شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية - الراجحي

عبد العزيز الراجحي

[1]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [1] كتاب الإيمان الأوسط أو الصغير لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أحسن كتبه، وهو في شرح حديث جبريل المشهور، وقد ميز فيه بين أقوال الناس في الإسلام والإيمان، وأدلة كل قول، وما هو الحق في ذلك.

فضل العلم وآدابه

فضل العلم وآدابه

فضيلة طلب العلم

فضيلة طلب العلم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسول نبينا وإمامنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو إليكم، وأثني عليه الخير كله، وأسأله المزيد من فضله، وأسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وصواباً على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسأله سبحانه أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن لا يجعل فينا ولا منا ولا من بيننا شقياً ولا محروماً. أيها الإخوان! إن طلب العلم، والاستزادة منه، والحرص عليه، عن إخلاص ومحبة ورغبة ورهبة من أفضل القربات وأجل الطاعات، فإن العلم الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أشرف العلوم، والله سبحانه وتعالى رفع شأن العلماء وميزهم، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة على أجل مشهود به، وهو الشهادة له سبحانه وتعالى بالوحدانية. وقال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، وقال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]. وأمر الله نبيه أن يقول: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]. والعلم الشرعي هو ميراث الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، ومن اتصف بالعلم كان له مزية على غيره. ولهذا فإن في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الذي فيه بيان أقسام الناس الذين يقرءون القرآن جعل لمن يقرأ القرآن ميزة وإن كان من المنافقين، فقال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر). فجعل المنافق الذي يقرأ القرآن له مزية، وإن كان لا ينفعه، لكن العلم يجعل للإنسان مزية تميزه على غيره، حتى الحيوانات المعلمة تتميز عن غيرها من غير المعلمة، فالكلب المعلم له ميزة على غيره من الكلاب، والكلب المعلم يجوز أكل ما صاد، والكلب غير المعلم لا يؤكل صيده، بالشروط. فالمسلم الذي من الله عليه بالعلم وسلوك طريق العلم عليه أن يغتبط بهذه النعمة، ويعلم أن الله أراد به خيراً، وإن من علامات إرادة الله الخير للعبد أن يفقهه في دينه، وأن يتبصر، وأن يحرص على طلب العلم، ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، قال العلماء: هذا الحديث له منطوق وله مفهوم، منطوقه: أن من فقهه الله في الدين فقد أراد به خيراً، ومفهومه: أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيراً، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وما ذاك إلا أن الفقه في الدين وسيلة إلى العمل، وإلى تنفيذ الأحكام والتصديق بالأخبار، ولهذا فإن العلماء ورثة الأنبياء.

أهمية الإخلاص في طلب العلم

أهمية الإخلاص في طلب العلم فأنتم اتجهتم إلى طريق العلم، ونحسبكم والله حسيبكم أنكم قصدتم بذلك وجه الله والدار الآخرة، لا تريدون مالاً ولا جاهاً ولا شهادة ولا وظيفة، وإنما تطلبون العلم للتبصر والتفقه. فأوصيكم ونفسي بالإخلاص والصدق مع الله، فأخلصوا طلبكم للعلم لله، واقصدوا بذلك وجه الله والدار الآخرة؛ لأن طلب العلم من أجل القربات وأفضل الطاعات، وهو أفضل من نوافل العبادة، قال العلماء: إن طلب العلم أفضل من نوافل العبادة، يعني: كونك تتفرغ لطلب العلم أفضل من كونك تتفرغ لتصلي الليل، أو لتصلي صلاة الضحى، أو لتصوم الإثنين والخميس، أو لتصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وإذا كان طلب العلم يمنعك من صلاة الليل أو صلاة الضحى، فأنت بين أمرين: إما أن تصلي الضحى أو تحضر درس العلم. نقول: حضور درس العلم مقدم على صلاة الليل، وإذا كان صيام الإثنين والخميس أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر يمنعك من طلب العلم فطلب العلم مقدم؛ لأن طلب العلم أفضل من نوافل العبادة، يعني: ما زاد عن الفرائض؛ وما ذاك إلا لأن طلب العلم يتبصر به الإنسان في دين الله ويتفقه ويعلم الحلال والحرام، ويمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، فيعبد الله على بصيرة، بخلاف الجاهل فإنه لا علم عنده. فأوصيكم ونفسي بالإخلاص، أن يخلص الإنسان في طلبه للعلم، ويعلم أنه في عبادة عظيمة من أجل القربات وأطيب الطاعات. وعليه أن يحسن القصد ويخلص النية، ويتذكر دائماً أنه يعبد الله بطلب العلم، ويتذكر دائماً أن الله من عليه بهذه النعمة العظيمة، ووجهه هذه الوجهة، وشرح قلبه وصدره لطلب العلم، فيرتبط بهذه النعمة ويفرح بها، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].

آداب طالب العلم مع شيوخه

آداب طالب العلم مع شيوخه وعليه مع ذلك أن يحترم أهل العلم والمدرسين، ويعرف لهم قدرهم وحرمتهم، ويتأدب معهم في خطابه وفي أسلوبه وفي أسئلته، وعليه مع ذلك أن يحذر من التعنت الذي يصاب به بعض الناس في أسئلته، فلا يتعنت، لا يسأل أسئلة تعنت، ولا يسأل أسئلة يريد بها الرياء والسمعة، أو يريد أن يعنت المسئول ويوقعه في الحرج، أو لأجل أن يظهر نفسه، بل يسأل أسئلة يريد بها الفائدة، ولا يسأل أسئلة غير واقعية، أو أسئلة مستحيلة، أو لا تكون، لكن يسأل أسئلة يمكن أن تقع أو واقعة، ويكون قصده بذلك الفائدة. وعليه مع ذلك الحرص على حضور دروس الحلقات العلمية، وبذل الوسع والاجتهاد، وإحضار الكتاب بين يديه، وعليه أن يحضر ذهنه، ويجاهد نفسه؛ حتى لا ترد عليه الخواطر والوساوس، فلابد أن يكون حاضر الذهن، فيفهم عن المدرس ما يقول، وعليه أن يعلق الفوائد العلمية؛ لأن الفوائد العلمية قد تفوته، ولهذا يقول السلف: العلم صيد والكتابة قيده قيد صيودك بالحبال الواثقة وعليه مع ذلك أن يستفسر عما أشكل عليه، ويرجع إلى زملائه يسألهم عما خفي عليه، ويرجع إلى الشريط أيضاً، وعليه مع ذلك أن يستفيد من أهل العلم، بأن يتصل بهم هاتفياً أو شخصياً، لكن مع التأدب، ومع القصد الحسن، وقد يحرم الإنسان العلم بسبب عدم تأدبه بآداب طالب العلم، فلابد للإنسان أن يخلص عمله لله وأن يتأدب بآداب طالب العلم. وعليه مع ذلك أن يستفيد من الكتب ومن أهل العلم، وأن يسلك الطرق والوسائل التي يستفيد منها، والوسائل في هذا العصر كثيرة: منها حضور الحلقات والدورات العلمية، ومنها حضور الدروس في المساجد، ومنها سؤال أهل العلم هاتفياً أو شخصياً، ومنها سماع الأشرطة المفيدة، ومنها القراءة في كتب أهل العلم والبصيرة، ومنها الدراسة في المعاهد والكليات والمدارس العلمية، كل هذه وسائل لطلب العلم، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح، ونسأله سبحانه أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في العمل والثقة في القول، ونسأله سبحانه وتعالى أن يعيذنا وإياكم من الرياء والسمعة ومن المقاصد السيئة. ونحن إن شاء الله في هذه الدورة سوف نتكلم بما يفتح الله به على كتاب الإيمان الأوسط للإمام المجتهد المطلق العلامة شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني رحمة الله عليه، المولود سنة إحدى وستين وستمائة من الهجرة، والمتوفى سنة ثمانية وعشرين وسبعمائة رحمه الله رحمة واسعة. وشيخ الإسلام معروف لدى الجميع، وهو ممن نصر الله به الحق، وأظهر الله به معتقد أهل السنة والجماعة، وقد انتشرت كتبه ومؤلفاته، ونفع الله بها في مشارق الأرض ومغاربها، ودعوة الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله امتداد لدعوة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولا زال شيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب وأحفاده وتلاميذه كلهم يستفيدون من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم وغيرهم من أهل العلم. وهذا الإمام شيخ الإسلام رحمه الله هو ممن نصر الله به الحق وأظهر به عقيدة أهل السنة والجماعة، وما قرره من معتقد أهل السنة والجماعة، كله عليه أدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان من أهل العلم، ويندر أن يكون له قول ضعيف في مسائل الاعتقاد، أما المسائل الفرعية فأمرها سهل، كمسائل الفروع في الفقه وفي غيرها، لكن مسائل الاعتقاد يندر أن يكون له قول ضعيف أو مرجوح رحمه الله. وهذا كتاب الإيمان الأوسط ويقال له: كتاب الإيمان الصغير، وله كتاب آخر هو كتاب الإيمان الكبير أو شرح حديث جبريل، وكأن هذا الكتاب مختصر من كتاب الإيمان الكبير، وكتاب الإيمان الكبير أوسع، وهذه المباحث الموجودة في كتاب الإيمان الأوسط أو كتاب الإيمان الصغير موجودة في كتاب الإيمان الكبير، والإيمان الكبير يزيد عليه.

شرح خطبة الكتاب

شرح خطبة الكتاب

معنى الحمدلة

معنى الحمدلة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم. {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [هود:88]. الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستعيذه ونستهديه ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]، ففتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، تبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وأنقذ به من الضلالة، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد]. هذه خطبة تسمى خطبة الحاجة، وكثيراً ما يفتتح بها الإمام رحمه الله رسائله وكتبه، وتقرأ هذه الخطبة عند خطبة النكاح وغيرها، فيفتتح بها مثل الكتاب أو الرسالة أو الجمعة، وإن لم تفتتح بها خطبة الجمعة فلا حرج. يقول: (الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه). الحمد: هو الثناء على المحمود بصفاته الجميلة الاختيارية، وهو أعلى من المدح، فالمدح: هو الإخبار عن صفات الممدوح، وقد تكون هذه الصفات ليست اختيارية، كما إذا مدحت الأسد بأنه قوي العضلات، هذه صفات له لكنه لم يفعلها باختياره، بخلاف الحمد؛ لأنه الثناء على المحمود بصفات اختيارية، مع حبه وإجلاله وتعظيمه، فالحمد أبلغ من المدح، فالحمد: هو الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية مع حبه وإجلاله وتعظيمه. ولهذا جاء الحمد في الثناء على الرب سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] افتتح الله به كتابه العظيم، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]. وجميع أنواع المحامد كلها ملك لله، هو مستحق لها سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه وتعالى هو الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله وهو مولي النعم ومسديها، وما بالخلق من نعمة فهي من الله، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]. فلهذا كان سبحانه وتعالى مستحقاً لجميع أنواع المحامد، وهو المالك لها سبحانه وتعالى. قوله: (ونستعينه) يعني: نستعين بالله سبحانه وتعالى، أي: نطلب منه العون، والسين والتاء تدل على الطلب، (ونستغفره)، يعني: نطلب منه المغفرة لجميع الذنوب؛ لأن الإنسان محل الخطأ، فهو بحاجة إلى الاستغفار، أي: طلب المغفرة، والمغفرة: هي ستر الذنب ومحوه والعفو عنه والسلامة من شروره في الدنيا والآخرة. فالمؤلف يقول: نثني على الله سبحانه وتعالى بجميع أنواع المحامد، ونسأله العون، ونطلب منه أن يغفر ذنوبنا وأن يسترها، وأن يسلمنا من شرها في الدنيا والآخرة. قوله: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا)، يعني: الشرور تأتي من النفس، وتأتي من غير النفس، وكذلك الأعمال تنسب إلى العبد، وهو المباشر لها والكاسب لها، فالأعمال تكون حسنة وتكون سيئة، ولهذا قال: ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

معنى الهداية ومعنى الشهادة لله بالوحدانية

معنى الهداية ومعنى الشهادة لله بالوحدانية وقال: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له). هذا فيه بيان أن الرب سبحانه وتعالى هو الهادي وهو المضل، هو الذي يقذف الهداية في قلب العبد، ويجعله يختار الحق ويرضى به، وهو سبحانه وتعالى مقدر الضلالة على العبد لما له من حكمة بالغة، فهو سبحانه وتعالى يهدي من يشاء فضلاً منه وإحساناً، ويضل من يشاء عدلاً منه وحكمة. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ومن هداه الله فلا يستطيع أحد أن يضله، ولو اجتمع الخلق كلهم ما استطاعوا أن يضلوه، ومن أضله الله فلا يستطيع أحد أن يهديه، وإن اجتمع أهل الأرض كلهم أن يضلوه ما استطاعوا. وفي هذا رد على المعتزلة الذين يقولون: إن العبد هو الذي يهدي نفسه ويضل نفسه، يقولون: إن تسميته مهتدياً يعني: أن وصفه بأنه مهتد معناه أنه سمي مهتدياً أي: فهو من باب التسمية. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، هذا مأخوذ من قوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17]. ثم شهد المؤلف رحمه الله بالوحدانية لله تعالى ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فقال: (وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له)،يعني: أقر وأعترف بأنه لا معبود بحق إلا الله. لا إله إلا الله هي كلمة التوحيد، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، فالمعبود بالحق هو الله، وما عبد سواه فهو معبود بالباطل، والمعبودات كثيرة: عبدت الشمس، والقمر، والنجوم، والكواكب، والبشر، والحجر، والأصنام، والأوثان، والجن، والإنس، والشياطين كلهم عبدوا لكن بالباطل، والعبادة بالحق هي عبادة الله وحده، كما قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. هذه كلمة التوحيد وهي أعظم كلمة، فأعظم كلمة وأفضل الكلام بعد كلام الله عز وجل كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) وهذه الكلمة العظيمة لأجلها خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وانقسم الناس إلى شقي وسعيد، ولأجلها خلقت الجنة والنار، وقامت القيامة، وحقت الحاقة، ووقعت الواقعة، وهي حق الله على عباده، من وحد الله وأخلص له العبادة فإنه لا يخلد في النار وهو من أهل الجنة قطعاً، ومن مات على التوحيد فهو من أهل الجنة قطعاً، لكن إن مات على توحيد خالص خال من الشرك والبدع والكبائر دخل الجنة من أول وهلة، فضلاً من الله تعالى وإحساناً، وإن مات على توحيد ملطخ بالمعاصي والكبائر والبدع دون الشرك فهو على خطر من العذاب أن يصيبه في القبر، قد يعذب في قبره، وقد تصيبه أهوال وشدائد في موقف القيامة، وقد يعذب في النار، فهو تحت مشيئة الله، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. وإذا دخل النار فإنه يعذب فيها على قدر جرائمه ومعاصيه، وفي النهاية يخرج منها ولا يخلد، بل يخرج منها إلى الجنة بشفاعة الشافعين أو برحمة أرحم الراحمين، ولا يبقى في النار إلا الكفرة، وإذا تكامل خروج العصاة الموحدين من النار ولم يبق منهم أحد أطبقت النار على الكفرة بجميع أصنافهم: اليهود والنصارى والوثنيين والملاحدة والشيوعيين والمنافقين، والمنافق في الدرك الأسفل منها، فلا يخرج منها أبد الآباد، كما قال سبحانه: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ} [الهمزة:8] يعني: مطبقة مغلقة، {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:9]. وقال سبحانه: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37]، وقال سبحانه: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]، وقال سبحانه: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] يعني: مدداً متطاولة، كلما انقضى حقب أعقبه حقب إلى ما لا نهاية.

معنى شهادة أن محمدا رسول الله

معنى شهادة أن محمداً رسول الله والشهادة لله تعالى بالوحدانية لا تصح إلا بالشهادة لنبيه بالرسالة عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال المؤلف: (وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، وأشهد أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العربي المكي ثم المدني هو عبد الله ورسوله، وأنه خاتم النبيين، وأنه رسول الله حقاً، وأنه رسول الله إلى العرب والعجم من الجن والإنس إلى الثقلين، وأنه لا نبي بعده، فمن اعتقد أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة للعرب أو اعتقد أن بعده نبياً فهو كافر بإجماع المسلمين، قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وقال سبحانه: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:79]، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)، وقال عليه الصلاة والسلام: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة). فرسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة للثقلين الجن والإنس، العرب والعجم، وهو خاتم النبيين فلا نبي بعده، قال سبحانه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]. فلا تصح إحدى الشهادتين إلا بالأخرى، فمن شهد لله تعالى بالوحدانية ولم يشهد لنبيه بالرسالة لم تقبل، ومن شهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة ولم يشهد لله بالوحدانية لم تقبل، فلا بد من الشهادتين، وإذا أطلقت إحداهما دخلت فيها الأخرى.

معنى الصلاة على النبي وأصحابه وآله

معنى الصلاة على النبي وأصحابه وآله ثم قال المؤلف رحمه الله: (صلى الله عليه)، هذا سؤال ودعاء الرب سبحانه وتعالى بأن يصلي على نبيه، وصلاة الله على العبد أصح ما قيل فيها: ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي العالية التابعي الجليل أنه قال: صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] يعني: يثنون عليه، والصلاة من الآدمي ومن الملائكة دعاء. (وعلى آله وأصحابه)، الأصحاب: جمع صاحب، والصحابي أصح ما قيل في تعريفه: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً ولو لحظة ومات على الإيمان، ولا يشترط أن يراه، فيدخل في ذلك العميان مثل عبد الله بن أم مكتوم الأعمى فإنه صحابي ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لقيه، ويدخل في ذلك الأعراب الذين لقوا النبي صلى الله عليه وسلم، فمن لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً ومات على الإيمان فهو صحابي، أما الأعراب الذين ارتدوا والعياذ بالله على أعقابهم وماتوا على الكفر فليسوا من الصحابة. وآل النبي صلى الله عليه وسلم قيل المراد بآله: ذريته وأقاربه، ويدخل في ذلك زوجاته، ويدخل في ذلك علي وفاطمة والحسن والحسين والعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وحمزة، وأزواجه كذلك. وقيل: المراد بالآل: أتباعه على دينه إلى يوم القيامة. وعطف الآل على الأصحاب من عطف العام على الخاص، وعطف الأصحاب على الآل من عطف الخاص على العام، فقوله: (على آله وأصحابه)، أصحابه داخلون في الآل؛ لأنهم من أتباع دينه، وإذا قيل: وعلى أصحابه وآله، يكون الأصحاب قد ذكروا مرتين: مرة بالخصوص ومرة بالعموم. وقال: (أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً). هذا وصفه عليه الصلاة والسلام: أرسله الله بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة يعني أنه نبي الساعة، وسمي نبي الساعة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام هو آخر الأنبياء، والساعة تقوم في آخر أمته؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (بعثت أنا والساعة كهاتين، وقرن بين أصبعه السبابة والوسطى)، وهو بشير لمن أطاعه بالجنة والكرامة، ونذير لمن عصاه بالنار وغضب الله وعقوبته. قال: [{وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]]. {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الأحزاب:46] حيث أمره الله بذلك، بإذنه وكونه القدري وإذنه الديني الشرعي، وأتباعه عليه الصلاة والسلام كذلك يدعون إلى الله بإذنه. ووصف بالسراج المنير لأنه عليه الصلاة والسلام هو المبلغ عن الله، وهو المبين لطريق الجنة وطريق النار، فهو السراج يضيء لمن أراد الله هدايته، فمن أراد الله هدايته فإنه يعرف طريق الجنة وطريق النار، فيوحد الله ويخلص له العبادة، ويعمل الأعمال التي ترضي الله؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام سراج منير أنار الطريق، حيث دعا إلى الله وإلى توحيده، وبين الواجبات والمحرمات في كتاب الله الذي أنزله عليه وفي سنته المطهرة، فهو السراج المنير. قال: (ففتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً). وفتح الله به أعيناً عمياً وهي أعين الكفار الذين عموا عن الحق، ومن أراد الله هدايته فتح عينه للحق، وفتح به آذاناً صماً وهي آذان الكفار الذين صموا عن سماع الحق، لكن من أراد الله هدايته فتح الله أذنه وسمع الحق. وفتح به قلوباً غلفاً عليها غلاف وهي قلوب الكفرة، كما قال الله سبحانه أنهم قالوا: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة:88] يعني: عليها غلاف، لكن من أراد الله هدايته فتح الله له وأزال الله هذا الغلاف، فنفذ إليه الحق فآمن وأسلم واستقام. قال: (تبصر به من العمى وأرشد به من الغي). والعمى: هو الكفر والمعاصي، والغي: الضلال والانحراف، أي: أرشد بدعوته عليه الصلاة والسلام، وبالكتاب الذي أنزله الله عليه وهو القرآن العظيم والسنة، فهو إرشاد يبين للإنسان الطريق المستقيم حتى لا يسلك طريق الغي. قال: (وأنقذ به من الضلالة). أنقذ الله به من الضلالة ومن الكفر، والضلالة: هي الكفر والمعاصي والبدع. قال: (صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً). كما سبق، وصلى الله عليه وعلى آله، ولم يذكر أصحابه، وإذا عطف الصحابة على الآل صار من عطف الخاص على العام. (وسلم تسليماً كثيراً)، هذا: دعاء للنبي بالسلامة، مثل: اللهم سلمه. قوله: (أما بعد). هذه كلمة يؤتى بها للانتقال من شيء إلى شيء، واختلف في أول من قالها، قيل: أول من قالها داود النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل: هي فصل الخطاب، وقيل: أول من قالها قس بن ساعدة الإيادي، وقيل غير ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: (أما بعد، فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)، وهي أولى من قوله: (وبعد). فمن الناس من يقول: وبعد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أما بعد في خطبته، وكذلك العلماء وغيرهم يقولون: أما بعد، وهو انتقال من الخطبة إلى الدخول في الموضوع والصلب.

سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان وجوابه عن ذلك

سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان وجوابه عن ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقال الشيخ العالم العامل الورع الناسك شيخ الإسلام، بقية السلف الكرام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الشامي رحمه الله تعالى]. فهو عالم وإمام ومجتهد وورع وزاهد، وكنيته أبو العباس ولقبه: شيخ الإسلام. ويقال له: ابن تيمية الحران ي؛ لأنه ولد في بلد حران، ويقال: الشامي؛ لأنه نشأ في بلاد الشام، وكان في الشام في ذلك الوقت، وكذلك العراق كانت هي محط رحال العلماء، وكان العلماء متوافرين في ذلك الزمان والعلم منتشراً هناك. قال: [فصل: يتضمن الحديث سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان وجوابه صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وقوله في آخر الحديث: (هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم)، فجعل هذا كله من الدين. وللناس في الإسلام والإيمان من الكلام الكثير: مختلفين تارة ومتفقين أخرى، ما يحتاج الناس معه إلى معرفة الحق في ذلك، وهذا يكون بأن نبين الأصول المعلومة المتفق عليها، ثم بذلك يتوصل إلى معرفة الحقيقة المتنازع فيها].

تخريج حديث جبريل

تخريج حديث جبريل المؤلف رحمه الله بدأ بالفصل هنا، فقال: (فصل تضمن حديث سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان وجوابه عن ذلك). وقوله: (فجعل هذا كله من الدين)، يعني: حديث جبريل وهو الحديث المشهور الطويل الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة ومن حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويسمى بحديث جبرائيل، ويسمى بحديث عمر رضي الله عنه. وقد أخرجه الإمام مسلم رحمه الله مطولاً في كتاب الإيمان، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة، والترمذي في كتاب الإيمان، والنسائي في كتاب الإيمان والشرائع، وابن ماجة في المقدمة، وأخرجه الإمام أحمد، والبغوي في شرح السنة، وابن حبان وغيرهم. وأخرجه الإمام أحمد مختصراً ومطولاً، وابن أبي شيبة عن ابن عمر، وروي الحديث من طريق أبي هريرة. وأخرجه البخاري مختصراً في كتاب الإيمان، ومسلم أيضاً في الإيمان والشرائع، فهذا الحديث وهو حديث جبرائيل رواه الإمام مسلم مطولاً من حديث عمر رضي الله عنه، ورواه البخاري مختصراً، ورواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة مختصراً.

رؤساء الملائكة

رؤساء الملائكة وهذا الحديث حديث عظيم، وفيه أن جبرائيل جاء للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل أعرابي ورآه الصحابة، فدل على أن الملك ملك الوحي، وهو أشرف الملائكة وأصل الملائكة، وأفضل الملائكة ورؤساء الملائكة ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل، وهؤلاء الثلاثة هم رؤساء الملائكة، وذلك أن كل واحد من هؤلاء الثلاثة موكل بما فيه الحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر والمطر والماء الذي فيه حياة الحيوانات والنباتات، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي فيه استعادة الأرواح إلى أجسادها بعد الموت، فكل واحد من هؤلاء الثلاثة موكل بما فيه الحياة، فهم رؤساء الملائكة وأصل الملائكة؛ ولهذا توسل النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح المذكور في صلاة الليل بربوبية الله لهؤلاء الأملاك الثلاثة، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل للصلاة استفتح بهذا الاستفتاح: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). هذا دعاء استفتاح كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح به في صلاة الليل، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم توسل إلى الله بربوبيته لهؤلاء الأملاك الثلاثة الذين وكلوا بما فيه الحياة، ويقال: جبرائيل وجبريل، وميكائيل وميكال. فجبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، ثم سأله عن الإيمان، ثم سأله عن الإحسان، وجاء أن سبب مجيء جبرائيل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سلوني سلوني، فهابوا، فأرسل الله جبرائيل وجاء فسأل النبي صلى الله عليه وسلم. فدل هذا على أن الملك يتشكل ويتصور، وأعطاه الله القدرة على ذلك، فجاء جبريل على صورة أعرابي هنا، ورآه الصحابة، وكثيراً ما يأتي في صورة دحية الكلبي وكان رجلاً جميلاً، وأما صورته التي خلقه الله عليها فله ستمائة جناح، كل جناح يملأ ما بين السماء والأرض، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة مرتين: مرة في الأرض عند البعثة عند غار حراء، فقد رأى ملكاً قاعداً بين السماء والأرض قد سد الأفق، فرعب منه رعباًَ شديداً، فغطه وقال له: اقرأ يا محمد، قال: ما أنا بقارئ، يعني: لست قارئاً، قال: اقرأ، ثلاث مرات، ويذكر في كل مرة أنه يغطه حتى يبلغ منه الجهد، وهذه تهيئة لتحمل الرسالة وأعبائها، فذهب إلى زوجه خديجة وقال: خفت أن يختلج عقلي، قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق. ورآه مرة ثانية على هذه الصورة ليلة المعراج، حينما جاوز السبع الطباق، ورآه مرات كثيرة بطرق متعددة، وهذه المرة جاء في صورة أعرابي.

سؤال جبريل عن الإسلام

سؤال جبريل عن الإسلام قال: (وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟) هذا السؤال الأول، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث، وكتاب الإيمان الكبير وكتاب الإيمان الصغير يدور على شرح هذا الحديث من أوله إلى آخره. (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان)، أو (أن تقيم الصلاة وأن تؤتي الزكاة وأن تصوم رمضان وأن تحج البيت). ففسر الإسلام بالأركان الخمسة، الركن الأول: الشهادة لله تعالى بالوحدانية ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، والثاني: إقام الصلاة، والثالث: إيتاء الزكاة، والرابع: صوم رمضان، والخامس: حج بيت الله الحرام.

سؤال جبريل عن الإيمان والإحسان

سؤال جبريل عن الإيمان والإحسان قال: (قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه) هذا سؤال العارف، والعادة أن الذي يسأل لا يعلم، وهذا يسأل ويصدق، فالسؤال سؤال العارف فتعجب الصحابة، (قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه) وهو إنما سأل ليعلم الناس دينهم، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث. (فقال: يا محمد أخبرني عن الإيمان؟ فقال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره). فسر الإيمان بالأصول الباطنة، أي: بالأركان الباطنة الستة، فالإسلام فسر بأعمال ظاهرة: نطق بالشهادتين، الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والإيمان فسر بالأركان الباطنة قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، جعل الإحسان له مرتبتان: المرتبة الأولى: أن تعبد الله كأنك تراه، أي: تعبد الله على المشاهدة. المرتبة الثانية: فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فإن ضعفت عن المرتبة الأولى فإنك تنتقل إلى المرتبة التي بعدها، فالمرتبة الأولى: أن تعبد الله كأنك تراه، أي: كأنك تشاهده، والثانية: إن لم تكن تراه فإنه يراك. والإحسان مرتبة عالية يعني أنك حينما تعبد الله بالصلاة والزكاة والصوم والحج وبر الوالدين وصلة الرحم تعبد الله على المشاهد، وتعبد الله على المراقبة، فأنت تراقب الله والله يراقبك، وتستشعر هذا الإحساس، (قال: صدقت).

سؤال جبريل عن الساعة

سؤال جبريل عن الساعة ثم وجه إليه السؤال الرابع (قال: أخبرني عن الساعة؟) والسؤال الرابع ليس عند الرسول له جواب، قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) يعني: علمي وعلمك سواء، فالساعة لا يعلمها إلا الله، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ * قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:187 - 188]. وبالمناسبة للفائدة: عندي كتاب كتبه شخص وحدد قيام وقت الساعة، وهذا من التخريف، واسم المؤلف يمكن أن يكون مستعاراً (كتبه فهد السالم)، ذكر أن نزول المسيح عيسى بن مريم سنة ألف وتسعمائة وتسعة عشر ميلادي، وأن قيام الساعة عام ألفين وعشرة ميلادي، وهذا مما يدل على سخافته، وأنه يؤرخ بالتاريخ النصراني، ولا يؤرخ بتاريخ الإسلام، فهذا من المخرفين، إذ حدد خروج المسيح الدجال وحدد وقت الساعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، يعني: علمي وعلمك سواء، وهذا حددها. ثم توجه إلى السؤال الخامس: (قال: أخبرني عن أمارتها؟) أي: إذا كنت لا تعلم وقت الساعة فأخبرني عن العلامات، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم عن العلامات: (قال: أن تلد الأمة ربتها) أي: الأمة تلد سيدتها، والمعنى: أمة تباع وتشترى تلد مولودة فتكون سيدة على أمها. قال العلماء: معنى ذلك أنه تكثر السراري ويتسرى الملوك الإماء ثم تلد الأمة بنتاً للملك فتكون بنت الملك سيدة على أمها. وفي لفظ: (أن تلد الأمة ربها) وهنا: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان) الحفاة: الذين لا نعال لهم، العراة: الذين لا ثياب عليهم، العالة: الفقراء، يتطاولون في البنيان. والحديث له ألفاظ أخرى. (ثم لبث ملياً)، وفي لفظ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ردوا السائل، فذهبوا فلم يجدوا أحداً) أي: خرج الرجل من عندهم فلما ذهبوا لإحضاره لم يجدوا أحداً؛ لأنه ملك من الملائكة وقد جاء في حالة غريبة: شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، والعادة في ذلك الوقت أن الأسفار متعبة، والذي يأتي من السفر تكون ثيابه رثة متسخة وشعره كذلك متسخ، لكن هذا ثيابه بيضاء جميلة، كأنه خرج من بيته مثلنا الآن، وشعره كذلك أسود ليس فيه غبار، فتعجب كيف يكون مسافراً ويأتي بهذه الصورة؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ردوا السائل)، وفي لفظ قال: (فلبث ملياً ثم قال: يا عمر! أتدري من السائل؟ فقال عمر: الله ورسوله أعلم)، هذا يقال للنبي صلى الله عليه وسلم في حال حياته، يقال: الله ورسوله أعلم، أما بعد وفاته يقال: الله أعلم؛ لأن الرسول لا يعلم الغيب، ولا يعلم أحوال أمته. (فقال عليه الصلاة والسلام: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) وهذه اللفظة التي ذكرها المؤلف الآن، وفي لفظ: (أمر دينكم). فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن مسمى الإسلام ومسمى الإيمان ومسمى الإحسان هو الدين، إذاً: الإسلام والإيمان والإحسان داخل في مسمى الدين، والدين يشمل الإسلام والإيمان والإحسان، وله ثلاث مراتب: مرتبة الإسلام، ثم المرتبة الثانية مرتبة الإيمان وهي أعلى منه، ثم المرتبة الثالثة مرتبة الإحسان. إذاً: الدين يشمل الإسلام والإيمان والإحسان وهي مراتب، أعلاها الإحسان، ثم الإيمان، ثم الإسلام.

التفريق بين الإسلام والإيمان في حديث جبريل

التفريق بين الإسلام والإيمان في حديث جبريل في هذا الحديث فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الإسلام والإيمان، ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفسر الإيمان بالاعتقادات الباطنة، وجاء في القرآن أيضاً ما يدل على التفرقة بينهما، كقوله سبحانه: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35]، فرق بينهما. وكذلك قول الله عز وجل في سورة الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، وفي حديث سعد بن أبي وقاص: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى بعض الناس عطايا يتألفهم على الإسلام وترك رجلاً هو أعجبهم إلي، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً) يعني: ما وصل إلى درجة الإيمان، (قال: فسكت ثم غلبني ما أجد فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان! فوالله إني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلماً، فسكت ثم غلبني أجد فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان فو الله إني لأراده مؤمناً فقال: أو مسلماً، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا سعد إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي مخافة أن يكبه الله على وجهه في النار) يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم يعطي العطاء حتى يتألفهم على الإسلام، فمن كان قوي الإيمان لا يعطيه، بل يتركه لإيمانه، ومن كان ضعيف الإيمان يعطيه؛ حتى لا يرتد عن دينه، وحتى يتقوى إيمانه، وهذا فيه فرق بين الإيمان والإسلام. واختلف العلماء في الإيمان والإسلام هل هما شيء واحد أو شيئان؟ فذهب بعض أهل السنة إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، وأن الإسلام هو الإيمان والإيمان هو الإسلام، وعلى رأسهم الإمام البخاري ومحمد بن نصر المروزي فقالوا: الإيمان والإسلام شيء واحد، وشاركهم فيها بعض البدع كالخوارج والمعتزلة وقالوا: إن الإيمان هو الإسلام. وأجابوا عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله)، قالوا: هذا على تقدير محذوف، والتقدير: شعائر الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله. وقالوا: إن آية الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، في المنافقين؛ لأن الله نفى عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام في الظاهر؛ لأن المنافقين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر. وذهب جمهور العلماء والمحققون من أهل العلم: إلى أن الإسلام والإيمان شيئان، وأنهما إذا اجتمعا كان لكل واحد منهما معنى، أما إذا أفرد أحدهما وتجرد عن الآخر فإنه يدخل فيه الآخر، فإذا أفرد الإسلام دخل فيه الإيمان، وإذا أفرد الإيمان دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة، كما في حديث جبرائيل. وهذا هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء وعليه المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم.

[2]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [2] اختلف الناس في مسمى الإيمان والإسلام على أقوال شتى، واستدل كل قوم على ما قالوا بأدلة، وقد بين شيخ الإسلام أقوالهم والراجح في ذلك.

أقوال الناس في الإيمان والإسلام

أقوال الناس في الإيمان والإسلام قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: تضمن حديث سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان وجوابه عن ذلك، وقوله في آخر الحديث: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، فجعل هذا كله من الدين. وللناس في الإسلام والإيمان من الكلام الكثير: مختلفين تارة ومتفقين أخرى، ما يحتاج الناس معه إلى معرفة الحق في ذلك، وهذا يكون بأن تبين الأصول المعلومة المتفق عليها، ثم بذلك يتوصل إلى معرفة الحقيقة المتنازع فيها]. فهذا كتاب الإيمان الأوسط أو الصغير شرح لحديث جبرائيل عليه الصلاة والسلام، والمؤلف رحمه الله لم يذكر الحديث بفصوله وإنما ذكر معناه، فقال: تضمن حديث جبرائيل سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، ثم قال في آخر الحديث: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) فسمى الإسلام والإيمان والإحسان ديناً، فالدين له ثلاث مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان. وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن الناس اختلفوا في مسمى الإسلام وفي مسمى الإيمان، مختلفين تارة ومتفقين تارة، وقال: إن الحق يتبين بعد معرفة الأصول المتفق عليها، وذكر من هذه الأصول التي دلت عليها النصوص أصلين: الأصل الأول: أن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة ثلاث طوائف: مؤمنون باطناً وظاهراً، وكفار باطناً وظاهراً، ومسلمون في الظاهر وكفار في الباطن وهم المنافقون، وهذا أصل دلت عليه النصوص من الكتاب ومن السنة، وأجمع عليه العلماء. الأصل الثاني: أن النصوص وصفت أقواماً من الناس بالإسلام ونفت عنهم الإيمان، كقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، وكقوله صلى الله عليه وسلم لـ سعد بن أبي وقاص لما قال له حين أعطى رجالاً يتألفهم على الإسلام: (ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً، فقال عليه الصلاة والسلام: أو مسلماً. ثلاث مرات). والخلاصة في هذا: أن مسمى الإسلام ومسمى الإيمان اختلف الناس فيه على أقوال:

القول الأول في الإسلام والإيمان

القول الأول في الإسلام والإيمان القول الأول: أن مسمى الإسلام هو الكلمة ومسمى الإيمان يعم. والكلمة يعني: النطق بالشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فمن نطق بهما فهو مسلم، فإذا عمل وأدى الواجبات وترك المحرمات فهو المؤمن. وهذا القول مروي عن الإمام الزهري رحمه الله تعالى وبعض أهل السنة، وليس مقصود الإمام الزهري رحمه الله أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإسلام، فإن الإمام الزهري أجل من أن يخفى عليه مثل ذلك، لكن مقصود الإمام الزهري بقوله إن الإسلام هو الكلمة أن الإنسان إذا نطق بالشهادتين حكم له بالإسلام، وتميز عن المشركين وعن اليهود والنصارى، والأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان. ومن أدلتهم: قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]. قالوا: فالظالم لنفسه هو المسلم، والمقتصد هو المؤمن الذي أدى الواجب فترك المحرمات، والسابق بالخيرات هو المحسن. وهذه الآية لا تدل على ما ذهب إليه هؤلاء؛ لأن الآية ليس فيها أن الإسلام هو الكلمة، وإنما فيها تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه: وهو الذي قصر في بعض الواجبات وارتكب بعض المحرمات. ومقتصد: وهو الذي أدى الواجبات وترك المحرمات. وسابق بالخيرات: وهو المحسن. فالآية قسمت الناس إلى ثلاثة أقسام، كحديث جبرائيل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان. ومن أدلتهم أيضاً: أن النصوص دلت على تسمية الإسلام باسم الإيمان، وتسمية الإيمان باسم الإسلام، فحديث جبرائيل الذي معنا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بالأعمال: الشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج. وفي حديث وفد عبد القيس فسر الإيمان بالأعمال، فإن في حديث وفد عبد القيس وهو حديث صحيح رواه الشيخان قال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا سدس ما غنمتم)، ففسر الإيمان بالأعمال، قالوا: إن النصوص سمت الإسلام بما سمي به الإيمان، وسمت الإيمان بما سمي به الإسلام.

القول الثاني في الإسلام والإيمان

القول الثاني في الإسلام والإيمان القول الثاني لأهل العلم في مسمى الإسلام والإيمان: أن الإيمان والإسلام شيء واحد، فالإسلام هو الإيمان والإيمان هو الإسلام، فهما مترادفان. وذهب إلى هذا بعض أهل السنة وعلى رأسهم الإمام البخاري رحمه الله، ذهب إلى هذا في كتابه الجامع الصحيح في التراجم، وشارك أهل السنة في هذا القول بعض أهل البدع كالخوارج والمعتزلة، قالوا: إن الإسلام هو الإيمان والإيمان هو الإسلام، فهما مترادفان. وأجابوا عن حديث جبرائيل: (الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله) قالوا: هذا فيه تقدير، والتقدير: شعائر الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله. ولكن الأصل عدم التقدير. واستدلوا بقول الله تعالى في قصة قوم لوط عليه الصلاة والسلام: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36]. قالوا: هذا البيت الواحد وصف بالإيمان ووصف بالإسلام، بيت واحد وهو لوط وابنتاه، نجاهم الله من الهلاك، فهذا يدل على أنهما مترادفان. ولكن الصواب: أنهما ليسا مترادفين. والجواب عن هذه الآية: أن البيت المفرد اتصف بالإيمان وبالإسلام؛ لأنها تنطبق عليهم أوصاف الإسلام وأوصاف الإيمان، ولا يلزم من كون هذا البيت المفرد اتصف بالإسلام والإيمان أن يكون الإسلام والإيمان واحداً؛ لأن غيرهم قد لا يتصف بصفة الإيمان. ومن أدلتهم: قول الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]. فهذه الآية فيها أن الله نفى عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام، فدل على أن الإيمان والإسلام شيء واحد، ولو كان الإيمان والإسلام شيئين لما نفى عنهم الإيمان، فلما نفى عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام دل على أن هؤلاء منافقون، والمعنى: قولوا استسلمنا وانقدنا للإسلام ظاهراً نفاقاً. والصواب الذي عليه جمهور العلماء والمحققون من أهل السنة وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: أن هذه الآية ليست في المنافقين، وإنما هي في ضعفاء الإيمان؛ لأن هذه الآية من سورة الحجرات، وآية الحجرات ذكر فيها المعاصي: القتل، والغيبة، والنميمة، والسخرية، والهمز، واللمز، وليس فيها ذكر النفاق، فضعيف الإيمان ينفى عنه الإيمان ويثبت له الإسلام، وإن كان لا بد للإسلام من إيمان يصح به، إلا أنه لا يطلق عليه اسم الإيمان. ويدل على هذا ما سبق هذه الآية، فإن هذه الآية في المؤمنين قال فيها: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ} [الحجرات:14]، فأثبت لهم طاعة الله ورسوله، ولو كانوا منافقين لما أثبت لهم طاعة، وقال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات:17] فأثبت لهم الإسلام، ولو كانوا منافقين لما أثبت لهم الإسلام.

