- ما أعلمتك من نزول الفرائض بالإيمان متفرقاً، فنزول الفرائض كان شيئاً بعد شيء، وكلما نزلت واحدة قبلها المسلمون وعملوا بها، ثم يلحق الرسول صلى الله عليه وسلم عددها بالإيمان، ثم كلما جدد الله له منها أخرى زادها في العدد حتى جاوز ذلك السبعين كلمة، وفي الحديث المثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون جزءاً)] وفي لفظ: (الإيمان بضع وستون) والحديث رواه الشيخان، فرواية البخاري: (الإيمان بضع وستون جزءاً) ورواية مسلم: (الإيمان بضع وسبعون جزءاً) وذكر أعلاها وأدناها فقال: (أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله -وفي لفظ: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله- وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). وقد عد الإمام البيهقي رحمه الله هذه الشعب، وألف مؤلفاً وسماه شعب الإيمان، وتتبع هذه الشعب من النصوص حتى أوصلها إلى تسع وسبعين شعبة؛ فأوصلها إلى آخر البضع؛ لأن البضع من ثلاث إلى تسع.

باب نفي المعارضة بين الأصول والشعب

باب نفي المعارضة بين الأصول والشعب قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو أحمد الزبيري عن سفيان بن سعيد عن سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة بهذا الحديث، وإن كان زائداً في العدد فليس هو بخلاف ما قبله، وإنما تلك دعائم وأصول]. يعني: أن هذا الحديث وإن كان زاد في العدد فأوصله إلى بضع وسبعين فإنه لا يخالف الأحاديث التي قبله، وإنما تلك دعائم وأصول، مثل أركان الإسلام الخمسة، فالإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فهذه أصول الإيمان، والإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، فهذه أعمدة الإسلام وأسسه التي يرتكز عليها، فهذه هي الأصول والباقي شعب، فلا منافاة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه فروعها زائدات في شعب الإيمان من غير تلك الدعائم، فنرى -والله أعلم- أن هذا القول آخر ما وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان؛ لأن العدد إنما تناهى به، وبه كملت خصاله]. يقول: نرى أن هذا القول في هذا الحديث -أي: حديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة) - آخر ما وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان، فتناهى العدد إلى بضع وسبعين شعبة، وبه كملت خصاله، والدليل على هذا أن الله أنزل بعد ذلك: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] فدل على أن عدد الشرائع والخصال تناهى وكمل في بضع وسبعين شعبة.

تمام الإيمان بتمام خصاله في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم

تمام الإيمان بتمام خصاله في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمصدق له قول الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]. قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن اليهود قالوا لـ عمر بن الخطاب رحمة الله عليه -ورضي عنه-: إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. فذكر هذه الآية فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت، وأي يوم أنزلت، أنزلت بعرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة. قال سفيان: وأشك أقال يوم الجمعة أم لا]. هذا حديث ثابت في الصحيحين، وهو أن اليهود قالوا لـ عمر بن الخطاب: إنكم تقرءون آية لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا يومها عيداً. فقال: أي آية؟ فقالوا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فاليهود -والعياذ بالله- يعلمون الحق، ولكنهم لم يؤمنوا، بل عاندوا الحق، فهم يقولون: هذه الآية التي نزلت عليكم -أيها المسلمون- آية عظيمة، لو كانت نزلت علينا -معشر اليهود- لاتخذنا يومها عيداً. فقال عمر: أي آية؟ فقالوا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] فقال عمر: أنا أعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، فاليوم الذي نزلت فيه هو يوم عيد، والمكان الذي نزلت فيه مشعر من المشاعر، فقد نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة في حجة الوداع، وكان اليوم يوم جمعة، فهو يوم عيد. والشاهد أن الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] من آخر ما نزل، فقد نزلت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثمانين يوماً أو باثنين وثمانين يوماً، فدل على أن خصال الإيمان تناهت وكملت في بضع وسبعين، هذا هو مقصود المؤلف رحمه الله. [قال أبو عبيد: حدثنا يزيد عن حماد عن حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار قال: تلا ابن عباس هذه الآية وعنده يهودي، فقال اليهودي: لو أنزلت هذه الآية فينا لاتخذنا يومها عيداً. قال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيد يوم جمعة ويوم عرفة. قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: نزلت عليه وهو واقف بعرفة حين اضمحل الشرك وهدم منار الجاهلية ولم يطف بالبيت عريان]. هذا الحديث مرسل؛ لأن الشعبي لم يسمع من عمر، ولكن الحديث صحيح، إذ قد دلت عليه الأحاديث الصحيحة ومنها ما سبق. فهذه الآية نزلت وهو واقف بعرفة حين اضمحل الشرك وهدم منار الجاهلية، ولما حج النبي صلى الله عليه وسلم كان قد حج قبله في السنة التاسعة أبو بكر، فجعله أميراً على الناس، وكان معه مؤذنون يؤذنون في الناس أن لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك. وكانوا يحجون وهم مشركون، كان الآفاقي الذي يأتي من خارج مكة لا يطوف بثوبه الذي يأتي به، ويقول: هذا ثوب عصيت الله فيه فلا يصلح، فكان يستعير ثوباً من رجل من أهل مكة، فيقول: أعطني -جزاك الله خيراً- ثوباً أطوف فيه. فإن أعطاه طاف به، وإن لم يعطه طاف وهو عريان، حتى المرأة كانت تطلب ثوباً، فإذا لم تجد نزعت ثوبها وطافت عريانة، وتضع يدها على فرجها وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله وهذا من جهلهم! فالنبي صلى الله عليه وسلم أمَّر أبا بكر في السنة التاسعة على الحجاج، وأرسل معه مؤذنين يؤذنون في الناس يوم النحر بمنى أن لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك، فالتزموا بذلك، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة انتهى الطواف بالبيت مع العري، وانتهى حج المشركين، فلم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان، وهذا معنى قوله: [حين اضمحل الشرك وهدم منار الجاهلية ولم يطف بالبيت عريان]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فذكر الله جل ثناؤه إكمال الدين في هذه الآية، وإنما نزلت -فيما يروى- قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بإحدى وثمانين ليلة]. نزلت هذه الآية في اليوم التاسع من ذي الحجة، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم بعدها بواحد وثمانين يوماً أو ببضع وثمانين يوماً على الخلاف في تحديد يوم وفاته صلى الله عليه وسلم.

دفع دعوى كمال الإيمان بمجرد الإقرار به

دفع دعوى كمال الإيمان بمجرد الإقرار به [قال أبو عبيد: كذلك حدثنا حجاج عن ابن جريج، فلو كان الإيمان كاملاً بالإقرار ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في أول النبوة كما يقول هؤلاء ما كان للكمال معنى، وكيف يكمل شيئاً قد استوعبه وأتى على آخره؟!]. يقول المؤلف رحمه الله لو كان الإيمان كاملاً بالإقرار كما تقوله المرجئة؛ لأنهم يقولون: الإيمان يكمل بمجرد الإقرار الذي هو التصديق بالقلب، لو كان كذلك ما كان للكمال معنى في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، فلو كان الإيمان كاملاً حينما كان الناس في مكة فكيف يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] وقد كمل في مكة؟ وكيف يكمل شيء قد استوعب وأتي على آخره؟! فالله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] فمتى قال هذا؟ ومتى أنزلت الآية؟ لقد كان ذلك في نهاية العام في حجة الوداع بعد أن كمل الدين، وبعد أن نزلت الشرائع وفرضت الفرائض وحدت الحدود. والمرجئة يقولون: إن الإيمان كان كاملاً في القلب حين كان المؤمنون المستضعفون في مكة قبل أن تفرض الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج! وهو هنا يرد عليهم ويقول: لو كان الإيمان كاملاً بالإقرار والتصديق فقط ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في أول النبوة لما كان للكمال معنى في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] فكيف يكمل شيء قد استوعب وأتي على آخره؟! فدل ذلك على بطلان هذا القول.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من حكم بغير ما أنزل الله

حكم من حكم بغير ما أنزل الله Q ذكرتم أن من الأدلة على أن مانعي الزكاة كانوا جاحدين لها أنهم قاتلوا على منعها، فهل هذا ينطبق على من يحكم بغير ما أنزل الله إذا قاتل من أراد الحكم بما أنزل الله، أي: هل هو دليل على جحوده للحكم بما أنزل الله؟ A مسألة منع الزكاة فيها كلام لأهل العلم، لكن الذي ذكر هو الصواب من أقوال أهل العلم، فمانعوا الزكاة أيام الردة قاتلهم الصحابة، وحكموا عليهم بحكم المرتدين؛ لأنهم منعوها وقاتلوا عليها. أما مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ففيها تفصيل؛ إذ الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً أكبر وقد يكون كفراً أصغر، والله تعالى يقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، ويقول تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، ويقول تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]. وروي عن ابن عباس أنه قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه. فإذا فعله كفر به، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر. وروي عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر. ومن العلماء من تأول الآية على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله، ومن ذلك الحكم بالتوحيد، ومن العلماء من تأولها على ترك الحكم بغير ما أنزل الله جحوداً، ومنهم من تأولها في أهل الكتاب، فالعلماء لهم فيها أقوال. والصواب في هذه المسألة أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً أكبر، وقد يكون كفراً دون كفر، فإذا حكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن الحكم بما أنزل الله لا يناسب العصر الحاضر، أو أن الإنسان مخير يجوز له أن يحكم بالشريعة وبغير الشريعة فهذا كفر وردة، مثل من يقول: إن الزنا حلال، أو: الربا حلال، أو: الخمر حلال. فهذا يقتل؛ لأنه استحل أمراً معلوماً من الدين بالضرورة تحريمه، أو أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة. فمن يقول: الزكاة غير واجبة، والصلاة غير واجبة يكفر، ولو كان يصلي ويزكي؛ لأنه أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة. وأما من لا يزكي ويرى أن الزكاة واجبة فإنه لا يكفر، وكذلك من يقول: الزنا حلال، أو: الربا حلال، أو: الخمر حلال، فهذا يكفر؛ لأنه استحل أمراً معلوماً من الدين بالضرورة تحريمه، لكن من يزني، أو يشرب الخمر، ويعلم أن ذلك حرام، أو غلبه الجشع فتعامل بالربا، وغلبته الشهوة فزنى، وغلبه حب المال فسرق، فهذا إيمانه ضعيف وناقص وهو مرتكب لكبيرة، وهو متوعد، لكن لا يكفر. وكذلك الحكم بغير ما أنزل الله، فالذي يحكم بغير ما أنزل الله ويرى أنه يجوز الحكم بالقوانين والآراء، وأنه لا حرج في ذلك، وأن الإنسان مخير فإن ما فعله كفر وردة، أما من حكم طاعة للهوى والشيطان، وهو يعلم أن الحكم بما أنزل الله واجب لكن حكم بغير ما أنزل الله لرشوة، أو لأجل أن ينفع المحكوم له، وهو يعلم أن الحكم بما أنزل الله واجب وأنه عاص ففعله كفر أصغر وكبيرة، ولا يكون كفراً أكبر. فالمقصود أن هذا فيه تفصيل، وهذا الأمر قد بينه أهل العلم واستدلوا عليه بالنصوص، وعلى السائل أن يراجع ما كتبه العلماء على الآيات في ذلك، فليراجع تفسير الحافظ ابن كثير وغيره على هذه الآيات في سورة المائدة.

أدلة كون الإيمان قولا وعملا يزيد وينقص

أدلة كون الإيمان قولاً وعملاً يزيد وينقص Q لا شك في أن الإيمان عند أهل السنة قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، فما الدليل من الكتاب والسنة على هذا التقسيم؟ A الأدلة في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:2 - 4] فجعل هذه الأمور كلها من الإيمان، وبعضها من أعمال القلوب، وبعضها من أعمال الجوارح، ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، وفي الحديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) وفي حديث وفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) فكل هذه الأدلة تدل على أن أعمال القلوب، وأعمال الجوارح، وأقوال الألسنة كلها داخلة في مسمى الإيمان.

موقف السلف من مرجئة الفقهاء

موقف السلف من مرجئة الفقهاء Q هل صحيح أن السلف كان ذمهم في أكثر مصنفاتهم منصباً على مرجئة الفقهاء، وأما المرجئة الخلص فكانوا يصرحون بوصفهم بالجهمية، ولهذا كان تقرير أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان في مصنفاتهم أكثر من تقرير الرد على من يقول: إن الإيمان هو المعرفة؟ A لاشك في أن السلف صنفوا في هذا وفي هذا، ومن ذلك رسالة الإمام أبي عبيد في بيان مذهب الجهمية، لكن لفظ المرجئة إذا أطلق ينصرف في الغالب إلى المرجئة المحضة، ولهذا فإن مرجئة الفقهاء أنفسهم يسمون الجهمية مرجئة، ولا يسمون أنفسهم مرجئة. والمقصود أن السلف ردوا على هؤلاء وهؤلاء، ولاشك في أن مذهب الجهمية مذهب خبيث وخطير، ولهذا بين العلماء مذهب الجهمية، والجهم يتزعم عقائد فاسدة، فـ الجهم بن صفوان اشتهر بأربع عقائد: عقيدة نفي الصفات، وعقيدة الإرجاء، وهو القول بأن الأعمال ليست من الإيمان وليست مطلوبة، وعقيدة الجبر، وهو اعتقاد أن الإنسان مجبور على أفعاله، وعقيدة اعتقاد فناء الجنة والنار، فهذه أربع عقائد اشتهر بها الجهم لخبثه، والعلماء والأئمة صنفوا في مذهب الجهم وبيان بطلان هذه العقائد الخبيثة، ومنها الإرجاء، فبينوا هذا وحكموا على الجهم بالكفر، وشنعوا على الجهمية.

حكم من عقد الإيمان بقلبه وترك العمل

حكم من عقد الإيمان بقلبه وترك العمل Q ما معنى قول شيخ الإسلام: من كان عقده الإيمان ولا يعمل بأحكام الإيمان فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد؟ A عقده الإيمان يعني اعتقاده، فهو يعتقد الإيمان، ولا يعمل بأحكام الإسلام، أي: لا يؤدي الواجبات ولا ينتهي عن المحرمات، فمن قال: أنا مصدق ولكنه يرفض العمل فهو كافر، ولا يفيده الإيمان؛ لأنه مستكبر عن عبادة الله، كما أن إبليس كان كفره بالإباء والاستكبار، كما قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، وفرعون كان كفره بالإباء والاستكبار، واليهود كفرهم بالإباء والاستكبار، وأبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم كان كفره بالإباء والاستكبار، وهو القائل: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لكن حملته العصبية ومنعته من أن يشهد على قومه وعلى آبائه وأجداده بالكفر، فكان يستكبر عن عبادة الله واتباع رسوله، فالمقصود أن معنى ذلك أن من ادعى أنه مؤمن بقلبه ولكنه استكبر وأبى الالتزام بشرع الله ولم يعمل الواجبات وينتهي عن المحرمات؛ فإن كفره يكون بالإباء والاستكبار؛ لأن هذا الإيمان الذي في قلبه أو الذي اعتقده لابد له من عمل يتحقق به، فإذا رفض العمل فإنه يكون مستكبراً، وتكون دعواه الإيمان دعوى باللسان لا تفيده. وذلك أنه لا يمكن أن يكون الإيمان تاماً في القلب بدون أن يعمل الإنسان، فهذا ليس بصحيح، فإذا كان الإيمان تاماً فلابد من أن يعمل، فليس هناك من يؤمن بالله ورسوله، ويعتقد أن الجنة حق وأن النار حق، ويصدق بالبعث والوقوف بين يدي الله، ويصدق بأن الصلاة فيها فضل عظيم وأجر كبير، وأنها تكفر الذنوب ثم يبقى طول عمره لا يصلي، ويقول: أنا مصدق لكن لن أصلي، وأعلم أن الصلاة جاء الوعيد الشديد على تركها ولكن لن أصلي. فهذا لا يكون مؤمناً أبداً، ولو كان في قلبه إيمان صادق لبعثه على العمل، فكيف يترك الصلاة طول عمره وهو يعلم ما أعد الله للمصلي من الثواب، ويعلم ما أعد الله على ترك الصلاة من العقاب، ويعلم الفضل والأجر الكبير الذي رتب على أداء الصلاة، والفضل العظيم الذي رتب على أجر الوضوء؟! وسواء قال: إن الأعمال الظاهرة من لوازم الإيمان، أو جزء من الإيمان فالمقصود أنه لابد من العمل.

حكم القول بأن العمل شرط كمال في الإيمان

حكم القول بأن العمل شرط كمال في الإيمان Q خرج بعض المعاصرين بأقوال جديدة في الإيمان وقال: إن العمل شرط كمال في الإيمان وليس شرط صحة، فما صحة ذلك؟ A لا أعلم لهذا القول أصلاً، وذلك أن جمهور أهل السنة يقولون: الإيمان قول باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالقلب، وعمل بالجوارح، والإيمان عمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعاصي، فالعمل جزء من الإيمان، والإيمان مكون من هذه الأشياء، من تصديق القلب وقول اللسان وعمل الجوارح وعمل القلب، فكل هذه أجزاء الإيمان، فلابد من أن يقر المرء باللسان ويصدق بالقلب ويعمل بقلبه ويعمل بجوارحه. والمرجئة يقولون: الأعمال ليست من الإيمان، ولكنها دليل على الإيمان، أو هي من مقتضى الإيمان أو هي ثمرة الإيمان. أما القول بأن العمل شرط كمال أو شرط صحة فلا أعلم له أصلاً من قول المرجئة ولا من قول أهل السنة، فليس العمل شرط كمال ولا شرط صحة، وإنما هو جزء من الإيمان، والقول بأنه شرط كمال أو صحة لا يوافق مذهب المرجئة، ولا مذهب جمهور أهل السنة، بل قد يقال: إنه يوافق مذهب المرجئة من جهة أنهم أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان في الجملة، فهو أقرب ما يكون إلى مذهب المرجئة، فالذي يقول: إن العمل شرط كمال أو شرط صحة نقول له: هذا مذهب المرجئة التي أخرجت الأعمال عن مسمى الإيمان، فإما أن تقول: العمل داخل في مسمى الإيمان أو جزء من الإيمان، وإما أن تقول: العمل ليس من الإيمان، فإن قلت: العمل ليس من الإيمان فأنت من المرجئة، سواء أقلت: شرط كمال، أم قلت: شرط صحة، أم قلت: هو دليل على الإيمان، أم قلت: هو مقتضى الإيمان، أم قلت: هو ثمرة الإيمان، فكل من أخرج العمل من الإيمان فهو من المرجئة، ولكني لا أعلم أن المرجئة جعلوا الأعمال شرط كمال للإيمان.

الجمع بين حديث البطاقة وجعل أهل السنة العمل من الإيمان

الجمع بين حديث البطاقة وجعل أهل السنة العمل من الإيمان Q كيف نوفق بين حديث البطاقة مع قول أهل السنة بأن العمل من الإيمان؟ A لا منافاة بينها، فحديث البطاقة ليس فيه أنه أخرج الأعمال من الإيمان، لكن الذي فيه أنه يؤتى برجل يوم القيامة ويوقف بين يدي الله، ويخرج له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، وكلها سيئات، فيقر بكل ما فيها، فيقال له: هل لك من حسنة؟ فيقول: لا. فلا يذكر شيئاً، فيقول الله له: بلى إنك لا تظلم، إن لك عندنا حسنة. فتخرج له بطاقة فيهما شهادة أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فتطيش السجلات وتثقل البطاقة، فيغفر الله له. قال العلماء: إن كل مؤمن له مثل هذه الشهادة، ومع ذلك فإن بعض المؤمنين يعذب في النار، وهذا لم يعذب، قال العلماء: إن هذا الشخص قال هذه الكلمة عن صدق وإخلاص وتوبة نصوح فأحرقت جميع السيئات وقضت عليها، فيكون قد قالها عند الموت، أو قالها عن توبة فأحرقت هذه السيئات وقضت عليها.

الحكم على حديث الذباب

الحكم على حديث الذباب Q هل أحد من أهل العلم صحح حديث الذباب؟ A إذا كان المقصود بذلك حديث: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء) فهذا الحديث ثابت في صحيح البخاري، وهو أصح الكتب بعد كتاب الله، ولا إشكال فيه. وأما إذا كان المقصود حديث طارق بن شهاب (دخل رجل النار في ذباب) فالحديث ثابت عن طارق بن شهاب، وهو حديث صحيح، وهو مرسل صحابي، والصحابة يروون عن الصحابة.

الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق

الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق Q ما الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق؟ A مطلق الإيمان يراد به أصل الإيمان، والإيمان المطلق كمال الإيمان، فالعاصي يثبت له مطلق الإيمان، ولا يثبت له الإيمان المطلق، بل يقال: هو مؤمن ناقص الإيمان.

أثر التكفير في الآخرة

أثر التكفير في الآخرة Q هل التكفير متعلق بالدنيا فلا يحكم على المرء في الآخرة؟ A من حكم عليه بالكفر المخرج من الملة فإنه يحكم عليه بالخلود في النار، فكل كافر كفراً أكبر مخلد في النار نسأل الله السلامة والعافية، فمن وقع في الشرك الأكبر، أو في الكفر الأكبر، أو في النفاق الأكبر ومات على ذلك من غير توبة فهو مخلد في النار، فإن تاب توبة نصوحاً قبل الموت تاب الله عليه.

الفرق بين الإعراض عن دين الله وترك العمل

الفرق بين الإعراض عن دين الله وترك العمل Q يتكلم العلماء عن الإعراض عن دين الله، فهل هو مختلف عن ترك العمل أم هو نفسه؟ A الإعراض عن دين الله هو أن يعرض عن دين الله فلا يتعلمه ولا يعبد الله، فهو كافر، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3].

أعمال العهد المكي ومنزلتها من الإيمان

أعمال العهد المكي ومنزلتها من الإيمان Q قد يقال: في العهد المكي كان الصحابة يتعلمون القرآن، ومنهم من هاجر إلى الحبشة، وهذه الأعمال من الإيمان، وعليه فإنه لا يسلم للمصنف أن الإيمان في مكة كان مجرد الإقرار، فهل لهذا القول حظ من النظر؟ A حتى لو هاجروا إلى الحبشة، لم يكن في العهد المكي صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حج ولا حدود ولا غيرها، والشرائع ما شرعت إلا في المدينة، إلا الصلاة فإنها فرضت قبل الهجرة بسنة أو سنتين أو ثلاث. فمقصود المؤلف أن الواجب علينا أولاً التوحيد، ففي مكة أوجب الله التوحيد، أما الشرائع فلم تفرض إلا في المدينة بعد الهجرة.

حكم من سب الله ورسوله عند مرجئة الفقهاء

حكم من سب الله ورسوله عند مرجئة الفقهاء Q هل من سب الله والرسول صلى الله عليه وسلم مرتد عند مرجئة الفقهاء؟ A المرجئة يرون أن الكفر لا يكون إلا بالجحود، ويقولون: الجحود دليل على الكفر، أما جمهور أهل السنة وأهل الحق فإنهم يرون أن نفس السب كفر، ونفس الاستهزاء كفر، أما أولئك فيقولون: ليس ذلك كفراً، لكنه دليل على الكفر ودليل على ما في قلب المرء، ولو سجد للصنم فإنهم يقولون: السجود ليس بكفر، لكنه دليل على ما في قلبه وعلى أنه جحد حق الله فكان كافراً، ولذلك سب الله، فهو دليل على ما في قلبه من الجحود، وأما أهل السنة فيقولون: نفس السجود للصنم كفر مستقل، ونفس الاستهزاء كفر مستقل؛ لأن الكفر يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بالجوارح، ويكون بالاستكبار والرفض والإعراض عن دين الله.

حكم تارك بعض الصلوات

حكم تارك بعض الصلوات Q من الناس من لا ينتظم في صلاته فيصلي بعض الفروض لا كلها، فهل هذا الصنف من الناس حكمه حكم من ترك الصلاة كلياً؟ A هذه المسألة خلافية بين أهل العلم، فمن العلماء من قال: إنه لا يكفر إلا إذا ترك الصلوات كلها، أما من كان يصلي ويترك بعضاً من الصلاة فإنه لا يكفر حتى يترك جميع الصلوات. وقال قوم من أهل العلم: يكفر إذا ترك فرضاً واحداً متعمداً وليس له عذر حتى خرج الوقت، واستدلوا بما جاء في صحيح البخاري من حديث بريدة بن حصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) والذي يحبط عمله هو الكافر، وهذا أصح الأقوال، وهو أنه إذا ترك فرضاً واحداً متعمداً حتى خرج الوقت وليس له عذر كفر، أما إذا كان نائماً نوماً يعذر فيه، أو كان متأولاً، مثل بعض المرضى في المستشفى يتأول فلا يصلي، فإذا قيل له: لماذا لا تصلي؟ قال: كيف أصلي وثيابي نجسة، ولا أستطيع أن أتوضأ؟! لكن إذا خرجت من المستشفى غسلت ثيابي وصليت، فمن قال لك: إنك ستخرج من المستشفى؟! فقد تموت ولا تخرج من المستشفى، ثم لو قدر أنك تخرج فكيف لك أن تترك الصلاة؟ ولهذا ينبغي لطلبة العلم إذا زاروا المرضى في المستشفى أن يبينوا لهم أنه يجب على المريض أن يصلي على حسب حاله، وما عجز عنه سقط، فإذا استطعت أن تتوضأ فتوضأ وإلا فتيمم، وإذا استطعت أن تغسل ثيابك فاغسلها، وإذا استطعت أن توجه السرير إلى القبلة فوجهه، وإن لم تستطع صل على حسب حالك، فقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمران بن حصين: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب) وزاد النسائي: (فإن لم تستطع فمستلقي) والصحابة الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات قبل أن يشرع التيمم في طلب عقد عائشة أدركتهم الصلاة ولم يشرع التيمم، فصلوا بغير ماء ولا تراب، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفاقد الطهورين -وهو الذي ليس عنده ماء ولا تراب كأن يكون مصلوباً على خشبة- إذا جاء وقت الصلاة فإنه يصلي ولو بغير وضوء وتيمم؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].

حكم التكلم بالكفر

حكم التكلم بالكفر Q البعض يستشهد بحديث الرجل الذي أوصى أبناءه عند الموت بإحراقه وذر رماده في يوم ريح على أن من تكلم بالكفر مهما كان لا يكفر، فهل هذا صحيح؟ A هذا الحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما، وهو أن رجلاً ممن كان قبلنا كان مسرفاً على نفسه، وفي لفظ: (لم يعمل خيراً) فلما حضرته الوفاة جمع بنيه وأهله وقال: أي أب كنت لكم؟ فأثنوا عليه خيراً. فقال: إنه لم يعمل، وإن الله إذا بعثه ليعذبنه عذاباً شديداً، وجاء في بعض الروايات أنه كان نباشاً للقبور، فلما حضرته الوفاة جمعهم وأخذ عليهم الميثاق والعهد أنه إذا مات أحرقوه، ثم سحقوه ثم ذروه في البر، وفي لفظ: أنه أمرهم أن يذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، وقال: (لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً شديداً) وظن أنه في هذه الحالة يفوت على الله، ففعلوا به ذلك، فلما مات أحرقوه، ثم سحقوه وطحنوه، ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، وجاء في الحديث أن الله تعالى أمر البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فقال الله له: قم. فإذا هو إنسان قائم، فقال الله: ما الذي حملك على ذلك؟ قال: من خشيتك يا رب، فرحمه الله وغفر له. وقد اختلف العلماء في هذا، فقال بعضهم: هذا في شرع من قبلنا وليس في شرعنا. وأصح ما قيل في ذلك ما أقره الأئمة والعلماء، وهو أن هذا الرجل كان جاهلاً، وأن جهله كان في أمر دقيق خفي بالنسبة إليه، وأن الذي حمله على ذلك ليس العناد ولا التكذيب، ولكن الذي حمله على ذلك الجهل مع الخوف العظيم، فاجتمع أمران، جهل مع خوف عظيم فغفر الله له، فهذا الرجل لم يكن مكذباً بالبعث، بل هو يثبت البعث ويعتقد أنه لو ترك ولم يحرق ولم يسحق سيبعث، ولم ينكر قدرة الله، وكان يظن أن الله قادر عليه، وإنما أنكر كمال تفاصيل القدرة، وظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة فات على الله ولم يدخل تحت القدرة، وهذا الظن ليس الذي حمله عليه هو العناد ولا التكذيب، وإنما الذي حمله أمران: الأمر الأول: الجهل، والجهل إنما هو في أمر دقيق خفي، وليس كل جاهل يعذر، فمن أنكر أمراً معلوماً لكل أحد وهو معلوم له فإنه لا يعفى عنه، ومثال ذلك: لو أن إنساناً تعامل بالربا في مجتمعنا الآن ثم نهيته عن الربا وقلت له: لماذا تتعامل بالربا؟ فقال: أنا جاهل لا أدري. فهل يعذر بالجهل؟ لا، وذلك لأن تحريم الربا يعرفه العام والخاص، لكن لو أن إنساناً أمريكياً أسلم في أمريكا وكان يعيش طول حياته في الربا، ولا يعرف إلا الربا، ثم تعامل بالربا، فلما قيل له: كيف أسلمت وتتعامل بالربا؟ قال: أنا لا أدري فإنه يعذر. فالجاهل إذا كان جاهلاً في مسألة دقيقة خفية فإنه يعذر فيها، أما إذا كان الأمر واضحاً وليس دقيقاً ولا خفياً ومثله لا يُجهَل فإنه لا يعذر فيه، فهذا الرجل كان يجهل هذه المسألة، وهي دقيقة وخفية بالنسبة إليه، وظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة فات على الله ولم يدخل تحت القدرة، ولم ينكر البعث، ولم ينكر أصل قدرة الله، وإنما أنكر كمال تفاصيل القدرة فغفر الله له، وليس الذي حمله على ذلك التكذيب ولا العناد، وإنما الجهل مع الخوف العظيم، فغفر الله له، وهذا هو الصواب في هذه المسألة الذي قرره المحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.

[5]

شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [5] إن مما يعتقده أهل السنة في الإيمان أنه يتفاوت في القلوب ويتفاضل، وأنه يزيد وينقص، وأن له شعباً من الأقوال والأعمال القلبية وأعمال الجوارح، وأنه قول وعمل ونية، وكل ذلك قامت عليه دلائل الوحيين، ولم يخالف فيه إلا فرق الضلال.

شعب الإيمان ودلائلها من النصوص

شعب الإيمان ودلائلها من النصوص قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبيد: فإن قال لك قائل: فما هذه الأجزاء الثلاثة وسبعون؟ قيل له: لم تُسم لنا مجموعة فنسميها، غير أن العلم يحيط أنها من طاعة الله وتقواه، وإن لم تذكر لنا في حديث واحد، ولو تفقدت الآثار لوجدت متفرقة فيها، ألا تسمع قوله في إماطة الأذى وقد جعله جزءاً من الإيمان وكذلك قوله في حديث آخر: (الحياء شعبة من الإيمان)، وفي الثالث: (الغيرة من الإيمان)، وفي الرابع: (البذاذة من الإيمان)، وفي الخامس: (حسن العهد من الإيمان)؟! فكل هذا من فروع الإيمان]. هذا اعتراض من المؤلف رحمه الله -وهو أبو عبيد القاسم بن سلام - حيث قال -يعني نفسه-: فإن قال لك قائل واعترض عليك معترض: فما هذه الأجزاء الثلاثة وسبعون؟)، يشير إلى حديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فهذا الحديث فيه بيان أن الإيمان شعب متعددة وأنه بضع وسبعون، والبضع: من ثلاثة إلى تسعة، ولهذا فإن الإمام البيهقي رحمه الله جمع في كتابه الذي سماه (شعب الإيمان) تسعاً وسبعين شعبة. وقول المؤلف رحمه الله: (فما هذا الأجزاء الثلاثة وسبعون) الذي يظهر لي أنه ليس في الحديث تخصيص بأنها ثلاث وسبعون، وإنما (بضع وسبعون)، والبضع من ثلاثة إلى تسعة، فلو قال: فما هذه الأجزاء البضع والسبعون) لكان أفضل؛ لأن الحديث لم يحدد ثلاثاً، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بضع وسبعون) في رواية مسلم، وفي رواية البخاري: (بضع وستون). يقول رحمه الله تعالى مجيباً: [قيل: لم تسم لنا مجموعة فنسميها]، أي: هذه الأجزاء البضع والسبعون ما سماها لنا الشارع، وقال الجزء الأول كذا والجزء الثاني كذا والثالث كذا فما سماها في مكان واحد وفي حديث واحد. [غير أن العلم يحيط أنها من طاعة الله وتقواه]، أي: غير أننا نجزم بأنها هذه الشعب كلها من طاعة الله وتقواه وإن لم تذكر لنا في حديث واحد، لكن تؤخذ من مجموع النصوص من الكتاب والسنة، ولهذا قال: [ولو تفقدت الآثار لوجدت متفرقة فيها] يعني النصوص، فلو تفقدت لوجدت متفرقة فيها، وأقول: ليس ذلك خاصاً بالآثار، بل كذلك نصوص القرآن الكريم، فلو بحثت عنها وتفقدتها في نصوص الكتاب والسنة لوجدت هذه البضع والسبعين، ثم مثل رحمه الله فقال: [ألا تسمع قوله في إماطة الأذى وقد جعله جزءاً من الإيمان؟!]، ونص الحديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). فمثل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لأعلاها ولأدناها، وقال: (أعلاها قول لا إله إلا الله) فكلمة التوحيد هي أعلاها، وهي من قول اللسان مع الاعتقاد في القلب، وأدناها أماطة الأذى عن الطريق، وهذا عمل بدني، (والحياء شعبة من الإيمان) وهذا عمل قلبي، فمثل للشعبة القولية، ومثل للشعبة العملية، ومثل للشعبة القلبية، فدل على أن شعب الإيمان تكون من أعمال القلوب، ومن أعمال البدن، ومن أقوال اللسان، وكلها داخله في مسمى الإيمان، وهذا يدل على أن مسمى الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالقلب وعمل بالجوارح. يقول: [ألا تسمع قوله في إماطة الأذى وقد جعله جزءاً من الإيمان، وقوله في حديث آخر: (الحياء شعبة من الإيمان)] وهو في نفس الحديث، وهذا الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ (الإيمان بضع وسبعون) في رواية مسلم، وفي رواية البخاري: (بضع وستون شعبة، فأعلاها -وفي لفظ: فأفضلها -قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). قال: [وفي الثالث: (الغيرة من الإيمان)] يعني: في حديث آخر: (الغيرة من الإيمان). قال المحقق: رواه البزار وابن بطة في الإبانة عن أبي سعيد وصله بسند فيه مجهول الحال، لكن جاء في الحديث الآخر في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تعجبون من غيرة سعد؟! لأنا أغير منه، والله أغير مني)، فالغيرة صفة لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته لا يماثل فيها أحداً من المخلوقين، وسبب الحديث أن سعد بن معاذ قال: (يا رسول الله! لو رأيت أحداً مع أهلي لضربته بالسيف غير مصفح. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من غيرة سعد؟! لأنا أغير منه، والله أغير مني)، فوصف الله بالغيرة. قال: [وفي الرابع] يعني: في حديث رابع: [(البذاذة من الإيمان)] فجعلها من الإيمان، إلا أن الأفضل للمسلم إذا أنعم الله عليه بنعمة أن يظهر هذه النعمة عليه، كما في الحديث: (إن الله يحب إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)، لكن إذا ترك الثياب الجميلة في بعض الأحيان كسراً للنفس وتواضعاً فهذا مطلوب، وهذا هو معنى البذاذة، فالبذاذة: هي ترك الثياب الجميلة في بعض الأحيان تواضعاً وكسراً للنفس وإبعاداً لها عن العجب. قال: [وفي الخامس] يعني: في الحديث الخامس: [(حسن العهد من الإيمان)، فكل هذه من فروع الإيمان] ولو تتبعت النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما تتبعها البيهقي رحمه الله لوجدت هذه الشعب، فكل الشعب التي وردت في هذه النصوص من فروع الإيمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنه حديث عمار: (ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الإقتار والإنصاف من نفسك، وبذل السلام على العالم)]. يقول المحقق: روي مرفوعاً وموقوفاً، والراجح أنه موقوف، على أن في سنده من كان اختلط، ولكن فات على المحقق -وهو الشيخ ناصر الدين الألباني - أن أثر عمار هذا رواه البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً به، قال: (صح عن عمار أنه قال: ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الإقتار، والإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم) ومن المعلوم أن البخاري إذا رواه معلقاً مجزوماً به فهو صحيح إلى من علقه، والإنفاق من الإقتار يعني: أن ينفق الإنسان ويتصدق ويحسن ولو كان ماله قليلاً، والإقتار: هو الضيق والفقر، فإذا كان عنده درهمان ينفق درهماً ويبقى لأهله درهماً، فهذا هو الإنفاق مع الإقتار، وقد يسبق هذا الدرهم الآلاف، ولهذا جاء في الحديث الآخر: (سبق درهم ألف درهم)، فكيف ذلك؟! الجواب أن هذا عنده درهمان فتصدق بدرهم وأبقى لأهله درهماً، وآخر عنده ملايين وأنفق من هذه الملايين ألفاً، فيكون ذاك أنفق نصف ماله وهذا أنفق ألفاً من ملايين، فيسبق درهم ألف درهم. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا حثهم النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة يحاملون، أي: يعمل الواحد منهم فيكون حمالاً يحمل على ظهره، فإذا أعطي الأجرة درهمين تصدق بدرهم وأبقى لأهله درهماً رضي الله عنهم. والأمر الثاني: الإنصاف من نفسك، فتقول الحق ولو كان على نفسك، وهذا لا يستطيعه إلا أهل العدل، وهو من كمال الإيمان. والثالث: بذل السلام للعالم، أي: للناس جميعاً، فبعض الناس لا يسلم إلا على من يعرف، والذي لا يعرفه لا يسلم عليه، وهذا غلط، فالسنة إفشاء السلام على كل من لقيت، إلا إذا عرفت أنه كافر فلا تبدأه بالسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه)، وإذا سلم عليك وهو غير مسلم فرد عليه وقل له: وعليكم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم)، فبذل السلام للعالم جاء في حديثين في سندهما بعض الشيء، فذاك الأول، والثاني: (في آخر الزمان يكون السلام للمعرفة)، فبعض الناس يسلم على من يعرف، أما الذي لا يعرف فلا يسلم عليه، وهذا غلط وإن كان ابتداء السلام سنة، لكنه من أسباب المحبة، وفي الحديث: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).

زيادة الإيمان ونقصانه وتفاوته

زيادة الإيمان ونقصانه وتفاوته قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم الأحاديث المعروفة عند ذكر كمال الإيمان حين قال: (أي الخلق أعظم إيماناً؟ فقيل: الملائكة، ثم قيل: نحن يا رسول الله، فقال: بل قوم يأتون بعدكم)، فذكر صفتهم]. هذا الحديث ذكر المحقق أنه أخرجه الحسن بن عرفة في جزئه، وأن سنده ضعيف، وهو عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنه -أيضاً- قوله: (إن أكمل -أو من أكمل المؤمنين- إيماناً أحسنهم خلقاً)]. هذا فيه ذكر كمال الإيمان، فالأحاديث التي جاء فيها ذكر كمال الإيمان تدل على أن الإيمان يزيد وينقص ويتفاوت، وأنه أجزاء وأنه متعدد، وهذا فيه رد على المرجئة، وهذا هو الذي يريده رحمه الله، فالأحاديث التي فيها ذكر كمال الإيمان تدل على أن الإيمان يكون كاملاً عند بعض الناس ويكون ناقصاً عند بعض الناس، وإذا كان الإيمان يكمل وينقص فذلك يدل على أنه متعدد وليس شيئاً واحداً كما تقوله المرجئة، فهم يقولون: الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، بل هو تام في القلب وهو التصديق، لكن الأحاديث التي فيها ذكر كمال الإيمان ترد هذا المذهب، وتدل على أن الإيمان يكون كاملاً ويكون ناقصاً عند بعض الناس؛ لأنه متعدد؛ لأنه عمل بالقلب وعمل بالجوارح وقول باللسان وتصديق بالقلب، فهذا هو مقصود المؤلف رحمه الله من ذكر الأحاديث في كمال الإيمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله: (لا يؤمن الرجل الإيمان كله حتى يدع الكذب في المزاح والمراء وإن كان صادقاً)]. وهذا فيه دليل على أن الإيمان يتفاوت، وأن بعض الناس يؤمن الإيمان كله، وبعضهم لا يؤمن الإيمان كله فدل على أنه متفاوت وأنه متبعض وأنه متعدد، وليس شيئاً واحداً كما تقول المرجئة. وفيه نفي الإيمان الكامل عمن لم يدع الكذب في المزاح والمراء وإن كان صادقاً، فهذا إيمانه ناقص، أما الذي يدع الكذب والمراء وإن كان صادقاً مع أداء الواجبات وترك المحرمات فإن إيمانه كامل، فدل على أن الناس يتفاوتون في الإيمان خلافاً للمرجئة الذين يقولون: إيمان أهل الأرض وإيمان أهل السماء شيء واحد لا يزيد ولا ينقص. وهذا باطل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي مثله أو نحوه عن عمر بن الخطاب وابن عمر، ثم من أوضح ذلك وأبينه حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة حين قال: (فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، وبرة من إيمان، ومثقال ذرة من إيمان)]. أي: ومن أوضح الأدلة وأبينها في رد مذهب المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاوت ولا يتبعض، حديث الشفاعة؛ فإن أحاديث الشفاعة متواترة في إخراج عصاة الموحدين من النار، فقد ثبت أن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات في العصاة، وفي كل مرة يحد الله له حداً بعد أن يسجد لربه عز وجل ويأتيه الإذن من الله عز وجل ويقول الله له: (يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع. قال: فيحد الله له حداً) أي: علامة، فيخرجهم من النار إلى الجنة، وجاء في بعضها: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقال له في المرة الأولى: (أخرج من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان)، وفي بعضها مثقال نصف دينار وفي بعضها (مثقال ذرة من إيمان) وفي بعض الأحاديث ثلاث مرات، الأولى: (مثقال ذرة من إيمان) والثانية (أدنى مثقال ذرة من إيمان) والثالثة: (أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان) والرابعة فيمن قال: لا إله إلا الله، فدل هذا على أن الإيمان يتفاوت، فبعض الناس لا يكون في قلبه من الإيمان إلا مثقال ذرة، وبعضهم مثقال شعيرة، وبعضهم مثقال برة، وبعضهم مثقال دينار، وبعضهم أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، وأحاديث الشفاعة فيها دليل واضح وبين على بطلان قول المرجئة الذين يقولون: من إيمان الناس واحد، وإيمان أهل الأرض وأهل السماء واحد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنه حديثه في الوسوسة حين سئل عنها فقال: (ذاك صريح الإيمان)]. وذلك حين قال الصحابة رضوان الله عليهم: (يا رسول الله! إنا لنجد في أنفسنا ما لأن يخر الإنسان من السماء خير له من أن ينطق به)، وفي لفظ: (ما يحب أن يكون حممة) أي: فحمة ولا يتكلم به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وقد وجدتموه؟! قالوا: نعم يا رسول الله. قال: ذاك صريح الإيمان)، أي أن كتم الوسوسة ومحاربتها واستعظامها وعدم التكلم بها هو صريح الإيمان. ولهذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تميزوا على المتأخرين بأنهم كانوا إذا وجدوا وسوسة في أنفسهم حاربوها ودافعوها وكتموها ولم يتكلموا بها، أما المتأخرون فإنهم تكلموا بها وسودوا بها الكتب وشبهوا بها على الناس، الأمر الذي اضطر أهل العلم من أهل السنة والجماعة إلى الرد عليهم، وقد كان الناس في العصر الأول في عافية من هذا، ثم تكلم المعتزلة والخوارج والجهمية والرافضة وغيرهم بالوساوس التي تكون في أنفسهم والتي تخالف النصوص، أما الصحابة والتابعون ومن بعدهم فإنهم حاربوا الوسوسة وكتموها ودافعوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك صريح الإيمان). وهذا يدل على بطلان مذهب المرجئة؛ لأنه قال: (صريح الإيمان)، فالإيمان فيه صريح وغير صريح، والمرجئة يقولون: الإيمان واحد، فكل الناس إيمانهم صريح. وهذا من أبطل الباطل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك حديث علي عليه السلام]. وعلي رضي الله عنه لا يخصص فيقال له: (عليه السلام) دون غيره من الصحابة، بل نقول للصحابة جميعاً: (رضي الله عنهم). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك حديث علي عليه السلام: إن الإيمان يبدأ لمظة في القلب، فكلما ازداد الإيمان عظماً ازداد ذلك البياض عظماً]. هذا موقوف على علي رضي الله عنه، يعني أن الإيمان يبدأ شيئاً بعد شيء حتى يكبر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [في أشياء من هذا النحو كثيرة يطول ذكرها تبين لك التفاضل في الإيمان بالقلوب والأعمال]. أي: هناك أدلة وآثار ونصوص غير هذه النصوص التي ذكرها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن أقوال الصحابة ومن أقوال التابعين والأئمة والعلماء، كلها تبين أن الإيمان يتفاضل في القلوب والأعمال، وذلك لأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهذه كلها ترد وتبطل مذهب المرجئة الذين يقولون: الإيمان شيء واحد لا يتفاضل، وإيمان البر والفاجر سواء. وهذا من أبطل الباطل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكلها يشهد -أو أكثرها- أن أعمال البر من الإيمان، فكيف تعاند هذه الآثار بالإبطال والتكذيب؟!]. المرجئة عاندوا هذه الآثار، فبعضها أبطلوها وبعضها كذبوها، والواجب على المسلم أن يقبل شرع الله ودينه وأن يقبل الآثار إذا صحت أسانيدها، كما أنه يقبل كتاب الله، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومما يصدق تفاضله بالأعمال قول الله جل ثناؤه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]]. أي: ومما يدل على أن الإيمان يتفاضل بالأعمال هذه الآيات الكريمة من سورة الأنفال، قال تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ)) أي: إنما المؤمنون الكمل الذين اتصفوا بهذه الصفات ((الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ))، وهذا عمل قلبي ((وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا))، وهذا من عمل القلب، ((وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ))، وهذا عمل القلب وعمل الجوارح، فالتوكل يجمع أمرين: فعل الأسباب والاعتماد على الله ((الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ))، وإقامة الصلاة من أعمال الجوارح، ((وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ))، ثم قال: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا))، فهذا فيه بيان المؤمنين الكمل، فالذين كمل إيمانهم هم الذين اتصفوا بهذه الصفات، فدل على أن الإيمان يتفاضل بالأعمال. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلم يجعل الله للإيمان حقيقة إلا بالعمل على هذه الشروط]. وجه الاستدلال من الآيات قوله: [لم يجعل الله للإيمان حقيقة إلا بالعمل على هذه الشروط] المذكورة، فوجل القلب عند ذكر الله، وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن، والتوكل على الله، وإقام الصلاة، والإنفاق، جعلها الله علامة على الإيمان الكامل.