القول الثالث في الإسلام والإيمان

القول الثالث في الإسلام والإيمان والقول الثالث لأهل العلم: أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان هو الأعمال الباطنة. ودليلهم حديث جبرائيل، فإنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فسره بالأعمال الظاهرة، ولما سأل عن الإيمان فسره بالاعتقادات الباطنة، فدل على أن الإسلام الأعمال الظاهرة والإيمان الأعمال الباطنة. والصواب الذي تدل عليه النصوص والذي عليه المحققون من أهل العلم والذي أقره شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الكتاب من أوله إلى آخره: أن الإسلام والإيمان تختلف دلالتهما بالاقتران والإفراد، فإذا انفرد الإسلام دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا انفرد الإيمان دخل فيه الأعمال الباطنة والظاهرة، وإذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى. فإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة، كما في حديث جبرائيل فإنهما اجتمعا، فلما اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة. لما سأله عن الإسلام فسر الإسلام: بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ولما سأل عن الإيمان فسره بالاعتقادات الباطنة: بالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. وإذا انفرد أحدهما دخل فيه الآخر، فإذا انفرد الإسلام فيدخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، فالإسلام هنا يشمل الأعمال الظاهرة والباطنة. وكذلك الإيمان إذا انفرد فإنه يدخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وبهذا تجتمع الأدلة ولا تختلف. وهذا ليس خاصاً بالإسلام والإيمان، فمثلهما مسمى الدين، فالدين إذا أطلق يشمل الأعمال الظاهرة والباطنة، والإسلام إذا أطلق يدخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، والإيمان إذا أطلق يدخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، والبر إذا أطلق يدخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، والتقوى إذا أطلقت يدخل فيها الأعمال الظاهرة والباطنة. لكن إذا اجتمع الإسلام والإيمان صار لكل واحد منهما معنى، فمعنى الإسلام الأعمال الظاهرة والإيمان الأعمال الباطنة، وإذا اجتمع البر والتقوى صار لكل واحد منهما معنى، البر فعل الأوامر والتقوى ترك النواهي، وإن أطلق البر وحده شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا أطلقت التقوى وحدها شملت الأعمال الباطنة والظاهرة. وكذلك الفقير والمسكين، الفقير إذا أطلق دخل فيه المسكين، والمسكين إذا أطلق دخل فيه الفقير، وإذا اجتمعا فسر الفقير بمن هو أشد الحاجة، فالفقير: هو الذي لا يجد شيئاً أو يجد نصف الكفاية، يعني: لمدة سنة، والمسكين: هو الذي يجد نصف الكفاية إلا أنه لا يجد الكفاية؛ ولهذا بدأ الله بالفقير في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60]، إذاً: الفقراء والمساكين هنا شيئان. لكن في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان)، يدخل الفقير. وكذلك الربوبية والألوهية، إذا أطلقت الربوبية دخلت فيها الألوهية، وإذا أطلقت الألوهية دخلت فيها الربوبية، وإذا اجتمعا فسرت الربوبية بأفعال الرب، والألوهية: بأن الله هو المعبود وحده سبحانه، أي توحيد الله بأفعالك أنت أيها العبد. ومثل قول الملكين للميت في قبره: (من ربك؟) يعني: من إلهك الذي تعبد؟ فيدخل فيه الألوهية، لكن لما اجتمعا في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1 - 3] صار لكل واحد معنى. ورب الناس، أي: مربيهم وخالقهم ومدبرهم، وإذا أفرد الرب دخل فيه المعبود الإله، وإذا أفرد الإله دخل فيه الرب، وإذا اجتمعا صار لكل واحد منهم معنى. ومن اجتماع الإيمان والإسلام قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] وقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، وما جاء أيضاً في حديث سعد بن أبي وقاص: (ما لك عن فلان؟ فوالله! إني لأراه مؤمناً، قال: أو مسلم) ففرق بين الإسلام والإيمان. وهذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص وتجتمع به الأدلة، وهو الذي أقره المصنف رحمه الله من أول الكتاب إلى آخره.

الأسئلة

الأسئلة

الحث على الاستمرار في طلب العلم والدعوة إليه ونشره بين الناس

الحث على الاستمرار في طلب العلم والدعوة إليه ونشره بين الناس Q نحن شباب جئنا من دولة لبنان، ولا يخفى عليك حفظك الله حال الإسلام فيها، فبماذا تنصحنا به عند رجوعنا إلى بلدنا بعد الدورة العلمية؟ وهل المجيء إلى هذه البلاد لإقامة الدين يعتبر هجرة أم ماذا؟ A ننصحكم أولاً بالاستمرار في طلب العلم، والاستزادة منه والتبصر والتفقه، والاستمرار في طلب العلم بعد الدورة، وتستطيعون أن تواصلوا طلب العلم عن طريق الشبكة والدروس العلمية التي تنشر، وعن طريق سؤال أهل العلم ومهاتفتهم، وكذلك بقراءة الكتب النافعة، تستمرون ثم بعد ذلك تنشرون هذا العلم بقدر استطاعتكم، وتدعون إلى الله بالحكمة واللين والرفق من حولكم من أهليكم، ومن جيرانكم ومجتمعكم، بالطرق المناسبة التي ترونها كفيلة بإيصال العلم، عن طريق فتح المدارس، وإذا سمح لكم بإقامة الدورات بالدروس على حسب الاستطاعة، لكن أوصيكم بالاستمرار في طلب العلم والاستزادة من طلب العلم. وأما مجيئكم إلى هذه البلاد فهو مجيء لطلب العلم، وسفر لطلب العلم والرحلة في طلب العلم معروفة عن أهل العلم.

النجاشي لا يدخل في تعريف الصحابي

النجاشي لا يدخل في تعريف الصحابي Q هل النجاشي يعد من الصحابة أم من العباد المسلمين؟ A النجاشي لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، وقد سبق تعريف الصحابي: أنه من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام، وهو ممن أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك من أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، فيعده علماء المصطلح من المخضرمين، وحكمه حكم التابعين؛ لأنه لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره ولم يجتمع به، فهو من الملوك المؤمنين المسلمين، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالإيمان والأخوة، ولما مات خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة إلى المصلى وصفهم، وقال: (مات أخ لكم في الحبشة) وكبر وصلى عليه، وكبر عليه أربعاً.

التحذير من الادعاءات الباطلة على علماء أهل السنة ووجوب محاربتها

التحذير من الادعاءات الباطلة على علماء أهل السنة ووجوب محاربتها Q وردت ادعاءات في هذا الزمن من بعض المشبوهين تقول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ليست كل أقواله من أقوال أهل السنة، فما رأيكم بذلك؟ A صحيح أن هذه الادعاءات ادعاءات هدامة، وهناك بعض المنحرفين الآن يشككون في كلام أهل العلم وفي كتب أهل العلم، وشككوا في كثير من الكتب، حتى قالوا: إن بعض الكتب نسبتها غير صحيحة، وقالوا: مسألة الإمام أحمد لم تثبت، ورسالة كذا لم تكن للإمام أحمد، ورسالة العقيدة الواسطية لم تكن عن شيخ الإسلام وهكذا، وهم يريدون ألا تثبت هذه الكتب؛ حتى يطعنوا فيها لأنها تخالف معتقدهم الباطل، فهذه ادعاءات هدامة، قصد منها أصحابها التنفير من الأئمة ومن أقوالهم ومن كتبهم. فنصيحتي لأخواني طلبة العلم أن يعرضوا عن هذه الادعاءات، وأن ينكروها، وأن يحذروا منها، فهي ادعاءات هدامة قصد منها أعداء الإسلام التنفير من الأئمة، ومن العلماء، ومن أقوالهم، ومما قرروه من العقيدة السليمة التي استدلوا عليها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

مكانة الشيخ الألباني

مكانة الشيخ الألباني Q ما رأيكم فيمن يتكلم في عقيدة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، ويطعن في إيمانه، ويتهمه بالإرجاء؟ A الشيخ محمد ناصر الدين الألباني من أهل السنة والجماعة، وهؤلاء الذين يطعنون فيه من المغرضين، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني محدث له مؤلفات كثيرة في الحديث، وأما آراؤه الفقهية فقد يغلط كغيره، وقد يغلط في بعض المسائل، لكنه في الجملة من أهل السنة والجماعة، وإن كان يغلط في بعض المسائل فيما يتعلق بالإيمان أو غيره، فإنه ليس معصوماً، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

درجة حديث ابن عمر في أركان الإسلام

درجة حديث ابن عمر في أركان الإسلام Q هل يصح الحديث: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت)؟ A في حديث ابن عمر الذي رواه الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت). هذا الحديث الذي رواه الشيخان عن ابن عمر.

الفرق بين الإيمان والاعتقاد

الفرق بين الإيمان والاعتقاد Q ما الفرق بين الإيمان والاعتقاد؟ A الإيمان هو تصديق القلب وإقراره وعمله، والتصديق والاعتقاد والإقرار ألفاظ متقاربة، فالتصديق يعني: يعتقد صدق الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم.

حكم من لقي النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به ثم ارتد بعد وفاته ثم آمن

حكم من لقي النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به ثم ارتد بعد وفاته ثم آمن Q ما حكم من لقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وآمن به ثم ارتد بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ثم آمن بعد حرب المرتدين، هل يعتبر من الصحابة؟ A نعم، إذا مات على الإيمان فهو من الصحابة، وإن مات على الكفر فليس من الصحابة، وذلك أن المرتد إذا رجع إلى الإسلام ومن الله عليه بالإسلام فإنه يحرز أعماله السابقة ولا تضيع عليه، أما إذا ارتد ومات على الكفر بطلت أعماله وحبطت؛ لأن الله تعالى جعل سبب حبوط العمل الموت على الردة؛ قال سبحانه: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]. فمن ارتد ومات على الكفر حبطت أعماله، ومن ارتد ومن الله عليه وعاد إلى الإسلام ومات على الإسلام سلمت له أعماله وأحرزها بإيمانه، والحمد لله.

حكم من شك فيما هو معلوم من الدين بالضرورة

حكم من شك فيما هو معلوم من الدين بالضرورة Q سائل يقول: إنه أصيب بالشك المؤدي إلى الكفر، فكيف يستطيع أن يزيله، علماً بأن الذي أصيب به ليس وساوس بل هو شك؟ A عليه التوبة إذا لم تكن وساوس، كأن يكون عنده شك في الله، أو في وجود الله، أو شك في استحقاق الله الوحدانية، أو شك في ربوبية الله، أو في أسمائه وصفاته، أو شك في ملك من الملائكة، أو شك في الرسل، أو في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم هل هي حق أو غير حق؟ أو شك في البعث، أو في الجنة، أو في النار هذا كفر، والعياذ بالله. كما أخبر الله عن صاحب الجنتين حين دخل جنته: {وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:35 - 36]، هذا الشك شك في الساعة، {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ} [الكهف:37] كفر بهذا الشك. فإذا كان هذا الشخص يشك فعليه التوبة من هذا الكفر، وعليه أن يجدد إسلامه من جديد، ويعتقد عقيدة جازمة لا يتطرق إليها شك فيها شك فيه، سواء شك في الله، أو في الملائكة، أو في الرسل، أو في الكتب، أو في البعث، أو في الجنة، أو في النار، مثل من أنكر شيئاً فليتب من هذا الإنكار، ومن أنكر وجحد ما هو معلوم من الدين بالضرورة عليه أن يتوب من هذا الجحد ويقر به، ومن شك عليه أن يتوب من هذا الشك ويجزم ويعتقد.

إطلاق الصلاة والسلام على آل البيت لا يشمل الكفار وأهل البدع منهم

إطلاق الصلاة والسلام على آل البيت لا يشمل الكفار وأهل البدع منهم Q هل الصلاة على آل بيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تشمل بعض الرافضة والبعثيين الذين يدعون نسبهم للنبي صلى الله عليه وسلم؟ A لا تشمل إلا المؤمنين، فآله أهل بيته المؤمنين، قوله: (وعلى آله) لا تشمل أبا طالب ولا أبا جهل، وهم من آل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كفار ماتوا على الكفر، لكن تشمل علياً وفاطمة والحسن والحسين والعباس، وحمزة، لأنهم مؤمنون، أما أبو لهب وأبو جهل فلا تشملهم، وأبو طالب لا تشمله وهم من آل النبي صلى الله عليه وسلم، فالرافضة المتأخرون من باب أولى، هؤلاء أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم.

حكم تكفير المعين

حكم تكفير المعين Q هل من آراء شيخ الإسلام رحمه الله تكفير المعين؟ A قول شيخ الإسلام وغيره أن المعين إذا قامت عليه الحجة ووجدت الشروط وانتفت الموانع يكفر، أما إذا لم تقم عليه الحجة فلا يكفر؛ حتى تكشف الشبهة وتوجد الشروط وتنتفي الموانع.

ضرورة التثبت من الأقوال المنسوبة إلى العلماء

ضرورة التثبت من الأقوال المنسوبة إلى العلماء Q ما صحة ما ينقل عن شيخ الإسلام رحمه الله أنه قال: من قال: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث، أربعين مرة بين سنة الفجر إلى صلاة الفجر رزق حياة القلب؟ A لا أعلم صحة هذا، إذا كان ورد هذا عنه فليراجع، وعلى السائل أن يثبت هذا، فإذا ثبت بسند صحيح، وإلا فلا يقبل.

دلالة عمر سارية على الجبل والرد على احتجاج المبتدعة به

دلالة عمر سارية على الجبل والرد على احتجاج المبتدعة به Q هل لأهل البدع حجة في أثر عمر رضي الله عنه حينما قال: يا سارية الجبل، على معرفة الغيب والكشف؟ A ليس لهم حجة، وهذا من باب الكرامة، وكرامات الأولياء معروفة، وقد يكشف للولي ما لا يكشف لغيره، وهذا من كرامة عمر رضي الله عنه، أما الصوفية الذين يدعون علم الغيب فهذا منهم كفر وضلال أعوذ بالله.

حكم قصر الصلوات والجمع بينها للمسافر

حكم قصر الصلوات والجمع بينها للمسافر Q جئت من خارج مدينة الرياض وأنا مسافر، فهل آخذ برخص السفر، مع العلم بأني مقيم إلى نهاية الدورة العلمية؟ A هذا يذكرني بأن أحد الإخوان سألني بعد الصلاة وقال: هل نصلي السنة الراتبه أو نؤخرها؟ قلت: صلها الآن، السنة الراتبة لا تؤخر، فالسنة الراتبة وقتها من المغرب إلى دخول وقت العشاء، فإذا دخل وقت العشاء ذهب وقتها، وأنا أشاهد بعض الإخوان يجلسون ولا يصلون السنة الراتبة، وهذا غلط، فينبغي للإنسان أن يحافظ على السنة الراتبة. وأما المسافر الذي أتى من بعيد فإذا نوى أن يقيم أكثر من أربعة أيام فالصواب الذي تدل عليه النصوص والذي أقره جمهور العلماء: أنه تنقطع أحكام السفر من أول فريضة يصليها، فيصلي السنن الرواتب من أول فريضة. فإذا نوى الإقامة يوماً أو يومين أو ثلاثة أيام أو أربعة فقط، أو له حاجة ولا يدري متى تنتهي، فهذا لا يزال مسافراً، لكن إذا صلى مع الإمام وأتم فالحكم حكم المقيمين، وإن صلى وحده مع المسافرين فإنه يقصر الصلاة ولا يصلي السنة الراتبة، راتبة الظهر وراتبة المغرب وراتبة العشاء، أما سنة الفجر فلا تترك حضراً ولا سفراً. فالإخوان الذين جاءوا للدورة وقد قرروا ونووا أن يقيموا أسبوعين ليسوا مسافرين، ومن أول فريضة تنقطع أحكام السفر عندهم، فعليهم أن يصلوا السنن الرواتب وغيرها، وليس لهم أن يقصروا ولا أن يجمعوا.

كيفية التخلص من المال الربوي

كيفية التخلص من المال الربوي Q أعطيت زوجتي مالاً ربوياً وهي لا تعلم ذلك واشترت به ذهباً، فكيف تتخلص من هذا الذهب؟ وهل يجب علي إخبارها بذلك؟ وهل يصلح التصدق به في بناء مسجد؟ A نعم، وعليك أن تخرج ما يقابل هذا المال، فالإثم عليك وهي لا إثم عليها، فعليك أن تخرج ما يقابل قيمة الذهب وتنفقه في المصالح العامة بنية التخلص منه لا بنية التقرب إلى الله. وإذا وصل للإنسان فوائد ربوية فلا يجوز له أن يأخذها أولاً، أي: إن أمكن ألا يأخذها فلا يأخذها، وإن لم يمكن أو لا يستطيع ردها فإنه ينفقها في المصالح العامة للمسلمين بنية التخلص منها لا بنية التقرب، فينفقها على المساكين وعلى الفقراء وعلى المساجد وعلى مدارس تحفيظ القرآن ودور الأيتام، وحينئذ تبرأ ذمته منها، فأنت تخرج قيمة الذهب في المصالح العامة بنية التخلص منها.

حكم التوضؤ من الماء المغصوب كالمياه الموضوعة للشرب

حكم التوضؤ من الماء المغصوب كالمياه الموضوعة للشرب Q ما حكم الوضوء من برادات المياه حال ازدحام مواضع الوضوء؟ وما صحة ما ذكر عن الشيخ ابن باز رحمه الله أنه يرى عدم صحة صلاة من توضأ من برادات المياه؟ A لا يجوز الوضوء من البرادات؛ لأن البرادات إنما وضعت للشرب ولم توضع للوضوء، ولو توضأ الناس منها لتعطل الشرب، وتعطل غرض الواقف. فالوضوء من البرادات يعتبر الماء ماءً مغصوباً، وإذا توضأ بماء مغصوب اختلف العلماء فيه على قولين: منهم من يقول: لا تصلح الصلاة، كما لو صلى في أرض مغصوبة، أو صلى في ثوب حرير، فإنها لا تصح الصلاة في مذهب الإمام أحمد وجماعة، وعليه أن يعيد الصلاة. والقول الثاني: أنها تصح مع الإثم. وهذا هو الصواب: أنها صحيحة مع الإثم، فله أجر الصلاة وعليه إثم الغصب.

النصيحة لمن يحضر الدروس العلمية بالتأدب بآداب طلب العلم

النصيحة لمن يحضر الدروس العلمية بالتأدب بآداب طلب العلم Q كيف يمكن توجيه نصيحة لبعض الإخوة الذين يحضرون الدروس، ويجتمعون ويتحدثون ويشوشون على من يحضر الدرس؟ A ننصح هؤلاء الإخوان أن يتأدبوا بآداب طلب العلم، فإذا جاءوا للفائدة فعليهم أن يتأدبوا وأن يجلسوا ويستفيدوا، أما أن يشوشوا فهذا غلط كبير، ومعنى هذا أنهم يتسببون في عدم وصول الفائدة إلى من يريدها، ويخشى عليهم من الإثم، لكن ننصحهم أن يجلسوا حيث ينتهي بهم المجلس. وينبغي للإخوان أن يتفسحوا ويتوسعوا، ولكن يحرصون كل الحرص على ألا يشوشوا على إخوانهم؛ لئلا يحرموهم الفائدة، ولأنه يخشى عليهم من الإثم.

[3]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [3] من أعظم بدع المرجئة مخالفتهم في الإيمان، فإنه يؤدي إلى مفاسد دينية اعتقادية مخالفة للكتاب والسنة، ولذلك فطوائف المرجئة كلها تعد مخالفة لأهل السنة والجماعة.

تعريف الإيمان

تعريف الإيمان أصل الإيمان في اللغة: التصديق والإقرار والمعرفة، وهو تصديق القلب وإقراره واعترافه. وشرعاً: تصديق القلب، وإقرار اللسان، وعمل القلب والجوارح. فيشمل أربعة أشياء: تصديق القلب ويسمى قول القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح. فقول القلب: هو التصديق والإقرار والمعرفة. وقول اللسان: هو النطق، كالنطق بالشهادتين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والذكر، وتلاوة القرآن. وعمل القلب: كالنية والإخلاص والصدق والمحبة والتوكل والرغبة والرهبة. وعمل الجوارح: كالصلاة والصيام والزكاة والحج. ولهذا يقول العلماء: الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان -وهو القلب- وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. ومن عبارات السلف في هذا: الإيمان عمل ونية، أي: عمل القلب وعمل الجوارح، والنية التصديق والإقرار، ويدخل في العمل أيضاً قول اللسان. وبهذا ينفصل أهل السنة عن المرجئة بجميع طوائفهم وعن أهل البدع جميعاً. والعلماء والسلف والأئمة من الصحابة والتابعين وأهل السنة قاطبة ومنهم الأئمة الأربعة يقررون أن الإيمان تصديق القلب، وإقرار اللسان ونطقه، وعمل القلب وعمل الجوارح، وقرروا أنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وبهذا انفصلوا عن جميع الطوائف، فانفصلوا عن الخوارج، والمعتزلة، والمرجئة، والشيعة، والكرامية، والجهمية وغيرهم، فالمرجئة الذين يرون أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، من أعظم من خالف أهل السنة في مسمى الإيمان.

أقسام المرجئة

أقسام المرجئة المرجئة أربع طوائف: الطائفة الأولى: الجهمية، ومذهبهم في الإيمان أن الإيمان معرفة الرب بالقلب, والكفر: جهل الرب بالقلب. والجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان السمرقندي الراسبي الذي نشر مذهب الجهمية، وتعريفهم هذا أفسد ما قيل في تعريف الإيمان وأبطلها وأشدها كفراً وضلالاً وبعداً عن الحق. وألزمهم العلماء على هذا التعريف أن إبليس مؤمن؛ لأنه عرف ربه بقلبه، قال الله عنه: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36] وألزموهم بأن فرعون أكفر أهل الأرض مؤمن؛ لأن فرعون يعرف ربه بقلبه، قال الله تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، وقال الله عن موسى أنه قال لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ} [الإسراء:102] والعلم هو يقين القلب، {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102] فعلى هذا يكون فرعون مؤمناً على مذهب الجهم. واليهود مؤمنون أيضاً على مذهب الجهم؛ لأن اليهود يعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]. وأبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي مات على الشرك، وأبى أن يقول لا إله إلا الله يكون مؤمناً على مذهب الجهم؛ لأنه قال في قصيدته المعروفة: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً بل إن العلماء ألزموا الجهم على قوله بأنه كافر بتعريفه هو؛ لأنه قال: الكفر هو الجهل بالرب، ولا أحد أجهل من الجهم بربه، فيكون كافراً بتعريفه هو. والجهم اشتهر بأربع عقائد خبيثة فاسدة: الأولى: عقيدة الإرجاء، وهو أن الإيمان معرفة الرب بالقلب، والكفر جهل الرب بالقلب. والثانية: عقيدة الجبر، وهو القول بأن العبد مجبور على أفعاله، وأن الأفعال هي أفعال الله، والإنسان وعاء للأفعال، فهو آلة يحركها الله، فالأفعال أفعال الله، فالله هو المصلي والصائم على مذهب الجهم , والعباد وعاء للأفعال كالكوز الذي يصب فيه الماء، فيقول: العباد كالكوز، والله كصباب الماء فيه، هذا مذهب مذهب الجهم في الجبر. والعقيدة الثالثة: عقيدة نفي الأسماء والصفات عن الله عز وجل، حيث قال: ليس لله سمع ولا بصر ولا قدرة، وليس فوق العالم ولا تحت العالم، ولا مباين له ولا محايث له، ولا متصل به ولا منفصل عنه. وهو بهذا يصف ربه بالعدم، بل أشد من العدم. العقيدة الرابعة: القول بفناء الجنة والنار. الطائفة الثانية: الكرامية، ومذهبهم أن الإيمان هو النطق باللسان والإقرار به. فإذا أقر الإنسان فشهد أن لا إله الله بلسانه فإنه يكون مؤمناً ولو كان مكذباً بقلبه. وهذا يلي مذهب الجهم في الفساد, فيقولون: إن الإنسان إذا نطق بلسانه فهو مؤمن كامل الإيمان، وإن كان مكذباً بقلبه فهو مخلد في النار، فيجمعون بين الأمرين المتناقضين, فيقولون: إذا نطق المنافق بالشهادتين فهو مؤمن كامل الإيمان ومع ذلك يخلد في النار. وعللوا ذلك فقالوا: مؤمن كامل الإيمان؛ لأنه نطق بلسانه، ويخلد في النار؛ لأنه كذب بقلبه. الطائفة الثالثة: الماتريدية والأشاعرة, ويقولون: إن الإيمان تصديق القلب فقط, وأما نطق اللسان وعمل الجوارح فهما وإن كانا مطلوبين وجوباً إلا أنهما ليسا من الإيمان. فهذا هو مذهب الماتريدية والأشعرية، ورواية عن الإمام أبي حنيفة اختارها بعض أصحابه. الطائفة الرابعة من المرجئة: وهم مرجئة الفقهاء، وهم طائفة من أهل السنة، يقولون: إن الإيمان شيئان: تصديق القلب, وإقرار اللسان, أما أعمال الجوارح فليست من الإيمان، وهذه هي الرواية الثانية عن الإمام أبي حنيفة وعليها جمهور أصحابه، وهذه هي التي قررها الطحاوي في الطحاوية، حيث قال: والإيمان إقرار باللسان، وتصديق بالجنان فقط.

حقيقة الخلاف بين مرجئة الفقهاء وأهل السنة

حقيقة الخلاف بين مرجئة الفقهاء وأهل السنة

القول بأن الخلاف مع مرجئة الفقهاء لفظي

القول بأن الخلاف مع مرجئة الفقهاء لفظي وأول من قال بالإرجاء: حماد بن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة في الكوفة، قال: إن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان. وهؤلاء طائفة من أهل السنة، يقولون: إن الأعمال مطلوبة، ولكن لا نسميها إيماناً، بل الإيمان شيئان فقط: الإقرار باللسان، والتصديق بالقلب، أما الأعمال: كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها فواجبة، لكن ليست إيماناً. فالإنسان عليه واجبان: واجب الإيمان وواجب العمل، وهؤلاء طائفة من أهل السنة، ويقولون: إن خلافنا مع الجمهور خلاف لفظي لا يترتب عليه أي فساد في العقيدة؛ لأننا متفقون على أن الأعمال مطلوبة وواجبة، لكن الخلاف بيننا: هل هي إيمان أو ليست إيماناً؟ فنحن نقول: ليست من الإيمان، وأنتم تقولون: من الإيمان، ونحن متفقون على أنها واجبة ومطلوبة، وأن من أدى الواجبات أثابه الله، ومن ترك الواجبات فهو آثم متعرض للعقوبة، ويقام عليه الحد. ويقولون: إن الأعمال التي سميت إيماناً إنما هي تسمية مجازية لا حقيقية، كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيماناً تسمية مجازية. وكذلك الكفر عندهم هو الجحود فقط، أما الأعمال فإذا سميت كفراً فإنما هي تسمية مجازية، وهكذا. قال بعض العلماء وبعض الذين شرحوا الطحاوية: إن الخلاف بين مرجئة الفقهاء وجمهور أهل السنة خلاف لفظي لا يترتب عليه فساد في العقيدة. فالأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد يرون أن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالقلب، وعمل بالجوارح. والإمام أبو حنيفة يرى أن الإيمان شيئان: إقرار باللسان، وتصديق بالقلب، أما عمل الجوارح فهو واجب آخر، ونحن متفقون على أن الأعمال مطلوبة، والخلاف بيننا وبينهم التسمية فقط.

يترتب على قول مرجئة الفقهاء فتح الباب للفساق والعصاة

يترتب على قول مرجئة الفقهاء فتح الباب للفساق والعصاة في الواقع أن الخلاف ليس لفظياً من جميع الوجوه, فالخلاف بين جمهور أهل السنة ومرجئة الفقهاء وإن كان لا يترتب عليه فساد في العقيدة إلا أن له ثمرات وآثاراً تترتب عليه، ولهذا قال بعض العلماء: إن بدعتهم -وإن كانت في اللفظ بدعة المرجئة- أشد من فتنة الأزارقة، وهم الخوارج. فمن الآثار التي ترتبت على خلاف مرجئة الفقهاء وإن كانوا طائفة من أهل السنة أنهم فتحوا باباً للفساق والعصاة، فمرجئة الفقهاء يقولون: إيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد, وإيمان الفاسق والعاصي واحد هو التصديق، فكل منهم مصدق، ولكن التفاوت بينهم في الأعمال والتقوى. فلما قالوا هذا القول فتحوا باباً للفساق والعصاة, فيأتي السكير, ويقول: أنا مؤمن كامل الإيمان، وإيماني كإيمان جبريل وميكائيل، وكإيمان أبي بكر وعمر , فإذا قيل له: كيف ذلك؟ قال: أنا مصدق، وأبو بكر مصدق وعمر مصدق. فإذا قيل له: أبو بكر وعمر لهم أعمال عظيمة. قال: الأعمال غير الإيمان، ونحن متفقون في الإيمان, فإيماني كإيمان أبي بكر وعمر. وهذا باطل, فإن إيمان أبي بكر وعمر لو وزن بإيمان أهل الأرض لرجح, فكيف تقول أيها السكير: إن إيماني كإيمان أبي بكر وعمر , والذي فتح الباب لمثل هؤلاء هم مرجئة الفقهاء عندما قالوا: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان.

يترتب على قول مرجئة الفقهاء فتح الباب للمرجئة المحضة

يترتب على قول مرجئة الفقهاء فتح الباب للمرجئة المحضة الأمر الثاني من الآثار التي تترتب على خلاف مرجئة الفقهاء مع جمهور أهل السنة فتح الباب للمرجئة المحضة وهم الجهمية، فلما قال مرجئة الفقهاء: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان وهي مطلوبة، دخل المرجئة المحضة وقالوا: الأعمال ليست من الإيمان، وليست مطلوبة, فالمرجئة المحضة يقولون: إذا عرف الإنسان ربه بقلبه وصدق فلا يضره أي كبيرة يعملها، فلا ينفع مع الكفر طاعة كما لا يضر مع الإيمان معصية، ولهذا يقولون: إذا صدق أحد فهو مؤمن كامل الإيمان ويدخل الجنة من أول وهلة، حتى ولو فعل بعض المكفرات عندهم فلا يؤثر عليه مادام يعرف ربه بقلبه، فلو سب الله والرسول وهو يعرف ربه بقلبه ما تأثر إيمانه، ولو قتل النبي وداس المصحف بقدميه فلا يكون كافراً. فهذه من الآثار التي ترتبت على الخلاف بين مرجئة الفقهاء وجمهور أهل السنة.

منع مرجئة الفقهاء الاستثناء في الإيمان

منع مرجئة الفقهاء الاستثناء في الإيمان المسألة الثالثة: مسألة الاستثناء في الإيمان، وهو قول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله، ومرجئة الفقهاء يمنعون الاستثناء في الإيمان، ويقولون: الاستثناء شك في الإيمان، ولا يجوز شك الشخص في إيمانه، بل لا بد أن يعلم أنه مصدق كما يعلم أنه قرأ الفاتحة، وكما يعلم أنه يحب الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه يبغض اليهود، ولهذا من قال: أنا مؤمن إن شاء الله، قالوا: هذا شاك في إيمانه، ويسمونه من أهل السنة الشكاكة. أما جمهور أهل السنة فإنهم أجازوا الاستثناء باعتبار ومنعوه باعتبار، فقالوا: إن قصد الشك في أصل الإيمان والتصديق فهذا ممنوع، وإن أراد بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله أن شرائع الإيمان والواجبات كثيرة ولا يجزم الإنسان أنه أدى ما عليه ولا يزكي نفسه، جاز له أن يستثني فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله. وكذلك إذا أراد عدم علمه بالعاقبة فله أن يستثني ويقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وكذلك إذا أراد التبرك بذكر اسم الله فله أن يستثني. ولقد انتشر في هذه الآونة مذهب الإرجاء وصار فيه كلام كثير، وأخذ ورد في الشبكة المعلوماتية، والكتابات والصحف والرسائل، واختلط الحابل بالنابل على كثير من الناس، فلا يفرقون بين الحق والباطل إلا من عصم الله، فكل من قال: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان فهو من المرجئة, سواء قال إنه شرط كمال أو شرط صحة أو غير ذلك، فإن الشرط خارج عن المشروط، وعليه لا يقال شرط ولا غيره، وإنما الأعمال جزء من الإيمان ركن فيه.

زيادة الإيمان ونقصانه

زيادة الإيمان ونقصانه

الخلاف بين أهل السنة والمرجئة في زيادة الإيمان ونقصانه

الخلاف بين أهل السنة والمرجئة في زيادة الإيمان ونقصانه أقر أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، كما دلت النصوص الكثيرة على هذا، قال الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، وقال: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]، وقال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]. : والكفر أيضاً يزيد وينقص، قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125]. إذاً: الكفر يزيد وينقص، والنفاق يزيد وينقص، والإيمان يزيد وينقص. أما المرجئة بجميع طوائفهم فيقولون: الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وهذا خلاف ما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام السلف الصالح من الصحابة والتابعين، إذ كان يقول أحدهم لصاحبه: هلم نزدد إيماناً، ويذكرون الله، ويقرءون القرآن، فإذا أمر الإنسان بالمعروف ونهى عن المنكر، ودعى إلى الله، وقرأ القرآن زاد إيمانه، وإذا غفل أو عصى نقص إيمانه. أما أهل البدع فإنهم خالفوا أهل السنة والجماعة في هذا، فالخوارج والمعتزلة يرون أن مسمى الإيمان كما يقول أهل السنة: قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، لكنهم يقولون: إذا ترك الإنسان واجباً من الواجبات ذهب عنه الإيمان كله. وجمهور أهل السنة يقولون: الإيمان يزيد وينقص، وهم يقولون: لا ينقص، بل يذهب جملة أو يبقى جملة، وقالوا: الإيمان حقيقة مركبة، والحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها، فإذا عصى الإنسان ربه كأن سرق أو زنا أو تعامل بالربا أو عق والديه فقد خرج من الإيمان وصار كافراً. أما أهل السنة فيقولون: بل هو ضعيف الإيمان غير كافر، إذ لو كان الزاني كافراً لقتل، ولو كان السارق كافراً لما قطعت يده، بل لو كان كافراً لقتل، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، ولما ورث من أقاربه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) فالخوارج والمعتزلة وإن وافقوا أهل السنة في مسمى الإيمان إلا أنهم يخالفونهم في زوال الإيمان. فالخوارج يقولون: إذا عصى الإنسان أو فسق أو ارتكب كبيرة ذهب الإيمان منه ودخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: ذهب منه الإيمان ولا يدخل في الكفر، بل يكون في منزلة بين المنزلتين، فلا هو مؤمن ولا كافر، وهذا من أبطل الباطل.

الرد على المعتزلة والخوارج في زيادة الإيمان ونقصانه

الرد على المعتزلة والخوارج في زيادة الإيمان ونقصانه المرجئة يقولون: الإيمان شيء واحد، وحقيقة مركبة يزول بزوال بعض أجزائه، فإذا زال التصديق زال الإيمان، وإذا وجد التصديق وجد الإيمان. وهذه الشبهة هي عند جميع الطوائف ما عدا جمهور أهل السنة، وهذه الشبهة من أبطل الباطل، فإن الإيمان متعدد ومتبعض، ولهذا قال جمهور أهل السنة ومنهم الصحابة، والتابعون، والعلماء ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، وسفيان الثوري وابن عيينة والبخاري ومسلم وغيرهم من أهل العلم وأهل لحديث: إن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. فإذا فعل الإنسان معصية نقص إيمانه وضعف ولو كثرت المعاصي، بل لا يذهب الإيمان إلا الكفر الصراح. ولهذا جاء في أحاديث الشفاعة: (أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) فدل على أن الإيمان يضعف حتى لا يبقى منه إلا مثقال ذرة، ومع هذا لا يزول ولا ينتهي الإيمان إلا إذا جاء الكفر الأكبر، أو النفاق الأكبر، أو الفسق الأكبر، أو الشرك الأكبر؛ لامتناع أن يجتمع إيمان وكفر. فإذا فعل شخص كفراً كأن سب الله، أو سب الرسول، أو استهزأ بالله أو برسوله أو بكتابه، أو كذب الله أو كذب رسوله، أو أنكر المعلوم من الدين بالضرورة وجوبه وتحريمه، كإنكار تحريم الزنا، أو تحريم الربا، أو تحريم الخمر، أو تحريم عقوق الوالدين، أو أنكر وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة، أو وجوب الحج، فمثل هذا قد ذهب إيمانه بالكلية. ولهذا فإن أهل السنة بدعوا المعتزلة وصاحوا بهم: أنتم أنكرتم النصوص التي تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر، وهم مؤمنون موحدون مصلون ولا تأكل النار وجوههم؛ لأن الله حرم على النار أن تأكل وجوههم وهم مصلون، بل تأكلهم النار من نواحى أخرى، فمثل هذا مات وهو مؤمن مصل، لكنه مات عاقاً لوالديه من غير توبة، وهذا مات على الزنا من غير توبة، وهذا مات على التعامل بالربا من غير توبة، وهذا مات على الغيبة من غير توبة، وهذا مات على النميمة من غير توبة، وهذا مات على القتل بغير حق ولم يستحله، وهكذا تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر، فلو كان الإيمان ينتهي بالمعاصي ما أخرجو من النار. بل تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشفع للعصاة الموحدين، قال عليه الصلاة والسلام: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وفي كل مرة يحد الله له حداً يعرفهم بالعلامة يخرجك من النار، فقد جاء في بعض الأحاديث أن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: (أخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان) وفي بعضها: (أخرجوا من كان في قلبه نصف دينار) وفي بعضها: (أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) والبعض الآخر: (أخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان). بل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشفع أربع شفاعات للعصاة، وكذلك يشفع بقية الأنبياء، ويشفع الملائكة، ويشفع الشهداء، وكل عبد صالح، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة، فيخرجهم رب العالمين برحمته، ويقول: (شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المرسلون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيخرج قوماً من النار لم يعملون خيراً قط) يعني: زيادة على التوحيد والإيمان أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وثبت في الحديث الصحيح: أنهم يخرجون من النار كأنهم الضغابيس قد امتحشوا وصاروا فحماً، فيصب عليهم من نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فإذا هذبوا ونقوا قيل لهم: ادخول الجنة. والأخبار في هذا متواترة. وثبت حديث الرجل الذي هو آخر أهل النار خروجاً، وآخر أهل الجنة دخولاً، فإذا سلمه الله من النار التفت إليها وقال: الحمد لله الذي نجاني منك، وفي أول الأمر يكون وجهه إلى النار، فيقول: يا رب! اصرف وجهي عن النار، فقد قشبني ريحها وأحرقني حرها، فيأخذ عليه العهد والميثاق ألا يسأل غير ذلك، فيعطيه، فيصرف الله وجهه عن النار، ثم ترفع له شجرة فيسكت ما شاء الله، ثم يدعو ربه ويقول: يا رب! أدنني من هذه الشجرة أستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك! ألم تقل إنك لن تسألني غيره، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له، فيعطي ربه العهد والميثاق فيدنيه، ثم يسكت ما شاء الله، وتظهر له شجرة أخرى، وهكذا حتى يصل إلى الجنة. فإذا وصل إلى باب الجنة ورأى ما فيها من النعيم والكرامة مما لا صبر له عليه، يقول: يا ربي! أدخلني الجنة، فيقول الله: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك! ألم تقل إنك: لا تسألني غيرها، فيقول: يا ربي! لا أكون أشقى خلقك، فيضحك الله سبحانه وتعالى له، فإذا ضحك أدخله الجنة، فإذا دخل الجنة قال الله: تمنَّ! أما ترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟! فيقول: رضيت يا رب، فيقول الله له: لك ذلك، ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، خمس مرات. وجاء في الحديث الآخر: لك ذلك وعشرة أمثاله. يعني: لك مثل مُلْكِ مَلِكٍ من ملوك الدنيا خمسين مرة. فهذا آخر أهل النار خروجاً وآخر أهل الجنة دخولاً، وهذا الحديث ثابت في صحيح البخاري، فكيف يقول الخوارج والمعتزلة: إن من دخل النار لا يخرج منها! ويجعلون العصاة كالكفار سواء بسواء، وأنكروا النصوص مع تواترها، والله تعالى يقول في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].

مذاهب الناس في مسمى الإيمان والكفر

مذاهب الناس في مسمى الإيمان والكفر مسمى الإيمان ومسمى الكفر فيه هذا الاختلاف الشديد، ومذهب أهل السنة هو المذهب الحق، وهو أن الإيمان يكون تصديقاً بالقلب، وإقراراً باللسان، وعملاً بالقلب، وعملاً بالجوارح، وأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأقوال اللسان داخلة في مسمى الإيمان، وأعمال القلب داخلة في مسمى الإيمان، وتصديق القلب دخل في مسمى الإيمان، فالإيمان يكون قولاً، ويكون عملاً، ويكون تصديقاً، ويكون إقراراً، كما أن الكفر يكون بالجحود، ويكون بالعمل، ويكون بالقول. والمرجئة يقولون: الإيمان لا يكون إلا تصديقاً بالقلب، وعليه فالكفر لا يكون إلا بجحود القلب فقط, فأقوال اللسان ليست من الإيمان، وأعمال الجوارح ليست من الإيمان، فكذلك أقوال اللسان ليست من الكفر، والأعمال ليست من الكفر، فإذا سب الله أو سب الرسول قالوا: هذا ليس بكفر، وإنما هو دليل على الكفر، وإذا سجد لصنم قالوا: ليس السجود بذاته كفراً، لكن هو دليل على الكفر الذي في قلبه. وهذا من أبطل الباطل، فإن نفس السجود لصنم كفر، ونفس السب كفر، فإن الكفر يكون بالجحود وبالاعتقاد كمن اعتقد أن لله صاحبة، أو ولداً، أو شريكاً في الملك, أو جحد ملكاً من الملائكة، أو نبياً من الأنبياء، أو جحد البعث أو القيامة، فهذا يكفر بهذا الاعتقاد. ويكون الكفر أيضاً بالشك، كمن شك في الله، أو ربوبيته، أو أسمائه، أو صفاته، أو شك في الملائكة، أو في البعث، أو الساعة، أو القيامة، أو الجنة، أو النار، فهذا كافر بهذا الشك. ويكون الكفر بالعمل كالسجود لصنم قاصداً للسجود، فإنه كافر ولو لم يشأ بهذا العمل الكفر، ومثله من داس المصحف بقدميه، أو لطخ المصحف بالنجاسة، فقد كفر بهذا العمل. ويكون الكفر بالقول كمن سب الله، أو الرسول، أو استهزأ بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله. ويكون الكفر أيضاً بالرفض والترك، كمن أعرض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]، وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]. فالكفر يكون في القلب والاعتقاد بالجحود، ويكون في القول باللسان، ويكون في العمل بالجوارح، ويكون بالشك، ويكون بالرفض والترك، فهذه خمسة أنواع. والمرجئة يقولون: لا يكون الإيمان إلا بالقلب فقط، ولا يكون الكفر إلا بالقلب. فهذه مقدمة أردت أن ينفع الله بها، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، والعلم النافع، والعمل الصالح، وأسأل الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، اللهم ثبتنا على دينك القويم حتى الممات، إنك ولي ذلك والقادر عليه.