حكم مدعي ثبوت الإيمان بالقول دون العمل

حكم مدعي ثبوت الإيمان بالقول دون العمل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والذي يزعمه أنه بالقول خاصة يجعله مؤمناً حقاً وإن لم يكن هناك عمل، فهو معاند لكتاب الله والسنة]. الواحد من المرجئة يزعم أن الإيمان بالقول خاصة، والذي يزعم أن الإيمان بالقول خاصة يجعله مؤمناً حقاً كامل الإيمان، وإن لم يكن هناك عمل، يقول عنه: إنه معاند لكتاب الله وسنة رسوله؛ لأن النصوص واضحة، ففي القرآن: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، وفي الحديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فالذي يقول إن الإيمان هو القول خاصة، وإنه يكون مؤمناً كامل الإيمان بمجرد القول، معاند لكتاب الله ومعاند لسنة رسول الله، وهم المرجئة، والمؤلف رحمه الله اشتد في الإنكار عليهم؛ لأن النصوص واضحة في هذا.

أدلة تفاضل الإيمان في القلوب

أدلة تفاضل الإيمان في القلوب قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومما يبين لك تفاضله في القلب قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة:10]، ألست ترى أن هاهنا منزلاً دون منزل؟ {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة:10] كذلك]. أي أن هذا مما يدل على أن الإيمان يتفاضل في القلب، خلافاً للمرجئة الذين يقولون: الإيمان في القلب شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، ومما يدل عليه آية الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة:10]، فهي تدل على أن الإيمان يتفاضل في قلوب الناس، فإذا جاءت المرأة مهاجرة إلى المدينة تمتحن حتى يعلم ما في قلبها من الإيمان هل هي مؤمنة صادقة أو مؤمنة غير صادقة، ولهذا قال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10]، والمعنى: وإن لم تعلموهن مؤمنات فارجعوهن إلى الكفار، ولذلك قال: ألست ترى أن هاهنا منزلاً دون منزل؟! فالمنزل الأول: ((فَامْتَحِنُوهُنَّ))، والمنزل الثاني: ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ)). يعني: هناك منزلان: الأول: أن تعلم أنها مؤمنة، والمنزل الثاني: أن تعلم أنها ليست مؤمنة، وهذا وجه الدلالة من الآية على أن الإيمان يتفاضل في القلب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومثله قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136]، فلولا أن هناك موضع مزيد ما كان لأمره بالإيمان معنى]. وهذا دليل آخر مع بيان وجه الدلالة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] ووجه الدلالة هو أنهم مؤمنون وقال لهم: آمنوا، فبعد أن ناداهم باسم الإيمان قال لهم آمنوا. أي: ازدادوا إيماناً، فدل على أن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا قال المؤلف في بيان وجه الدلالة: [فلولا أن هناك موضع مزيد ما كان لأمره بالإيمان معنى] فلو كان الإيمان لا يزيد فكيف يأمرهم بالإيمان؟! والمرجئة يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولو كان الإيمان لا يزيد ولا ينقص لم يأمرهم الله بالإيمان، ولما كان للأمر معنى، وهذا واضح في الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وإنما هو شيء واحد في القلب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال أيضاً: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]]. وهذه الآية واضحة في أن الإيمان يزيد وينقص، قال الله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} أي: في إيمانهم ((وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)). إذاً: هناك مؤمن صادق وهناك مؤمن غير صادق، فالمؤمن ضعيف الإيمان لا يقال له: صادق الإيمان، بل يقال: غير صادق الإيمان، والمؤمن قوي الإيمان يقال له: صادق الإيمان، فدل على أن الإيمان يتفاوت، فالعاصي إيمانه غير صادق والمطيع إيمانه صادق، ولهذا يقال في العاصي: مؤمن ناقص الإيمان، ويقال: ليس بمؤمن حقاً، وليس بصادق الإيمان، ولهذا قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] في الآية الأخرى، وهنا قال: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} أي: صدقوا في إيمانهم ((وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]]. وهذا فيه بيان ضعف الإيمان، حيث يقول تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ))، فهذا ضعيف الإيمان، ((فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ))، وفي الآية الأخرى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11] فقوله: (على حرف) أي: على طرف. إذاً: الناس يتفاوتون، فمنهم ضعيف الإيمان الذي إذا أوذي افتتن عن دينه ونكص على عقبيه، ومنهم الصادق في إيمانه الذي يتحمل الأذى، فدل على أن الإيمان يتفاوت وأن الناس يتفاوتون في الإيمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141]]. إذاً: هناك تمحيص، حتى يتبين المؤمن الصادق من غير الصادق، فدل على أن الناس يتفاوتون في الإيمان، وهذا يدل على أن المؤلف - أبا عبيد القاسم بن سلام رحمه الله- دقيق الفهم والاستنباط من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو إمام رحمه الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أفلست تراه تبارك وتعالى قد امتحنهم بتصديق القول بالفعل]. ولذا قال: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، فالصادق في إيمانه هو الذي يصدق عمله قوله؛ لأن بعض الناس يقول آمنا بالله، فإذا جاءت الفتنة نكص على عقبيه، وهو يقول: آمنا بالله، فإذا طلب منه الجهاد امتنع، ومن الناس من يقول: آمنا بالله، ثم يجاهد، فهذا صدق إيمانه بالعمل، وذاك كذب عمله ما يدعيه من الإيمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولم يرض منهم بالإقرار دون العمل]. أي: لم يرض بالإقرار بالقلب فقط، بل لابد من العمل، ولهذا قال: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} [العنكبوت:3]، أي: الذين صدقت أعمالهم إيمانهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حتى جعل أحدهما من الآخر، فأي شيء يتبع بعد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهاج السلف بعده الذين هم موضع القدوة والإمامة؟!]. أي: جعل كل واحد من القول العمل إيماناً، فأي شيء يتبع الإنسان بعد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي دلت على دخول الأعمال في مسمى الإيمان؟! وكذلك أجمع السلف الصالح الذين هم موضع القدوة والإمامة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على هذا، فكيف يترك الإنسان ما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله وما أجمع عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم وهم موضع القدوة؟!

خلاصة معتقد أهل السنة في الإيمان

خلاصة معتقد أهل السنة في الإيمان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالأمر الذي عليه السنة عندنا ما نص عليه علماؤنا مما اقتصصنا في كتابنا هذا أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً، وأنه درجات بعضها فوق بعض، إلا أن أولها وأعلاها الشهادة باللسان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءاً، فإذا نطق بها القائل وأقر بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه، لا بالاستكمال عند الله، ولا على تزكية النفوس، وكلما ازداد لله طاعة وتقوى ازداد به إيماناً]. هذه الأسطر الستة خلاصة لمعتقد أهل السنة والجماعة تكتب بماء الذهب، ولو كتبت بماء الذهب لم يكن فيها كثيراً، وفيها بيان القاعدة العظيمة عند أهل السنة والجماعة في الإيمان، فجدير بالمسلم أن يكتب هذه الأسطر في ورقة ويجعلها في جيبه دائماً؛ حتى يتبين له مذهب أهل السنة والجماعة ويرد على المرجئة في هذا. يقول المؤلف رحمه الله: [فالأمر الذي عليه السنة عندنا] يعني معشر أهل السنة والجماعة والأئمة والعلماء [ما نص عليه علماؤنا] يقول صاحب الحاشية: أي ما مضى عليه علماؤنا، يعني: ما استمروا عليه واعتقدوه وقرروه [مما اقتصصنا في كتابنا هذا] يعني: مما ذكرنا في كتابنا هذا من الأدلة والنصوص [أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً] فيكون ثلاثة أجزاء: النية، والقول، والعمل، فلابد من النية في الصلاة، وفي الزكاة، وفي الصوم، وفي الحج وفي سائر العبادات؛ لحديث: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرء ما نوى)، فلا تصلح الأعمال إلا بالنية، فالنية من الإيمان، والقول يشمل قول اللسان وهو النطق، وقول القلب، وهو التصديق والإقرار، والعمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح، فيكون الإيمان مكوناً من النية والقول والعمل. فيقول الإمام أبو عبيد رحمه الله: [أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً، وإنه درجات بعضها فوق بعض] خلافاً للمرجئة الذين يقولون: الإيمان شيء واحد ولا يوجد درجات ولا نية ولا عمل، ولا يوجد إلا قول القلب وتصديق القلب فقط قال: [وأنه درجات بعضها فوق بعض، إلا أن أولها وأعلاها] أي: أول الدرجات وأعلاها [الشهادة باللسان] وهي كلمة التوحيد؛ لأنها أصل الدين وأساس الملة، وأول درجات الإيمان وأصلها وأسها الذي تنبني عليه الأعمال، وهي الشهادة لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، وجملتها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله). قال: [كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءاً] والضمير يعود إلى الإيمان، يشير إلى الحديث الذي في الصحيحين: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) فإذا نطق القائل بكلمة التوحيد، وقال: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) وأقر بما جاء من عند الله والترم واعترف وصدق بالأوامر والنواهي [لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه] أي أنه يسمى مؤمناً [لا بالاستكمال عند الله]، فلا نقول: إن إيمانه مستكمل حتى يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، [ولا على تزكية النفوس] أي: وليس له أن يقول: أنا مؤمن، فيزكي نفسه، ولكن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله أرجوه، كما قال بعض السلف، وكما سيأتي. قال: [وكلما ازداد لله طاعة وتقوى ازداد إيماناً] أي: إذا أدى الإنسان الفرائض فهو مؤمن، لكن إذا زاد عليها السنن الرواتب والضحى، وتحية المسجد، وسنة الوضوء، وصلاة الليل، وكذلك زاد في الصيام فصام ثلاثة أيام من كل شهر، والإثنين والخميس، وتسع ذي الحجة، وستاً من شوال، والتاسع والعاشر من محرم زاد تقواه وإيمانه، وكذلك الزكاة إذا أداها وتصدق من غيرها زاد إيمانه، خلافاً للمرجئة الذين يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص.

[6]

شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [6] من المسائل العقدية المهمة مسألة الاستثناء في الإيمان بقول (إن شاء الله)، وقد تعرض علماء الإسلام لبيان حكمها من حيث المراد بحقيقة الإيمان الذي يتلفظ معه بالاستثناء، والإيمان المقصود به الدين المخالف للكفر لا يرد معه الاستثناء، وأما الإيمان المقصود به القيام بالواجبات وترك المحرمات فإنه لابد فيه من الاستثناء؛ لما فيه من تزكية للنفس، وعلى ذلك جمعت النصوص الواردة عن السلف في هذه المسألة.

الاستثناء في الإيمان

الاستثناء في الإيمان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: الاستثناء في الإيمان. قال أبو عبيد: حدثنا يحيى بن سعيد عن أبي الأشهب عن الحسن قال: قال رجل عند ابن مسعود: أنا مؤمن. فقال ابن مسعود: أفأنت من أهل الجنة؟! فقال: أرجو، فقال ابن مسعود: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟]. هذا الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه وإن كان قال صاحب الحاشية: إن سنده منقطع له شواهد تقويه وتشده. وقوله: [قال رجل عند ابن مسعود: أنا مؤمن] أي أنه لم يستثن، فكأنه يزكي نفسه، فلم يقل إن شاء الله، فقال ابن مسعود: [أفأنت من أهل الجنة؟!] أي: تستطيع أن تقول: إنك من أهل الجنة؟! قال: أرجو. فقال: لماذا لم تقل في الإيمان: أنا مؤمن أرجو، أفلا وكلت الأولى إلى مشيئة الله كما وكلت الأخرى إلى مشيئة الله؟! وذلك لأن شعب الإيمان متعددة، فلا يجزم الإنسان بأنه قد عملها، فالإنسان محل النقص والتقصير، يتطرق إليه النقص والخلل في أداء الواجبات وفي ترك المحرمات، فلا يجزم الإنسان بأنه أدى ما عليه، ولا يزك نفسه، ولهذا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وقد أنكر ابن مسعود رضي الله عنه عليه على الرجل وقال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟! لأنه استثنى في الثانية ولم يستثن في الأولى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن سعيد عن الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: بينا نحن نسير إذ لقينا ركباً، فقلنا: من أنتم؟ فقالوا: نحن المؤمنون؟ فقال: أولا قالوا: إنا من أهل الجنة؟!]. أي: أنكر عليهم قولهم: نحن المؤمنون دون أن يستثنوا، وقال: أولا قالوا: إنا من أهل الجنة؟! أي: من جزم بأنه مؤمن فليجزم بأنه من أهل الجنة، وفي هذا إنكار عليهم، فكما أنك لا تجزم بأنك من أهل الجنة فلا تجزم بأنك مؤمن بإطلاق وأنك أديت ما عليك، بل أنت محل النقص والتقصير، فينبغي أن تستثني وتقول: أنا مؤمن إن شاء الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر كلاهما عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن إبراهيم عن علقمة قال: قال رجل عند عبد الله: أنا مؤمن، فقال عبد الله: فقل: إني في الجنة، ولكن آمنا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله]. علقمة من أصحاب عبد الله بن مسعود، وقد أنكر عبد الله بن مسعود على من قال: (أنا مؤمن) ولم يستثن، فقال عبد الله: فقل: إني في الجنة! يعني: إذا جزمت بأنك مؤمن فاجزم بأنك في الجنة، ولكن قل: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهذا هو أصل الإيمان، ولهذا قيل لبعض السلف: أنت مؤمن؟ فقال: أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. أي: هذا أصل الإيمان، أما أن يجزم بأنه مؤمن كامل الإيمان فلا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن محل بن محرز قال: قال لي إبراهيم: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله]. لعل إبراهيم هنا هو إبراهيم النخعي، يقول: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، يعني: تجزم بأنك مؤمن لكن لا تجزم بأنك أديت الواجبات وتركت المحرمات فتقول: أنا مؤمن بإطلاق، ولهذا قال: قل: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله]. طاوس هو طاوس بن كيسان اليماني التابعي الجليل، وهنا روى ابن طاوس عن أبيه طاوس أنه قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. وهذا هو أصل الدين، أما أن تقول: أنا مؤمن وتسكت فلا، فلا تزك نفسك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الرحمن عن حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [البقرة:136]]. أي: هذا أصل الإيمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن إبراهيم قال: قال رجل لـ علقمة: أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو إن شاء الله]. علقمة هو من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قيل له: أمؤمن أنت؟ فلم يجزم واستثنى وقال: أرجو إن شاء الله. وذلك لأن الإنسان محل التقصير، فلا يجزم بأنه أدى ما عليه، فالخلل والتقصير حاصل في أداء الواجبات وترك المحرمات، ولهذا قال: أرجو إن شاء الله، وهذا مذهب جمهور أهل السنة والجماعة.

توجيه كراهة الاستثناء في الإيمان

توجيه كراهة الاستثناء في الإيمان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبيد: ولهذا كان يأخذ سفيان ومن وافقه الاستثناء فيه، وإنما كراهتهم عندنا أن يبتوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين؛ لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان، ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين]. هذا تعقيب من المؤلف رحمه الله على هذه الآثار ليبين وجه ذلك، فقال: [ولهذا كان يأخذ سفيان] أي: سفيان الثوري [ومن وافقه الاستثناء فيه] يعني: في الإيمان، فإذا قيل له: أمؤمن أنت؟ يقول: إن شاء الله، ولا يجزم، ويكره أن يقول: أنا مؤمن ويسكت، ووجه ذلك قوله: [وإنما كراهتهم عندنا أن يبتوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم به في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله]، فهذا وجه كونهم يستثنون، فهم يستثنون ولا يجزمون لأنفسهم بأنهم قد أدوا ما أوجب الله عليهم، وتركوا ما حرم الله عليهم، ويخشون من تزكية النفس؛ لأن الإنسان محل تقصير، فمتى قال: (أنا مؤمن) ولم يستثن فقد زكى نفسه، وشهد لنفسه بأنه تام كامل الإيمان عند الله، وهذا لا يستطيع الإنسان أن يجزم به. قال: [وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين] أي: بالنسبة للأحكام فإنهم يقولون: إن الناس كلهم مؤمنون، الفاسق والعاصي والمطيع كلهم يسمونهم مؤمنين [لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان] فولي المرأة الذي يعقد النكاح لها يشترط أن يكون مؤمناً، ولو كان فاسقاً ولو كان عاصياً، فالولاية ليست هي مجرد اسم الإيمان، وتصح ذبيحة المؤمن ولو كان عاصياً، والشهادة كذلك، وفي النكاح يزوج الرجل ولو كان عاصياً. وقوله: [وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان] أي: هذه الأحكام إنما تتعلق بأصل الإيمان، أعني الولاية، والذبائح، والشهادات، والنكاح، أما الجزم بأن الإنسان مؤمن وأنه أدى ما عليه فهذا لابد من الاستثناء فيه، قال: [ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي قال: من قال: أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن؛ لقول الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27]، وقد علم أنهم داخلون]. والجمهور من السلف والصحابة والتابعين يرون الاستثناء، وبعض العلماء كـ الأوزاعي يرى أن الأمر واسع، فلك أن تستثني ولك ألا تستثني. ولهذا روى أبو عبيد بالسند عن الأوزاعي أنه قال: من قال: أنا مؤمن -يعني: بدون استثناء- فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن. يعني: فهو مخير، واستدل بقول الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27]، وقد علم أنهم داخلون، فدل على أنه لا بأس بالاستثناء، فمن استثنى فقد استدل بالآية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا عندي وجه حديث عبد الله حين أتاه صاحب معاذ فقال: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر، فمن أيهم كنت؟ قال: من المؤمنين. إنما نراه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين، فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده، فكيف يكون ذلك والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]]. قول المؤلف: [وهذا عندي وجه حديث عبد الله] هو ابن مسعود -[حين أتاه صاحب معاذ فقال له: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر] هؤلاء: ذكرهم الله في أول سورة البقرة، فذكر المؤمنين باطناً وظاهراً في أربع آيات، والكفار ظاهراً وباطناً في آيتين، والمنافقين -وهم الكفار باطناً والمؤمنون ظاهراً- في ثلاث عشرة آية. فقال له صاحب معاذ: فمن أيهم كنت؟ فقال: من المؤمنين: ولم يقل من المؤمنين إن شاء الله. يقول المؤلف وجه ذلك أنه على مذهب الأوزاعي يجوز الاستثناء وعدم الاستثناء، قال: [فإنما نراه أنه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين] فمقصوده: أني كنت من أهل الإيمان، لا من الآخرين المنافقين والكافرين؛ لأن الإيمان في مقابل الكفر والنفاق، وليس مقصوده أنه يشهد عند الله أنه مؤمن كامل الإيمان أو أنه يزكي نفسه، ولهذا قال: [فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده] أي: من أن يريد أنه كامل الإيمان، فكيف يكون ذلك والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والشاهد على ما نظن أنه كان قبل هذا لا يقول: أنا مؤمن على تزكية ولا على غيرها، ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله، لا يزيد على هذا اللفظ، وهو الذي كان أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين]. أي أن الشاهد على أنه يريد أصل الإيمان ولا يريد التزكية أنه كان قبل هذا لا يقول: أنا مؤمن يريد به تزكية ولا غيرها، قال: [ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله لا يزيد على هذا اللفظ]؛ لأن هذا أصل الإيمان، وأما إطلاق الإيمان بدون استثناء يريد به التزكية فهذا لا يمكن أن يظن به، وقوله: [ولا نراه أنه كان ينكر على قائله بأي وجه كان]؛ لأن الأوزاعي وجماعة يرون الاستثناء وعدمه سواء، وهو الذي أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين فكلهم يرون أنه يجوز الاستثناء وعدم الاستثناء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم أجاب عبد الله إلى أن قال: أنا مؤمن، فإن كان الأصل محفوظاً عنه فهو عندي على ما أعلمتك]. أي: في الأول كان ينكر أن يقول: أنا مؤمن، ثم أجاب فقال: أنا مؤمن، فإن صح هذا عنه وثبت فهذا وجهه، وهو أنه يريد أصل الإيمان، أو يريد أن الأمر واسع على ما ذهب إليه إبراهيم وطاوس وابن سيرين والأوزاعي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رأيت يحيى بن سعيد ينكره، ويطعن في إسناده؛ لأن أصحاب عبد الله على خلافه]. هذا الأثر ضعيف؛ لأن في سنده رجلاً لم يسم، ولهذا يقول المؤلف: فقد رأيت يحيى بن سعيد ينكر هذا الأثر عن عبد الله، وهو أنه لما سئل قال: أنا مؤمن وسكت، فهذا لم يثبت عن عبد الله؛ لأن يحيى بن سعيد أنكر هذا الأثر وطعن في إسناده، لأن أصحاب عبد الله بن مسعود على خلاف ذلك، وأنه لابد من الاستثناء، لكن لو صح فهو يحمل على أن المراد أصل الإيمان أو أن المراد أن الأمر واسع على مذهب ابن سيرين وطاوس وإبراهيم والأوزاعي، لكنه لا يصح؛ لأنه مطعون في سنده، ويدل على ذلك أن أصحاب عبد الله على خلاف ذلك.

توجيه كلام المجيزين ترك الاستثناء في الإيمان

توجيه كلام المجيزين ترك الاستثناء في الإيمان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك نرى مذهب الفقهاء الذين كانوا يتسمون بهذا الاسم بلا استثناء، فيقولون: نحن مؤمنون، منهم عبد الرحمن السلمي وإبراهيم التيمي وعون بن عبد الله ومن بعدهم مثل: عمر بن ذر والصلت بن بهرام ومسعر بن كدام ومن نحا نحوهم، إنما هو عندنا منهم على الدخول في الإيمان لا على الاستكمال]. مما يؤيد أن هذا الأثر لم يصح عن ابن مسعود، وأنه مطعون في سنده أن مذهب الفقهاء الذين يتسمون بهذا الاسم بلا استثناء -أي: الذين يقول الواحد منهم: أنا مؤمن ولا يستثني، ومقصودهم الإيمان العام بالدخول فيه لا الإيمان الكامل- منهم عبد الرحمن السلمي وإبراهيم التيمي وعون بن عبد الله وعمر بن ذر والصلت بن بهرام ومسعر بن كدام. ثم أيد ذلك بتأييد بعده فقال رحمه الله تعالى: [ألا ترى أن الفرق بينهم وبين إبراهيم وبين ابن سيرين وطاوس إنما كان أن هؤلاء كانوا لا يتسمون به أصلاً وكان الآخرون يتسمون به]. يقول: مما يؤيد هذا أن الفرق بينهم -أي: بين الذين يطلقون الإيمان وبين الذين يستثنون- إنما كان أن هؤلاء كانوا لا يتسمون به أصلاً، وكان الآخرون يتسمون به، أي أن الذين منعوا من قول: (أنا مؤمن) إنما يقصدون إذا قصد كمال الإيمان واستكماله، فلابد من أن يقول: إن شاء الله، ومن أجاز وقال: أنا مؤمن إنما مراده التسمي بالإيمان والدخول فيه، فلا يلزمه الاستثناء، فيقول: أنا مؤمن، يعني: دخلت في الإيمان وتسميت به، وأما من أراد (أنا مؤمن) أي: استكملت الإيمان فلابد من أن يستثني.

الرد على المرجئة في دعوى كمال الإيمان

الرد على المرجئة في دعوى كمال الإيمان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما على مذهب من قال: كإيمان الملائكة والنبيين فمعاذ الله، ليس هذا طريق العلماء]. أي: أما قول: أنا مؤمن إيماناً كاملاً كإيمان الملائكة وإيمان النبيين فمعاذ الله أن يقوله أحد من أهل العلم، وكيف يجزم الإنسان بأن إيمانه كإيمان النبيين والملائكة؟! فمن قال: أنا مؤمن وسكت ليس مقصوده الإيمان الكامل كإيمان الملائكة والنبيين، وإنما مقصوده التسمي بالإيمان والدخول فيه، فلهذا قال: [فأما على مذهب من قال: كإيمان الملائكة والنبيين فمعاذ الله، ليس هذا طريق العلماء]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد جاءت كراهيته مفسرة عند عدة منهم]. أي: جاءت كراهية إطلاق الإيمان بدون استثناء مفسرة عن عدة من علماء السلف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا هشيم -أو حدثت عنه- عن جويبر عن الضحاك: أنه كان يكره أن يقول الرجل: أنا على إيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام]. وهذا الأثر دليل على أنه يكره أن يقول الإنسان: أنا مؤمن كإيمان جبريل وميكائيل، والمراد به المنع، أي: يمنع ويحرم، وقد تروى الكراهية عند السلف ويراد بها كراهة التحريم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن أبي مريم المصري عن نافع عن عمر الجمحي قال: سمعت ابن أبي مليكة وقال له إنسان: إن رجلاً في مجالسك يقول: إن إيمانه كإيمان جبرائيل، فأنكر ذلك وقال: سبحان الله! كيف يقول ذلك والله قد فضل جبريل عليه السلام في الثناء على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21]]. أي: لما قال: إن إيمانه كإيمان جبرائيل وميكائيل أنكر عليه وقال: سبحان الله! متعجباً من ذلك، ثم قال: كيف يقول: إيماني كإيمان جبرائيل والله تعالى فضل جبريل بالثناء على محمد فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21]؟! أي أنه سبحانه وصفه بهذه الأوصاف، ووصف نبيه بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:40 - 41]، ومسألة تفضيل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم مسألة خلافية بين أهل العلم، أصلها: هل الأنبياء وصالحوا البشر أفضل من الملائكة أم الملائكة أفضل؟ والصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملائكة، لكن ليس المقام مقام بحث هذه المسألة، إنما المقصود الإنكار على من قال: إيماني كإيمان جبريل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبيد: حدثنا عن ميمون بن مهران أنه رأى جارية تغني فقال: من زعم أن هذه على إيمان مريم بنت عمران فقد كذب]. ميمون بن مهران رأى جارية تغني -والغناء معلوم أنه فسق، ولاسيما الغناء الذي يلهب النفوس- فقال: من زعم أنه هذه على إيمان مريم بنت عمران فقد كذب؛ لأن مريم بنت عمران صديقة، وإيمانها كامل، وهذه الجارية فاسقة إيمانها ناقص، فكيف يكون إيمان هذه الجارية الفاسقة التي تغني مثل إيمان مريم بنت عمران؟! يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وكيف يسع أحداً أن يشبه البشر بالملائكة، وقد عاتب الله المؤمنين في غير موضع من كتابه أشد العتاب، وأوعدهم أغلظ الوعيد، ولا يعلم فعل بالملائكة من ذلك شيئاً فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:29 - 30]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2]، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]. فأوعدهم النار في آية، وآذنهم بالحرب في أخرى، وخوفهم بالمقت في ثالثة، واستبطأهم في رابعة، وهو في هذا كله يسميهم مؤمنين، فما تشبه هؤلاء من جبريل وميكائيل مع مكانهما من الله؟! إني لخائف أن يكون هذا من الاجتراء على الله والجهل بكتابه]. هذا التعقيب على الأثر تعقيب جيد من المؤلف رحمه الله، ومناقشة حادة للمرجئة، وبيان واضح في بطلان مذهب المرجئة الذين يقولون: إن إيمان الملائكة وإيمان البشر واحد، وإيمان أفسق الناس وأتقى الناس واحد، فهنا المؤلف يناقشهم مناقشة حادة قوية مبنية على فهم النصوص من كتاب الله وسنة رسوله، فيقول: كيف يسع أحداً أن يقول: إن إيمان البشر مثل إيمان الملائكة؟! فالمرجئة يقولون: إيمان البشر مثل إيمان الملائكة، فيقول الواحد منهم: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل، وكإيمان أبي بكر وعمر! فالمؤلف يتعجب مع استفهام إنكار ممن يستسيغ أن يشبه البشر بالملائكة ويقول: إن إيمان البشر مثل إيمان الملائكة! والملائكة إيمانهم كامل، فهو مطيعون لله، قال الله تعالى عنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27]، فهم لا يعصون الله طرفة عين، أما بنو آدم فيعصون الله في الأرض ويقصرون في الواجبات، ويرتكبون المحرمات، فكيف يشبه بني آدم الذين فيهم العصاة والظلمة والفساق بالملائكة ويقول: إن إيمانهم مثل إيمان الملائكة الذين: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]؟ وقد عاتب الله المؤمنين في غير موضع من كتابه أشد العتاب وأوعدهم أغلظ الوعيد، ولا يعلم أنه توعد الملائكة أو أغلظ لهم أو فعل بهم من ذلك شيئاً، فقال في عتاب المؤمنين من البشر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فالذي يأكل المال بالباطل يعاتب، وقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] وهذا عتاب: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، ثم قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء:30]، فتوعده الله بالنار {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:30]، ولم يتوعد الملائكة بشيء من ذلك، وقال أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:178 - 179]، هذا وعيد، ولم يتوعد به الملائكة، وقال في الوعيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، والمقت هو أشد البغض، ولم يقل هذا في الملائكة، وقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، فهم مع أفعالهم هذه هل هم مؤمنون كاملو الإيمان أم عندهم أصل الإيمان؟! فكيف نشبه هؤلاء العصاة بالملائكة؟! ولهذا قال: [فما تشبه هؤلاء من جبريل وميكائيل مع مكانهما من الله؟!] أي: كيف نشبه هؤلاء الذين توعدهم الله بإصلاء النار، وتوعدهم بالمقت، وآذنهم بالحرب بجبريل وميكائيل مع قربهما ومكانتهما من الله؟! ثم قال: المؤلف رحمه الله: [إني لخائف أن يكون هذا من الاجتراء على الله والجهل بكتابه] أي: إني لخائف على المرجئة الذين يقول أحدهم: إيمان أفسق الناس مثل إيمان الملائكة من أن يكون هذا من الجرأة على الله ومن الجهل بكتابه.

أقوال العلماء في حكم الاستثناء في الإيمان

أقوال العلماء في حكم الاستثناء في الإيمان الاستثناء في الإيمان أن يقول المرء: أنا مؤمن إن شاء الله، وفيها ثلاثة مذاهب للناس: طرفان ووسط، فمذهب يوجب الاستثناء ويقول: يجب أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومذهب يحرم الاستثناء فيقول: يحرم ولا يجوز أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومذهب متوسط يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار، وهذا القول الوسط هو الصحيح. أما من يوجب الاستثناء في الإيمان فلهم مأخذان: المأخذ الأول: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، وهو غير معلوم للإنسان، والإنسان لا يدري ما يختم له، إذاً: يجب عليه أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وهذا مأخذ الكلابية، واستدلوا بقول الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح:27]، قالوا: يجب على الإنسان أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ووجه ذلك أن الإيمان المعتبر عند الله هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان لا يدري هل يموت على الإيمان أو على غير الإيمان، فيجب عليه أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وتوسعوا في هذا حتى قالوا: إن الله يحب من علم أنه يموت على الإيمان ولو كان كافراً، وإن الله يبغض من يموت على الكفر ولو كان مؤمناً، أي أن الكافر الذي علم الله أنه يموت على الإيمان يحبه الله ولو في وقت كفره، وهذا باطل ليس بصحيح، والذي يطيع الله وقد علم أنه يموت على الكفر، يبغضه الله ولو كان مطيعاً، فيقولون: إن إبليس لما كان مطيعاً مع الملائكة كان مبغوضاً لله وعدواً لله؛ لأن الله يعلم أنه يموت على الكفر، والكافر الذي عاش في زمن كفره كافراً، لكن الله علم أنه سيختم له بالإيمان يحبه الله في زمن كفره؛ لأن العبرة بما يموت عليه الإنسان، وهذا ليس بصحيح بل هو باطل؛ فالمؤمن المطيع يحبه الله في حال طاعته، فإذا عصى صار مبغوضاً من الله. والمأخذ الثاني: قالوا: الإيمان مطلق يتضمن فعل الأوامر وترك النواهي، وهذا من تزكية النفس، ولأنه لو جوز للإنسان أن يشهد لنفسه بالإيمان لجوز له أن يشهد لنفسه بالجنة، ولا يجوز للإنسان أن يشهد لنفسه ولا لغيره بالجنة، إلا لمن شهدت له النصوص، فلو جاز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن بإطلاق لجاز له أن يقول: أنا في الجنة، والثاني ممتنع فيكون الأول ممتنعاً، وهذا هو مأخذ كثير من السلف. أما من يحرم الاستثناء في الإيمان ويقول: لا تقل: أنا مؤمن إن شاء الله، فهم كل من يجعل الإيمان شيئاً واحداً من المرجئة وغيرهم، فالمرجئة يقولون: لا تقل: أنا مؤمن إن شاء الله، ويقولون: إن من قال: أنا مؤمن إن شاء الله فقد شك في إيمانه، ويسمون أهل السنة والجماعة الشكاكة. فأنت تعلم أنك مؤمن كما تعلم أنك قرأت الفاتحة، فأنت إذا قرأت الفاتحة هل تقول: أنا قرأت الفاتحة إن شاء الله؟! لا تقول ذلك، فكذلك لا تقول: أنا مؤمن إن شاء الله إن كنت تعلم من نفسك أنك مؤمن وأنك مصدق؛ لأن الإيمان شيء واحد، ولا يشك الإنسان في الموجود، وإنما يشك في الشيء الذي لم يحدث، أما الإيمان الذي حصل في قلبك فكيف تشك فيه؟ لكن قال لهم جمهور أهل السنة والجماعة والصحابة والتابعين: إن الاستثناء يجوز في حالات، فيجوز في الاعتبار ولا يجوز في الإنكار، وهذا هو الصحيح، فالذي يقول: أنا مؤمن إن شاء الله إن قصد الشك في أصل إيمانه فهذا ممنوع، وإن قصد أن واجبات الإيمان متعددة، وأنه لا يجزم الإنسان بأنه قد أدى ما أوجب الله عليه وترك ما حرم الله عليه؛ لأنه محل نقص وتقصير، ولا يزكي نفسه؛ فلا بأس بأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وكذلك -أيضاً- إذا استثنى وقال: أنا مؤمن إن شاء الله وقصد عدم علمه بالعاقبة وأن العاقبة لا يعلمها إلا الله، فلا بأس بذلك، وكذلك إذا قصد التبرك بذكر اسم الله جاز له أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، والدليل على جواز الاستثناء قول الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27]، مع أنه معلوم دخولهم، ومع ذلك استثنى الله، وفي الحديث الذي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم فيه الزائر إلى القبر قال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، ففي هذا استثنى مع أنه يجزم بأنه سيلحق الموتى، فلما قال: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)؟ دل على الجواز، وكذلك -أيضاً- قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم له)، ومع أنه يجزم بأنه هو أتقى الناس وأخشى الناس، إلا أنه استثنى فقال: (أرجو) فدل على الجواز. فالخلاصة في هذا أن من الناس من يوجب الاستثناء، وهذا مذهب طوائف من الكلابية، ويقولون: يجب على الإنسان أن يستثني؛ لأن الإنسان لا يعلم بما يموت عليه، والعبرة بما يموت عليه، وقد توسعوا في الاستثناء وزاد بعضهم حتى صاروا يستثنون في الأشياء الواضحة التي لا استثناء فيها، فيقول بعضهم: صليت إن شاء الله، توضأت إن شاء الله، ونقول: هذا لا يستثنى فيه، فأنت صليت وتوضأت، فلا إشكال، إلا إن قصد القبول عند الله، وقد غالى بعضهم حتى كان يقول في الجمادات: هذا حبل إن شاء الله، هذا دلو إن شاء الله، هذا كتاب إن شاء الله! فإذا سئل: لماذا تقول إن شاء الله؟ قال: لو شاء الله أن يغيره لغيره، فهذا غلو. وطائفة تمنع وتحرم الاستثناء، وهم المرجئة، وأما أهل الحق فيقولون: يجوز الاستثناء باعتبار ويمتنع بالاعتبار، فالحالة التي لا يجوز الاستثناء فيها إذا قصد الشك في أصل إيمانه، والحالات التي يجوز الاستثناء ثلاث حالات: الحالة الأولى: إذا أردت أن الاستثناء راجع إلى تزكية النفس وإلى تعدد الأعمال الواجبة في الإيمان، وهي فعل الواجبات وترك المحرمات، وأنك لا تجزم بأنك أديت ما عليك ولا تزكي نفسك، فتستثني. الحالة الثانية: إذا قصدت عدم علمك بالعاقبة وأن العاقبة لا يعلمها إلا الله، فتستثني وتقول: أنا مؤمن إن شاء الله. الحالة الثالثة: أن تقصد التبرك بذكر اسم الله، فتقول: أنا مؤمن إن شاء الله، نسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح والثبات على دينه حتى الممات.

الأسئلة

الأسئلة

الإسلام والإيمان بين الترادف والتباين

الإسلام والإيمان بين الترادف والتباين Q أرجو بيان معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هناك قولان متطرفان: قول من يقول: الإسلام مجرد كلمة والأعمال الظاهرة ليست داخلة في مسمى الإيمان، وقول من يقول: مسمى الإسلام والإيمان واحد؟ A بعض الناس يقول: الإسلام مجرد الكلمة، يعني النطق بالشهادتين، وهذا مروي عن الزهري، وهو أنه قال: الإسلام هو الكلمة والإيمان العمل، وليس مقصوده أنه لا يجب إلا الشهادتان. والقول الثاني: أن الإسلام والإيمان مترادفان، وهذا مروي عن بعض أهل السنة، وهو مذهب الخوارج والمعتزلة، ومذهب الإمام البخاري في صحيحه. والقول الثالث: قول جمهور أهل السنة، وهو الصواب، وهو أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، فإذا أطلق الإسلام وحده دخل فيه الإيمان وإذا أطلق الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة، كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام ففسره بأركان الإسلام الخمسة، ولما سأله عن الإيمان فسره بأركان الإيمان الباطنة الستة، وهذا هو الراجح من الأقوال، وسيأتي -إن شاء الله- بيانه بالتفصيل.

بيان ما حكاه الشافعي من إجماع الصحابة والتابعين على أن الإيمان قول وعمل ونية

بيان ما حكاه الشافعي من إجماع الصحابة والتابعين على أن الإيمان قول وعمل ونية Q يفسر بعض نابتة العصر ممن تكلم في الإجماع الذي حكاه الإمام الشافعي رحمه الله وهو قوله: كان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر، وقد نقله عنه شيخ الإسلام في كتابه الإيمان، فمرة يقولون عن هذا: إنه غير صحيح، ومرة يقولون: (لا يجزئ) أي: لا يكون كاملاً، ومرة يقولون: العمل المراد في كلام الشافعي عمل القلب، ويقولون: إن الإيمان الذي لابد منه الاعتقاد والقول، أما العمل ففرع، فلو عاش الإنسان دهره كله تاركاً للفرائض، فلا صلاة ولا صوم ولا زكاة ولا حج، وفاعلاً لما يستطيع من زنا وشرب وخمر وارتكاب الفواحش خلا الشرك، فإنه مؤمن معرض للوعيد مادام أنه يعتقد ويقول بلسانه، فآمل شرح قول الشافعي وتوضيحه؟ A كلام الشافعي واضح في نقله الإجماع عن الصحابة والتابعين والأئمة أن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، وما نقله الإمام أبو عبيد من الآثار والنصوص من كتاب الله وسنة رسوله وأقوال العلماء وأقوال السلف وأقوال الصحابة واضح، ولكن طريقة أهل الزيغ -والعياذ بالله- التشكيك، فهم يريدون ألا تثبت الآثار والنصوص، فمرة يطعنون في النصوص، ومرة يطعنون في الآثار، ومرة يطعنون في أقوال العلماء، ومرة يطعنون في كتب أهل السنة، حتى إن بعض أهل الزيغ يقول: رسالة الإمام أحمد في الصلاة غير ثابتة، ورسالته في الرد على الزنادقة غير ثابتة، وما روي عن فلان عن فلان في كذا ليس بثابت، فهم لا يريدون أن تثبت حتى ينطلي زيغهم وانحرافهم على الناس، فتجدهم يشككون في كتب أهل العلم، وفي نسبتها إليهم، وكذلك في أقوال أهل العلم، وفي الإجماع، ويطعنون في الآثار وفي النصوص حتى ينطلي زيغهم وانحرافهم على الناس، وقول الإمام الشافعي رحمه الله واضح، وقد مر بنا كثيرٌ من كلام الإمام أبي عبيد رحمه الله في ذلك، فقد ذكر من النصوص ومن الآثار ومن كلام أهل العلم الكثير، فكيف يطعن فيها كلها؟! هب أنه لم يثبت واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة، فكيف ترد هذه النصوص الكثيرة؟! والنصوص الكثيرة لا يستطيع أحد أن يردها، ولو فرضنا أنه رد النصوص من السنة فكيف يرد نصوص القرآن الواضحة القطعية؟!

حكم القول بعدم حصول الكفر بغير التكذيب والجحود

حكم القول بعدم حصول الكفر بغير التكذيب والجحود Q لا يخفى عليكم ما ابتلي به أهل هذا العصر من تصدر كثير ممن لم ترسخ قدمه في العلم وخوضهم في مسائل الإيمان، وكثير منهم لا يعرف بالدارسة في العقيدة وتلقيها من العلماء الذين عرفوا بذلك، حتى إن بعضهم أخذ يجمع بين المتناقضات، فتجده يقول: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، ثم يقول: لا كفر إلا كفر التكذيب والجحود، وبعضهم يستحوذ على المبتدئين من طلاب العلم بعبارة لـ ابن نصر المروزي قالها في رده على الخوارج والمعتزلة المكفرين لأهل الكبائر، حيث قال: إن الإيمان أصل وهو الاعتقاد والقول، وفرع وهو العمل، وتارك الأصل يكفر، أما تارك الفرع لا يكفر؟ A هذه طريقة أهل الزيغ وأهل الانحراف نسأل الله السلامة والعافية، حيث يشبهون ويأخذون بعض النصوص ويتركون البعض الآخر، ويتأولونها على غير تأويلها حتى تنطلي شبههم على العوام وعلى الجهال وعلى المبتدئين فيظنون أنهم على الحق وهم مبطلون، وهذه سلسلة معروفة من أهل الزيغ والضلال، نسأل الله السلامة والعافية. ولا شك في أن هذا تناقض، فهو يقول: الإيمان قول وعمل واعتقاد، ثم يقول: إن المطلوب أصل الإيمان، والتناقض والاضطراب في أقوالهم واضح؛ لأنهم أهل زيغ لم يقصدوا الحق، نسأل الله السلامة والعافية، أما من قصد الحق فإنه يعمل بالنصوص ويضم بعضها إلى بعض ولا يحرف ولا يؤول تأويلاً باطلاً. وكلام ابن نصر لا إشكال فيه، فهو واضح موافق لأهل السنة والجماعة. وأصل الدين وأساس الملة هو الإيمان بالله ورسوله، والشهادة لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، ولا بد لتحقيق الإيمان من عمل، وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون، فمن ادعى أنه مؤمن وأنه موحد فلا بد لهذه الدعوى من دليل يثبتها، وهو العمل، وأما مجرد النطق باللسان ففاعله لا فرق بينه وبين إيمان إبليس وفرعون.

كفر تارك الصلاة

كفر تارك الصلاة Q بعض الناس يكفر تارك الصلاة، فهل هذا الحكم صحيح؟ A الحكم بكفر تارك الصلاة معروف عند أهل السنة والجماعة.