الأسئلة

الأسئلة

توجيه قول الطحاوي: (ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله)

توجيه قول الطحاوي: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) Q يذكر من قول أهل السنة والجماعة: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) أهي صحيحة أم أنها قيلت للرد على الخوارج، مع أن ترك الصلاة بدون استحلال كفر، أفتونا مأجورين؟ A هذا قول الطحاوي رحمه الله، وأجاب عنه الشارح وقال: (ما لم يستحله) أي: ما لم يعتقده، ثم اعترض أيضاً على هذا الجواب بأن معنى (يعتقده) معنى يستحله. والذنب إذا أطلق شمل الكفر وغيره, والمعصية تشمل الكفر وغيره، قال تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81] فهذه هي خطيئة الشرك، فالذنب يطلق على الشرك وعلى ما دونه. والعلماء اصطلحوا على أن الذنب يطلق على ما دون الشرك، وما دون الشرك لا يكفر مرتكبه إلا إذا استحله وكان أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وليس له شبهة، وذلك مثل الزنا السرقة الخمر عقوق الوالدين وقطيعة الرحم, فهذه كلها كبائر، من استحلها واعتقد أنها حلال كفر، أما إذا فعلها طاعة للهوى والشيطان فلا يكفر، بل يكون عاصياً، فالزاني عاص إلا إذا اعتقد أنه حلال؛ لأنه كذب الله، ومن تعامل بالربا وهو يعلم أن الربا حرام، لكن غلبه حب المال والجشع وأطاع الشيطان فهذا عاص ضعيف الإيمان مرتكب لكبيرة، فإذا استحله كفر. وكذلك من عق والديه، ويرى أن عقوق الوالدين حلال، فهذا يكفر، لكن إن عق وهو يعلم أن عقوق الوالدين حرام، ويؤمن بقول الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]، لكن غلبه الهوى والشيطان، فهذا ضعيف الإيمان، وهكذا. فالذنب إذا كان من الكبائر وكان من الأمور المعلومة في الدين بالضرورة واستحله كفر, أما إذا لم يستحله فإنه يكون عاصياً ضعيف الإيمان، ولا يكفر إلا بالشرك.

توجيه حديث: (لم يعملوا خيرا قط)

توجيه حديث: (لم يعملوا خيراً قط) Q كيف نحمل الحديث الذي رواه الإمام البخاري: (ويخرج الله أقواماً من النار لم يعملوا خيراً قط فيدخلهم الجنة) هل معناه أنهم دخلوا الجنة بمجرد وجود أصل الإيمان في قلوبهم، كما في الحديث الآخر الذي رواه البخاري: (من كان في قلبه وزن ذرة من إيمان فأخرجه من النار)، وجزيتم خيراً؟ A معنى: (ما عمل خيراً) قط يعني: زيادة على التوحيد والإيمان، ولهذا جاء في اللفظ الآخر: (إلا أنهم يقولون: لا إله إلا الله) إلا أنهم موحدون، فأخرجهم الله بالتوحيد والإيمان، وليس عندهم زيادة عن التوحيد والإيمان. ولا يمكن أن يفهم معنى ذلك أن الله أخرجهم وهم على الشرك؛ لأن الجنة حرام على المشرك بنص القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72]، فالنصوص تضم بعضها إلى بعض، ويصدق بعضها بعضاً، ولا يجوز أن يصدم بعضها ببعض.

حكم الاحتيال في الربا

حكم الاحتيال في الربا Q رجل أراد الاستقراض من أحد البنوك مائة ألف ريال، ويردها لهم مائة وخمسين ألفاً، فأخبرهم بأن ذلك من الربا الصريح المحرم، فقالوا له: هناك طريقة مباحة ومجازة من الهيئة الشرعية، وهي أن نشتري لك حديداً خاماً بقيمة مائة ألف ريال، ونبيعه لك، وتسدد مائة وخمسين ألفاً بأقساط شهرية لمدة ست سنوات, فما رأيكم حفظكم الله بهذا، وهل هو من الحيل المحرمة، وضحوا لنا الأمر واللبس، حفظكم الله وغفر لكم؟ A ظاهره حيلة محرمة، فالحيل لا تبيح محرماً، بل تزيده إثماً، فكونه الآن يقترض كما ذكر حرام، وهو رباً صريح، وهو ربا الجاهلية، وكونه يقول: اشتر منا سلعة ونبيعها لك حتى تشتري منا سلعة بثمن أكثر حتى تقابل الزيادة مائة وخمسين حيلة على الربا لا تبيحه. ومثله قلب الدين على المعسر، وذلك حينما يكون على شخص دين قدره عشرة آلاف، ثم حل عليه الدين وهو معسر فقير, فقال الدائن: أبيع لك السيارة التي قيمتها عشرة آلاف بعشرين ألفاً، فباعها له بعشرين ألفاً، ثم قال له: بعها وأوفني فباعها على شخص آخر بعشرة آلاف فأوفاه، وبقي عليه في ذمته عشرة آلاف، فهذا هو قلب الدين على المعسر، وهو من الربا الذي لا يجوز. فالواجب على الدائن أن ينظر المعسر، لقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]. أما قوله: إن اللجنة أحلت هذا، فهذا فيه نظر، وعلى السائل أن يرجع إلى اللجنة الشرعية، ولا أظنها تبيح مثل هذا.

حكم الاستثناء في الإيمان

حكم الاستثناء في الإيمان Q سأل رجل: هل أنت مؤمن؟ فأجاب: أسأل الله أن أكون كذلك. فهل يصح قوله هذا؟ A بعض السلف يقال له: أنت مؤمن؟ فيقول: أنا مؤمن بالله ورسوله وملائكته وكتبه. فهذا لا بأس، وإذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وقصد أن الاستثناء راجع إلى الأعمال فلا بأس.

مراجع عقيدة الإرجاء

مراجع عقيدة الإرجاء Q ما المراجع في معرفة عقيدة الإرجاء قديماً وحديثاً أثابكم الله؟ A عقيدة الإرجاء ذكرها العلماء وردوا عليها في كتب السنة، ومنها كتابا الإيمان الكبير والصغير، ففيهما عقيدة الإرجاء والإفاضة فيها، وكذلك كتب العقائد أفاضوا فيها وبينوها، وكذلك أيضاً المرجئة في كتبهم ومؤلفاتهم الخاصة.

حكم القول بأن مصطلح العقيدة مصطلح بدعي

حكم القول بأن مصطلح العقيدة مصطلح بدعي Q ظهرت في الآونة الأخيرة بعض الدعوات الغربية، ومنها: أن مصطلح العقيدة مصطلح بدعي حادث لا يجوز استخدامه في قضايا التوحيد، ويستدلون بأن هذا اللفظ لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا عن السلف الأوائل، فما رأيكم؟ A لا أدري ما مقصودهم بمصطلح (بدعي)، وكيف يكون مصطلحاً بدعياً والرسول عليه الصلاة والسلام سئل عن الإيمان فقال: (الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره) فهذه العقيدة بينها النبي، وهي عقيدة المؤمنين، فيكف تكون مصطلحاً بدعياً؛ لكن هؤلاء يريدون بكلامهم هذا أن يصرفوا الناس عن العقيدة السليمة، ويجعلوهم ضائعين لا يعتقدون شيئاً.

نظرة في الآثار الواردة عن بعض الصحابة في فناء النار

نظرة في الآثار الواردة عن بعض الصحابة في فناء النار Q هل تصح الآثار عن عمر رضي الله عنه، وأبي هريرة رضي الله عنه، وأبي سعيد رضي الله عنه, بالقول بفناء النار؟ وهل القول بفنائها قول شاذ؟ A هذه الأقوال المذكورة عن بعض السلف تحتاج إلى ثبوتها بسند، فالذين يذكرونها يذكرونها ولا يذكرون لها سنداً، ولو صح فيكون هذا اجتهاداً منهم مخالفاً للنصوص، والنصوص مقدمة على الاجتهاد. فالنصوص الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دلت على أن النار باقية دائمة لا تفنى، قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37]. وقال: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]، وقال: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] والحقب: هي المدد المتطاولة، كلما انتهى حقب عقبه حقب إلى ما لا نهاية، قال تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97] فكيف نأخذ بالآثار ونترك النصوص الواضحة؟ وهذه الآثار في الغالب ليس لها أسانيد، ولو صحت الأسانيد لكان هذا اجتهاداً، والاجتهاد يخطئ ويصيب، والحجة في كلام الله وكلام رسوله، لا اجتهاد المجتهد.

صحة اشتراط الاستحلال في الكفر

صحة اشتراط الاستحلال في الكفر Q ما رأيكم فيمن يقول: إن مجرد السجود للصنم ليس كفراً؟ A هذا قول المرجئة، يقولون: السجود للصنم ليس بكفر، لكنه دليل على الكفر، والصواب أن السجود للصنم كفر إذا كان قاصداً السجود له، وقولي: (قاصداً)؛ يخرج النائم، أو الناعس، أو شخصاً وضع جبهته على الأرض يريد أن يستريح بلا قصد ولا علم بالصنم، وغير ذلك، لكن قصد السجود للصنم كفر وشرك ولو اعتقد بقلبه خلاف ذلك، ومثله سب الله وسب الرسول، ولو قال: أنا لا أريد الكفر. ومثله من استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله، وقد اجتمع جماعة في غزوة تبوك وتكلموا في حق النبي صلى الله عليه وسلم والقراء من أصحابه، وقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله في حقهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فأثبت لهم الكفر بعد الإيمان بهذا القول، ولم يقل: هل تعتقدون أو لا تعتقدون؟ أما المرجئة فيقولون: السجود ذاته ليس بكفر، لكنه دليل على الكفر، ودليل على ما في قلبه. ويقولون: مجرد السب ليس كفراً، لكنه دليل على الكفر. وهذا من أبطل الباطل، بل نقول: نفس السب كفر، ونفس السجود للصنم كفر، ووطء المصحف بالقدم امتهاناً له كفر، وقتل النبي أو سبه كفر. والمرجئة بنوا معتقدهم على أن الإيمان التصديق بالقلب، والكفر الجحود بالقلب، فالكفر لا يتجاوز القلب، والإيمان لا يتجاوز القلب، والسجود للصنم فعل، فعلى معتقدهم لا يكون كفراً؛ لكونه ليس في القلب، ومثله عندهم أن يلطخ المصحف بالنجاسة، وهكذا.

ضوابط تكفير المعين

ضوابط تكفير المعين Q من عمل عملاً كفرياً، أو قال قولاً كفرياً, فهل يكفر بمجرد القول أو الفعل أم لابد من استحلال؟ A يكفر بمجرد القول والعمل، إلا إذا لم تثبت له الحجة، أو كان جاهلاً، أو لا يعلم هذا الشيء، فلابد حينئذٍ من إقامة الحجة عليه، أما إذا تكلم بكلام الكفر قاصداً له في الكلام، أو عمل عملاً كفرياً قاصداً ذلك فإنه يكفر ما لم يكن مثله يجهل هذا الشيء، أو يحتاج إلى إزالة الشبهة؛ لأن من تكلم بالكلام الكفري أو عمل الكفر فلا بد من قيام الحجة عليه، ولا بد أيضاً من وجود الشروط وانتفاء الموانع، أما إذا كان مثله يجهل هذا الشيء أو كانت له شبهة فإنه لا يكفر.

أسباب حصول حلاوة الإيمان

أسباب حصول حلاوة الإيمان Q [ ما أسباب زيادة الإيمان، وكيف أجد حلاوته؟ A أسباب زيادة الإيمان: طاعة الله ورسوله، من أطاع الله وأطاع رسوله زاد إيمانه، ومن عصى الله أو عصى رسوله نقص إيمانه، وحلاوة الإيمان تعني: لذته، ويجدها الإنسان في ثلاثة أشياء: إذا كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وإذا كان يحب الإنسان يحبه لله، وإذا كان يكره الرجوع في الكفر كما يكره أن يقذف في النار، كما في حديث أنس: (ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) هذا يجد لذة الإيمان وحلاوته.

[4]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [4] انقسم الناس في العهد المدني إلى ثلاث فرق: مسلمين باطناً وظاهراً، وكفار باطناً وظاهراً، ومنافقين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وقد ذكر الله الفرق الثلاث في أول سورة البقرة وبين بعض صفاتها.

كيفية تمييز الحق في الكلام على الإسلام والإيمان

كيفية تمييز الحق في الكلام على الإسلام والإيمان

أصناف الناس في العهد النبوي

أصناف الناس في العهد النبوي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل. تضمن الحديث سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، وجوابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك، وقوله في آخر الحديث: (هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم) فجعل هذا كله من الدين. وللناس في الإسلام والإيمان من الكلام الكثير، مختلفين تارة، ومتفقين أخرى، ما يحتاج الناس معه إلى معرفة الحق في ذلك، وهذا يكون بأن نبين الأصول المعلومة المتفق عليها، ثم بذلك يتوصل إلى معرفة الحقيقة المتنازع فيها، فنقول: مما علم بالكتاب والسنة والإجماع، وهو المنقول نقلاً متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام دين النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس كانوا على عهده بالمدينة ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق ظاهره الإسلام وهو في الباطن كافر. ولهذا التقسيم أنزل الله تعالى في أول سورة البقرة ذكر الأصناف الثلاثة، فأنزل أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين. فقوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:2 - 5] في صفة المؤمنين. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] الآيتين في صفة الكفارين الذين يموتون كفاراً. وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] الآيات في صفة المنافقين، إلى أن ضرب لهم مثلين أحدهما بالنار والآخر بالماء، كما ضرب المثل بهذين للمؤمنين في قوله: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد:17]]. قول المؤلف: (وللناس في الإسلام يعني: في مسمى الإسلام والإيمان، من الكلام الكثير، مختلفين تارة، ومتفقين أخرى، ما يحتاج الناس معه إلى معرفة الحق في ذلك). فلما كان هذا الاختلاف كبيراً كان لابد من معرفة الحق في ذلك، وكيف يعرف الحق في ذلك؟ قال المؤلف: (هذا يكون بأن تبين الأصول المعلومة المتفق عليها، ثم بعد ذلك يتوصل إلى معرفة الحقيقة المتنازع فيها). يعني: تبين الأصول المعلومة المتفق عليها بين الجميع، فإذا علمت الأصول وبينت ووضحت واتفق عليها الجميع انتقلنا إلى الأصول المختلف فيها، وبينا الحقيقة في ذلك. فالمؤلف رحمه الله ذكر من الأصول المتفق عليها: انقسام الناس إلى ثلاثة أصناف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: مؤمن باطناً وظاهراً, وكافر باطناً وظاهراً, ومسلم في الظاهر وكافر في الباطن وهو المنافق، فهذا أصل متفق عليه لا يخالف عليه أحد، وهناك أصل آخر سيذكره المؤلف وهو أنه قد جاء في الكتاب والسنة وصف أقوام بالإسلام دون الإيمان. فهذان أصلان متفق عليهما. وقد ذكر الله أقسام الناس في أول سورة البقرة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ولهذا التقسيم أنزل الله في أول سورة البقرة ذكر الأصناف الثلاثة، فأنزل أربع آيات في سورة المؤمنين باطناً وظاهراً، وآيتين في صفة الكفار ظاهراً وباطناً، وبضعة عشرة آية في صفة المنافقين). والبضع من ثلاثة إلى تسعة، يعني: نزل فيهم ثلاث عشرة آية. إذاً: في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفار آيتان، وفي المنافقين ثلاث عشرة آية؛ لشدة خطرهم على الإسلام والمسلمين؛ ولأن المنافقين شاركوا الكفار بالكفر وزادوا عليهم بالخداع، فكانوا يظهرون الإسلام خداعاً، أما الكافر فهو عدو مكشوف ظاهراً وباطناً، فاليهودي والنصراني والوثني والشيوعي والملحد كافر ظاهراً وباطناً، وتستطيع الحذر منه، أما العدو الباطن كالمنافق الذي هو كافر في الباطن ومسلم في الظاهر يعيش بين المسلمين، ويخطط ويدبر المؤامرات للقضاء على الإسلام والمسلمين، قد يصلي إلى جنبك وهو منافق فلا تعلمه، فلهذا بيّن الله هذه الأصناف الثلاثة.

صفات المؤمنين الصادقين في أول سورة البقرة

صفات المؤمنين الصادقين في أول سورة البقرة أنزل في المؤمنين ظاهراً وباطناً أربع آيات تبين صفاتهم، وهي قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] هذه الآية الأولى، {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3] هذه الآية الثانية، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] هذه الآية الثالثة، {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] هذه الآية الرابعة. وصفهم الله بأنهم المتقون، أي: اتقوا الله، واتقوا النار، واتقوا عذاب الله وسخطه، فوحدوا الله، وأخلصوا له العبادة، فالمتقي: هو الذي جعل بينه وبين النار وقاية تقيه من غضب الله وسخطه بالإيمان والتوحيد وأداء الواجبات وترك المحرمات. ثم وصف المتقين بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] أي: ما غاب من الأمور الغيبية، والمعنى: يصدقون الله في أخباره الماضية والمستقبلة، ويصدقون الرسول عليه الصلاة والسلام في الأخبار التي أخبر بها من الأخبار الماضية والمستقبلة، كإخباره عن الأمم السابقة وعن بدء الخلق، وعن ما أخبر الله به عن نفسه من أفعاله وصفاته وأسمائه، فكل هذه من أمور الغيب، ويؤمن بما أخبر الله بأنه عليم حيكم، عزيز، وأنه مستوٍ على العرش، وأنه التواب، وأنه الرحيم، وأنه الملك، وأنه القدوس، وأنه السلام، وأنه المؤمن، وأنه المهيمن، وأنه العزيز، وأنه الجبار، وأنه المتكبر، وأنه بكل شيء عليم، وأنه خالق الخلق، وبكل ما أخبر الله به عن نفسه. وكذلك ما أخبر به عن الأمم السابقة، وعن العرش، واللوح المحفوظ، والقلم، والسماوات، والأرضين، والنجوم. ويؤمنون أيضاً بما أخبر الله من أخبار المستقبل مما يكون قبل الساعة، وما يكون للإنسان إذا وضع في قبره من سؤال منكر ونكير، ومن عذاب القبر ونعيمه، ويؤمن ببعث الأجساد، وإعادة الأرواح إلى أجسادها، والوقوف بين يدي الله للحساب، وتطاير الصحف، والميزان، والحوض، والصراط، والجنة، والنار، وكل هذا داخل في قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]. الوصف الثاني: قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:3] يعني: يؤدونها كما أمر الله وكما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم. والإقامة غير الصلاة، فهو لم يقل: يصلون، بل قال: يقيمون، فقد يفعل الإنسان صلاة صورية ولكن لا يقيمها، ولهذا توعد الله من فعل الصلاة مع السهو بالويل، فقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] ولم يقل: ويل للذي يقيم الصلاة، بل له الجزاء، فمن أداها كما أمر الله وكما أمر الرسول، بإخلاص، وصدق، ومحبة، ورهبة، وأتى بها في الوقت بشروطها وخشوعها وهيئاتها وجماعتها فقد أقامها، وإلا فلا. الوصف الثالث: قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3] أي: ينفقون مما رزقهم الله من الأموال التي استخلفهم فيها، ويدخل في ذلك النفقات الواجبة كالزكاة والكفارات والنفقة على الأولاد والزوجات وعلى الأقارب والمماليك والبهائم والعبيد والأرقاء، إلى غير ذلك. الوصف الرابع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4] أي: يؤمنون بما أنزل إليك يا محمد من الكتاب والحكمة: القرآن والسنة؛ لأن السنة وحي ثانٍ، ويؤمنون أيضاً بما أنزل من قبلك على الأمم السابقة، كالتوراة التي أنزلها الله على موسى, والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى, والزبور الذي أنزله على داود, وصحف إبراهيم وصحف موسى، وغيرها من الكتب التي لم تسم. الوصف الخامس: قوله تعالى: {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] أي: لا يشكون، بل يتيقنون بالآخرة ويؤمنون بها، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، ويؤمنون بالبعث والجزاء والحساب والحشر والنشر، وما بعد تطاير الصحف والحوض والميزان والصراط والجنة والنار. فهذه هي أوصافهم، وهؤلاء مؤمنون باطناً وظاهراً. ثم بعد ذلك حكم عليهم سبحانه بالهداية في الدنيا والفلاح في الآخرة، فقال تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] أي: هؤلاء هم المهديون الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم، وهداهم الله للحق والدين، واستقاموا على شرع الله ودينه، فهم على هدايتهم من ربهم، ليسوا ضالين كالنصارى ولا مغضوب عليهم كاليهود، بل هؤلاء أنعم الله عليهم بالعلم والعمل، فعلموا ثم عملوا فصاروا مهتدين في الدنيا، وفي الآخرة لهم الفلاح كما قال تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] والفلاح: هو الحصول على المطلوب، والنجاة من المرهوب. وأعظم ما يطلبه المسلم هو رضا الله عز وجل، والتمتع بدار كرامته وجنته، وأعظم ما يكره الإنسان ويخافه عذاب الله وسخطه والنار، فهؤلاء المتقون حصلوا على الفلاح، وحصل لهم ما يطلبون، ونجوا مما يخافون منه. فهذه هي الآيات الأربع في صفات المؤمنين باطناً وظاهراً.

صفات الكفار الظاهرين في أول سورة البقرة

صفات الكفار الظاهرين في أول سورة البقرة قوله المؤلف رحمه الله: (وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] الآيتين في صفة الكفار الذين يموتون كفاراً). هذا الصنف الثاني، وهم الكفار ظاهراً وباطناً، وذكرهم الله في آيتين: الآية الأولى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:6] يعني: جحدوا توحيد الله، وجحدوا حق الله، والصواب أنهم لم يوحدوا الله، ولم يخلصوا له العبادة، فهم كفار. ويسمى الكافر كافراً؛ لأنه ستر الحق، والكافر من الكفر وهو الستر والتغطية، وسمي الزارع كافراً؛ لأنه يغطي الحب في الأرض، وسمي الكافر كافراً؛ لأنه يغطي الحق ويجحده، والحق هو توحيد الله وإخلاص العبادة له، فجحوده الحق، وتركه لعبادة الله، وتكذيبه لله ولرسوله، صيره كافراً. يقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] هؤلاء الكفار لا يستفيدون من المواعظ ولا الإنذار، فسواء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يستفيدون، كما قال الله عن قوم هود وعاد: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء:136] أي: نحن مستمرون على كفرنا وعنادنا، {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء:136]، وهنا قال سبحانه {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]. ثم بين الله جزاءهم لما تركوا الحق عناداً، فقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7]. فقوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) أي: جعل على القلوب ختماً، وعلى السمع ختماً معنوياً يمنع وصول الحق إليه، فلا يعون الحق، ولا يستمعون إليه، وإن كانوا يسمعون أمور الدنيا، لكن الحق لا يسمعونه ولا يعونه. قال تعالى: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) أي: غطاء معنوي على الأبصار، فلا يرون الحق ولا يبصرونه، مع أنهم يبصرون أمور دنياهم في أكلهم وشربهم وبيعهم، لكن الحق لا يبصرونه؛ لأن على أعينهم غشاوة، عقوبة لهم وجزاء لما عملوا قال تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران:117]. وقال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] أي: جزاؤهم في الآخرة العذاب العظيم من الله، وهو عذاب الله والخلود فيها أبد الآباد، نسأل الله السلامة والعافية.

صفات المنافقين في أول سورة البقرة

صفات المنافقين في أول سورة البقرة قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] الآيات في صفة المنافقين]. أي: ذكر الله في صفات المنافين الذين هم كفار في الباطن ومسلمون في الظاهر ثلاث عشرة آية. الكفار ظاهراً وباطناً ذكرهم الله في آيتين؛ لوضوح أمرهم, أما العدو اللدود فهو المنافق الذي يعيش بين المسلمين، ولهذا فإن عبد الله بن أبي رئيس المنافقين كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يخطب في الناس ويقول: اتبعوا هذا النبي، وهو كذاب، هذا من النفاق، وكان يجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدبر المؤامرات ويخطط الخطط للقضاء على الإسلام والمسلمين، وهذا العدو المستور الذي يلتبس أمره على كثير من الناس جلى الله صفاته حتى لا ينخدع الناس به، فذكر الله في ذلك ثلاث عشرة آية. قال المؤلف: (إلى أن ضرب لهما مثلين أحدهما بالنار والآخر بالماء) أي: ضرب الله لهم مثلين: مثلاً نارياً، ومثلاً مائياً. قال فيهم سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] فهذا هو الوصف الأول: أنهم يؤمنون بألسنتهم ويكذبون بقلوبهم، فقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) يعني: بألسنتهم، (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) يعني: بقلوبهم. وهنا إشكال، وهو: كيف أثبت الله لهم الإيمان ونفاه عنهم، فهل هذا تناقص؟ و A معاذ الله! فإن شرط التناقض اتحاد الجهة كما هو معروف عند المناطقة وغيرهم، والجهة هنا منفكة، فإذا ورد النفي والإثبات على محل واحد كان تناقضاً، لكن إذا كان النفي في جهة والإثبات في جهة فلا يكون هناك تناقض، لأن الجهة منفكة، وهنا الجهة منفكة عن الأخرى، فقول الله تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ)) أثبت لهم الإيمان من جهة اللسان. وقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] نفى عنهم الإيمان من جهة القلب، فالإثبات مسلط على اللسان، والنفي مسلط على القلب، والمعنى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) بألسنتهم، (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) بقلوبهم، كما قال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] فقوله: (قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه) أي: بألسنتهم, وقوله: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) أي: بقلوبهم، نسأل الله العافية. الوصف الثاني: قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9]، فوصفهم الله بالخداع له وللمؤمنين، فيخادعون الله بإظهارهم الإيمان، ويظنون أن هذا ينفعهم، ويخادعون المؤمنين ويظنون أنه تنطلي مكائدهم وتدبيراتهم، وهي لا تنطلي، فالله تعالى عليم بأحوال الناس، والمؤمنون لابد أن يعلموا، إذ قد بين الله لهم وصف هؤلاء المنافقين. وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:9] أي: أن خداعهم يعود على أنفسهم فيضرهم. قوله: (وَمَا يَشْعُرُون) أي: وما يشعرون أن ضرر خداعهم راجع إليهم. ثم جاءت الآية الثالثة فقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10] وهو مرض الشك والريب والتردد، فليس عندهم علم ولا يقين. والمنافقون أقسام: منهم من هو مكذب، ومنهم من عنده شك وريب، ومنهم من يؤمن تارة ويكفر تارة، نسأل الله السلامة والعافية. قال تعالى: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10] أي: إلى مرض الشبهة والشك، فالمرض مرضان: مرض جسمي، ومرض قلبي، فالمرض الجسمي أمره هين، وعلاجه عند الأطباء، والثاني مرض القلب، وهذا هو المصيبة. ومرض القلب ينقسم إلى قسمين: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة. فمرض الشبهة والشك هو الأشد؛ لأنه مرض في الاعتقاد، وشك في العقيدة. ومرض شهوة المعاصي كمن يحب الزنا والفواحش, ويحب الغناء، فهذا عنده مرض شهوة المعاصي، قال الله تعالى في سورة الأحزاب مخاطباً لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] أي: مرض الشهوة، فنهيت المرأة عن الخضوع بالقول؛ لأنها إذا رخمت الصوت وحسنته طمع فيها الفاسق، لكن إذا تكلمت كلاماً عادياً لم يطمع فيها، وإن كانت المرأة مأمورة بخفض صوتها حتى لا يفتتن بصوتها فلا تخاطب إلا بقدر الحاجة وبقدر الضرورة، لكنها مع ذلك ليس لها أن تخضع بالقول. فالمقصود أن مرض القلب مرضان: مرض شهوة، ومرض شبهة، وأشدهما مرض الشبهة والشك؛ لأنه في العقيدة، وهذا هو الذي أصاب المنافقين، والعياذ بالله، قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10]؛ لأن المرض يزيد وينقص، والكفر يزيد وينقص، والإيمان يزيد وينقص. قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10] فتوعدهم الله بالعذاب بما كانوا يكذبون، حيث إنهم أظهروا الإيمان بألسنتهم وقلوبهم مكذبة، فهم مكذبون. الوصف الرابع: قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] هذا هو الوصف الرابع، وهو أنهم يفسدون في الأرض ويسمون إفسادهم صلاحاً. أي: من صفات المنافقين أنهم يفسدون في الأرض وينشرون الفساد ويعلنونه ويرون ذلك صلاحاً، كذلك اليوم يسمون موالاة الكفار حضارة ومدنية وسياسة وتقدماً وما أشبه ذلك، مع أنه فساد، والواجب البراءة من الكفار, والواجب التوبة من المعاصي، فهم يظهرون المعاصي والكفر وموالاة الكفار ويسمون هذا إصلاحاً. لقد حكم الله عليهم بقوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12]. الوصف الخامس: قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] أي: يسمون الإيمان سفهاً، ويصفون المؤمنين بالسفه، ويصفونهم بضعف العقل والبصيرة والرأي، يقولون: هؤلاء سفهاء ضعفاء البصائر. الوصف السادس: قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14]. في هذه الآية بين الله أن للمنافقين باطناً وظاهراً، ظاهراً مع المؤمنين، وباطناً مع رؤسائهم. قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:14] أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم. قوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14] أي رؤسائهم وكبرائهم وسادتهم. قوله: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:14]، أي: نحن معكم. قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] أي: نستهزئ بالمؤمنين، وهم الصحابة، فقال الله تعالى رداً عليهم: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15] هذا جزاء وعقوبة، فاستهزاء الله بهم في مقابلة استهزائهم هو صفة كمال في حق الرب، كما قال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] فالله تعالى يوصف بالمكر في مقابلة مكرهم، والكيد في مقابلة كيدهم، قال عز وجل: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16] فقابلهم الله بهذه الصفات عقوبة لهم. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] أي: أن هؤلاء اعتاضوا عن الهدى بالضلالة، يعني: تركوا الهدى واعتاضوا عنه بالضلالة، فالشراء معناه الاعتياض. قوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] أي: بل هم الخاسرون.

المثل الناري والمثل المائي للمنافقين في سورة البقرة

المثل الناري والمثل المائي للمنافقين في سورة البقرة قال المؤلف رحمه الله تعالى: (إلى أن ضرب لهم مثلين: أحدهما بالنار، والآخر بالماء). أي: ضرب لهم مثلين: المثل الأول: مثلاً نارياً، والمثل الثاني: مثلاً مائياً. المثل الناري قال فيه سبحانه: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:17 - 18]. أي: ضرب الله لهم مثلاً في كفرهم بعد وضوح الحق، وهؤلاء قوم وضح لهم الحق وآمنوا، ثم بعد ذلك كفروا بعد إيمانهم، فهؤلاء مثلهم مثل الذي استوقد ناراً، فلما أضاءت النار وأبصر ما حوله وأمامه وما يخشاه أمن، ثم ما لبث أن انطفأت عليه النار فصار لا يرى شيئاً، ولا يبصر ما عنده ولا يعرف ما عنده، ولهذا قال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ} [البقرة:18] أي: لا يسمعون الحق، {بُكْمٌ} [البقرة:17 - 18] أي: لا ينطقون بالحق، {عُمْيٌ} [البقرة:18] أي: لا يرون الحق، {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]. هذا المثل الناري الذي ضربه الله للمنافقين الذين أبصروا الحق ثم عموا عنه، وآمنوا ثم كفروا فصاروا يتخبطون في الظلمات. والمثل الثاني: المثل المائي الذي قال الله فيه: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة:19] الصيب: هو المطر وهذا المثل ضربه الله لطائفة أخرى من المنافقين عندهم شك وريب، يؤمنون أحياناً ويكفرون أحياناً، يؤمنون حين يلمع بهم الحق ويضيء، ولكن إيمانهم ضعيف، فإذا غاب عنهم الحق ولم يبصروه يكفرون، فشبههم بالصيب. قوله تعالى: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [البقرة:19] الرعد: الصواعق التي تصيبهم، والبرق: النور الذي يلمع ويضيء لهم أحياناً. قال الله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20] فإيمانهم تارة يظهر وتارة يختفي، ولهذا قال: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة:20] يعني: إذا أضاء البرق مشوا، وإذا أظلم وقفوا، فهم في حيرة وتردد. قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]. هذا معنى قول المؤلف رحمه الله: (إلى أن ضرب لهم مثلين: أحدهما بالنار والآخر بالماء)، وبهذا انتهت الآيات في وصف المنافقين، من قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20].

المثل الناري والمثل المائي للمؤمنين في سورة الرعد

المثل الناري والمثل المائي للمؤمنين في سورة الرعد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما ضرب المثل بهذين للمؤمنين في قوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد:17]]. أي: فكذلك ضرب الله للمؤمنين مثلين: مثلاً مائياً ومثلاً نارياً في سورة الرعد، في قوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} [الرعد:17] أي: ضرب الله مثلاً مائياً ومثلاً نارياً للحق في ثباته وبقائه، وللباطل في ذهابه وفنائه. المثل الأول: المثل المائي قال فيه عز وجل: ((أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)) أي: المطر، ((فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا)) منها الوادي الكبير ومنها الوادي الصغير، فالوادي الكبير يحمل ماء كثيراً، والوادي الصغير يحمل ماء قليلاً، كل بقدره. قوله: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} [الرعد:17] أي: احتمل السيل الزبد وهي الفقاقيع التي تكون فوق الماء، ثم قال بعد ذلك: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17] أي: هذا الزبد سرعان ما يتبخر ويكون على شاطئ الوادي ويذوب، ويبقى الماء، فمثل للحق بالماء، ومثل للباطل بالزبد الذي يذهب جفاء. المثل الثاني: المثل الناري قال فيه عز وجل: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرعد:17] أي: ضرب الله مثلاً بالحداد الذي يأتي بالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص ويصهرها على النار ويذيبها، فتخرج منها الشوائب وهو الزبد المقصود في هذه الآية، ويبقى الذهب الصافي الخالص، فالذهب والفضة الصافي هذا مثل الحق فإنه يثبت، فأما الزبد والوسخ فإنه يذهب ويزول، والزبد والوسخ هو مثل الباطل في ذهابه وبطلانه. هذا معنى قوله: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:17]. إن أمثال القرآن أمثال عظيمة، وقد أكثر الله منها في كتابه، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام ضرب أمثلة كثيرة، والأمثلة فيها فوائد عظيمة، وقد كان بعض السلف إذا لم يعرف المثل يبكي، ويقول: إن الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] أي: أني لست من العالمين.

أقسام الناس قبل الهجرة إلى المدينة

أقسام الناس قبل الهجرة إلى المدينة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما قبل الهجرة فلم يكن الناس إلا مؤمن أو كافر، لم يكن هناك منافق، فإن المسلمين كانوا مستضعفين، فكان من آمن آمن باطناً وظاهراً، ومن لم يؤمن فهو كافر، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وصار للمؤمنين بها عز وأنصار، ودخل جمهور أهلها في الإسلام طوعاً واختياراً، كان بينهم من أقاربهم ومن غير أقاربهم من أظهر الإسلام موافقة، رهبة أو رغبة، وهو في الباطن كافر، وكان على رأس هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول وقد نزل فيه وفي أمثاله من المنافقين آيات]. أي: أن الناس كانوا ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: مؤمن باطناً وظاهراً، وكافر باطناً وظاهراً، وكافر بالباطن مسلم في الظاهر، وكان هذا في المدينة بعد غزوة بدر، وأما قبل الهجرة، فلم يكن هناك إلا قسمان من الناس: مؤمن باطناً وظاهراً، وكافر باطناً وظاهراً، ولم يكن هناك منافق، لماذا لم يكن هناك منافق في مكة؟ قال المؤلف: (فإن المسلمين كانوا مستضعفين؛ فكان من آمن آمن باطناً وظاهراً، ومن لم يؤمن فهو كافر)، أي: باطناً وظاهراً؛ لأن الكفار كانوا أقوياء يعلنون كفرهم ليسوا بحاجة إلى أن يخفوا ذلك الكفر، لكن عندما تقوى المؤمنون في المدينة خاف المنافقون فأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر؛ ولهذا قال المؤلف: (فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وصار للمؤمنين بها عز وأنصار). أي: بعد أن صالح النبي صلى الله عليه وسلم قبائل اليهود في المدينة ووادعهم، وكانوا ثلاث قبائل: بني قينقاع وكانوا حلفاء الخزرج، وبني قريظة وبني النضير وكانوا حلفاء الأوس، ودخل أكثر الأنصار في الإسلام، ووقعت غزوة بدر، حينها تقوى المسلمون، وخذل الله الكفار، مما جعل بعض الأوس والخزرج الذين ليس في قلوبهم إيمان يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، حتى قال عبد الله بن أبي: هذا أمر قد توجه، فأظهر الإسلام وأبطن الكفر. وكان عبد الله بن أبي بن سلول رئيساً في المدينة، وكان أهل المدينة قبيل الهجرة يصنعون له الخرز ليتوجوه ملكاً عليهم، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فاته ذلك، فشرق بالإسلام، فأظهر الإسلام وأبطن الكفر، وتبعه على ذلك بعض الناس، فصاروا منافقين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر؛ خوفاً من القتل وسلب الأموال. أما في مكة فلا حاجة إلى إظهار الإسلام وإبطان الكفر؛ لأن الكفار كانوا أقوياء والمسلمين كانوا ضعفاء قلة، بل إن بعض المسلمين كان يخفي إسلامه خوفاً من الكفار، فقد كان بلال وعمار وغيرهما يعذبون. قوله: (ودخل جمهور أهلها في الإسلام طوعاً واختياراً)، أي: جمهور الأوس والخزرج. قوله: (كان بينهم من أقاربهم ومن غير أقاربهم من أظهر الإسلام) يعني: نفاقاً. قوله: (موافقة رهبة أو رغبة، وهو في الباطن كافر، وكان رأس هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول، وقد نزل فيه وفي أمثاله من المنافقين آيات) أي: كالآيات التي في سورة البقرة وغيرها.

ذكر المنافقين وصفاتهم في مواضع قرآنية كثيرة

ذكر المنافقين وصفاتهم في مواضع قرآنية كثيرة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والقرآن يذكر المؤمنين والمنافقين في غير موضع، كما ذكرهم في سورة البقرة وآل عمران والنساء وسورة العنكبوت والأحزاب، وكان هؤلاء في أهل المدينة والبادية، كما قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101]]. يذكر القرآن المؤمنين والمنافقين في مواضع كثيرة، كما ذكرهم في سورة البقرة، وذكرهم في سورة آل عمران، كما سيبين المؤلف رحمه الله في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156] إلى أن قال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:167]. وذكرهم أيضاً في سورة النساء في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60] وقال: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:138]، إلى قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]. وكذلك في سورة المائدة: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] وفي سورة العنكبوت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] وفي سورة الأحزاب ذكر كثيراً من أوصافهم، قال الله تعالى: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13]. وكان هؤلاء المنافقون في المدينة وفي البوادي التي حول المدينة، كما قال الله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة:101] يعني: ومن أهل المدينة منافقون. {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان في المنافقين من هو في الأصل من المشركين وفيهم من هو في الأصل من أهل الكتاب]. يعني: بعض المنافقين كانوا في الأصل مشركين وهم من الأوس والخزرج الذين دخلوا في الإسلام نفاقاً، حيث أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر؛ وذلك لما تقوى الإسلام خافوا من القتل فأظهروا الإسلام وأبطنوا الشرك، وبعض المنافقين كانوا في الأصل من اليهود والنصارى كما أخبر الله عنهم في سورة البقرة قال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78]، {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:75 - 76]. إذاً: المنافقون لهم ظاهر وباطن، فقد يكون مشركاً في الأصل فيخاف من القتل فيظهر الإسلام ويبطن الشرك، وقد يكون من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فيخاف ويظهر الإسلام ويبطن اليهودية أو النصرانية.

أوصاف المنافقين في سورة آل عمران

أوصاف المنافقين في سورة آل عمران

تخذيل المنافقين عن الجهاد

تخذيل المنافقين عن الجهاد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وسورة الفتح والقتال والحديد والمجادلة والحشر والمنافقين، بل عامة السور المدنية يذكر فيها المنافقين، قال تعالى في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156] إلى قوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} [آل عمران:167] الآيات]. ذكر الله المنافقين في كثير من السور، بل في عامة السور المدنية، منها: سورة الفتح، قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح:6]. ومنها: سورة القتال وتسمى سورة محمد، فقد ذكر الله فيها كثيراً من صفات المنافقين، قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]. ومنها: سورة الحديد، قال عز وجل: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13]. ومنها: سورة المجادلة، قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المجادلة:14]. ومنها: سورة الحشر، قال تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر:11]. وسورة (المنافقون) فهي سورة كاملة باسمهم، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1] إلى آخر السورة. يقول المؤلف: (بل عامة السور المدنية يذكر فيها المنافقين) بخلاف السور المكية التي نزلت قبل الهجرة ليس للمنافقين فيها ذكر؛ لأن النفاق إنما ظهر بعد الهجرة. قال الله تعالى في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156]. نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكفار الذين يقولون لإخوانهم المنافقين: لو كانوا عندنا ولم يحضروا المعركة لما ماتوا ولما قتلوا، فرد الله عليهم بقوله في الآية الأخرى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154]. ثم قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران:167] أي: ليعلم الذين نافقوا أن القتال يظهر فيه المؤمن الصادق من المنافق الكاذب. ثم قال تعالى: {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران:167] أي: إذا قيل لهم: قاتلوا قالوا: لو كنا نعلم أن هناك قتالاً لاتبعناكم، فرد الله عليهم بقوله: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران:167] فمن أوصاف النفاق أن القلوب تختلف عن الألسنة، فهم يقولون بأفواههم هذا القول لكن قلوبهم مكذبة لأقوالهم.

تخذيل المنافقين للمؤمنين وحمل الأحقاد عليهم

تخذيل المنافقين للمؤمنين وحمل الأحقاد عليهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى فيها أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118] إلى قوله: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:119 - 120]]. الآية الأولى فيها تحذير من المنافقين واتخاذهم بطانة يفشى إليهم الأسرار ويؤتمنون، فالله تعالى نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة من الكفار؛ لأنهم أعداء لا يؤتمنون، فقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118] يعني: من غير المؤمنين، أي: لا تتخذوا بطانة من اليهود ولا النصارى ولا الوثنيين ولا الشيوعيين وغيرهم، فكل هؤلاء أعداء. قوله تعالى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران:118] يعني: لا يقصرون في الشر والعداوة والإيذاء وإيصال الضرر إليكم؛ لأنهم أعداء. قوله: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118] يعني: يودون الشيء الذي يعنتكم ويشق عليكم ويعييكم، فهم يفرحون به ويتمنونه. قوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران:118] أي: تخرج كلمات وتفلت من ألسنتهم تدل على عداوتهم. قوله: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] أي: من شدة ما في قلوبهم من الغيظ والنفاق تبدو أحياناً على اللسان الكلمات التي تدل على ما في صدورهم من الشر والعداوة؛ لأنه إذا امتلأ صدره شراً وعداوة، فإنه كالقدر الممتلئ لا بد أن يفور ويظهر شيء منه. وهذا موجود في القديم وفي الحديث، فبعض الكفرة وبعض رؤسائهم يصرح مثلاً بالعداوة والحرب على الإسلام والمسلمين، ويعلنها حرباً صليبية وما أشبه ذلك، فتبدو على فلتات ألسنتهم، كما قال الله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] أي: الذي في صدروهم من الغيظ والعداوة والبغضاء أكبر وأعظم مما يظهر على ألسنتهم. ثم قال الله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118] أي: إن كنتم تعقلون ما ينفعكم وما يضركم، فالله تعالى قد بين لكم. ثم قال بعد ذلك: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:119] هذه الآية فيها دلالة على أن النفاق يكون في أهل الكتاب. ثم قال سبحانه بعد ذلك: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [آل عمران:120] أي: إذا أصابكم نصر وعز وسلامة وغنيمة ساءهم ذلك، {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران:120] أي: إذا أصابكم جدب وقحط وهزيمة فرحوا بذلك. ثم قال الله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120] لو طبق المسلمون هذه الآية لانتصروا على الكفار، فلابد من صبر وتقوى، والتقوى هي توحيد الله وإخلاص الدين له وأداء الواجبات وترك المحرمات، ومن ذلك إعداد العدة للكفرة، والجهاد بالعدة الروحية والمعنوية والحسية، والأسلحة المناسبة في كل وقت وفي كل زمان والتدرب عليها مع الإيمان والتقوى. وما أصاب المسلمين من كيد الكفار فهو بسبب التقصير في الشرع، إما التقصير في الصبر أو التقصير في التقوى. قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120] أي: لا يخفى عليه شيء من أحوالهم، فهم في قبضته وتحت تصرفه، فلا يضركم كيدهم بشرط الصبر والتقوى.

[5]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [5] وردت آيات كثيرة في سورة النساء تذكر أوصاف المنافقين، فبينت أنهم يريدون التحاكم إلى الطاغوت ولا يرضون بحكم الله ورسوله ويتربصون بالمؤمنين الدوائر، وأنهم متكاسلون عن العبادات متذبذبون في أمورهم، وذكر أن جزاءهم أنهم في الدرك الأسفل من النار.

ذكر صفات المنافقين في سورة النساء

ذكر صفات المنافقين في سورة النساء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى في سورة النساء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61] إلى قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. وقال تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:88 - 90] الآيات. وقال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:138 - 139] إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [النساء:140 - 141] إلى قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:142 - 143] إلى قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:145 - 146]]. إن من الأصول المتفق عليها المعلومة من الدين بالضرورة أن الناس كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمنين باطناً وظاهراً، وكفاراً باطناً وظاهرًا، ومسلمين في الظاهر كفاراً في الباطن وهم المنافقون. ولقد سرد المؤلف رحمه الله الآيات التي فيها بيان صفات المنافقين، وهذا الصنف من الناس كثيرون موجودون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وما بعده من الأزمان إلى يوم القيامة، فإذا قوي المسلمون صار هناك منافقون يخفون كفرهم ونفاقهم؛ لئلا تقام عليهم الحدود؛ لأنهم لو أظهروا كفرهم قتلوا، فهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، لكن في وقت ضعف المسلمين يعلنون كفرهم ولا يبالون، فوجود المنافقين يدل على قوة المسلمين في المجتمع، ولهذا لم يكن في مكة في أول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم منافقون، لم يكن فيها إلا مؤمن أو كافر ظاهراً وباطناً، بل إن بعض المؤمنين يخفون إسلامهم بسبب إيذاء الكفار لهم. فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكثر الداخلون في الإسلام، ووقعت غزوة بدر، وانتصر فيها المسلمون انتصاراً عظيماً، وأعز الله جنده ورسوله والمؤمنين؛ أظهر بعض الناس الإسلام وأبطنوا الكفر، ممن في قلوبهم مرض من اليهود والمشركين. ثم بين المؤلف رحمه الله أن الآيات التي فيها بيان صفة المنافقين كثيرة في القرآن العظيم، قل أن تجد سورة مدنية إلا وفيها شيء من صفاتهم.

تحاكم المنافقين إلى الطاغوت

تحاكم المنافقين إلى الطاغوت قال تعالى في سورة النساء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] في هذه الآية وصف الله المنافقين بأنهم يتحاكمون إلى الطاغوت، والطاغوت: هو كل ما خالف كتاب الله وسنة رسوله. فقوله: ((ألم تر)) يفهم منه التعجب. وقوله: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ)) أي: يدَّعون. ((أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ)) والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. ((وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)) لا يمكن أن يجمعوا بين أمرين متناقضين: الإيمان بالله وبرسوله وبما أنزل إليه من قبل، والتحاكم إلى الطاغوت؛ لأن التحاكم إلى الطاغوت ينافي الإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله، ومع ذلك يتحاكمون إلى الطاغوت، وهو ما خالف كتاب الله وسنة رسوله، فالتحاكم إلى الطاغوت ينقض الإيمان بالله ورسوله، والإيمان بالله ورسوله ينافي التحاكم إلى الطاغوت، فإذا جمعوا بينهما دل على كفرهم ونفاقهم. ثم قال سبحانه: ((وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا)) بين الله سبحانه وتعالى أن التحاكم إلى الطاغوت من إرادة الشيطان، وأنه ضلال بعيد عن الحق. ثم ذكر من أوصاف المنافقين فقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61] أي: إذا دعوا إلى التحاكم إلى الله وإلى ما أنزل الله لووا رءوسهم وأعناقهم وأعرضوا؛ بسبب كفرهم ونفاقهم. فإذاً: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله واجب، ومن تحاكم إلى الطاغوت الذي هو ما خالف كتاب الله وسنة رسوله، فإنه ينافي الإيمان بالله وبرسوله، وهذا من أوصاف المنافقين.

عدم رضا المنافقين بحكم الله ورسوله

عدم رضا المنافقين بحكم الله ورسوله قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] وقال قبلها: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [النساء:62] يعني: إذا أصابتهم مصيبة قدرها الله عليهم بسبب أعمالهم وما قدمت أيديهم، {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:62] يعني: إنما نريد الجمع والتوفيق بين هؤلاء وهؤلاء، نريد أن نجمع بين السياسة المخالفة للحق وبين الشريعة، هذه سياسة شيطانية فرعونية أمريكية، فهم يريدون أن يجمعوا بين هؤلاء وهؤلاء؛ لأن قلوبهم مريضة، فهم يخشون أن ينتصر المؤمنون، فإذا هُزِم المؤمنون صاروا مع اليهود والنصارى، وإذا انتصر المؤمنون وغنموا صاروا معهم وقالوا: نحن معكم، كما قال تعالى في سورة النساء: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141] كما سيأتي. وفي سورة العنكبوت: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10] أي: إذا جاء نصر وفتح وغنيمة قالوا: نحن معكم، وإن حصل هزيمة انضموا إلى الصنف الثاني، يريدون أن يتخذوا مع هؤلاء يداً ومع هؤلاء يداً؛ لكفرهم ونفاقهم، ولهذا يقول عز وجل: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:62] أي: نريد التوفيق بين الشريعة والسياسة. ثم قال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] هذه الآية عظيمة، فيها بيان أن من لم يتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس بمؤمن؛ ولذلك أقسم الرب سبحانه بنفسه الكريمة: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65] نفى عنهم الإيمان حتى توجد الغاية، وهي: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65] الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] أي: حتى يحكموا الرسول في موارد النزاع وفيما حصل بينهم من اختلاف وشجار، هذا الأمر الأول. ثم قال سبحانه: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65] أي: لا يكفي التحاكم، مع وجود الحرج من حكم الله وحكم رسوله، بل لابد أن يوجد الرضا مع التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله. قال سبحانه: ((وَيُسَلِّمُوا)) أي: لا بد من التسليم وهو الاطمئنان، ولا يكفي هذا حتى يكون الاطمئنان كاملاً وتاماً، ولهذا أكد بالمصدر فقال: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. إذاً: أقسم الرب سبحانه بنفسه الكريم أنه لا يحصل لهم الإيمان إلا بهذه الأمور الأربعة: الأول: تحكيم الرسول عليه الصلاة والسلام في النزاع والخصومة. الثاني: الرضا بهذا الحكم. الثالث: الطمأنينة. الرابع: الطمأنينة التامة. وهذا يدل على أهمية التحاكم إلى الكتاب والسنة.

إنكار الله على المؤمنين بسبب اختلافهم في المنافقين

إنكار الله على المؤمنين بسبب اختلافهم في المنافقين قال سبحانه: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88] هذا إنكار على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين. وسبب نزول هذه الآية: أنه لما رجع طائفة من المنافقين في غزوة أحد اختلف الصحابة فيهم، فقالت طائفة: نقتلهم لنفاقهم، وقالت طائفة: لا نقتلهم، فأنزل الله فيهم هذه الآية: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88] فئة تقول: نقتلهم، وفئة تقول: لا نقتلهم. قوله: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء:88] أي: ردهم إلى ما كانوا عليه. قوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء:88]، فيه دليل على أنهم ضالون؛ لكفرهم ونفاقهم. قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88] أي: من أضله الله فلا يستطيع أحد أن يهديه؛ لأنه سبحانه وتعالى له الحكمة البالغة، وما أضلهم سبحانه وتعالى إلا عقوبة لهم، حيث إنه تبين لهم الحق واتضح لهم ثم عدلوا عنه فعوقبوا، كما قال سبحانه في الآية الأخرى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] فالزيغ الأول هو أنهم مالوا وزاغوا عن الحق بعد وضوحه لهم، وعوقبوا بالزيغ الثاني الذي هو أن الله أزاغ قلوبهم. وقال سبحانه في الآية الأخرى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110] فكانت العقوبة تقليب القلوب والأبصار؛ بسبب أنهم لم يؤمنوا به أول مرة بعد وضوح الحق لهم، {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران:117]. وفيه دليل على أن الله هو الهادي وهو المضِل، وهو سبحانه يقذف الهداية إلى القلب فضلاً منه وإحساناً، وهو المضل لمن شاء حكمة منه وعدلاً، وهذا فيه الرد على المعتزلة الذين يقولون: إن الإنسان هو الذي يهدي نفسه ويضل نفسه، والله لا يهدي أحداً ولا يضل أحداً، ويجيبون على الآية بقولهم: إن تسمية الله نفسه بأنه الهادي والمضل هو من باب التسمية فقط، وإلا فالعبد هو الذي يهدي نفسه ويضل نفسه، وهذا باطل، قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:178] {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88].

تمني المنافقين وقوع المسلمين في الكفر الذي وقعوا فيه

تمني المنافقين وقوع المسلمين في الكفر الذي وقعوا فيه لقد بين سبحانه وتعالى شدة عداوة الكفار والمنافقين للمسلمين فقال سبحانه: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] أي: الكفار يودون ويتمنون ويحاولون جاهدين ويبذلون وسعهم في أن يردوا المسلمين عن دينهم حتى يكونوا كفاراً مثلهم، قال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وقال سبحانه في الآية الأخرى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]. فإذاً: الكفار بجميع أصنافهم وطبقاتهم لا يودون الخير للمسلمين، فلا ينبغي للمسلم أن يركن إليهم. وقال سبحانه في الآية الأخرى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105] أي: أن المشركين لو يستطيعون أن يقطعوا المدد من السماء على المسلمين لقطعوه، لكن لا يستطيعون. قوله: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} [النساء:89] أي: كيف توالون الكفرة من اليهود النصارى والوثنيين، وهم هذه حالهم؟! وفي الآية الأخرى: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118] أي: يودون كل شيء يشق عليكم ويعنتكم ويؤذيكم، ويسعون في إيصاله إليكم، أَبعد هذا يركن المسلم إلى الكفرة ويتخذهم أولياء من دون المؤمنين؟! هذا كلام ربنا، ومن أصدق من الله قيلاً، ومن أحسن من الله حديثاً، فهذه نصيحة الله لعباده المؤمنين، فقد نصحنا سبحانه وتعالى وحذرنا من الأعداء فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118] أي: لا تتخذوا بطانة ودخلاء من الكفرة، تفاوضونهم وتسرون إليهم أموركم وتفوضون إليهم الأمور، وهم لا يقصرون في إيصال الأذى والشر إليكم بكل طريق. ثم قال عز وجل: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران:118] أي: ظهرت من أفواههم الكلمات التي تدل على البغضاء. {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] أي: أعظم مما يبدو على فلتات ألسنتهم من كلمات تدل على البغضاء والعداوة وشدة الحقد. ثم قال سبحانه: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118] آيات عظيمة لو تدبرها المسلمون حق التدبر وتعقلوها وتفهموها وامتثلوها لصاروا أعزة، لكن المصيبة أنا نقرأ الآيات وقلوبنا غافلة، ومن تدبر فإنه لا يطبق ولا يمتثل. قال سبحانه: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:89] أي: لا تتخذوا منهم أصحاباً وأصدقاء ونصحاء حتى يهاجروا في سبيل الله. قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:89] هذا الأمر في سائر الكفار وهذا مع القدرة، وهذه الآية فيها النهي عن أن يتخذ المسلمون منهم أولياء وأنصاراً.

بيان الأصناف الذين نهى الله عن مقاتلتهم

بيان الأصناف الذين نهى الله عن مقاتلتهم وقد استثنى الله سبحانه وتعالى صنفين من الناس حيث نهى عن مقاتلهم، الصنف الأول: قال الله فيهم: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:90] أي: الذين يلجئون ويأتون إلى قوم بينكم وبينهم عهد وميثاق، فهم مثلهم في الحكم نهى الله عن أن نقاتلهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عقد الصلح بينه وبين كفار قريش كان من بنود العقد: من أحب أن يدخل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دخل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل، فمنهم من دخل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم خزاعة، ومنهم من دخل في عهد قريش وهم بكر، هذا الصنف الأول. الصنف الثاني: قال الله سبحانه فيهم: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} [النساء:90] يعني: ضاقت صدورهم وأبغضوا قتالكم، وكرهوا مع ذلك أن يقاتلوا قومهم معكم، فهؤلاء لا يقاتلون. قيل: إن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين في مكة أسروا إيمانهم، فلما كانت غزوة بدر خرجوا فيها مع المشركين مكرهين، فنزلت هذه الآية، ومنهم العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم حين أسر وفدى نفسه. قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء:90] أي: إذا اعتزلوكم وسالموكم ولم يقاتلوكم فلا تقاتلوهم.

الصفات التي استحق المنافقون بسببها التبشير بالعذاب الأليم

الصفات التي استحق المنافقون بسببها التبشير بالعذاب الأليم قال الله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:138 - 139] أي: بشر المنافقين بالعذاب الأليم. وقال في المؤمنين: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة:21] فالبشارة تكون في الخير وتكون في الشر. وهؤلاء المنافقون وصفهم الله بقوله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:139] أي: من صفات المنافقين أنهم يتخذون الكافرين أصحاباً وأصدقاء، يوالونهم ويحبونهم ويركنون إليهم. وهذه الآيات فيها تحذير للمؤمنين من أن يتصفوا بهذه الصفات، فقد قص الله تعالى علينا صفات المنافقين؛ لنحذرها ولنبتعد عنها ولنتخلق بصفات المؤمنين، قال سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:139].

واجب المؤمن تجاه من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها

واجب المؤمن تجاه من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها قال سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]. هذه الآية فيها بيان أنه لا يجوز للإنسان أن يجلس في مجلس يعصى الله فيه، ويكفر فيه بآيات الله ويستهزأ بها، وأن من جلس في مثل هذه المجالس فإن عليه أن ينكر، فإن سكت ولم ينكر فحكمه حكمهم، فإذا جلس في مجلس يكفر فيه بالله ويستهزأ به وبكتابه وسكت ولم ينكر، فإن حكمه حكم الكافرين، والراضي بالكفر كافر، وإذا جلس في مجلس غيبة ولم ينكر عليهم، فحكمه حكم المغتابين في الإثم، وإذا جلس في مجلس يشرب فيه الخمر أو الدخان ولم ينكر فحكمه حكم من شرب الخمر أو شرب الدخان. إذاً: الواجب على الإنسان أحد أمرين: الإنكار، فإن زال المنكر وإلا قام عن المجلس، أما إذا لم ينكر وسكت فحكمه حكمهم.

تربص المنافقين بالمؤمنين والتمسك بالدنيا

تربص المنافقين بالمؤمنين والتمسك بالدنيا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} [النساء:140 - 141]. أي: من صفات المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين الدوائر، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141] أي: أن المنافقين يجعلون لهم يداً مع المؤمنين، ويداً مع المشركين، فهم إذا حدث للمؤمنين فتح ونصر وغنيمة قالوا: نحن معكم، ويظهرون الإسلام، والموالاة للمؤمنين، ويطلبون أن يكون لهم سهم في الغنيمة، وإن حدث للمسلمين هزيمة صاروا مع الكفار، وهكذا يجعلون مع المؤمنين يداً ويجعلون مع الكفار يداً؛ بكفرهم وضلالهم، وليس عندهم إيمان ثابت. ثم يقول تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141].

خداع المنافقين وتذبذبهم وكسلهم في العبادات

خداع المنافقين وتذبذبهم وكسلهم في العبادات وقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:142 - 143] فمن أوصاف المنافقين الخداع. قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] هذا جزاء الله في مقابلة خداعهم، فالله تعالى يخدع من خدعه، ويكيد من كاده، ويمكر بمن مكر به، وهي صفة كمال في حق الله؛ لأنها جزاء لهم في مقابلة مكرهم، فالمكر والخداع والكيد صفة نقص، لكنها إذا كانت جزاء لهم على أفعالهم صارت صفة مدح وكمال، فالله تعالى موصوف بالكمال ولا يشتق لله أسماء من هذه الصفات، فلا يقال: من أوصافه الماكر ولا الخادع، وإنما يقال: إن الله يمكر بمن مكر به، ويخدع من خدعه، ويكيد من كاده، ولا يقال: من أسمائه الماكر والكائد والخادع، وإنما هذا وصف للفعل، فما جاء مضافاً يبقى مضافاً. ومن أوصافهم الكسل في العبادات، فالصلاة مع أنها أعظم العبادات البدنية، وأفرض الفرائض, وأوجب الواجبات بعد توحيد الله فهذه حالهم معها، قال الله عز وجل: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] وهذا فيه تحذير للمؤمن من أن يتصف بالكسل؛ فلابد للمسلم أن يقوم للصلاة وغيرها من العبادات وهو نشيط قوي وعنده رغبة؛ لأنه يعلم ما عند الله من المثوبة، بخلاف المنافق الذي لا يرجو ما عند الله، فلا يليق بمسلم أن يتصف بصفة الكسل عند إرادة الصلاة. قوله تعالى: {يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء:142] هذا وصف آخر من أوصاف المنافق وهو الرياء، أي: مراءاة الناس بالأعمال الصالحة، فإن المؤمن يعمل العمل ويخلص لله فيه ولا يرائي؛ لأن الرياء شرك وهو من صفات المنافقين. قوله تعالى: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142] هذا وصف آخر من أوصاف المنافقين، فقد وصفهم بثلاثة أوصاف عند الصلاة: بالكسل والرياء وعدم ذكر الله إلا قليلاً، وجاء في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كادت أن تغرب بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً). ووصف النبي صلى الله عليه وسلم المنافق في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: (أن المنافق يؤخر صلاة العصر يرقب الشمس حتى إذا كادت أن تغرب قام فنقر أربعاً -أي: ينقرها كنقر الغراب لا يطمئن فيها- ولا يذكر الله فيها إلا قليلاً) فالله تعالى يحذر المسلم من أن يتصف بصفات المنافقين. ثم وصفهم تعالى بقوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143] أي: ليس عندهم ثبات، فهم مذبذبون بين المشركين والمؤمنين، فالمنافقون يأتون هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، وجه مع المؤمنين يظهرون الإسلام، ووجه مع الكفار يظهرون الباطل. فعلى المسلم أن يثبت على التوحيد والطاعة والإيمان ولا يتذبذب ولا يكون مع الكفرة. ثم قال الله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:143] وكما جاء في صحيح مسلم: (إن المنافق كالشاة العائر، تعير إلى هؤلاء وإلى هؤلاء).

المنافقون في الدرك الأسفل من النار

المنافقون في الدرك الأسفل من النار قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145] هذه الآية فيها جزاء المنافقين في الآخرة. قوله: {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] أي: أن النار والعياذ بالله دركات سفلى، كل دركة أشد عذاباً من الدركة التي أعلى منها، والجنة درجات، كل درجة أعظم نعيم من الدرجة التي تحتها، والمنافقون أين مكانهم؟ {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] آخر درك، فهم تحت دركة اليهود والنصارى والمشركين. فالمشركون فوق اليهود والنصارى، واليهود والنصارى فوق المنافقين، وإن كانوا جميعاً معذبين وخالدين في النار، فقد جاء في الحديث (إن أهون الناس عذاباً رجل في أخمصيه -يعني: في أسفل رجليه- جمرتان يغلي منهما دماغه) وفي اللفظ الآخر: (إن أهون أهل النار عذاباً لرجل في رجليه شراكان من نار يغلي منهما دماغه). وفي اللفظ الآخر: (لرجل في رجليه نعلان يغلي منهما دماغه، وإنه ليظن أنه أشد أهل النار عذاباً) أي: من شدة ما يجد من الألم وهو أهونهم، فكيف عذاب اليهود والنصارى؟ وكيف عذاب المنافقين في الدرك الأسفل من النار والعياذ بالله؟! فالمنافقون استحقوا أن يكونوا في الدرك الأسفل من النار؛ بسبب أنهم زادوا على اليهود والنصارى والوثنيين بالخداع والتلبيس على المسلمين، فهم يدبرون المكائد للقضاء على الإسلام والمسلمين؛ لأنهم يعيشون بينهم ويظهرون الإسلام، فلهذا صاروا في دركة سفلى، فزاد عذابهم على الكفرة من اليهود والنصارى. إن الله سبحانه وتعالى فتح باب التوبة للمنافقين وغيرهم، فقال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:160] أي: من تاب قبل الموت تاب الله عليه، سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً أو شيوعياً، والتوبة من المعاصي من باب أولى، فإذا تاب من الزنا أو من السرقة أو شرب الخمر أو عقوق الوالدين، أو قطيعة الرحم توبة نصوحاً تاب الله عليه. فالتوبة النصوح هي الإقلاع عن المعاصي والكفر والضلال، وكذلك الندم على ما مضى، والعزم عزماً جازماً على ألا يعود إلى الذنوب مرة أخرى، وإذا كانت المعصية بينه وبين الناس رد الحقوق إلى أهلها، إن كان مالاً رد المال لهم، وإن كان قصاصاً سلم نفسه، وإن كان عرضاً استحله منهم، قال الله تعالى في كتابه العظيم: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]. وقال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] هذه الآية أجمع العلماء على أنها نزلت في التائبين؛ لأن الله عمم وأطلق فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] بخلاف الآية الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فهذه في غير التائبين؛ لأن الله خصص وعلق، خص الشرك بأنه لا يغفر وعلق ما دونه، وهنا سبحانه وتعالى فتح باب التوبة للمنافقين فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:146] يعني: إلا الذين تابوا من نفاقهم وكفرهم، وأصلحوا أحوالهم وأعمالهم، {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} [النساء:146] أي: لجئوا إليه سبحانه وكانوا مخلصين في توبتهم، فحكمهم حكم المؤمنين، والمؤمنون جزاؤهم كما قال سبحانه: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:146]. لقد عرض الله التوبة على المثلثة من النصارى، قال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:73 - 74]، فباب التوبة مفتوح لمن تاب قبل الموت أو قبل طلوع الشمس من مغربها.

الأسئلة

الأسئلة

مذهب مرجئة الفقهاء في حكم تارك الصلاة

مذهب مرجئة الفقهاء في حكم تارك الصلاة Q هل مرجئة الفقهاء يقولون بعدم كفر تارك الصلاة بناء على مذهبهم؟ A مرجئة الفقهاء يرون أن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان؛ لأنهم يرون أن الكفر والإيمان لا يكونان إلا بالقلب، وأما تسمية الصلاة كفراً في قوله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) فتسمية مجازية عندهم. وهناك بعض أهل السنة يرون أن ترك الصلاة ليس كفراً مع عدم جحد وجوبها، والقائلون بهذا القول ليسوا من المرجئة، لكن الصواب الذي تدل عليه النصوص أن تارك الصلاة كافر ولو لم يجحد وجوبها، وهو الذي أجمع عليه الصحابة كما نقله عنهم عبد الله بن شقيق العقيلي وابن حزم، وإسحاق بن راهويه وغيرهم. لكن هناك طوائف من أهل السنة المتأخرين يرون أن تارك الصلاة يكون قد كفر كفراً أصغر إذا لم يجحد وجوبها، وهو مذهب المتأخرين من الشافعية والمالكية والأحناف والحنابلة. والرواية الثانية عن الإمام أحمد التي عليها المحققون وهو وجه للشافعية ومن المالكية عبد الملك بن حبيب المالكي أن ترك الصلاة كفر أكبر. والمقصود أن المرجئة يرون أن تارك الصلاة إذا جحد وجوبها يكون كافراً، وإذا لم يجحد وجوبها فلا يكون كافراً كفراً أكبر، وإنما يكون كافراً كفراً أصغر. إذاً: فالذين يقولون: إن ترك الصلاة ليس بكفر قسمان: القسم الأول: المرجئة. القسم الثاني: بعض أهل السنة.

حكم إدخال العلمانيين في المنافقين

حكم إدخال العلمانيين في المنافقين Q هل يصح دخول العلمانيين في المنافقين؟ A المنافق هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وسمي منافقاً من النافقاء، وهي نافقاء اليربوع؛ لأن اليربوع له جحران: ظاهر وباطن يقال لأحدهما: النافقاء ويقال للآخر: القاصعاء، فالجحر الظاهر الذي يدخل منه، والجحر الخفي الباطن هو الذي يلقي عليه التراب الرقيق، فإذا رابه ريب دفع التراب برأسه فخرج، فكذلك المنافق له ظاهر وباطن، ظاهره الإسلام وباطنه الكفر. ففي عصر الصحابة كان يسمى الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر منافقاً، ثم بعد ذلك صار المنافق، وأيضاً الجاحد المعطل الذي يعطل الله من أسمائه وصفاته، أو ينكر وجود الله يسمى زنديقاً، أما في العصر الحاضر فصار يسمى المنافق علمانياً، وهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، هذه أسماء كلها تحمل معنى النفاق.

حقيقة نسبة دعاء (يا حي يا قيوم) لشيخ الإسلام

حقيقة نسبة دعاء (يا حي يا قيوم) لشيخ الإسلام Q هل ثبت عن شيخ الإسلام أنه قال: من قال: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أربعين مرة بين سنة الفجر وصلاة الفجر أحيا الله قلبه ولم يمته، قيل: إنه موجود في مدارج السالكين لـ ابن القيم رحمه الله في الجزء الأول صفحة (339) طبعة دار إحياء التراث، وفيه قال ابن القيم: وسمعته من شيخنا يعني ابن تيمية رحمه الله تعالى؟ A لا أعلم لهذا الدعاء أصلاً ولا أذكر أنه مر عليَّ، لكن يراجع كلام ابن القيم في هذا، على كل حال إذا كان هناك دليل يدل على هذا فالحمد لله، وعلى الرأس والعين، أما إذا لم يوجد دليل فلابد من الدليل.

عقيدة الرافضة في الإيمان

عقيدة الرافضة في الإيمان Q ما عقيدة الرافضة الإثني عشرية؟ A عقيدة الإثني عشرية تكفير الصحابة، يقولون: بأن الصحابة ارتدوا وكفروا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن عقيدتهم أيضاً أنهم يعبدون آل البيت ويتوسلون بهم، ومن عقيدتهم اعتقاد أن القرآن غير محفوظ، كل هذه الأنواع كفرية، نسأل الله السلامة والعافية.

عقيدة أبي حنيفة في زيادة الإيمان ونقصانه

عقيدة أبي حنيفة في زيادة الإيمان ونقصانه Q يقال: إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فما صحة ذلك؟ A الإمام أبو حنيفة له روايتان: الرواية الأولى: أن الإيمان هو تصديق القلب فقط ولا يزيد ولا ينقص. الرواية الثانية التي عليها جماهير أصحابه: أن الإيمان شيئان: إقرار باللسان، وتصديق بالقلب، ولا يزيد ولا ينقص. وجميع المرجئة تقول به، ومنهم مرجئة الفقهاء من الماتريدية والأشاعرة والكرامية والجهمية؛ كلهم يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لا يقول بالزيادة والنقصان في الإيمان إلا جمهور أهل السنة.

الفرق بين معرفة القلب وتصديقه

الفرق بين معرفة القلب وتصديقه Q ما الفرق بين معرفة القلب وتصديقه؟ A يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه يعسر التفريق بين معرفة القلب والتصديق المجرد، إذا كان التصديق مجرداً ليس معه عمل فلا فرق بينه وبين المعرفة، أما إذا كان التصديق مقترناً بالعمل فهناك فرق.

عقيدة شيخ الإسلام في فناء الجنة والنار

عقيدة شيخ الإسلام في فناء الجنة والنار Q ما رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مسألة فناء الجنة والنار؟ A لا أحد يقول بفناء الجنة إلا الجهم بن صفوان الكافر الضال المضل، ولا أحد من أهل السنة يقول ذلك، فإن أهل السنة ضللوا الجهمية وبدّعوهم، وإنما الكلام في فناء النار، فهناك طائفة من أهل السنة نسب إليهم القول بفناء النار في بعض الآثار، وهو قول ضعيف مرجوح، وشيخ الإسلام له كلام صريح يدل على أن النار مثل الجنة دائمة لا تفنى ولا تبيد، ولهذا يقول الطحاوي: (والجنة والنار دائمتان أبداً لا تفنيان ولا تبيدان)، لكن ابن القيم رحمه الله له كلام في (مدارج السالكين) وكذلك في كتابه (وصف الجنة) وهو يدل على أنه يميل إلى القول بفناء النار، وله أيضاً كلام يؤيد القول ببقاء النار، فلعله له قولان في هذا، فالذي يظهر والله أعلم أنه رجع عن القول بفناء النار، وذكر هذا في (مدارج السالكين) وفي غيره، أما شيخ الإسلام فكلامه صريح في بقاء النار.

حكم اختبار عامة المسلمين في عقائدهم

حكم اختبار عامة المسلمين في عقائدهم Q هل يجوز اختبار الناس في عقائدهم كسؤال العامة: أين الله؟ A لا يسأل المسلم ولا يمتحن؛ لأن الأصل أن المسلم على التوحيد وعلى العقيدة، الصحيحة فلا يسأل إلا إذا كثر أهل البدع وأهل الضلال وكان هناك حاجة مثلاً إلى إمام يؤم الناس فيمتحن ويسأل فلا يؤم الناس إلا مسلم، أو شخص يريد أن يتزوج وهو شاك في ذلك لكثرة البدع، فلابد أن يمتحن. وأهل البدع ينكرون السؤال عن الله بأين، يقولون: لا يسأل عن الله بأين؛ لأن (أين) يسأل بها عن المكان، والله ليس له مكان عند أهل البدع، يقولون: الله في السماء وفي الأرض تعالى الله عما يقولون، وهذا كفر وضلال، والنبي صلى الله عليه وسلم سأل الجارية قال: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة). فالمبتدعة الذين أنكروا أن يكون الله في السماء وفي العلو غلطوا النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم غلط حينما سأل الجارية، أو لأن الجارية أعجمية لا تفهم الدين، فسألها سؤالاً فاسداً يناسب عقلها وفهمها، ولما قالت: (في السماء) أقرها على جواب فاسد يناسب عقلها وفهمها، وأن الرسول لم يقصد أن يقول: أين الله؟ وإنما قصد أن يقول: من الله؟ لكن لما كانت الجارية أعجمية اضطر صلى الله عليه وسلم أن يسألها سؤالاً فاسداً، ثم أقرها على الجواب الفاسد. هكذا اتهموا الرسول عليه الصلاة السلام، وكأنه صلى الله عليه وسلم عجز عن أن يقول: من الله؟ (من) حرفان، و (أين) ثلاثة حروف، فهؤلاء والعياذ بالله في قلوبهم مرض، ولهذا يكثر النفاق في أهل الكلام وفي أهل البدع، فمن اتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا يخشى عليه من النفاق، وقد صرح بذلك أهل البدع حيث قالوا: من قال: إن الله في السماء فقد كفر؛ لأنه شبه الله بجسم محدود على محدود، والذي يكون في المكان هو الأجسام والله ليس بجسم، ومن قال: إن الله جسم فقد كفر، هكذا يقولون؛ نعوذ بالله من جهل القلوب!

حقيقة الوهابية

حقيقة الوهابية Q ما هي الفرقة الوهابية؟ وهل هي على الحق أم على الباطل؟ A هذا السائل لا أدري لماذا يسأل هذا السؤال، الوهابية لقب ينبز به أعداءُ التوحيد أهل التوحيد وأهل السنة والجماعة، فأهل البدع يقولون (وهابية) نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ويقولون: إن الوهابية فرقة مخالفة للسنة، مع أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إمام من أئمة أهل السنة والجماعة ولم يأت بشيء من عنده، وإنما قرأ كتاب الله وسنة رسوله واستدل بالقرآن وبالسنة في جميع كتبه مثل: (الأصول الثلاثة) و (كشف الشبهات)، و (كتاب التوحيد)، وغيرها. لكن أعداء السنة والجماعة أبوا إلا أن ينبزوا أهل السنة والجماعة بالألقاب الشنيعة التي تنفر الناس عن معتقد أهل السنة والجماعة، كما نبزوهم قديماً حيث كانوا يسمونهم: الحشوية والمجسمة والمشبهة أو الغثاء وغير ذلك، فهم ينبزونهم من قديم الزمان، فصاروا في هذا الزمان بعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب يسمونهم الوهابية. ثم الوهابية هي نسبة إلى والد الشيخ محمد بن عبد الوهاب عبد الوهاب، وكان الأجدر أن تنسب إليه فنقول: محمدية، لكن هؤلاء ينبزون أهل السنة بلقب بعيد، كما أن الكفار كانوا ينبزون النبي صلى الله عليه وسلم بلقب بعيد يقولون: ابن أبي كبشة ينسبونه إلى جد له من الرضاعة بعيد؛ لشدة عداوتهم، فلهذا أبو سفيان لما ذهب إلى الشام قبل أن يسلم وسأله هرقل الأسئلة العشرة ثم خرج من عنده وكثر اللغط بين الأحبار والرهبان وصار في نفس أبي سفيان شيء قال: (لقد أَمِرَ أَمْر ابن أبي كبشة حتى إنه ليخافه ملك بني الأصفر) يعني: عظم أمر محمد حتى إن ملك الروم يخاف منه. أعداء أهل السنة والجماعة ينسبون الإمام ابن القيم إلى جد غامض بعيد؛ لشدة عداوتهم، فهم الآن ينبزون أهل السنة بالوهابية؛ للتنفير من مذهب أهل السنة والجماعة، وإلا فالشيخ محمد بن عبد الوهاب ما جاء بشيء من عنده، وهذه كتبه واضحة للعيان فيها قال الله قال رسول الله.

[6]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [6] يعتبر المنافقون أخطر من الكفار على المسلمين، ولذلك أكثر الله تعالى من ذكر أوصافهم التي تبين مفارقة الإيمان لقلوبهم، وتربصهم بالمؤمنين الدوائر، وفي سورة المائدة كثير من هذه الأوصاف، أما سورة التوبة فقد فضحتهم حتى كادت أن تعينهم بأسمائهم.

ذكر صفات المنافقين في سورة المائدة

ذكر صفات المنافقين في سورة المائدة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة:41]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، إلى قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:52 - 53]. وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة:61 - 62]. وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77] إلى قوله: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:80 - 81]].

مسارعة المنافقين في الكفر

مسارعة المنافقين في الكفر هذه الآيات في سورة المائدة تذكر أوصاف المنافقين حيث يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة:41]. فالله تعالى ينهى رسوله عن أن يحزن على الذين يسارعون في الكفر بالله وبرسوله ولا يبالون، وهؤلاء الذين يسارعون إلى الكفر ويركضون ويجرون حتى يصلوا إليه؛ إنما فعلوا ذلك بسبب تركهم الحق وعنادهم بعد وضوح الحق لهم، فهم لما تركوا الحق وأعرضوا عنه بعد وضوحه، ووالوا الكفار، وأعرضوا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يوقروه صاروا يسارعون إلى الكفر ويركضون إليه ركضاً، ولهذا قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41]، فهذا وصف المنافقين، فهم يقولون: {آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} [المائدة:41] أي: بألسنتهم {وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] أي: أن قلوبهم مكذبة، وألسنتهم مصدقة. وهذا كما قال سبحانه في الآية الأخرى في أول سورة البقرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:8] أي: بألسنتهم، {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] أي: بقلوبهم. وكما قال سبحانه في سورة المنافقين: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1] يعني: بألسنتهم، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] أي: بقلوبهم. فالله تعالى يقول لنبيه: {لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] من المنافقين واليهود، {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] وهؤلاء هم المنافقون، {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [المائدة:41] وهم اليهود، {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة:41] إلى آخر تلك الأوصاف. ثم وصفهم في آخر الآية فقال: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:41 - 42] إلى آخر الآيات في وصف اليهود.

المنافقون يتخذون اليهود والنصارى والكفار أولياء

المنافقون يتخذون اليهود والنصارى والكفار أولياء قال المؤلف رحمه الله: [وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]]. في هذه الآية ينهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء يحبونهم بقلوبهم، ثم ينشأ عن تلك المحبة في القلب المساعدة والمعاونة بالرأي أو بالسلاح على المسلمين، فتولي الكفار ردة؛ ولهذا قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وتوليهم هو محبتهم في القلب، فحكم على من تولى الكفار بأنه كافر مثلهم. وقال: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، فالكفار بعضهم أولياء بعض، كما قال سبحانه في الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73]، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، فالمؤمن ولي لأخيه المؤمن، والكافر ولي لأخيه الكافر، فلا يجوز للمسلم أن يتخذ الكافر ولياً، فإذا اتخذه ولياً وأحبه لدينه، ونشأ عن هذه المحبة المساعدة والمعاونة فإن هذه ردة عن الإسلام، فتولي الكفرة ومحبتهم ردة عن الإسلام. وأما الموالاة بمعنى المعاشرة والمصادقة بدون محبة القلب فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، كما قال سبحانه في آية الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]، وهذا غير البيع والشراء والمعاملة، فلا يلزم منها الموالاة، فإذا باع الإنسان أو اشترى من الكفار عند الحاجة فليس ذلك من الموالاة في شيء إذا كان ذلك مع بغضه لهم ولدينهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل اليهود، فعاملهم على شطر ما يخرج من أرض خيبر من ثمر أو زرع، واشترى غنماً من مشرك، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، فالمعاملة شيء والموالاة شيء آخر. فالمعاملة كأن يبيع ويشتري منهم عند الحاجة، ولا حرج في ذلك إذا كان الكافر ليس بحربي، وأما الموالاة فمعناها أن يتخذه صديقاً يزوره، ويجيب دعوته من دون حاجة بيع ولا شراء ولا غيرها، وأما محبته بالقلب فهذه ردة عن الإسلام، وهي التولي لهم، وأصل التولي المحبة بالقلب، ثم ينشأ عنها المساعدة، فمن أحب كافراً لدينه كأن يحب يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً فهو كافر مثله، كما قال الله في هذه الآية: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وأما الموالاة والمعاشرة والمصادقة لهم من دون محبة في القلب فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، وهي فسق ومعصية، وتدل على ضعف الإيمان ونقصه. ثم ذكر أوصاف المنافقين فقال سبحانه: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52]، قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المائدة:52] هو مرض الشك والنفاق والشبهة. وقد سبق أن ذكرنا أن المرض مرضان: مرض شك، ومرض شهوة، فمرض الشهوة هو مرض المعصية، قال سبحانه وتعالى في خطاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، فهذا هو مرض المعصية، وهو مرض الزنا ومرض الشهوة. وأما مرض الشك والكفر والنفاق فكما قال سبحانه في سورة البقرة: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10]، وهذا أشد من مرض الشهوة؛ لأن هذا مرض في العقيدة. وقال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم} [المائدة:52] أي: يضعون أيديهم مع الكفار من اليهود والنصارى، فإذا قيل لهم: كيف توالون اليهود والنصارى وتكونون معهم؟ قالوا: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] أي: نخشى أن ينهزم المسلمون، فإذا انهزموا لجئوا إلى الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، وإن حصل للمسلمين فتح ونصر وغنيمة لجئوا إلى المسلمين وقالوا: نحن معكم، فشاركوهم في الغنائم، فيجعلون يداً مع هؤلاء ويداً مع هؤلاء، كما قال الله تعالى: {لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143]. قال الله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة:52] أي: للمسلمين، {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا} [المائدة:52] أي: المنافقون، {عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52] من موالاتهم للكفار.

المنافقون يسارعون في الإثم والعدوان وأكل السحت وتولي الكفار

المنافقون يسارعون في الإثم والعدوان وأكل السحت وتولي الكفار قال سبحانه: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} [المائدة:53] وهم المنافقون، قال الله عنهم: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:53]. وقال تعالى في نفس السورة في وصف المنافقين: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} [المائدة:61]، أي: إذا جاء المنافقون إلى المسلمين قالوا: آمنا وأظهروا لهم الإسلام، وإذا ذهبوا إلى رؤسائهم وإلى الكفار قالوا: نحن معكم كما قال الله سبحانه وتعالى عنهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:14]، وهنا قال سبحانه: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة:61 - 62]، فهذه أوصافهم: المسارعة في الإثم والعدوان، وأكل السحت. وقال بعدها: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63]. وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]، فنهى الله أهل الكتاب عن الغلو في الدين، والغلو: هو مجاوزة الحد، ومن الغلو في الدين أن النصارى غلوا في عيسى حتى جعلوه إلهاً يعبد مع الله. قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]، فنهاهم الله عن اتباع الضالين. ثم قال سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78] إلى قوله: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة:80]، فمن وصف المنافقين تولي الكفرة. {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} [المائدة:80]، لعدم إيمانهم، حيث إنهم يريدون أن يخادعوا هؤلاء وهؤلاء، قال الله: {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة:80]، أي: سخط الله عليهم بسبب موالاتهم الكفرة، فخلدهم في النار. ثم بين سبحانه أن اتخاذ الكفار أولياء ينافي الإيمان، فلا يجتمع الإيمان واتخاذ الكفرة أولياء، قال سبحانه: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:81] أي: لو كانوا يؤمنون بالله ورسوله حقيقة ما اتخذوا الكفار أولياء يحبونهم ويساعدونهم ويعينونهم على المسلمين، {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:81].