حكم الحاكم بغير ما أنزل الله

حكم الحاكم بغير ما أنزل الله Q جاء في رسالة الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب معنى الطاغوت ورءوسه وأنواعه، وقال فيها: الثاني منها: الحاكم الجائر المغير لأحكام الله تعالى، والدليل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60]. الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، ثم قال في آخر الرسالة: واعلم أن الإنسان لا يصير مؤمناً بالله إلا بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، فما الفرق بين النوعين؟ A كلام الشيخ رحمه الله واضح في أنه يجب على المسلم أن يلتزم بشرع الله ودينه، وأن يتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الحاكم الجائر المغير لشرع الله والمبدل لدينه من أوله إلى آخره قد قلب الدين رأساً على عقب، وقد ذكر العلماء -كالحافظ ابن كثير والشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في رسالة تحكيم القوانين- أن من غير أحكام الشريعة كلها رأساً على عقب بلا استثناء فقد بدل الدين, وهو مبدل لدين الله عز وجل، وأما من حكم في بعض المسائل أو في بعض الجزئيات بالهوى -أما لرشوة أو لمال أو لرغبة أو لرهبة، أو لأجل أن ينفع المحكوم له أو يضر المحكوم عليه- فهذا كفره إنما يكون كفراً أصغر؛ لأنه يعلم أنه على الباطل، ويعلم أنه مبطل، ولكن غلبه الهوى فحكم بغير ما أنزل الله طاعة للهوى والشيطان. أما من اعتقد أنه يجوز له أن يحكم بغير ما أنزل الله فهذا كافر كفراً أكبر؛ لأنه استحل أمراً معلوماً من الدين بالضرورة بطلانه، وهو الحكم بغير ما أنزل الله، فهو أمر محرم مجمع على تحريمه, فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله فقد كفر، ولكن من حكم ببعض المسائل أو ببعض الجزئيات طاعة للهوى والشيطان وهو يعلم أنه مبطل وعاصٍ مستحق للعقوبة فكفره كفر أصغر، وليس كفراً أكبر، والمسألة فيها تفصيل معروف لأهل العلم في كتبهم، والتفصيل يحتاج إلى وقت طويل.

حكم إلزام الناس بغير أحكام الشريعة

حكم إلزام الناس بغير أحكام الشريعة Q بعض الحكام يحكمون بغير ما أنزل الله، ويلزمون الناس بهذه الأحكام، وينشئون المحاكم الوضعية ويحرمون عليهم ويمنعونهم من التحاكم إلى شرع الله، فما حكم من فعل هذا؟ A هذه المسائل كلها تحتاج إلى تفصيل، ولا يستطيع الإنسان أن يجيب عنها بجواب مجمل، ولا بد من أن تدرس كل قضية منها من جميع نواحيها، وينظر في الحامل للشخص على هذا، وينظر في صنعه هذا هل هو في قضية أو في قضايا، وما الذي حمله على الإلزام. وأما تبديل الدين فهذا كفر، ومن حكم في طاعة الهوى والشيطان في بعض المسائل فإن كفره يكون كفراً أصغر.

حكم القتال على محاربة الشرع والحكم بغيره

حكم القتال على محاربة الشرع والحكم بغيره Q إذا قاتل المرء في محاربة الشرع والحكم بغير الشرع، فما حكمه؟ A من قاتل وهو يعلم ذلك ولا شبهة له فهو محارب لله ولرسوله وللمؤمنين ولمن يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، ولمن يتحاكم إلى شرع الله ودينه، فهذا لا شك في أنه كافر، وهو عدو لله، نسأل الله العافية.

بيان منزلة العمل من الإيمان

بيان منزلة العمل من الإيمان Q ما حكم من يقول: دعوى أن الإيمان يستلزم العمل دعوى لا أصل لها، وهل هذا هو قول المرجئة أم لا؟ A نعم هذا هو قول المرجئة، فهم يقولون: إن الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضى الإيمان ومن لوازم الإيمان، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: العمل جزء من الإيمان، لا ثمرة له؛ لأن الثمرة خارجة عن الشيء، وكذلك اللازم غير الملزوم، والثمرة غير الشيء، وكذلك من قال: إنه شرط كمال، أو شرط صحة، إذ الشرط غير المشروط وخارج عنه، فمن قال: إن الأعمال شرط كمال أو شرط صحة أو ثمرة الإيمان أو مقتضى الإيمان أو لازم الإيمان فقوله مثل قول المرجئة؛ لأن اللازم غير الملزوم، والثمرة غير الشيء، والشرط غير المشروط، والمقتضى غير المقتضي.

الكفر الظاهر وصلته بالباطن

الكفر الظاهر وصلته بالباطن Q ما حكم من يقول: إن عقيدة أهل السنة في التكفير مبنية على إثبات التلازم بين الباطن والظاهر، فكل من كفر كفراً عملياً أكبر مخرجاً عن الملة؛ فإن هذا الكفر يدل على الكفر الاعتقادي، كما ذكر ذلك الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في أعلام السنة المنشورة، وهو أن كفر الظاهر متلازم مع كفر الباطن، فهل هذا القول صحيح أم لا؟ A لا يلزم ذلك، وقد يقال: إن هذا قول المرجئة، فقد يسب شخص الله ورسوله بسبب خصومة بينه وبين شخص آخر وهو لا يعتقد ذلك بقلبه فيكفر بهذا السب والعياذ بالله، ولو خاصم شخص شخصاً ثم سب الدين وهو لا يعتقد ذلك فإنه يكفر أيضاً، فالأول ليس عنده عقيدة سب الله ورسوله أو الاستهزاء بالله ورسوله، ولكنه يكفر بذلك، والدليل على هذا أن جماعة من الناس في غزوة تبوك سبوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء بأنهم يأكلون كثيراً ويكذبون، وهم جبناء عند اللقاء، فقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء، فنزلت الآية الكريمة: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فأثبت لهم الكفر بعد الإيمان بهذه المقالة، فقد يكفر الإنسان ولو لم يعتقد ذلك بقلبه، فلو أن شخصاً مزق المصحف استهانة به أو داسه بقدمه متعمداً أو لطخه بالنجاسة كفر، وساب الله ورسوله يكفر، وإذا استهزأ بالله أو بكاتبه أو برسوله فإنه يكفر، وإذا سجد لصنم وقال: إنما وضعت رأسي أمامه فإنه يكفر، ولهذا ناقشهم ابن القيم رحمه الله وقال: إن مشايخ الصوفية يطلبون من أتباعهم أن يسجدوا أو يركعوا لهم إذا جاءوا، فإذا قيل لهم: كيف تسجدون لغير الله؟! قالوا: إن هذا إنما هو وضع الرأس أمام الشيخ احتراماً له وتواضعاً، فقال ابن القيم: ولو سميتموه ما سميتموه، فإن من سجد للصنم فقد وضع رأسه للصنم احتراماً له وتواضعاً، فالمقصود أنه لا يوجد تلازم بين العمل وبين القلب، وإنما المرجئة هم الذين يقولون: إن السجود للصنم ليس بكفر، ولكنه دليل على ما في القلب من الكفر، وسب الله أو سب الرسول ليس كفراً، وإنما هو دليل على ما في القلب، ودليل على الكفر، والسجود للصنم ليس كفراً بذاته، لكنه دليل على الكفر. والصواب أن نفس السب كفر ونفس السجود للصنم كفر، فالتلازم وربط الكفر بالقلب مذهب المرجئة، فإنهم يقولون: إنه لا يكفر بالعمل بل لا بد من التلازم بينه وبين القلب. والصواب أن الكفر بالقلب بالاعتقاد، ويكون بالقول باللسان، ويكون بالعمل، كالسجود للصنم، ويكون بالإعراض والترك والرفض لدين الإسلام، فلا يتعلمه ولا يعمل به، فإذا رفض دين ورفض أن يعبد الله كفر بهذا الرفض والترك. قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]، وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22] فالرفض والترك والإعراض عن دين الله بعدم تعلمه وعدم العمل به كفر ولو لم يعتقد ذلك بقلبه، ولا يلزم أن يعتقد ذلك بقلبه، فمجرد الرفض والإعراض عن دين الله كفر وردة، والسجود للصنم كفر وردة ولو لم يعتقد ذلك بقلبه، وسب الله أوالرسول كفر وردة، ولو لم يعتقد ذلك بقلبه. فالسب كفر مستقل، واعتقاده بالقلب كفر مستقل، فاعتقاد الكفر كفر مستقل، وعمل الكفر كفر مستقل، وقوله الكفر باللسان كفر مستقل، والإعرض عن دين الله والرفض والترك له كفر مستقل.

حكم هجر أصحاب البدع

حكم هجر أصحاب البدع Q ما حكم السلام على أهل البدع وأصحاب المذاهب والفرق الضالة؟ A أهل البدع لا يسلم عليهم، بل يهجرون إذا كانوا مظهرين لبدعتهم، فقد كان السلف يهجرونهم ولا يسلمون عليهم ولا يكلمونهم، ومسألة الهجر للعصاة والمبتدعة فيها تفصيل لأهل العلم، والصواب في هذه المسألة هو ما قرره العلماء والمحققون -كشيخ الإسلام ابن تيمية - أن الهجر كالدواء، ويستعمل كالدواء، فإن كان العاصي أو المبتدع إذا هجرته ترك بدعته ومعصيته فاهجره، ولا تكلمه ولا تسلم عليه حتى يترك بدعته، وأما إذا كان الهجر يزيده شراً فلا تهجره، وبعض العصاة يفرح إذا هجرته، فتجده في المرة الأولى يترك بعض الشيء، فإذا كررت هجرته زاد في المعاصي، فهذا لا تهجره، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين هجروا كعب بن مالك وصاحبيه هلال بن أمية ومرارة بن الربيع خمسين ليلة، ولم يهجروا المنافقين؛ لأن هؤلاء الثلاثة مؤمنون، فنفعهم الهجر، وزادهم إيماناً وتقوى وتابوا إلى الله، وأنزل الله توبتهم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118] ولم يهجروا المنافقين الذين تخلفوا نفاقاً، ثم جاءوا وحلفوا أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله. فالهجر كالدواء، فأهل البدع إذا كان الهجر يثنيهم عن بدعهم فإنهم يهجرون، فلا تسلم عليهم ولا تكلمهم ولا تجب دعوتهم، وأما إذا كان الهجر يزيدهم شراً فسلم عليهم وانصحهم.

حكم الغناء

حكم الغناء Q كثير من المنتسبين إلى العلم يجيزون الغناء ويقولون: حتى من حرمه من العلماء فإن الخلاف بيننا وبينهم سائغ، فهل الغناء حرام أم فسق؟ A الغناء فسق، وهو الغناء الذي يلهب النفوس، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6]، جاء في تفسير الآية أن ابن مسعود حلف أن لهو الحديث: الغناء. وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري: (ليكونن في أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) وإن كان الحديث رواه البخاري معلقاً، إلا أن الحديث موصول وثابت، وفي الباب نصوص وأحاديث أخرى، وأحيل السائل إلى إغاثة اللهفان لـ ابن القيم، فإنه ذكر أدلة كثيرة في هذا، ويرجع -أيضاً- إلى كتب التفسير.

تكييف قضاء الفائت من الركعات في الصلاة

تكييف قضاء الفائت من الركعات في الصلاة Q إذا فاتتني ركعة جهرية في صلاة الجماعة أأقضيها جهرية أم سرية؟ A الذي تقضيه هو آخر صلاتك، فإذا فاتتك ركعتان من صلاة العشاء وأدركت ركعتين فإن الذي أدركت مع الإمام هو أول صلاتك، والذي تقضيه هو آخرها، وعلى هذا لا تجهر في الركعتين الأخريين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا). وفي لفظ: (فاقضوا)، وإذا فاتته ركعة من صلاة الفجر جهر بها.

الفرق بين التزكية والتوثيق

الفرق بين التزكية والتوثيق Q ما الفرق بين تزكية العالم للشخص وتوثيقه له؟ A التوثيق عند المحدثين هو القبول لرواية الشخص، فيوثقونه حتى يؤخذ بروايته، وأما التزكية فإن الشخص المزكى يكون حاضراً أمامه، وهذا منهي عنه، فهو يزكيه ولا يريد رواية الحديث، وهذا لا ينبغي، بل يقول: أحسبه والله حسيبه، ولا يذكر ما يترتب عليه، وأما إذا كان يترتب على ذلك رواية الحديث فلا بد من أن يذكر ماله وما عليه، ويذكر ما يتعلق برواية الحديث، وما يتعلق بأمانته وديانته، وأما إذا لم يكن محدثاً فلا يزكيه، بل يقول: أحسبه والله حسيبه، وكذلك إذا كان أمامه؛ لأن هذا قد يحمله على العجب والكبر.

حكم من نطق بالشهادتين وترك العمل

حكم من نطق بالشهادتين وترك العمل Q إذا نطق رجل بالشهادتين ولم يعمل أي عمل فهل هو مسلم أم كافر؟ A هذا فيه تفصيل، فإذا نطق بالشهادتين ثم توفي والله يعلم من قلبه أنه ملتزم فهذا يكفيه، وهذا هو الواجب عليه عند الله؛ لأنه لم يتمكن من العمل، فقد مات قبل أن يأتي وقت الصلاة. وأما من نطق بالشهادتين ثم رفض العمل -كأن جاء وقت الصلاة وتركها- فالصواب أنه يكفر إذا تركها حتى خرج الوقت متعمداً وليس له عذر. وإن نطق بالشهادتين، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم دخل وقت الصلاة فقيل له: صل، فقال: الصلاة غير واجبة فقد كفر بجحوده ونقض توحيده، وإن قال إنها واجبة، ولكن لن أصلي، وترك حتى خرج الوقت وليس له عذر فالصواب أنه يكفر كفراً أكبر، وقال بعض المتأخرين من الفقهاء: إنه يكفر كفراً أصغر، والصواب الذي تدل عليه النصوص أنه يكفر كفراً أكبر؛ لما ثبت في صحيح البخاري من حديث بريدة بن الحصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، والذي يحبط عمله هو الكافر.

العمل عند أهل السنة والخوارج

العمل عند أهل السنة والخوارج Q أرجو التوضيح الدقيق بين الأعمال عند أهل السنة والأعمال عند الخوارج؟ A الخوارج يرون أن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، لكن يقولون: إذا ترك واجباً أو فعل كبيرة ذهب الإيمان كله؛ لأن الإيمان لا يتجزأ، فهم يقولون: الإيمان يشمل الأعمال كلها كما يقول أهل السنة من أن الإيمان قول وتصديق وعمل، ولكن إذا ترك واجباً أو فعل كبيرة ذهب الإيمان كله، وأما أهل السنة فإنهم يقولون: الإيمان هو التصديق والأعمال، وإذا ترك واجباً أو فعل كبيرة فلا يكفر، ولا يذهب الإيمان، بل يضعف الإيمان وينقص.

لزوم الإيمان للمقر بما جاء من عند الله

لزوم الإيمان للمقر بما جاء من عند الله Q هل معنى قول المؤلف: [وأقر بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه لا بالاستكمال عند الله] هل معناه أن الشخص إذا أقر بهذا الدين كله لكنه ترك بعض الأعمال يبقى مؤمناً؟ A إذا أقر والتزم بذلك فقد لزمه الدخول في كل الإيمان، ولكنه لا يستكمل الإيمان حتى يؤدي الواجبات وينتهي عن المحرمات، هذا هو المراد، فالمراد أنه يطلق عليه اسم الإيمان، ولكن لا يطلق عليه الإيمان الكامل حتى يؤدي الواجبات وينتهي عن المحرمات، فإن أدى الواجبات وانتهى عن المحرمات فهذا هو المؤمن الكامل الإيمان، وإن قصر في بعض الواجبات وارتكب بعض المحرمات فهذا يطلق عليه أنه ناقص الإيمان، وإن فعل من أمور الردة شيئاً يصير به مرتداً أو كافراً انتقض إيمانه، نعوذ بالله، كما لو سب الله أو سب الرسول أو سجد للصنم أو دعا غير الله أو ذبح لغير الله أو نذر لغير الله، نسأل الله السلامة والعافية.

الأدلة على نقصان الإيمان

الأدلة على نقصان الإيمان Q كل الأدلة التي سمعناها من الكتاب والسنة تدل على زيادة الإيمان، فما هي الأدلة على نقصانه؟ A كل شيء يزيد فهو ينقص، وليس هناك شيء يزيد إلا وهو ينقص، وإذا كان الإيمان يزيد بالطاعة فإنه ينقص بالمعصية, وهذا معروف.

شرط صحة الإيمان وشرط كماله من الأعمال

شرط صحة الإيمان وشرط كماله من الأعمال Q إن الأعمال من الإيمان، وتدخل في مسمى الإيمان، ولكن بعض الأعمال شرط في صحة الإيمان، كالصلاة مثلاً، أو أعمال القلوب كالاعتقادات، وبعض الأعمال شرط في كمال الإيمان، كالزكاة وبر الوالدين، فهل نقول: إذا تركها قل إيمانه، وإذا استكملها كمل إيمانه؟ A نعم، وهذا واضح، فمثلاً: لو شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله لم يصح إيمانه، ولو شهد أن محمداً رسول الله ولم يشهد أن لا إله إلا الله لم يصح إيمانه، وكذلك من صلى بغير وضوء لا تصح صلاته؛ لأن الوضوء شرط في صحة الصلاة، والشهادة لله تعالى بالوحدانية لا تصح إلا بالشهادة لنبيه بالرسالة، والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة لا تصح إلا بالشهادة لله بالوحدانية، وكذلك الصلاة، فالصواب: أنها شرط في صحة الإيمان، لا يصح الإيمان إلا بها، وأما الواجبات الأخرى التي ليست شرطاً فإنه يضعف الإيمان بتركها وينقص.

دخول الأعمال في الإيمان حال ذكره مع الإسلام

دخول الأعمال في الإيمان حال ذكره مع الإسلام Q من المعلوم أن الإسلام والإيمان إذا لم يذكرا جميعاً دخل كل واحد منهما في الآخر، ودل أحدهما على الآخر، فإذا اجتمعا فهل تكون الأعمال من مسمى الإيمان؟ A تكون الأعمال من مسمى الإيمان.

كفر تارك الصلاة

كفر تارك الصلاة Q حديث: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان) وكذلك برة من إيمان، هل يدل على أن من ترك الصلاة يدخل الجنة؟ A الصواب أن من ترك الصلاة لم يبق في قلبه ذرة ولا برة من الإيمان، وإنما ينتهي منه، لأن الإيمان لا ينتهي إلا بالكفر, وترك الصلاة كفر, وأما المعاصي فلو عظمت وكثرت لا تذهب الإيمان، بل تضعفه حتى لا يبقى منه إلا مثقال ذرة أو مثقال شعيرة، ولو كثرت الذنوب، إلا إذا جاء الكفر وقضى على الإيمان فلم يبق منه شيء، وترك الصلاة كفر يقضي على الإيمان، فنعوذ بالله.

كفر الظاهر وصلته بكفر الباطن

كفر الظاهر وصلته بكفر الباطن Q هل من عمل مكفراً لا يُكفر باطناً وإنما يكفر ظاهراً ويوكل باطنه إلى الله؟ A من عمل كفراً وحكم عليه بالكفر كفر باطناً وظاهراً، وحكم عليه بالخلود في النار، ولكن لا بد من إقامة الحجة عليه، فلا يكفر الشخص الذي عمل الكفر حتى تقوم عليه الحجة، ويكون عالماً بهذا الشيء، والمقصود أن من فعل كفراً أكبر حكم عليه بأنه كافر باطناً وظاهراً، والعياذ بالله، وهو مخلد في النار، نسأل الله السلامة والعافية، والنصوص هي التي دلت على هذا، ولا نقول هذا الكلام من عندنا، وإنما هو من كلام الله وكلام رسوله، فمن كفره الله ورسوله فهو كافر كفراً أكبر، ومخلد في النار؛ لأن الله حكم على الكافرين بالخلود في النار، فالله تعالى هو الذي كفرهم وهو الذي حكم عليهم بالخلود.

شهادة أن لا إله إلا الله أول الإيمان وأعلاه

شهادة أن لا إله إلا الله أول الإيمان وأعلاه Q شهادة أن لا إله إلا الله أول الإيمان وأعلاه، فهل علو الشهادة مرتبط بتحقيقها، أم أن علوها مطلق بمجرد أدائها مع الصدق فيها؟ وما دامت الأعمال التي هي دونها تزيد المؤمن إيماناً أكثر منها فكيف تكون الأعلى؟ وكذلك الأدنى من الشعب هل هو مرتبط بالعمل -أي: أدنى العمل- أم بالإيمان؟ A الأعلى هو الأفضل، يعني: أفضله، ويدل على ذلك اللفظ الآخر (أفضلها) فهي أفضلها وأوجبها وأهمهما، فهي أول الإيمان، وهي أفضل الإيمان، وهي أوجب الإيمان، ولا معارضة ولا تنافي في ذلك، ولا بد من الإخلاص عند النطق بها، فلو قالها بلسانه وهو لا يعتقد معناها بقلبه لا تنفعه.

أنواع الكفر

أنواع الكفر Q ما صحة القول بأن الكفر كفران: كفر اعتقادي يخرج من الملة, وكفر عملي ينقسم إلى نوعين: كفر عملي ينبني على كفر اعتقادي، مثل السجود للصنم، فهو كفر عملي في ذاته وينبئ عن كفر اعتقادي، وكفر عملي مجرد عن الكفر الاعتقادي، مثل الطعن في الأنساب؟ A لا يصح هذا الكلام، وإنما الكفر كفران: كفر اعتقادي وكفر عملي، فالكفر الاعتقادي يخرج من الملة، مثل من كذب الله أو كذب الرسول، أو أبغض الله أو أبغض رسوله، أو أبغض شيئاً مما جاء به الرسول، أو سر بضعف الإسلام والمسلمين، أو بضعف دين الرسول، أو كره انتصار المسلمين وعلو الإسلام وظهوره، فهذا كفر اعتقادي صاحبه من أهل الدرك الأسفل في النار، فنعوذ بالله. والكفر العملي ينقسم إلى قسمين: قسم ينافي الإيمان بالكلية، كما لو كان شركاً في العبادة أو ناقضاً من نواقض الإسلام, مثل السجود للصنم, ومثل تعلم السحر وتعليمه، ومثل سب الله وسب الرسول، وكفر عملي لا يخرج من الملة، وهو الذي لا يكون شركاً في العبادة ولا ناقضاً من نواقض الإسلام، وإنما هو معصية، كما جاء في الحديث: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) فهذا النفاق الأصغر، ومثله الكفر، كما في الحديث: (ثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت) فهذا كفر أصغر ومعصية، ومثل قوله: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما) ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) فهذه الأعمال كلها كفر أصغر، وهي معاص؛ لأنها ليست شركاً في العبادة ولا نواقض من نواقض الإسلام.

[7]

شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [7] مما يعتقده أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ودلائل ذلك كثيرة في الكتاب والسنة، وقد خالف في ذلك المرجئة والقائلون بحصول الإيمان بتصديق القلب فحسب، وردوا ما أخبر الله تعالى به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم.

زيادة الإيمان ودلائلها

زيادة الإيمان ودلائلها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب الزيادة في الإيمان والانتقاص منه: قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال: قال معاذ بن جبل لرجل: اجلس بنا نؤمن ساعة. يعني: نذكر الله. وبهذا القول كان يأخذ سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس، يرون أعمال البر جميعاً من الازدياد في الإسلام؛ لأنها كلها عندهم منه وحجتهم في ذلك: ما وصف الله به المؤمنين في خمسة مواضع من كتابه، منها قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، وقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} [المدثر:31] وقوله: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، وموضعان آخران قد ذكرناهما في الباب الأول، فاتبع أهل السنة هذه الآيات وتأولوها أن الزيادات هي الأعمال الزاكية]. هذا الباب ذكر فيه المؤلف رحمه الله النصوص والآثار التي تدل على زيادة الإيمان ونقصانه، وعلق عليها بما يدل على وضوحها وصراحتها في زيادة الإيمان ونقصانه، فقال: [باب الزيادة في الإيمان والانتقاص منه]. ثم ذكر سنده إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: (اجلس بنا نؤمن ساعة) يعني: نذكر الله، ومعنى: (نؤمن) يزداد إيماننا، وإلا فهم مؤمنون، فقوله: (اجلس بنا نؤمن ساعة) يعني: نذكر الله، فإذا ذكروا الله زاد إيمانهم، فالمؤمن إذا عمل الطاعات زاد إيمانه, وإذا عمل المعاصي نقص إيمانه، وكل شيء يزيد فهو ينقص، فالمؤمن إذا ذكر الله وتلا القرآن أو أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر أو دعا إلى الله وصلى وصام وزكى وحج وجاهد في سبيل الله وأحسن إلى الناس وامتنع عن المحرمات طاعة لله ولرسوله؛ فإنه يزيد إيمانه، وإذا فعل المعاصي نقص إيمانه، ولهذا قال معاذ رضي الله عنه لرجل: (اجلس بنا نؤمن ساعة) يعني: نذكر الله فيزداد إيماننا بذكر الله عز وجل. ثم ذكر المؤلف رحمه الله أنه وبهذا القول -أي: القول بزيادة الإيمان ونقصانه- كان يأخذ سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس وغيرهم من أهل العلم، وهذا قول جميع الصحابة التابعين والأئمة والعلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وعامر الشعبي وغيرهم من أهل العلم وأهل الحديث، كلهم يقولون بهذا القول، وهو أن الإيمان يزيد وينقص، فيزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويرون أن أعمال البر جميعاً من زيادة الإسلام، أي: من الزيادة في الإسلام والإيمان؛ لأنها كلها عندهم منه، فأعمال البر من الصلاة والصوم والصدقة والحج وبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الناس وبذل المعروف وكف الأذى والبعد عن المحرمات كلها تسمى براً وتقوى وإيماناً، فهي إيمان وإسلام وبر وتقوى، وبهذا القول كان يأخذ سفيان والأوزاعي ومالك ومن بعدهم، فمثل لكل طبقة بواحد. ثم قال المؤلف رحمه الله: [وحجتهم في ذلك ما وصف الله به المؤمنين في خمسة مواضع من كتابه] يعني: وصفهم بزيادة الإيمان، ومنها قول الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، وقوله عز وجل: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]، فقوله: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} دليل صريح واضح على أن الإيمان يزيد، وقوله عز وجل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] صريح بزيادة الإيمان، وكل شيء يزيد فهو ينقص، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وقول المؤلف رحمه الله: [وموضعان آخران قد ذكرناهما في الباب الأول] هذان الموضعان أحدهما في سورة التوبة، وهو قول الله عز وجل: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124]، والثاني في سورة الأنفال في قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، فهذه خمسة مواضع في كتاب الله عز وجل تدل على زيادة الإيمان. وإذا كان الإيمان يزيد فهو ينقص. قال المؤلف رحمه الله: [فاتبع أهل السنة هذه الآيات وتأولوها أن الزيادات هي الأعمال الزاكية]، فأهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة والعلماء كلهم عملوا بهذه الآيات واتبعوها، وقرروا أن الإيمان يزيد وينقص، خلافاً للمرجئة الذين يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، بل هو شيء واحد، وإيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد، فتأول أهل السنة الزيادة بأنها زيادة الأعمال الزاكية من أعمال البر والتقوى والواجبات والفرائض والمستحبات.

تأويل المرجئة للأدلة التي تدل على زيادة الإيمان

تأويل المرجئة للأدلة التي تدل على زيادة الإيمان قال المؤلف رحمه الله: [وأما الذين رأوا الإيمان قولاً ولا عمل فإنهم ذهبوا في هذه الآيات إلى أربعة أوجه: أحدها: أن قالوا: أصل الإيمان الإقرار بجمل الفرائض، مثل الصلاة والزكاة وغيرها، والزيادة بعد هذه الجمل: هو أن تؤمنوا بأن هذه الصلاة المفروضة هي خمس، وأن الظهر هي أربع ركعات والمغرب ثلاث، وعلى هذا رأوا سائر الفرائض. والوجه الثاني: أن قالوا: أصل الإيمان: الإقرار بما جاء من عند الله، والزيادة تمكن من ذلك الإقرار. والوجه الثالث: أن قالوا: الزيادة في الإيمان: الازدياد من اليقين والوجه الرابع: أن قالوا: إن الإيمان لا يزداد أبداً، ولكن الناس يزدادون منه]. ذكر المؤلف رحمه الله في هذا مذهب المرجئة وتأويلهم لهذه النصوص التي فيها التصريح بزيادة الإيمان، فقال: وأما الذين رأوا الإيمان قولاً ولا عمل -وهم المرجئة- فقد قالوا: إن الإيمان هو قول القلب، وهو التصديق والإقرار. وقولهم: (ولا عمل) يعني: ولا يدخل العمل في مسماه. فقالوا: إن الإيمان هو قول القلب وتصديقه وإقراره بدون عمل، وذهبوا بهذه الآيات إلى أربعة أوجه، أي: تأولوا هذه الآيات الخمس الصريحة في أن الإيمان يزيد على أربعة تأويلات: التأويل الأول: قالوا: أصل الإيمان الإقرار بجمل الفرائض، مثل الصلاة والزكاة وغيرها فقالوا: أصل الإيمان هو: أن يقر المسلم بجمل هذه الفرائض، أي: يؤمن بها إيماناً مجملاً، فيؤمن بأن الله فرض الصلاة، وفرض الزكاة وفرض الصوم وفرض الحج، ثم بعد ذلك جاءت نصوص أخرى تفصل هذه النصوص المجملة، ففصلت الصلاة، بأنها خمس صلوات مفروضة في اليوم والليلة، وبأن صلاة الظهر أربع ركعات، وصلاة العصر أربع ركعات، وصلاة المغرب ثلاث ركعات، إلى آخره. وكذلك أيضاً الزكاة جاءت النصوص بتفصيلها وبيان أنصبتها، واشتراط الحول للأموال، وما يشترط له الحول، وهكذا الصوم جاء تفصيله بأنه صوم شهر رمضان، وبأنه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وهكذا الحج جاء تفصيله بأنه لا يجب في العمر إلا مرة. فتأولوا الزيادة في الإيمان على أن المراد بها تفصيل النصوص المجملة فقالوا: النصوص المجملة جاءت بوجوب الصوم والصلاة والزكاة والحج، فآمن بها المسلمون، ثم جاء تفصيلها بعد ذلك، فالتفصيل هو الزيادة، فتأولوا الزيادة على أنها هذا التفصيل. التأويل الثاني: قالوا: إن أصل الإيمان هو: الإقرار بما جاء من عند الله والتصديق، وأما الزيادة في قوله تعالى: (ليزدادوا إيماناً) فتأولوها على أنها التمكن من ذلك الإقرار, فقالوا: معنى قوله تعالى: (ليزدادوا إيماناً) ليتمكنوا من الإقرار، ويثبت في قلوبهم ويرسخ فعلى هذا يكون الإيمان: التصديق والإقرار. وقوله: ((لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا)) يعني: ليتقوى الإيمان، ويرسخ ويثبت في قلوبهم. التأويل الثالث: تأولوا الزيادة على أنها: الزيادة من اليقين فقوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] يعني: يزدادون يقيناً، فالإيمان واحد والزيادة هنا المراد بها: الازدياد من اليقين، وإلا فالإيمان موجود واليقين حاصل. التأويل الرابع: أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولكن الناس هم الذين يزدادون منه. فهذه تأويلاتهم للنصوص، وسيتعقبها المؤلف رحمه الله ببيان بطلانها.

الرد على تأويل المرجئة

الرد على تأويل المرجئة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكل هذه الأقوال لم أجد لها مصدقاً في تفسير الفقهاء، ولا في كلام العرب فالتفسير ما ذكرناه عن معاذ حين قال: (اجلس بنا نؤمن ساعة)، فيتوهم على مثله أن يكون لم يعرف الصلوات الخمس ومبلغ ركوعها وسجودها إلا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فضله النبي صلى الله عليه وسلم على كثير من أصحابه في العلم بالحلال والحرام، ثم قال: (يتقدم العلماء برتوة). هذا لا يتأوله أحد يعرف معاذاً]. يناقش المؤلف رحمه الله هنا تأويلهم الأول، فيقول: لا يمكن هذا التأويل، فإن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال للرجل: (اجلس بنا نؤمن ساعة) وعلى التأويل الأول سيكون معناه أن معاذاً مقصوده: نزداد من تفصيل النصوص المجملة والفرائض المجملة، فيكون معنى الإيمان: هو الإيمان بوجوب الصلاة ووجوب الزكاة ووجوب الصوم ووجوب الحج والزيادة معناها: معرفة النصوص التي فيها تفصيل، وهو أن الصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن صلاة الفجر ركعتان، وأن صلاة الظهر أربع ركعات، إلى آخره وتفصيل الزكاة، وأنها لا بد لها من النصاب، ولا بد لها من الحول وتفصيل الصوم، وتفصيل الحج فيقول المؤلف هنا: هذا لا يمكن أن ينطبق على معاذ بن جبل رحمه الله ورضي الله عنه عندما قال لصاحبه: (اجلس بنا نؤمن ساعة)؛ لأنه على هذا التأويل يكون المعنى: أن معاذ بن جبل رحمه الله لم يعرف الصلوات الخمس، ولم يعرف ركوعها ولا سجودها ولا عددها إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا لا يمكن أن يقال عن معاذ رحمه الله ورضي عنه، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) وقد فضله النبي صلى الله عليه وسلم على كثير من أصحابه وقال: (يتقدم العلماء برتوة)، يعني: برمية سهم. فهل يقول إنسان: إن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه لم يعرف تفاصيل وجوب الصلاة، ووجوب الصوم، ووجوب الحج، وعدد ركعات الصلاة، وشروط وجوب الزكاة إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟! هذا لا يقوله إنسان فدل هذا على بطلان هذا التأويل. قال المؤلف رحمه الله: [وأما في اللغة فإنا لم نجد المعنى فيه يحتمل تأويلهم وذلك كرجل أقر له رجل بألف درهم له عليه، ثم بينها فقال: مائة منها في جهة كذا، ومائتان في جهة كذا، حتى استوعب الألف، ما كان هذا يسمى زيادة، وإنما يقال له: تلخيص وتفصيل وكذلك لو لم يلخصها ولكنه ردد ذلك الإقرار مرات ما قيل له: زيادة أيضاً، إنما هو تكرير وإعادة؛ لأنه لم يغير المعنى الأول، ولم يزد فيه شيئاً]. وهذا فيه بيان بطلان التأويل الأول من اللغة، فبين أولاً بطلان التأويل الأول في تفسير الفقهاء وأهل العلم، وأنه لا يمكن أن يكون معاذ بن جبل رضي الله عنه لم يعرف تفاصيل الصلاة والزكاة والصوم والحج إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وأما في اللغة فإن هذا التأويل باطل، فلو أن رجلاً أقر لشخص بألف درهم وقال: فلان له علي ألف درهم مجملة، ثم فصلها بعد ذلك وبينها، فقال: مائة منها أعطانيها في بلد كذا، ومائة منها في مكة، ومائتان في المدينة، ومائتان في الرياض، وهكذا حتى استوعب الألف، فإن هذا لا يسمى زيادة في اللغة، وكذلك لو كررها وقال: له علي ألف، له علي ألف، فلا يقال: إن هذا زيادة، وإنما يقال له: تلخيص وتفصيل، فإذا أقر شخص لشخص بأن له عليه ألفاً فقال: له علي ألف، ثم فصلها، وقال: أعطاني مائة في الرياض، ومائة في القصيم، ومائة في الدمام، ومائة في المدينة، فلا يقال: إن هذا زيادة، وإنما يقال: هذا تفصيل وتلخيص وكذلك لو كررها وقال: له علي ألف، له علي ألف. وبهذا يتبين بطلان هذا التأويل عند الفقهاء، وعند أهل اللغة. أي: يتبين بطلان هذا التأويل شرعاً ولغة. قال المؤلف رحمه الله: [فأما الذين قالوا: يزداد من الإيمان، ولا يكون الإيمان هو الزيادة فإنه مذهب غير موجود؛ لأن رجلاً لو وصف ماله فقيل: هو ألف، ثم قيل: إنه ازداد مائة بعدها، ما كان له معنى يفهمه الناس إلا أن يكون المائة هي الزائدة على الألف، وكذلك سائر الأشياء، فالإيمان مثلها، لا يزداد الناس منه شيئاً، إلا كان ذلك الشيء هو الزائد في الإيمان]. هذا أيضاً فيه إبطال لتأويلهم بقولهم: لا يكون الإيمان هو الزيادة، ولكن الناس يزدادون من الإيمان وهذا هو التأويل الرابع، فقد قالوا: إن الإيمان لا يزداد أبداً، ولكن الناس يزدادون منه، فقال المؤلف في الرد عليهم: هذا مذهب غير موجود، وهو مذهب باطل. وبيان ذلك أنه لو أن رجلاً وصف ماله فقيل: هو ألف، ثم قيل: إنه ازداد مائة بعدها، ما كان له معنى يفهم إلا أن تكون المائة هي الزائدة على الألف، وكذلك سائر الأشياء. فكذلك الإيمان مثلها لا يزداد الناس منه شيئاً إلا كان ذلك الشيء هو الزائد في الإيمان. فهذا فيه بطلان للتأويل الرابع في قولهم: إن الإيمان لا يزداد ولكن الناس يزدادون منه فهو يقول: هذا باطل غير معروف وغير مفهوم. وبيان ذلك: أنه لو وصف مال شخص فقيل: مال هذا الشخص ألف، ثم قيل بعد ذلك: زاد ماله مائة، وزاد كذا وكذا، وزاد سيارة، وزاد ألفاً، فلا يقال: إنه لم يزدد هذا الشيء، ولا يقال: إن المال لا يزداد، ولكن هو يزداد منه. لا يمكن أن يقال هذا, بل المال زاد وهو ازداد منه. فكذلك الإيمان لا يزداد الناس شيئاً منه إلا كان ذلك الشيء هو الزائد في الإيمان. فإذا ازداد الناس من الإيمان زاد الإيمان، فقولهم: إن الإيمان لا يزداد، ولكن الناس يزدادون منه باطل وهو تناقض، فكل شيء يزداد منه الإنسان فإنه يزيد. فإذا ازداد من المال زاد المال، وإذا ازداد من الإيمان زاد الإيمان. فقولهم مذهب باطل، وتفريق بين متماثلين, فإنه لا فرق بين قولك: الإيمان يزداد، وقولك: الناس يزدادون من الإيمان؛ لأن الإنسان إذا ازداد من الإيمان زاد الإيمان، مثل المال. قال المؤلف رحمه الله: [وأما الذين جعلوا الزيادة ازدياد اليقين فلا معنى لهم؛ لأن اليقين من الإيمان، فإذا كان الإيمان عندهم كله برمته إنما هو الإقرار ثم استكمله هؤلاء المقرون بإقرارهم أفليس قد أحاطوه باليقين من قولهم؟! فكيف يزداد من شيء قد استقصي وأحيط به؟! أرأيتم رجلاً نظر إلى النهار بالضحى حتى أحاط عليه كله بضوئه، هل كان يستطيع أن يزداد يقيناً بأنه نهار، ولو اجتمع عليه الإنس والجن؟! هذا يستحيل ويخرج مما يعرفه الناس]. وهذا رد على تأويلهم الثالث في قولهم: الزيادة في الإيمان المراد بها: الازدياد من اليقين والمؤلف رحمه الله لم يرتب الأقوال في الرد عليها، وإنما رد عليها بغير ترتيب، وهو هنا الآن يبطل قولهم: إن المراد من الزيادة في الإيمان: الازدياد من اليقين. فيقول: إن هذا باطل؛ لأن اليقين من الإيمان وإذا قيل إن الإنسان يزداد من اليقين فمعناه: أنه يزاد من الإيمان؛ لأن اليقين من الإيمان، فالقول بأن الزيادة في الإيمان ازدياد من اليقين متلازمان، فإذا زاد اليقين زاد الإيمان، وإذا نقص الإيمان نقص اليقين. فقولهم: إنما الزيادة من اليقين لا من الإيمان باطل؛ لأن اليقين من الإيمان. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [وأما الذين جعلوا الزيادة ازدياد اليقين فلا معنى لهم؛ لأن اليقين من الإيمان، فإذا كان الإيمان عندهم كله برمته إنما هو الإقرار عندهم] يعني: المرجئة, إذ عندهم أن الإيمان برمته كامل بالإقرار, والإقرار معناه: التصديق بالقلب. فإذا صدق وآمن وأقر بقلبه فقد كمل الإيمان في قلبه، هذا عند المرجئة. يقول: [فإذا كان معنى الإيمان عندهم كله برمته إنما هو الإقرار ثم استكمله هؤلاء المقرون بإقرارهم، أفليس قد أحاطوه باليقين من قولهم؟!] أي: إذا كان الإيمان وهو التصديق والإقرار كامناً في القلب وقد استكملوه بقلوبهم فقد أحاطوه باليقين من قولهم، فكيف يقال: إن الزيادة إنما هي الزيادة من اليقين لا من الإيمان؟! فما دام أن الإيمان هو الإقرار والتصديق بالقلب، وأنه كامن في القلب، عند المرجئة، فمعناه: أنه كمل اليقين وإذا كمل الإيمان كمل اليقين، وإذا نقص الإيمان نقص اليقين فإذا كان الإيمان كله عند المرجئة إنما هو الإقرار ثم استكمله هؤلاء المقرون بإقرارهم فقد أحاطوه باليقين، فكيف يزداد من شيء قد استقصي وأحيط به؟! وكيف يزداد من شيء قد كمل في قلب صاحبه؟! فعند المرجئة الإيمان كامل في القلب بمجرد الإقرار والتصديق. فكيف يئولون الآيات ويقولون: معناها الازدياد من اليقين؟ ثم ضرب لهذا مثلاً فقال: [أرأيتم رجلاً نظر إلى النهار بالضحى حتى أحاط عليه كله بضوئه، هل كان يستطيع أن يزداد يقيناً بأنه نهار؟!] أي: إذا نظر إنسان إلى النهار بالضحى فإنه يقال: إن هذا الشخص قد أحاط بالنهار وبضوئه، فهل يستطيع أن يزداد يقيناً بأنه نهار، أم أن اليقين كامل في نفسه؟ فلا يقال: إنه ازداد يقيناً بأنه نهار؛ لأن اليقين حاصل له، فلا يحتاج إلى زيادة بعد ذلك. فكذلك قولهم: إن الإيمان كامل في القلب بمجرد الإقرار والتصديق، وتأويلهم الزيادة في الإيمان بأنها زيادة اليقين، فيقال لهم: إن الإيمان كامل في القلب، واليقين كامل، فكيف يزداد من شيء قد كمل؟! ولهذا قال المؤلف: [ولو اجتمع عليه الإنس والجن، هذا يستحيل ويخرج مما يعرفه الناس]، أي: لو اجتمع عليه الإنس والجن وأرادوا أن يزيد يقيناً من النهار وهو في وسط النهار في الصحراء لما استطاعوا أن يزيدوه يقيناً؛ لأن اليقين حاصل له وكامل له.

[8]

شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [8] زعم المرجئة أن الإيمان هو قول اللسان وتصديق القلب دون دخول العمل في مسماه، وبذلك يستوي الناس جميعاً في الإيمان، وما زعموه قول في غاية البطلان؛ إذ إن وصف الإيمان يثبت لجميع المؤمنين أصله، ويحصل التفاوت بينهم في درجاته.