ما جاء في سورة براءة من كشف المنافقين وذكر صفاتهم

ما جاء في سورة براءة من كشف المنافقين وذكر صفاتهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما سورة براءة فأكثرها في وصف المنافقين وذمهم، ولهذا سميت الفاضحة والمبعثرة، وهي نزلت عام تبوك، وكانت تبوك سنة تسع من الهجرة، وكانت غزوة تبوك آخر مغازي النبي صلى الله عليه وسلم التي غزاها بنفسه، وتميز فيها من المنافقين من تميز، فذكر الله تعالى من صفاتهم ما ذكره في هذه السورة]. لقد أكثر الله في سورة براءة من صفات المنافقين، ولهذا سميت هذه السورة: الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، وتسمى المبعثرة؛ لأنها بعثرتهم، فلم تزل تذكر: ومنهم ومنهم ومنهم ومنهم حتى خاف المنافقون أن يسموا بأعيانهم. قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]، {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة:61]، قال ابن عباس: لم تزل الآيات تذكر أوصافهم ومنهم ومنهم حتى خافوا أن يسموا بأعيانهم؛ ولهذا سميت هذه السورة سورة الفاضحة؛ لأنها فضحتهم. قال سبحانه فيها: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41]، ثم بين وصف المنافقين فقال: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة:42]، أي: لو كان السفر قريباً لاتبعوك، لكن كان السفر بعيداً، أي: أن السفر إلى تبوك في ذلك الوقت كان سفراً بعيداً، وكان في شدة الحر في وقت نضوج الثمار، فلا يستطيع المنافقون الخروج؛ لأنهم ليس لديهم إيمان يدفعهم إلى الجهاد، ولهذا تخلف كثير من المنافقين. وهذا بخلاف المؤمنين الذين يبعثهم إيمانهم بالله ورسوله على التضحية بالأموال والراحة وبكل شيء، وأما المنافقون فليس لديهم ما يبعثهم، فالسفر بعيد ومتعب وطويل المسافة، والمدة طويلة، فالسفر قديماً يحتاج إلى امتطاء ظهور الإبل، وليس كالسفر في وقتنا الحاضر، فقد صار قصيراً، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ} [التوبة:42] أي: لو كانت الغنيمة سهلة، والسفر قريباً لاتبعوك؛ لأنهم ليس لهم هم إلا الدنيا، لكن السفر بعيد، ولا يدرون هل سيحصلون على الغنيمة أو لا، ولم يكن عندهم إيمان يبعثهم. {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} [التوبة:42] أي: إذا رجع الرسول صلى الله عليه وسلم من الغزو، {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:42]. ثم قال سبحانه وتعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]. ثم قال في أوصافهم: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} [التوبة:44 - 46] أي: إلى غزوة تبوك {لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]. وقد بين الله سبحانه الحكمة في تثبيطهم وعدم خروجهم، فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47]، فلو خرج المنافقون فإنهم لا يألون المؤمنين خبالاً وشراً وتشويشاً وإدخالاً للهلع والضعف في نفوسهم، {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة:47] أي: سعوا في الشر والفساد بينكم، {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] أي: فيكم من يسمع لهم، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة:47 - 49] أي: ومن المنافقين {مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49]. أي: أن أحد المنافقين قال: يا محمد! ائذن لي فأنا لا أستطيع وأخشى على نفسي، فإني إذا رأيت بنات بني الأصفر فسأفتن ولا أستطيع أن أمتنع، فأنزل الله فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49]، قال الله: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49]. ومن أوصافهم: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50]، وقال سبحانه: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:57]، فهذه من أوصافهم. ثم قال سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58]. ثم قال سبحانه: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61]، ثم قال سبحانه: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ * يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:62 - 66]. ثم ذكر من أوصافهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]، فمن صفات المنافقين أن بعضهم ولي لبعض، فينصر بعضهم بعضاً، وهذا فيه تحذير من الاتصاف بهذه الصفات، فالمؤمن ينصر أخاه المؤمن ويوالي أخاه المؤمن. ومن أوصافهم: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67]، إذاً المنافق يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، والمؤمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67] أي: عن النفقة في سبل الخير، فليس عندهم إيمان يدفعهم إلى ذلك، فلا ينفق إلا المؤمن، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]. ومن أوصافهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة:75 - 78]. ومن أوصافهم: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79]، فالمنافقون لا يتصدقون، ولما حث النبي على الصدقة تصدق بعض الصحابة بصدقة كبيرة فقالوا: هذا مراء، ثم جاء بعضهم بالقليل فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، فأنزل الله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة:79] أي: لا يجدون إلا القليل، {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79]. وقد ذكر الله تعالى من أوصافهم في هذه السورة ما لم يذكره في غيرها، قال: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُم

الأسئلة

الأسئلة

حكم التحاكم إلى من لا يحكم بشريعة الله تعالى لغرض استرداد الحقوق

حكم التحاكم إلى من لا يحكم بشريعة الله تعالى لغرض استرداد الحقوق Q ما حكم التحاكم عند من لا يحكم بشريعة الله لغرض استرداد الحقوق؟ A لا يجوز للإنسان أن يتحاكم إلى غير شرع الله، ولكن يأخذ حقه ويطالب به من دون أن يتحاكم إلى من لا يحكم بشريعة الله.

حكم لبس الصليب

حكم لبس الصليب Q هل يكفر من لبس الصليب أو لا؟ A لا يكفر إلا إذا رضي بدينهم، وأما إذا لبسه من باب التشبه بهم فالتشبه بهم محرم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)، فهو محرم ومن الكبائر. قال شيخ الإسلام رحمه الله: يدل هذا الحديث على أن أقل أحواله هو التحريم، فإذا تشبه بهم في لباسهم أو في أعيادهم فهذا منكر عظيم، ولكنه لا يصل إلى درجة الكفر إلا إذا أحب دينهم، أو رضي به، أو والاهم، نسأل الله السلامة والعافية، ولكنه يخشى عليه إذا لبس الصليب، فقد يوصل هذا التشبه في الظاهر إلى التشبه في الباطن فيصل إلى الكفر، نعوذ بالله.

حكم ترك إنكار المنكر مع القدرة

حكم ترك إنكار المنكر مع القدرة Q نرى انتشار طلاب العلم -ولله الحمد- وكذلك أهل الخير، فما رأيكم في ضعفهم في إنكار المنكر، وعدم القيام به على الوجه المطلوب؟ A الواجب على المسلم أن ينكر المنكر بقدر استطاعته، فيزيله باليد إذا كان مستطيعاً كأن يكون المنكر في بيته، أو كالأمير أو كرجال الهيئة في حدود صلاحياتهم فيغيرون المنكر باليد. فإن كان لا يستطيع تغيير المنكر باليد فينكر باللسان، فإن عجز عن ذلك كما إذا كان يترتب على إنكاره باللسان ضرر محقق في بدنه أو ماله أو أهله فإن ينكر بقلبه، بمعنى أنه يكره المنكر بقلبه ولا يجالس أهله، بل يقوم عنهم، ولتكن علامات الإنكار على وجهه، فيقطب وجهه وتظهر عليه علامات الكراهة، فقد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). إذاً: فدرجات التغيير ثلاث: باليد ثم باللسان ثم بالقلب، فالإنكار بالقلب معناه كراهة المنكر والبعد عن أهله، فإذا كان يكره بقلبه فإنه لا يجلس وهو يستطيع البعد، فإذا كان يستطيع القيام فإنه يجب عليه أن يقوم، فإن لم يقم فليس صادقاً في إنكار المنكر، ولابد أن تظهر علامات المنكر على وجهه، ولينصرف عنهم، فإن جلس فحكمه كحكمهم، ودعواه أنه أنكر المنكر كذب وليست صحيحة، كما قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140]. فمن جلس في مجلس يكفر فيه بالله وهو يستطيع القيام ولم ينكر ولم يقم فحكمه حكمهم، ومن جلس في مجلس يشرب فيه الخمر ولم ينكر عليهم وهو يستطيع الإنكار فحكمه كحكم شارب الخمر في الإثم، ومن جلس في مجلس يغتاب فيه الناس وهو يستطيع القيام ولم ينكر عليهم ولم يقم فحكمه كحكم المغتابين.

حكم محاباة الكفار

حكم محاباة الكفار Q ما حكم مجاملة الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم؟ A ليس هناك مجاملة، فاليهود والنصارى وغيرهم إذا كان بيننا وبينهم عهد فهم أهل عهد، وإن لم يكن بيننا وبينهم عهد وكان المسلمون أقوياء فتفرض عليهم الجزية، وإن كانوا وثنيين فإنهم يقاتلون مع القدرة.

كيفية الوصول إلى مرتبة عبادة الله كأنك تراه

كيفية الوصول إلى مرتبة عبادة الله كأنك تراه Q كيف الوصول إلى مرتبة أن تعبد الله كأنك تراه؟ A هذه مرتبة الإحسان ومرتبة السابقين، أي: أن تعبد الله على المراقبة والمشاهدة، بأن تعبد ربك كأنك تراقبه وتشاهده في تأديتك الصلاة والزكاة والصوم، فهذه هي المرتبة الأولى. والمرتبة الثانية: إذا ضعفت (فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، أي: أن تعبده على أنه يراك.

حكم القول بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دخول فيما لا يعني

حكم القول بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دخول فيما لا يعني Q هل يكفر من يقول عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إنه تدخل فيما لا يعني؟ A لا يكفر؛ لأنه قد يكون جاهلاً، وأما إذا أنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال: لسيا من الدين وهو يعلم ذلك، أو جحده أو استهزأ به أو بالنصوص التي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا كفر وردة، وأما إذا قال ذلك جهلاً فينبه ويبين له ويحذر من هذا الكلام.

حكم من يتحاكمون إلى الأعراف دون الشريعة

حكم من يتحاكمون إلى الأعراف دون الشريعة Q ما الحكم فيمن يلجئون إلى أحكام القبائل دون حكم الشريعة؟ A هذا من أنواع الكفر، فبعض الناس يتحاكمون إلى أعراف وعادات القبائل، فيذهبون إلى شيخ القبيلة ويتحاكمون إليه، فإذا وقع شخص في الزنا ذهبوا إلى شيخ القبيلة فحكم بينهم بالطاغوت، فيقول لهم: الأمر سهل، ائتوا بذبيحة فاذبحوا، ثم يتصالحون، أو يقول: يدفع كذا من الدراهم ويعفى عنه، وكذلك في القتل وما أشبه ذلك، فالحكم بالأعراف والأسلاف والتحاكم إلى الطاغوت من أنواع الكفر الأكبر المخرج من الملة، نعوذ بالله.

ضابط الإكراه على الكفر

ضابط الإكراه على الكفر Q ما هو ضابط الإكراه على الكفر؟ A ضابطه ألا يكون له مخرج، وذلك مثل أن يوضع السيف على رقبته ويقال له: اكفر وإلا قتلناك، فهذا هو المكره، فيجوز له أن يتكلم بكلمة الكفر تخلصاً من الإكراه، بشرط أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، ولا يضر هذا، قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]. وأما إذا تكلم بكلمة الكفر وانشرح صدره بالكفر فهو كافر نعوذ بالله من ذلك، فلابد أن يتكلم باللسان تخلصاً من الإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان، نسأل الله السلامة والعافية.

حكم السلام على الرافضة والشيعة والأكل معهم

حكم السلام على الرافضة والشيعة والأكل معهم Q أنا مدرس في منطقة ما والغالب على أهلها الرفض والتشيع، فماذا يجب علي من أحكام من حيث الأكل معهم، وهل إذا دخلت عليهم الفصل أسلم عليهم أم أكتفي بالترحيب مع أنني القدوة، أفيدوني أفادكم الله؟ A إذا كانوا يظهرون الإسلام ويخفون كفرهم فإنهم يعاملون معاملة المسلمين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل عبد الله بن أبي وغيره معاملة المسلمين، حتى إنه عليه الصلاة والسلام أعطى عبد الله بن أبي قميصه، ونفث عليه من ريقه، وصلى عليه قبل أن ينهى عن ذلك، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري - أن يصلي عليه أخذ عمر بثوبه وقال: تصلي على المنافق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أخر عني يا عمر! فإني خيرت وقيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة:80]، فلو أعلم أني إذا زدت على السبعين غفر له لزدت على السبعين). وإنما قال ذلك عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لم ينه ذلك ولعل الله أن ينفعه، ومراعاة لقومه ولابنه عبد الله بن عبد الله، فإنه كان من أصلح المؤمنين، وأبوه رئيس المنافقين، وهذا قبل أن يُنهى، وأعطاه قميصه مكافأة له على إعطائه قميصاً لعمه العباس لما أسر يوم بدر، ثم بعد ذلك أنزل الله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]، فلم يصل بعد ذلك على منافق. رواه البخاري في صحيحه. وهؤلاء إذا كانوا يظهرون الإسلام ولا يظهرون كفرهم فإنك تعاملهم، وأما إذا كانوا يظهرون كفرهم فلا تبدأهم بالسلام إذا كانوا مجتمعين، وأما إذا كان معهم غيرهم فسلم عليهم، ويكون السلام للمؤمنين، فقد ثبت: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على مجلس فيه أخلاط من المؤمنين واليهود وعبدة الأوثان فسلم عليهم).

حكم صلاة الجمعة في السفر

حكم صلاة الجمعة في السفر Q سافرت إلى بلد وحضرت صلاة الجمعة فصليتها مع الجماعة، فقال لي أحدهم بعد عودتي: لا يجوز لك ذلك، ويجب عليك صلاتها ظهراً، وعليك الآن قضاء الظهر، فأصبحت لا أصلي الجمعة في أسفاري، فما حكم ذلك؟ A هذه الفتوى خاطئة، والصواب: أن المسافر إذا مر ببلد وصلى معهم الجمعة فإنها تجزئه، ولذلك قال العلماء: إن حضرها مسافر أجزأته، فإذا حضر المسافر والمريض والمرأة صلاة الجمعة أجزأتهم، فالمرأة ليس عليها صلاة جمعة ومع ذلك لو صلت مع الناس الجمعة فإنها تصح منها، وإن صلت في بيتها صلتها ظهراً أربع ركعات، والمسافر إذا صلى في السفر صلاها ركعتين، وإن صلى مع المقيمين أجزأت، وكذلك المريض الذي لا يستطيع الذهاب إلى المسجد لا تجب عليه الجماعة، وإذا حضر الجماعة أو الجمعة وصلى معهم أجزأت. فالمسافر إذا صلى الجمعة مع المقيمين أجزأته وصحت صلاته.

حكم التشبه بالكفار في الكلام وغيره

حكم التشبه بالكفار في الكلام وغيره Q سؤال قد تطاول فيه قوم فلم يجدوا لسؤلهم جواباً فبلغنا كلام الله فيهم وحكم رسوله حقاً صواباً نرى منا أناساً أهل رطن بغير كلامنا عجماً غراباً يحاكون النصارى بلا اضطرار ويرجون التشبه واقتراباً أجبنا يا رعاك الله فيهم بقول إن أتى فصل الخطابا A الذي يفهم من هذه الأبيات أنهم قوم يشابهون الكفار من اليهود والنصارى في الرطانة ويحاكونهم ويتشبهون بهم، وهذا حرام من كبائر الذنوب، قال عليه الصلاة والسلام: (من تشبه بقوم فهو منهم)، قال شيخ الإسلام رحمه الله: أقل أحواله التحريم وإلا فظاهره الكفر، فيخشى عليهم من هذا التشبه في الظاهر أن يوصلهم إلى التشبه في الباطن، والتشبه بالكفرة في أعمالهم وأقوالهم وعاداتهم وتقاليدهم واحتفالاتهم وموالدهم ورطانتهم إلى غير ذلك، من كبائر الذنوب. وأما إذا تشبه بهم حباً لدينهم فهذه ردة، وأما إذا تشبه بهم وهو لا يحب دينهم فهذه معصية صغيرة، فيخشى أن تتدرج به الحال من تشبه إلى تشبه حتى يصل إلى الكفر نعوذ بالله من ذلك، فنسأل الله السلامة والعافية، وفق الله الجميع إلى حسن الخاتمة، وثبت الله الجميع على الهدى.

التحذير من التنقيب عن نيات الناس ومقاصدهم

التحذير من التنقيب عن نيات الناس ومقاصدهم بعض الإخوان لما خرجنا من الدرس أمس قال: إن بعض الأسئلة التي أجبت عليها يقصد بها كذا وكذا فلابد أن تنبه، فقلت: أنا أجبت على السؤال ولا أدري من يقصد؟ فقال: هؤلاء يقصدون كذا وكذا، قلت: كيف تدخل هذا الشخص في المقاصد والنيات؟ فمن الذي علمك هذا؟ وهل شققت عن قلبه؟ وهذا يحصل كثيراً، ففي ببعض الأحيان يقول بعضهم: هذا السائل يقصد فلاناً من العلماء أو من المحدثين، أو يقصد فلاناً من الملوك أو من رؤساء الجمهوريات، فنقول لهذا: كيف تقول هذا الكلام؟ سؤال هذا الأخ واضح ليس فيه أي إشكال وقد أجبنا عليه، فكيف تقول: إن مقصوده كذا وكذا أشققت عن قلبه؟ فهذه من المصائب التي لم تعرف إلا في هذا الزمان، أعني: الدخول في المقاصد والنيات. فـ أسامة بن زيد رضي الله عنه لما قتل ذلك الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! إنما قالها متعوذاً يخشى الموت، قال: أشققت عن قلبه؟ كيف تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة إذا جاءت؟ فما زال يكرر ذلك عليه حتى تمنى أنه لم يسلم قبل ذلك اليوم)، وقد نبهت في أول يوم وقلت: ينبغي للإنسان ألا يسأل إلا أسئلة مفيدة، وليترك الأسئلة التي فيها تعنت وإحراج للمسئول، والتي فيها دخول في المقاصد والنيات، فاتقوا الله يا إخوان! فهذا لم يعرف إلا في هذا الزمن. لقد انتشرت الآن التحزبات عند بعض الشباب، فترى بعضهم يقول: هذا جهمي، وهذا سروري، وهذا كذا، وهؤلاء تكفيريون يريدون كذا وكذا، فنقول لهؤلاء: هؤلاء إخوانك وزملاؤك فكيف تقول عنهم: إنهم تكفيريون؟ وما هذه التحزبات، فكلكم طلبة علم، وكلكم إخوان، وكلكم من أهل السنة والجماعة، وكلكم درستم التوحيد، فدرستم العقيدة الواسطية، ودرستم الحموية، فكيف هذه التحزبات؟!! فكيف يقول بعضهم: هذا جامي، وهذا تبليغي، وهذا سروري، وهذا تكفيري؟ فينبغي لكم أن تتحدوا وتكون كلمتكم واحدة، فكلكم أهل سنة وجماعة، وكلكم يقول: أنا على معتقد أهل السنة والجماعة، وعلى معتقد الصحابة والتابعين، وعلى ما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله، وأنا على عقيدة الرسل والأنبياء والصحابة والتابعين والعلماء، فما هذه التحزبات التي يخشى أن تقضي على كثير من الحسنات؟! فهي سوء ظن واتهامات وتحزبات صرفت الكثير عن طلب العلم. فبعض الشباب يريد أن يطلب العلم فيذهب إلى بعض الحلقات فيقولون له: أنت إخواني أم سلفي؟ فإذا كان إخوانياً فإنهم يطردونه، والعكس أيضاً إذا ذهب إلى آخرين يقولون له: أنت سلفي، ويطردونه، فيبقى في حيرة ولا يدري أين يذهب فهؤلاء ويطردونه وهؤلاء ويطردونه!! فاتقوا الله، وتوبوا إلى الله عز وجل، واتركوا هذه التحزبات، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] فهذه التحزبات دخلت فيها أصابع آثمة أرادت تفريق الشباب، وأرادت قتل الصحوة الإسلامية، وفيها أصابع لأعداء الله يريدون من خلالها أن يفرقوا المسلمين، وأن يفرقوا الشباب ويضيعوهم، ويضيعوا عليهم طلب العلم، فلا يجوز للإنسان أن يقول: إن السائل مقصوده كذا وكذا، أأنت تعلم الغيب؟ أشققت عن قلبه؟ هو سأل سؤالاً محدداً فأجبناه عنه، فهل أنت أعرف بالسائل؟ وهل شققت عن قلبه حتى تعرف أنه يريد فلاناً، وأنه يريد رئيس الجمهورية الفلانية، ويريد الملك الفلاني، ويريد المحدث الفلاني؟ فإنه لم يقل شيئاً من هذا في سؤاله. فالله تعالى يقول في كتابه العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] ومنه هذا الذي ليس عليه دليل. وقال بعض السلف: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً، فما دمت تجد لها في الخير محملاً فاحملها على ذلك الخير، وأما أن تحملها على الشر بلا دليل فهذا هو ظن الإثم الذي يحاسب عليه الإنسان، وأما إذا كان هناك دليل على ذلك لا بأس. وأما أن تدخل في هذه التحزبات فهذا هو الذي يضيع العلم، وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، ويذهب بركة العلم، ويجعل الناس شيعاً وأحزاباً، وقد أراد الله تعالى من المسلمين أن يكونوا إخوة متحابين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً). وإذا أشكل عليك شيء، أو اختلفت أنت وأخوك في شيء فاسأل أهل العلم الكبار وقل: ما حكم المسألة الفلانية؟ وأما أن تتهم وتظن ظناً ليس عليه دليل، أو تدخل في المقاصد والنيات بغير دليل فهذا لا يجوز لك وهو حرام عليك، وأنت بذلك آثم، فاتق الله واحذر. فأرجو ألا يتكلم أحد مثل هذا الكلام، واحذروا هذه التحزبات، فكلكم حزب واحد وهو حزب الله، ومن غلط يرد عليه غلطه، ومن أخطأ يرد عليه خطأه، إلا الشخص الذي يظهر بدعة الخوارج أو بدعة المعتزلة أو بدعة الرافضة أو بدعة المرجئة فهذا يقال له: هذه بدعة، وينصح في ترك هذه البدعة، فنسأل الله للجميع التوفيق والسداد، والسلامة والعافية، فسلامة الصدور لها أثر عظيم. فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً بين أصحابه فقال: يمر عليكم رجل من أهل الجنة، فجاء رجل تنطف لحيته، معلقاً نعليه بيديه، وفي اليوم الثاني والثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم نفس الكلام فكان يطلع عليهم ذلك الرجل، فصحبه عبد الله بن عمرو وقال: إني لاحيت أبي، وإني أريد أن أبيت عندك إن شئت، فبات عنده ثلاث ليال ولم يجد عنده كثير عمل إلا أنه كان يستيقظ آخر الليل، وكان كلما استيقظ ذكر الله، فلما انتهت الثلاثة الأيام قال: يا أخي! ليس بيني وبين أبي شيء ولكني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت، فأنا أريد أن أعمل مثل عملك، فما هو العمل الذي نلت به هذه المنزلة؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما أراد أن يولي قال: إلا أنني أبيت ولا أجد في نفسي شيئاً على أحد من المسلمين. فسلامة الصدر لها تأثير عظيم، فهل يصلح أن يحمل طالب العلم في صدره غلاً لأخيه، فيحقد عليه، ويظن به ظن السوء، ويسميه تكفيرياً، وينزل فيه الألقاب السيئة، ويقول: إنه يريد كذا أو يقصد كذا بدون دليل، فهذا حقد وعداوة وبغضاء لا يتصف بها المؤمن فكيف بطالب العلم؟! نسأل الله للجميع السلامة والعافية.

[7]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [7] المنافقون يظهرون الإيمان ويخفون الكفر، والله تعالى يعلم بكمائن نفوسهم، وقد بين للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أوصاف المنافقين في سور كثيرة من القرآن، ومن ذلك سورة النور والعنكبوت والأحزاب والحديد والمجادلة والحشر.

أوصاف المنافقين في سورة النور

أوصاف المنافقين في سورة النور قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قال الله تعالى في سورة النور: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47] إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]]. لا يزال المؤلف رحمه الله يستعرض الآيات من كتاب الله تعالى سورة سورة في وصف المنافقين، وذلك أن المنافقين -وهم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر- خطرهم على الإسلام شديد؛ لأنهم عدو ملتبس، يخفي أمره؛ لأنه يعيش بين المسلمين، بخلاف الكافر ظاهراً وباطناً فإنه عدو مكشوف لكل أحد، فلهذا أكثر الله من أوصاف المنافقين في كتابه العظيم، قال سبحانه وتعالى في سورة النور: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47]. قوله: {وَيَقُولُونَ} [النور:47] يعني: المنافقين، {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] أي: أنهم يظهرون الإيمان والطاعة لله ورسوله ولكنهم يعرضون عن حكم الله وعن حكم رسوله، فإذا دعوا إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله في حياته وإلى سنته بعد وفاته أعرضوا وتولوا، فنفى الله تعالى عنهم الإيمان فقال: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47] ففعلهم يناقض قولهم؛ ولهذا قال سبحانه: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47]، فمن تولى عن الأوامر والنواهي فليس بمؤمن، {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:16]، فهذا وصف الكافر أنه يكذب الخبر، ويتولى عن الأمر. فهؤلاء يتولون عن الأوامر والنواهي ولا يمتثلون ولا يتحاكمون إلى شرع الله ودينه، ولهذا نفى سبحانه عنهم الإيمان: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:47 - 48] أي: إذا دعوا إلى التحاكم إلى شرع الله فإنهم يتولون عن الأمر، مع أنهم يظهرون الطاعة في الظاهر، ثم قال سبحانه: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50] أي: هل في قلوبهم مرض ملازم لهم؟ أم عندهم شك؟ أم يخافون الجور من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وكل واحد من هذه الثلاثة يدل على نفاقهم وكفرهم. فقوله: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [النور:50] أي: مرض الكفر والشك، {أَمِ ارْتَابُوا} [النور:50] أي: أم في قلوبهم شك وريب، أم يتهمون ربهم ونبيهم بالظلم والجور، وكل هذا كفر وضلال. ثم بين وصف المؤمنين الخلص فقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51] فوصف المؤمنين بالسمع والطاعة والامتثال.

أوصاف المنافقين في سورة العنكبوت

أوصاف المنافقين في سورة العنكبوت قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى في سورة العنكبوت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:10 - 11]. قوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] هذا وصف المنافق، فإنه إذا أوذي ارتد عن دينه، ولا يتحمل المحنة والشدة أو الصد عن دينه. {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت:10] أي: إن حصل للمسلمين نصر وغنيمة وفتح جاءوا وقالوا: لقد كنا معكم، وطلبوا المشاركة في الغنيمة، وإن حصل نكبة أو هزيمة ارتدوا عن دينهم، وهذا كقوله تعالى في سورة الحج: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11] أي: ارتد عن دينه، فإن أصابه خير من فتح ونصر وغنيمة قال: هذا دين طيب، وإن حصل للمسلمين نكبة أو هزيمة ارتد عن دينه {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. وهنا بين أن المنافق لا يصبر على المحن ولا على الشداد، فإذا أصابته محنة أو شدة فإنه يرتد عن دينه، وإن حصل له مال وغنيمة وسعة ثبت؛ لأنه ليس لديه إيمان يثبت به قلبه، ولكنه كما في الآية الأخرى (على حرف)، نسأل الله السلامة والعافية. قال الله تعالى: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:10]، فالله تعالى يعلم ما في صدور العالمين من الإيمان والطاعة، ومن الكفر والنفاق. وقال سبحانه: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:11] أي: يعلم علم ظهور، فهو سبحانه عالم بحالهم، لكن المعنى: أنه سبحانه وتعالى يجعل من الأسباب ما يظهر به المنافق للناس ظهور عيان، فالمحن والشدائد والمصائب يتبين بها المؤمن الصابر الثابت على دينه من المنافق الذي ليس عنده إيمان ولا ثبات، فيظهر نفاقه عند المحن والشدائد، ولهذا قال سبحانه: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:11].

أوصاف المنافقين في سورة الأحزاب

أوصاف المنافقين في سورة الأحزاب قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1]. وذكر فيها شأنهم في الأحزاب، وذكر من أقوال المنافقين وجبنهم وهلعهم، كما قال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12] إلى قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18 - 20]. وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:60 - 61] إلى قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:73]]. ذكر الله تعالى هذه الآيات في أوصاف المنافقين وفي شأنهم، وهي في سورة الأحزاب، وسميت الأحزاب باسم غزوة الأحزاب التي تحزب فيها الكفار وتجمعوا من كل قوم حتى أحاطوا بالمدينة النبوية؛ للقضاء على الإسلام والمسلمين، قال الله تعالى في أول هذه السورة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1]. قوله: {اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] أمر، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مأموراً بالتقوى فغيره من باب أولى، وتقوى الله هي جماع الدين، وهي أصل الدين وأساس الملة، قال طلق بن حبيب: تقوى الله أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله. فاجعل بينك وبين النار وغضب الله وقاية بالتوحيد وأداء الواجبات وترك المحرمات. وقوله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] نهى عن طاعة الكفار والمنافقين، وهذا يراد به التنبيه بالأعلى على الأدنى، أي: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم يوجه إليه هذا الخطاب فغيره من باب أولى، فالمؤمنون مأمورون بتقوى الله، ومأمورون بألا يطيعوا الكافرين والمنافقين، ومأمورون بالتوكل على الله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:3]. ثم بين الله سبحانه وتعالى في هذه السورة أنه في وقت الشدائد والمحن في غزوة الأحزاب ظهر النفاق، وذلك أن غزوة الأحزاب حصل فيها محن وشدائد على المؤمنين، ورمتهم العرب عن قوس واحدة، وذلك أن بعض رؤساء اليهود ذهبوا إلى كفار قريش وحرضوهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وواعدوهم بأن يساعدوهم، وذهبوا إلى غيرهم من القبائل فاستجابوا لهم وتحزبوا وتجمعوا. فجاءت قريش بقيادة أبي سفيان، وجاءت غطفان وغيرهم من العرب، وكان في المدينة ثلاث قبائل من اليهود قد صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: بنو قينقاع، وبنو قريظة، وبنو النضير، فنقضت بنو النضير العهد فأجلوا، ونقضت بنو قريظة أيضاً، فكانت هذه الأيام شديدة على المسلمين. ولكن الله سبحانه وتعالى بعد ذلك فرج كربة المؤمنين، ونصرهم بالملائكة والريح بجنود لم يرها المسلمون؛ بسبب تقواهم، تحقيقاً لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]. ولهذا خاطب الله المؤمنين وأمرهم بأن ينصروا الله، وذكر نعمته عليهم حيث نجاهم من عدوهم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب:9]، وهم جنود من الكفرة من جميع القبائل ومعهم قريش، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] أي: جنوداً من الملائكة، {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:9 - 10]، فبعضهم نزل في أسفل المدينة وبعضهم نزل في أعلاها. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق لما سمع بقدوم قريش، وكان ذلك بإشارة من سلمان الفارسي، فأمر بحفر الخندق حول المدينة؛ حتى لا تقتحمه الخيول. {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] أي: من شدة هذا الأمر، {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11]. وبعد ذلك ذكر أهل النفاق فقال: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]. وذلك أن بعض المنافقين قال: أين محمد الذي يعدنا بأن نأكل من خزائن كسرى وقيصر وأحدنا لا يستطيع أن يذهب إلى الخلاء من شدة الخوف؟! {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [الأحزاب:13] يعني: المنافقين، {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13] قال الله: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13]. ثم قال: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} [الأحزاب:14] يعني: المدينة {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} [الأحزاب:14] أي: لارتدوا وسارعوا إلى الكفر. ثم قال: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:15 - 17]، فكل هذه من أوصاف المنافقين. ثم قال سبحانه: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18] أي: أنهم يعوقونهم ويثبطونهم، {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] أي: الحرب والقتال، {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب:19] أي: إذا ذهب الخوف والحرب والقتال صاروا أشحاء وبلغاء يتكلمون بكلام فصيح بليغ، فيطالبون بحقوقهم والمشاركة في الغنيمة، فإذا جاء الخوف والحرب {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:19]، قال الله: {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب:19] أي: بكفرهم وضلالهم ونفاقهم، {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:19]. ثم قال سبحانه: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ} [الأحزاب:20]، وهذه من شدة هلعهم وخوفهم، فقد ارتحل الأحزاب وذهبوا ولكن هؤلاء من شدة خوفهم لا يزالون هلعين خائفين، {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} [الأحزاب:20] أي: أنهم إذا جاء الأحزاب يتمنون أنهم ليسوا في المدينة بل خارج المدينة في البوادي، فيسمعون الأخبار وماذا حصل للمسلمين، وهذا من شدة خوفهم، {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:20 - 21]. فهذه أوصاف المنافقين بينها الله لنا لنحذرها، فالمؤمن يرجو ثواب الله والدر الآخرة، لذلك تجد عنده شجاعة وإقداماً، وقوة وثبات قلب، وليس كالمنافقين الهلعين الخائفين، ولهذا وصف الله المؤمنين فقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا ع

أوصاف المنافقين في سورة محمد

أوصاف المنافقين في سورة محمد قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى في سورة القتال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:29 - 30] إلى ما في السورة من نحو ذلك]. هذه الآيات في سورة القتال ويقال لها: سورة محمد. يقول الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد:29]، هذا المرض هو مرض النفاق والشك والشبهة، وهو أشد من مرض الشهوة، ومرض الشهوة هو مرض المعاصي، ومرض الشبهة هو مرض القلب ومرض الشك والريب والنفاق. {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد:29]، بل إن الله تعالى سيخرج أضغانهم، ويبين صفاتهم لعباده المؤمنين، ولهذا قال سبحانه: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:30] ولكنه سبحانه وتعالى أخفى ذلك؛ لتكون الأحكام على الظاهر، وتوكل السرائر إلى الله عز وجل. {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] أي: قد يظهر من أقوالهم ما يدل على ما تخفيه بواطنهم، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30]. ثم قال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] أي: أن الله تعالى يختبر عباده في السراء والضراء والمحن والشدائد؛ حتى يتميز الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق كما قال سبحانه في آية العنكبوت: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:11].

أوصاف المنافقين في سورة الفتح

أوصاف المنافقين في سورة الفتح قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى في سورة الفتح: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا * وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:4 - 6]]. هذه الآيات في سورة الفتح، وقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] المراد بالفتح هنا: صلح الحديبية، وسمي فتحاً لأنه مقدمة الفتح، فلما عقد النبي صلى الله عليه وسلم الهدنة والصلح بينه وبين الكفار عشر سنين تضع الحرب فيها أوزارها اختلط الكفار بالمسلمين، فلما سمعوا كلام الله وكلام رسوله أسلم منهم عدد كبير، وتفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لفتح خيبر، فحصل خير عظيم، ثم نقضت قريش العهد بعد سنتين، فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفتح مكة، وسماه الله فتحاً. وجاء في بعض الأحاديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أفتح هو؟ قال: نعم)، ولهذا قال الله سبحانه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] وهو صلح الحديبية، {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]. وقال فيها سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح:4 - 5]، ثم قال سبحانه: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الفتح:6]، فهذا جزاء المنافقين والمشركين، {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح:6]، وظن السوء هذا جاء تفسيره بأنهم ظنوا أن الله تعالى لا يحفظ رسوله والمؤمنين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سيقتل ويقضى على الإسلام والمؤمنين فلا تبقى للإسلام قائمة، فهذا هو ظن السوء. فمن كان يظن أن الحق سيقضى عليه، وأن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة ينتهي معها الحق ولا يبقى إلا الباطل فقد ظن بالله ظن السوء؛ لأن الله تعالى وعد أنه سينصر دينه، فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، فلابد أن يظهر هذا الدين، ولهذا جاء في الحديث: (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك بيت مدر ولا شعر إلا أدخله بعز عزيز أو بذل ذليل). وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى). فالحق لابد أن يبقى، والطائفة المنصورة باقية إلى قيام الساعة، لكن هذه الطائفة تقل أحياناً وتكثر أحياناً، وتكون مجتمعة أحياناً وتكون متفرقة أحياناً أخرى، فقد تكون مثلاً في بعض الأزمنة في الجزيرة العربية، وقد تكون في الشام، وقد تكون في مصر، وقد تكون في إفريقيا، وقد يكون بعضها هنا وبعضها هناك، وفي آخر الزمان قبيل خروج الدجال تكون في الشام، وقبيل خروج المهدي تحصل الفتن، فأهل الحق يجتمعون في الشام بعد الحروب الطاحنة التي تحصل لهم، وبعد فتح القسطنطينية يخرج الدجال، ثم ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح:6] أي: سيعود وبال ظنهم عليهم، فهذا الظن كفر، فمن ظن بالله هذا الظن فقد ظن بالله ظن السوء، فعليه دائرة السوء، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيراً. فالواجب على المسلم أن يظن بالله الظن الحق وأن يحسن الظن بربه، وأن يعلم أن هذا الدين لابد أن ينتصر، وأن الله لابد أن يظهر دين الإسلام، وفي الحديث القدسي الصحيح يقول الرب عز وجل: (أنا عند ظن عبدي فليظن بي ما شاء) أو كما جاء في الحديث. وهذا فيه تحذير لنا من صفات المنافقين، ولهذا بين هذا الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه في كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154]، وذكر هذه الآية: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح:6] قال: هو أن يظن بالله أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة، وأنه لا يبقى على الحق أحد. قال: (ولو فتشت من فتشت لوجدت عنده تعنتاً على القدر واعتراضاً عليه، وأنه ينبغي أن يكون كذا، ولماذا يكون كذا؟) فبعض الناس يعترض على الله: أنه لماذا يكون كذا؟ ولماذا يقدر كذا؟ ولماذا يعطي هذا؟ ولماذا يجعل هذا غنياً؟ ولماذا يجعل هذا فقيراً؟ ثم قال الشيخ رحمه الله: (وفتش نفسك هل أنت سالم)، أي: فتش نفسك هل أنت سالم من هذه الظنون السيئة أو غير سالم. فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لأخالك ظالما. يعني: كل واحد يفتش نفسه ويتفقد حاله من هذه الظنون السيئة بالله. ومن الظنون السيئة: الاعتراض على الله وعلى قدره وعلى إنعامه على من أنعم عليه، والله تعالى ذكر صفات المنافقين هذه لنحذرها.

أوصاف المنافقين في سورة الحديد

أوصاف المنافقين في سورة الحديد قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى في سورة الحديد: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:12 - 15]]. هذه الآيات فيها بيان حال المؤمنين وحال المنافقين، ففيها حال المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله باطناً وظاهراً، واستقاموا على توحيد الله وطاعته، وفيها حال المنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، ودبروا الحيل والمكائد في الدنيا للقضاء على الإسلام والمسلمين، فماذا كان حالهم؟ وماذا كانت نتيجتهم؟ لقد كانت النتيجة أن الله تعالى نجى المؤمنين من شدائد يوم القيامة وأهوالها، فحصلوا على الفوز العظيم، والنعيم المقيم، وأما المنافقون فإن نفاقهم وكفرهم خذلهم في أحرج المواقف، وانطفأ نورهم وصاروا في الظلمات، ثم سيقوا إلى الجحيم والدركات في النار، نسأل الله السلامة والعافية، فبين الله حالهم ومآلهم فقال: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12] أي: أمامهم، فيمشون في النور، فلما كانوا صادقين في إيمانهم صار هذا النور المعنوي في الدنيا نوراً حسياً حقيقاً في الآخرة، فيكون أمامهم ويكشف لهم الطريق؛ ليمشوا على بصيرة، {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد:12] فتبشرهم الملائكة بذلك. وأما المنافقون فقال عنهم: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13] أي: يمشى المنافقون والمؤمنون جميعاً في النور، ثم ينطفئ نور النفاق، فالمنافقون لا يزالون في خداعهم فيظنون أنهم مع المؤمنين، فلما كانوا مع المؤمنين في الدنيا ظنوا أن هذا سينفعهم في الآخرة، فمشوا معهم يوم القيامة فانطفأ نورهم، وبقي نور المؤمنين مضيئاً، فقالوا للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] أي: اصبروا وانتظرونا فليس عندنا نور، فقال لهم المؤمنون: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ} [الحديد:13] أي: فصل بينهم وبين المؤمنين {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} [الحديد:13] أي: من قبل المؤمنين، {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] من قبل المنافقين، ثم سوقوا إلى النار عياذاً بالله، فهذا جزاؤهم بسبب كفرهم وعنادهم. قوله: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد:14] أي: لما انطفأ نور المنافقين وضرب بينهم بسور جعل المنافقون ينادون المؤمنين، فليس لديهم الآن إلا النداء: ألم نكن معكم في الدنيا فكنا نصلي معكم، ونصوم معكم، ونجاهد معكم؟ فما الذي حصل؟ ولماذا افترقنا؟ {قَالُوا بَلَى} [الحديد:14] أي: كنتم معنا، {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] فلستم على استقامة، ولستم على إيمان، ولستم على توحيد. {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحديد:15]، لا يمكن أن تفدوا أنفسكم من عذاب الله لا أنتم ولا الكفار ظاهراً وباطناً، {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:15]، فهذه عاقبة الكفار والمنافقين، نسأل الله السلامة والعافية.

أوصاف المنافقين في سورة المجادلة

أوصاف المنافقين في سورة المجادلة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى في سورة المجادلة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة:8] إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:14 - 16] إلى آخر السورة. وقوله: {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} [المجادلة:14]]. هذه الآيات من سورة المجادلة في صفات المنافقين، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8]. فنهاهم الله عن النجوى والتناجي بالسر؛ لأن الكفار قد يتناجون بالكلام فيما بينهم بما فيه مضرة على المسلمين، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، فلم ينته هؤلاء المنافقون عن ذلك؛ عصياناً لله ولرسوله، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ} [المجادلة:8] أي: أنهم استمروا في تلك الخصلة الذميمة، {بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المجادلة:8] أي: بما فيه إثم ومعصية، وبما فيه عدوان على المسلمين في دمائهم أو أموالهم أو أعراضهم. قوله: {وَإِذَا جَاءُوكَ} [المجادلة:8] الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، {حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة:8]. وهذا في المنافقين من اليهود، فإنهم إذا جاءوا إلى صلى الله عليه وسلم يظهرون أنهم يسلمون عليه فيقولون: السام عليك، فيحذفون اللام، والسام هو الموت. وكان يرد عليهم فيقول: وعليكم، فسمعتهم عائشة! من وراء الحجاب فقالت: وعليكم السام واللعنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة إن الله يبغض الفحش والتفحش، فقالت: يا رسول الله! ألم تسمع ما قالوا؟ قال: ألم تسمعي ما قلت: وعليكم، فرددت عليهم تحيتهم، فإنها تقبل منا ولا تقبل منهم). قوله: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8] أي: لو كان نبياً لعذبنا الله على مقولتنا له، فأنزل الله: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8] أي: مصيرهم، وبئس المقام مقامهم. وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} [المجادلة:14] وهذا وصف المنافقين على الصحيح، والذين غضب الله عليهم هم اليهود، فالمنافقون يتولونهم من دون المؤمنين، ويحبونهم وينصرونهم ويؤيدونهم، وموالاة الكفار ومحبتهم لدينهم كفر وردة، وقد وقع هذا من المنافقين، فإنهم يتولون اليهود الذين وصفهم الله بقوله: {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المجادلة:14]. قوله: {مَا هُمْ مِنْكُمْ} [المجادلة:14] أي: أن المنافقين ليسوا من المؤمنين، {وَلا مِنْهُمْ} [المجادلة:14] أي: وليسوا من اليهود، بل هم صنف ثالث. ومن أوصافهم: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14] أي: يحلفون على الكذب وهم يعلمون أنه كذب نعوذ بالله، فالله تعالى قص علينا خبرهم ونبأهم وبينا لنا أوصافهم لنحذرها، فالواجب على المسلم أن يحذر من تولي الكفرة واليهود، ويحذر من الحلف على الكذب. قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:15 - 16] أي: جعلوا أيمانهم سترة في إخفاء كفرهم ونفاقهم، فإذا جاءوا إلى النبي حلفوا له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ظواهرهم ويكل السرائر إلى الله، فلما تخلفوا عن غزوة تبوك جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فحلفوا له أنهم لا يستطيعون، وأن لهم أعذاراً، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ظواهرهم وحالهم، ووكل سرهم إلى الله، فهم اتخذوا أيمانهم جنة وسترة يتسترون بها لإخفاء كذبهم وكفرهم ونفاقهم، {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المجادلة:16] أي: بذلك {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:16] * {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المجادلة:17] أي: لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم يوم القيامة، بل سيخلدون في النار، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18] أي: أنهم يوم القيامة إذا بعثوا فإنهم يبقون على كذبهم وخداعهم، فيحلفون أمام الله عز وجل أنهم صادقون كما يحلفون للمؤمنين في الدنيا، ويظنون أن هذا ينفعهم. {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة:19] أي: توحيده وطاعته، {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة). أي: أن المنافقين مذبذبون، فلهم ظاهر ولهم باطن، فظاهرهم مع المؤمنين وباطنهم مع الكفار، لذا شبههم النبي صلى الله عليه وسلم بالشاة بين الغنمين، فهي مرة تذهب مع هذه الغنم ومرة تذهب مع الغنم الأخرى، فليس عندها ثبات، وكما قال الله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143] أي: لا إلى المؤمنين ولا إلى الكفار، فمرة مع المؤمنين ومرة مع الكفار، فهم يخافون وعندهم ذعر يقولون: نجعل يداً مع المؤمنين ويداً مع الكفار. قال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143] لا إلى المؤمنين ولا إلى الكفار، فهم مرة مع المؤمنين ومرة مع الكفار، وعندهم ذعر وخوف، فهم يقولون: نكون مع المؤمنين، فإن انتصر المؤمنون شاركناهم في الغنيمة، وكنا معهم، وإن انتصر الكفار صرنا معهم، فليس عندهم ثبات، ولا إيمان، وهذا فيه تحذير من صفات المنافقين، وفيه حث على الإيمان والثبات والاستقامة.

أوصاف المنافقين في سورة الحشر

أوصاف المنافقين في سورة الحشر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى في سورة الحشر: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ * لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:11 - 13]]. هذه الآيات في سورة الحشر، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} [الحشر:11]؛ ولأنهم منافقون {يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحشر:11] وهم اليهود. وذلك أن عبد الله بن أبي وغيره من المنافقين جاءوا إلى يهود بني قريظة، وحرضوهم على نقض العهد، وقالوا لهم: نحن معكم؛ إن قاتلكم محمد قاتلنا معكم، وإن أخرجكم خرجنا معكم، فهؤلاء المنافقون يمنون اليهود بهذا الكلام، وهم أجبن من أن يقاتلوا؛ ولهذا أنزل الله فيهم قوله: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} [الحشر:11] يعني: من المدينة {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر:11] فبين كذبهم بقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:11 - 12]، وهذا وصف المنافقين بأنهم كذبة. وعندما أخرج اليهود لم يخرجوا معهم، بل ما استطاعوا الخروج، ولما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة لم ينصروهم، ولا قربوا منهم، فهم يخشون على أنفسهم، ولو قاتلوا على الفرض والتقدير، لولوا منهزمين، قال الله تعالى في وصفهم: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:13]، هذا وصف المنافقين بأنهم يخشون المؤمنين ويخافونهم أشد من خوفهم من الله؛ لأنهم ليس عندهم إيمان، فلو كان عندهم إيمان لخافوا الله، ولكنهم يخافون من المؤمنين أن يطلعوا على ما في نفوسهم من النفاق فيقتلونهم، {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13]. ثم ذكر الله من أوصاف اليهود، فقال: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14]، وهذا الوصف هو أنهم لا يقاتلون، وهنا وصف بالجبن والهلع، فلا يقاتلون إلا في قرى محصنة أي: من وراء حصون، ولا يبرزون إلى الصحاري؛ لأنهم لا يؤمنون ولا يرجون الشهادة، {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحشر:14 - 15]. ثم ضرب الله مثلين، مثلاً بالذين من قبلهم من الذين ذاقوا وبال أمرهم، والمثل الثاني هو الشيطان في قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16]. أي: ومثل المنافقين عندما يحرضون المنافقين على نقض العهد ويقولون لهم: إننا معكم، وهم يكذبون في ذلك، فلما نقضوا العهد تركوهم، فمثلهم هذا كمثل الشيطان عندما دعا الإنسان للكفر؛ فلما كفر تبرأ منه. وقد جاء في سبب نزول هذه الآية: أنها نزلت في عابد جاءه الشيطان، فلم يزل به حتى زنى بامرأة وحملت، ثم قتل الولد، فأخذ وصلب، فجاءه الشيطان وقال له: أنا الذي فعلت بك كذا وكذا، وأنا الذي أخلصك إذا فعلت شيئاً واحداً، قال: وما هو؟ قال: تومئ لي برأسك بالسجود، فأومأ له برأسه بالسجود، فقال: أنا بريء منك، فتبرأ منه، فأنزل الله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر:16]. ووجه الشبه أن المنافقين قالوا لليهود: انقضوا العهد، وقاتلوا محمداً ونحن معكم، فلما نقضوا العهد تبرءوا منهم، وهذا المثل {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16 - 17]، نسأل الله السلامة والعافية. وقد ذكر الله هذه الأوصاف تحذيراً لنا؛ لئلا يصيبنا ما أصابهم.

[8]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [8] الآيات القرآنية الواردة في ذكر صفات المنافقين كثيرة، بل أنزل الله سورة كاملة باسمهم وبين فيها صفاتهم، وقد صار الفقهاء يطلقون مصطلح الزنديق على المنافق، وذلك لما كثر المسلمون من العجم وتداولوا هذا المصطلح، واختلف الفقهاء في حكم الزنديق وقبول توبته.

أوصاف المنافقين في سورة المنافقون

أوصاف المنافقين في سورة المنافقون

المنافقون يظهرون خلاف ما يبطنون

المنافقون يظهرون خلاف ما يبطنون قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر في سورة المنافقين قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] إلى آخر السورة، والمقصود بيان كثرة ما في القرآن من ذكر المنافقين وأوصافهم]. ذكر الله تعالى سورة كاملة في شأن المنافقين تسمى سورة المنافقين، بين الله تعالى فيها أوصافهم وأخلاقهم؛ تحذيراً لعباده المؤمنين أن يتصفوا بصفاتهم، قال سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون:1] وهم الذي كفروا في الباطن، وأظهروا الإسلام في الظاهر {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1] هذا قولهم باللسان {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] إذاً: لهم ظاهر وباطن، ظاهرهم الشهادة لله تعالى بالوحدانية باللسان، وكذلك الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأما في الباطن فقلوبهم مكذبة. {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:16] أي: اتخذوا أيمانهم وقاية يتقون بها العقوبات التي تصيبهم في الدنيا، فكلما فعلوا شيئاً حلفوا أيماناً أنهم ما فعلوا فيسلمون من العقاب؛ لأن الأحكام إنما تكون على الظاهر، والسر تكله إلى الله، فجعلوا أيمانهم وقاية. وهذا فيه تحذير للمؤمن من الأيمان، فنجد بعض المؤمنين يحلف ولا يبالي، وهذه من صفات المنافقين، وبئسما صنعوا، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3] آمنوا: عرفوا الحق، ووضح لهم، ثم كفروا، فلما كفروا بعد وضوح الحق عوقبوا بأن طبع الله على قلوبهم، فجعل عليها غلافاً كالطابع. وفي آية أخرى أخبر عنهم سبحانه بقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة:88] أي: إذاً قلوبهم عليها غلاف وطابع وختم؛ بسبب تركهم الحق، وإعراضهم عنه بعد وضوحه، كما قال تعالى عن أهل القرى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] فقد أزاغ الله قلوبهم بسبب زيغهم وتركهم الحق بعد وضوحه. وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] ومن أوصافهم أنهم ممن يعجبك منظرهم، وأيضاً كلامهم معسول وبليغ وفصيح، لكن القلوب خراب {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] أي: خاوية ليس فيها شيء فهي جوفاء. {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] وذلك بسبب ما في قلوبهم من الهلع، يظنون كل أمر وبلاء ينزل نازلاً بهم، ويرون أن كل حادثة هي عليهم؛ بسبب ما في قلوبهم من الريب والزيغ. قال الله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] أي: هم العدو الحقيقي اللدود، شديد العداوة، وإن كان اليهود أعداء، والنصارى أعداء، لكن هؤلاء أشد عداوة؛ ولهذا قال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].

المنافقون يرفضون استغفار الرسول لهم

المنافقون يرفضون استغفار الرسول لهم قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:5] أي: ومن صفاتهم أنهم {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5] فإذا جاء الرسول ليستغفر لهم لووا رءوسهم كأنهم لا يحتاجون؛ لما في قلوبهم من الكفر والنفاق، فإذا استغفر لهم أعرضوا وصدوا ولم يقبلوا {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5]. قال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:6] يعني: ما داموا على كفرهم ونفاقهم؛ فلن يجدوا المغفرة، حتى ولو استغفر لهم الرسول عليه الصلاة والسلام.

المنافقون يصدون الناس عن الرسول

المنافقون يصدون الناس عن الرسول قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] أي من أوصافهم أنهم يقولون لبعضهم البعض: لا تنفقوا على المؤمنين، ولا تبذلوا أموالكم، بل اتركوهم في حاجتهم وفقرهم، حتى ينفضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ويتركوه، فلا يبقى عنده أحد، وهذا من ظنهم السيئ أن الإسلام سينتهي، فهم يقولون: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [المنافقون:7] أي: من الصحابة لعلهم ينفضون عنه ويتركونه ولا يبقى معه أحد. فقال الله رداً عليهم: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7]، أي: إذا منعتم النفقة أنتم، فإن الله له خزائن السموات والأرض، فالرزق بيد الله.

سبب نزول قوله تعالى (يقولون لئن رجعنا)

سبب نزول قوله تعالى (يقولون لئن رجعنا) وذكر الله من أوصافهم قوله: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]. وهذه الكلمة قالها عبد الله بن أبي عندما حصل نزاع بين بعض المهاجرين وبعض الأنصار، والمهاجرون هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، والأنصار هم الذين نصروهم واستقبلوهم في المدينة حتى أعز الله المسلمين. والنزاع الذي حدث بين بعض الشباب من الأنصار والمهاجرين أن مهاجريا كسع أنصارياً، فتنادى هؤلاء وهؤلاء، وبلغ ذلك عبد الله بن أبي، فقال: أوفعلوها، وقال: ما حالهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك! يعني: جئنا بهم إلى المدينة والآن صاروا ضدنا. ثم قال: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ويقصد بالأعز نفسه، وبالأذل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فسمعها زيد بن أرقم، فأنزل الله: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، ولما سمع عبد الله بن أبي ابنه عبد الله، وكان من أصلح عباد الله، جاء ووقف أمام أبيه بالسيف، وقال: والله لا تدخل المدينة؛ حتى تكون أنت الأذل والرسول هو الأعز! وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إني سمعت أنك تقتل عبد الله -يعني أباه- وإني لا أستطيع أن أرى قاتل أبي، ولكن إن أردت قتله، فأمرني أن آتيك برأسه! فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: لا، نستبقيه؛ حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، فأنزل الله قوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] أي: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين أبداً دائماً إلى يوم الدين، رغم أنوف الكافرين والمنافقين، واليهود والنصارى، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] أي: لا يعلمون أن العزة باقية لله ولرسوله وللمؤمنين. فنسأل الله أن يعزنا بطاعته، ونسأل الله أن يعز الإسلام وأهله، وأن يذل الشرك وأهله، وأن يخذل الكفار والمنافقين ويهلكهم، ويقطع دابرهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

مسائل متعلقة بالمنافقين

مسائل متعلقة بالمنافقين قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، ونور ضريحه: [والمنافقون هم في الظاهر مسلمون، وقد كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يلتزمون أحكام الإسلام الظاهرة -لاسيما آخر الأمر- ما لم يلتزمه كثير من المنافقين الذين من بعدهم؛ لعز الإسلام وظهوره إذ ذاك بالحجة والسيف، تحقيقاً لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]]. يقول المؤلف: (والمنافقون هم في الظاهر مسلمون)، هذا هو المنافق، والمنافق: هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فهم في الظاهر مسلمون وفي الباطن منافقون، وهم كفرة؛ لأنهم شاركوا الكفار في الكفر، وزادوا عليهم بالخداع، حيث أظهروا الإسلام، ولهذا كانت عقوبتهم أشد، وعذابهم كذلك أشد في الآخرة.

العلة في التزام المنافقين حال قوة المسلمين

العلة في التزام المنافقين حال قوة المسلمين وذكر المؤلف رحمه الله أن المنافقين صاروا يلتزمون بأحكام الإسلام الظاهرة، ولا سيما في آخر الأمر لما قوي المسلمون، وظهر الإسلام، وأعز الله رسوله والمؤمنين، فصاروا يلتزمون بأحكام الإسلام الظاهرة ولا يخالفونها؛ خوفاً من سطوة الإسلام والمسلمين عليهم لو أظهروا كفرهم ونفاقهم، فالتزموا بأحكام الإسلام ما لم يلتزمه كثير من المنافقين الذين من بعدهم؛ لأن قوة الإسلام عند النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أقوى منها فيمن بعدهم. وإذا قوي المسلمون التزم المنافقون بأحكام الإسلام في الظاهر، وإذا ضعف المسلمون ضعف التزام المنافقين بأحكام الإسلام، وصاروا يظهرون حقيقتهم، فالمنافقون يتحينون الفرص؛ ليظهروا ما يخفون من الكفر والنفاق. فإن كان الإسلام قوياً، وكان المسلمون أقوياء يقيمون الحدود، فحينئذ يلتزم المنافقون بأحكام الإسلام؛ خوفاً من أن تقطع رقابهم، وأن تؤخذ أموالهم. ولهذا بين المؤلف رحمه الله بأن المنافقين التزموا بأحكام الإسلام في الظاهر، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر، وذلك لعز الإسلام وظهوره إذاك بالحجة والسيف، فالإسلام قوي بالحجة والبرهان والبيان، والمسلمون أقوياء يظهرون الإسلام ويبينون محاسنه، ويبينون وجوب التزامه، فلا يستطيع المنافقون أن يقابلوا الحجة بالحجة، إذ ليس عندهم حجج. وكذلك كان المسلمون لهم الغلبة بالسيف والقوة والسلطان، فمن أظهر النفاق قتل؛ فلهذا صار المنافقون يلتزمون أحكام الإسلام، حتى لا تقام عليهم الحدود. يقول المؤلف: [وتحقيقاً لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]]. أي: أن الله تعالى وعد في هذه الآية الكريمة، بأنه مظهر دينه على الدين كله، وعلى جميع الأديان، وقد وقع ذلك.

إطلاع الله لنبيه على أسماء المنافقين

إطلاع الله لنبيه على أسماء المنافقين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وكان من أعلم الصحابة بصفات المنافقين وأعيانهم، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أسر إليه عام تبوك أسماء جماعة من المنافقين بأعيانهم؛ فلهذا كان يقال هو صاحب السر الذي لا يعلمه غيره]. حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أسر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض أسماء المنافقين، فكان من أعلم الصحابة بصفات المنافقين وأعيانهم، فكان يقال: هو صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، كما روى ذلك البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده وابن حبان والنسائي عن أبي الدرداء قال: أليس فيكم صاحب السر، الذي لا يعلمه غيره؟ يعني: حذيفة.

قاعدة في الصلاة على موتى المنافقين ونحوهم

قاعدة في الصلاة على موتى المنافقين ونحوهم قال المؤلف رحمه الله: [ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لم يكن يصلي على أحد حتى يصلي عليه حذيفة رضي الله عنه؛ لئلا يكون من المنافقين الذين نهى الله تعالى عن الصلاة عليهم]. وذلك لأن الله تعالى نهى عن الصلاة عليهم بقوله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84] وهذه الآية فيها النهي عن الصلاة على الكفار، وقد ذكر الله تعالى العلة في ذلك قال: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:84] فمن علم كفره فلا يصلى عليه، ومن لم يعلم كفره فإنه يصلى عليه ولو كان فاسقاً، إلا أنه جاء في بعض الأحاديث أن النبي تأخر عن الصلاة على بعض الفساق، كالغال من الغنيمة، والقاتل نفسه، وغيرهم ممن جاء النص بأنه لا يصلى عليه، فإنه لا يصلي عليهم أعيان الناس ووجهاؤهم وعلماؤهم، ولكن يصلي عليهم بقية الناس؛ ليكون في ذلك تحذير للأحياء من أن يفعلوا ذلك فلا يصلى عليهم، ولكن يصلي عليه عامة المسلمين؛ لأنه مسلم. والقاعدة في هذا: أنه من علم كفره فإنه لا يصلى عليه، ومن لم يعلم كفره فإنه يصلى عليه؛ لهذه الآية وهي قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] ثم ذكر العلة فقال: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]. فكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على أحد حتى يصلي عليه حذيفة، خشية أن يكون من المنافقين الذين نهى الله عن الصلاة عليهم، فإذا صلى حذيفة على شخص صلى عليه عمر؛ لأن حذيفة صاحب السر، أي: الذي أسر إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين وأعيانهم.

خطورة النفاق

خطورة النفاق قال المؤلف رحمه الله: [قال حذيفة رضي الله عنه: النفاق اليوم أكثر منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسرونه، واليوم يظهرونه]. وهذا رواه البخاري في الفتن، ورواه ابن أبي شيبة أيضاً في الفتن، وأبو نعيم في الحلية، والفريابي في صفة النفاق. وكونهم يسرونه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فذلك لقوة الإسلام وعزه بالحجة والسيف. وأما بعد ذلك فإن المسلمين حصل لهم بعض الضعف، فصار المنافقون يظهرون النفاق، وكذلك الآن في هذا الزمن تجد بعض المنافقين وبعض العلمانيين يظهرون نشاطهم في الصحف وفي المجلات إذا أمنوا إقامة الحدود، وإن خافوا أن تقام عليهم الحدود تجدهم إما أن يعتذروا وإما أن يؤولوا.

خوف السلف من النفاق

خوف السلف من النفاق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكر البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن ابن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه]. هذا الأثر ذكره البخاري أيضاً في صحيحه في كتاب الإيمان تحت هذه الترجمة: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. وقال إبراهيم التيمي: (ما عرضت قولي على عملي، إلا خفت أن أكون مكذباً). يعني: إن الإنسان في الغالب تكون الأقوال عنده أكثر من الأعمال وأوسع، فالإنسان يتكلم بكلام طيب، لكن عند التطبيق يضعف، ولهذا قال إبراهيم التيمي: (ما عرضت قولي على عملي إلا خفت أن أكون مكذباً)؛ لأن القول طيب، وأما العمل فهو ضعيف. وقال الحسن البصري: (ما خافه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق). يعني: ما خاف النفاق إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق، فالمنافق يأمن من النفاق؛ لأنه منافق، والمؤمن يخافه على نفسه وذلك دليل إيمانه. قال ابن أبي مليكة، كما ذكر المؤلف: [أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ثم قال: ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل]. وهذا فيه رد على المرجئة الذين يقولون: إن إيمان جبريل وميكائيل وإيمان سائر الناس سواء، وإيمان أهل السماء وأهل الأرض سواء، وهذا معناه أن إيمان أفجر الناس وأتقى الناس سواء. ولهذا قال الطحاوي في الطحاوية: (والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء)، أي: أهل الإيمان في أصله سواء، فالناس كلهم مؤمنون، وكلهم أولياء لله. فكان الصحابة كلهم يخاف النفاق على نفسه الأصغر؟ وإن كان ظاهر الترجمة وهي باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر أنه النفاق الأكبر؛ لأن الذي يحبط العمل النفاق الأكبر، ولكن آخر الأثر: (ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل)، يدل على أن المراد هو النفاق الأصغر، يعني: كل منهم يعتقد أنه ناقص الإيمان، وأنه لا يصل إلى ما وصل إليه جبريل وميكائيل. الصحابة لا يخافون أن يكفروا بالله ورسوله، وإنما يخافون من نفاق يكون في الأعمال. قال الحافظ: قد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال غير واحد ولم ينقل عن غيرهم خلاف في ذلك، وكأنه إجماع؛ وذلك لأن المؤمن قد يعرض له في علمه ما يشوبه مما يخالف الإخلاص.

العبادات لا تقبل من المنافقين

العبادات لا تقبل من المنافقين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يصلون ويزكون، وأنه لا يقبل ذلك منهم، فقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]. قوله: (فقال تعالى) في نسخة أخرى: وقال تعالى، والأحسن صيغة (وقال تعالى). والآية قد أخبر الله فيها عن المنافقين أنهم يصلون ويزكون، وأنه لا يقبل ذلك منهم، ومثلها قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54]. إن من أوصاف المنافقين أنهم ارتضوا الخداع والكسل عند الصلاة والمراءاة بها، وهذه أوصاف مشينة، وفيه تحذير للمؤمن من هذه الأوصاف، فلا ينبغي للمؤمن أن يخادع، بل يجب أن يكون أمره واضحاً. وكذلك على المؤمن أن يقوم إلى الصلاة برغبة ولا يقوم بكسل وتثاقل، وكذلك يحذر المؤمن من الرياء، ويخلص عمله لله، فإن الرياء من صفات المنافقين، وعدم ذكر الله عز وجل كثيراً من صفاتهم أيضاً، فهذه أربعة أوصاف من أوصاف المنافقين: الخداع، والكسل عند إقامة الصلاة، والرياء، وقلة ذكر الله.

سبب عدم قبول عبادات المنافقين

سبب عدم قبول عبادات المنافقين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:53 - 54]]. هنا بين الله سبحانه وتعالى أن المنافقين لا تقبل منهم نفقاتهم، ولا تقبل صلاتهم، وبين العلة، وهي كفرهم بالله ورسوله. إن التوحيد هو المصحح للأعمال، فمن كان من أهل التوحيد صحت أعماله وقبلت، ومن كان من أهل النفاق والكفر بطلت أعماله وردت، فأي موحد أخلص عمله قبل منه ولو كان عاصياً، فالعاصي نقول له: صلاتك صحيحة، أو زكاتك صحيحة، ولو كان عنده بعض المعاصي، كعقوق الوالدين أو قطيعة الرحم، أو شرب الخمر أو الدخان، أو حلق اللحية، فهذه المعاصي لا تمنع من قبول عباداته إذا كان موحداً. لكن الكافر لا يقبل منه أي عمل؛ لأنه ليس عنده توحيد، بل أشرك بالله، فلا تقبل عباداته؛ لأن المصحح للأعمال كلها هو التوحيد، والمبطل للأعمال كلها هو الشرك والكفر، ولهذا بين الله سبحانه وتعالى سبب عدم قبول الصلاة والزكاة فقال: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة:54] فهذا هو المانع المبطل لأعمالهم، وفي هذا تحذير للمؤمن من أن يتصف بصفات المنافقين، فإن إتيان الصلاة عن كسل، والإنفاق مع الإكراه وصف نفاق، والمؤمن ينفق مع النشاط والطواعية وانشراح الصدر، لا كارهاً متبرماً، بخلاف المنافق؛ لأنه ليس عنده إيمان.

انكشاف أمر عبد الله بن أبي عند الصحابة

انكشاف أمر عبد الله بن أبي عند الصحابة قال المؤلف رحمه الله: [فقد كانوا يشهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم مغازيه، كما شهد عبد الله بن أبي بن سلول وغيره من المنافقين الغزوة التي قال فيها ابن أبي: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] وأخبر بذلك زيد بن أرقم النبي صلى الله عليه وسلم وكذبه قوم حتى أنزل الله القرآن بتصديقه]. وهذه القصة رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما، فقد كان عبد الله بن أبي رأس المنافقين، يشهد مع النبي مغازيه، ويصلي معه، وكان أيضاً يشهد معه الجمعة، وإذا صلى الجمعة قام وخطب في الناس وقال: احمدوا ربكم على هذا النبي الكريم، أطيعوه واتبعوه. ثم بعد غزوة تبوك قام وأراد أن يقول مثل الذي يقوله دائماً، فأخذه بعض الصحابة وقالوا: اجلس عدو الله، قد عرفنا أمرك، فخرج وهو يقول: أردت أن أشد أمره، فمنعني فلان وفلان. وقد حدث في غزوة تبوك، أو غزوة المريسيع على خلاف أن قال عبد الله بن أبي: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]، يعني: أنه هو الأعز والنبي صلى الله عليه وسلم هو الأذل، حاشاه، فسمع ذلك زيد بن أرقم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فكذبه قومه حتى شق عليه ذلك، فأنزل الله تصديقه في قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]. وهذا يدل على أن المنافقين يظهرون الإسلام، وهم مكذبون في الباطن، وهم يصلون الصلوات الخمس، لكنهم يتخلفون عن صلاة العشاء وصلاة الفجر؛ لأن صلاة العشاء والفجر في الظلام، ولا يراهم أحد ويخفون على الناس، وفي صلوات النهار يأتون، ويجاهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الزمن وفي جميع الأزمان نرى المنافقين يعيشون بين المسلمين، ويصلون معهم، وهم على كفرهم ونفاقهم، فمتى حانت لهم الفرصة أظهروا نفاقهم وكفرهم، وهم في الخفاء يخططون لهدم الإسلام، والإضرار بالمسلمين. قال المؤلف رحمه الله: [والمقصود أن الناس ينقسمون في الحقيقة إلى: مؤمن، ومنافق كافر في الباطن مع كونه مسلماً في الظاهر، وإلى كافر باطناً وكافراً]. فهذه هي أقسام الناس، وهذه الأقسام لا شك فيها، فقد دل عليها القرآن والسنة والإجماع، وهي معلومة من الدين بالضرورة.

ظهور مصطلح الزنديق والخلاف في حكمه

ظهور مصطلح الزنديق والخلاف في حكمه قال المؤلف رحمه الله: [ولما كثرت الأعاجم في المسلمين تكلموا بلفظ الزنديق، وشاعت في لسان الفقهاء، وتكلم الناس في الزنديق هل تقبل توبته في الظاهر إذا عرف بالزندقة، ودفع إلى ولي الأمر قبل توبته؟ فمذهب مالك رحمه الله تعالى، وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وطائفة من أصحاب الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، أن توبته لا تقبل. والمشهور من مذهب الشافعي رحمه الله قبولها، كالرواية الأخرى عن أحمد، وهو القول الآخر في مذهب أبي حنيفة، ومنهم من فصل].

ظهور هذا المصطلح وسببه

ظهور هذا المصطلح وسببه هذا الخلاف في قبول توبة الزنديق، والزنديق قد يطلق على المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وقد يطلق على الجاحد من أصله، ولفظ الزنديق هذا إنما تكلم الناس به عندما كثر المسلمون من الأعاجم بعد زمن الصحابة والتابعين، ودخل الناس في دين الإسلام، فتكلموا بلفظ زنديق، وهي كلمة فارسية معناها: المنافق، وشاعت في لسان الفقهاء، وتكلموا هل تقبل توبته الزنديق أو لا تقبل؟ والزنديق يطلق على المنافق، ويطلق على الجاحد المعطل الذي عطل الرب سبحانه وتعالى من أوصافه، وعطل المصنوعات من صانعها، فالمنافق الزنديق، إذا ادعى التوبة، هل تقبل توبته؟

الخلاف في قبول توبة الزنديق

الخلاف في قبول توبة الزنديق اختلف العلماء على ثلاثة أقوال: القول الأول: مذهب مالك، وأحمد في المشهور عنه، وطائفة من أصحاب الشافعي، وهو قول لـ أبي حنيفة: أن توبته لا تقبل، يعني: في الدنيا، فإذا عرف أنه منافق فلابد أن تقطع رقبته، وإن قال: تبت. وألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كتاباً في هذا وسماه (الصارم المرسول على شاتم الرسول) قالوا: الزنديق والذي سب الله أو سب الرسول، أو استهزأ بالله أو برسوله أو بكتابه، أو الساحر، هؤلاء لا تقبل توبتهم، بل يقتلون؛ حتى لا يتجرأ الناس على مثل هذا الكفر الغليظ، وكذلك من تكررت ردته، أما ما عداهم من الكفرة إذا ادعى التوبة، فإننا نقبل توبته. فالقول الأول هو أن هذا يقتل زجراً له ولأمثاله؛ حتى لا يتجرأ الناس على مثل هذا الكفر أو غيره، أما ما بينه وبين الله فإن كان صادقاً في التوبة، فالله يقبل توبة الصادقين، وإن كاذباً فلا يقبل الله توبة الكاذبين وهذا في الآخرة، أما في الدنيا فلابد من قطع رقبته. القول الثاني: أن توبته تقبل، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، وقول في مذهب أبي حنيفة، أي: إذا أخذناه فقال: أنا تائب، فإننا نتركه، ولا نقتله ومن تاب تاب الله عليه. القول الثالث: التفصيل، وهو أنه إن أخذ قبل التوبة ثم ادعى التوبة لا تقبل توبته، بل لابد أن تقطع رقبته، أما إذا تاب وسلم نفسه، فإنها تقبل توبته؛ لأنه ما سلم نفسه إلا لأنه تائب. وهذا القول لعله أعدلها، فإنه إذا سلم نفسه كان مثل المحاربين، وقد قال الله تعالى عن المحاربين وقطاع الطريق: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33]، ثم قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:34] يعني: إذا سلموا أنفسهم قبل القبض عليهم، فهؤلاء تقبل توبتهم. فهنا بين الله تعالى في كتابه أن المحارب وهو قاطع الطريق إن سلم نفسه قبلنا توبته، وإن قبضنا عليه ثم ادعى التوبة فلا تقبل توبته، فكذلك الساحر وكذلك الزنديق وكذلك المنافق له هذا الحكم. وهذا أعدل الأقوال، فإن القول الأول يقتل مطلقاً، والقول الثاني لا يقتل مطلقاً، والقول الثالث يقتل إذا قبضنا عليه قبل أن يسلم نفسه، ولا يقتل إذا سلم نفسه قبل أن نقبض عليه.

معنى الزنديق عند الفقهاء وغيرهم

معنى الزنديق عند الفقهاء وغيرهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا أن الزنديق في عرف هؤلاء الفقهاء هو المنافق الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أبطن ديناً من الأديان كدين اليهود والنصارى أو غيرهم، أو كان معطلاً جاحداً للصانع والمعاد والأعمال الصالحة. ومن الناس من يقول: الزنديق هو الجاحد المعطل، وهذا يسمي الزنديق في اصطلاح كثير من أهل الكلام والعامة، ونقلة مقالات الناس. ولكن الزنديق الذي تكلم الفقهاء في حكمه هو الأول؛ لأن مقصودهم هو التمييز بين الكافر وغير الكافر، والمرتد وغير المرتد، ومن أظهر ذلك أو أسره. وهذا الحكم يشترك فيه جميع أنواع الكفار والمرتدين، وإن تفاوتت درجاتهم في الكفر والردة، فإن الله تعالى أخبر بزيادة الكفر كما أخبر بزيادة الإيمان بقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]، وتارك الصلاة وغيرها من الأركان، أو مرتكبي الكبائر، كما أخبر بزيادة عذاب بعض الكفار على بعض في الآخرة بقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ} [النحل:88]]. والزنديق عند هؤلاء الذين ذكرهم المؤلف يطلق على الجاحد المعطل، يعني: الذي يجحد الرب ويعطل الرب من أفعاله وربوبيته وأسمائه وصفاته، فهذا يسمى زنديقاً، ويسمى المنافق زنديقاً أيضاً، فالزنديق يطلق على أمرين: الأول الجاحد المعطل، والثاني المنافق. ولكن الزنديق الذي تكلم الفقهاء في حكمه هو الأول كما قال المؤلف، وهو المنافق؛ لأن مقصودهم هو التمييز بين الكافر وغير الكافر، والمرتد وغير المرتد، ومن أظهر ذلك أو أسره، وهذا الحكم يشترك فيه جميع أنواع الكفار والمرتدين، وإن تفاوتت درجاتهم في الكفر والردة، فإن الله أخبر بزيادة الكفر كما أخبر بزيادة الإيمان. فالإيمان يزيد وينقص، كما قال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124]. والكفر يزيد قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]، {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:125]، فالكفر يزيد وينقص، والإيمان يزيد وينقص. وكذلك تارك الصلاة وغيرها من الأركان، أو مرتكب الكبائر، كما أخبر بزيادة عذاب بعض الكفار على بعض في الآخرة بقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88]، فالكفرة يتفاوتون، بعضهم يزيد على بعض، فالكافر الذي يصد عن سبيل الله، ويؤذي المؤمنين، أشد عذاباً من الكافر الذي لا يصد عن سبيل الله.

التفريق بين الحكم بالظاهر والحكم بالباطن

التفريق بين الحكم بالظاهر والحكم بالباطن قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذا أصل ينبغي معرفته؛ فإنه مهم في هذا الباب، فإن كثيراً ممن تكلم في مسائل الإيمان والكفر لتكفير أهل الأهواء، لم يلحظوا هذا الباب، ولم يميزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أن الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة والإجماع المعلوم، بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام]. يعني: أن هذا الكلام أصل ينبغي معرفته؛ وهو أن المنافق تجرى عليه أحكام الإسلام في الظاهر، وإذا أظهر النفاق قتل، كما تجرى على المسلم ظاهراً وباطناً، فالمؤمن ظاهراً وباطناً تجرى عليه أحكام الإسلام، والمنافق الذي يظهر الإسلام تجرى عليه أحكام الإسلام، فإذا لم نعلم حاله عاملناه كمسلم في الزواج، والنكاح، والصداق، والصلاة عليه إذا مات، والميراث، وإجابة دعوته، وتغسيله، ودفنه في مقابر المسلمين. فكل هذه الأحكام تجرى على المنافق الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر، ما لم يظهر نفاقه، فإذا أظهر نفاقه قتل وعومل بما أظهر من نفاقه على الخلاف المشهور: هل يقتل بدون استتابة، أو بعد الاستتابة؟ أو إذا سلم نفسه فلا يقتل، وإذا لم يسلم نفسه فإنه يقتل. فأحكام الإسلام تجرى على المنافقين، وتجرى أيضاً على المسلمين، وأما الكفار الذين أظهروا الكفر فتجرى عليهم أحكام الكفار. يقول المؤلف: (فإن كثيراً ممن تكلم في مسائل الإيمان والكفر لتكفير أهل الأهواء، لم يلحظوا هذا الباب)، يعني: أن بعض الناس يكفر أهل البدع ولا يلحظ هذا المعنى، مع أن أهل البدع والأهواء، إن كانوا يظهرون الإسلام فتجرى عليهم أحكام الإسلام ولا يكفرون، والبدعة والمعصية لا يكفر صاحبها، فكما أن الزاني لا يكفر، فكذلك المبتدع -كصاحب بدعة المولد- لا يكفر كذلك، ولا يكفر إلا من أظهر الكفر. فالذين كفروا أهل البدع لم يلحظوا هذا الباب، وهو إجراء الأحكام على الظاهر، ولم يميزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أن الفرق بين الحكم الظاهر والحكم الباطن ثابت شرعاً. والحكم الظاهر هو الحكم على المنافق بالإسلام، والحكم الباطن هو الكفر، وهذا هو حكمه في الآخرة، والفرق بينهما ثابت بالنصوص المتواترة، والإجماع المعلوم، بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن تدبر هذا علم أن كثيراً من أهل الأهواء والبدع قد يكون مؤمناً مخطئاً جاهلاً ضالاً عن بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون منافقاً زنديقاً يظهر خلاف ما يبطن]. فالمبتدع قد يكون مؤمناً، ولم يكفر، لكن أخطأ بسبب جهله وضلاله، كمثل شخص يقيم الموالد، وهو مؤمن يصلي ويصوم، ويزكي ويحج، فإذا قيل له: لماذا تقيم بدعة المولد؟ قال: أقيمه محبة للرسول، فهو هنا قد أخطأ لجهله وضلاله، فلا يكون كافراً، فليس كل من يأتي ببدعه يقال له كافر، بل لابد من التمييز بين الأحكام كما قال المؤلف. وهذا الذي أقام البدعة كأن يقول: نويت أن أصلي فرض العشاء خلف هذا الإمام أربع ركعات، فهذه بدعة عندما تلفظ بها، ويقولها بعض الناس للجهل والضلال، فلا يكون كافراً، بل هو مبتدع. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ومن تدبر هذا علم أن كثيراً من أهل الأهواء والبدع قد يكون مؤمناً، مخطئ جاهل، قد يكون مؤمناً مخطئاً جاهلاً ضالاً عن بعض ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد يكون منافقاً يظهر خلاف ما يبطن)، يعني: الشخص الذي يظهر البدعة هو على أحد أمرين: إما أن يكون مؤمناً ابتدع هذه البدعة لجهله وضلاله، وإما أن يكون منافقاً زنديقاً؛ لأنه يبطن الكفر ويظهر البدعة. فهو دائر بين هذا وبين هذا.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الصلاة في المساجد التي فيها مقابر

حكم الصلاة في المساجد التي فيها مقابر Q أنا من بلاد الشام، ويوجد عندنا مساجد كثيرة وفيها مقابر، فما حكم الصلاة في تلك المساجد، سواء صلاة الجمعة أو صلاة الجماعة؟ A لا تصح الصلاة في المسجد الذي فيه قبر؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، فهم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ثم قال: (ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك). فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن من اتخذ القبور مساجد، وهذا يدل على أنه لا تصح الصلاة في المسجد الذي فيه قبر؛ لأن النهي يقتضي الفساد، فالمسجد الذي فيه قبر لا تصح الصلاة فيه، إذا كان داخلاً في سور المسجد. والواجب إزالة القبور التي في المساجد، والحكم للأول، فإن كان المسجد هو الأقدم ودفن فيه الميت، فإنه يجب نبش الميت ودفنه في المقابر، ويبقى المسجد سليماً، وأما إذا كان القبر سابقاً، ثم بني المسجد على القبر، فيجب هدم المسجد، ونقله إلى مكان آخر.

حكم الدراسة عند المنحرفين

حكم الدراسة عند المنحرفين Q إنني أدرس في مدرسة يكثر فيها المدرسون من الصوفية، فهل يجوز لي أن أدرس عندهم عقيدة التوحيد أو غيرها من المواد الشرعية؟ A لا يجوز لك أن تدرس في مدارس الصوفية عقيدة التوحيد؛ لأن عقيدة الصوفية منحرفة، بل ادرس عقيدة التوحيد عند أهل التوحيد لا عند المخرفين من الصوفية والوثنيين وغيرهم.

حكم دراسة اللغة الإنجليزية والتكلم بها بين المسلمين لإتقانها

حكم دراسة اللغة الإنجليزية والتكلم بها بين المسلمين لإتقانها Q كثرت الأسئلة عن حكم تعلم اللغة الإنجليزية لغرض دراسة الطب أو غيره، وحاجة الدارس للتحدث بها حتى بين إخوانه من المسلمين العرب لغرض إتقانها، فما حكم ذلك؟ A إذا تعلم اللغة الإنجليزية لحاجته إليها للدعوة إلى الله، أو للعمل في الطب، فأرجو ألا يكون في ذلك حرج إن شاء الله، بل هو مطلوب خصوصاً إذا كان داعية وعنده علم؛ حتى يدعو إلى الله على بصيرة، وهذا أمر حسن، أما إذا تعلمها محبة للكفار أو محبة للغتهم، فلا شك أن هذا أمر خطير.

حكم ساب الصحابة

حكم ساب الصحابة Q هل يكفر من سب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؟ A إذا سبهم لدينهم يكفر، وهكذا من كفرهم أو فسقهم؛ لأنه مكذب لله؛ لأن الله زكاهم وعدلهم ووعدهم بالجنة، فمن كفرهم فقد كذب الله، ومن كذب الله كفر. أما إذا سبهم من دون تكفير وتفسيق، فهذا فيه تفصيل كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن السب قد يكون للتكفير، وقد يكون للغيظ، فإن سبهم تكفيراً لهم فهذا يكفر، أما إذا سبهم لغيظ في نفسه وهو لا يعتقد كفرهم فهذا فسق. والمقصود أن سب الصحابة ذنب عظيم، وهو دائر بين الكفر وبين الكبيرة العظيمة.

معنى قوله تعالى: (باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب)

معنى قوله تعالى: (باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) Q كثرت الأسئلة حول معنى قول الله تبارك وتعالى: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]، فما معنى ذلك؟ A هذه الآية على ظاهرها، وهي تتحدث عن سور باطنه فيه الرحمة، وباطنه هو الجزء الذي من قبل المؤمنين، وظاهره من قبله العذاب، وهو الجزء الذي من قبل المنافقين، نسأل الله السلامة والعافية. وقال بعضهم: إن هذا السور هو المذكور في قوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف:46].