الرد على المرجئة في جعلهم الإيمان حاصلا بالقول والتصديق

الرد على المرجئة في جعلهم الإيمان حاصلاً بالقول والتصديق قال المؤلف رحمه الله: [باب: تسمية الإيمان بالقول دون العمل. قال أبو عبيد: قالت هذه الفرقة: إذا أقر بما جاء من عند الله، وشهد شهادة الحق بلسانه فذلك الإيمان كله؛ لأن الله عز وجل سماهم مؤمنين، وليس ما ذهبوا إليه عندنا قولاً، ولا نراه شيئاً، وذلك من وجهين: أحدهما: ما أعلمتك في الثلث الأول أن الإيمان المفروض في صدر الإسلام لم يكن يومئذ شيئاً إلا إقراراً فقط. وأما الحجة الأخرى: فإنا وجدنا الأمور كلها يستحق الناس بها أسماءها مع ابتدائها والدخول فيها، ثم يفضل فيها بعضهم بعضا، وقد شملهم فيها اسم واحد، من ذلك: أنك تجد القوم صفوفاً بين مستفتح للصلاة وراكع وساجد وقائم وجالس، فكلهم يلزمه اسم المصلي، فيقال لهم: مصلون، وهم مع هذا فيها متفاضلون. وكذلك صناعات الناس، لو أن قوماً ابتنوا حائطاً وكان بعضهم في تأسيسه، وآخر قد نصفه، وثالث قد قارب الفراغ منه قيل لهم جميعاً: بناة، وهم متباينون في بنائهم]. هذا الباب في تسمية الإيمان بالقول دون العمل فقوله: [قالت هذه الفرقة] يعني: المرجئة [إذا أقر بما جاء من عند الله وشهد شهادة الحق بلسانه فذلك الإيمان كله] هذا مذهب المرجئة، وهو أنه إذا أقر بما جاء من عند الله وصدق وأقر واعترف وصدق بقلبه وشهد بلسانه فذلك الإيمان كله. وهو كامل في القلب ولو لم يعمل. وحجتهم أن الله عز وجل سماهم مؤمنين، وقد رد عليهم المؤلف رحمه الله من وجهين: فقال: [وليس لما ذهبوا له عندنا قولاً ولا نراه شيئاً، وذلك من وجهين: أحدهما: ما أعلمتك في الثلث الأول]، يعني: من الكتاب [أن الإيمان المفروض في صدر الإسلام لم يكن يومئذ شيئاً إلا إقراراً فقط] يعني: أن الله سبحانه وتعالى فرض على المسلمين في مكة قبل الهجرة الإيمان والتوحيد فقط, ففرض عليهم الإقرار والتصديق والإيمان وتوحيد الله عز وجل والبعد عن الشرك ولم تفرض الواجبات من صلاة وزكاة وصوم وحج، فأما الصلاة ففرضت لعظم شأنها قبل الهجرة بسنة أو سنتين أو ثلاث وأما الأذان والزكاة والصوم والحج والحدود كلها فما شرعت إلا في المدينة ففي مكة كان الواجب عليهم الإيمان والإقرار وتوحيد الله عز وجل وأما العمل فما شرع إلا بعد الهجرة إلى المدينة، لما ثبت التوحيد ورسخ الإيمان في القلوب وابتعدوا عن الشرك، فبعد ذلك شرعت الأعمال وفرضت الفرائض وشرعت الحدود؛ لأن التوحيد والإيمان هو أصل الدين وأساس الملة، وهو الذي تبنى عليه الأعمال، ولا يصح العمل إلا إذا بني على التوحيد والإيمان فأصل الدين وأساس الملة: الشهادة لله تعالى بالوحدانية، وللنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة, وقد كان هذا هو الواجب على المؤمنين في مكة قبل الهجرة إلى المدينة. وأما الحجة الثانية التي رد بها المؤلف رحمه الله فهي قوله: [فإنا وجدنا الأمور كلها يستحق الناس بها اسماءها مع ابتدائها والدخول فيها, ثم يفضل فيها بعضهم بعضاً، وقد شملهم فيها اسم واحد] يعني أن الإنسان إذا دخل في الشيء استحق هذا الاسم مع الابتداء والدخول فيه، وإن كان الناس يتفاضلون فيه, فإذا أقر المسلم وصدق وآمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيناً ورسولاً فقد دخل في الإسلام وشمله اسم الإيمان ولو أن آخر أقر كذلك ثم عمل أيضاً فصلى وصام وزكى وحج، ثم جاء آخر فزاد على ذلك فأدى النوافل، وفعل المستحبات فكلهم يشملهم اسم الإيمان من حين ابتداء دخولهم فيه، ولكنهم يفضل بعضهم بعضاً ومثل لذلك بأنك تجد القوم صفوفاً في الصلاة، فتجد الأول قد كبر واستفتح الصلاة، وتجد الثاني راكعاً، والثالث ساجداً، والرابع قائماً، والخامس يتشهد، وكلهم يسمون مصلين، وهم متفاوتون، فهذا مصلٍ في أول الصلاة في الركعة الأولى، وهذا مصلٍ في الركعة الثانية، وهذا مصل في الركعة الثالثة، وهذا مصل في الركعة الرابعة فمن حين يكبر الشخص ويدخل في الصلاة يسمى مصلياً وإن كان المصلون يتفاوتون فيها. فكذلك المؤمن إذا دخل في الإيمان سمي مؤمناً, ومن أدى الواجبات وترك المحرمات سمى مؤمناً، ومن زاد فأدى النوافل والمستحبات سمى مؤمناً ولكنهم يتفاضلون في ذلك، فالذي يؤدي الواجبات وينتهي عن المحرمات من المقتصدين, والذي ينشط بعد ذلك فيؤدي المستحبات والنوافل ويبتعد عن المكروهات وفضول المباحات من السابقين الأولين، وهو مؤمن، والمؤمن الذي يقصر في بعض الواجبات ويرتكب بعض المحرمات ظالم لنفسه، وهو مؤمن، وكلهم مؤمنون, فالظالم لنفسه مؤمن، ولكنه مؤمن ناقص الإيمان, والمقتصد الذي أدى الواجبات وانتهى عن المحرمات مؤمن, والسابق للخيرات الذي أدى الواجبات وفعل المستحبات والنوافل وترك المحرمات والمكروهات وفضول المباحات مؤمن أيضاً, وهم متفاوتون فكذلك الناس في الإيمان يتفاوتون, وكذلك في الصناعات يتفاوت الناس فيها وقد مثل المؤلف رحمه الله لذلك بقوله: لو أن قوماً ابتنوا حائطاً وكان بعضهم يؤسس في أصل الحائط، وآخر في طرف الحائط قد بلغ نصفه، والثالث قارب الفراغ منه فكلهم جميعاً يبنون حائطاً واحداً ولكن أولهم يحفر الأساس، والثاني قد وصل إلى نصف الحائط، والثالث قد قارب الفراغ منه، وكلهم يسمون بناة. وهم متباينون في بنائهم. فكذلك المؤمنون كلهم يسمون مؤمنين فهذا دخل في الإسلام من أوله، وهذا أدى الواجبات وترك المحرمات، وهذا فعل المستحبات والنوافل، وكلهم مؤمنون. قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك لو أن قوماً أمروا بدخول دار فدخلها أحدهم فلما تعتب الباب أقام مكانه، وجاوزه الآخر بخطوات، ومضى الثالث إلى وسطها قيل لهم جميعاً: داخلون، وبعضهم فيها أكثر مدخلاً من بعض. فهذا الكلام المعقول عند العرب السائر فيهم فكذلك المذهب في الإيمان إنما هو دخول في الدين، قال الله تبارك وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر:1 - 3]]. وهذا مثال آخر ضربه المؤلف رحمه الله ومثل به, فقال: وكذلك لو أن قوماً أمروا بدخول دار، فلو كان عندك جماعة من الضيوف وقفوا عند الباب فقلت لهم: تفضلوا حياكم الله، فدخل أحدهم، فلما تعتب الباب وجاوز العتبة جلس، وجاوزه الآخر بخطوات وجلس، ومضى الثالث إلى المجلس، قيل لهم جميعاً: داخلون، وبعضهم فيها أكثر مدخلاً من بعض، وهذا كلام معقول عند العرب، فكلهم في الدار. فكذلك الداخلون في الإيمان يتفاوتون؛ ولذلك قال المؤلف: كذلك المذهب في الإيمان إنما هو دخول في الدين قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر:2 - 3] فهم يدخلون في دين الله وهم متفاوتون في إيمانهم. قال المؤلف رحمه الله: [وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] فالسلم: الإسلام وقوله: (كافة) معناها عند العرب: الإحاطة بالشيء]. قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ))، يعني: في الإسلام وقوله: (كافة) معناه: الإحاطة بالشيء، أي: ادخلوا فيه في جميعه فهم يدخلون في الإسلام وهم متفاوتون فيه. قال المؤلف رحمه الله: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) فصارت الخمس كلها هي الملة التي سماها الله سلماً مفروضاً فوجدنا أعمال البر وصناعات الأيدي ودخول المساكن كلها تشهد على اجتماع الاسم، وتفاضل الدرجات فيها]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام). وقول المؤلف: [فصارت الخمس كلها هي الملة التي سماها الله]. يعني: هي الدين الذي سماه الله سلماً مفروضاً. يعني: إسلاماً مفروضاً؛ لأن هذه الأركان هي عمود الإسلام وأساسه التي لا يقوم ولا يستكمل إلا بها, فمن استقام عليها وأداها عن صدق وإخلاص فلا بد من أن يؤدي بقية أعمال وشرائع الإسلام. وقول المؤلف: [فوجدنا أعمال البر وصناعات الأيدي ودخول المساكن كلها تشهد على اجتماع الاسم، وتفاضل الدرجات فيها] يعني: أعمال البر يدخل الناس فيها ويتفاوتون كما سبق، فيتفاوت الناس في صدقاتهم، وكلهم متصدق, فهذا يتصدق بألف، وهذا يتصدق بألفين، وهذا يتصدق بثلاثة آلاف، وهذا بريال، وكلهم متصدقون وكلهم يشملهم اسم المتصدق، ولكنهم يتفاوتون، وكذلك المصلون يتفاوتون، وكذلك المحسنون يتفاوتون, وكذلك يتفاوتون في الصناعات، مع أنهم كلهم يشملهم اسم الصناعة, وكذلك في دخول المساكن ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [فوجدنا أعمال البر وصناعات الأيدي ودخول المساكن كلها تشهد على اجتماع الاسم، وتفاضل الدرجات فيها]. يعني: مع تفاضل الدرجات فيها، وهذه الأدلة إنما هي أدله من جهة النظر والعقل فتضاف إلى الأدلة التي دلت عليها النصوص في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: فقد دلت النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودل النظر الصحيح على أن الإيمان درجات ومنازل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وإن كان المؤمنون كلهم يسمون مؤمنين، إلا أنهم يتفاوتون في هذا الإيمان. قال المؤلف رحمه الله: [فوجدنا أعمال البر وصناعات الأيدي ودخول المساكن كلها تشهد على اجتماع الاسم، وتفاضل الدرجات فيه هذا في التشبيه والنظر مع ما احتججنا به من الكتاب والسنة]. يعني: لقد احتججنا بالنظر والعقل, واحتججنا بنصوص الكتاب والسنة، أي: لقد دلت النصوص من كتاب الله وسنته صلى الله عليه وسلم على أن الإيمان درجات ومنازل، وأن والناس يتفاضلون فيه، وكذلك دل على ذلك العقل والنظر الصحيح. قال المؤلف رحمه الله: [فهكذا الإيمان هو درجات ومنازل، وإن كان سمى أهله اسماً

بيان تناقض القائل بأن الإيمان قول دون العمل

بيان تناقض القائل بأن الإيمان قول دون العمل قال المؤلف رحمه الله: [وزعم من خالفنا أن القول دون العمل، فهذا عندنا متناقض؛ لأنه إذا جعله قولاً فقد أقر أنه عمل، وهو لا يدري بما أعلمتك من العلة الموهومة عند العرب في تسمية أفعال الجوارح عملاً]. قوله: [وزعم مخالفنا] أي: المرجئة [أن الإيمان هو القول دون العمل]. ويقصدون بالقول: قول القلب وإقراره وتصديقه, أي: زعمت المرجئة أن الإيمان: هو تصديق القلب وإقراره، وأن العمل لا يدخل في مسماه. يقول المؤلف رحمه الله: هذا متناقض؛ لأنه إذا جعله قولاً فقد أقر أنه عمل؛ لأن قول القلب وإقراره وتصديقه عمل من أعمال القلب، وذلك لأن العرب تسمي أفعال الجوارح عملاً، وبه استدل المؤلف رحمه الله على تسمية قول اللسان عملاً، فيقول: إن المرجئة متناقضون بقولهم: إن الإيمان هو القول دون العمل؛ لأن القول الذي هو التصديق والإقرار هو عمل للقلب وقول اللسان ونطقه عمل وقد جاءت النصوص بتسمية النطق باللسان عملاً, وكذلك العرب تسمي أفعال الجوارح عملاً، فأفعال الجوارح تسمى عملاً، وقول اللسان يسمى عملاً وإقرار القلب وتصديقه يسمى عملاً.

الأدلة على أن ذكر القلب وإقراره يسمى عملا

الأدلة على أن ذكر القلب وإقراره يسمى عملاً قال المؤلف رحمه الله: [وتصديقه في تأويل الكتاب في عمل القلب واللسان قول الله في القلب: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، وقال: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، وقال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وهي القلب) وإذا كان القلب مطمئناً مرة، ويصغي أخرى، ويوجل ثالثة، ثم يكون منه الصلاح والفساد فأي عمل أكثر من هذا؟]. هذه النصوص استدل بها المؤلف رحمه الله على تسمية عمل القلب عملاً فطمأنينة القلب تسمى عملاً، وكونه يصغي ويوجل وكونه يصلح ويفسد كل هذه أعمال ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [وتصديقه في تأويل الكتاب في عمل القلب قول الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]] فوصف القلب بأنه يطمئن وهذا عمل وقال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] ووجل القلب عمل للقلب. وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله) والمؤلف روى الحديث بالمعنى ونصه: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فنسب الصلاح والفساد إلى القلب. فدل على أن القلب له أعمال, فيوصف بأنه مطمئن، وبأنه يصغي، وبأنه يوجل، وبأنه يصلح، وبأنه يفسد, فأي عمل أكثر من هذا؟! قال المؤلف رحمه الله: [ثم بين ما ذكرنا قوله: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8] فهذا ما في عمل القلب]. فقوله تعالى: ((وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ)) يعني: في قلوبهم أي: يقولون سراً في قلوبهم وقد ينطقون به بألسنتهم قال تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8]، فسماه قولاً وهو عمل القلب وجاء في تفسير هذه الآية، ((ويقولون في أنفسهم)) يعني: يقولون سراً بألسنتهم.

الأدلة على أن قول اللسان يسمى عملا

الأدلة على أن قول اللسان يسمى عملاً قال المؤلف رحمه الله: [وأما عمل اللسان فقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:108]، فذكر القول ثم سماه عملاً ثم قال: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41] هل كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم إلا دعاؤه إياهم إلى الله، وردهم عليه قوله بالتكذيب وقد أسماها هاهنا عملاً؟! وقال في موضع ثالث: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:51 - 52] إلى {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، فهل يكون التصديق إلا بالقول وقد جعل صاحبها هاهنا عاملاً؟! ثم قال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13] فأكثر ما يعرف الناس من الشكر أنه الحمد والثناء باللسان، وإن كانت المكافأة قد تدعى شكراً]. هذا فيه احتجاج على تسمية قول اللسان عملاً، وقد احتج عليهم المؤلف بأربع حجج: الحجة الأولى: قول الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:108] فقوله: ((إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)) فيه أن عملهم هو تبييتهم قولاً لا يرضاه الله، فسماه الله عملاً بقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:108] يعني: من هذا القول الذي بيتوه، فسماه عملاًً فدل على أن قول اللسان يسمى عملاً. قال المؤلف: فذكر القول ثم سماه عملاً. الحجة الثانية: قول الله تعالى في سورة يونس: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41] فسمى قول النبي صلى الله عليه وسلم عملاً وقد كان عمل الرسول عليه الصلاة والسلام هو دعوتهم إلى الله وتبليغهم رسالة الله بلسانه، وإنذارهم وتخويفهم، فسماه عملاً في قوله: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} [يونس:41] وهم ردوا على النبي صلى الله عليه وسلم قوله بالتكذيب، وسماه الله هنا عملاً فسمى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهم عملاً، وسمى تكذيبهم له بالقول عملاً, فقال: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41]. والحجة الثالثة: قول الله تعالى في سورة الصافات: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:50 - 61]، فهذه الآيات فيها محاورة بين مؤمن وكافر, فهذا المؤمن كان له قرين في الدنيا، فكان هذا القرين يكذب بالبعث, فلما مات صار هذا القرين الكافر في النار وصار المؤمن في الجنة, فكان المؤمن يتحدث مع إخوانه المؤمنين، فتذكر حال قرينه الكافر الذي ينكر البعث، قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50] أي: المؤمنون {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] أي: في الدنيا ينكر البعث، ويقول يخاطب المؤمن: {أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:52 - 53] أي: أتصدق بأنك إذا مت وكنت تراباً وعظاماً سوف تبعث وتجازى وتحاسب؟! فقال بعضهم: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54] يعني: هل نطلع لنرى حاله؟ فاطلعوا وهم في الجنة في أعلى عليين والنار في أسفل سافلين، فاطلع المؤمن على قرينه الكافر فوجده يتقلب في النار في وسط الجحيم، قال تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] ومع البعد العظيم بين الجنة والنار، فإن الجنة في أعلى عليين، والفردوس الأعلى أعلاها، وسقفها عرش الرحمن، والنار في أسفل سافلين، مع ذلك يرى المؤمن الكافر في النار، ويراه يتقلب في وسط الجحيم، والله تعالى قد أعطانا مثالاً لذلك في هذه الدنيا، فالإنسان يشاهد الآن من في المشرق ومن في المغرب على الشاشة التلفزيونية، فالمؤمن يخاطب الكافر مع بعد المسافة ويراه، مع أن المؤمن في الجنة في أعلى عليين والكافر في أسفل سافلين، إلا أن المؤمن ينظر إلى الكافر وهو يتقلب في سواء الجحيم، فقد كشف الله له لينظر إليه ويخاطبه مع بعد المسافة، فيقول المؤمن للكافر الذي يتقلب في وسط الجحيم: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] أي: كدت تظلني؛ لأنك تنكر البعث، {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] ثم يخاطبه ويقول له: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات:58 - 59] أي: أنت تنكر البعث {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات:58 - 59]، ثم قال الله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:60 - 61] وهذا هو الشاهد، فالمحاورة بين المؤمن والكافر قول, وقد سماه الله عملاً فقال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، وهذا هو توجيه المؤلف لهذه الآيات، ولكن قوله تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] يعني: لمثل هذا اليوم العظيم الذي يلاقي الإنسان فيه ربه، ويلقى جزاءه فليعمل العاملون بتوحيد الله وإخلاص الدين له، وأداء الفرائض والانتهاء عن المحارم، والاستقامة على دين الله، والوقوف عند حدوده، فالمؤلف رحمه الله استدل بقوله: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:51 - 52] فاستدل بقوله: (لمن المصدقين) فقال: إن التصديق سماه الله عملاً بقوله: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، فهذا المؤمن صدق بلقاء الله وبالبعث وبالجزاء وبالنشور ووحد الله وسمى الله هذا عملاً بقوله: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] فقال المؤلف: فهل يكون التصديق إلا بالقول وقد جعل صاحبه هاهنا عاملاً؟! الحجة الرابعة: قول الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13] فسمى العمل شكراً، وقوله رحمه الله: [أكثر ما يعرف الناس من الشكر أنه الحمد والثناء باللسان وإن كانت المكافأة قد تدعى شكراً]. فالصواب أن الشكر يكون بالقول ويكون باللسان ويكون بالجوارح, فيكون بالقلب بتعظيم الله وخشيته وإجلاله والاعتراف بنعمه، ويكون باللسان بالتحدث بالنعم وشكر المنعم جل وعلا، ويكون بالجوارح بصرف هذه النعم في طاعة الله، واستعمالها في مراضاته عز وجل. قال المؤلف رحمه الله: [فكل هذا الذي تأولنا إنما هو على ظاهر القرآن، وما وجدنا أهل العلم يتأولونه، والله أعلم بما أراد، إلا أن هذا هو المستفيض في كلام العرب غير المدفوع، فتسميتهم الكلام عملاً، من ذلك أن يقال: لقد عمل فلان اليوم عملاً كثيراً: إذا نطق بحق وأقام الشهادة ونحو هذا، وكذلك إن أسمع رجل صاحبه مكروهاً قيل: قد عمل به الفاقرة، وفعل به الأفاعيل، ونحوه من القول، فسموه عملاً، وهو لم يزده على المنطق، ومنه الحديث المأثور: (من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما ينفعه)]. يقول: كل هذه النصوص التي تأولناها إنما تأولناها لأن القرآن دل عليها، يعني: ظاهر القرآن يدل عليها، ووجدنا -أيضاً- أهل العلم يتأولونها بهذا التأويل، ويفسرونها بهذا التفسير، فالنصوص قد دلت على تفسير القول بالعمل، وكذلك كلام أهل العلم، وهذا هو المستفيض أيضاً في كلام العرب, ولا يوجد ما يدفع أنهم يسمون الكلام عملاً. ومن ذلك في لغة العرب أنه يقال: لقد عمل فلان اليوم عملاً كثيراً: إذا نطق بحق وأقام الشهادة ونحو ذلك, فإذا نطق الإنسان بالحق وأقام الشهادة وأداها قيل: قد عمل اليوم عملاً كثيراً، مع أنه نطق بلسانه بالشهادة وبالحق، وقال الحق وتكلم به، فسموا هذا عملاً، فيقولون: لقد عمل فلاناً اليوم عملاً, وكذلك إذا أسمع رجل صاحبه كلاماً سيئاً يكرهه تقول العرب: قد عمل به الفاقرة، وفعل به الأفاعيل، وهو إنما تكلم بكلام سيئ، فسموه عملاً، وهو لم يزد على النطق. هذا معنى كلام المؤلف رحمه الله؛ فتسمية الكلام عملاً دل عليها النصوص،

[9]

شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [9] الإرجاء في الأعمال وإخراجها من مسمى الإيمان إما أن يكون مع اعتقاد وجوبها من أدلة أخرى، وإما أن يكون مع اعتقاد أن أصل التصديق كافٍ في النجاة من دون عمل، والأول هو مذهب مرجئة الفقهاء، والثاني هو مذهب الجهمية.

حكم من جعل الإيمان المعرفة بالقلب فقط

حكم من جعل الإيمان المعرفة بالقلب فقط قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: من جعل الإيمان المعرفة بالقلب وإن لم يكن عمل. قال أبو عبيد: قد ذكرنا ما كان من مفارقة القوم إيانا في أن العمل من الإيمان، على أنهم وإن كانوا لنا مفارقين، فإنهم ذهبوا إلى مذهب قد يقع الغلَط في مثله، ثم حدثت فرقة ثالثة شذت عن الطائفتين جميعاً، ليست من أهل العلم ولا الدين، فقالوا: الإيمان معرفة بالقلوب لله وحده، وإن لم يكن هناك قول ولا عمل، وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية؛ لمعارضته لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالرد والتكذيب]. عقد المؤلف رحمه الله هذا الباب للرد على الجهمية، وهم المرجئة المحضة الغلاة الذين يقولون: إن الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، والكفر هو جهل الرب بالقلب، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن عند الجهم بن صفوان، ولا يكون كافراً ولو فعل جميع المنكرات والكبائر وأنواع الردة، ولو هدم المساجد وقتل الأنبياء والمصلحين فلا يكون كافراً إلا إذا جهل ربه بقلبه، فأفسد وما قيل في حد الإيمان وتعريفه هو قول الجهمية. قوله: (قد ذكرنا ما كان من مفارقة القوم إيانا) المراد بهم مرجئة الفقهاء: أبو حنيفة وأصحابه، فأهل السنة يقولون: العمل من الإيمان، ومرجئة الفقهاء يقولون: العمل ليس من الإيمان. قوله: (على أنهم وإن كانوا مفارقين لنا) أي: مخالفين لنا ومذهبهم مذهب باطل إلا أن هذا المذهب قد يقع الغلط في مثله، فقد يكون صاحبه له شبهة تجعله يغلط، لكن المصيبة أن فرقة حدثت وشذت عن الطائفتين جميعاً، وهي الجهمية المرجئة المحضة الغلاة، فهذه الطائفة شذت الطائفتين، شذت عن مذهب أهل السنة والجماعة، وشذت عن مذهب مرجئة الفقهاء أيضاً، فمرجئة الفقهاء يقولون: العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، لكن يقولون: العمل مطلوب، فالواجبات واجبات، والمحرمات محرمات، ومن فعل الواجبات عن إخلاص ومتابعة فإنه يستحق الثواب والمدح، ومن فعل الكبائر ورد في حقه الوعيد الشديد، ويقام عليه الحد إذا كان على المعصية حد، وإن كان هذا القول غلطاً إلا أنه أهون بكثير من مذهب الجهمية والمرجئة المحضة، فهؤلاء ليسوا من أهل العلم والدين؛ لأنهم قالوا: الإيمان معرفة القلوب بالله وحده فقط، وإن لم يكن هناك قول ولا عمل، فهذا هو الإيمان عند الجهم. فعندهم أن من صدق بقلبه فهو مؤمن كامل الإيمان ويدخل الجنة من أول وهلة، ولو لم يفعل شيئاً من الواجبات، ولو ارتكب جميع المحرمات والكبائر. قوله: (وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية)، الملل: جمع مفرده الملة. قوله: (لمعارضته كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بالرد والتكذيب) يعني: هذا انسلاخ من الدين بالكلية وإبطال للشرائع، وإبطال للكتب المنزلة، وإبطال لما جاءت به الرسل، فهو مذهب باطل لمخالفته لما جاء به المرسلون وما أنزل الله به الكتب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ألا تسمع قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة:136] فجعل القول فرضاً حتماً، كما جعل معرفته فرضاً، ولم يرض بأن يقول: اعرفوني بقلوبكم، ثم أوجب مع الإقرار الإيمان بالكتب والرسل كإيجاب الإيمان، ولم يجعل لأحد إيماناً إلا بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136]، وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجعل الله معرفتهم به إذ تركوا الشهادة له بألسنتهم إيماناً، ثم سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) في أشياء كثيرة من هذا لا تحصى]. هذا فيه مناقشة من المؤلف رحمه الله للجهمية والمرجئة المحضة الذين يقولون: إن الواجب الإيمان فقط دون القول والعمل، قال: (ألا تسمع قوله سبحانه: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة:136] فقوله: (قولوا) هذا أمر، والأمر للوجوب. قوله: (فجعل القول فرضاً حتماً) يعني: فكما أن معرفة الله والإيمان به وتصديقه بالقلب فرض حتم، فكذلك القول والنطق باللسان هو فرض حتم، ولابد من أن ينطق المسلم بالشهادتين ويشهد لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ولم يكتف الله تعالى بالمعرفة، ولهذا قال المؤلف: (ولم يرض بأن يقول: اعرفوني بقلوبكم) بل قال: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136]، فدل على بطلان مذهب الجهمية الذين يقولون: القول غير واجب، وأنه تكفي المعرفة. قوله: (ثم أوجب مع الإقرار الإيمان بالكتب والرسل كإيجاب الإيمان) قال عز وجل: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:136] إلى آخر الآية، فالله تعالى أوجب القول وأوجب الإيمان بالكتب والرسل ولم يكتف بالتصديق. قوله: (ولم يجعل لأحد إيماناً إلا بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136]) فدل على بطلان هذا المذهب الفاسد وفساده، وهو مذهب الجهم القائل بأن الإيمان مجرد المعرفة؛ لأن الله تعالى لم يجعل لأحد إيماناً إلا بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136]، ثم قال: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136]، وكذلك -أيضاً- نفى الإيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في مسائل النزاع، فقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، ولم يثبت الإيمان لأهل الكتاب مع كونهم يعرفون بقلوبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله، ويعرفون صدقه وصفته، فقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، ثم قال: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]، فأهل الكتاب يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم بقلوبهم ولم تنفعهم هذه المعرفة؛ لأنهم لم يظهروا ذلك ولم يصدقوا، فدل على أن المعرفة لا تكفي، ولهذا علق المؤلف رحمه الله على هذه النصوص فقال: (فلم يجعل الله معرفتهم به إذ تركوا الشهادة له بألسنتهم إيماناً) أي: لم يجعل الله معرفة اليهود بالله إيماناً حين تركوا الشهادة له بألسنتهم. قال: (ثم سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)) ولم يكتف بالمعرفة بالقلب، فدل على بطلان هذا المذهب وفساده. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وزعمت هذه الفرقة أن الله رضي عنهم بالمعرفة، ولو كان أمر الله ودينه على ما يقول هؤلاء ما عرف الإسلام من الجاهلية، ولا فرقت الملل بعضها من بعض؛ إذ كان يرضى منهم بالدعوى على قلوبهم غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة، والبراءة مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بالألسنة بعد القلوب، ولو كان هذا يكون مؤمناً، ثم شهد رجل بلسانه أن الله ثاني اثنين كما يقول المجوس والزنادقة، أو ثالث ثلاثة كقول النصارى، وصلى للصليب، وعبد النيران بعد أن يكون قلبه على المعرفة بالله، لكان يلزم قائل هذه المقالة أن يجعله مؤمناً مستكملاً الإيمان كإيمان الملائكة والنبيين، فهل يلفظ بهذا أحد يعرف الله أو مؤمن له بكتاب أو رسول؟ وهذا عندنا كفر لن يبلغه إبليس فمن دونه من الكفار قط]. هذا بيان من المؤلف رحمه الله لمفاسد مذهب الجهمية الذين يزعمون أن الإيمان معرفة الرب بالقلب فقط. قوله: (وزعمت هذه الفرقة أن الله رضي منهم بالمعرفة) يعني أنهم زعموا أن الله اكتفى بهذا الإيمان. قوله: (ولو كان أمر الله ودينه على ما يقول هؤلاء ما عرف الإسلام من الجاهلية، ولا فرقت الملل بعضها من بعض) أي: لو كان الإيمان مجرد المعرفة لما عرف الإسلام من الجاهلية؛ لأن الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، فكل يعرف ربه بقلبه ولو كان يهودياً، ويعرف ربه بقلبه ولو كان نصرانياً، ويعرف ربه بقلبه ولو كان وثنياً، ويعرف ربه بقلبه ولو كان من أهل الجاهلية، فعلى هذا المذهب لا يعرف الإسلام من الجاهلية، ولا يعرف الفرق بين ملة اليهودية وملة النصرانية وملة الوثنية. قوله: (إذ كان يرضى منهم بالدعوى على قلوبهم، غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة والبراءة مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بالألسنة بعد القلوب) يعني: لو كان الإيمان هو مجرد المعرفة لرضي منهم بالدعوى على قلوبهم، ولكنه سبحانه وتعالى لا يرضى من المؤمن إيمانه إلا إذا أقر بما جاءت به الأنبياء عليهم السلام، وتبرأ مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بقلبه ولسانه؛ لأن الله لا يرضى من المؤمن حتى يوحد الله ويخلص له العبادة ويتبرأ من الشرك قليله وكثيره، ويؤمن بالله ورسوله ويتبرأ من الأنداد والآلهة. قوله: (ولو كان هذا يكون مؤمناً) يعني: بمعرفته بقلبه، (ثم شهد رجل بلسانه أن الله ثاني اثنين كما يقول المجوس والزنادقة، أو ثالث ثلاثة كقول النص

الأسئلة

الأسئلة

حكم إعذار عوام أهل الأهواء والبدع بالجهل

حكم إعذار عوام أهل الأهواء والبدع بالجهل Q هل يعذر عوام الصوفية وعباد القبور وعوام الروافض بالجهل؟ A أظن أن العوام في العصر الحاضر قد بلغتهم الدعوة، فمن بلغتهم الدعوة وبلغتهم الحجة وبلغهم القرآن والسنة فلا يعذرون، إنما الذي يعذر في هذا من لم تبلغه الحجة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقد بعث الرسول، وقال سبحانه: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، فمن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)، فمن قامت عليه الحجة وبلغه الدليل لا يكون معذوراً، ولا يشترط فهم الحجة، بل يكفي بلوغ الحجة، أن يعرف أن هذا دليل على هذا الشيء، لكن قال بعض أهل العلم: إنه لو وجد بعض الناس ممن اشتبه عليه الأمر ولبس عليه الحق ولم يعرف الحق بسبب تغطية الحق عليه وسيطرة أهل الضلال وأهل الشرك عليه، حتى أفهموه أن هذا الباطل هو الحق، فإنه يكون حكمه حكم أهل الفترة، ويكون أمره إلى الله عز وجل، ولكنه إذا مات على هذه الحالة، لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين في مقابرهم ولا يدعى له وعلى كل حال فإن من بلغته الدعوة وبلغه القرآن وبلغته السنة، وعلم أن هذا الأمر محرم لا يكون معذوراً، والآن بلغت دعوة الإسلام مشارق الأرض ومغاربها، لكن كون بعض المشركين يصم أذنه عن سماع الحق ولا يقبل الحق ويرد الحق ليس عذراً له، فيجب على الإنسان أن يتعرف على الحق ويطلب الحق ويسأل عن الحق ويسأل عن دينه، فكما أنه يسعى في أمور دنياه في كسبه ومعاشه وبيعه وشرائه، كذلك يجب عليه أن يتعلم دينه، وأن يسأل عما أشكل عليه، وأن يبحث عن الحق، وإذا كان لا يعرف الحق فهو معذور، وإذا كان يستطيع أن يعرف الحق ويستطيع أن يسأل فلم يسأل فلا يكون معذوراً.

كيفية التعامل مع الرافضي

كيفية التعامل مع الرافضي Q كيف تكون معاملة الرافضي؟ A إذا كان لا يظهر معتقده الفاسد ويظهر الإسلام، فإنه يعامل معاملة المسلمين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تكثر الزندقة في الروافض. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل المنافقين معاملة المسلمين، فإذا كان هذا الشخص يظهر الإسلام ولا يظهر معتقده وكفره وضلاله فيعامل معاملة المسلمين، فإذا أظهر كفره ونفاقه فإن الإنسان يتبرأ منه، ولا يتخذه صديقاً ولا معاشراً، وتكون معاملته له من جهة العمل للضرورة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل المنافقين معاملة المسلمين، كـ عبد الله بن أبي وغيره من المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والنفاق.

حكم من قال: إن العمل شرط كمال في الإيمان وحكم متابعته

حكم من قال: إن العمل شرط كمال في الإيمان وحكم متابعته Q يعتبر العلامة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله ممن جدد علم الحديث ونشر السنة، وكان شوكة في حلوق أهل البدع، ولكنه -رحمه الله- أخطأ وغلط في مسألة الإيمان، حيث وافق المرجئة حينما قال: إن العمل شرط كمال وليس ركنه جزءاً من أجزاء الإيمان، فهل من قال هذا الكلام صحيح؟ وهل يتابع الشيخ، ويقال: إنه حجتي عند الله؛ فإن طلاب الشيخ إذا ناقشناهم قالوا هذا الكلام، وزعموا أن الشيخ أعرف بمذهب السلف؟ A الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله محدث، وله اليد الطولى في الحديث، فقد خدم السنة خدمة عظيمة، نسأل الله أن يغفر له ويرحمه، لكنه ليس بمعصوم، فإذا كان قال: إن العمل خارج من مسمى الإيمان فقد وافق أبا حنيفة وأصحابه، وأبو حنيفة إمام من الأئمة، وسبق أن الخلاف بينه وبين أهل السنة خلاف لفظي لا يترتب عليه فساد في العقيدة، إنما الخلاف الذي يترتب عليه فساد في العقيدة خلاف الجهمية المرجئة المحضة، أما مرجئة الفقهاء فإنهم من أهل السنة وإن كانوا خالفوا في هذه المسألة، وهم من أهل العلم والدين كما قال المؤلف أبو عبيد رحمه الله، ولكنهم غلطوا وأخطئوا في أمر يكون فيه اشتباه، لكن المصيبة في مذهب الجهمية. فالمقصود أن الشيخ الألباني ومن هو أكبر منه غلط في هذا، ومن غلط يترحم عليه ويدعى له بالمغفرة، ولا يتبع في الغلط، وكل إمام من الإئمة يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي. ويقول: إذا قلت قولاً يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا بقول رسول الله واضربوا بقولي عرض الحائط، قال هذا أبو حنيفة والشافعي وأحمد ومالك، وكلهم يغلطون وكلهم يخطئون، وليس هناك أحد لا يخطئ، فإذا غلط العالم أو الكبير فإنه يترحم عليه ويدعى له ويلتمس له العذر، والخطأ مردود عليه ولا يتبع فيه، وإنما يتبع القول الصواب والقول الصحيح الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والحق أحق أن يتبع، ويجب على طلابه -إذا كان الشيخ قد قال هذا الكلام- ألا يتبعوه في هذا، وأن يقبلوا الحق، والسلف والأئمة العلماء كانوا يرجعون عن الخطأ، فهذا عمر بن الخطاب الخليفة الراشد رضي الله عنه جاءه الإخوة الأشقاء في مسألة المشتركة، وهي: زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء، فقسم الميراث على ما في كتاب الله، وأعطى الزوج النصف والأم السدس، والباقي للإخوة للأم، ولم يعط الإخوة الأشقاء شيئاً، ثم حدثت هذه المسألة بعد مدة نحو سنتين، فجاءوا فأشرك الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم، فقالوا له: يا أمير المؤمنين! إنك قضيت فيما مضى ولم تشرك الإخوة، فقال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي. أي: تبين له الحق فرجع إليه، والإمام أحمد رحمه الله قد يكون له في المسألة سبع روايات، حيث يتبين له الحق فيقول بهذا القول، والإمام الشافعي له قولان: قول جديد وقول قديم، قول قديم في العراق، والقول الجديد في مصر، ومازال العلماء يرجعون عن الخطأ وعن القول الذي يتبين لهم أنه خطأ في الفروع وفي الأصول، وليس هناك أحد معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو معصوم فيما يبلغ عن الله، ومعصوم من الشرك ومن الكبائر، أما غيره فليس هناك أحد معصوم، لا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ولا من هو أكبر منه. وكان الصحابة يرد بعضهم على بعض، وقد يغلطون في بعض المسائل، فهذه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدة نساء أهل الجنة غلطت، وذلك حين جاءت إلى أبي بكر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: أعطني ميراثي من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نحن -معاشر الأنبياء- لا نورث، ما تركناه صدقة)، وروى هذا الحديث عدد من الصحابة، ولكنها لم تقنع رضي الله عنها، وولت وهجرت أبا بكر حتى توفيت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، فهي غلطت، والصواب مع أبي بكر، وليست معصومة وهي سيدة نساء أهل الجنة، وعائشة رضي الله عنها لما حصل الخلاف بين علي رضي الله عنه والخلاف بينه وبين معاوية جاءت ومعها طلحة والزبير تطالب بدم عثمان، وخطب عمار بن ياسر الناس وقال: (إنها أم المؤمنين أمكم، وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وإن الله ابتلاكم بها)، فهي غلطت وأخطأت، والحق مع علي رضي الله عنه، فليس هناك أحد لا يغلط ولا يخطئ، فإذا غلط الشيخ ناصر الدين الألباني في هذه المسألة أو غلط من هو أكبر منه فالحجة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه الصحابة والتابعون والأئمة.

حقيقة نزاع المرجئة لأهل السنة في الإيمان

حقيقة نزاع المرجئة لأهل السنة في الإيمان Q ما معنى قول شيخ الإسلام: فإن المرجئة لا تنازع في أن الإيمان الذي في القلب يدعو إلى فعل الطاعة ويقتضي ذلك، والطاعة من ثمراته ونتائجه، لكنها تنازع هل يستلزم الطاعة؟ A يعني أن المرجئة لا ينازعون في أن التصديق الذي في القلب يقتضي العمل ويدعو إلى العمل، لكنهم ينازعون في كون العمل جزءاً من الإيمان.

موقف الألباني من إرجاء الفقهاء

موقف الألباني من إرجاء الفقهاء Q من قال: إن الألباني يخرج العمل عن مسمى الإيمان فقد افترى على الشيخ؛ لأنه ذكر في كتابه: (الذب عن مسند الإمام أحمد) أنه يبرأ إلى الله من كل من ينسب إليه هذا القول، وقال: إنه قال بخلافه، أي أن العمل من مسمى الإيمان، فما قولكم في هذا؟ A نحن لا نقول: إنه قال بهذا أو ما قال بهذا، فإذا ثبت أنه قال: إن العمل ليس من الإيمان فقد غلط، وإن ثبت أنه قال: إن العمل من الإيمان فقد أصاب، ولا يهمنا الشخص، بل يهمنا الحق، فندور مع الحق حيث دار، وعندنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نعمل بهما، سواء قال به فلان أو لم يقل به فلان، فالحق لا يعرف بالرجال، وإنما الرجال يعرفون بالحق والواجب على المسلم اتباع الحق واتباع الدليل، سواء قال به الشيخ الألباني أو لم يقل به، أو قال به غيره ممن هو أكبر منه، فإذا كان لم يقل بهذا فالحمد لله، وهذا هو الذي نريد، وإن كان قال: إن العمل ليس من الإيمان فقد غلط، ونسأل الله لنا وله المغفرة والرحمة.

التلازم بين الظاهر والباطن في أعمال الكفر

التلازم بين الظاهر والباطن في أعمال الكفر Q جاء عن شيخ الإسلام قوله في مجموع الفتاوى: فكيف يقال: يلزم من السجود لشيء عبادته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لعظم حقه عليها)، ومعلوم أنه لم يقل: لو كنت آمراً أحداً أن يعبد. وقال في موضع آخر: أما الخضوع والقنوت بالقلوب والاعتراف بالربوبية والعبودية فهذا لا يكون على الإطلاق إلا لله سبحانه وتعالى وحده، وهو في غيره ممتنع باطل، وأما السجود فشريعة من الشرائع، إذ أمرنا الله أن نسجد له، ولو أمرنا أن نسجد لأحد من خلقه غيره لسجدنا لذلك الغير طاعة لله عز وجل، وإذا أحب أن نعظم من سجدنا له ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب البته فعله، فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له وقربة يتقربون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم، وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام. وقال في موضوع آخر في الصارم المسلول: إن من سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل. ألا يمكن من هذين النصين أن نستفيد أن التلازم بين الظاهر والباطن فيه تفصيل، فمرة يكون التلازم لازماً إذا كانت الدلالة قطعية تدل على التلازم في الساب لله والرسول، ولا يلزم هذا التلازم إذا لم يكن هناك دليل، كمن حال دون كفره شبهة أو تأويل؟ A مقتضى كلامه أن عمل القلب والظاهر قد يكون فيه تلازم وقد لا يكون فيه تلازم، لكن المرجئة يقولون: لابد من التلازم في كل شيء، ويفهم من كلام الشيخ رحمه الله أن الإقرار لله بالربوبية والقنوت لا يكون إلا لله، أما السجود فهو يختلف باختلاف الشرائع، ففي شريعة آدم لما خلق الله آدم أمر الملائكة فسجدوا له، والسجود عبادة لله، وفيه تكريم لآدم، والسجود في شريعة يوسف عليه السلام تحية وليس عبادة، وفي شريعتنا صار عبادة، وهكذا. يختلف باختلاف الشرائع. فالمقصود أن هناك فرقاً، لكن في شريعتنا إذا سجد شخص لغير الله فإنه يكون مشركاً؛ لأن الله حرم هذا، وهذه الشريعة أكمل الشرائع. فالمؤلف رحمه الله يفرق ويقول: إن الإقرار بالربوبية والقنوت والخضوع لا يكون إلا لله، في كل وقت وفي كل زمان وفي كل شريعة، أما السجود فيكون في بعض الشرائع تحية، وفي بعض الشرائع يكون عبادة، ففي شريعة يوسف لم يكن عبادة، وإنما كان تحية وإكراماً، وحينما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم كان عبادة لله وتكريماً لآدم، وفي شريعتنا الكاملة صار السجود عبادة. أما التلازم بين القلب والظاهر فلا يلزم التلازم، والمرجئة يقولون: يلزم التلازم، فعندهم لا يكون كافراً بالعمل إلا إذا اعتقد بالقلب، ونقول: هذا باطل؛ لأنه قد يكون هناك تلازم في بعض الأعمال وقد لا يكون هناك تلازم، فقول المرجئة: إن السجود للصنم لا يكون كفراً إلا إذا اعتقد بقلبه، ولا يكون كفراً إذا سب الله ورسوله إلا إذا اعتقد بقلبه، قول باطل، ولهذا نقل المؤلف رحمه الله أن من سب الله وسب رسوله فهو كافر، سواء اعتقد بقلبه أو لم يعتقد بقلبه، وقال: إن هذا هو قول الفقهاء قاطبة.

حكم القبور في المساجد

حكم القبور في المساجد Q من المعلوم أنه لا يجوز الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، ولكن المسجد النبوي يوجد فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فما رأيكم في هذا؟ A ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك) وهذا النهي يقتضي الفساد، ولهذا أقر أهل العلم بأنه لا تصح الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، وأنه إذا وجد قبر في مسجد ينظر فإن كان المسجد هو السابق فإنه ينبش القبر ويوضع في القبور، وإن كان القبر هو السابق هدم المسجد وبني في مكان آخر، فلا يجوز دفن الأموات في القبور، ولا يجوز بناء المساجد على القبور، وإذا نظرنا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنه لا ينطبق عليه هذا ولا هذا؛ لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن على القبر، ولم يدفن النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم دفن في بيته والبيت خارج المسجد، ولكن لما أراد الوليد بن عبد الملك في آخر القرن الأول أن يوسع المسجد وسع المسجد وأدخل البيت كله وفيه ثلاثة قبور: قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر صاحبيه أبي بكر وعمر، فهذا غلط من الوليد بن عبد الملك، فكون الوليد بن عبد الملك غلط وأدخل في التوسعة البيت كله في المسجد لا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن في المسجد، وبهذا يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مدفوناً في المسجد، ولا أن مسجده مبني على القبر.

وجه القول بأن الإيمان عمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح

وجه القول بأن الإيمان عمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح Q هل يستقيم المعنى لو قلنا: إن الإيمان هو عمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح، فعمل القلب اعتقاده، وعمل اللسان نطقه وإقراره، وعمل الجوارح الأداء؟ A هذا قاله الإمام أبو عبيد، واستدل على أن قول اللسان يسمى عملاً، وقال: إن اعتقاد القلب يسمى عملاً، وقول اللسان يسمى عملاً، وأعمال الجوارح تسمى عملاً، استدل على هذا باللغة وبالنصوص.