حكم الدراسة في الجامعات المختلطة

حكم الدراسة في الجامعات المختلطة Q إنني أدرس في بلد فيه الجامعات مختلطة بين الشباب والشابات، يدرسون في صف واحد، فهل تجوز لي الدراسة في تلك الجامعة أم لا؟ A لا تجوز الدراسة في الجامعات المختلطة، ولا في الفصول المختلطة، لا للبنين ولا للبنات، ويحرم على الإنسان أن يدرس في جامعة مختلطة، فلا يجوز للمرأة أن تختلط بالرجال، ولا يجوز أيضاً للرجل أن يختلط بالنساء، بل يجب أن تكون النساء على حدة والرجال على حدة، وإذا لم توجد إلا جامعة مختلطة فاجلس في بيتك، واطلب العلم على أهل العلم في الدروس العلمية والحلقات والأنشطة والبرامج المفيدة، وفي كتب أهل العلم، ويكفي هذا. لأن الاختلاط فيه خطر على دين الإنسان وخلقه، ومن الذي يأمن على نفسه؟ وهذا اجتمعت فيه عدة محرمات: الاختلاط، والنظر، ومن الذي سمح لك أن تنظر إليها؟ ومن الذي سمح لك أن تلامسها بجسدك؟ ثم إن هذه وسيلة قريبة -كما هو الواقع- للذهاب بها، والخلوة بها، وفعل الفاحشة، نسأل الله السلامة والعافية، والوسيلة المؤدية إلى الحرام حرام، والله تعالى قال في كتابه العظيم: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30]، فأين الغض عندما تجلس بجوار بنت وهي تجلس بجوارك؟

حل إشكال في كلام الإمام ابن تيمية عن المنافقين

حل إشكال في كلام الإمام ابن تيمية عن المنافقين Q ما معنى كلام شيخ الإسلام رحمه الله في شرح حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حينما قال: (وكان في المنافقين من هو في الأصل من المشركين، وفيهم من هو في الأصل من أهل الكتاب)؟ A يعني أن المنافق قد يكون أصله وثنياً مشركاً، ثم يدخل في الإسلام نفاقاً، فيظهر الإسلام ويبطن الشرك، وقد يكون في الأصل يهودياً، فيدخل في الإسلام نفاقاً، يظهر الإسلام ويبطن اليهودية، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:75 - 76]. فالمقصود أن المنافق قد يكون مسلماً ظاهراً وباطناً ثم ينافق، وقد يكون في الأصل مشركاً، ثم أظهر الإسلام وأبطن الشرك، وقد يكون في الأصل يهودياً أو نصرانياً من أهل الكتاب، ثم أظهر الإسلام وأبطن اليهودية أو النصرانية.

وجه ذكر المنافقين في السور المكية

وجه ذكر المنافقين في السور المكية Q إذا كان النفاق لم يظهر إلا في المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فما وجه ذكر المنافقين في سورة العنكبوت وهي مكية؟ A قد تكون السورة مكية، ولكن فيها آيات مدنية، وقد تكون السورة مدنية وبعض الآيات فيها مكية، ولهذا تجد في المصحف: سورة كذا مكية إلا آية كذا وكذا، وآية كذا وكذا فهي مدنية.

عقيدة الدروز وحكم التعامل معهم

عقيدة الدروز وحكم التعامل معهم Q ما هي عقيدة الدروز، وما حكم التعامل معهم، والسلام عليهم، وأكل ذبائحهم، وشراء بضاعتهم؟ A عقيدة الدروز من عقائد الباطنية، والباطنية طوائف كثيرة، ولهم عقائد باطنية تخالف الظاهر، وهم طبقات، فإذا كانت عقيدتهم توصل إلى الكفر؛ فلا يجوز أكل ذبائحهم، أما شراء البضائع منهم فلا بأس به، إذا لم يكن فيها ذبح. لكن هناك مسألة وهي: مقاطعة الكفرة، فإنه ينبغي أن يشتري المرء من المسلمين، حتى لا تروج بضاعة الكفار.

الطائفة المنصورة والطائفة الناجية

الطائفة المنصورة والطائفة الناجية Q هل هناك فرق بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية؟ A لا فرق بينهما، فإن الطائفة المنصورة هي الفرقة الناجية، وهم أهل السنة والجماعة، وكلهم أنصار الله وكل هذه أوصاف لها، وهي شيء واحد.

حكم من يتنصر لأجل الحصول على الطعام والمال

حكم من يتنصر لأجل الحصول على الطعام والمال Q ينشط التنصير في بلاد إفريقيا، وبعض المسلمين يتنصر من أجل الحصول على المال والطعام، فهل يكفرون بذلك؟ A من تنصر كفر، نسأل الله العافية، سواء لأجل الطعام أو لغيره، لكن الواجب على المسلمين أن يحتضنوا المسلمين، وأن يفتحوا لهم المدارس والدورات العلمية، وكذلك ينبغي أن يكون هناك إغاثة لهم حتى لا يتنصروا، وحتى لا تحتضنهم دور التنصير، فالواجب على المسلمين أن تكون لهم عناية بإخوانهم المسلمين، فالمؤمنون بعضهم إخوان لبعض، فكيف يتركون إخوانهم للنصارى ينصرونهم بسبب الفقر؟

حكم القرض الربوي

حكم القرض الربوي Q يقول السائل: استدنت من رجل مبلغاً قدره ثلاثون ألف ريال، على أن أشتري به سيارة، فقال لي: بشرط أن ترد المبلغ لي أقساطاً خمسة وثلاثين ألف ريال، فهل هذا جائز أم لا؟ A هذا ربا في القرض، وكأنه يقول: إما أن تقضي حالاً، وإما أن تزيد إذ أخرت، وهذا ربا صريح بإجماع المسلمين، نسأل الله العافية، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، والواجب على الإنسان إذا أقرض أخاه أن يسترد مثله، لئلا ينقطع المعروف، وفي الحديث: (من أقرض شخصاً مرتين، كان كصدقة مرة). وأما إذا أقرضته وطلبت أن يرد أكثر فهذا ربا، نعوذ بالله من ذلك. وكل قرض جر نفعاً فهو ربا، بل لو أقرضه ثم أخذ منه سيارة ينتفع بها فسيكون ربا، أو أعطاه داراً يسكن بها مقابل قرضه فهو ربا، إلا إذا احتسب أجرة السيارة أو أجرة الدار التي يسكنها من القرض فلا مانع منه.

الاهتمام بالمناطق القروية في الدعوة إلى الله

الاهتمام بالمناطق القروية في الدعوة إلى الله Q تكتض المدن بالدعاة وطلبة العلم وفقهم الله، بينما تشتكي القرى الصغيرة من قلتهم وندرتهم، إضافة إلى أن أهل القرى لا توجد عندهم المنكرات الكثيرة، ويقل الغزو الفضائي عندهم، ويتميزون بقوة الاستيعاب والحفظ، فما نصيحتك لأهل العلم؟ A نصيحتي لأهل العلم أن يذهبوا إلى تلك القرى ويعلموا أهلها، وأن يقيموا عندهم الدورات والدروس العلمية، وعلى أهل القرى أيضاً أن يأتوا بأنفسهم إلى المدن حتى يستفيدوا من الدروس العلمية، وإن لم يأتوا فعلى طلبة العلم أن يذهبوا إليهم في قراهم وبلدانهم، وأن ينشروا علمهم وأن يعلموهم مما علمهم الله، نسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح. ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المباركين، ومن أهل العلم الذين يعلمون ويعملون، ونسأل الله أن يثبتنا وإياكم على دينه القويم حتى الممات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

[9]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [9] جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية وصف أقوام بالإسلام دون الإيمان، وجاء عكس ذلك، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية المراد من ذلك ودلالاته.

أصل مهم في الفرق بين الوصف بالإسلام دون الإيمان

أصل مهم في الفرق بين الوصف بالإسلام دون الإيمان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهنا أصل آخر، وهو أنه قد جاء في الكتاب والسنة وصف أقوام بالإسلام دون الإيمان فقال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:14] وقال تعالى في قصة لوط عليه الصلاة والسلام: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36]. وقد ظن طائفة من الناس أن هذه الآية تقتضي أن مسمى الإيمان والإسلام واحد، وعارضوا بين الآيتين وليس كذلك، بل هذه الآية توافق الآية الأولى؛ لأن الله تعالى أخبر أنه أخرج من كان فيها مؤمناً، وأنه لم يجد إلا أهل بيت من المسلمين. وذلك لأن امرأة لوط كانت في أهل البيت الموجودين، ولم تكن من المخرجين الذين نجوا، بل كانت من الغابرين الباقين في العذاب، وكانت في الظاهر مع زوجها على دينه، وفى الباطن مع قومها على دينهم خائنة لزوجها، تدل قومها على أضيافه، كما قال تعالى فيها: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10]، وكانت خيانتهما لهما في الدين لا في الفراش، فإنه ما بغت امرأة نبي قط، إذ نكاح الكافرة قد يجوز في بعض الشرائع، ويجوز في شريعتنا نكاح بعض الأنواع، وهن الكتابيات، وأما نكاح البغي فهو دياثة، وقد صان الله النبى عن أن يكون ديوثاً. ولهذا كان الصواب قول من قال من الفقهاء بتحريم نكاح البغي حتى تتوب]. بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله الأصل الأول: وهو أن الأحكام تجرى على الظاهر في الدنيا، أما في الآخرة فإنها تجرى على الظاهر وعلى الباطن جميعاً، فالمؤمن ظاهراً وباطناً عند الله مؤمن، والكافر ظاهراً وباطناً عند الله كافر، والمنافق عند الله كافر، فهذا أصل ينبغي معرفته، وهو التمييز بين الحكم الظاهر والباطن، والفرق بينهما، وهذا ثابت بالنصوص المتواترة والإجماع.

الآيات التي فرقت بين الإسلام والإيمان أو ساوت بينهما

الآيات التي فرقت بين الإسلام والإيمان أو ساوت بينهما والأصل الثاني: ما ذكره هنا، وهو أنه قد جاء في الكتاب والسنة وصف أقوام بالإسلام دون الإيمان، مثل الأعراب في سورة الحجرات، قال الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] فإذاً: نفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام. وكذلك قول الله تعالى في قصة لوط: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36]، وهؤلاء هم أهل بيت واحد، وصفهم بالإيمان ووصفهم بالإسلام، وفي الآية الأولى فرق الله بين الإسلام والإيمان.

القول بأن الإسلام والإيمان شيء واحد

القول بأن الإسلام والإيمان شيء واحد واختلف العلماء في تفسير ذلك: فمن العلماء من قال: إن الإسلام والإيمان شيء واحد، فالإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان، ولا فرق بينهما، واستدلوا بهذه الآية: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36]، فقالوا: هذا بيت واحد وصف بالإيمان، ووصف بالإسلام، فدل على أن الإيمان والإسلام شيء واحد، وذهب إلى هذا طائفة من أهل السنة، وعلى رأسهم الإمام البخاري، وقالوا: إن هذه الآية تعارض الآية الأولى، وهي: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، فتحمل آية الحجرات على المنافقين الذين نفى الله عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام، قالوا: والمراد بالإسلام الذي استثناه هو الإسلام في الظاهر، والمعنى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، يعني استسلمنا وانقدنا للإسلام ظاهراً نفاقاً، وقال بهذا القول أيضاً الخوارج والمعتزلة.

القول بعدم كون الإسلام والإيمان شيئا واحدا

القول بعدم كون الإسلام والإيمان شيئاً واحداً القول الثاني: وهو قول جمهور أهل السنة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الإيمان والإسلام ليسا شيئاً واحداً، بل إذا اجتمعا فإن الإسلام يفسر بالأعمال الظاهرة، والإيمان يفسر بالأعمال الباطنة، وإذا أفرد أحدهما بالذكر دخل فيه الآخر. وأجابوا عن هذه الآية: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36] بأنه بيت واحد تحقق فيه وصف الإيمان، ووصف الإسلام، فلوط وابنتاه اتصفوا بالإسلام والإيمان، وزوجة لوط اتصفت بالإسلام. قالوا: وأما آية الحجرات فإنها تتحدث عن ضعفاء الإيمان، وليست في المنافقين، فقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] يعني: ولكن قولوا أسلمنا؛ لأنهم لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، وهم أظهروا الإسلام، ولكنهم لا يطلق عليهم الإيمان لضعف إيمانهم، ويدل على ذلك أن هذه السورة ليست في المنافقين، وإنما هي في العصاة، وتسمى سورة الآداب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات:6]، وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13]، ثم قال: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ثم قال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] يعني: أنه متوقع دخوله، {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14]، فأثبت لهم طاعة، ولو كانت في المنافقين لما أثبت لهم طاعة، ثم قال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات:17]، فأثبت لهم إسلاماً. فدل على أن هذه الآية في ضعفاء الإيمان، وهذا هو الأرجح، ولهذا فإن المؤلف رحمه الله ذكر القولين، قال: (وقد ظن طائفة من الناس أن هذه الآية، وهي: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36] تقتضي أن مسمى الإيمان والإسلام واحد، وعارضوا بين الآيتين) وبين المراد بهذه الآية وآية الحجرات، فآية الحجرات أثبتت لهم الإيمان ونفت عنهم الإسلام، وآية الذاريات تصفهم بالإيمان والإسلام معاً.

بيان توافق معنى آية الحجرات وآية الذاريات

بيان توافق معنى آية الحجرات وآية الذاريات قال المؤلف: (وليس كذلك بل هذه الآية توافق الآية الأولى) أي: أن آية الذاريات توافق آية الحجرات؛ لأن الله أخبر أنه أخرج من كان فيها مؤمناً، قال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35]، وأنه لم يجد إلا أهل بيت من المسلمين، وذلك لأن امرأة لوط كانت في أهل البيت الموجودين، ولم تكن من المخرجين الذين نجوا، فقال تعالى: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36]، أي: ومنهم امرأة لوط، ولكن من حصل لهم الإخراج وصفهم الله بالإيمان، وامرأة لوط ليست من المخرجين، وأما الموجودون في البيت فقد وصفهم جميعاً بالإسلام فقال: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36]، وامرأة لوط كانت كافرة، هي موجودة معهم في البيت، فلما كانت معهم وصفهم الله بالإسلام؛ لأنها كانت تظهر أنها على دين زوجها، وهي في الحقيقة على دين قومها، ولذلك لم يخرجها الله معهم، وقال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35] ومعهم المرأة؛ لأنها من الذين أظهروا الإسلام. ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: (وذلك لأن امرأة لوط كانت في أهل البيت الموجودين، ولم تكن من المخرجين الذين نجوا، بل كانت من الغابرين الباقين في العذاب) كما قال تعالى: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء:171] أي: في الباقين، وكانت في الظاهر مع زوجها على دينه، فتظهر الإسلام، وفي الباطن مع قومها على دينهم، خائنة لزوجها تدل قومها على أضيافه، فإذا جاء إلى لوط أضياف دلت عليهم، كما قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [التحريم:10] وكانت خيانتهما لهما في الدين لا في الفراش؛ لأن زوجة النبي مصونة العرض، وإنه ما بغت امرأة نبي قط، وهذا من صيانة الله لأنبيائه.

حكم نكاح البغايا والكافرات

حكم نكاح البغايا والكافرات إن كان نكاح الكافرة قد يجوز في بعض الشرائع، كما في شريعة لوط، وفي شريعتنا يجوز للمسلم أن يتزوج الكافرة إذا كانت كتابية يهودية أو نصرانية؛ لقول الله تعالى في سورة المائدة: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] أي: إذا كانت من الذين أوتوا الكتاب وهي عفيفة الفراش، فيجوز للمسلم أن يتزوجها، فإن اليهودية والنصرانية أخف كفراً من الوثنية. فلا يجوز للمسلم أن يتزوج وثنية، ولا مجوسية، ولا شيوعية، ولا غيرها من الكافرات إلا اليهودية والنصرانية بشرط أن تكون محصنة، يعني عفيفة طاهرة في عرضها. وفي شرع من قبلنا كشريعة لوط وشريعة نوح كان يجوز الزواج من امرأة كافرة. وأما نكاح البغايا والزانيات فقد صان الله الأنبياء عن أن تكون في بيوتهم بغي، وقد صان الله الأنبياء عن الدياثة. ولهذا كان الصواب قول من قال من الفقهاء بتحريم نكاح البغي حتى تتوب، فالزانية لا يجوز نكاحها حتى تتوب؛ لقوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] أي: فالزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ما دامت على زناها ولم تتب، ولكن إذا صحت توبتها وظهرت فيجوز أن يتزوجها المسلم. ومن هذا أن بعض الناس والعياذ بالله يقول: قد يقع رجل مع امرأة في الفاحشة، فإذا علم أهلها أنه عمل بها الفاحشة قالوا: نريد أن نزوجها إياه حتى نستر عليهما، وهذا لا يجوز؛ لأنها هي عاهرة، ولا يتزوج بها، فإنها زانية، ولابد أن يفرق بينهما، حتى تظهر توبتها وصلاحها، وتظهر توبته وصلاحه، ثم بعد ذلك يتزوج هو أو غيره بها. والولد الذي جاء من السفاح لا يجوز أن ينسب إلى الذي زنى، بل هو لقيط، فيفرق بينهما، وهذا الولد يكون لقيطاً ليس له أب، ولا ينسب إلى أحد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمقصود أن امرأة لوط عليه الصلاة والسلام لم تكن مؤمنة، ولم تكن من الناجين المخرجين، فلم تدخل في قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35] وكانت من أهل البيت المسلمين، وممن وجد فيه؛ ولهذا قال تعالى: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36] وبهذا تظهر حكمة القرآن، حيث ذكر الإيمان لما أخبر بالإخراج، وذكر الإسلام لما أخبر بالوجود]. أي: أن امرأة لوط لم تكن مؤمنة، بل كانت كافرة، ولم تكن من الناجين المخرجين، فلم تدخل في قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35] وهو بيت واحد وفيه امرأة لوط، لكن لما أخرج الله لوطاً وابنتيه لم تخرج المرأة، بل هلكت وأصابها ما أصاب قومها؛ لكفرها وضلالها، فلم تكن من أهل البيت المخرجين، ولكن كانت من أهل البيت المسلمين، وممن وجد فيه؛ ولهذا قال تعالى: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36] أي: وجدنا في هذه القرية بيتاً من المسلمين. وسماهم الله مسلمين وفيهم امرأته؛ لأنها أظهرت الإسلام، وهي في الباطن مع قومها، فتجرى عليها أحكام الإسلام. (وبهذا تظهر حكمة القرآن، حيث ذكر الإيمان لما أخبر بالإخراج، وذكر الإسلام لما أخبر بالوجود) أي: لما ذكر الإخراج وصفهم بالإيمان، قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35]؛ لأن المرأة الكافرة لم تكن معهم، ولما ذكر الوجود ذكر الإسلام؛ لأنها أظهرت الإسلام، فهي معهم في الإسلام الظاهر، والأحكام تجرى على الظاهر.

مسمى الإيمان والإسلام: مدلولهما، والفرق بينهما

مسمى الإيمان والإسلام: مدلولهما، والفرق بينهما

عموم الإسلام

عموم الإسلام قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأيضاً فقد قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] وفرق بين هذا وهذا، فهذه ثلاثة مواضع في القرآن]. فرق الله تعالى في كتابه العظيم بين الإيمان والإسلام في ثلاثة مواضع: فالموضع الأول: في سورة الحجرات، قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، أثبت لهم الإسلام ونفع عنهم الإيمان. الموضع الثاني: في سورة الذاريات، يقول تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36]. الموضع الثالث: في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35]. وكذلك جاء في السنة حديث سعد بن أبي وقاص الذي رواه الشيخان وغيرهما أنه لما وصف سعد رجلاً بالإيمان قال: (أو مسلم) ففرق بين الإيمان والإسلام. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأيضاً فقد ثبت في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً ولم يعط رجلاً، فقلت: يا رسول الله أعطيت فلاناً وتركت فلاناً وهو مؤمن قال: أو مسلم، قال: ثم غلبني ما أجد فقلت: يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً وتركت فلاناً وهو مؤمن، فقال أو مسلم؟ مرتين أو ثلاثاً)، وذكر في تمام الحديث: (أنه يعطي رجالاً ويدع من هو أحب إليه منهم؛ خشية أن يكبهم الله في النار على مناخرهم). قال الزهري رحمه الله: فكانوا يرون أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل]. هذا الحديث وهو حديث سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً ولم يعط رجالاً، أي: أعطاهم من الغنائم يتألفهم على الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعطي على الهوى، ولكن يعطي ضعفاء الإيمان حتى يتقوى إيمانهم وحتى لا يرتدوا، وأقوياء الإيمان لا يعطيهم، وإنما يكلهم إلى إيمانهم، فعطاؤه عليه الصلاة والسلام هو لله وليس عن الهوى. فلما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رجالاً وترك رجلاً، قال: سعد: فترك رجلاً هو أعجبهم إلي أرى أنه مؤمن، فكيف يتركه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يعطيه؟ ولا يدري ما الحكمة في ذلك، يظن أنه من كان قوي الإيمان يعطيه ومن كان ضعيف الإيمان لا يعطيه، فقال: (يا رسول الله! مالك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمناً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم؟ -يعني: ما بلغ درجة الإيمان- فسكت سعد رضي الله عنه، قال: ثم غلبني ما أجد فقلت: يا رسول الله! أعطيت فلاناً وتركت فلاناً وهو مؤمن، فقال: أو مسلم، للمرة الثانية، فسكت سعد، ثم غلبه ما يجد، فقال في المرة الثالثة، يا رسول الله! مالك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني أعطي رجالاً وغيرهم أحب إلي خشية أن يكبهم الله في النار)، أي: أحس أنه سيرتد، فهو ضعيف الإيمان، كما قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11]. وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعطي رجالاً لما في قلوبهم من الهلع والجزع، وأترك أقواماً لما في قلوبهم من الخير، منهم فلان وفلان) فقال من استثناه: ما أحب أن لي بكلمة رسول الله الدنيا وما فيها. فالنبي صلى الله عليه وسلم يعطي ليتألف على الإسلام. والشاهد من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت له الإسلام ورفع منزلته. أما قول الزهري: (فكانوا يرون الإسلام الكلمة والإيمان العمل)، فقد سبق في مسمى الإسلام، وقد قلنا إن فيه ثلاثة أقوال: القول الأول للزهري وجماعة: أن الإسلام هو كلمة النطق بالشهادتين، والإيمان هو العمل، لكن الزهري إمام وليس مقصوده رحمه الله أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان بل المقصود أن الكافر إذا نطق بالشهادتين تميز عن اليهودي والنصراني وحكم له بالإسلام، وإلا فالعمل داخل في مسمى الإسلام. القول الثاني: أن الإسلام والإيمان مترادفان، فالإسلام هو الإيمان والإيمان هو الإسلام. والثالث: أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان الأعمال الباطنة. والقول الرابع وهو الصحيح الراجح: أنها تختلف دلالة الإسلام والإيمان بالتفرد والاقتراب، فإذا قرن الإسلام بالإيمان صار لكل واحد معنى، وصار الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان هو الأعمال الباطنة كما في حديث جبريل، وإذا أفرد الإسلام دخل فيه الإعمال الظاهرة والباطنة، وإذا أفرد الإيمان دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فأجاب سعداً بجوابين: أحدهما أن هذا الذي شهدت له بالإيمان قد يكون مسلماً لا مؤمناً]. هذا هو الجواب الأول الذي أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم سعداً وهو: أن هذا الذي شهدت له بالإيمان قد يكون مسلماً لم يصل إلى درجة الإيمان، ولهذا لما قال سعد رضي الله عنه: والله إني لأراه مؤمناً، قال: أو مسلم، أي: ما وصل إلى درجة الإيمان؛ لأن المسلم هو الذي عنده تقصير في بعض الواجبات، فهو مسلم موحد لكن عنده تقصير في بعض الواجبات، أو يفعل بعض المحرمات، فإذا أدى الواجب وترك المحرمات يسمى مؤمناً بإطلاق، وإن كان مسلماً لابد له من إيمان يصحح إسلامه، لكن لا يطلق عليه اسم الإيمان إذا كان عاصياً، بل يسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً، فإذا أدى الواجبات وترك المحرمات يسمى مؤمناً بإطلاق. فهذا هو الجواب الأول ومعناه: أن هذا الذي تشهد له بالإيمان قد يكون مسلماً، وما وصل إلى درجة الإيمان، وذلك لتقصيره في بعض الواجبات، أو لفعله بعض المحرمات. قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثاني: إن كان مؤمناً وهو أفضل من أولئك، فأنا قد أعطي من هو أضعف إيماناً؛ لئلا يحمله الحرمان على الردة فيكبه الله في النار على وجهه، وهذا من إعطاء المؤلفة قلوبهم]. هذا هو الجواب الثاني، وهو أنه لو سلمنا أنه مؤمن كما تقول يا سعد فأنا أعطي المال لمن كان أضعف إيماناً حتى يتقوى إيمانه، أما هذا فقوي الإيمان فلا أعطيه بل أتركه لإيمانه، وضعيف الإيمان أعطيه لئلا يحمله الحرمان على الردة.

الأسئلة

الأسئلة

الحكمة في ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين

الحكمة في ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين Q الرسول عليه الصلاة والسلام عرف أن عبد الله بن أبي منافق، فلماذا لم يقتله، ولماذا لم يظهر أصحابه على أسماء المنافقين؟ A بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقال: لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، لأن من لم يعرفهم من اليهود والنصارى وغيرهم يرى أن عبد الله بن أبي من الصحابة، فإذا قتله النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد يقتل أصحابه، وهذا تنفير عن الدين، ولا يعلمون أن هناك منافقين؛ لأن عبد الله بن أبي وغيره يظهرون أنفسهم أنهم من المسلمين ويعتبرون أنفسهم من الصحابة فإذا قتلوا تحدث الناس بأن محمداً يقتل أصحابه، فكان في هذا تنفير عن الإسلام. وأما كونه لم يعلم بأسمائهم فهناك أسماء أسرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى حذيفة، وهناك منافقون لا يعلمهم، فليس كل المنافقين يعلمهم، ولهذا قال الله تعالى للصحابة: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101]. إذاً هناك بعض المنافقين لا يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم أعلمه الله بهم، كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:29 - 30]، وفي الآية الأخرى قال تعالى: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101]، فبعضهم يعلمهم وبعضهم لا يعلمهم.

الخلاف في التفريق بين عوام الشيعة والخوارج وأئمتهم

الخلاف في التفريق بين عوام الشيعة والخوارج وأئمتهم Q هل يفرق بين عوام الصوفية والخوارج والشيعة، وبين أئمتهم؟ A بعض العلماء فرق بينهم وآخرون من أهل العلم جعلوا حكم العامة حكم غيرهم؛ لأنهم تبع لهم؛ ولأن الله تعالى جعل حكم عوام الكفار والتابعين كحكم المتبوعين، قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:67]، {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف:38] أي: للتابعين والمتبوعين. وقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، ثم قال بعد ذلك: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة:167]، فالتابعون والمتبوعون والعوام والسادة حكمهم واحد.

واجب الأبناء تجاه الوالدين بعد موتهما

واجب الأبناء تجاه الوالدين بعد موتهما Q لقد بلغت من العقوق لوالدي أيام حياته شيئاً كثيراً، حتى أنني لعنته في الصغر وقد مات والدي رحمه الله، وأنا الآن نادم على ذلك فما المخرج من ذلك، مع العلم بأني تعيس في حياتي وتزداد تعاستي كلما تذكرت ذلك؟ A هذه عقوبة معجلة لقطيعة الرحم؛ لكن عليك التوبة ومن تاب تاب الله عليه، وعليك مع ذلك أن تدعو لوالديك وتستغفر لهما في ظهر الغيب، وتكثر من الدعاء لهما ليل نهار، وتتصدق عنهما، وتحج عنهما، وتعتمر عنهما وكل هذا ينفعهم. (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما بعد موتهما قال: نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما)، وهذه كلها من الحقوق، الدعاء وإنفاذ الوصية والعهد، وإكرام صديقهما، والصدقة، والحج والعمرة وكل هذا ينفعهم.

الخلاف في رؤية الكفار لربهم بعد الموت

الخلاف في رؤية الكفار لربهم بعد الموت Q ما المقصود من قوله جل وعلا {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] هل هم الكفار فقط أم يشمل المنافقين، ومتى يحجبون عن الله تبارك وتعالى؟ A هذا يشمل جميع الكفار، فكل الكفار محجوبون عن الله، والمؤمنون يرون ربهم يوم القيامة، يرونه في موقف القيامة ويرونه بعد دخولهم الجنة. وأما الكفار فقد اختلف العلماء في رؤيتهم لربهم في الموقف، فمن العلماء من قال: بأنه يراه أهل الموقف جميعاً، ومنهم الكافرون، ثم يحتجب عن الكفرة. وقيل: لا يراه إلا المؤمنون فقط. وقيل: لا يراه إلا المؤمنون والمنافقون؛ لأن المنافقين مع المؤمنين في الدنيا. فهذه أقوال ثلاثة لأهل العلم، ومن قال إن المؤمنين والكفار يرون ربهم قال: إن الكفار يرون الله في موقف القيامة ولكن لا تفيدهم هذه الرؤية بل تكون عذاباً لهم، كالسارق الذي يؤتى به أمام الأمير وأمام الملك يوبخه، ثم بعد ذلك يعاقب، وتكون هذه زيادة عقوبة له. ومن العلماء من استدل بهذه الآية على أن جميع الكفرة محجوبون عن الله، وقال: لا يراه إلا المؤمنون: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ} [المطففين:15]، فالضمير للكفرة بجميع أصنافهم و {يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] أي: يوم القيامة.

الجمع بين حديث: (لا يدخل الجنة قاطع رحم)، وأن أهل الكبائر تحت المشيئة

الجمع بين حديث: (لا يدخل الجنة قاطع رحم)، وأن أهل الكبائر تحت المشيئة Q كيف نجمع بين قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع رحم)، وبين ما استقر من نصوص الشريعة عند أهل السنة من أن أهل الكبائر تحت المشيئة إن شاء الله غفر لهم وإن شاء أدخلهم النار؟ A لا يوجد منافاة، فهذا من باب الوعيد عند أهل السنة، وقد ينفذ الوعيد وقد لا ينفذ، والوعيد قد ينفذ في بعضهم، فقاطع الرحم تحت مشيئة الله إن شاء الله غفر له وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه فلا يدخل الجنة مع الأولين، بل يعذب ثم يدخل الجنة بعد ذلك، إذا لم يكن عنده كفر أكبر أو نفاق أكبر أو شرك أكبر، فلا توجد منافاة.

حكم بقاء المرأة في عصمة زوج يتعمد تأخير الصلاة

حكم بقاء المرأة في عصمة زوج يتعمد تأخير الصلاة Q أنا امرأة متزوجة ولدي أولاد، وزوجي -هداه الله- ينام طيلة اليوم ولا يصلي أحياناً أكثر الصلوات إلا جمعاً، فيصلي الظهر مع العصر والفجر مع الظهر أو مع العصر وهكذا، هذا ديدنه، علماً بأنه يتكاسل حتى عن أغراض كثيرة نحتاجها للبيت في فترة نومه وبعد استيقاظه، فما حكم ذلك؟ A أغراض البيت سهلة، لكن المصيبة الصلاة، فكيف يجمع الفجر مع الظهر، والفجر لا تجمع مع الظهر لا للمسافر ولا للمريض ولا غيره، وهو يجمع الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فهذا نخشى عليه من الردة والكفر. وبعض العلماء يرى أنه إذا تعمد تأخير الصلاة عن وقتها تكون ردة وكفراً والعياذ بالله، فالواجب على هذه المرأة أن تنصح هذا الرجل فإن لم يقبل تذهب إلى أهلها وتتركه، ولا يجوز لها البقاء عنده على هذه الحال. بعض العلماء يرى كفره وضلاله، وقال آخرون: إنها جريمة عظيمة أعظم من جريمة الزاني والسارق وشارب الخمر والعاق لوالديه وقاطع الرحم. والمقصود أن على هذه المرأة أن تذهب إلى أهلها وتترك هذا الرجل حتى يتوب إلى الله، ولا تبقى عنده.

حكم زواج الرجل بامرأة زنى بها

حكم زواج الرجل بامرأة زنى بها Q إذا زنا رجل بامرأة وأرادوا منه التزوج بها قبل توبتهما، فهل نقول بجواز ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً} [النور:3]، فهما لم يتوبا، فهل يصح زواجهما، وما حكم ذلك؟ A لا يجوز أن تزوج وهي زانية، وإن كان بينهما ولد فهو سفاح، ويفرق بينهما، ويقام الحد على الرجل وعلى المرأة، فالرجل يجلد مائة جلدة ويغرب عاماً، والمرأة تجلد مائة جلدة وتغرب، وإن كانت متزوجة ترجم بالحجارة حتى تموت، وإذا صحت التوبة بعد ذلك وظهرت توبتها وإصلاحها تزوج، وهو إذا صحت توبته يزوج منها أو من غيرها، أما أن تزوج وهي على زناها والعياذ بالله، فهذا منكر.

حكم وصف الله بالصانع

حكم وصف الله بالصانع Q هل يجوز أن يطلق على الله جل وعلا وصف الصانع؟ A لا، وهذا من باب الخبر، وباب الخبر أوسع من باب الوصف عند أهل العلم، فيذكر عن الله بأنه صانع، بأنه شيء، وبأنه ذات، كقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:19]، يخبر عن الله بأنه موجود، ولكن لا يقال: إن من أسماء الله الموجود أو الصانع أو الذات. فالقاعدة عند أهل العلم أن الخبر أوسع من باب الصفة؛ لأن الصفة توقيفية وكذلك الأسماء، فلا يسمى الله إلا بما سمى به نفسه، وأطلقه على نفسه كالعليم، السميع، البصير. أما الإخبار عن الله بأنه صانع، أو بأنه ذات، أو بأنه شيء، فهذا من باب الخبر لا من باب الوصف فيجوز.

شرط نكاح الكتابية

شرط نكاح الكتابية Q هل من شروط للزواج من الكتابية؟ A نعم، يشترط أن تكون الكتابية محصنة لجواز الزواج بها، فتكون محصنة عفيفة تعمل بدينها، وتعرف بأنها من أهل الكتاب، أما إذا تحللت من دينها فقد صارت جاحدة أو معطلة تخرج عن أهل الكتاب.

حكم ولد الزنا

حكم ولد الزنا Q ما الحكم في الابن الذي أتى من الزنا؟ A يكون لقيطاً من اللقطاء، فإذا كان هناك دار خاصة له يتربى فيها فهو أفضل، وإن لم يكن أخذه أحد المسلمين ورباه حتى يكبر وله الأجر.

حكم مخالفة أهل السنة في مسائل الإيمان

حكم مخالفة أهل السنة في مسائل الإيمان Q ما حكم من خالف أهل السنة والجماعة في مسائل الإيمان؟ A هذا السؤال مجمل، فما المراد بمسائل الإيمان؟ هل في شعب الإيمان؟ أو خالف أهل السنة والجماعة في أنه ما عمل بشرائع الإيمان، فيكون عاصياً، أو هل خالف المعتقد؟ فينظر مراد السائل.

حكم تزويج اللقيط

حكم تزويج اللقيط Q ما هو حكم تزويج اللقيط؟ A إذا كان يرضى دينه، وكان مستقيماً فلا بأس بذلك، والله تعالى يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وهو ليس عليه شيء، بل يكون فرداً من أفراد المسلمين، يزوج كغيره، والإثم على الزاني وليس عليه.

حكم إمامة ولد الزنا

حكم إمامة ولد الزنا Q هل يكون ولد الزنا إماماً في الصلاة؟ A نعم، يكون إماماً، كما ذكر الفقهاء وقالوا: تصح إمامة ولد الزنا، إذا سلم دينه وصح؛ لأنه ليس عليه الإثم، إنما الإثم من الزاني.

كلام مسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم

كلام مسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم Q يقول أحدهم: وكذلك ذله -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- وانكساره بين يدي الله عندما يطالع المقامات العظيمة، والمنن الوفيرة التي أعطيها؛ ما ذلك إلا لأنه أوتي شيئاً هو أحقر من أن يعطاه ببشريته وإنسانيته وآدميته ودينه، فما رأيكم في مثل هذا الكلام؟ A هذا الكلام ليس بطيب، بل هو كلام سيء، فإننا لا نشك أن الرسول كان متواضعاً، فهو يتواضع لربه عليه الصلاة والسلام، عندما دخل مكة دخلها وقد خفض رأسه، تواضعاً لربه عز وجل. وقوله: (أحقر من أن يعطى ببشريته) فإنه عليه الصلاة والسلام أهل لذلك، فلولا أنه أهل لذلك لما أعطاه الله ذلك، والله تعالى كمله وجعله في أعلى مقام العبودية والرسالة، فكيف يكون أحقر في ذلك؟

[10]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [10] وردت بعض النصوص بإثبات الإسلام لقوم مع نفي الإيمان عنهم، وقد اختلف الناس في ذلك، وقد بين شيخ الإسلام بالأدلة أن المنفي كمال الإيمان والمثبت أصله.

القول فيمن أثبت الإسلام دون الإيمان

القول فيمن أثبت الإسلام دون الإيمان قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحينئذ فهؤلاء الذين أثبت لهم القرآن والسنة الإسلام دون الإيمان، هل هم المنافقون الكفار في الباطن؟ أم يدخل فيهم قوم فيهم بعض الإيمان؟ هذا مما تنازع فيه أهل العلم على اختلاف أصنافهم، فقالت طائفة من أهل الحديث والكلام وغيرهم: بل هم المنافقون الذين استسلموا وانقادوا في الظاهر، ولم يدخل إلى قلوبهم شيء من الإيمان]. هذا القول الأول، وهو قول الإمام البخاري وبعض أهل الكلام من الخوارج والمعتزلة، قالوا: هؤلاء الذين نفي عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام في قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، هم منافقون، وهذا إسلام المنافقين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأصحاب هذا القول قد يقولون: الإسلام المقبول هو الإيمان؛ ولكن هؤلاء أسلموا ظاهراً لا باطناً فلم يكونوا مسلمين في الباطن، ولم يكونوا مؤمنين، وقالوا: إن الله سبحانه يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]]. هذا دليلهم، وهو قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، قالوا: المراد بالإسلام الإيمان، والإيمان هو الإسلام فهما مترادفان عند هذه الطائفة ولا فرق بينهما، فمن ابتغى غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، والإسلام هو الإيمان، ومادام نفي عنهم الإيمان، فلا يقبل منهم، ودل على أنهم منافقون. قال المصنف رحمه الله تعالى: [بيانه: كل مسلم مؤمن فما ليس من الإسلام فليس مقبولاً، يوجب أن يكون الإيمان منه، وهؤلاء يقولون: كل مؤمن مسلم وكل مسلم مؤمن إذا كان مسلماً في الباطن، وأما الكافر المنافق في الباطن، فإنه خارج عن المؤمنين المستحقين للثواب باتفاق المسلمين]. عندهم أن كل مسلم مؤمن وكل مؤمن مسلم، أما الكافر منافق الباطن فلا شك أنه ليس من المؤمنين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يسمون بمؤمنين عند أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولا عند أحد من طوائف المسلمين، إلا عند طائفة من المرجئة وهم الكرامية الذين قالوا: إن الإيمان هو مجرد التصديق في الظاهر، فإذا فعل ذلك كان مؤمناً، وإن كان مكذباً في الباطن، وسلموا أنه معذب مخلد في الآخرة، فنازعوا في اسمه لا في حكمه]. الكرامية جمعوا بين المتناقضين في مسمى الإيمان، وفي اسم المؤمن وحكمه، قالوا: إذا نطق الإنسان بالشهادتين نسميه مؤمناً كامل الإيمان، وإن كان مكذباً في الباطن فهو مخلد في النار، فجمعوا بين المتناقضين، ولهذا كان من أفسد تعاريف الإيمان قول الكرامية، يليه في الفساد قول الجهمية الذين يقولون: الإيمان معرفة الرب بالقلب، والكرامية يقولون: الإيمان النطق اللسان ولو كان مكذباً في الباطن، فإذا نطق باللسان فهو مؤمن كامل الإيمان، ثم بعد ذلك ننظر إلى قلبه، إن كان مصدقاً فإنه يدخل الجنة، وإن كان مكذباً فهو مخلد في النار، وهذا من أفسد ما قيل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن الناس من يحكي عنهم أنهم جعلوهم من أهل الجنة، وهو غلط عليهم]. هذا ليس بصحيح، فالذين يجعلونهم من أهل الجنة هم المرجئة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومع هذا فتسميتهم له مؤمناً بدعة ابتدعوها مخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهذه البدعة الشنعاء هي التي انفرد بها الكرامية دون سائر مقالاتهم أي: تسمية المكذب بالباطن مؤمناً بدعة ابتدعوها مخالفة للكتاب والسنة، حيث سموا من نطق بالشهادتين مؤمناً ولو كان مكذباً في الباطن.