زيادة اليقين بزيادة الإيمان

زيادة اليقين بزيادة الإيمان Q هل اليقين يزيد كما يزيد الإيمان؟ A إذا زاد اليقين زاد الإيمان، فاليقين من الإيمان، فزيادة اليقين زيادة في الإيمان، فقوله: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] يعني: ليزداد إيماني. أما المرجئة فيقولون في قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} [الفتح:4] أي: ليزدادوا يقيناً، لكن المؤلف رحمه الله رد عليهم بقوله: اليقين من الإيمان، فإذا زاد اليقين زاد الإيمان، وإذا نقص اليقين نقص الإيمان؛ لأن اليقين من الإيمان.

معنى قول أبي عبيد: (قد أحاطوه باليقين من قولهم)

معنى قول أبي عبيد: (قد أحاطوه باليقين من قولهم) Q لم يتبين لي قول المؤلف: (قد أحاطوه باليقين من قولهم) فعلى ماذا يعود الضمير في (أحاطوه)؟ A ( قد أحاطوه) يعني: استكمل الإيمان واليقين في قلوبهم؛ لأن اليقين من الإيمان، فإذا كانوا أحاطوه في اليقين من قلوبهم فكيف يزدادون يقيناً وقد كمل وأحيط به. وقوله: (من قولهم) يعني: قولهم: إن الإيمان هو الإقرار.

سبب ذهاب المرجئة إلى القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه

سبب ذهاب المرجئة إلى القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه Q لماذا ذهب المرجئة إلى القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه، وهل يلزم من القول بزيادة الإيمان ونقصانه أن تدخل الأعمال في مسمى الإيمان؟ A نعم؛ لأن الإيمان هو التصديق، والتصديق شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، لكن لو كان معه عمل لزاد ونقص بزيادة العمل ونقصه، أما مجرد التصديق فهو شيء واحد لا يزيد ولا ينقص.

الفرق بين زواج المتعة وزواج المسيار

الفرق بين زواج المتعة وزواج المسيار Q ما حكم من تزوج متعة، وما الفرق بينه وبين المسيار، مع أن أغلب أهل العلم في العالم الإسلامي لا يجيزون المسيار، إلا بعض العلماء في المملكة؟ A زواج المتعة محرم بالإجماع، وهو منسوخ بالإجماع، ومن تزوج متعة فإنه زان والعياذ بالله، وهو أن يتزوج امرأة لمدة أسبوع أو شهر أو شهرين، ويكتب ذلك في العقد، أما زواج المسيار فمعناه أن يتزوج امرأة ويشترط عليها أن تسقط شيئاً من حقوقها، فبعض النساء تكون محتاجة إلى أن تجلس مع والديها فتقول: أنا أرضى بك وأتزوجك ولو لم يكن لي ليلة، فمتى رأيت أن تأتي أتيت، فهي أسقطت حقها كما أسقطت سودة أم المؤمنين رضي الله عنها حقها في المبيت، وذلك لما شعرت بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيطلقها، فوهبت ليلتها لـ عائشة، وكذلك لو أن امرأة أسقطت عن زوجها النفقة، أو كانت تنفق عليه؛ لأنها غنية، فالنفقة في الأصل على الرجل، فإذا أسقطت عنه سقطت، فمادام أنه عقد صحيح بولي وشاهدي عدل، وكان برضاها وهو كفء لها، فلا إشكال، فكيف يُشَبَّه بزواج المتعة؟! فهو لا يتزوجها شهراً أو شهرين أو سنة، وإنما يتزوجها زواجاً شرعياً بولي وشاهدي عدل، لكن إذا رجعت عن ذلك رجعت لها ليلتها.

حكم الصلاة في المساجد التي بها مشاهد وهمية

حكم الصلاة في المساجد التي بها مشاهد وهمية Q هناك بعض المساجد فيها مشاهد باسم الأولياء وليس فيها قبر، فهل تجوز الصلاة فيها؟ A نعم، وإذا كانت تعبد ويطاف بها فلا تجوز، ولو كان ما فيها شيئاً موهوماً.

حكم الزواج بنية الطلاق

حكم الزواج بنية الطلاق Q ما حكم الزواج بنية الطلاق؟ A فيه خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من أجازه وقال: إنه قد ينوي ولكن لا ينفذ هذه النية، والنية ليس عليها معول، وإنما المعول على العقد، ومنهم من منعه وقال: إنه لو علم الولي أو علمت الزوجة بنية الطلاق لما قبلت الزواج ولما قبل وليها، فلذلك لا يصح، وليراجع السائل المغني لـ ابن قدامة وغيره من كتب أهل العلم، وأظن أن هناك فتوى للجنة الدائمة أو فتوى لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، والشيخ الدكتور صالح المنصور له رسالة خاصة في الزواج بنية الطلاق.

[10]

شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [10] مخالطة أهل البدع مضرة للدين، ولذا كان السلف يحذرون من مخالطتهم ومجالستهم، ومن أهل البدع الضالة من ينفون الإيمان عن مرتكب الكبيرة، والحق أنه مؤمن ناقص الإيمان فاسق بمعصيته.

تحذير السلف من مجالسة أهل الإرجاء

تحذير السلف من مجالسة أهل الإرجاء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: ذكر ما عابت به العلماء من جعل الإيمان قولاً بلا عمل، وما نهوا عنه من مجالسهم. قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو السيباني قال: قال حذيفة: (إني لأعرف أهل دينين، أهل ذينك الدينين في النار: قوم يقولون: الإيمان قول وإن زنى وإن سرق، وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس؟ وإنما هما صلاتان، قال: فذكر صلاة المغرب أو العشاء وصلاة الفجر) قال: وقال ضمرة بن ربيعة يحدثه عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن حميد المقرائي عن حذيفة قارن حديث حذيفة هذا قد قرن الإرجاء بحجة الصلاة]. عقد المؤلف رحمه الله هذا الباب لبيان الآثار الواردة عن السلف والصحابة والتابعين فمن بعدهم في عيب المرجئة وذمهم والنهي عن مجالستهم، وهم الذين يقولون: إن الإيمان قول بلا عمل، أي: قول القلب وتصديقه وإقراره بلا عمل، وأن أعمال الجوارح وأعمال القلوب لا تدخل في مسمى الإيمان، ثم ذكر أثر حذيفة رضي الله عنه قال: [إني لأعرف أهل دينين أهل ذينك الدينين في النار: قوم يقولون: الإيمان قول وإن زنى وإن سرق]، يعني: المرجئة يقولون: إيمان العاصي كامل مثل إيمان المطيع، سواء بسواء. قوله: [وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس؟ وإنما هما صلاتان. قال: فذكر صلاة المغرب أو العشاء وصلاة الفجر، قال: وقال ضمرة بن ربيعة يحدثه عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن حميد المقرائي عن حذيفة، قارن حديث حذيفة هذا قد قرن الإرجاء بحجة الصلاة] هذا الأثر فيه بعض السقط، لكن كأنه يقول: إن حذيفة رضي الله عنه عقد مقارنة بين المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بالقلب وتصديق بالقلب ولا ينقص الإيمان ولو زنى ولو سرق، وبين من يقول: الصلاة الواجبة صلاتان في اليوم والليلة لا خمس صلوات؛ وإنما هما صلاة المغرب وصلاة الفجر، أو صلاة العشاء وصلاة الفجر فقط، فهذا دليل على ذم المرجئة وعيبهم، وأن مذهبهم مذهب مذموم. فمن أنكر وجوب الصلوات الخمس فإنه يكفر والعياذ بالله، ومن قال: لا يجب في اليوم والليلة إلا صلاتان فقد كفر، ومن قال: إن الإيمان قول والأعمال مطلوبة لا يكفر، لكنه قرن بهؤلاء في الذم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبذلك وصفهم ابن عمر أيضاً. قال أبو عبيد: حدثنا علي بن ثابت الجزري عن ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر قال: (صنفان ليس لهم في الإسلام نصيب: المرجئة، والقدرية)]. هذا -أيضاً- فيه ذم المرجئة، والحديث موقوف على ابن عمر لكنه ضعيف؛ لأن فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ضعيف من جهة حفظه، لكن المرجئة لا شك أن مذهبهم مذموم من جهة أنه خالف النصوص، وكذلك القدرية الذين يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة لهم، ولم يقدرها الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن سلمة بن كهيل قال: اجتمع الضحاك وميسرة وأبو البختري فأجمعوا على أن الشهادة بدعة، والإرجاء بدعة، والبراءة بدعة]. هذا فيه ذم الشهادة والإرجاء والبراءة، وهذا الأثر يقول المحشي فيه: إسناده إلى سلمة بن كهيل صحيح، وهو من صفوة التابعين. فـ أبو البختري والضحاك وميسرة أجمعوا على بدعية هذه الأمور الثلاث: الشهادة والإرجاء والبراء، أي: الشهادة على معين من المسلمين أنه من أهل النار أو أنه كافر بدون العلم بما ختم الله له، ويحتمل أن المراد الشهادة لمؤمن معين بالجنة، إلا لمن شهدت له النصوص، فكون الإنسان يشهد على شخص معين بأنه من أهل النار بدون دليل وبدون علم بما ختم الله به بدعة، أما من علم أن الله ختم له بالنار -كـ أبي جهل وأبي لهب - فإنه يشهد عليه بالنار، ويحتمل أن المراد الشهادة لمؤمن معين بالجنة، وإنما يشهد للمؤمنين بالعموم، فيقال: كل المؤمنين في الجنة، أما فلان بن فلان فلا يشهد له بالجنة، لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيء، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، إلا من شهدت له النصوص، كالعشرة المبشرين بالجنة، والحسن والحسين، وكذلك بلال وابن عمر، وعكاشة بن محصن. فالقول بأن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان بدعة وإرجاء، لكن المرجئة طائفتان: الأولى: المرجئة المحضة، يقولون: الأعمال ليست من الإيمان وليست مطلوبة. والثانية: مرجئة الفقهاء، يقولون: الأعمال مطلوبة ولكنها ليست من الإيمان. قوله: [والبراءة بدعة] لعل المراد بالبراءة البراءة من أبي بكر وعمر كما تقول الروافض، يقولون: لا ولاء إلا بالبراء. أي: لا يتولى أهل البيت إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر، فعندهم لا يتولى المرء علياً إلا إذا تبرأ من أبي بكر وعمر، وهذا باطل، بل أهل السنة يتولون الجميع، يتولون أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وأهل البيت جميعاً، وينزلونهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها بالإنصاف والعدل لا بالهوى والتعصب، فقول الروافض: لا ولاء إلا بالبراء، ولا يتولى أحد أهل البيت ولا يتولى أحد علياً إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر بدعة وباطل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن الزهري قال: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أعز على أهلها من هذا الإرجاء]. هذا فيه ذم الإرجاء؛ لأنه سمي بدعة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن مهدي بن ميمون عن الوليد بن مسلم قال: دخل فلان -قد سماه إسماعيل، ولكن تركت اسمه أنا- على جندب بن عبد الله البجلي فسأله عن آية من القرآن فقال: أحرج عليك إن كنت مسلماً لما قمت، أو قال: أن تجالسني. أو نحو هذا القول]. هذا فيه ذم المرجئة، وأن جندب بن عبد الله الصحابي الجليل لما دخل عليه هذا المرجئ وسأله عن آية قال: أحرج عليك إن كنت مسلماً لما قمت من مجلسي، فنهاه عن مجالسته، وهذا فيه ذم المرجئة وأن العلماء من الصحابة والتابعين يعيبونهم ويذمونهم وينهون عن مجالستهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب قال: قال لي سعيد بن جبير غير سائله ولا ذاكراً له شيئاً: لا تجالس فلاناً، وسماه أيضاً فقال: إنه كان يرى هذا الرأي]. يعني: يرى هذا الرأي الذي هو الإرجاء، فنهى عن مجالسته، وهذا فيه دليل على أن العلماء ينهون عن مجالسة المرجئة ويذمونهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحديث في مجانبة الأهواء كثير، ولكنا إنما قصدنا في كتابنا لهؤلاء خاصة]. يعني: الأحاديث والآثار في النهي عن مجالسة أهل البدع وذمهم كثيرة، لكن المقصود في كتابنا هذا النهي عن مجالسة المرجئة خاصة، أما النهي عن بقية أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل البدع فالنصوص والآثار عن الصحابة والتابعين كثيرة في ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعلى مثل هذا القول كان سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس ومن بعدهم من أرباب العلم وأهل السنة، الذين كانوا مصابيح الأرض وأئمة العلم في دهرهم من أهل العراق والحجاز والشام وغيرها، زارين على أهل البدع كلها، ويرون الإيمان قولاً وعملاً]. يعني أن الأئمة والعلماء من الصحابة والتابعين كلهم كانوا يذمون أهل البدع وينهون عن مجالستهم ويعيبونهم، منهم سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس من أهل العلم وأرباب العلم من أهل السنة الذين هم مصابيح الأرض وأئمة العلم من أهل العراق والحجاز، فهؤلاء كلهم ينهون عن مجالسة أهل البدع ويذمونهم، ويرون أن الإيمان قول وعمل خلافاً للمرجئة الذين يرون أن الإيمان قول بلا عمل.

الخروج من الإيمان بالمعاصي وما ورد فيه

الخروج من الإيمان بالمعاصي وما ورد فيه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: الخروج من الإيمان بالمعاصي. قال أبو عبيد: أما هذا الذي فيه ذكر الذنوب والجرائم؛ فإن الآثار جاءت بالتغليظ على أربعة أنواع: فاثنان منها فيها نفي الإيمان والبراءة من النبي صلى الله عليه وسلم، والآخران فيها تسمية الكفر وذكر الشرك، وكل نوع من هذه الأربعة تجمع أحاديث ذوات عدة]. عقد المؤلف رحمه الله هذا الباب لبيان النصوص التي فيها أن أصحاب المعاصي يخرجون من الإيمان، وتأويلها عند أهل السنة والجماعة، فجاءت النصوص في الكتاب والسنة بنفي الإيمان عن أهل المعاصي، وهي أنواع كما ذكر المؤلف: النوع الأول: نفي الإيمان؛ كحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، النوع الثاني: براءة النبي صلى الله عليه وسلم، كحديث: (برئ النبي صلى الله عليه وسلم من الحالقة والصالقة والشاقة) فالحالقة هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، والصالقة هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والشاقة هي التي تشق ثوبها عند المصيبة. النوع الثالث: تسميته بالكفر، كحديث: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت). النوع الرابع: تسميته بالشرك، كحديث: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). والخلاصة أن نفي الإيمان عند أهل السنة والجماعة في قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) المراد به نفي كمال الإيمان، لا أصل الإيمان، فالزاني والسارق وشارب الخمر إذا لم يستحل ذلك ليس كافراً، بل هو مؤمن ضعيف الإيمان، وناقص الإيمان؛ لأنه لو كان كافراً لقتل ولم يقم عليه الحد، كما في الحديث: (من بدل دينه فاقتلوه). أما حديث: (برئ النبي صلى الله عليه وسلم من الصالقة والشاقة)، فلا يدل على أن ذلك كفر، بل المراد أن فاعل ذلك مرتكب لكبيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من فعله. وما جاء تسميته كفراً فالمراد به في هذه النصوص الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة، فيكون صاحبه ضعيف الإيمان ناقص الإيمان، وكذلك الشرك في حديث: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) يعني: شركاً أصغر غير مخرج من الملة، فتكون النصوص التي فيها بيان أن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان على هذه الأنواع الأربعة، وقد ينفعه الإيمان، وإن كان قد تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد وصف بالكفر وقد وصف بالشرك.

نفي الإيمان

نفي الإيمان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمن النوع الذي فيه نفي الإيمان: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الرجل حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن)]. هذا الحديث ثابت في الصحيحين، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الرجل حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)، فالمراد بنفي الإيمان هنا نفي كمال الإيمان، أي أن إيمانه ضعيف وناقص، لا أنه كافر كفراً أكبر، إلا إذا استحل الزنا والسرقة فإنه يكفر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (ما هو بمؤمن من لا يأمن جاره غوائله)]. هذا رواه المؤلف بالمعنى، وإلا فأصل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يارسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه)، والبوائق: الغوائل والشر، والمراد نفي كمال الإيمان، أي: لا يؤمن الإيمان الكامل، فهذا إيمانه يكون ضعيفاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن)]. وهذا الحديث أخرجه أبو داود والحاكم، ومعناه أن الإيمان يمنع المؤمن من الغدر والخيانة، فمن غدر أو خان يكون إيمانه ضعيفاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (لا يبغض الأنصار أحد يؤمن بالله ورسوله)]. يعني: لا يبغض الأنصار أحد يؤمن بالله ورسوله الإيمان الكامل، فيكون إيمانه ضعيفاً، وقد يكون منافقاً، فإذا أبغضهم لدينهم فهذا يكون كافراً كفراً أكبر، أما إذا أبغضهم لأمور أخرى تتعلق بأشخاصهم فيكون إيمانه ضعيفاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنه قوله: (والذي نفسي بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا)]. هذا ثابت في صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، فإذا تباغض المسلمون فيما بينهم ولم يتحابوا دل ذلك على ضعف الإيمان ونقصه، ودل على نفي كمال الإيمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: (إياكم والكذب؛ فإنه يجانب الإيمان)]. يعني: يجانب الإيمان الكامل، فإذا كذب المرء ضعف إيمانه، فالمراد نفي كمال الإيمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول عمر رضي الله عنه: (لا إيمان لمن لا أمانة له)]. يعني: لا إيمان كامل، وهذا صح مرفوعاً من حديث أنس. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول سعد: (كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب)]. يعني: الخيانة والكذب ينافيان الإيمان الكامل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول ابن عمر: (لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقاً، ويدع المزاحة في الكذب]. يعني: لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان الكامل إذا لم يدع المراء، ولم يدع المزاح.

براءة النبي صلى الله عليه وسلم من مرتكب المعصية

براءة النبي صلى الله عليه وسلم من مرتكب المعصية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن النوع الذي فيه البراءة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا)]. وفي لفظ: (من غش فليس منا)، وهذا دليل على الوعيد الشديد، وليس المراد أنه كافر، لا، بل المراد أنه ضعيف الإيمان، فالغاش مرتكب لكبيرة، وهو ضعيف الإيمان، ولا يكفر إلا إذا استحل الغش ورأى أنه حلال. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله: (ليس منا من حمل السلاح علينا)]، فهذا لا يدل على كفره، بل يكون ضعيف الإيمان، وليس من المؤمنين كاملي الإيمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا)، في أشياء من هذا القبيل]. يعني: إذا لم يرحم الصغير ولم يوقر الكبير دل ذلك على ضعف الإيمان.

تسمية الذنب كفرا

تسمية الذنب كفراً قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن النوع الذي فيه تسمية الكفر: قول النبي صلى الله عليه وسلم حين مطروا فقال: (أتدرون ما قال ربكم؟ قال: أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما الذي يقول: مطرنا بنجم كذا وكذا كافر بي مؤمن بالكوكب، والذي يقول: هذا رزق الله ورحمته مؤمن بي وكافر بالكوكب)]. الحديث رواه الشيخان من حديث زيد بن خالد الجهني، والمؤلف رحمه الله رواه بالمعنى، قال زيد بن خالد الجهني: (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء من الليل -يعني: على إثر مطر-، فأقبل علينا بوجهه فقال عليه الصلاة والسلام: أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)، فقوله: (كافر بي) هذا فيه تفصيل: فإن اعتقد أن للنجم تأثيراً في إنزال المطر فهذا كفر أكبر؛ لأنه شرك في الربوبية، أما إذا اعتقد أن منزل المطر هو الله ولكن النجم سبب فهذا كفر أصغر لا يخرج من الملة، فيكون صاحبه ضعيف الإيمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)]. هذا الحديث ثابت في الصحيحين، والقتال بين المسلمين كفر أصغر لا يخرج من الملة، إلا إذا قاتل المسلم أخاه ورأى أن دم أخيه حلال، فهذا كفر أكبر، لكن إذا كان القتال من أجل الشحناء والعداوة مع علمه أن القتال حرام ولا يجوز فهذا كفر أصغر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (من قال لصاحبه: كافر، فقد باء به أحدهما)]. هذا الحديث أيضاً متفق عليه، فمن قال لأخيه: يا كافر! يا منافق! فهذا كفر أصغر ينافي كمال الإيمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (من أتى ساحراً أو كاهناً فصدقه بما يقول، أو أتى حائضاً أو امرأة في دبرها فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أو كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)]. هذا الحديث ثابت أيضاً، وفيه الوعيد الشديد على من صدق ساحراً أو كاهناً أو أتى المرأة في دبرها، وأن هذا من كبائر الذنوب، لكن تصديق الكاهن فيه تفصيل: فإن صدقه في دعوى علم الغيب فهو كفر وردة؛ لأنه مكذب لله، قال الله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، أما إذا صدقه في شيء لا يتعلق بعلم الغيب -كأن يصدقه مثلاً في معرفة مكان المسروق أو الضالة- فهذا قد يعلمه بعض الناس بواسطة القرين، لكن إذا صدقه في دعوى علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله يكون كفراً وردة، أما إذا صدقه فيما دون ذلك فهذا جاء فيه الوعيد الشديد، وإيمانه ضعيف، وكذلك من أتى المرأة في دبرها، فهذا من كبائر الذنوب، وهو كفر أصغر، وإذا استحله كفر الكفر الأكبر، نسأل الله العافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول عبد الله: (سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر)، وبعضهم يرفعه]. الحديث ثابت مرفوع في صحيح مسلم، فإذا سب المسلم أخاه فهذا فسق، فيكون ضعيف الإيمان، وقتاله كفر أصغر لا يخرج من الملة.

تسمية الذنب شركا

تسمية الذنب شركاً قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن النوع الذي فيه ذكر الشرك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر، قيل: يا رسول الله! وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء)]. هذا الحديث ثابت أيضاً، أخرجه الأمام أحمد وغيره، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الرياء، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته؛ لما يرى من نظر الرجل إليه)، فالرياء شرك أصغر، وهو يحبط العمل الذي قام به. فالرياء يكون أصغر ويكون أكبر، فالرياء الأكبر هو الذي يصدر من المنافق الذي دخل في الإسلام رياء ونفاقاً، أما الرياء الأصغر فهو الذي يصدر من المؤمن في الصلاة أو في العمل الذي يعمله، فالرياء اليسير الذي يصدر من المؤمن يدخل في الشرك الأصغر ولا يخرج صاحبه من الملة، وإنما يكون إيمانه ضعيفاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنه قوله: (الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل)]. يعني: أن الطيرة شرك أصغر، والحديث لا بأس بسنده، وقوله: (وما منا إلا) يعني: وما منا من يقع في نفسه شيء من ذلك، إلا ويأتيه شيء من ذلك. قوله: (ولكن الله يذهبه بالتوكل) أي: يذهب ما في النفس بالتوكل والاعتماد على الله وتفويض الأمر إليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول عبد الله في التمائم والتولة: إنها من الشرك]. التمائم: جمع تميمة، وهي ما يعلقه الإنسان في رقبته أو يده أو في رقبة طفله أو يده لأجل دفع العين، وهذا من الشرك؛ لحديث: (إن التمائم والتولة شرك)، والتولة: هي نوع من السحر وضرب من السحر يزعمون أنها تحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته. فتعليق التمائم في يد الإنسان أو رقبته، أو في دابة شرك أصغر، وكذلك تعليق التمائم في رقاب الأطفال لدفع العين، أو وضعها في السيارة، كل هذا من الشرك الأصغر.

تأويلات الفرق لأحاديث نفي الإيمان عن أصحاب المعاصي

تأويلات الفرق لأحاديث نفي الإيمان عن أصحاب المعاصي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فطائفة تذهب إلى كفر النعمة]. هذا التأويل الأول، وهو أن المراد بالأحاديث كفر النعمة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وثانية تحملها على التغليظ والترهيب]. هذا هو التأويل الثاني، فبعض الناس يقول: ليس المراد الكفر، وإنما هو من باب التغليظ والترهيب فقط. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وثالثة تجعلها كفر أهل الردة]. هذا التأويل الثالث، فهذه الطائفة تقول: إن المراد بذلك هو الكفر المخرج من الملة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورابعة تذهبها كلها وتردها]. هذه الطائفة الرابعة تبطل هذه النصوص، وتقول بأنها ضعيفة وغير ثابتة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكل هذه الوجوه عندنا مردودة غير مقبولة؛ لما يدخلها من الخلل والفساد]. فهذه التأويلات الأربعة كلها باطلة، والمؤلف سيردها واحداً بعد واحد.

رد قول من يتأول الأحاديث بكفران النعم

رد قول من يتأول الأحاديث بكفران النعم قال المؤلف رحمه الله: [والذي يرد المذهب الأول ما نعرفه من كلام العرب ولغاتها، وذلك أنهم لا يعرفون كفران النعم إلا بالجحد لأنعام الله وآلائه، وهو كالمخبر على نفسه بالعدم وقد وهب الله له الثروة، أو بالسقم وقد من الله عليه بالسلامة، وكذلك ما يكون من كتمان المحاسن ونشر المصائب، فهذا الذي تسميه العرب كفراناً إن كان ذلك فيما بينهم وبين الله، أو كان من بعضهم لبعض إذا تناكروا اصطناع المعروف عندهم وتجاحدوه، ينبئك عن ذلك مقالة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: (إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير - يعني الزوج - وذلك أن تغضب إحداكن فتقول: ما رأيت منك خيراً قط) فهذا ما في كفر النعمة]. هذا رد المؤلف وإبطاله لقول أهل الأول، وهم الذين تأولوا الأحاديث التي فيها الكفر بأنه كفر النعمة، كحديث: (اثنتان في الناس هما بهم كفر)، وحديث (ولا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض). فيقول المؤلف رحمه الله: هذا باطل، والذي يدل على بطلان تفسير الكفر بكفر النعمة أن المعروف في لغة العرب أن كفران النعمة إنما يكون بالجحد لنعمة الله وآلائه، ولا يقال: إن من طعن في النسب جاحد لأنعام الله وآلائه. والجاحد لنعم الله وآلائه هو الذي يخبر عن نفسه بالعدم وقد وهب الله له الثروة، أو بالسقم وقد من الله عليه بالسلامة، فقد تجد الشخص الغني الذي آتاه الله مالاً وثروة تجده يجحد نعمة الله إذا خرج إلى الناس في ثياب مرقعة مخرقة ليظهر أنه فقير، وقد يتسول، وفي الحديث: (إن الله يحب إذا أنعم على عبد نعمة أن يرى أثر نعمته عليه)، وكذلك من منَّ الله عليه بالسلامة والعافية تجده يجعل نفسه كأنه في هيئة مريض، فيربط -مثلاً- يده ويقول: إن فيها كسراً، ويأتي بعصا يتوكأ عليه، وبعضهم يأتي ولا يصلي والعياذ بالله، وبعضهم يجلس أمام المصلين، فيكشف عن بطنه وقد دهنها بشيء ينفخ البطن، ويظهر للناس أنه يئن أنيناً، وهذا قد وقع من بعض الناس، حتى يستميل عطف الناس فيقولوا: هذا مسكين مريض، وإذا خرج من المسجد قام سليماً، فهذا -والعياذ بالله- جاحد لنعمة السلامة والعافية. قوله: [وكذلك ما يكون من كتمان المحاسن ونشر المصائب] أي: كون الإنسان يكتم المحاسن وينشر المصائب، هذا هو الجحود الذي تسميه العرب كفراناً [إذا كان ذلك فيما بينهم وبين الله، وكذلك إذا تناكروا اصطناع المعروف عندهم وتجاحدوه]، فإذا جحد الإنسان المعروف الذي عليه لجاره أو لأخيه يقال: إنه هذا كفر النعمة. وقوله: [وينبئك عن ذلك] أي: يدلك على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: (تصدقن يا معشر النساء! فإنكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة فقالت: يا رسول الله! ما لنا أكثر أهل النار؟! قال: إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير) والعشير: الزوج، والمعنى: جحود النعمة، وذلك أن المرأة تجد الزوج يحسن إليها طول الدهر، فإذا وجدت شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط. فهذه قد جحدت النعمة. يقول المؤلف: فتفسير هذه النصوص بكفر النعمة باطل لغة وشرعاً، أما اللغة فإنه لا يفسر كفران النعمة إلا بجحود النعمة، وكذلك الناس فيما بينهم، ويدل على ذلك قوله: (وتكفرن العشير)، فدل على أن تفسير هذه النصوص بكفران النعمة باطل من جهة اللغة، وباطل من جهة الشرع.

رد قول من يتأول الأحاديث بحملها على التغليظ

رد قول من يتأول الأحاديث بحملها على التغليظ قال المؤلف رحمه الله: [وأما القول الثاني المحمول على التغليظ فمن أفظع ما تؤول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيداً لا حقيقة له، وهذا يئول إلى إبطال العقاب؛ لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها كان ممكناً في العقوبات كلها]. هذه الطائفة أولت هذه الأحاديث على أنها من باب التغليظ والترهيب، وهذا قول باطل؛ لأنه يتأول نصوص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه التي فيها الوعيد الشديد والتنفير من هذا العمل فيجعله وعيداً لا حقيقة له، ومن ثم يؤدي إلى إبطال العقاب، وإذا أمكن هذا في واحد من النصوص كان ممكناً في جميع النصوص التي فيها الوعيد، فبطل هذا التأويل.

رد قول من تأول الأحاديث بحملها على كفر الردة

رد قول من تأول الأحاديث بحملها على كفر الردة قال المؤلف رحمه الله: [وأما الثالث الذي بلغ كفر الردة نفسها فهو شر من الذي قبله؛ لأنه مذهب الخوارج الذين مرقوا من الدين بالتأويل، فكفروا الناس بصغار الذنوب وكبارها، وقد علمت ما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المروق، وما أذن فيهم من سفك دمائهم]. هذا التأويل الثالث -وهو القول بأنها كفر الردة- يوافق مذهب الخوارج الذين يكفرون الناس بالمعاصي فيقولون: الزاني كافر، والسارق كافر، وعاق والديه كافر، وقاطع الرحم كافر، والمرابي كافر، وشاهد الزور كافر، والمرتشي كافر، وهذا من أبطل الباطل، فالمعاصي ليست كفراً، بل تضعف الإيمان وتنقصه، إنما الكفر إذا ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام أو شركاً في العبادة، أما المعاصي فإنها ليست كفراً، فالذي يتأولها على أنها كفر وردة فقد وافق الخوارج، والخوارج مذهبهم باطل، وقد مرقوا من الدين كما في الحديث: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، وفي اللفظ الآخر: (يخرجون من الإسلام ثم لا يعودون إليه)، وفي لفظ: (من وجدهم أو من عاينهم فليقتلهم؛ فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم)، وفي لفظ: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد). فكيف يتأول هذا على قول يوافق مذهب الخوارج، وقد وصفهم الرسول بالمروق من الدين وأذن في سفك دمائهم؟! قال المؤلف رحمه الله: [ثم قد وجدنا الله تبارك وتعالى يكذب مقالتهم، وذلك أنه حكم السارق بقطع اليد وفي الزاني والقاذف بالجلد، ولو كان الذنب يكفر صاحبه ما كان الحكم على هؤلاء إلا القتل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه) أفلا ترى أنهم لو كانوا كفاراً لما كانت عقوباتهم القطع والجلد؟! وكذلك قول الله فيمن قتل مظلوماً: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33] فلو كان القتل كفراً ما كان للولي عفو ولا أخذ دية ولزمه القتل]. ومما يبطل تأويل النصوص بأنها كفر أكبر أن هناك نصوصاً دلت على أن العصاة ليسوا كفاراً، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أوجب الحدود على العصاة، فالله تبارك وتعالى حكم على السارق بقطع اليد فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، ولو كان كافراً لوجب قتله ولم يقطع يده، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، وحكم على الزاني بالجلد فقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، إذا كان بكراً، والقاذف يجلد ثمانين جلدة، وشارب الخمر يجلد، ولو كانوا كفاراً لوجب قتلهم، ولهذا قال المؤلف: [ولو كان الذنب يكفر صاحبه ما كان الحكم على هؤلاء إلا القتل]؛ لأن المرتد عقوبته القتل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه)). وقوله: [أفلا ترى أنهم لو كانوا كفاراً لما كانت عقوباتهم القطع والجلد] يعني إنما تكون عقوبتهم القتل. ومن الأدلة -أيضاً- قول الله تعالى فيمن قتل مظلوماً: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33]، يعني: إذا قتل شخص شخصاً عدواناً وظلماً فإنه يخير أولياء القتيل بين أن يقتلوه قصاصاً وبين أن يأخذوا الدية وبين أن يعفوا مجاناً، ولو كان كافراً لما كان هناك عفو، ولوجب قتله، ولهذا قال المؤلف: [فلو كان القتل كفراً ما كان للولي عفو ولا أخذ دية ولزمه القتل]، فدل على بطلان هذا المذهب، وهو تأويل النصوص على أنها كفر أكبر، كما في قوله: (اثنتان في الناس هما بهم كفر) فإذا طعن في النسب أو ناح على الميت فهذا باطل وكبيرة وكفر أصغر، لكنه لا يخرج من الملة بل يضعف الإيمان.

رد قول من ضعف النصوص

رد قول من ضعف النصوص قال المؤلف رحمه الله: [وأما القول الرابع الذي فيه تضعيف هذه الآثار فليس مذهب من يعتد بقوله، فلا يلتفت إليه، إنما هو احتجاج أهل الأهواء والبدع الذين قصر علمهم عن الاتساع، وعييت أذهانهم عن وجوهها، فلم يجدوا شيئاً أهون عليهم من أن يقولوا: متناقضة، فأبطلوها كلها]. هذا رد التأويل الرابع، وهو أنهم أضعفوا هذه الآثار وردوها، فتجد بعضهم يقول: هذه الألفاظ ثابتة، وبعضهم يقول: أخبار آحاد لا يحتج بها. فالمؤلف رحمه الله يقول: إن هذا المذهب ليس مذهباًَ يحتج بقوله أهل العلم والدين، فلا يلتفت إليه، وإنما هذا مذهب أهل الأهواء والبدع الذين قصر علمهم عن فهم هذه النصوص، وعييت أذهانهم عن وجوهها وفهم معناها، فلما كانوا كذلك اختاروا أن يردوها وأن يبطلوها وأن يقولوا: إنها متناقضة، أو: إنها أخبار آحاد، أو: إنها غير ثابتة، فأبطلوها، وذلك بسبب مرض في قلوبهم وضعف في أفهامهم، فلهذا ردوا هذه الأحاديث.

[11]

شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [11] عقيدة أهل السنة والجماعة في نصوص الوعيد التوسط بين الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، وبين المرجئة، فلا يكفرون مرتكب الكبيرة، ولا يثبتون له الإيمان الكامل، بل يثبتون له الاسم دون الحقيقة، فيسمونه فاسقاً ملياً، أو مؤمناً ناقص الإيمان، أو مسلماً لا مؤمناً، وبهذا تتوافق النصوص، ويزول الإشكال وترتفع الشبهة.

تأويل المؤلف لأحاديث نفي الإيمان

تأويل المؤلف لأحاديث نفي الإيمان قال المؤلف رحمه الله: [وإن الذي عندنا في هذا الباب كله: أن المعاصي والذنوب لا تزيل إيماناً، ولا توجب كفراً، ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه الذي نعت الله به أهله]. يقول المؤلف رحمه الله: تأويل هذه النصوص عندنا التي فيها نفي الإيمان عن العصاة: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أو وصفه بالبراءة: (برئ النبي من الصالقة والحالقة والشاقة)، أو وصفه بالكفر: (اثنتان في الناس هما بهم كفر)، أو وصفه بالشرك: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، يقول: معناها عندنا: أن هذه معاصٍ وذنوب وكبائر، فالزنا والسرقة والطعن في النسب والنياحة والحلف بغير الله معاص وذنوب لا تزيل الإيمان بالمرة عن صاحبها، ولا توجب الكفر الأكبر الذي يخرج من الملة، ولكنها تنفي كمال الإيمان وإخلاصه وحقيقته، فيكون صاحبها ضعيف الإيمان، فهو معه أصل الإيمان وليس معه كماله. قوله: (واشترطه عليهم في مواضع من كتابه) فالله اشترط في المؤمن الكامل أنه يؤدي الواجبات، وينتهي عن المحرمات، فالذي يقصر في الواجبات ويفعل المحرمات ما أتى بالشرط، فيكون ضعيف الإيمان، وناقص الإيمان. إذاً: الصواب في تأويل هذه النصوص: أن المراد بالنفي في هذه النصوص نفي كمال الإيمان وحقيقته فيقال في العاصي: ليس بمؤمن حقاً، أو مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فينفى عنه كمال الإيمان، وإخلاصه الذي نعت الله به أهله.

نصوص من القرآن فيها بيان المؤمنين الكمل

نصوص من القرآن فيها بيان المؤمنين الكمل قال المؤلف رحمه الله: [واشترطه عليهم في مواضع من كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:111] إلى قوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112]]. هذه الآيات فيها بيان أوصاف المؤمنين الكمل، فالذي لا يحفظ حدود الله يكون ناقص الإيمان، ضعيف الإيمان، والعصاة يكون إيمانهم ضعيفاً إذا ما أتوا بهذه الصفات. قال: [وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:9 - 11]]. صفه المؤمنين الكمل يعني: الذين كمل إيمانهم بهذه الصفات، أما الذي لا يحفظ فرجه أو يخون في الأمانة فإنه يكون ضعيف الإيمان، فهذه أوصاف المؤمنين الكمل. قال: [وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4]]. هذه أيضاً أوصاف المؤمنين الكمل، (إنما المؤمنون) يعني: كمل الإيمان هذه أوصافهم {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، توجل القلوب عند ذكر الله {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]، زيادة الإيمان عند ذكر الله {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، أي: يتوكلون على الله ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، أما من لم يتصف بهذه الصفات فليس بمؤمن حقاً، بل هو ضعيف الإيمان، ولهذا وعدهم الله بالثواب العظيم قال: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:4]، لكن هذا الوعد ليس لضعيف الإيمان، بل ضعيف الإيمان متوعد بالنار كالزاني والسارق وشارب الخمر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279]. فالمرابي وآكل مال اليتيم هذا موعود بالنار، وهذا موعود بالحرب، والمؤمن كامل الإيمان موعود بالجنة، ففرق بينهما، هذا كامل الإيمان موعود بالجنة، وهذا ضعيف الإيمان موعود بالنار، لكن العاصي إذا دخل النار لا يخلد بل يعذب على قدر معاصيه ثم يخرجه الله برحمته أو بشفاعة الشافعين على حسب جرائمه مادام مات على التوحيد والإيمان، أما من مات على الشرك والكفر فهذا لا حيلة فيه فهو مخلد.

تعقيب أبي عبيد على الآيات

تعقيب أبي عبيد على الآيات قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو عبيد: فهذه الآيات التي شرحت وأبانت شرائعه المفروضة على أهله ونفت عنه المعاصي كلها، ثم فسرته السنة بالأحاديث التي فيها خلال الإيمان في الباب الذي في صدر هذا الكتاب، فلما خالطت هذه المعاصي هذا الإيمان المنعوت بغيرها قيل: ليس هذا من الشرائط التي أخذها الله على المؤمنين ولا الأمارات التي يعرف بها أنه الإيمان، فنفت عنهم حينئذ حقيقته ولم يزل عنهم اسمه]. أي: أن هذه الآيات التي سبقت قد شرحت وأبانت شرائعه المفروضة على أهله، ونفت عنه المعاصي كلها، ثم جاءت السنة ففسرته بالأحاديث التي فيها خلال الإيمان، يعني: أوصاف أهل الإيمان في الباب الذي في صدر هذا الكتاب، حيث ذكرت أوصاف المؤمنين وأنهم يقومون بما أوجب الله عليهم، ويؤدون حق الجار، ويبرون والديهم، وينتهون عن المعاصي، ولا يغشون ولا يرابون ولا يخادعون، فلما خالطت هذه المعاصي أصل الإيمان، أضعفت هذا الإيمان وصار ضعيفاً، فاختلت الشروط التي أخذها الله على المؤمنين ونقصت العلامات التي يربو بها أهل الإيمان، فالله تعالى اشترط: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8]، فهو خان الأمانة وما أدى الشرط، وقال أيضاً: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5]، فهو ما حفظ فرجه بل زنى، فلما خالطت هذه المعاصي هذا الإيمان قيل: ليس هذا من الشرائط التي أخذها الله على المؤمنين، فلما اختلت الشروط التي أخذها الله على المؤمنين، صار هذا نقصاً في العلامات التي يعرف بها المؤمنون الكمل الإيمان، فلذلك انتفت عنهم حقيقة الإيمان وكماله، ولم يزل عنهم اسمه، فالاسم باق.

الرد على شبهة نفاة الإيمان عن مرتكب المعصية

الرد على شبهة نفاة الإيمان عن مرتكب المعصية قال المؤلف رحمه الله: [فإن قال قائل: كيف يجوز أن يقال: ليس بمؤمن واسم الإيمان غير زائل عنه؟ قيل: هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله إذا كان عمله على غير حقيقته، ألا ترى أنهم يقولون للصانع إذا كان ليس بمحكم لعمله: ما صنعت شيئاً ولا عملت عملاً، وإنما وقع معناهم ههنا على نفي التجويد لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عامل بالاسم، وغير عامل في الإتقان، حتى تكلموا به فيما هو أكثر من هذا، وذلك كرجل يعق أباه ويبلغ منه الأذى فيقال: ما هو بولد، وهم يعلمون أنه ابن صلبه، ثم يقال مثله في الأخ والزوجة والمملوك، وإنما مذهبهم في هذا المزايلة الواجبة عليهم من الطاعة والبر، وأما النكاح والرق والأنساب فعلى ما كانت عليه أماكنها وأسماؤها، فكذلك هذه الذنوب التي ينفى بها الإيمان إنما أحبطت الحقائق منه الشرائع التي هي من صفاته، فأما الأسماء فعلى ما كانت قبل ذلك، ولا يقال لهم إلا مؤمنون وبه الحكم عليهم]. هنا المؤلف ذكر اعتراضاً يقول: إنك تأولت النصوص التي هي نفي الإيمان عن العصاة فكيف تقول: إنه ليس بمؤمن واسم الإيمان باق عليه؟ أجاب المؤلف رحمه الله: ليس هناك تناقض؛ لأن شرط التناقض: أن تكون الجهة واحدة، وأن يرد النفي والإثبات على شيء واحد، أما إذا كانت الجهة منفكة فلا تناقض، مثال ذلك: الله تعالى أثبت الإيمان للمنافقين ونفاه عنهم فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8]، فمعاذ الله أن يكون هذا تناقضاً؛ لأن شرط التناقض: أن تكون الجهة واحدة، وهنا الجهة منفكة، فإثبات الإيمان يرجع إلى الإنسان، ونفي الإيمان يرجع إلى القلب، وهنا الجهة منفكة، ولو كان الإثبات والنفي يرد على اللسان لقيل: هذا تناقض، أو كان الإيمان والنفي يرد على القلب كان تناقضاً، أما إذا كان إثبات الإيمان من جهة ونفيه من جهة صارت الجهة منفكة. وهو هنا أثبت الإيمان باللسان ونفى الإيمان عن القلب، فصارت الجهة منفكة فلا يكون تناقضاً، وكذلك هنا فيقال للعاصي: ليس بمؤمن وهو مؤمن، لأن النفي يرد على كمال الإيمان، والإثبات يرد على أصل الإيمان، فهو إذا قال: ليس بمؤمن فذلك يعني: أن جهة كمال الإيمان النفي، وقوله: هو مؤمن، هذا يرجع إلى أصل الإيمان. قال المؤلف رحمه الله: الجهة منفكة، فاسم الإيمان يرجع إلى الكمال، وإثباته يرجع إلى الأصل. قوله: (قيل: هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله إذا كان عمله على غير حقيقته) أي: أن لغة العرب تدل على هذا، وهو واسع، وذلك أنه ينفى العمل عن الشخص إذا كان لا يعمل عملاً حقيقياً، وإن كان يعمل عملاً ولا ينصح فيه بل يخون في هذا العمل فإنه ينفى عنه العمل فيقال: فلان ما عمل، يعني: ما عمل عملاً متقناً، وإن كان عمل عملاً ناقصاً وضعيفاً. قوله: (ألا ترى أنهم يقولون للصانع إذا كان ليس بمحكم لعمله: ما صنعت شيئاً ولا عملت عملاً) فإذا كان العامل لا يتقن الصنعة يقال: ما صنعت شيئاً ولا عملت عملاً، فالمراد منه: ما عمل شيئاً جيداً، ولهذا قال: (إنما وقع معناهم هاهنا على نفي التجويد) أي: ما عملت عملاً جيداً، فقد يعمل الصانع كالنجار باباً من خشب لكنه ليس على المطلوب، بل باب ضعيف من خشب رديء مخلخل وغير مثبت. فهو قد صنع لكن صنعه غير جيد فيقال: ما صنعت شيئاً جيداً، وإن كان صنع صنعاً رديئاً، فأصل الصنعة ثابتة، والتجويد منفي عنه، فكذلك المؤمن ينفى عنه كمال الإيمان، ويثبت له أصل الإيمان، ولهذا قال المؤلف: (وإنما وقع معناهم هاهنا على نفي التجويد لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عامل بالاسم، وغير عامل في الإتقان). فالصانع الذي لا يتقن صنعته يكون اسمه عاملاً، وغير عامل بالإتقان والجودة، فينفى عنه العمل من جهة الإتقان والجودة، ويثبت له العمل من جهة أصل الصنعة وأصل العمل، فكذلك المؤمن العاصي يثبت له أصل الإيمان واسمه، وينفى عنه كماله وحقيقته. قوله: (حتى تكلموا به فيما هو أكثر من هذا، وذلك كرجل يعق أباه ويبلغ منه الأذى فيقال: ما هو بولد، وهم يعلمون أنه ابنه من صلبه) فالعاق الذي يؤذي أباه ليس بولد بار وإنما ولد عاق، فهو ابن؛ لأنه ابنه من صلبه، لكنه ليس بابن بار، فيقال: ليس بولد بار ولكنه ولد عاق. وقوله: (مثله في الأخ والزوجة والمملوك) كذلك الأخ إذا كان جاف ولا يحسن إلى أخيه، فهو ليس بأخ بار، وكذلك الزوجة ليست بزوجة إذا كانت غير مطيعة لزوجها، والعبد ليس بمملوك. قوله: (وإنما مذهبهم في هذا المزايلة من الأعمال الواجبة عليهم من الطاعة والبر) يعني: أن مقصودهم بالنفي: أنه زال عنه العمل الواجب من الطاعة والبر. قوله: (وأما النكاح والرق والأنساب فعلى ما كانت عليه أماكنها وأسماؤها) فالزوجة يقال: ليست بزوجة مطيعة، لكن واقع النكاح باق، ولو كانت ناشزاً ولو كانت غير مطيعة، فالنكاح باق ولكن نفى عنها الطاعة، وكذلك العبد يقال: ليس بمملوك، وليس بعبد جيد؛ لأنه يعصي سيده ويؤذيه، لكن الرق باق. وكذلك الأنساب يقال: هذا الولد عاق لكن النسب باق. قوله: (فكذلك هذه الذنوب التي ينفى بها الإيمان) فهذه الذنوب ينفى بها كمال الإيمان، أما اسم الإيمان فهو باقٍ. ولهذا قال: (إنما أحبطت الحقائق منه الشرائع التي هي من صفاته) فالذنوب والمعاصي أحبطت حقيقة الإيمان وكماله للشرائع التي هي من صفاته. قوله: (أما الأسماء فعلى ما كانت قبل ذلك) فالاسم باق، ولكن الذي نفي هو الحقيقة. قوله: (ولا يقال لهم إلا مؤمنون) فالعصاة لا يقال لهم إلا مؤمنون. قوله: (وبه الحكم عليهم) أي: يحكم عليهم بأنهم مؤمنون، لكن النفي إنما هو للكمال.

الأدلة الواضحة على صحة تأويل المؤلف لأحاديث نفي الإيمان

الأدلة الواضحة على صحة تأويل المؤلف لأحاديث نفي الإيمان قال المؤلف رحمه الله: [وقد وجدنا مع هذا شواهد لقولنا من التنزيل والسنة، فأما التنزيل فقول الله جل ثناؤه في أهل الكتاب حين قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران:187]]. فالمؤلف يقول: إننا وجدنا أدلة تدل على هذا التأويل الذي تأولنا به النصوص من القرآن العزيز ومن السنة المطهرة تدل على أنه ينفى عن الشيء حقيقته وكماله وإن كان الاسم باق، فمن ذلك قول الله جل ثناؤه في أهل الكتاب اليهود والنصارى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران:187]، فالله تعالى أخذ على أهل الكتاب الميثاق أن يبينوا ولا يكتموا، لكن كتموه ونبذوه، ومع ذلك فإن اسم الكتاب باق معهم، والأحكام باقية في أهل الكتاب تؤكل ذبائحهم وتنكح نساءهم ولو أنهم لم يقوموا بالعمل فالاسم باق، لكن نفى عنهم الكمال. قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو عبيد: حدثنا الأشجعي عن مالك بن مغول عن الشعبي في هذه الآية قال: أما إنه كان بين أيديهم ولكن نبذوا العمل به، ثم أحل الله لنا ذبائحهم، ونكاح نسائهم، فحكم لهم بحكم الكتاب إذا كانوا به مقرين، وله منتحلين، فهم بالأحكام والأسماء في الكتاب داخلون، وهم لها بالحقائق مفارقون، فهذا ما في القرآن]. يقول المؤلف: إن أهل الكتاب سماهم الله أهل الكتاب وهم لم يعملوا بالكتاب بل نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً، ومع ذلك ما زال عنهم اسم أهل الكتاب وقد نبذوا العمل به وهو بين أيديهم، ولم تزل الأحكام عليهم، فأحل الله لنا ذبائحهم إذا ذبحت باسم الله، أما إذا ذبحت باسم المسيح فلا تأكل، قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5]، وكذلك جواز الزواج بالمرأة الكتابية اليهودية والنصرانية إذا كانت محصنة ولو كانوا لا يعملون بكتابهم. فكما أن المؤمن العاصي يسمى مؤمناً وهو عاصٍ، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى العصاة يسمون أهل الكتاب، فهذه الأسماء باقية والأحكام باقية، ولهذا قال المؤلف: (أما إنه كان بين أيديهم ونبذوا العمل به) ثم بقيت الأحكام (ثم أحل الله لنا ذبائحهم ونكاح نسائهم، فحكم لهم بحكم الكتاب إذا كانوا به مقرين) أي: مقرين بكتابه ولهم التحريف فينتسبون إلى اليهودية والنصرانية. فهم داخلون بأحكامهم وأسمائهم في مسمى أهل الكتاب، وهم لها بالحقائق مفارقون لأنهم ما عملوا بكتابه، وكذلك المؤمن العاصي حقيقة الإيمان منفية عنه، واسم الإيمان والأحكام كلها ثابتة له. قال المؤلف رحمه الله: [وأما السنة: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يحدث به رفاعة في الأعرابي الذي صلى صلاة فخففها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارجع فصل فإنك لم تصل)، حتى فعلها مراراً كل ذلك يقول: (فصل)، وهو قد رآه يصليها، أفلست ترى أنه مصل بالاسم، وغير مصل بالحقيقة]. الشيخ: حديث رفاعة يسمى عند العلماء بحديث الأعرابي المسيء، وهو حديث رواه الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً في المسجد فدخل رجل فصلى ركعتين، ثم جاء وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: (عليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل)، فرجع الرجل فصلى مثل صلاته الأولى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل) ثم رجع الرجل فصلى مثل صلاته الأولى، لا يتم الركوع ولا السجود، ينقرها نقر الغراب، حتى فعل هذا ثلاث مرات، وفي كل مرة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل) فقال الرجل في المرة الثالثة: والذي بعثك بالحق نبياً لا أحسن غيرها، فعلمني، فعلمه وقال: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تعتدل جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) فأرشده إلى الطمأنينة. والشاهد من الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ارجع فصل فإنك لم تصل)، فوجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإنك لم تصل)، فنفى عنه الصلاة ولكنه مصل، في الحديث: جاء رجل أعرابي فصلى فقال له النبي: (ارجع فصل فإنك لم تصل)، فكيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنك لم تصل)؟ فهو أثبت الصلاة ونفاها عنه، وهذا ليس بتناقض؛ لأن الجهة منفكة، فهذا الرجل أثبت له الصلاة الصورية، صورة قام وصلى ركعة أو ركعتين بركوع وسجود، والذي نفي عنه الصلاة الحقيقية الشرعية؛ لأن ما فيها طمأنينة، فهذا الرجل بقي له الاسم، ونفيت عنه الحقيقة، فهو مثل المؤمن العاصي له الاسم والأصل، وينفى عنه الحقيقة والكمال. قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك في المرأة العاصية لزوجها، والعبد الآبق، والمصلي بالقوم الكارهين له إنها غير مقبولة]. فقد جاء في الحديث: (ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: منهم إمام أمَّ قوماً وهم له كارهون)، وكذلك العبد الآبق لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، وكذلك المرأة العاصية لزوجها لا تقبل صلاتها. فهل معنى ذلك أن صلاتهم باطلة، وأنهم كفار؟ لا، فالنفي إنما هو للكمال والحقيقة لعصيانه، ولكن الصلاة صحيحة، والمنفي إنما هو الكمال لأجل عصيانه، فكذلك المؤمن العاصي ينفى عنه الكمال ويثبت له الأصل والاسم. قال المؤلف رحمه الله: [ومنه حديث عبد الله بن عمر في شارب الخمر: أنه لا تقبل له صلاة أربعين ليلة]. فشارب الخمر لا تقبل له صلاة كاملة وإن كانت صلاته صحيحة، لكن نفي عنه الكمال، وليس ثوابها مثل ثواب المؤمن المطيع، فكذلك المؤمن العاصي ينفى عنه كمال الإيمان، ويثبت له أصله واسمه. قال المؤلف رحمه الله: [وقول علي رضي الله عنه: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد]. هذا موقوف على علي ليس مرفوعاً، ومعناه: لا صلاة كاملة، ولو صلى في غير المسجد صحت صلاته إلا أنه عاص، وثوابها ليس كثواب من صلى في المسجد وهو في ذلك يكون آثماً؛ لأن النصوص دلت على أنه لا بد للرجل أن يصلي في الجماعة إلا من عذر، فهذا الرجل صلاته صحيحة وثابتة، لكن المنفي عنه الكمال وعليه الإثم إذا كان يستطيع الجماعة. قال المؤلف رحمه الله: [وحديث عمر رضي الله عنه في المقدم ثقله ليلة النفر أنه لا حج له]. هذا الحديث الذي ذكره المؤلف يحتاج إلى تخريج، وعلى فرض ثبوته يكون معناه: لا حج له كاملاً؛ لأن من يتقدم ليلة النفر - يعني: ليلة العيد - ولا يبيت بمزدلفة فقد ترك واجباً من واجبات الحج، فهذا حجه صحيح لكن عليه دم شاة يذبحها. قال المؤلف رحمه الله: [وقال حذيفة: من تأمل خلق امرأة من وراء الثياب وهو صائم أبطل صومه]. هذا الأثر جاء مرفوعاً لكنه موضوع، والمؤلف هنا ما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل نسبه إلى حذيفة، لكن لو صح فمعناه: أبطلت كمال الصوم، وإلا فصومه صحيح ومجزي.

تأويل أبي عبيد لأحاديث: (ليس منا)

تأويل أبي عبيد لأحاديث: (ليس منا) قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو عبيد: فهذه الآثار كلها وما كان مضاهياً لها فهو عندي على ما فسرته لك، وكذلك الأحاديث التي فيها البراءة فهي مثل قوله: (من فعل كذا وكذا فليس منا)، لا نرى شيئاً منها، يكون معناه التبرؤ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من ملته، إنما مذهبه عندنا: أنه ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا، وهذه النعوت وما أشبهها، وقد كان سفيان بن عيينة يتأول قوله: (ليس منا)، ليس مثلنا، وكان يرويه عن غيره أيضاً، فهذا التأويل وإن كان الذي قاله إمام من أئمة العلم فإني لا أراه من أجل أنه إذا جعل من فعل ذلك ليس مثل النبي صلى الله عليه وسلم لزمه أن يصير من يفعله مثل النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا فرق بين الفاعل والتارك، وليس للنبي صلى الله عليه وسلم عديل ولا مثل من فاعل ذلك ولا تاركه، فهذا ما في نفي الإيمان وفي البراءة من النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحدهما من الآخر وإليه يئول، وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما بالمعاصي فإن معناها عندنا ليست تثبت على أهلها كفراً ولا شركاً يزيلان الإيمان عن صاحبه، إنما وجوهها: أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون، وقد وجدنا لهذين النوعين من الدلائل في الكتاب والسنة نحواً مما وجدنا في النوعين الأولين]. هنا يقول أبو عبيد: إن هذه الآثار كلها وما كان مضاهياً لها فهو على ما فسرته لك مسبقاً بأن النفي إنما هو نفي كمال الإيمان وحقيقته وإثبات الأصل والاسم. أما الأحاديث التي فيها البراءة مثل حديث: (برئ من الحالقة والصالقة)، وحديث: (من حمل علينا السلاح فليس منا)، وحديث: (من غشنا فليس منا)، وحديث: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين)، وحديث: (ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب) فمعناها: أننا لا نرى شيئاً منها يكون معناه التبرؤ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من ملته، وإنما المراد: أنه ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا، فهذه لا توجب الكفر؛ لأنها معاصي، وليس معناها أن النبي تبرأ من دينه؛ لأنه مازال باقياً على اسم الإسلام. قوله: (وقد كان سفيان بن عيينة يتأول فيقول: ليس منا أي: ليس مثلنا) ويروى هذا التأويل عن غيره من العلماء، والمؤلف يرد على سفيان تأويله فيقول: (فهذا التأويل وإن كان الذي قاله إمام من أئمة العلم فإني لا أراه) لماذا لا تراه صحيحاً يا أبا عبيد؟ قال: لأنه إذا قال: (ليس مثلنا) فهل معنى ذلك أنه إذا فعل هذه المعصية يكون مثل الرسول؟ لا، فلا يمكن أن يكون مثل الرسول، ولا يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التقوى والصلاح، فلذلك هذا التأويل غير صحيح. كذلك المطيع هل هو مثل الرسول؟ لا يمكن أن يكون مثل الرسول، فلذلك أرى أن هذا التأويل أيضاً ليس بصحيح. وإنما التأويل ليس من المطيعين لنا، ولذلك قال أبو عبيد: (فإني لا أراه من أجل أنه إذا جعل من فعل ذلك ليس مثل النبي صلى الله عليه وسلم لزمه - في المقابل - أن يصير من يفعله مثل النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا فرق بين الفاعل والتارك، وليس للنبي صلى الله عليه وسلم عديلاً ولا مثل من فاعل ذلك ولا تاركه) أي: لا يمكن أن يكون أحد عديل للنبي ولا مثله سواء كان مطيعاً أو غير مطيع. قوله: (فهذا ما في نفي الإيمان وفي البراءة من النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحدهما من الآخر وإليه يئول) هذا تأويل نفي الإيمان وبراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الحالقة والصالقة والشاقة. قوله: (أما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما بالمعاصي فإن معناها عندنا ليس تثبت على أهلها كفراً ولا شركاً يزيلان الإيمان عن صاحبه) يقول: الأحاديث التي فيها (من حلف بغير الله فقد أشرك)، (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب)، ليس معناها أن صاحبه كافر كفراً يخرج من الملة، ولا مشرك شركاً في العبادة، إنما معناها: أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون. قوله: (وقد وجدنا لهذين النوعين من الدلائل في الكتاب والسنة نحواً مما وجدنا في النوعين الأولين) وجدنا لهذين النوعين أي: تأويل المؤلف، لكن الآن أنا أقول تعقيباً على المؤلف رحمه الله: الأحسن والأصوب في تأويل هذه النصوص أن يقال: هذه النصوص تفيد الوعيد والزجر، وأنها من الكبائر، وما سمي منها شركاً أو كفراً فهو أصغر لا يخرج من الملة ما لم يكن شركاً في العبادة أو ناقضاً من نواقض الإسلام. وقول المؤلف رحمه الله هنا: (إنها ليس من شرائعنا، ولا من أخلاقنا، ولا من المطيعين لنا) نجد أن النووي رحمه الله أحياناً يتأول النصوص في شرح صحيح الإمام مسلم، وأئمة الدعوة وغيرهم من أهل العلم بينوا أن هذا ليس بجيد؛ لأن قوله: ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا يعتبر تأويلاً، والأصوب أن يقال: إن هذه الأحاديث وهذه النصوص تفيد الوعيد والزجر وأنها من الكبائر، ولا تفسر بل تبقى هذه النصوص على حالها حتى تفيد الوعيد والزجر عن هذه الكبائر؛ لأنك إذا قلت: (ليس من المطيعين لنا، ليس من المحافظين على شرائعنا) سهلت الأمر، فلا تفسرها بهذه التفسير؛ لأنك إذا فسرتها بهذا التفسير تساهل العاصي. مثلاً حديث: (ليس منا من ضرب الخدود) فقولنا: ليس من المطيعين لنا، هذا أمر سهل، لكن تقول: هذا وعيد شديد يدل على أن هذه المعصية من الكبائر يفيد الوعيد والزجر، كذلك حديث: (اثنتان في الناس هما بهم كفر) كفر أصغر لا يخرج من الملة، وحديث: (من حلف بغير الله فقد أشرك) يعتبر شركاً أصغر إلا إذا كان شركاً في العبادة أو ناقضاً من نواقض الإسلام فإنه كفر أكبر، فالأصوب والأحسن أن يقال في تأويل هذه النصوص أنها تفيد الوعد والزجر وأنها من الكبائر، وما سمي منها شركاً أو كفراً فهو كفر أصغر أو شرك أصغر لا يخرج من الملة، ما لم يكن شركاً في العبادة أو ناقضاً من نواقض الإسلام.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الخوارج المعاصرين من الإباضية وغيرهم

حكم الخوارج المعاصرين من الإباضية وغيرهم Q هل يحكم على الخوارج في الوقت الحاضر والمعاصر كالإباضية بالكفر؟ A الخوارج المعاصرون كالخوارج القدامى، الحكم واحد، والمذهب واحد، والخوارج فيهم كلام لأهل العلم، والجمهور على أنهم عصاة، والصحابة رضوان الله عليهم عاملوهم معاملة العصاة ولم يكفروهم، واستدلوا بقول الخليفة الراشد علي رضي الله عنه عندما سئل: هل هم كفار؟ قال: (من الكفر فرو) ولأنهم متأولون. ومن العلماء من كفرهم وهي رواية عن الإمام أحمد، واستدلوا بالنصوص التي فيها ما يدل على كفرهم كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، وفي لفظ: (يمرقون من الدين ثم لا يعودون إليه)، وفي لفظ: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد)، فشبههم بقوم عاد وهم قوم كفار، وفي لفظ: (من لقيهم فليقتلهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله) قالوا: فهذه النصوص الصريحة تدل على كفرهم. لكن الجمهور - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومنهم الصحابة عاملوهم معاملة العصاة لا المرتدين.

الفرق بين أصل الإيمان وحقيقته

الفرق بين أصل الإيمان وحقيقته Q ذكر المؤلف رحمه الله: أن مرتكب الكبيرة والعصاة من المسلمين ننفي عنهم حقيقة الإيمان وإخلاصهم، أي: مع بقاء أصل الإيمان، السؤال: ما الفرق بين الأصل والحقيقة، أليست الحقيقة هي الأصل، قال الله تعالى بعد سرد صفات المؤمنين {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]؟ A الأصل اسم الإيمان، والحقيقة الكمال {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، فيقال للعاصي: ليس بمؤمن حقاً، فالحقيقة: هي الكمال، والأصل: هو أصل الاسم وثباته.

معاني أوصاف الخوارج

معاني أوصاف الخوارج Q ما معنى بعض أوصاف الخوارج: (أحداث الأسنان، يقولون من خير قول البرية لا يجاوز حناجرهم)، (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان). A أحداث الأسنان يعني: صغار السن ليسوا كباراً، بل هم شباب، ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، هذا في نفي الإيمان، يعني: لا يقبل منهم ولا يصح، قد يعلمون وقد لا يعلمون، والظاهر: أنهم لا يعلمون ويظنون أنهم على حق. (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان) يعني: يقاتلون المؤمنين بالمعاصي، فيكفرون المؤمنين بالمعاصي، فالزاني يقتلونه ويستحلون دمه؛ لأنه كافر عندهم، والسارق كافر، والعاق والديه كافر، ولا يقاتلون الكفار.

حكم الطعن في دعاة أهل السنة وترك أهل البدع

حكم الطعن في دعاة أهل السنة وترك أهل البدع Q هل الذين يطعنون في دعاة أهل السنة ودعاة العقيدة الصحيحة، ويدعون أهل البدع، هل فيهم وصف من وصف الخوارج؟ A نعم، لا شك أن هؤلاء شابهوهم في هذا الوصف.

حقيقة أصل الإيمان

حقيقة أصل الإيمان Q المعاصي تنفي كمال الإيمان ويبقى أصله، فما هو أصل الإيمان، وهل هذا الأصل من جنس ما يكون به كمال الإيمان؟ A لا، أصله يعني: اسم الإيمان، وكون أحكام الإيمان تجري عليه، فإنه يخاطب بيا أيها الذين آمنوا! ويقال: إنه مؤمن، ويدخل في عموم المؤمنين، ويخاطب بالأوامر والنواهي، هذا أصل الإيمان، وأما حقيقته فهو كماله، فينفى عنه كماله.

المعاصي سببها ضعف التوحيد

المعاصي سببها ضعف التوحيد Q ما رأي فضيلتكم فيمن يقول: إن المعاصي سببها النقص في التوحيد وداخلة الكفر بالله، أي جنس هذه الذنوب؟ A نعم، لا شك أن المعاصي نقص في التوحيد والإيمان، لكنها لا تزيل الإيمان إلا إذا كانت كفراً ناقضاً من نواقض الإسلام أو شركاً في العبادة.

الفرق بين الكفر الأصغر وكفر النعمة

الفرق بين الكفر الأصغر وكفر النعمة Q ما الفرق بين الكفر الأصغر وكفر النعمة؟ A كفر النعمة من الكفر الأصغر كقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل:112]، فكفر النعمة كفر أصغر وهو لا يخرج من الملة.

الأحناف أشد الناس في التكفير بالأعمال

الأحناف أشد الناس في التكفير بالأعمال Q أشكل علي أن الأحناف لا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان مع أنهم من أشد الناس في التكفير بالأعمال كالسجود للصنم، بل حتى من قدم بيضة لكافر في عيده؟ A نعم، حتى إنهم أوصلوها إلى أربعمائة مكفر، وحتى قالوا: إن من قال: مسيجد على وجه التصغير كفر. وهم يرون أن المعاصي معاصٍ، والكبائر كبائر، والكفر كفر، وهذا غير مسألة دخول الأعمال في مسمى الإيمان، فلا منافاة، يقولون: الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، والكفر كفر، والشرك شرك، لكن هذا الكفر الذي يرونه يرون أنه مخرج عن الملة، يعني: المكفرات التي ذكروها أنها تخرج من الملة، يرون أنها تنافي الإيمان من أصله.

وجود الخوارج في هذا الزمان

وجود الخوارج في هذا الزمان Q هل يوجد في هذا الزمان خوارج، ومتى يحل للمسلمين قتال الخوارج؟ A ذكر أهل الفرق أنهم ما يقرب من اثنين وعشرين فرقة، يوجد في هذا الزمان خوارج موجودون في عمان وفي المغرب وفي غيرها من جهات متعددة، يجمعهم التكفير، وقد يكون بينهم فرق يحتاج إلى تأمل ونظر في أحكامهم وأعمالهم حتى يحكم الإنسان عليهم.

علاقة الاستحلال بالكفر

علاقة الاستحلال بالكفر Q هل يلزم الاستحلال في كل معصية حتى يحكم عليه بالكفر أم هذا هو قول المرجئة؟ A لا يلزم حتى يفعل الإنسان المعصية أو يرتكبها أن يستحلها، فقد يزني لغلبة الشهوة، لكن إذا استحل الزنا كفر، كذلك إذا غلبه حب المال وذهب ليرابي وهو يعلم أن الربا حرام فيكون عاصياً، أما إذا اعتقد أن الربا حلال فهذه ردة وكفر؛ لأنه استحل أمراً معلوماً من الدين بالضرورة.

كيفية الرد على استدلالات الخوارج

كيفية الرد على استدلالات الخوارج Q يستدل الخوارج وأتباعهم بالنصوص التي أوردها المؤلف رحمه الله في باب الخروج من الإيمان، ونحن قدرنا فيها كمال الإيمان أو الكفر الأصغر ونحو ذلك، فما هو الصارف لها عن ظاهرها؛ لأننا نواجه منهم حجة واستدلالاً بالإطلاق والعموم بالنصوص؟ A الصارف لها: هو الجمع بين النصوص، فالنصوص يضم بعضها إلى بعض، فالله تعالى أثبت الإيمان للعاصي في قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178]، فسمى القاتل أخا المقتول، ومع ذلك نفى عنه الإيمان، فالجمع بينهما يكون بأن النصوص التي نفت الإيمان تحمل على كمال الإيمان، والنصوص التي أثبتت الإيمان والأخوة تحمل على أصل الإيمان، فكلام الله وكلام رسوله يصدق بعضه بعضاً ولا ينقض بعضه بعضاً. إذاً: هناك نصوص أثبتت الإيمان ونصوص نفت الإيمان فكيف نجمع بينها؟ النصوص التي أثبتت الإيمان تحمل على أصل الإيمان واسمه ودخوله فيه، والنصوص التي نفت الإيمان تحمل على كماله وحقيقته، فنجمع بين النصوص ونعمل بالنصوص من الجانبين، أما الخوارج فإنهم أخذوا بالنصوص التي تنفي الإيمان وأغمضوا أعينهم عن النصوص التي تثبت الإيمان فصاروا من أهل الزيغ، وكذلك المرجئة الذين أخذوا بالنصوص التي فيها إثبات الإيمان، وأغمضوا أعينهم عن النصوص التي فيها نفي الإيمان فصاروا من أهل الزيغ. وأما أهل السنة فأخذوا النصوص من الجانبين وعملوا بها فهم أهل الحق وأهل الاستقامة.

كيفية التعامل مع الوالد الذي يعاتب ابنه المستقيم

كيفية التعامل مع الوالد الذي يعاتب ابنه المستقيم Q يزجرني أبي على إعفائي لحيتي وتقصير ثوبي علماً بأنه يصلي في المسجد الصلوات الخمس، ويقرأ في اليوم ما يزيد على جزءين، وإذا كنا في مجلس فيه شيخ يتحدث أنصت إليه متعجباً، وإذا كنا في البيت رأيته من شياطين الإنس والعياذ بالله، ومن جملة ما يقول: الإيمان في القلب ولكني لا أحب هذه المظاهر كاللحية الطويلة والثوب القصير، وإذا جادلته بالحكمة والدليل قال: اسكت ولا تتفلسف، ووصلت به الحال إلى أن قال: إن بقيت على هذه الحال فلا أريدك في بيتي؟ A قولك: (إنه من شياطين الإنس) هذا خطأ منك، فليس لك أن تصفه بهذا الوصف، الوالد مهما عمل فإنه والد يجب عليك أن تحسن إليه، وأن تبره، حتى ولو كان كافراً، فيجب عليك أن تحسن إليه وتنفق عليه، قال الله تعالى في الوالدين الكافرين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15]. ثم قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]. فيجب عليك أن تحسن إلى والدك وتتلطف له، فهو السبب في وجودك، لكن لا تطعه في المعصية، إذا أمرك بحلق اللحية لا تطعه، أمرك بإرخاء ثيابك تحت الكعب لا تطعه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وإذا جادلته تبين له الدليل باللين والرفق، واترك الجدال العقيم، ويمكنك أن تتفق مع بعض الدعاة لكي ينصحوه ويبينوا له الحق، وإذا خفت على دينك ودعت الحاجة إلى أن تخرج فاخرج من البيت واسكن في محل ليس فيه ضرر على دينك، أو خفت أن يفتنك في دينك أو يؤذيك، فاخرج وزره على فترات وأحسن إليه، واتصل به هاتفياً، وادعو له وتلطف معه، ولا تطعه في المعاصي. ونحن نسأل الله لنا وله الهداية، ومن حقه عليك: أن تدعو له بظهر الغيب في أوقات الإجابة أن الله يهديه، كما كانت أم أبي هريرة رضي الله عنه، فقد كانت قبل أن تسلم تسب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يشق هذا على أبي هريرة مشقة عظيمة حتى يأتي يبكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه أن يدعو لها، فدعا لها، ثم جاء بعد ذلك ورآها تغتسل وأسلمت ففرح بذلك، وبكى من الفرح، فعليك أن تدعو لوالدك بظهر الغيب في أوقات الإجابة، وتتلطف معه، وتحسن إليه، وتخاطبه بالتي هي أحسن، وتنصحه باللين والرفق، وتهدي له كتيبات أو أشرطة، وتدعو أحد الدعاة أو من ينصحه أو يجادله ويبين له الحق لعل الله أن يهديه، نسأل الله لنا وله الهداية والثبات.

النهي عن الفتوى بغير علم ووجوب سؤال أهل العلم المختصين بالفتوى

النهي عن الفتوى بغير علم ووجوب سؤال أهل العلم المختصين بالفتوى Q قدمنا من بلاد بعيدة لطلب العلم، وقد كثر رءوس الجهال الذين يفتون الناس في بلادنا، فهل يحق لنا أن نقول لمن نقل فتوى أو جاء يتكلم في شيء: سموا لنا رجالكم، وعلى أيدي من من العلماء طلبتم العلم ونحو ذلك؟ A إذا كان ليس معروفاً بالعلم ولا هو من أهل العلم ولا هو من أهل الفتوى فينهى عن الفتوى، يقال: لا تفتِ يا فلان! فأهل الفتوى موجودون، والحمد لله فالآن وسائل الاتصال الحديثة سهلة يستطيع أحدنا في أي مكان في الدنيا أن يتصل بأهل العلم الكبار في المملكة، أو باللجنة الدائمة للإفتاء، فيجد عندهم الجواب، ولا ينبغي أن يفتوا أو ينقلوا الفتوى دون تثبت، فالفتوى لأهلها، لا للصغار، ولا لغير الراسخين في العلم، فليس للمتفرعين وضعفاء البصائر والإيمان أن يفتوا.

مصدر أخذ العلم

مصدر أخذ العلم Q لقد تكبدنا المشاق إليكم، لكن بعض الناس يقول: تكفي الكتب ولا يلزم أن تذهبوا إلى المشايخ؟ A لا، هذا ليس بصحيح، العلم إنما يؤخذ من أفواه العلماء، والكتب وحدها لا تكفي، وقديماً قيل: من كان شيخه كتابه فخطأه أكثر من صوابه، أما الأشرطة الطيبة المفيدة فإذا لم تستطع الحضور فهذا طيب.

المقصود بنفي الكمال عن صاحب المعصية

المقصود بنفي الكمال عن صاحب المعصية Q نفي الكمال عن العاصي هو نفي الكمال الواجب أليس كذلك؟ A نعم، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، يعني: لا يؤمن الإيمان الكامل.

الكفر الأصغر أعظم من الكبيرة

الكفر الأصغر أعظم من الكبيرة Q هل الكفر الأصغر أعلى من الكبيرة وتنافي الشرك الأصغر؟ A الصواب: أنه أكبر من الكبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه كفراً وشركاً وهو أكبر الكبائر.

أول من قال بأن الإيمان يكون بالقول وتصديق القلب فقط

أول من قال بأن الإيمان يكون بالقول وتصديق القلب فقط Q متى بدأ القول بأن الإيمان بالقول والقلب فقط أمن عهد أبي حنيفة أم هذا القول من قبل عهده؟ A أول من قال بذلك هو حماد بن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة، فعباد أهل الكوفة هم أول من قال بذلك.

حكم الصلاة خلف الإباضي

حكم الصلاة خلف الإباضي Q هل تجوز الصلاة خلف الإباضي؟ A القاعدة في هذا أن الصلاة لا تصح خلف الكافر، أما إذا كانت بدعته تكفره فلا تصح بإجماع المسلمين، فالإمام الذي يدعو غير الله، ويذبح لغير الله، وينذر لغير الله، أو فعل كبيرة مكفرة، هذا لا تصح الصلاة خلفه بإجماع المسلمين، وإذا صلى وهو يعلم حاله أعاد الصلاة، أما المبتدع والعاصي ومرتكب الكبيرة فهذا فيه تفصيل، من العلماء من قال: لا تصح وتعاد منه، وهناك من قال: تصح مع الكراهة، والصواب: أنها تصح، ولكن الصلاة خلف العادل أفضل، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج وكان فاسقاً ظالماً، وصلوا خلف عثمان بن أبي معيط وقد شرب الخمر ثم أعادوا الصلاة؛ لأنه صلى بهم وهو سكران. إذاً: الصواب في هذه المسألة الصحة، ويدل عليه ما ثبت في صحيح البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يشهدون لكم) يعني: أئمة لكم (فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)، فالصواب: صحة الصلاة خلف العاصي، ولكن الصلاة خلف العادل أولى، وقال بعض أهل العلم: تعاد الصلاة. أما الكافر فلا تصح الصلاة خلفه بإجماع المسلمين، والإباضي اعتقاده لا يوصله إلى الكفر، وقد سبق أن الصحابة عاملوهم معاملة العصاة.

شروط أكل الذبائح

شروط أكل الذبائح Q كيف يتم الجمع بين آية تحليل طعام أهل الكتاب لنا وآيات ذكر اسم الله على الذبيحة، وأن غير ذلك فسق مثل قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]؟ A أهل الكتاب نص الله تعالى على أن ذبائحهم حلال فقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5]، وطعامهم يعني: ذبائحهم كما قال أهل العلم، فأهل الكتاب ذبيحتهم حلال، لكن يشترط في الذبيحة شرطان: الشرط الأول: أن يكون الذابح مسلماً أو كتابياً يهودياً أو نصرانياً، والشرط الثاني: قطع الحلقوم والمريء بآلة حادة. فإذا وجد الشرطان صحت الذبيحة، وإذا تخلف واحد منها فإن الذبيحة غير صحيحة، إلا إذا ذبح الكتابي ولا ندري كيف ذبح وقطع الحلقوم والمريء وجهلنا الحال فإننا نأكل، أما إذا علمنا أنه قال: باسم المسيح فلا يؤكل؛ لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]، أو ذبح بالخنق أو ضرب الرأس، فهذا لا يؤكل، حتى ذبيحة المسلم. فالمقصود: أن الكتابي إذا ذبح وجهلنا الحال نأكل، وإذا علمنا أنه ذبح بالخنق أو ذكر اسم المسيح أو غيره فلا نأكل، هذا هو الجمع بين الآيات. إذاً: لابد أن يقطع الحلقوم والمريء بآلة حادة، فإذا ذبح بالخنق أو بالرصاص فهذه لا تصح، حتى ذبيحة المسلم لو خنقها أو ضربها بالرصاص لم تصح، ولابد من الشروط السابقة: قطع الحلقوم والمريء بآلة حادة، الذابح مسلم أو كتابي، ولا يذكر اسماً غير اسم الله عليه، ولك ألا تأكل ذبيحته إذا غلب على ظنك أن الذبيحة مما قتل بالرصاص، فإذا جهلت الحال فالأصل الحل، ومن الممكن أن تجيب دعوته في غير اللحم، كالفاكهة أو القهوة أو الشاي أو أي مشروب آخر.

مشروعية الأكل في أواني أهل الكتاب

مشروعية الأكل في أواني أهل الكتاب Q كيف يتم الجمع بين قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]، وحديث: تحريم الأكل في آنية أهل الكتاب، فإذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استخدام آنيتهم وفي هذا حكم واضحة فمن باب أولى عدم أخذ طعامهم؟ A النهي عن الأكل في آنيتهم ليس فيه نهي، بل في حديث أبي ثعلبة الخشني وغيره أنه قيل: (يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ فقال: إن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها)، فإذا كان يخشى أن يكون فيها شيء من الخمر فليغسلها، فالحديث واضح بأنه لا بأس بالأكل في أوانيهم.

حكم تهنئة الكفار بأعيادهم

حكم تهنئة الكفار بأعيادهم Q نحن في بلد عربي لنا جيران نصارى يحملون جنسيتنا، تمر عليهم أعياد كعيد الميلاد فلابد من مشاركتهم وتهنئتهم، وإن لم تفعل ذلك صار بيننا من الحقد والضغينة الشيء الكثير، نعم بيننا وبينهم كفر وإسلام ولكن أتكلم عن مصالح العباد، وهل يختلف الحكم لو كان جاري النصراني خالاً لأبنائي؟ A لا يجوز لك أن تشاركهم في أعيادهم ولا أن تهنئهم، وأما مسألة الإحسان فهو شيء والمعاملة شيء، أما أن تشاركهم في أعيادهم وتهنئهم فهذا لا يجوز حتى ولو كان خالاً لأولادك.

كيفية التعامل مع الشكوك المتعلقة بالإيمان والوساوس المتعلقة بالطهاة والصلاة

كيفية التعامل مع الشكوك المتعلقة بالإيمان والوساوس المتعلقة بالطهاة والصلاة Q أعاني من شكوك وشبهات في الإيمان بالأسماء والصفات، وأنفث عن يساري وأتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لكنه يعود علي بشبهات حتى شككت بإيماني وأني من المنافقين، وأصبحت الوساوس تراودني في الطهارة وأتأخر عن الصلاة، فكيف أدافع الوسواس حتى يثبت الإيمان في القلب؟ A مثلما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: (يأتي الشيطان للإنسان فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟! فإذا وجد ذلك فليقل: آمنت بالله ورسوله)، وفي بعضها: (فليستعذ بالله ولينته)، وفي الحديث الآخر يقول: ({قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]). وينفث عن يمنيه ويقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم). فهو ينفث عن يمينه ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقرأ: قل هو الله أحد، الله الصمد، ويقول: آمنت بالله ورسله، وينتهي، فيقطع التفكير ويشتغل في أموره. أما الوساوس الأخرى فيكثر من ذكر الله، ويستعين بالله، ويكثر من تلاوة القرآن والتدبر، ويستعيذ بالله من الشيطان، ويقرأ الأوراد في الصباح والمساء، وآية الكرسي بعد كل صلاة، والمعوذتين وقل هو الله أحد، ويتعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، ويستعين بالله، ويستمر في أمره ويترك التردد ويجزم.

حكم تعليق التمائم من القرآن

حكم تعليق التمائم من القرآن Q هل تعليق التمائم من القرآن بدعة أو شرك أصغر أو جائز؟ A التمائم من القرآن فيها خلاف بين أهل العلم، فبعض أهل العلم رخص فيها، والجمهور على المنع وهو الصواب ولو كانت من القرآن؛ لأن النصوص عامة ولم تخصص، ولأنها وسيلة إلى تعليق غير التمائم من القرآن؛ ولأنها وسيلة إلى امتهانه، ودخوله الحمام عند قضاء الحاجة، فالصواب: المنع من القرآن وغير القرآن.

تخريج أثر: (من عد كلامه من عمله قل كلامه)

تخريج أثر: (من عد كلامه من عمله قل كلامه) أخرجه معمر بن راشد في جامعه موقوفاً قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: سمعته غيباً يقول: إن عمر بن عبد العزيز قال: (من عد كلامه من عمله قل كلامه) وبمثله أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء، وكذا أخرجه ابن المبارك في الزهد وقال: أخبرنا أبو عبيد وغيره عن عمر بن عبد العزيز ثم ذكره بمثله، أخرجه ابن حنبل في الزهد، وأخرجه مرفوعاً ابن عبد البر في التمهيد فقال: روي عنه عليه السلام أنه قال في صحف إبراهيم: (من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعينه). قال: حدثنا محمد بن خليفة قال: حدثنا محمد بن حسين الفريابي قال: حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني قال: حدثني أبي عن جدي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! ما كانت صحف إبراهيم عليه السلام؟ قال: كانت أمثالاً كلها)، فذكر الحديث قال: (وكان فيها: وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه)، هذا ما وقفت عليه في تخريج الحديث.

معنى: (يأرز الدين إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)

معنى: (يأرز الدين إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) Q ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يأرز الدين كما تأرز الحية إلى جحرها حتى يكون في المدينة)؟ A ( إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) ذكر العلماء: أن هذا في آخر الزمان وفي وقت خروج الدجال حينما يأتي بالسبخة وترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر وكافرة، وكل منافق، وكل خبيث، ولا يبقى إلا المؤمنون.

حكم قول: (يا رضا الله ورضا الوالدين)

حكم قول: (يا رضا الله ورضا الوالدين) Q ما حكم قول: يا رضا الله ورضا الوالدين؟! A ما أعلم لهذا أصلاً، فالصفة لا تنادى، وهذا مثل قول بعض الناس: يا وجه الله، يا رحمة الله ارحميني، يا قدرة الله أنقذيني، هذا لا يجوز حتى قال شيخ الإسلام: إنه ردة.

[12]

شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [12] لقد ثبت بالنصوص القاطعة من الكتاب والسنة تسمية بعض الأعمال كفراً، مع أن صاحبها موحد له من الأعمال الصالحة ما له، فوجب تفسيرها على أن المراد بها الكفر أو الشرك الأصغر، وهذا معتقد الفرقة الناجية، معتقد أهل السنة والجماعة، وهم في ذلك وسط بين الوعيدية والمرجئة.

النصوص الدالة على أن المعاصي لا تزيل إيمانا ولا توجب كفرا وإنما تنفي حقيقته

النصوص الدالة على أن المعاصي لا تزيل إيماناً ولا توجب كفراً وإنما تنفي حقيقته قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد وجدنا لهذين النوعين من الدلائل في الكتاب والسنة نحواً مما وجدنا في النوعين الأولين، فمن الشاهد على الشرك في التنزيل: قول الله تبارك وتعالى في آدم وحواء عند كلام إبليس إياهما {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف:189] إلى {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف:190]، وإنما هو في التأويل: أن الشيطان قال لهما: سميا ولدكما عبد الحارث، فهل لأحد يعرف الله ودينه أن يتوهم عليهما الإشراك بالله مع النبوة والمكان من الله؟! فقد سمى فعلهما شركاً وليس هو الشرك بالله]. سبق أن المؤلف رحمه الله ذكر أن المعاصي التي يفعلها المؤمنون جاءت على أربعة أنواع: النوع الأول: نفي الإيمان عن العاصي، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن). النوع الثاني: البراءة منه، كقوله عليه الصلاة والسلام: (برئ النبي صلى الله عليه وسلم من الصالقة والحالقة والشاقة). النوع الثالث: أن يخبر عنه بأنه شرك، كقوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). النوع الرابع: أن يخبر عنه بأنه كفر، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر). وسبق الكلام على بيان معناها وتأويلها عند أهل العلم، وذكر المؤلف رحمه الله مثالاً هنا لما ورد في النصوص تسميته شركاً، وهو من الكبائر ومن الشرك الأصغر الذي لا يصل إلى حد الشرك الأكبر فقال: (فمن الشاهد على الشرك في التنزيل قول الله تبارك وتعالى لآدم وحواء عند كلام إبليس إياهما: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف:189 - 190]، أن الشيطان قال لهما: سميا ولدكما عبد الحارث، فهل لأحد يعرف الله ودينه أن يتوهم عليهما الإشراك بالله مع النبوة والمكان من الله؟! فقد سمى فعلهما شركاً وليس هو الشرك بالله. هذه القصة ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه يقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف:189]، ظاهر السياق أنه في آدم وحواء، فقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف:189] هي آدم {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:1] هي حواء {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] أي: ليسكن آدم إلى زوجه {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف:189] يعني: جامعها {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:189]. دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً، يعني: ولداً حليماً مستوي الخلقة {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:189] {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف:190]، ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية أثراً عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الشيطان جاء لهما لما حملت حواء وقال لهما: سمياه عبد الحارث؛ لئن لم تسميه عبد الحارث لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقها، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتاً ثم حملت المرة الثانية فأتاهما فقال لهما مثل ذلك، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت في المرة الثالثة فقال لهما مثل ذلك فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث.

أمثلة من الكتاب والسنة على تسمية بعض الذنوب شركا وليست بشرك أكبر

أمثلة من الكتاب والسنة على تسمية بعض الذنوب شركاً وليست بشرك أكبر

تفسير قوله تعالى: (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما)

تفسير قوله تعالى: (فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما) جاء في الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الشيطان جاء إلى آدم وحواء لما حملت حواء وقال لهما: سمياه عبد الحارث، لئن لم تسمياه عبد الحارث لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقك، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت المرة الثانية فأتاهما فقال لهما مثل ذلك، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت في المرة الثالثة فقال لهما مثل ذلك، فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث، فذلك قول الله تعالى: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف:190]. قوله: (شركاء) يعني: شركاء في التسمية والطاعة، وليس شركاً في العبادة، وهذه القصة من أخبار بني إسرائيل لا تثبت، لكن روي عن الحسن وغيره قال: أشفقا أن يكون بهيمة، وقال بعضهم: شركاء في التسمية والطاعة وليس في العبادة، وكون هذه القصة لا تثبت فالآية كافية لمن تدبرها وتأملها فإنها ظاهرة في آدم وحواء. قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف:189] هي آدم {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189] هي حواء، {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف:189] جامعها {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} [الأعراف:189] ثقل الحمل في بطنها {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} [الأعراف:189] يعني: إنساناً مستوياً سليم الأعضاء {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف:189 - 190]. أما قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف:190] فهو انتقال من الشخص إلى جنس الذرية، وقال بعض العلماء: إن الآية في الجنس لا في آدم، لكن الصواب: أنها في آدم وحواء، وهذا هو الظاهر من الآية، والشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه ذكرها في كتاب التوحيد في باب قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف:190] وذكر أثر ابن عباس بصرف النظر عن كونه ثابتاً أو غير ثابت، وذكر الشيخ سليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب تيسير العزيز الحميد: أن الآية صريحة في أن القصة في آدم وحواء، وأن على هذا تفاسير السلف، وأن إنكار كون الآية في آدم وحواء مكابرة وعدول عن تفاسير السلف إلى تفاسير أهل البدع. ومن العلماء من قال: إنها ليست في آدم وحواء، وإنما هي في جنس بني آدم، وذهب إلى هذا فضيلة الشيخ: محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله في كتابه القول المفيد، وقال: إنه لا يمكن أن يقع الشرك من آدم، والأنبياء معصومون من الشرك، ولو كان وقع الشرك لذكر الله توبتهما منه كما ذكر توبتهما من الأكل من الشجرة. والصواب والذي يظهر لي: أنها في آدم وحواء، وأن هذا شرك في التسمية، وقع منهم الذنب في التسمية كما وقع الذنب في الأكل من الشجرة، ولهذا قال العلماء: إن من ينكر وقوعهما في طاعة الشيطان في التسمية كيف يغفل عن معصيتهما في المرة الأولى، فهما وقعا في المعصية وأكلا من الشجرة، وسول لهما مرة أخرى وأطاعاه في التسمية، فهو شرك في التسمية لا شرك في العبادة. أما قوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف:190] فهذا في الذرية، فهو انتقال من الشخص إلى الجنس, والشرك في هذه الآية ليس شركاً في العبادة والتوحيد، وإنما هو شرك في الطاعة والتسمية، وهو لا يمنع وقوعهما منهما كما وقعت المعصية منهما في أول الأمر، والمؤلف رحمه الله ذهب إلى أنها في آدم وحواء وقال: (فمن الشاهد على الشرك في التنزيل قول الله تعالى في آدم وحواء عند كلام إبليس ثم قال: وإنما هو في التأويل: أن الشيطان قال لهما: سميا ولدكما عبد الحارث، فهل لأحد يعرف الله ودينه أن يتوهم عليهما الإشراك بالله مع النبوة؟!) فالمقصود: أن الله أخبر أنه وقع منهما الشرك، وآدم نبي عليه الصلاة والسلام، فهل يتوهم أحد وقوع الشرك الأكبر منه، والأنبياء معصومون من الشرك الأكبر وفيما يبلغون عن الله؟ قوله: (فقد سمى فعلهما شركاً وليس هو الشرك بالله)، يعني: هو شرك أصغر، شرك في الطاعة والتسمية ينافي كمال التوحيد. فالشرك الذي وقع من الأبوين شرك في طاعة الشيطان في التسمية، فإنما سمياه عبد الحارث وليس شركاً في العبادة، ولهذا استدل المؤلف رحمه الله بهذه الآية على أن بعض المعاصي تسمى شركاً كقوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) فكما سمى الحلف بغير الله شركاً، فكذلك سمى ما وقع من الأبوين شركاً في التسمية وهو شرك أصغر، ويكون قد تابا منه، فهذا مثال في الشرك الذي لا يخرج من الملة.

مثال من السنة على تسمية بعض الذنوب شركا

مثال من السنة على تسمية بعض الذنوب شركاً قال المؤلف رحمه الله: [وأما الذي في السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر)، فقد فسر لك بقوله: (الأصغر) أن هاهنا شركاً سوى الذي يكون به صاحبه مشركاً بالله]. هذا مثال من السنة على تسمية بعض الذنوب شركاً وليس شركاً في العبادة، وإنما هو كبيرة من الكبائر وسمي شركاً، وهو الرياء: (أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر). والمؤلف يشير إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الرياء، يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه)، فالرياء شرك أصغر، وكذلك الحلف بغير الله شرك أصغر، فبعض الذنوب تسمى شركاً ولا يكون ذلك شركاً في العبادة. قال المؤلف رحمه الله: [ومنه قول عبد الله: الربا بضع وستون باباً، والشرك مثل ذلك]. أي: أن الشرك مثل الربا أبوابه كثيرة، والحديث أخرجه البزار من حديث ابن مسعود ولا بأس بسنده.

بيان وجه الدلالة من النصوص السابقة وتوجيهها

بيان وجه الدلالة من النصوص السابقة وتوجيهها قال المؤلف رحمه الله: [فقد أخبرك أن في الذنوب أنواعاً كثيرة تسمى بهذا الاسم، وهي غير الإشراك التي يتخذ لها مع الله إلهاً غيره]. هذا بيان وجه الدلالة من هذه النصوص، يقول: هناك ذنوب كثيرة سميت شركاً، منها: ما وقع من الأبوين، ومنها: الرياء، ومنها: الحلف بغير الله، ومنها ما جاء في حديث ابن مسعود أن الربا بضع وستون باباً، والشرك مثل ذلك، يعني: هو بضع وستون باباً، وهي ذنوب سميت شركاً. قوله: (وهي غير الإشراك الذي يتخذ لها مع الله إلهاً غيره) يعني: غير الشرك الأكبر الذي يكون شركاً في العبادة ويخرج من الملة، وإنما هي معاص وكبائر سميت شركاً، فهي تضعف الإيمان وتنقصه، ولا يخرج صاحبها عن اسم الإيمان بل يبقى اسم الإيمان عليه كسائر المعاصي، فإذا ارتكب كبيرة، زنا أو سرق أو شرب الخمر أو عق والديه أو قطع رحمه أو شهد زوراً أو حلف بغير الله فإن إيمانه يكون ضعيفاً ناقصاً، ولن ينتهي إلا إذا فعل الشرك الأكبر، فالمؤلف يبين أن بعض الذنوب تسمى شركاً ولا يخرج صاحبها عن الإيمان، وإن كانت أكبر من الكبائر، ولذلك ما سميت شركاً وكفراً أكبر من الكبائر إلا لأنها لا تخرج من الملة؛ لأنها ليست شركاً في العبادة ولا ناقضاً من نواقض الإسلام. قال المؤلف رحمه الله: [تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فليس لهذه الأبواب عندنا وجوه إلا أنها أخلاق المشركين وتسميتهم وسننهم وألفاظهم وأحكامهم ونحو ذلك من أمورهم]. سبق الكلام أن الأصل في هذا أن يقال: إن هذه النصوص تفيد الوعيد والزجر وأنها من الكبائر، وما سميت شركاً أو كفراً فهو أصغر لا يخرج من الملة ما لم يكن شركاً في العبادة أو ناقضاً من نواقض الإسلام، فإذا حلف بغير الله يكون إيمانه ناقصاً وضعيفاً، لكن لا يخرج من الإيمان ولا ينتهي إيمانه إلا بالشرك الأكبر.

أمثلة من الكتاب والسنة على تسمية بعض الذنوب كفرا وليست كفرا أكبر

أمثلة من الكتاب والسنة على تسمية بعض الذنوب كفراً وليست كفراً أكبر

أحوال الحكم بغير ما أنزل الله

أحوال الحكم بغير ما أنزل الله قال المؤلف رحمه الله: [وأما الفرقان فالشاهد عليه بالتنزيل: قول الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. وقال ابن عباس: ليس بكفر ينقل عن الملة، وقال عطاء بن أبي رباح: كفر دون كفر، فقد تبين لنا أنه كان ليس بناقل عن ملة الإسلام أن الدين باق على حاله وإن خالطه ذنوب، فلا معنى له إلا خلاف الكفار وسنتهم على ما أعلمتك من الشرك سواء؛ لأن من سنن الكفار الحكم بغير ما أنزل الله، ألا تسمع قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50]، تأويله عند أهل التفسير: أن من حكم بغير ما أنزل الله وهو على ملة الإسلام كان بذلك الحكم كأهل الجاهلية، إنما هو أن أهل الجاهلية كذلك كانوا يحكمون]. هنا قوله: (وأما الفرقان) فلعله (وأما الكفر)، وقوله: (فقد تبين أنه كان) الأصح (فقد تبين لنا إذ كان)، وقوله: (إلا خلاف الكفار وسنتهم) الأصح (إلا أخلاق الكفار). هذا مثال للكفر الذي لا يخرج من الملة، مثله المؤلف رحمه الله بقول الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، واستدل بتفسير ابن عباس وتفسير عطاء، قال ابن عباس في هذه الآية الكريمة: ليس بكفر ينقل عن الملة، وكمال كلام ابن عباس ولم يذكره المؤلف قوله: ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعله فهو فيه أو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر، هذا تكملة الأثر عند ابن عباس، وقال عطاء بن أبي رباح: (كفر دون كفر) على هذا يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أصغر. والصواب: أن الآية محتملة للكفر الأكبر والكفر الأصغر على حسب الحاكم واعتقاده، فإن حكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن الحكم بما أنزل الله لا يناسب العصر، وأنه لا يناسب العصر إلا الحكم بالقوانين الوضعية فإن هذا كفر أكبر يخرج عن الملة، وكذا إذا حكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن الحكم بما أنزل الله مماثل الحكم بالقوانين والآراء وأنهما سيان، وأن الإنسان مخير بين أن يحكم بما أنزل الله أو يحكم بالقوانين والآراء فهذا كفر أكبر يخرج من الملة، وكذا إذا حكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن الحكم بما أنزل الله أحسن وأفضل إلا أنه يجوز الحكم بغير ما أنزل الله، فهذا أيضاً كفر أكبر يخرج من الملة؛ لأنه استحل أمراً معلوماً من الدين بالضرورة تحريمه، والحكم بغير ما أنزل الله حرام بالإجماع، فإذا استحله ورأى أن الحكم بالقوانين والآراء جائز صار كافراً كفراً أكبر، ولو اعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن، وكذلك إذا حكم بغير ما أنزل الله واستهان بحكم الله، وكذا إذا بدل الدين رأساً على عقب. فالمقصود: أن الآية محتملة للكفر الأكبر والأصغر، والمؤلف رحمه الله مثل بها للكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة وأنه ينافي الإيمان، ولهذا علق عليها فقال: (فقد تبين لنا إذ كان) يعني الحكم بغير ما أنزل الله (إذ كان ليس بناقل عن ملة الإسلام أن الدين باق على حاله) يعني: أن من حكم بغير ما أنزل الله يكون دينه باق وإيمانه باق ولا يخرج من الملة ولا ينتهي إيمانه؛ لأنه لم يفعل شركاً في العبادة ولم يفعل ناقضاً من نواقض الإسلام، وإنما فعل كبيرة من كبائر الذنوب وإن سميت كفراً، إلا أنها لا تخرج من الملة، فيكون إيمانه ضعيفاً وناقصاً، ويكون فاسقاً بهذا العمل لكنه لا يخرج من الملة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (فقد تبين لنا إذ كان ليس بناقل عن ملة الإسلام أن الدين باق على حاله وإن خالطه ذنوب، فلا معنى له إلا أخلاق الكفار وسنتهم على ما أعلمتك من الشرك سواء؛ لأن من سنن الكفار الحكم بغير ما أنزل الله، ألا تسمع قوله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50]، تأويله عند أهل التفسير أن من حكم بغير ما أنزل الله وهو على ملة الإسلام كان بذلك الحكم كأهل الجاهلية، إنما هو أن أهل الجاهلية كذلك كانوا يحكمون) فالمعنى: أنه لا يخرج من الملة، وإن ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب وكفراً أصغر لا يخرج من الملة ولا ينتهي إيمانه بذلك، بل يكون إيمانه ضعيفاً وناقصاً، ويفسق بهذا العمل إلا أنه لا يكفر كفراً يخرج من الملة.

توجيه حديث: ثلاثة من أمر الجاهلية

توجيه حديث: ثلاثة من أمر الجاهلية قال المؤلف رحمه الله: [وهكذا قوله: (ثلاثة من أمر الجاهلية: الطعن في الأنساب والنياحة، والأنواء)]. هذا الحديث يدل على أن من فعل هذه الثلاثة أو واحداً منها يكون مرتكباً لكبيرة؛ لأنه فعل فعلاً من أفعال الجاهلية التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (الطعن في الأنساب) يعني: عيبها وتنقصها وذمها. قوله: (والنياحة) هي: رفع الصوت بالبكاء على الميت والندب، وتعداد محاسن الميت. قوله: (والأنواء) يعني: الاستسقاء بالأنواء وهي: النجوم، بمعنى نسبة المطر والسقي إلى النجوم والأنواء على أنها سبب، فهذا شرك وكفر أصغر، وهو من أعمال الجاهلية، لكنه لا يخرج به من الملة، مثل قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب, والاستسقاء بالنجوم, والنياحة على الميت)، وهذا الحديث يفيد فائدتين: الفائدة الأولى: أن هذه الأمور واقعة في هذه الأمة، فهي علم من أعلام النبوة وأنه رسول الله حقاً. والفائدة الثانية: التحذير من فعل هذه الأشياء، وأنه ينبغي للمسلم أن يحذرها ولا يفعل شيئاً منها. قال المؤلف رحمه الله: [ومثله الحديث الذي يروى عن جرير وأبي البختري الطائي: ثلاثة من سنة الجاهلية: النياحة، وصنعة الطعام، وأن تبيت المرأة في أهل الميت من غيرهم]. أما النياحة فالأحاديث فيها كثيرة في أنها من كبائر الذنوب ومن أعمال الجاهلية، وكذلك صنعة الطعام والاجتماع كما قال جرير بن عبد الله البجلي رحمه الله: كنا نعد الاجتماع عند الميت وصنعة الطعام من النياحة، وأما مبيت المرأة في أهل الميت فيحتاج إلى النظر في ثبوت هذا الحديث.

توجيه حديث: آية المنافق ثلاث

توجيه حديث: آية المنافق ثلاث قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك الحديث: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)]. هذا الحديث فيه أن هذه الثلاث من علامات النفاق: الكذب في الحديث، والخلف في الوعد، والخيانة في الأمانة، وهذه معاص وليست نفاقاً أكبر يخرج من الملة، وإنما هو نفاق عملي، والصواب: كون صاحبها ضعيف الإيمان وناقص الإيمان، لكن لا ينتهي إيمانه ولا يخرج من الإيمان؛ لأنها ليست كفراً أكبر ولا ردة. قال المؤلف رحمه الله: [وقول عبد الله: الغناء ينبت النفاق في القلب]. فإذا سمع الغناء وتلذذ به تلذذاً يذهب النفوس ويقعدها ضعف إيمانه ونقص.

وصف بعض الأعمال بالنفاق أو الكفر أو الشرك ليس معناها أنه يخرج من الملة

وصف بعض الأعمال بالنفاق أو الكفر أو الشرك ليس معناها أنه يخرج من الملة قال المؤلف رحمه الله: [ليس وجوه هذه الآثار كلها من الذنوب أن راكبها يكون جاهلاً ولا كافراً ولا منافقاً وهو مؤمن بالله وما جاء من عنده ومؤد لفرائضه، ولكن معناها أنها تتبين من أفعال الكفار محرمة منهي عنها في الكتاب وفي السنة ليتحاماها المسلمون ويتجنبوها، فلا يتشبهوا بشيء من أخلاقهم ولا شرائعهم]. المؤلف يبدي ويعيد ويبين أن هذه الآثار التي فيها وصف بعض الأعمال بالنفاق أو بالكفر أو بالشرك أو بنفي الإيمان أو بالبراءة منه ليس معناها أنه يخرج من الملة، وأنه ينتهي إيمانه وأنه يكفر كفراً أكبر، وليس معناها أن راكبها يكون جاهلاً جهل الكفار ولا كافراً كالكافرين الخارجين من الملة، ولا منافقاً النفاق الأكبر وهو مؤمن بالله وبما جاء من عنده، بل معناها: أنه يكون جاهلاً لمعصيته جهلاً أصغر، وكافراً كفراً أصغر، ومنافقاً نفاقاً أصغر، ولهذا قال: (وليس معناها: أن راكبها يكون جاهلاً ولا كافراً ولا منافقاً وهو مؤمن بالله، وما جاء من عنده ومؤد لفرائضه، ولكن معناها أنها تتبين من أفعال الكفار محرمة منهي عنها في الكتاب وفي السنة) أي: أن صاحبها يكون مرتكباً لكبيرة ومعصية، ويكون إيمانه ضعيفاً وناقصاً لكنه لا يخرج من الملة، ولهذا قال: (ليتحاماها المسلمون ويتجنبوها، فلا يتشبهوا بشيء من أخلاقهم ولا شرائعهم). قال المؤلف رحمه الله: [ولقد روي في بعض الأحاديث: (أن السواد خضاب الكفار) فهل يكون لأحد أن يقول: إنه يكفر من أجل الخضاب؟!]. هذا الحديث ضعيف أخرجه الطبراني والحاكم والذهبي وغيره، وهو حديث منكر، لكن على فرض صحته فليس معناه أن الخضاب بالسواد يكون كفراً، إنما يكون معصية، ولهذا قال المؤلف: (فهل يكون لأحد أن يقول: إنه يكفر من أجل الخضاب) بل يكون معصية، ويكون صاحبه ضعيف الإيمان وناقص الإيمان لو صح هذا. قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك حديثه في المرأة: (إذا استعطرت ثم مرت بقوم يوجد ريحها أنها زانية)، فهل يكون هذا على الزنا الذي تجب فيه الحدود؟!]. هذا الحديث حديث صحيح ولفظه: (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية). فالمؤلف يقول: الحديث معناه: أنها عاصية وأنها مرتكبة لكبيرة، وأن إيمانها ناقص وضعيف، وليس المراد أنها فعلت الزنا الذي يوجب الحد ويقام فيه. قال المؤلف رحمه الله: [ومثله قوله: (المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان)، أفيتهم عليه أنه أراد الشيطانين الذين هم أولاد إبليس؟! إنما هذا كله على ما أعلمتك من الأفعال والأخلاق والسنن]. هذا الحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد وابن حبان في صحيحه، وليس المراد أنهما شيطانان من أولاد إبليس؛ لأن إبليس هو أبو الجن، ولهذا قال: أتعرف الخلاق أم أصبحت ذا نكران وسل أبا الجن اللعين فقل له فهو أبو الجن، ومن لم يسلم من الجن سمي شيطاناً لتمرده، ومن أسلم فلا يسمى شيطاناً، وليس معنى الحديث أن المستبان من أولاد إبليس، وإنما المراد كما يقول: (على ما أعلمتك من الأفعال والأخلاق والسنن) يعني: المراد أنه تمرد، والمتمرد من كل جنس يسمى: شيطاناً، والمعنى: أن كونهما يتهاتران ويتكاذبان هذا معصية وكبيرة تضعف الإيمان وتنقصه، ولا يخرج بهما صاحبهما من الملة والإيمان بذلك، والمراد: أن هذا العمل من كبائر الذنوب ويضعف به الإيمان وينقص، ولا يخرج به الإنسان من الإيمان، بل يبقى معه أصل الإيمان ووصفه، فيدخل في خطاب المؤمنين وتشمله أحكام المؤمنين.

النصوص التي فيها ذكر الكفر أو الشرك لأهل القبلة المراد بها الكفر والشرك الأصغر دون الأكبر

النصوص التي فيها ذكر الكفر أو الشرك لأهل القبلة المراد بها الكفر والشرك الأصغر دون الأكبر قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك كلما كان فيه ذكر كفر أو شرك لأهل القبلة فهو عندنا على هذا]. أي: أن كلما جاء من النصوص مما فيه ذكر الكفر أو الشرك لأهل القبلة الموحدين فالمراد به الكفر والشرك الأصغر دون الأكبر، مثل (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (الرياء من الشرك) ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت)، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ومثل كفر النعمة: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل:112]، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، وما أشبه ذلك، فهذه النصوص التي فيها تسمية بعض الذنوب كفراً أو شركاً وفاعلها موحد وهو من أهل القبلة فالمراد بها: أنه فعل شركاً أصغر أو كفراً أصغر، وارتكب هذه الكبيرة العظيمة فيكون إيمانه ناقصاً وضعيفاً ولا يخرج به من الإسلام والإيمان، وتبقى أحكام الإسلام واسم الإيمان وجميع الأحكام ثابتة له إلا أنه ضعيف الإيمان وناقص الإيمان.

الآثار الدالة على أنه لا يبلغ العبد كفرا ولا شركا حتى يفعل الشرك الأكبر

الآثار الدالة على أنه لا يبلغ العبد كفراً ولا شركاً حتى يفعل الشرك الأكبر قال المؤلف رحمه الله: [ولا يجب اسم الكفر والشرك الذي تزول به أحكام الإسلام ويلحق صاحبة بردة إلا كلمة الكفر خاصة دون غيرها، وبذلك جاءت الآثار مفسرة]. يقول المؤلف: إن هذه النصوص التي سبقت وفيها تسمية بعض الكبائر شركاً أو كفراً إنما هي كبائر، وإن كان الشرك والكفر أكبر من الكبائر إلا أنها كبائر لا تخرج صاحبها من الملة، ولا يلحقه اسم الكفر الأكبر والشرك الذي تزول به أحكام الإسلام ويلحق صاحبها ردة إلا كلمة الكفر خاصة دون غيرها، وكلام المؤلف رحمه الله: (ويلحق صاحبه ردة إلا كلمة الكفر خاصة دون غيرها) هذا فيه نظر، والصواب: أن الردة تحصل بكلمة الكفر كما سبق، وبفعل الكفر: كما لو سجد للصنم أو داس المصحف بقدمه أو لطخه بالنجاسة، هذا يكفر بهذا الفعل ولو لم يتكلم, كذلك أيضاً يكون الكفر باعتقاد الكفر: كما لو اعتقد أن لله صاحبة أو ولداً, ويكون أيضاً بكلمة الكفر: كمن سب الله أو سب رسوله أو سب دينه أو استهزأ بالله وكتابه ورسوله، ويكون الكفر أيضاً بالإعراض: كما لو أعرض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به. إذاً: قول ليس بسليم بل يكون كافراً بكلمة الكفر وبفعل الكفر وباعتقاد الكفر وبالإعراض عن دين الله لا يعلمه ولا يتعلمه, فهذه الأنواع كلها يخرج بها من الإسلام إلى دائرة الكفر. قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو عبيد: حدثنا أبو معاوية عن جعفر بن برقان عن ابن أبي نشبة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من أصل الإسلام: الكف عن من قال: لا إله إلا الله، لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض من يوم بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار كلها)]. الشيخ: هذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده مجهول وهو يزيد السلمي، ولكن معناه صحيح، وبعضه له شواهد. قوله: (ولا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل) هذا صحيح، فمن قال: (لا إله إلا الله) وكان لا يقولها في كفره فإنه يحكم بإسلامه ثم بعد ذلك إن التزم بأحكام الإسلام فالحمد لله، وإن فعل ناقضاً من نواقض الإسلام عومل بذلك، فمن قال: (لا إله إلا الله) لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل، هذا معتقد أهل السنة والجماعة. قوله: (والجهاد ماض من يوم بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل) هذا ثابت، وقوله: (والإيمان بالأقدار كلها) هذا يحتاج إلى نظر، فالإيمان بالأقدار كلها لا يعلم أنه ثابت في حديث صحيح ويحتاج إلى مراجعة، لكن معناه صحيح بل هو من أصل الإيمان، وركن من أركان الإسلام، لا يصح الإسلام إلا به. إذاً: الكف عمن قال: (لا إله إلا الله) لا يكفر بذنب، ولا يخرج من الإسلام بعمل، إلا إذا فعل ناقضاً من نواقض الإسلام وفعل شركاً في العبادة، وكذلك أيضاً الجهاد ماض إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، كل هذا صحيح. والمؤلف رحمه الله بهذا الحديث يبين أن المسلم والمؤمن لا يخرج من الإيمان بذنب من الذنوب، ولا يخرج من الإسلام بعمل يعمله كما لو فعل كبيرة كالزنا أو السرقة أو شرب الخمر أو عقوق الوالدين أو قطيعة الرحم, ما دام أنه مسلم ومؤمن وموحد فلا يخرج من الإسلام بذنب ولا يكفر بمعصية من المعاصي إلا إذا فعل ناقضاً من نواقض الإسلام أو فعل شركاً في العبادة، كما لو دعا غير الله أو ذبح لغير الله أو نذر لغير الله أو طاف بغير بيت الله تقرباً لذلك الغير أو سجد للصنم أو اعتقد الكفر, أما إذا فعل معصية أو كبيرة فإنه يبقى عليه اسم الإسلام وحكم الإسلام، ولكن إيمانه يكون ناقصاً وضعيفاً. قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو عبيد: حدثنا عباد بن عباد عن الصلت بن دينار عن أبي عثمان النهدي قال: دخلت على ابن مسعود وهو في بيت مال الكوفة فسمعته يقول: لا يبلغ بعبد كفراًَ ولا شركاً حتى يذبح لغير الله أو يصلي لغيره]. قوله: (لا يبلغ بعبد) لعله (لا يبلغ عبد) وهذا الأثر عن ابن مسعود ضعيف؛ من أجل الصلت بن دينار فإنه ضعيف جداً، لكن المؤلف رحمه الله يبين أن الإنسان المؤمن لا يخرج من الإيمان بالمعاصي إلا إذا فعل كفراً أو شركاً، وعلى فرض صحته فقوله: (لا يبلغ عبداً كفراً ولا شركاً حتى يذبح لغير الله أو يصلي لغير الله) لأنه إذا ذبح لغير الله أشرك شركاً أكبر، وكذلك إذا صلى لغير الله، وهذا مثال، وكذا جميع النواقض وجميع أنواع الشرك إذا فعلها خرج من الإسلام. قوله: (لا يبلغ عبد كفراً ولا شركاً) يعني: بالمعاصي حتى يفعل الشرك الأكبر، ومثل لذلك: بالذبح لغير الله أو الصلاة لغير الله. قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو عبيد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان قال: جاورت مع جابراً بن عبد الله بمكة ستة أشهر فسأله رجل: هل كنتم تسمون أحداً من أهل القبلة كافراً؟ فقال: معاذ الله! قال: فهل تسمونه مشركاً؟ قال: لا]. الشيخ: هذا الأثر عن جابر رضي الله عنه سنده صحيح، وفيه: أن جابراً بن عبد الله سأله رجل: هل كنتم تسمون أحداً من أهل القبلة كافراً؟ قال: معاذ الله، فأهل القبلة الذين يستقبلون القبلة في الصلاة والذبح وغيرها ويلتزمون بأحكام الإسلام، لا يسمى أحد منهم كافراً إلا إذا فعل ناقضاً من نواقض الإسلام أو شركاً في العبادة، ولهذا قال جابر: معاذ الله! قال: (فهل تسمونه مشركاً؟ قال: لا) لا يسمى مشركاً ولا يسمى كافراً بل هو مؤمن يبقى عليه اسم الإيمان وأحكام الإسلام إلا إذا وجد ما ينقض ذلك من الشرك في العبادة أو ناقض من نواقض الإسلام.

[13]

شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [13] تعددت فرق أمة محمد في الإيمان، ومن هذه الفرق الجهمية والمعتزلة والخوارج والإباضية والصفرية والشيعة بمذاهبها، وكلها ذهبت مذاهب باطلة وخالفت منهج أهل السنة والجماعة وما كان عليه السلف الصالح.

ذكر الذنوب التي تلحق بالكبائر ولا تخرج من الإيمان

ذكر الذنوب التي تلحق بالكبائر ولا تخرج من الإيمان قال المؤلف رحمه الله: [باب ذكر الذنوب التي تلحق بالكبائر بلا خروج من الإيمان: قال أبو عبيد: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله)، وكذلك قوله: (حرمة ماله كحرمة دمه)، ومنه قول عبد الله: شارب الخمر كعابد اللات والعزى وما كان من هذا النوع مما يشبه فيه الذنب بآخر أعظم منه، وقد كان في الناس من يحمل ذلك على التساوي بينهما, ولا وجه لهذا عندي؛ لأن الله قد جعل الذنوب بعضها أعظم من بعض فقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31] في أشياء كثيرة من الكتاب والسنة يطول ذكرها، ولكن وجوهها عندي أن الله قد نهى عن هذه كلها، وإن كان بعضها عنده أجل من بعض، يقول: من أتى شيئاً من هذه المعاصي فقد لحق بأهل المعاصي كما لحق بها الآخرون؛ لأن كل واحد منهم على قدر ذنبه قد لزمه اسم المعصية، وإن كان بعضهم أعظم جرماً من بعض]. هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله لبيان ذكر الذنوب التي تلحق بالكبائر وليس فيها بيان أنها شرك أو كفر، بل تلحق بالكبائر ولا يخرج صاحبها عن الإيمان, فهي مثل الذنوب التي سميت شركاً أو كفراً، كالحلف بغير الله وكالطعن في النسب. فكذلك الذنوب التي تلحق بالكبائر فإنها لا تخرج صاحبها عن الإيمان وإنما يكون صاحبها مرتكباً لكبيرة فيكون ضعيف الإيمان وناقص الإيمان. وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله) الحديث أخرجه مسلم رحمه الله، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه لعن المؤمن بالقتل، والقتل كبيرة وكذلك اللعن كبيرة، فيكون لعن المؤمن كبيرة، فإذا لعن الإنسان مؤمناً ضعف إيمانه ونقص، كما أنه إذا قتله ضعف إيمانه ونقص. قوله: (حرمة ماله كحرمة دمه)، هذا الحديث أخرجه الدارقطني وأبو نعيم عن ابن مسعود وله شاهد في مسلم. وكما أن دم المسلم حرام فكذلك ماله حرام، فإذا أخذ ماله بغير حق ارتكب كبيرة وضعف إيمانه ونقص. قول عبد الله: شارب الخمر كعابد اللات والعزى، هو عبد الله بن مسعود، شبه شارب الخمر بعابد اللات، أي: شبه الذنب بذنب آخر، وإن كان عابد الوثن مرتكباً للشرك الأكبر إلا أن المشبه أقل من المشبه به، فتشبيهه به يدل على أنه كبيرة من كبائر الذنوب، وهذا على فرض صحة الحديث، وهو موقوف على عبد الله، والمحشي يقول: إنه صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم أره موقوفاًَ على ابن مسعود. فالمقصود أن هذا فيه تشبيه, شبهه بالشرك، لكن المشبه أقل من المشبه به، ولهذا قال المؤلف: (وما كان من هذا النوع مما يشبه في الذنب بآخر أعظم منه، وقد كان في الناس من يحمل ذلك على التساوي بينهما، ولا وجه لهذا عندي) أي: بعض الناس يسوي بين المشبه والمشبه به فيقول: لعن لمؤمن كقتله في الجريمة، لكن هذا ليس بصحيح، فالقتل أشد من اللعن، كذلك (حرمة ماله كحرمة دمه) فحرمة الدم أعظم من حرمة المال. و (شارب الخمر كعابد الوثن) ولا شك أن شارب الخمر ليس كعابد الوثن، ومن يحمل ذلك على التساوي ويجعل المشبه كالمشبه به قال فيه المؤلف: (ولا وجه لذلك عندي؛ لأن الله قد جعل الذنوب بعضها أعظم من بعض) يعني: أن الله تعالى قسم الذنوب إلى كبائر وصغائر، والكبائر بعضها أكبر من بعض، وكل كبيرة هي صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها وكبيرة بالنسبة إلى ما دونها. واستدل بقول الله تعالى: {(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31] في أشياء كثيرة من الكتاب والسنة يطول ذكرها) يقول: هذه أمثلة وإلا فالأدلة كثيرة، (ولكن وجوهها عندي) يعني: معنى هذه النصوص وتفسيرها (أن الله قد نهى عن هذه كلها، وإن كان بعضها عنده أجل من بعض) فالله تعالى نهى عن الكبائر وإن كان بعضها أكبر من بعض، فنهى عن لعن المؤمن ونهى عن قتله ونهى عن ماله ودمه، وإن كان بعضها أكبر من بعض، فالقتل أعظم من اللعن، وحرمة الدم أعظم من حرمة المال، لكن يجمعها شيء واحد وهو أن الله نهى عنها كلها وإن كان بعضها عنده أجل من بعض عند الله. قوله: (من أتى شيئاً من هذه المعاصي فقد لحق بأهل المعاصي كما لحق بها الآخرون؛ لأن كل واحد منهم على قدر ذنبه قد لزمه اسم المعصية، وإن كان بعضهم أعظم جرماً من بعض) المعنى أن الذنوب التي تلحق بالكبائر أو تلحق بما هو أكبر منها كلها معاص تنقص الإيمان وتضعفه كالكبائر لا تخرج صاحبها من الملة. قال المؤلف رحمه الله: [وفسر ذلك كله الحديث المرفوع حين قال: (عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30])، فقد تبين لنا الشرك والزور، وإنما تساويا في النهي، نهى الله عنهما معاً في مكان واحد فهما في النهي متساويان، وفي الأوزار والمأثم متفاوتان]. المؤلف يفسر هذا أن الذنب قد يلحق بالذنب وإن لم يبلغ مرتبته حديث: (عدلت شهادة الزور الإشراك بالله) هذا إذا صح الحديث، وأظنه ضعيفاً، لكن على فرض صحته، ثم قرأ قول الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]، فقرن قول الزور بالشرك بالأوثان، ومعلوم أن قول الزور أقل من عبادة الأوثان، فهذا ألصق بهذا؛ لأن هذا كبيرة وهذا كبيرة, والرجس من الأوثان كبيرة تصل إلى الشرك وقول الزور كبيرة لا تصل الشرك. فإلحاق الذنب بما هو أكبر منه يجعله كبيرة ولا يخرج صاحبه من الإيمان, فلا يخرج بقول الزور وشهادة الزور من الإيمان، ولهذا قال المؤلف: (فقد تبين لنا الشرك والزور، وإنما تساويا في النهي، نهى الله عنهما معاً في مكان واحد) في آية: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] (فهما في النهي متساويان، وفي الأوزار والمأثم متفاوتان) فهذا شرك أكبر يخرج من الملة وهذا معصية.

أمثلة على تفاوت الجرائم والمعاصي وتفاوت من يفعلها

أمثلة على تفاوت الجرائم والمعاصي وتفاوت من يفعلها قال المؤلف رحمه الله: [ومن هنا وجدنا الجرائم كلها، ألا ترى السارق يقطع في ربع دينار فصاعداً، وإن كان دون ذلك لم يلزمه قطع؟ فقد يجوز في الكلام أن يقال: هذا سارق كهذا، فيجمعهما في الاسم وفي ركوبهما المعصية، ويفترقان بالعقوبة على قدر الزيادة في الذنب]. المعنى أننا نجد الجرائم والمعاصي كلها بينها تفاوت، فقد يكون مسماها واحداً والذين يفعلونها متفاوتون فيها، ولهذا قال: (ألا ترى السارق يقطع في ربع دينار فصاعداً وإن كان دون ذلك لم يلزمه قطع)، ربع الدينار ثلاثة دراهم، فإذا سرق ما يبلغ ربع دينار قطعت يده وإذا سرق ألفاً تقطع يده، وإذا سرق ألفين تقطع يده، والذي يسرق ديناراً يسمى سارقاً، والذي يسرق ثلاثة دنانير كذلك، والذي يسرق ألف أو مليون ديناراً كلهم يطلق عليهم لفظ السارق، لكنهم متفاوتون في الجريمة والمعصية، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ألا ترى السارق يقطع في ربع دينار فصاعداً، وإن كان دون ذلك لم يلزمه القطع، فقد يجوز في الكلام أن يقال: هذا سارق) فالذي سرق ديناراً سارق، والذي يسرق ألف سارق فهما في الاسم سواء، كل منهما يسمى سارقاً وكل منهما عاص، ويفترقان في العقوبة على قدر الزيادة في الذنب، فالذي يسرق الملايين ذنبه أعظم من الذي يسرق ديناراً واحداً، وإن كان كل منهما يسمى سارقاً، فدل ذلك على أن الذنوب والمعاصي والكبائر تتفاوت، وهي كلها تضعف الإيمان. قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك البكر والثيب يزنيان، فيقال: هما لله عاصيان معاً، وأحدهما أعظم ذنباً وأجل عقوبة من الآخر]. فالبكر والثيب يزنيان وكل منهما زان وعاص عند الله، وكل منهما مرتكب لكبيرة، لكن الثيب أعظم ذنباً وأعظم عقوبة، فالثيب يرجم بالحجارة حتى يموت، والبكر يجلد مائة جلدة ويغرب عاماً، قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً, البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الرجم) أو كما جاء في الحديث. إذاً: الثيب يرجم والبكر يجلد، فهما وفعا في إثم واحد وهو الزنا، ولكن العقوبة متفاوتة، وكل منهما ضعيف الإيمان، وكذلك المؤمنون يتفاوتون في إيمانهم, فالذي يرتكب الكبيرة العظيمة يضعف إيمانه، والذي يرتكب كبيرة أقل منها يضعف بقدرها، فيكون الذي يرتكب الكبيرة العظيمة إيمانه ضعيفاً، فالزاني الثيب أضعف إيماناً من الزاني البكر، بل يكون إيمانه أشد ضعفاً. قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك قوله: (لعن المؤمن كقتله) إنما اشتركا في المعصية حين ركباها، ثم يلزم كل واحد منهما من العقوبة في الدنيا بقدر ذنبه]. فالذي يلعن مؤمناً والذي يقتل مؤمناً كل منهما يسمى عاص، فاللاعن عاص والقاتل عاص لكن هل العقوبة واحدة والذنب واحد؟ لا، القاتل يقتل عمداً عدواناً، واللاعن لا يقتل ولكن يقتص منه، وكذلك في الإيمان يتفاوتان، فقاتل المؤمن ذنبه عظيم وإيمانه ناقص، وهو أضعف إيماناً من اللاعن. قال المؤلف رحمه الله: [ومثل ذلك قوله: (حرمة ماله كحرمة دمه) وعلى هذا وما أشبه أيضاً]. لا شك أن من أخذ مال المسلم بغير حق مرتكب للكبيرة، ومن قتله بغير حق مرتكب للكبيرة، لكن من سفك الدم بغير حق أعظم ذنباً وإيمانه أشد ضعفاً ممن أخذ المال، وكل منهما يسمى عاصياً مرتكباً لكبيرة، وكل منهما ناقص الإيمان. والمؤلف رحمه الله يبين أن الناس يتفاوتون في إيمانهم, وليسوا على حد سواء، خلاف المرجئة الذين يقولون: الإيمان واحد، وإيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد، وإيمان أفجر الناس وأتقى الناس واحد. فالذي يقتل ويزهق النفوس ويأخذ الأموال ويشرب الخمور هذا إيمانه مثل إيمان أتقى الناس وأعبد الناس، على حد زعمهم، وهذا من أبطل الباطل. فالمؤلف رحمه الله يبن أن الناس يتفاوتون في الإيمان على حسب تفاوتهم في التقوى والإيمان والطاعة والعمل الصالح، وكذلك يتفاوتون في ضعف الإيمان على حسب الجرائم والكبائر التي ارتكبوها، فالقاتل إيمانه أشد ضعفاً ممن لعن المؤمن أو سبه.

الأسس التي مشى عليها المؤلف في رسالته

الأسس التي مشى عليها المؤلف في رسالته قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو عبيد: كتبنا هذا الكتاب على مبلغ علمنا وما انتهى إلينا من الكتاب وآثار النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء بعده، وما عليه لغات العرب ومذاهبها، وعلى الله التوكل وهو المستعان]. قوله: (قال أبو عبيد) هو المؤلف القاسم بن سلام. قوله: (كتبنا هذا الكتاب) وهو كتاب الإيمان. قوله: (على مبلغ علمنا) هذا من ورعه رضي الله عنه وتواضعه. قوله: (وما انتهى إلينا من الكتاب وآثار النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء بعده) يقول: أنا كتبت هذا الكتاب وألفت هذا التأليف ووضعت ما فيه حسب ما وصل إليه علمي, والعلم إنما يؤخذ من كتاب الله وسنة رسوله وما دلت عليه اللغة العربية وما أقره أهل العلم، وهكذا لا ينبغي للإنسان ألا يتكلم في شرع الله ودينه إلا عن علم وبصيرة. قوله: (وعلى الله التوكل) يعني: الاعتماد وتفويض الأمر. قوله: (وهو المستعان) أي: وهو المعين سبحانه وتعالى.

مذاهب الجهمية والمعتزلة والإباضية والصوفية والفضلية في الإيمان والرد عليهم

مذاهب الجهمية والمعتزلة والإباضية والصوفية والفضلية في الإيمان والرد عليهم قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو عبيد: ذكرت الأصناف الخمسة الذين تركنا صفاتهم في صدر كتابنا هذا من تكلم به في الإيمان هم الجهمية والمعتزلة والإباضية والصفرية والفضلية]. ذكر أبو عبيد رحمه الله أول هذا الكتاب الأصناف الخمسة وقد أشار إليهم وترك صفاتهم في الكتاب، وأراد الآن أن يذكر مذاهبهم في الإيمان وهم خمس طوائف: الطائفة الأولى الجهمية، والطائفة الثانية المعتزلة، والطائفة الثالثة الإباضية، والإباضية هم الخوارج، والصفرية كذلك من الخوارج، والفضلية من الخوارج، والمؤلف رحمه الله يريد أن يذكر مذهب هؤلاء الطوائف الخمس, في الإيمان. أما الجهمية فهم الذين ينكرون أسماء الله وصفاته، وزعيمهم الجهم بن صفوان، يقولون: ليس لله اسم ولا صفة والعياذ بالله، ويقولون: إن الأسماء والصفات الواردة في النصوص كالعليم الحكيم العزيز أن هذه أسماء لخلقه، أضيفت إليه إضافة تشريف، كما أضيفت الناقة والعبد والرسول إلى الله، والذي يقول: إن الله ليس له اسم ولا صفة معناه أنه لا يوصف بأي وصف ولا يسمى بأي اسم، وليس هناك شيء في الوجود إلا له اسم وصفة، فإذا قلت مثلاً: هناك كرسي ليس له طول ولا عرض، وليس في السماء ولا في الأرض ولا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا محايد له ولا متصف به ولا متصف بغيره، هذا يكون العدم، فالجهمية يصفون ربهم ويعبدون معدوماً، والجهمية يقولون: إن الله ليس له سمع ولا بصر ولا علم ولا قدرة، وليس في العلو ولا فوق السموات ولا تحتها ولا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا مباين له ولا محايد ولا متصل به ولا غير متصل، وهذا يكون مستحيلاً وأعظم من العدم. ولهذا ذكر ابن القيم أن الجهمية كفرها خمسمائة عالم، فقال: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان واللالكائي الإمام قد حكاه عنهم بل قد حكاه قبله الطبراني فالجهمية كفار والعياذ بالله؛ لأنهم ما أثبتوا الوجود لله، والجهمية الأولى يقولون: إن الله يختلط بالمخلوقات ممتزج بها نعوذ بالله، وهذا كفر وردة، والطائفة المتأخرون منهم ينفون أن الله لا داخل العالم ولا خارجه. أما المعتزلة فهم يثبتون الأسماء لله، لكن ينكرون الصفات، فيقولون: الله سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم، حكيم بلا حكمة، ولهذا كفرهم أكثر أهل العلم، ومن العلماء من بدعهم، والإباضية طائفة من الخوارج، وكذلك الصفرية والفضلية، وكل هؤلاء الطوائف الخمس استدركها المؤلف رحمه الله وقال: ذكرت هذه الأصناف الخمسة في صدر هذه الرسالة وتركت وصفهم، والآن أريد أن أتكلم عن كل واحدة من هذه الطوائف الخمس وأبين لك مذهبها في الإيمان.

مذهب الجهمية في الإيمان

مذهب الجهمية في الإيمان قال المؤلف رحمه الله: [فقالت الجهمية]. الجمهية هم أتباع الجهم بن صفوان وهم ينكرون الأسماء والصفات نعوذ بالله، وسبق أن مذهبهم أن الإيمان معرفة الرب بالقلب، والكفر جهل الرب بالقلب فمن عرف ربه بقلبه فهو مؤمن، ولو فعل جميع المنكرات وجميع أنواع الردة، نعوذ بالله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالت الجهمية: الإيمان معرفة الله بالقلب، وإن لم يكن معها شهادة لسان ولا إقرار بنبوة ولا شيء من أداء الفرائض]. مذهب الجهمية في الإيمان معرفة الله في القلب, قالوا: من عرف ربه بقلبه فهو مؤمن ولو لم ينطق بلسانه ولو لم يقل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ولو لم يعمل شيئاً لا صلاة ولا زكاة ولا صوماً ولا حجاً، يكفي المعرفة ولو لم يقر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يفهم شيئاً من القرآن، وهذا من أخبث المذاهب، وهو أفسد مذهب في تعريف الإيمان، وسبق أن المؤلف رحمه الله ألزم الجهمية بأن إبليس يكون مؤمناً على مذهبهم؛ لأنه يعرف ربه بقلبه بدليل: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14]. كذلك فرعون يعرف ربه حيث قال للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] وقال الله تعالى عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] فيكون مؤمناً على مذهب الجهمية، وكذلك اليهود مؤمنون على مذهب الجهمية بدليل قول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]. أما أبو طالب الذي ثبت في صحيح البخاري أنه مات على الشرك فإنه يكون مؤمناً على مذهب الجهم بدليل قول أبي طالب في قصيدته: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار سبة لوجدتني سمحاً بذاك يقيناً فتبين بهذا أن مذهب الجهمية في الإيمان أفسد وأخبث مذهب، وأن رءوس الكفر: إبليس وفرعون واليهود والوثنيين وأبا طالب كلهم يكونون مؤمنون على مذهب الجهم. قال المؤلف رحمه الله: [احتجوا في ذلك بإيمان الملائكة فقالوا: قد كانوا مؤمنين قبل أن يخلق الله الرسل]. حجتهم داحضة حيث قالوا: إن الملائكة مؤمنون قبل أن يخلق الله الرسل، فدل على أنه لا حاجة إلى الرسل وأنه يكفي المعرفة بالقلب، وهذا مذهب باطل.

مذهب المعتزلة في الإيمان

مذهب المعتزلة في الإيمان قال المؤلف رحمه الله: [وقالت المعتزلة]. وهم أتباع عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وسموا بذلك؛ لأنهم اعتزلوا مجلس الحسن البصري وصاروا يقررون مذاهبهم الباطلة في القول بأن مرتكب الكبيرة خارجاً من الإيمان. قال المؤلف رحمه الله: [وقالت المعتزلة: الإيمان بالقلب واللسان مع اجتناب الكبائر، فمن قارف شيئاً كبيراً زال عنه الإيمان، ولم يلحق بالكفر فسمي فاسقاً ليس بمؤمن ولا كافر، إلا أن أحكام الإيمان جارية عليه]. مذهب المعتزلة في الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالقلب وبالجوارح واجتناب الكبائر كلها، فلابد أن يؤدي الفرائض وينتهي عن الكبائر، ولا يكون مؤمناً إلا إذا صدق بقلبه وأقر بلسانه وأدى الفرائض واجتنب الكبائر، لكن الخلاف بينهم وبين أهل السنة أن من قارف كبيرة واحدة انتهى إيمانه، فإذا زنا أو سرق خرج من الإيمان، وإذا غش أو عق والديه خرج من الإيمان، لكن لا يكون كافراً، بل خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، وهو في منزلة بين المنزلتين، ليس بمؤمن ولا كافر، إلا أن أحكام الإيمان جارية عليه، والخوارج كذلك مثلهم، مع خلاف في أحكام الدنيا، أما في الآخرة فيحكمون عليه بأنه مخلد في النار، فالذي يفعل كبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر وصار في منزلة بين المنزلتين ويسمى فاسقاً وليس بمؤمن ولا كافر وهو في الآخرة مخلد في النار. أما الإيمان عند الخوارج فهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح وأداء للفرائض وانتهاء عن المحارم، ولا يكون مؤمناً إلا إذا صدق بقلبه وأقر بلسانه وأدى الفرائض واجتنب الكبائر، لكن الفرق بينهم وبين أهل السنة أن من فعل كبيرة عند الخوارج خرج من الإيمان ودخل في الكفر، أما في الدنيا فتجرى عليه أحكام الكفرة فيستحلون دمه وماله, وفي الآخرة هو مخلد في النار، فالخوارج والمعتزلة يتفقون في تعريف الإيمان وفي أن صاحب الكبيرة يخرج من الإيمان ويخلد في النار، لكن في أحكام الدنيا: المعتزلة قالوا: خرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر وتجرى عليه أحكام الإسلام, والخوارج قالوا: خرج من الإيمان ودخل في الكفر وتجرى عليه أحكام الكفرة فيقتل ويحل دمه وماله.

مذهب الإباضية في الإيمان

مذهب الإباضية في الإيمان قال المؤلف رحمه الله: [وقالت الإباضية: الإيمان جماع الطاعات، فمن ترك شيئاً كان كافر نعمة، وليس بكافر شرك، واحتجوا بالآية التي في إبراهيم {بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم:28]]. الإباضية طائفة من الخوارج, والذين كتبوا في الفرق كالملل والنحل للشهرستاني، والفصل في الملل والنحل لـ ابن حزم والفرق للبغدادي ذكروا أن الخوارج ما يقارب اثنين وعشرين فرقة، وكذلك الشيعة ما يقارب من أربعة وعشرين فرقة، فالإباضية طائفة من طوائف الخوارج، وهذه الطوائف يتفقون في أشياء ويختلفون في أشياء. قوله: (وقالت الإباضية: الإيمان جماع الطاعات) يعني: لابد أن يصدق بقلبه ولابد أن يقر بلسانه ولابد أن يؤدي الواجبات والفرائض وينتهي عن المحرمات، لكن من ترك شيئاً من الطاعات يكون كافراً كفر نعمة لا كافر شرك وهذا يدل على أن الخوارج يتفاوتون، فليس كلهم مكفر بالمعاصي، فالإباضية قالوا: إذا ترك شيئاً صار كافراً كفر نعمة لا كافراً كفر شرك، دليلهم الآية التي في إبراهيم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم:28] فهو بدل نعمة الله وهي الطاعة بدلها حيث تركها فصار كافراً كفر نعمة، والمعروف أن بعض طوائف الخوارج يقولون: إذا ترك الطاعة أو فعل المعصية كفر كفراً أكبر يخرج من الملة ويحل دمه وماله.

مذهب الصفرية في الإيمان

مذهب الصفرية في الإيمان قال المؤلف رحمه الله: [وقالت الصفرية مثل ذلك في الإيمان أنه جميع الطاعات، غير أنهم قالوا في المعاصي صغارها وكبارها: كفر وشرك ما فيه إلا المغفور منها خاصة]. الصفرية طائفة من طوائف الخوارج، قالوا مثلما قالت الإباضية: الإيمان جميع الطاعات كلها، تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح وأداء الفرائض وانتهاء عن المحارم، لكن يقولون في المعاصي: إن المعاصي الصغار والكبار كفر وشرك، كل معصية يسمونها كفراً وشركاً. قوله: (إلا المغفور منها خاصة) المغفور منها هذا يستثنى، وما لم يغفر فهو كفر وشرك سواء كان معصية كبيرة أو صغيرة، فكل ذنب كبير أو صغير فهو كفر وشرك إلا ما غفره الله، فالذي يغفره الله يستثنى، والذي لا يغفره الله يكون كفراً وشركاً حتى اللطمة الخفيفة وما أشبه ذلك يسمى كفراً وشركاً.

مذهب الفضلية في الإيمان

مذهب الفضلية في الإيمان قال المؤلف رحمه الله: [وقالت الفضلية مثل ذلك في الإيمان أنه أيضاً جميع الطاعات إلا أنهم جعلوا المعاصي كلها ما غفر منها وما لم يغفر كفراً وشركاً، قالوا: لأن الله جل ثناؤه لو عذبهم عليها كان غير ظالم لقوله: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:15 - 16]]. هذا مذهب الطائفة الثالثة من الخوارج وهي الفضلية، فتكون الطوائف الثلاث الإباضية والصفرية والفضلية كلهم يقولون: الإيمان جميع الطاعات. فالفضلية يقولون: الإيمان جميع الطاعات، لكن يقولون: المعاصي كلها المغفور منها وما لم يغفر كله يسمى كفراً وشركاً، فهم يسمون المعاصي كفراً حتى المغفور منها، وكل معصية ولو كانت سرقة أو شرب خمر أو سب كلها شرك وكفر عندهم، وحتى ولو كان مغفوراً ودليلهم أن الله جل ثناؤه لو عذبهم عليها كان غير ظالم، واستدلوا بقوله تعالى: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:15 - 16].

اختلاف الإباضية والصفرية والفضلية من فرق الخوارج في الإيمان

اختلاف الإباضية والصفرية والفضلية من فرق الخوارج في الإيمان قال المؤلف رحمه الله: [وهذه الأصناف الثلاثة من فرق الخوارج معاً إلا أنهم اختلفوا في الإيمان]. هذه الأصناف الثلاثة الإباضية والصفرية والفضلية كلها من فرق الخوارج، وهي تزيد على عشرين فرقة، اتفقوا على أن الإيمان جميع الطاعات، لكن اختلفوا فيمن فعل المعاصي بعد ذلك، فالإباضية يقولون: يكون كافراً كفر نعمة، والصفرية يقولون: المعاصي كلها كبار وصغار كفر وشرك ولا يستثنى إلا المغفور، والفضلية يقولون: حتى المغفور يسمى شركاً وكفراً.

وفاق الشيعة لفرقتين خارجيتين في الإيمان

وفاق الشيعة لفرقتين خارجيتين في الإيمان قال المؤلف رحمه الله: [وقد وافقت الشيعة فرقتين منهم، ووافقت الرافضة المعتزلة، ووافقت الزيدية الإباضية]. الشيعة طوائف كثيرة، واسم الشيعة عام لكل من يتشيع لـ علي وأهل البيت، لكن هم طبقات أكثر من عشرين فرقة مثل الخوارج، منهم الزيدية ومنهم الرافضة ومنهم المفضلة، ومنهم المخطئة الذين خطئوا جبريل وقالوا: إن جبريل أخطأ في الرسالة أرسله الله إلى علي فأخطأ وأتى بها إلى محمد، هؤلاء كفار بإجماع المسلمين. أما النصيرية وهم أغلى طوائف الشيعة فيقولون: إن الله حل في علي، ويقولون: علي هو الإله، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين، ثم يليهم المخطئة الذين خطأوا جبريل، قالوا: جبريل أرسله الله إلى علي لكن جبريل خان ووصلها إلى محمد، ويقولون عبارة مشهورة: خان الأمين وصدها عن حيدرة، قولهم: (خان الأمين) وهو جبريل (وصدها) أي: الرسالة (عن حيدرة) لقب علي. أما الرافضة فهم يكفرون الصحابة ويسبونهم ويغلون في آل البيت ويقولون: إن القرآن طار ثلثيه ولم يبق إلا الثلث. وهذه أعمال كفرية. أما الزيدية فهم الذين يفضلون علياً على عثمان وهم مبتدعة. إذاً: الشيعة طبقات منهم الكافر ومنهم المؤمن على حسب الاعتقاد، والخوارج طبقات. قوله: (وقد وافقت الشيعة فرقتين منهم، فوافقت الرافضة المعتزلة ووافقت الزيدية الإباضية). الشيعة وافقوا فرقتين من فرق الخوارج، فوافقت الرافضة المعتزلة في الإيمان قالوا: الإيمان بالقلب واللسان مع اجتناب الكبائر، ومن قارف شيئاً كبيراً زال عنه اسم الإيمان ولم يلحق بالكفر فيسمى فاسقاً لا مؤمناً ولا كافراً، فمذهب الرافضة في الإيمان مثل مذهب المعتزلة، ووافقت الزيدية الإباضية، قالوا: الإيمان جماع الطاعات ومن ترك شيئاً كان كافراً كفر نعمة لا كفر شرك.

النصوص التي ترد على هذه المذاهب وتبطلها

النصوص التي ترد على هذه المذاهب وتبطلها قال المؤلف رحمه الله: [وكل هذه الأصناف يكسر قولهم ما وصفنا به باب الخروج من الإيمان بالذنوب]. قوله: (كل هذه الأصناف يكسر قولهم) يعني: يرد قولهم ومذهبهم الباطل. قوله: (ما وصفنا به باب الخروج من الإيمان بالذنوب) يقول: نرد على هذه الطوائف التي سبق ذكرها في قولهم إنه يخرج من الإيمان بالمعصية النصوص التي ذكرناها في الباب السابق أن المؤمن لا يخرج من الإيمان بالمعاصي كما سبق إذا فعل شركاً أصغر أو كفراً أصغر أو فعل الزنا أو السرقة. فهذه النصوص التي سبقت نرد بها على هذه الأصناف من أصناف الخوارج والمعتزلة، أنها لا تخرج صاحبها من الإيمان ولا تنفي عنه اسمه، وإنما ينفى عنه كمال الإيمان، فيكون ضعيف الإيمان.

بطلان مذهب الجهمية

بطلان مذهب الجهمية قال المؤلف رحمه الله: [إلا الجهمية فإن الكاسر لقولهم قول أهل الملة وتكذيب القرآن إياهم حين قال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]]. الجهمية من أشد الأصناف التي سبقت، فإن مذهبهم يبطله جميع أهل الملة ويردونه، والقرآن يكذب مذهبهم ويبطله؛ لخبثه وفساده؛ لأنهم قالوا: الإيمان معرفة الله بالقلب فقط، فهو مذهب خبيث وفاسد، وكل المسلمين يردونه ويبطلونه بعد تكذيب الله له، فالقرآن يبطل مذهبهم، والسنة تبطل مذهبهم، وعموم المسلمين كلهم يشنعون عليهم ويبطلون مذهبهم إلا الجهمية. قوله: (وتكذيب القرآن إياهم حين قال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]). هذه الآية بين الله فيها أن أهل الكتاب يعرفون الرسول كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك اليهود والنصارى كفار بإجماع المسلمين، وهم يعرفون ربهم بقلوبهم ويعرفون صدق محمد عليه الصلاة والسلام ومع ذلك فهم كفار، وهذا يبطل مذهب الجهمية الذين يقولون: الإيمان معرفة الرب بالقلب. قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]]. كذلك أخبر الله عن فرعون الذي ادعى الربوبية أنه يعرف ربه بقلبه وأنه مستيقن في الباطن، قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، ومع ذلك ففرعون رأس في الكفر والضلال وهو يعرف ربه مستيقن بقلبه، وهذا كله يبطل مذهب الجهمية الذين يقولون: الإيمان معرفة الرب بالقلب. قال المؤلف رحمه الله: [فأخبر الله عنهم بالكفر إذا أنكروا بالألسنة]. أخبر الله عن أهل الكتاب أنهم كفروا، وكذلك فرعون وملئه؛ لأنهم أنكروا بألسنتهم، ولهذا قال: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]، فرعون أنكر باللسان وكذب موسى، وكذلك أهل الكتب كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكروا رسالته ونبوته فكفروا لما كذبوا بألسنتهم ولو كانوا يعرفون بقلوبهم. قال: [وقد كانت قلوبهم بها عارفة]. نعم كانت القلوب عارفة لكن كفروا لما كذبوا بألسنتهم. قال المؤلف رحمه الله: [ثم أخبر الله عز وجل عن إبليس أنه كان من الكافرين وهو عارف بالله بقلبه ولسانه أيضاً]. إبليس أخبر الله أنه كافر قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، مع أنه عارف ربه بقلبه ولسانه؛ لأن الله أخبر عنه، قال: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36]. إذاً: إبليس عرف ربه بقلبه ولسانه لكن لما استكبر عن عبادة الله صار كافراً، فكون الإنسان يعرف ربه بقلبه وبلسانه لا يكفي حتى ينقاد لشرع الله ودينه. قال المؤلف رحمه الله: [في أشياء كثيرة يطول ذكرها كلها ترد قولهم أشد الرد وتبطله أقبح الإبطال]. يقول المؤلف ذكرنا الآيتين كمثال، وإلا فالأدلة كثيرة من الكتاب والسنة كلها تبطل مذهب الجهمية وتردها وتبطلها.

خاتمة الكتاب

خاتمة الكتاب قال المؤلف رحمه الله: [تم الكتاب، أعني الرسالة، وكتب بخطه في شوال سنة ثمان وثمانين وأربعمائة من نسخة الشيخ العتيق أبي محمد عثمان بن أبي نصر بمصر، قوبل به، والحمد لله وحده]. الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، ونسأله سبحانه وتعالى أن يثبتنا على دين الإسلام حتى الممات، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصل الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

[14]

شرح كتاب الإيمان لأبي عبيد [14]

نصيحة لطلاب العلم

نصيحة لطلاب العلم Q فضيلة الشيخ كما تعلمون أن العلم وسيلة من وسائل التقرب إلى الله عز وجل وزيادة الإيمان والخشية، فبعد أن أنهينا كتاب الإيمان ولله الحمد, فما هي نصيحتكم لطلاب العلم للعمل بما علموا؛ لأن ثمرة العلم العمل؟ A لا شك أن ثمرة العلم العمل، وأن العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، والله سبحانه وتعالى أثنى على المؤمنين بخشيته وتقواه قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. فالعلماء قسمان: علماء الآخرة والشريعة الذين يعلمون ويعملون، أما علماء السوء فهم الذين يعلمون ولا يعملون نسأل الله العافية، كما أخبر الله عن اليهود، ونحن في كل ركعة من ركعات الصلاة فرض الله علينا أن نقرأ سورة الفاتحة، وفيها الثناء على الله في أولها، ثم الدعاء العظيم في آخرها وهو أعظم وأنفع وأجمع دعاء {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، وحاجة المسلم إلى هذا الدعاء أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب بل أعظم من حاجته إلى النفس الذي يتردد بين جنبيه؛ لأن الإنسان إذا فقد الطعام والشراب وفقد النفس مات والموت لابد منه، ولا يظن الإنسان أنه يموت إذا كان مستقيماً على شرع الله ودينه، لكن إذا فقد الهداية مات روحه وقلبه وصار إلى النار نعوذ بالله، فقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ثبتنا اهدنا ودلنا على الصراط المستقيم، وقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] هم الذين يعلمون ويعملون، فهم المنعم عليهم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] هم الذين يعلمون ولا يعملون، ويدخل في ذلك دخولاً أولياً اليهود ومن فسد من علماء هذه الأمة ففيه شبه من اليهود، قوله: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] يعني: غير طريق الضالين وهم الذين يعبدون الله على جهل وضلال. فالطائفة الأولى تعلم ولا تعمل، فهم مغضوب عليهم، وهم العلماء الذين يعلمون ولا يعملون وهم علماء السوء كما قال ابن تيمية رحمه الله: (علماء السوء تخالف أقوالهم أفعالهم إذا قالوا بألسنتهم: افعلوا، قالت أفعالهم للناس: لا تفعلوا، قطاع طريق يقطعون الطريق عن الناس بأفعالهم الخبيثة {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] فهم مغضوب عليهم يعلمون ولا يعملون، والطائفة الثانية يعملون ويتعبدون لكن على جهل وضلال كطوائف النصارى، وبعض الصوفية وغيرهم، وهما داءان إذا سلم الإنسان منهما سلم: الداء الأول: ترك العمل, وهو داء الغواية، والداء الثاني: الجهل، وهو التعبد على جهل وضلال، وقد برأ الله نبيه الكريم من هذين الداءين بقوله سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:1 - 2] (ما ضل) ليس ضالاً عليه الصلاة والسلام بل هو على علم علمه ربه، ولا غاوياً لا يعمل بعلمه بل هو بار راشد. فالمؤمن الذي يعلم ويعمل يقال له: راشد، والذي يعلم ولا يعمل يقال له: غاوي, والذي يعمل بدون علم هذا ضال.

إشكال في قوله: (لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل)

إشكال في قوله: (لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل) Q أشكل علي قول: (لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل) أليس سب الله ذنب والسجود للصنم عمل، فلماذا لا نكفره خاصة؟ A إذا ذكر الذنب المراد به دون الشرك، فقوله (لا نكفره بذنب) يعني: دون الشرك، (ولا نخرجه من الإسلام بعمل يعمله) فمن زنا أو سرق أو ترك بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات لا نخرجه من الإسلام، ما لم يفعل شركاً أو يفعل ناقضاً من نواقض العبادة. إذاً: الذنب إذا أطلق فالمراد به ما دون الشرك.

مراد الإباضية بكفر النعمة

مراد الإباضية بكفر النعمة Q ما مراد الإباضية بقولهم: كفر نعمة؟ A يعني: كفر أصغر لا يخرج من الملة مثل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل:112].

الفرق بين مذهب أهل السنة ومذهب الإباضية

الفرق بين مذهب أهل السنة ومذهب الإباضية Q ما الفرق بين مذهب أهل السنة ومذهب الإباضية؟ A المعاصي عند أهل السنة طبقات، بعضها يسمى كفراً وهو ما سمي في النصوص كفراً مثل الطعن في النسب والنياحة على الميت، والذي لم يسم في النصوص كفراً لا نسميه كفراً, والإباضية يسمون كل معصية كفر نعمة، فإذا ترك شيئاً من الطاعات هو كافر كفر نعمة.

حكم القول بخلق القرآن ونفي الصفات

حكم القول بخلق القرآن ونفي الصفات Q هل الإباضية القائلين بخلق القرآن، والقائلين بقول الجهمية: سميع بلا سمع، هل هم كفار؟ A من قال بخلق القرآن فهو كافر على جهة العموم، أما الشخص المعين فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة وحتى توجد الشروط وتنتفي الموانع، لكن على العموم من قال: كلام الله مخلوق فهو كافر كما قاله الإمام أحمد وكثير من السلف، أما نفي الصفات كأن يقول: إن الله سميع بلا سمع، فهذا قول المعتزلة، والمعتزلة فيهم خلاف بين العلماء، والجمهور على أنهم مبتدعة وبعض العلماء كفرهم.

حكم أخذ مال الكافر

حكم أخذ مال الكافر Q هل جميع دول الغرب في أوروبا وأمريكا دول حرب، بحيث يجوز للمسلم إذا كان داخلها بغير عهد جاز له أن يسرق فيها؟ A لا ليس بصحيح، لا يجوز للإنسان أن يسرق ولا يأخذ مالاً إلا من مال الكافر الحربي الذي بيننا وبينه حرب، وبيننا وبينه السلاح، هذا حلال الدم والمال، أما الكافر الذمي الذي له عهد بيننا وبينه أو صلح أو دخل إلى البلاد بذمة أو عهد وما أشبه ذلك فهؤلاء لا يجوز قتلهم ولا أخذ أموالهم، بل إن ذلك فيه الوعيد الشديد، قال عليه الصلاة والسلام: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة)، هذا من كبائر الذنوب، فليس كل كافر يحل دمه وماله، إنما هذا في الكافر الحربي الذي بيننا وبينه حرب، وبيننا وبينه خلاف، هذا حلال دمه وماله.

حكم تكفير كل من والى الكفار بلا تفصيل

حكم تكفير كل من والى الكفار بلا تفصيل Q ما قولكم فيمن يكفر كل من والى الكفار بلا تفصيل؟ A ليس بصحيح، فهذا لا بد منه من التفصيل، تولي الكفار ردة، ومعنى توليهم محبتهم في القلب، ثم ينشأ عن ذلك نصرتهم على المسلمين بالمال أو السلاح أو الرأي، فإذا أحب الكافر أو أعان الكافر على المسلمين وهم يقاتلون المسلمين بسلاحه أو بماله أو برأيه فهذا ردة، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] أما الموالاة المتمثلة في معاشرتهم ومصادقتهم بدون حاجة فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، أي: أن يتخذ الكافر عشيراً وصديقاً من دون المؤمنين.

نصيحة موجهة إلى المخالفين لمنهج أهل السنة

نصيحة موجهة إلى المخالفين لمنهج أهل السنة Q هل قول الإباضية يخالف منهج أهل السنة في الإيمان، وذلك لأن لهم نشاطاً قوياً في الدعوة إلى مذهبهم، وما نصيحتكم لهم؟ A كل مسلم يجب عليه أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سواء كان من الإباضية أو المعتزلة أو الأشاعرة، وكل إنسان وقع في الذنب سواء في الاعتقاد أو في العمل عليه أن يتوب إلى الله عز وجل وأن يرجع إلى الحق، والحق أحق أن يتبع، هذا هو الواجب، وعليهم أن يصححوا معتقدهم وأن يتبعوا ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما قرره السلف الصالح وأهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين والأئمة ومن بعدهم.

التفسير الصحيح للأحاديث التي فيها ذكر الكفر والشرك

التفسير الصحيح للأحاديث التي فيها ذكر الكفر والشرك Q المؤلف يقول: إن الأحاديث التي فيها ذكر الكفر والشرك يقول: أنها من أخلاق المشركين وأفعالهم، فهل هي كذلك أو أنها تفيد الترغيب والترهيب؟ A الأصوب في هذا أن يقال: إنها من كبائر الذنوب، وإنها تنافي كمال الإيمان, فهي كفر أصغر وشرك أصغر، ولا تفسر بهذا التفسير، وهذه هي طريقة السلف أنهم لا يفسرونها حتى تكون أبلغ في الزجر والردع.

حكم محبة الزوجة الكتابية

حكم محبة الزوجة الكتابية Q كما تعلمون أنه يجوز الزواج بالكتابية فهل محبة الزوجة تجوز مع أنها كتابية؟ A إذا أحبها لدينها فهذا ردة، أما إذا أحبها محبة طبيعية فلا بأس، ولا شك أنه يجوز الزواج بالكتابية لكن الأولى الترك؛ لأنه قد تؤثر على أولادها وقد تؤثر عليه هو.

مذهب الإباضية في مرتكب الكبيرة

مذهب الإباضية في مرتكب الكبيرة Q الإباضية يقولون: إن مرتكب الكبيرة خالد في نار جهنم، يقول: وهذا وجه الشبه بينهم وبين المعتزلة، وقولهم كفر نعمة كقول المعتزلة في منزلة بين المنزلتين؟ A نعم هذا قول الخوارج، لكن هل الإباضية يقولون هذا؟ المؤلف أبو عبيد رحمه الله قال: إنهم يقولون: الإيمان جميع الطاعات كلها، ومن ترك شيئاً كان كافراً كفر نعمة، إذا كانوا يقولون: إذا فعل الكبيرة كفر، هذا مذهب الخوارج وهو مذهب باطل.

حكم وصف علي بن أبي طالب بعليه السلام

حكم وصف علي بن أبي طالب بعليه السلام Q يقول المؤلف: عن علي بن أبي طالب دائماً: عليه السلام، فهل وردت هذه التسمية؟ A لا، الظاهر أنها من الذين ينسخون، من الطباعين الذين يطبعون، وإلا فلا يصح في علي ولا في غيره، فكل الصحابة يقال عنهم: رضي الله عنهم وأرضاهم، وإذا صلى على بعض الصحابة في بعض الأحيان فلا بأس، أما أن يجعل شعاراً لـ علي وأهل بيته يقال: عليهم السلام، فهذا من شعار الرافضة.

حقيقة الفكر عند الإباضية

حقيقة الفكر عند الإباضية Q هل قولهم كفر وشرك - أي الإباضية- أكبر أم أصغر؟ A لا هم يقولون: كفر نعمة لا كفر شرك. الصفرية الذين قالوا: المعاصي صغارها وكبارها كفر وشرك، إلا المغفور منها خاصة، وكذلك أيضاً الفضلية: الذين يقولون المعاصي كلها كفر وشرك، وظاهر الفضلية واستدلوا على أنها شرك بقوله تعالى: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:15 - 16] وهذا في الكافر.

حكم القول بقداسة علي وأنه يضر وينفع

حكم القول بقداسة علي وأنه يضر وينفع Q هل يعذر الرافضة الذين يقولون بقداسة علي وأنه يضر وينفع ونحوه؟ A القول بأن علياً يضر وينفع أو غيره ردة، وهو شرك في الربوبية، وهو أعظم من كفر كفار قريش، الذين يعبدون الأصنام والأوثان، لأنهم يقولون إنها لا تنفع ولا تضر، بل يقولون: الذي ينفع ويضر هو الله، لكن نعبدها كما قال الله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فمن قال: إن علياً ينفع ويضر فقد تجاوز كفر كفار قريش وأشرك في الربوبية -نعوذ بالله- وليس هناك أحد من مشركي قريش يقول: إن الأصنام والأوثان تنفع أو تضر، بل كلهم يقولون: النافع الضار هو الله الخالق الرازق المحيي المميت الضار النافع {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:61] فمن قال: إن أحداً ينفع أو يضر سواء علي أو غيره فقد تعدى كفر كفار قريش ووصل إلى الشرك في الربوبية الذي لم يصل إليه كفار قريش.

حكم القول بأن كل عاص يكون قد أتى بكفر النعمة

حكم القول بأن كل عاص يكون قد أتى بكفر النعمة Q ما صحة قول كل عاص يكون كافراً كفر نعمة؟ A ليس بصحيح، بل هذا باطل، فلا يسمى كافر نعمة، ما سمي في الأصول نسميه كفراً، وما لم يسم فلا، والمعاصي بعضها صغيرة وبعضها كبيرة.

حكم القول بأن الله في كل مكان

حكم القول بأن الله في كل مكان Q بعض الأحباش والأشاعرة يقولون بأن الله في كل مكان؟ الجوب: هذا كفر والعياذ بالله، وهو قول الجهمية وبه يقول الأشاعرة المتأخرون كـ الرازي وأمثاله، لكن الرازي ذكر شيخ الإسلام أنه تاب، وترحم عليه، فقول: إن الله في كل مكان كفر وردة والعياذ بالله؛ لأنهم جعلوا الله مختلطاً بالمخلوقات، نسأل الله العافية، وهذا قول الجهمية أصحاب الطائفة الأولى الذين كفرهم العلماء.

الرد على أدلة من يقول إن الله في كل مكان

الرد على أدلة من يقول إن الله في كل مكان Q يقول: يستدلون بقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] وأيضاً يستدلون بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] وغيرها، ونحن نستدل بحديث الجارية وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] ونحوها، فكيف نربط بين أدلتنا وأدلتهم، وكيف نجمع بينها؟ A سبق الكلام أن النصوص يضم بعضها إلى بعض، والنصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تتناقض، ولا تضرب النصوص بعضها ببعض؛ لأنها كلها معناها حق، فنصوص المعية وأن الله فوق السموات وفوق العرش وأن الله في العلو تزيد أفرادها على ثلاثة آلاف دليل كما قال الإمام ابن القيم، أما قوله: (وهو معكم) فليس معناه أنه مختلط بالمخلوق، فالمعية معناها في لغة العرب: مطلق المصاحبة ولا تقتضي المماسة ولا المحاذاة، تقول العرب: لا زلنا نسير والقمر معنا والنجم معنا، والقمر فوقهم، فهل هو مختلط بهم؟ كذلك تقول: المتاع معك وإن كان فوق رأسك، {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] يعني: الله معبود في الأرض ومعبود في السماء، تعبده الملائكة في السماء ويعبده المؤمنون من الجن والإنس في الأرض.

حكم الإعذار بالجهل لعوام الشيعة

حكم الإعذار بالجهل لعوام الشيعة Q هل عوام الشيعة الذين يقدسون علياً يعذرون بالجهل حيث إنهم يشركون مع الله؟ الشيخ: من العلماء من قال إنهم يعذرون، وقال بعضهم: إنهم فساق، وقال آخرون: أنهم لا يعذرون؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر في القرآن الكريم عن الجهال أنهم معهم في النار: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:67 - 68] كلهم دخلوا النار، وقال سبحانه: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167] فالتابعون والمتبوعون كلهم في النار الجهال وأتباعهم: {وقال الذين اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ:31 - 32] ((وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا)) وهم التابعين {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا} [سبأ:33] قال الله: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [سبأ:33] وكذلك أيضاً الآية الأخرى في سورة الأعراف: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ * وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف:38 - 39] وفي الآية الأخرى قال الله تعالى: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38] فجعل الشافعين والمشفوعين كلهم في النار.

الفرق بين القول والنية في الإيمان

الفرق بين القول والنية في الإيمان Q هل النية بمعنى الاعتقاد أم النية هي عمل، نرجو التفصيل؛ لأن تعريف الإيمان عند أهل السنة: يقولون: قول وعمل واعتقاد، ويقولون: قول وعمل ونية؟ A القول هو التصديق والإقرار، وعمل القلب هو النية والإخلاص.

حكم بقاء أصل الإيمان في قلوب الروافض

حكم بقاء أصل الإيمان في قلوب الروافض Q كما تعلمون أن الروافض يسبون الصحابة وعائشة وعندهم بعض الشركيات فهم كفار ولكن يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهل يبقى أصل الإيمان في قلوبهم؟ A إذا فعل الإنسان ناقضاً من نواقض الإسلام بطلت الشهادة، ولو قال الإنسان: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ثم عبد الصنم انتقضت الشهادة، ومثله في ذلك مثل إنسان توضأ وأحسن الوضوء ثم خرج منه بول أو غائط أو ريح، فكذلك إذا قال: لا إله إلا الله ثم سجد للصنم بطلت لا إله إلا الله، أو دعا غير الله أو قال: إن أحداً ينفع أو يضر مع الله أو اعتقد أن لله صاحبة أو ولداً أو أنكر وجوب الصلاة أو أنكر وجوب الزكاة أو أنكر تحريم الخمر أو الزنا بطلت الشهادة، فإذا فعل ناقضاً من نواقض الإسلام وأشرك في العبادة بطلت الشهادة كما أن الوضوء يبطل بنواقض الوضوء.

حكم التشريع بغير شرع الله

حكم التشريع بغير شرع الله Q المبدلون لشرع الله هل يكونون مسلمين أم أن التشريع حق لله وحده من نازعه فيه فقد أشرك في ربوبيته وألوهيته؟ A نعم من بدل شرع الله ودينه كفر.

صفة الاستواء صفة فعلية لا ذاتية

صفة الاستواء صفة فعلية لا ذاتية Q قال أحد طلاب العلم المعروفين: إن صفة الاستواء على العرش صفة ذاتية لا تنفك عن الله سبحانه؛ ولذلك فهو ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير بعرشه سبحانه؛ لأن الاستواء صفة ذاتية لا فعلية، فما صحة قوله، وهل قال أحد من علماء السنة بذلك وما ملخص قول شيخ الإسلام في هذا؟ A هذا ليس بصحيح، الاستواء صفة فعلية، فبعد خلق السماوات والأرض، أما الصفة الذاتية فهي التي لا تنفك عن الذات مثل العلم والقدرة والسمع والبصر والعلو والعزة والكبرياء، أما صفة الاستواء فهي صفة فعلية، وكان بعد خلق السماوات والأرض، فالله تعالى خلق العرش أولاً ثم خلق السماوات والأرض ثم استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض، فكان تارة مستوياً على العرش وتارة لم يكن مستوياً على العرش، كان بعد خلق العرش وقبل السماوات والأرض لم يكن مستوياً على العرش, ثم استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض فدل على أنها صفة فعلية، فالنزول والاستواء صفة فعلية، والاستواء علو خاص، أما صفة العلو وهو أن الله فوق المخلوقات كلها ومنها العرش فهذه صفة ذاتية، فالله تعالى فوق المخلوقات ليس فوقه شيء من خلقه، لكن الاستواء على العرش، والاستقرار والصعود والعلو والارتفاع هو علو خاص، هذا كان بعد خلق السماوات والأرض فدل على أن صفته فعلية، ولا نعلم أن أحداً من أهل السنة قال: إنها صفة ذاتية.

كيفية مناقشة النصراني

كيفية مناقشة النصراني Q هل يصح أن أناقش النصراني بالعقل دون الكتاب والسنة؟ A نعم إذا كان المناظر لا يؤمن بالكتاب والسنة يناظر بالعقل. لكن لا ينبغي للإنسان أن يجادل إلا عن علم وبصيرة، فإذا كان جداله يضر بالإسلام والمسلمين فليس له ذلك، إنما هذا لأهل العلم الذين عندهم البصيرة، أما من ليس عنده علم فلا فليس له ذلك، فإنما يحيل هذا إلى أهل العلم.

حكم من يلعن معاوية ويزيد

حكم من يلعن معاوية ويزيد Q ما حكم من يلعن معاوية ويزيد؟ A هذا حرام ولا يجوز، وهذا فسق، فالواجب الترضي على الصحابة جميعاً والكف عما شجر بينهم، واعتقاد أنهم أفضل الناس وخير الناس وأنه لا كان ولا يكون مثلهم، وأن لهم من الحسنات ما يغطي ما صدر منهم من الهفوات، فمن حسناتهم جهادهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحبتهم له وتبليغهم لشرع الله ودينه، فهذه حسنات عظيمة لا يبلغها من بعدهم إلى يوم القيامة، فالواجب على كل إنسان أن يكف لسانه عما شجر بين الصحابة، وما حصل بينهم من الخلاف والقتال منه ما هو كذب لا أساس له منه الصحة، ومنه ما له أصل ولكن زيد فيه ونقص منه أو غير عن وجهه، ومنه ما هو صحيح، والصحيح، هم فيه ما بين مجتهد مصيب له أجران أو مجتهد مخطئ له أجر واحد فاته أجر الصواب وحصل على أجر الاجتهاد.

الشرك الأكبر يخرج من الإيمان بالكلية

الشرك الأكبر يخرج من الإيمان بالكلية Q قلتم يا شيخ: إن الشرك الأكبر يذهب الإيمان، فهل مرادكم أنه انتفى منه أصل الإيمان هو كافر أم أنه يذهب الإيمان لكن لا يخرجه من الإسلام؟ A الشرك الأكبر كفر يخرج من الإيمان بالكلية، ويكون من الكفرة والمشركين، فإذا دعا غير الله وذبح لغير الله أو نذر لغير الله أو أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة أو قال: إن علياً ينفع ويضر فإن هذا قد كفر وخرج من الإسلام والإيمان بالكلية وصار من الكافرين، أما الشرك الأصغر والكفر الأصغر والمعاصي فلا تخرجه من الإيمان.

حكم الدستور الذي يحكم به بغير ما أنزل الله

حكم الدستور الذي يحكم به بغير ما أنزل الله Q ذكرتم يا فضيلة الشيخ أحوال من يحكم بغير ما أنزل الله، فواضع الدستور في أي صورة يدخل، والمنفذ للدستور في أي حالة هو، والكاتب له والمدرس لهذا الدستور؟ A على كل حال الإنسان الذي يغير شرع الله ودينه رأساً على عقب فإن هذا بدل الدين كما قرر أهل العلم كالحافظ ابن كثير رحمه الله، والشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله مفتي الديار السعودية له رسالة في تحكيم القوانين وقال: إن من الكفر المبين استبدال الشرع بالقانون اللعين فمن بدل دين الله رأساً على عقب كفر. وقال آخرون من أهل العلم: لا بد أن تقام عليه الحجة؛ لأنه قد يكون عنده شبهة.

الفرق بين الاستحلال والجحود

الفرق بين الاستحلال والجحود Q هل من الفرق بين الاستحلال والجحود أن الجحود يكون في الواجبات ويقتضي ويستلزم الترك، والاستحلال يكون في النواهي والمحرمات، ويقتضي أو يستلزم الفعل؟ A نعم الاستحلال يستحل أمراً معلوماً من الدين بالضرورة كأن يستحل الخمر فيرى أنه حلال، أو الزنا أو عقوق الوالدين، والجحود أن يجحد أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وجوبه، كأن يجحد وجوب الصلاة أو وجوب الزكاة أو وجوب الحج، وقد يقال: إنه يجحد تحريم الزنا، وتحريم الربا، وتحريم الخمر، وقد يقال: مثلاً يستحل ترك الصلاة، ويستحل ترك الزكاة، فهما متقاربان.

حكم وصف المداوم على الصلاة بالإيمان

حكم وصف المداوم على الصلاة بالإيمان Q هل يصح أن نطلق على من نجده مداوماً على الصلاة بأنه مؤمن؟ الشيخ: نعم جاء في الحديث: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)، لكن فيه بعض الضعف، فهو لا شك أنه علامة على الإيمان، لكن قد يكون بخلاف ذلك.

حكم السجود للكعبة للاعتقاد فيها نفعا وضرا

حكم السجود للكعبة للاعتقاد فيها نفعاً وضراً Q ما رأيكم فيمن يسجد للكعبة معتقداً نفعها وضرها ويصلي لها ويتمسح بها؟ A هذا كافر نعوذ بالله، الذي يصلي للكعبة ويعتقد أن الكعبة تنفع وتضر معناه عبدها من دون الله، نحن نطوف بالكعبة؛ لأن الله أمرنا بذلك وتعبدنا بذلك؛ ولهذا شرع للمسلم إذا طاف بالبيت أن يصلي ركعتين خلف المقام ويقرأ الفاتحة في السورة الأولى و ((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)) وفي الثانية الفاتحة و ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ))، فهو إنما يطوف بالكعبة امتثالاً لأمر الله لا أنه يعبد الكعبة، بل يعبد الله.

حكم التمسح بالكعبة والتعلق بأستارها

حكم التمسح بالكعبة والتعلق بأستارها Q هل التمسح بالكعبة والتعلق بأستارها من الشرك الأكبر أم الأصغر؟ A لا من البدع.

الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة والإباضية في الإيمان

الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة والإباضية في الإيمان Q المعتزلة اشترطوا في تعريف الإيمان اجتناب الكبائر، والإباضية اشترطوا فعل جميع الطاعات، فهل هذا مذهب أهل السنة؟ A نعم هو مذهب أهل السنة، هم وافقوا أهل السنة في الإيمان أنه جميع الطاعات، ولكن خالفوهم في من فعل كبيرة ومعصية وترك واجباً، فالمعتزلة والإباضية والخوارج قالوا: إذا قصر في واجب أو فعل كبيرة ذهب عنه الإيمان بالكلية، وأهل السنة يقولون: ينقص إيمانه ولا يذهب عنه الإيمان إلا إذا فعل شركاً في العبادة أو ناقضاً من نواقض الإسلام.

حكم التوسل بالأحياء

حكم التوسل بالأحياء Q رافضي يقول: إن أهل السنة يقولون: إنه يجوز التوسل بالأولياء أو بالأحياء، ونحن نتوسل بـ علي بدليل قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران:169]؟ A هذا باطل، فالتوسل إنما يكون بالتوحيد والإيمان وبالعمل الصالح كقصة الثلاثة الذين توسلوا إلى الله بأعمالهم الصالحة من بني إسرائيل، فتوسل أحدهم ببر والديه، والثاني بعفته عن الزنا، والثالث بأمانته، كذلك نتوسل إلى الله بأسمائه وصفاته. تتوسل إلى الله بفقرك وحاجتك، أما أن تتوسل بشخص حي أو ميت فهذا من البدع، أما إذا دعا الميت من دون الله أو دعا الحي فيما لا يقدر عليه إلا الله فهذا شرك أكبر، لكن إذا دعا الله وجعله وسيلة يتوسل بحق فلان أو بجاه فلان أو بحرمة فلان فهذا من البدع.

تكفير الإباضية لفاعل الكبيرة

تكفير الإباضية لفاعل الكبيرة Q ذكر بعض من كتب عن الفرق من المتأخرين أن الإباضية اليوم يكفرون فاعل الكبيرة؟ A على كل حال إذا كفروا فاعل الكبيرة فهذا مذهب الخوارج، نعوذ بالله.

حكم القول بأن أسماء الله زائدة عن ذاته

حكم القول بأن أسماء الله زائدة عن ذاته Q ما ردكم على القائلين بأن أسماء الله عين ذاته، وإن لم نقل به وقعنا بالقول في أنها زائدة عن ذاته؟ A القول بأن أسماء الله زائدة عن ذاته أو ليست زائدة عن ذاته من البدع فلا بد من التفصيل، إن أراد الإنسان أن لله ذاتاً مجردة عن الأسماء والصفات فهذا باطل، وإن أراد أن الاسم له معنى غير معنى الذات وأن لله اسماً ومسمى وأن الاسم غير المسمى فهذا حق، فالمسألة فيها تفصيل.

وجوب استفتاء أهل العلم

وجوب استفتاء أهل العلم Q نحن لا يوجد في بلادنا علماء وهناك من يفتي بالقتل ونحوه، فما رأيكم؟ A لا عليكم أن ترجعوا إلى العلماء، وتتصلوا بهم، والحمد لله الآن الوسائل موجودة، فاتصلوا بالمملكة العربية السعودية واسألوا المفتين عن طريق الشبكة والهاتف، ولا يسأل الإنسان في دينه إلا من يثق بعلمه ودينه، ولا يسأل أهل الجهل وأهل الضلال إنما يسأل أهل العلم والدين؛ لأن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.

هل وقع آدم وحواء في شرك التسمية

هل وقع آدم وحواء في شرك التسمية Q إذا كان الحديث ضعيفاً وهو سمياه عبد الحارث كما قال المحقق، فكيف يفهم من الآية أنهما وقعا في شرك التسمية، فليس في الآية دليل على الشرك؟ A الآية واضحة {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف:189] وهي آدم {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189] حواء، {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف:189] جامعها، {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف:189] آدم وحواء ((لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا)) مولوداً سليماً {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف:189 - 190] شرك تسمية الآية كافية.

ضوابط التكفير

ضوابط التكفير Q ما هي ضوابط التكفير؟ A أولاً: لا يكفر الشخص إلا إذا فعل ناقضاً، أو شركاًً في العبادة، ولا بد أن تقوم عليه الحجة بأن توجد الشروط وتنتفي الموانع، فالكفر والإيمان إنما يؤخذان من الكتاب السنة لا بالهوى والتشهي.

المعتزلة ليسوا من الخوارج

المعتزلة ليسوا من الخوارج Q قول المؤلف: (ووافقت الرافضة المعتزلة) فهل المعتزلة من الخوارج؟ A لا، وافقتهم في مسمى الإيمان فقط.

معتقد الأشاعرة

معتقد الأشاعرة Q ما هو معتقد الأشاعرة، وما حكم معتقدهم هل هو كفر أم بدعة؟ A الأشاعرة في الصفات يثبتون سبع صفات، وهم من أصل البدع.

نصيحة لتجديد الإيمان وحلاوته

نصيحة لتجديد الإيمان وحلاوته Q بعد ما تقدم من ذكر حقيقة الإيمان فما أبعد الحال عنا وكماله وصعوبة ذلك الآن ما نحن عليه من طلب العلم، والشاهد الواضح قسوة القلب، فماذا تنصحون بارك الله فيكم لتجديد الإيمان وحلاوته؟ A أنصح نفسي وإخواني أن يجاهد الإنسان نفسه وأن يتدبر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يجاهد الإنسان نفسه على أداء الفرائض وينتهي عن المحارم ويكثر من ذكر الله، ومن حضور حلقات الدروس والعلم.

§1/1