قول الجمهور فيمن أثبت الإسلام دون الإيمان

قول الجمهور فيمن أثبت الإسلام دون الإيمان قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الجمهور من السلف والخلف: بل هؤلاء الذين وصفوا بالإسلام دون الإيمان، قد لا يكونون كفاراً في الباطن، بل معهم بعض الإسلام المقبول]. هذا هو القول الثاني: أن المسلم غير المؤمن، فالمسلم هو الذي دخل في الإسلام ولكنه مقصر في بعض الواجبات، أو فاعل لبعض المحرمات، والمؤمن هو الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، فالآيات التي أثبتت الإسلام ونفت الإيمان محمولة على ضعيف الإيمان، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية وجمهور من السلف والخلف. مثل قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، والأعراب ليسوا كلهم منافقين، ولكنهم ضعيفو الإيمان، دخلوا في الإسلام وعندهم ضعف. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء يقولون: الإسلام أوسع من الإيمان فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً]. الإسلام أوسع دائرة من الإيمان؛ لأن الإسلام يطلق على العاصي وعلى المطيع، أما الإيمان فلا يطلق إلا على المطيع، فالعاصي لا يسمى مؤمناً بإطلاق، وكل المسلمين يدخلون في الإسلام، العصاة والمطيعين؛ لكن الإيمان لا يدخل فيه إلا المطيع، ودائرته أضيق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقولون في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) إنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام]. هذا الحديث صحيح رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والدارمي وابن حبان والبغوي وابن أبي شيبة وغيرهم. وفي هذا الحديث نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق والشارب، وفي لفظ: عن الناهب قال: (ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن). وهذه فسرها الجمهور فقالوا: إن الزاني والسارق خرجوا من الإيمان عند الإطلاق إلى الإسلام، فيسمى الزاني مسلماً ولا يسمى مؤمناً؛ لأنه فعل كبيرة، وإلا فمعه أصل الإيمان، وليس بكافر، فالإسلام لابد له من إيمان، فيؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لكن لما فعل الكبيرة لم يسم مؤمناً حتى يتوب فيسمى مسلماً. وكذلك السارق وشارب الخمر عند جمهور أهل السنة، فلا نقول عن الزاني إنه مؤمن ولا نقول ليس بمؤمن، بل نقول: إنه مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وفي النفي لا نقول: إن الزاني ليس بمؤمن لأن هذا معناه أنه كافر، ولكن نقول: ليس بصادق الإيمان، وليس بمؤمن حقاً، وهذا مذهب جماهير أهل السنة وعلى رأسهم، شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ودوروا للإسلام دارة، ودوروا للإيمان دارة أصغر منها في جوفها، وقالوا: إذا زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرجه من الإسلام إلى الكفر. ]. جعلوا دائرتين دائرة كبيرة وفي وسطها دائرة صغيرة وقالوا: إذا أدى المؤمن الواجبات وترك المحرمات فهو في الدائرة الصغيرة، فإذا زنا خرج من الدائرة الصغيرة إلى الدائرة التي هي أكبر منها، فإذا خرج من الدائرة التي أكبر منها خرج إلى الكفر، فيكون للإسلام دائرة، في وسطها دائرة صغيرة، ومن وراء الإسلام دائرة كبرى، فالمؤمن إذا أدى الواجبات وترك المحرمات صار في الدائرة الصغيرة، وإذا زنى أو فسق أو سرق خرج من الدائرة الصغيرة إلى دائرة الإسلام، وإذا فعل مكفراً خرج من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر، نسأل الله السلامة والعافية. ودائرة الإحسان تكون دائرة أصغر من دائرة الإسلام، فدائرة الإحسان صغيرة ثم أكبر منها دائرة الإيمان، ثم دائرة الإسلام، ثم بعد ذلك دائرة الكفر. والإحسان: أن يعبد الله على المشاهدة، ويراقب ربه، والمؤمن هو الذي فعل الطاعات وترك المحرمات، لكن ما وصل إلي درجة المراقبة والمشاهدة التي هي درجة الإحسان.

أدلة الجمهور على إثبات الإسلام لضعيف الإيمان

أدلة الجمهور على إثبات الإسلام لضعيف الإيمان قال المصنف رحمه الله تعالى: [ودليل ذلك أن الله تبارك وتعالى قال: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:14 - 17]]. هذه الآيات استدل بها أهل القول الثاني من جمهور السلف والخلف على أن ضعيف الإيمان يثبت له الإسلام وينفى عنه الإيمان، والدلالة أنه نفى عنه الإيمان وأثبت له الإسلام قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، وهؤلاء الأعراب دخلوا في الإسلام من جديد وعندهم ضعف ونقص. والبخاري وجماعة يقولون: هؤلاء منافقون، والإسلام الذي أثبت لهم هو إسلام المنافقين؛ لأن الإيمان والإسلام شيء واحد. وهناك مرجحات للقول بأنهم ضعفاء الإيمان وليسوا منافقين، منها قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] أي: لما يدخل الإيمان الكامل فيكم ويتوقع دخوله. منها أنه أثبت لهم طاعة حيث قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحجرات:14]، ولو كانوا منافقين فليس لهم طاعة. ومنها أنه أثبت لهم ثواباً. ومنها أنه بين المؤمنين الخلص الكاملين بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات:15]، ثم قال: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} [الحجرات:16]، فأثبت لهم الدين، ثم قال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات:17]، فأثبت لهم الإسلام، ولو كانوا منافقين ما أثبت لهم الإسلام.

الأدلة التي رجح بها الجمهور كون ضعيف الإيمان يسمى مسلما

الأدلة التي رجح بها الجمهور كون ضعيف الإيمان يسمى مسلماً قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقد قال تعالى {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، وهذا الحرف - أي: لما - ينفى به ما قرب وجوده وانتظر وجوده ولم يوجد بعد، فيقال لمن ينتظر غائباً: أي: لما، ويقال: قد جاء لما يجئ بعد، فلما قالوا آمنوا قيل: لم تؤمنوا بعد، بل الإيمان مرجو منتظر منهم]. هذا هو المرجح الأول أنهم ضعفاء الإيمان، وهو أنه أتى بلما، فقال تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، وهذا ينفى به ما قرب وجوده وانتظر وجوده ولم يوجد بعد، فتقول: أثمرت البساتين ولما يثمر بستاننا، أي: قرب، والمعنى: أن بستاننا ما أثمر وسوف يثمر قريباً، فقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، أي: لم تؤمنوا ولكن قرب دخول الإيمان في قلوبكم، فهذا دليل على أنهم دخلوا في الإسلام إلا أنهم لم يدخلوا الإيمان الكامل، ولهذا قال: وهذا الحرف -أي: لما- ينفى به ما قرب وجوده وانتظر وجوده، فهنا المعنى: قرب وجود الإيمان المنتظر وجوده ولكنه لم يوجد بعد، فمن ينتظر غائباً وسأل هل أتى فلان؟ تقول له: لما يأت، وسوف يأتي قريباً، وهل قدم فلان من السفر؟ لما يقدم، أي: هو سيقدم قريباً، فأنت نفيت عنه القدوم ولكنك أثبت قرب قدومه، وكذلك لما يدخل الإيمان في قلوبكم أي: هو سوف يدخل قريباً، وهذا هو المرجح الأول.

دليل إثبات الطاعة للمسلم

دليل إثبات الطاعة للمسلم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ} [الحجرات:14]، أي: لا ينقصكم من أعمالكم المثبتة شيئاً، أي: في هذه الحال؛ فإنه لو أراد طاعة الله ورسوله بعد دخول الإيمان في قلوبهم لم يكن في ذلك فائدة لهم ولا لغيرهم؛ إذ كان من المعلوم أن المؤمنين يثابون على طاعة الله ورسوله، وهم كانوا مقرين به فإذا قيل لهم: المطيع يثاب والمراد به المؤمن الذي يعرف أنه مؤمن لم يكن فيه فائدة جديدة]. هذا هو المرجح الثاني، ووجه الدلالة أنه أثبت لهم طاعة، ولو كانوا منافقين لم يثبت لهم طاعة، فلما أثبت لهم طاعة دل على أنهم مسلمون، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14]، إن تطيعوا الله ورسوله وأنتم في هذه الحال، لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً؛ لأنكم مسلمون، ولا يقول القائل: إن المراد وإن تطيعوا الله بعد دخول الإيمان في قلوبكم؛ لأنه لو أراد طاعة الله ورسوله بعد دخول الإيمان في قلوبهم لم يكن في ذلك فائدة لهم أو لغيرهم، إذ كان من المعلوم أن المؤمنين يثابون على طاعة الله ورسوله، وهم كانوا مقرين به. لكن المراد: إن تطيعوا الله ورسوله وأنتم في هذه الحال مع ضعف إيمانكم يثبكم الله على أعمالكم. فكونه أثبت لهم طاعة الله ورسوله وهم في هذه الحال، دل على أنهم ليسوا منافقين وإنما هم ضعيفو الإيمان، وضعيف الإيمان يثاب على أعماله. فأثبت لهم طاعة مع نفي الإيمان الكامل عنهم، فدل على أنهم مسلمون وليسوا منافقين كما يقوله الإمام البخاري والجماعة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فالخطاب لهؤلاء المخاطبين قد أخبر عنهم: لما يدخل في قلوبهم، وقيل لهم: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14]، فلو لم يكونوا في هذه الحال مثابين على طاعة الله ورسوله لكان خلاف مدلول الخطاب]. هذا هو المرجح الثالث، فمدلول الخطاب لهؤلاء الأعراب، قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14]، ثم خاطبهم فقال: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14]. فأهل القول الأول يقولون: هذه الطاعة تكون بداية دخول الإيمان في قلوبهم، ونحن نقول: ولو كان كذلك لكان خلاف مدلول الخطاب، والخطاب موجه لهم وهم في هذه الحال، أي: قل لم تؤمنوا أيها الأعراب ولكن قولوا أسلمنا، وإن تطيعوا الله يثبكم على أعمالكم. فإن قيل: إن الطاعة تكون بعدما يدخل الإيمان في قلوبهم، قلنا: لو كان كذلك لصار الخطاب غير موجه إليهم، وإنما وجه إليهم بعد دخول الإيمان، وهذا خلاف مجيء الخطاب، وهذا هو المرجح الثالث.

دلالة وصف كاملي الإيمان بعد ذكر الضعفاء فيه

دلالة وصف كاملي الإيمان بعد ذكر الضعفاء فيه قال المصنف رحمه الله تعالى: [فبين ذلك أنه وصف المؤمنين الذين أخرج هؤلاء منهم فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، وهذا نعت محقق للإيمان؛ لا نعت من معه مثقال ذرة من إيمان]. هذا هو المرجح الرابع: أنه بعد أن أخبرهم بأنهم ضعفاء الإيمان، بين لهم أوصاف المؤمنين الكمل الذين حققوا الإيمان فقال: انظروا أوصاف المؤمنين الذين حققوا الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، فهؤلاء هم الصادقون في إيمانهم، الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يشكوا وجاهدوا بالمال وجاهدوا بالنفس فأولئك هم الصادقون، وأنتم لستم صادقين. وضعيف الإيمان ليس بصادق الإيمان، وهؤلاء هم الصادقون، كما قالت الآية الأخرى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:2 - 4]، فهؤلاء المؤمنون الذين حققوا لإيمان. وفي الآية الأخرى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62]، فالمرجح الرابع: أن الله بين وصف المؤمنين الكمل الذين حققوا الإيمان، والأعراب خرجوا من هذا الوصف، فهذا وصف المؤمنين الذين حققوا الإيمان ولستم أيها الأعراب منهم؛ لأنكم لم تصلوا إلى هذه الدرجة، فأنتم ضعيفو الإيمان، وهؤلاء حققوا الإيمان وكملوه. وهؤلاء الأعراب وغيرهم معهم أصل الإيمان، لكن ليس معهم كمال الإيمان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:2 - 4]]. هذا هو الشاهد: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، كما أن الشاهد في الآية السابقة، {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، والمقصود هؤلاء الذين حققوا الإيمان وصدقوا في إيمانهم، وأنتم أيها الأعراب لم تصلوا إلى هذه الدرجة، ولم تصلوا إلى كمال الإيمان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:62]]. هؤلاء هم المؤمنون الكمل.

تقرير مذهب الجمهور

تقرير مذهب الجمهور قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وأمثال ذلك]. هؤلاء نفي عنهم الإيمان لضعفهم مثل الأعراب. والمؤلف رحمه الله يقرر بهذا مذهب الجمهور، وأن هؤلاء الذين نفي عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام ليسوا منافقين ولكن إيمانهم ضعيف، فلهذا نفى عنهم الإيمان الكامل وإن كان معهم أصل الإيمان الذي يصح به الإسلام، والإسلام لابد له من إيمان يصححه، فالمسلم لابد أن يكون مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان الذي يصحح الإسلام لابد منه، لكن الإيمان المكمل هو الذي نفي عنهم، والمثبت لهم أصل الإيمان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فدل البيان على أن الإيمان المنفي عن هؤلاء الأعراب: هو هذا الإيمان الذي نفي عن فساق أهل القبلة الذين لا يخلدون في النار]. الإيمان الذي نفي عن الأعراب في قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، هو الإيمان الذي نفي عن الفساق في الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن)، والفاسق عندما ينفى عنه الإيمان ليس بكافر، وإنما ينفى عنه الكمال؛ لأن عنده أصل الإيمان الذي يصح به الإسلام، فهو مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، فكذلك الأعراب أثبت لهم أصل الإيمان ونفي عنهم كمال الإيمان وتحقيقه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [بل قد يكون مع أحدهم مثقال ذرة من إيمان، ونفي هذا الإيمان لا يقتضي ثبوت الكفر الذي يخلد صاحبه في النار]. يعني: أن نفي الإيمان هنا معناه: نفي كمال الإيمان، لا أنه يكون كافراً، كما في الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فالذي نفي عنه هو كمال الإيمان ولا يقتضي الكفر، بل يقتضي حدوث أصل الإيمان، إنما الذي يقتضي الكفر هو نفي أصل الإيمان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وبتحقق هذا المقام يزول الاشتباه في هذا الموضع، ويعلم أن في المسلمين قسماً ليس هو منافقاً محضاً في الدرك الأسفل من النار، وليس هو من المؤمنين الذين قيل فيهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]. ولا من الذين قيل فيهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:74]. فلا هم منافقون ولا هم من هؤلاء الصادقين المؤمنين حقاً، ولا من الذين يدخلون الجنة بلا عقاب، بل له طاعات ومعاص وحسنات وسيئات، ومعه من الإيمان ما لا يخلد معه في النار. وله من الكبائر ما يستوجب دخول النار، وهذا القسم قد يسميه بعض الناس: الفاسق الملي، وهذا مما تنازع الناس في اسمه وحكمه]. بتحقيق هذا المقام يزول الاشتباه في هذا الموضع؛ لأن هذا الموضع موضع اشتباه، ووجه ذلك أن الخوارج لما سمعوا: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، وقوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، كفروه، وقالوا: نفي عنه الإيمان لكفره، فاشتبه عليهم الأمر، واشتبهت عليهم النصوص، ولم يجمعوا بينها. وأما المرجئة فقالوا: هو مؤمن كامل الإيمان. وهدى الله أهل السنة والجماعة فجمعوا بين النصوص. وبتحقيق هذا المقام في هذا الموضع، الذي فيه نصوص أثبتت الإسلام لقوم ونفت عنهم الإيمان علم أن في المسلمين قسماً ليس هو منافقاً محضاً في الدرك الأسفل من النار وليس هو من المؤمنين الكمل، الذين حققوا الإيمان. فهو مؤمن ضعيف الإيمان، وليس من المؤمنين الذين قيل فيهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، ولا من الذين قيل فيهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، كما في سورة الأنفال، فلا هم منافقون، ولا هم من هؤلاء الصادقين المؤمنين حقاً، ولا هم من الذين يدخلون الجنة بلا عقاب، بل لهم طاعات ومعاصي، فالناس أربعة أصناف، وكلها داخلة في مسمى الإسلام، وهم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وهؤلاء يثبت لهم الإسلام وينفى عنهم الإيمان، القسم الثاني الصادقون المؤمنون حقاً، وهم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات، قال الله عنهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]. القسم الثالث: الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهم الذين أحكموا التوحيد وخلصوه ونقوه من شوائب الشرك والبدع ونحو ذلك. القسم الرابع: المؤمنون ضعيفو الإيمان، الذين لهم طاعات وحسنات ومعاص وسيئات، ومعهم من الإيمان ما يمنع الخلود في النار، ومعهم من الكبائر ما يقتضي دخول النار، وهذا هو الذي وصف به الأعراب والزاني والسارق الذين نفي عنهم الإيمان في قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] والحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن). فهذه أربعة أصناف كلها داخلة في مسمى الإسلام غير الكفار، والكافر هو القسم الخامس. فالكافر ظاهراً وباطناً ليس بمؤمن، ويشمل اليهود والنصارى والوثنيين والمجوس والشيوعيين والملاحدة جميعاً، فكلهم أظهروا كفرهم، وهم صنف واحد. والصنف الرابع الذين لهم طاعات وحسنات ولهم معاص وسيئات، فليس معهم كمال الإيمان، بل معهم من الإيمان ما لا يخلد في النار ولهم كبائر يستوجبون بها دخول النار- فهم تحت مشيئة الله، قد يعفو الله عنهم ويدخلهم الجنة من أول وهلة، وقد يعذبهم ولكن لا يخلدون، وقد يكون مخلداً في النار على حسب الجرائم؛ لأنه تواترت الأخبار أنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر مؤمنون مصدقون لكنهم دخلوا النار بالمعاصي، كمن مات على سرقة أو زنا أو عقوق، وبعضهم يكون مكثراً حتى أنه يخلد كالقاتل، والمراد بالخلود: طول المكث، أي: يمكث مدة طويلة ولكن لا يخلد، فالخلود خلودان: خلود مؤبد لا نهاية له، وهذا خلود الكفرة، والثاني: خلود مؤقت، له أمد ونهاية، وهو خلود بعض العصاة الذين اشتدت جرائمهم وكثرت وفحشت كالقاتل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، لكنه ليس بكافر إلا إذا استحل، فإذا رأى أن القتل حلال كفر. كذلك المرابي إذا تعامل بالربا فهو ضعيف الإيمان، إلا إذا اعتقد أن الربا حلال كفر. فهذا القسم هم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وهم الذين قال الله فيهم: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، فمعهم أصل الإيمان الذي يمنعهم من الخلود في النار كالكفرة، ومعهم كبائر يستوجبون بها دخول النار كالعصاة، وهذا القسم يسميه بعض الناس الفاسق الملي. والفاسق هو الذي دخل في ملة الإسلام مثل الزاني والسارق وشارب الخمر والمرابي والقاتل، وهذا مما تنازع الناس في اسمه وحكمه، فأهل السنة يسمونه مؤمناً ناقص الإيمان، والخوارج يسمونه كافراً، والمعتزلة يقولون: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، والمرجئة يسمونه مؤمناً كامل الإيمان. هذا في الاسم، وأما في الحكم فأهل السنة يقولون: هو تحت مشيئة الله، والخوارج يقولون: مخلد في النار، والمعتزلة: مخلد في النار، والمرجئة: يدخل الجنة من أول وهلة.

بيان مبدأ ظهور الخلاف في الدين

بيان مبدأ ظهور الخلاف في الدين قال المصنف رحمه الله تعالى: [والخلاف فيه أول خلاف ظهر في الإسلام في مسائل أصول الدين]. وذلك في عصر الصحابة، فبعد قتل أمير المؤمنين عثمان، خرجت الخوارج وكفروا علياً وعثمان، وقالوا: أنتم حكمتم الرجال في كتاب الله، وأصل الخوارج رجل خرج في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الرجل الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اعدل يا محمد. ولما استأذنه خالد رضي الله عنه في قتله، قال: (اتركه فإنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم، تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم)، فرأي الخوارج قديم أصله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه خرجت الخوارج، ثم بعده جاءت المرجئة والمعتزلة. وكذلك الشيعة خرجوا في زمن علي رضي الله عنه وظهرت السبئية الذين غلوا فيه، وقالوا أنت الإله، فخد لهم أخدوداً وأجج لها ناراً وألقاهم فيها وهم أحياء من شدة غضبه عليهم، وقال: لما رأيت الأمر منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً. وإن كان هذا شاذاً من أمير المؤمنين علي، والصواب: أنه يقتل، لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار كما في الحديث، ولكن من شدة حنقه اجتهد وأحرقهم بالنار، فلما ألقوا في النار زادوا في الشرك وسجدوا له وقالوا: هذا هو الإله، نعوذ بالله. قال ابن عباس رضي الله عنه: لو كنت مكان أمير المؤمنين لقتلتهم بالسيف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعذب بالنار إلا رب النار)، لكن اجتهد. والصديق رضي الله عنه حرق بعض المرتدين من أهل الردة، وكذلك خالد بن الوليد حرقهم بالنار اجتهاداً، فيحتمل أن النص ما بلغهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فنقول: لما قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وصار علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى العراق، وحصل بين الأمة من الفتنة والفرقة يوم الجمل، ثم يوم صفين ما هو مشهور؛ خرجت الخوارج المارقون على الطائفتين جميعاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بهم، وذكر حكمهم]. بعد موقعة الجمل وصفين خرجت الخوارج، والخوارج مذهبهم مذهب فاسد باطل، وهو: تكفير المسلمين بالمعاصي، فمن فعل معصية كبيرة كفر عند الخوارج، وخرج من الإيمان، هذا في الدنيا يعاملونه معاملة الكافر، فإذا زنا قالوا: كفر، وإذا سرق كفر، وإذا عمل بالربا كفر، إذا عق والديه كفر، وإذا أكل الرشوة كفر، وإذا اغتاب كفر، وإذا نم كفر، وحكمه عندهم أنهم يقتلونه، ويحلون دمه وماله، وهو في الآخرة مخلد في النار كالكفار، وهذا المذهب خبيث. إذاً في الدنيا يكفرونه ويستحلون دمه وماله، وفي الآخرة يخلد في النار. ثم خرجت المعتزلة بعدهم ووافقوهم في أنه يخلد في النار، وخالفوهم في الدنيا وقالوا: لا نسميه كافراً؛ لأن النصوص دلت على أنه خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر؛ فقالوا: هو في منزلة بين منزلتين. والمرجئة قالوا: هو مؤمن كامل الإيمان، فلو فعل جميع الكبائر والمنكرات فلا يضره ما دام أنه مصدق، بل هو مؤمن كامل الإيمان يدخل الجنة من أول وهلة. وأهل السنة وهم الطائفة الرابعة قالوا: هو مؤمن ضعيف الإيمان، ولا يقتل كالكافر، لكن يقام عليه الحد، فإذا زنى يقام عليه الحد، وإذا سرق يقام عليه الحد وتقطع يده، وهو في الآخرة تحت مشيئة الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، قد يعفو الله عنه، وقد يعذبه على قدر ذنوبه، وإذا عذب دخل النار ولم يخلد، وبعض العصاة يطول مكثه لكن له نهاية فيخرج، ولا يخلد إلا الكفرة. فهذه مباحث دقيقة ومسائل دقيقة جداً وخطيرة في نفس الوقت؛ لأن بعض الناس يسلك مسلك الخوارج وهو لا يشعر، وبعض الناس يسلك مسلك الجهمية وهو لا يشعر، وبعض الناس يسلك مسلك المعتزلة، فلابد أن يكون المسلم عنده التحقيق في هذا المقال، ويجمع بين النصوص من كتاب الله وسنة رسوله، ويعمل بها من الجانبين. والخوارج لا يعملون إلا ببعض النصوص، فيعملون بنصوص الوعيد، وأغمضوا أعينهم عن نصوص الوعد، فكفروا العصاة وخلدوهم في النار. والمرجئة يعملون ببعض النصوص، كنصوص الوعد، وأهملوا نصوص الوعيد، فصاروا يقولون: إن العاصي كامل الإيمان، ويدخل الجنة من أول وهلة. وأهل السنة وفقهم الله فأخذوا نصوص الوعيد وصفعوا بها وجوه المرجئة وأبطلوا مذهبهم، وأخذوا نصوص الوعد وصفعوا بها وجوه الخوارج وأبطلوا مذهبهم، وأخذوا نصوص الوعيد فاحتجوا بها على أن المؤمن يضعف إيمانه، ونصوص الوعد فاحتجوا بها على أنه لا يخرج من الإسلام، فخرج مذهب أهل السنة من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، من بين فرث الخوارج ودم المرجئة.

الأسئلة

الأسئلة

الكلام حول كتاب (المعلوم في علاقة الحاكم والمحكوم)

الكلام حول كتاب (المعلوم في علاقة الحاكم والمحكوم) Q ما رأيكم في كتاب المعلوم في علاقة الحاكم بالمحكوم، وهل تنصحون بقراءته وتوزيعه؟ A هذه الرسالة: العلاقة بين الحاكم والمحكوم أسئلة أجاب عليها سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز يرحمه الله، إعداد أبي عبد الله بن إبراهيم آل بليطح الوائلي، وقد قرأتها، وهي أسئلة موجهة لسماحة الشيخ رحمه الله، وأجاب عنها في مسائل تتعلق بالحكم فيما أنزل الله، ومسائل أخرى كثيرة. ثم أضاف عليها بعد نهاية الأسئلة أقوالاً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بعضها مأخوذ من كتاب الإيمان، وأقوالاً للعلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب أعلام الموقعين. ثم أورد بعد ذلك كلام ابن رجب الحنبلي رحمه الله على حديث تميم الداري: (النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، ثم نقل عن أبي بكر الآجري في الشريعة مسائل في حكم الأئمة وولاة الأمور، ثم نقل عن الشوكاني في كتابه السيل الجرار في الأئمة. وقد قرأته كله ولم يأت الكاتب بشيء من عند نفسه، وإنما هو نقول، والعلماء كانت توصي بقراءته وتوزيعه.

حكم ترك الجوال مفتوحا أثناء الدروس والصلاة

حكم ترك الجوال مفتوحاً أثناء الدروس والصلاة Q نطلب منكم نصيحة لأصحاب الجوالات أن يغلقوها أثناء الدرس، حيث إنا قدمنا من بلاد بعيدة نطلب الفائدة؟ A أجهزة الجوال يجب إغلاقها، وبعض الإخوان في آخر المسجد يستعملون الجوالات ويتكلمون في أثناء الدرس فيشوشون على إخوانهم، وهذا غلط، ولا ينبغي، والذي ينبغي التعاون على البر والتقوى، وإذا كنت لا تريد الفائدة، فاخرج من المسجد ولا تشوش على إخوانك، فيجب إغلاقه وقت الدرس، ووقت الصلاة، وطالب العلم لا يجمل به أن يجعل نغمات موسيقية، فهي محرمة. والمقصود منها التنبيه، وليس المقصود منها الطرب، وأعظم من ذلك إذا كان في المسجد، وأعظم من ذلك إذا كان في الصلاة، فهذه ظلمات بعضها فوق بعض، ففي هذا تشويش على المصلين، فلا تلم إلا نفسك فأنت الآثم، فنصيحتي لإخواني جميعاً أن يجعلوا الجرس تنبيهاً عادياً وليس فيه نغمات، سواء جرس الهاتف أو الجوال. وثانياً: عليهم أن يغلقوه في المسجد، وفي وقت الصلاة وفي وقت الدرس كذلك، فينبغي للإخوان أن يتعاونوا، ومن يريد أن يفتحه فلا يفتحه في المسجد، بل عليه أن يخرج من المسجد.

حكم فاعل الكبيرة إذا تاب

حكم فاعل الكبيرة إذا تاب Q إذا خرج الإنسان من الإيمان إلى الإسلام بسبب المعاصي، فمتى يرجع إلى الإيمان مرة أخرى، وهل كل المعاصي تخرج من الإيمان؟ A الذي يخرج من الإيمان الكامل، يخرج إلى الإيمان الناقص وهو الإسلام، فالإسلام هو إيمان ناقص، فإذا تاب من الكبيرة التي ارتكبها أو تاب من التقصير في الواجبات عاد إلى تمام الإيمان. وكذلك الزاني إذا تاب من الزنا توبة نصوحاً بشروطها، بمعنى أنه أقلع عن المعصية، وندم على ما مضى، وعزم عزماً جازماً على ألا يعود إليها، ورد المظلمة إلى أهلها، فإن كانت سرقة ورد المال إلى صاحبه، فإنه يعود إليه الإيمان الكامل. والمراد الكبائر وليس المراد الصغائر، فالصغائر تكفر باجتناب الكبائر، والكبائر جمع كبيرة، والكبيرة أصح ما قيل في تعريفها: هي كل ذنب وجب فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة بالنار أو اللعنة أو الغضب، مثل الزنا الذي جاء فيه الوعيد: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء:32]. والقتل وعد عليه بالنار فهو كبيرة، وأكل مال اليتيم وعد عليه بالنار فهو كبيرة، والسرقة فيها حد وهو قطع يد فهي كبيرة. فإذا فعلها رجل ثم تاب توبة نصوحاً عاد إلى الإيمان الكامل، أما الصغائر فتكفر باجتناب الكبائر وأداء الفرائض، فإذا أدى الإنسان الفرائض وترك الكبائر كفر الله عنه الصغائر، قال عليه الصلاة والسلام: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينها إذا اجتنبت الكبائر)، قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، والصغيرة كلطمة أو زلة أو هفوة أو نظرة وما أشبه ذلك، فهذه تكفر باجتناب الكبائر وأداء الفرائض. جاء في الحديث الآخر: أن فتنة الرجل في أهله وماله تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والحج، وقوله: (فتنة الرجل في أهله) أي: ما يحصل بينه وبين أهله أو بينه وبين جاره أو بينه وبين ولده من الكلام الذي يحصل بينهم، فهذا من الصغائر التي تكفر بأداء الفرائض، أما الكبائر فإنه بها من الإيمان الكامل إلى أصل الإيمان إذا فعل كبيرة، ويعود إليه إذا تاب من الكبيرة توبة نصوحاً. وألحق بعضهم بالكبائر ما نفي عن صاحبه الإيمان، أو قال فيه ليس منا، كحديث: (من غشنا فليس منا)، و (ليس منا ضرب الخدود وشق الجيوب)، أو تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: (برئ النبي صلى الله عليه وسلم من الصالقة والحالقة والشاقة). فإن قيل: فهل البدع تدخل في الكبائر؟ قلنا: البدع تنقسم إلى قسمين: بدعة مكفرة وبدعة غير مكفرة، فإذا كانت البدع مكفرة فلها حكم الكفر، وإذا كانت بدعة غير مكفرة فحكمها حكم الكبائر وإن كانت أشد من الكبائر، فالبدعة المكفرة مثل بدعة القدرية الأولى الذين نفوا علم الله بالأشياء، ومثل بدعة الجهمية الذين نفوا الأسماء والصفات عن الله، وقد كفرهم ثلاثمائة عالم، ومثل بدعة الروافض الذين يعبدون آل البيت ويكفرون الصحابة ويفسقونهم وكذبوا النصوص، فهذه بدع مكفرة. أما البدع غير المكفرة فمثل بدعة المولد، وبدعة التلفظ بنية الأذكار في الصلوات وفي غيرها، فالبدعة حكمها حكم الكبيرة إذا كانت غير مكفرة، وإذا كانت مكفرة فحكمها حكم الكفر.

كيفية الجمع بين إثبات الزنا من المؤمن ونفي الإيمان عن الزاني

كيفية الجمع بين إثبات الزنا من المؤمن ونفي الإيمان عن الزاني Q كيف نجمع بين قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، إلى آخر الحديث وبين قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أيزني المؤمن يا رسول الله! قال: نعم، أيسرق المؤمن قال: نعم، أيكذب المؤمن، قال: لا)؟ A نص الحديث: (أيكون المؤمن جباناً، قال: نعم، قال: أيكون المؤمن كذاباً، قال: لا)، أما هذا اللفظ الذي ذكره السائل فلا أعرف صحته، ولو صح فالمراد بالإيمان المنفي هو الإيمان الكامل، والمثبت أصل الإيمان، وهذه قاعدة، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، فأثبت لهم الإسلام ونفى عنهم الإيمان. فالإيمان المنفي هو كمال الإيمان وتحقيقه، والإيمان المثبت هو أصل الإيمان، فإذا صح الحديث الذي ذكره السائل فيعني أن معه أصل الإيمان. وأما حديث نفي الإيمان: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فالمنفي كمال الإيمان، والمثبت أصل الإيمان، وهذا هو الجمع بينهم. أما الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه)، فهذا من كمال الإيمان، وكذلك قوله: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)، وقوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه).

الكلام حول حديث: (لا يدخل الجنة مدمن خمر)

الكلام حول حديث: (لا يدخل الجنة مدمن خمر) Q ما صحة حديث: (لا يدخل الجنة مدمن خمر)، وإذا صح، فعلام يحمل هذا النفي؟ A الأصل أنهم لا يدخلون الجنة، والحديث (لا يدخل الجنة مدمن خمر ومصدق للسحر وقاطع رحم)، فيحمل على الوعيد عند أهل السنة، ويحمل على أنه كبيرة من كبائر الذنوب وعد عليه بعدم دخول الجنة، ولا يكون كافراً. والمعنى أنه لا يدخل الجنة جملة من أهل الكبائر من أول وهلة، ولكنهم يدخلونها بعد أن يتطهروا في النار، وليس المراد أنه كافر إلا إذا استحل الخمر، وقال إنه حلال فيكفر.

حكم تعليق التميمة

حكم تعليق التميمة Q كيف ينكر على من وجد قد علق تيمية في يده يزعم أنها تشفي من المرض، وإذا لم يستجب للنصح فهل يمد الناطق يده ويقطع التميمية، أم يكتفي بالنصيحة وتبرأ ذمته؟ A التميمة هي ما يعلق لدفع العين من الحُُجُب، وقد يكون الحجاب على الرقبة أو في اليد أو في الإصبع، وأصلها خرزات يعلقها العرب لدفع العين في رقاب الأطفال وغيرها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك). قال عليه الصلاة والسلام: (من تعلق تميمية فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله عليه)، وبعضهم يجعل المصحف تميمة فيجعله في السيارة بقصد دفع العين، والتمائم شرك أصغر إذا اعتقد أنها سبب. أما إذا اعتقد أنها هي المؤثرة بذاتها فهذا كفر وشرك بالربوبية، فإذا اعتقد أن التميمية نفسها تدفع العين وتدفع المرض بذاتها فهذا شرك في الربوبية يخرج من الملة تجاوز شرك كفار قريش، وشرك كفار قريش في العبادة والألوهية وهذا شرك في الربوبية، لكن الغالب الآن أن الذي يجعل التميمة يعتقد أنها سبب تدفع العين والشافي هو الله، وإذا اعتقد أنها سبب فهذا شرك أصغر؛ لأنها ليست شركاً، ومن اعتقدها سبباً لم يجعلها الله له سبباً. فالحاصل أن الذي يعلق التميمة له حالتان: الحالة الأولى: أن يعتقد أنها بذاتها تشفي وتدفع العين، فهذا شرك في الربوبية يخرج من الملة، وهذا قليل. الحالة الثانية: أن يعتقد أنها سبب والشافي هو الله، وهذا شرك أصغر.

الفرق بين من حقق الإيمان بفعل الطاعات وبين الذين يدخلون الجنة بلا حساب

الفرق بين من حقق الإيمان بفعل الطاعات وبين الذين يدخلون الجنة بلا حساب Q ما الفرق بين من حقق الإيمان بفعل الطاعات وترك المعاصي، وبين الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب لتحقيقهم التوحيد؟ A الفرق بينهم أن المؤمن كامل الإيمان الذي أدى الواجب وترك المحرمات، لكن الذي يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب قد زاد على هذا فحقق التوحيد وخلصه ونقاه وصفاه وترك الأمور المكروهة، وفعل المندوب، وترك الأمور التي هي خلاف الأولى، كما في قصة الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (هم الذين لا يسترقون) أي: لا يطلبون من يرقيهم. والرقية هي القراءة على المريض، وذلك جائز، وقد يفعله كاملو الإيمان وليس فيه مانع، وليس بمعصية، لكن الذي حقق الإيمان فلا يطلب أحداً يرقيه حتى لا يميل قلبه إليه، وإنما يعتمد على الله، فلا يطلب الكي أو التطبب مع أنه جائز وليس بحرام، فالذي يسترقي لا نقول إنه ناقص الإيمان أو ضعيف الإيمان، بل نقول: إنه ما حقق الإيمان، وقد حققه الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهم لا يسترقون ولا يتطيرون كأهل الشرك، فهم تركوا الشرك والطيرة، وتركوا الأمور المكروهة، وتركوا الأمور التي هي خلاف الأولى كالاسترقاء. وإن كان الذين يسترقون ويكتوون ليسوا فساقاً ولا ضعفاء الإيمان، بل هم كاملو الإيمان، لكن ما وصلوا إلى درجة من حقق التوحيد ودخل الجنة بلا حساب ولا عذاب.

حكم الدراسة في جامعة مختلطة

حكم الدراسة في جامعة مختلطة Q أدرس في جامعة مختلطة خارج المملكة بعد أن لم أجد قبولاً هنا، فما حكم الدراسة فيها، علماً بأنني لم أجد قبولاً هنا، وقد أمضيت سنة دراسية فيها؟ A لا يجوز لك أن تدرس في جامعة مختلطة؛ لأن هذا فيه خطر على دينك وعرضك؛ ولأن الدراسة في جامعة مختلطة والرجل والمرأة والذكر والأنثى في فصل واحد وسيلة قريبة إلى الزنا وفعل الفاحشة. كيف تخاطر بدينك وعرضك؟! أأنت تريد أن تطلب العلم الشرعي حينما تدرس في جامعة مختلطة؟ فالذي يريد أن يطلب العلم الشرعي يطلب رضا الله وثوابه، وهذه وسيلة قريبة إلى الزنا، وهو حرام عليك ولا يجوز لك ولو لم تقبل في الدنيا كلها، وعليك أن تجلس في البيت، فليس الرزق محصوراً في هذه الجامعة المختلطة، وإذا كنت تريد العلم فالدراسة فيها ينافي العلم الشرعي، وإذا كنت تريد الدنيا فالدنيا لا تطلب بالمعاصي، وإذا كنت تريد أن تطلب العلم فاطلبه في مدراس غير مختلطة، أو في حلق الدروس، أو في الشبكة، أو في الأشرطة المفيدة، أو في كتب أهل العلم والاتصال بأهل العلم في الهاتف، وهذه طرق متاحة لطلب العلم. أو تبحث عن جامعات أو مدارس أو كليات ليست مختلطة، وإن لم تجد شيئاً فلا يجوز لك أن تدخل هذه الجامعة المختلطة، فإن دخلتها فأنت عاصٍ لله ولرسوله، وهذه وسيلة قريبة إلى الزنا، نعوذ بالله؛ لأن الطالب يجلس بجوار بنت أو زميلة ويخرج معها ويخلو بها في غرفة ويذهب معها في سيارة واحدة، فهذه فواحش وليست علماً، نسأل الله السلامة والعافية.

حكم من يتبخر بالحبة السوداء

حكم من يتبخر بالحبة السوداء Q ما حكم من يتبخر بالحبة السوداء وبعض الأعشاب ويزعم أنها تطرد الشياطين وتشفي من العين؟ A لا أعلم لهذا أصلاً، وهذا يحتاج إلى دليل، أما كونه يستعملها فإذا كانت الحبة السوداء قد جربها بعض الناس ووجد أنها مفيدة وتشفي من بعض الأمراض فلا بأس، لكن كونه يعتقد أنها تطرد الشياطين، فهذا لابد له من دليل، وإذا لم يكن عنده دليل فإنه يكون مبتدعاً يفعل شيئاً بدون دليل.

حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن في الرقية

حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن في الرقية Q ما حكم من يأخذ أجراً على قراءته للقرآن للمريض في الرقية، ويأخذ الأجر على الماء والزيت؟ A لا بأس أن يأخذ الأجرة على الرقية إذا كانت رقية شرعية، فقد أخذ الصحابة رضوان الله عليهم أجرة على الرقية، وذلك في قصة الصحابي الذي رقى رئيس قبيلة من العرب على قطيع من الغنم، وقرأ عليه الفاتحة فقط فشفي الرجل من سم العقرب، فلما تحرج الصحابة من أخذ الأجرة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (خذوها واضربوا لي معكم بسهم) تطييباً لخواطرهم، وهذا الحديث صحيح. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ما أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، رواه البخاري في الصحيح، فلا بأس بذلك لكن عليه ألا يستغل حاجة الناس، بحيث يبيع علبة الصحة بخمسين ريالاً وهو لم يقرأ فيها، أو قرأ فيها شيئاً يسيراً، أو قرأ في ماء كثير ثم عبأ هذه القوارير، فكل هذا استغلال. ولا ينبغي للمسلم أن يكون همه المال، والأصل أنه يرقي المريض، وينفث عليه، ولا بأس أن ينفث في الماء كما جاء في سنن أبي داود أنه ينفث على الماء، لكن الأصل أنه يرقي المريض ويقرأ، وإذا رقاه بآية من كلام الله، أو بأدعية شرعية نبوية، وبأدعية لا محذور فيها فلا بأس، وهذا له أن يأخذ عليه أجرة معقولة، أما ما يفعله بعض الناس من كونه يجعلها حرفة وتجارة، ويبيع الزجاجة بكذا والزيت بكذا، وقد يكون قرأ وقد لا يكون قرأ فيأخذ أجراً زيادة عما تستحق، فهذا من باب استغلال المسلمين، نسأل الله السلامة والعافية.

[11]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [11] مذهب الخوارج التكفير بالمعصية، ويحكمون على الفاسق بأنه كافر حلال الدم والمال، وقد خرجوا على المسلمين بعد مقتل عثمان رضي الله عنه.

خروج الخوارج عن الوسطية وغلوهم

خروج الخوارج عن الوسطية وغلوهم قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: لما قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وسار علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى العراق، وحصل بين الأمة من الفتنة والفرقة يوم الجمل ثم يوم صفين ما هو مشهور، خرجت الخوارج المارقون على الطائفتين جميعاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بهم، وذكر حكمهم].

الخلاف في الفاسق الملي

الخلاف في الفاسق الملي المؤلف رحمه الله يبين الخلاف في الفاسق الملي، وهو: المؤمن العاصي الموحد، الذي وحد الله وأخلص له العبادة، ولم يقع في عمله شرك لكنه اقترف بعض الكبائر، أو قصر في بعض الواجبات، وهذا يسمى الفاسق الملي، وهذا هو الذي جاءت النصوص بإثبات الإسلام له ونفي الإيمان عنه، كقوله تعالى في سورة الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، وقوله سبحانه في سورة الذاريات: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36]، وقوله سبحانه في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35]. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان عن سعد بن أبي وقاص: (أنه لما أعطى رجالاً وترك رجالاً قال سعد: وترك رجلاً هو أعجبهم إلي، قلت: يا رسول الله! ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا؟! فقال: أو مسلماً). وهذا الصنف من الناس فيه قولان لأهل العلم: القول الأول: أن الذين أثبت لهم الإسلام ونفي عنهم الإيمان، إنما هم المنافقون، فيكون الإسلام هو الاستسلام في الظاهر، وذهب إلى هذا الإمام البخاري وجماعة، وقالوا: لأن الإسلام هو الإيمان، والإيمان هو الإسلام. القول الثاني: قول جمهور العلماء من السلف والخلف: أن هؤلاء الذين أثبت لهم الإسلام ونفي عنهم الإيمان ليسوا منافقين، وإنما هم ضعفاء الإيمان، وهذا هو الذي يسمى الفاسق الملي، وهذا هو الأرجح والأصوب.

ذكر ما يؤيد أن العاصي مؤمن ضعيف الإيمان وليس كافرا

ذكر ما يؤيد أن العاصي مؤمن ضعيف الإيمان وليس كافراً وهذا القول يرجح من عدة مرجحات وهي: المرجح الأول: قوله سبحانه وتعالى في سورة الحجرات: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، والحرف (لما) ينفى به ما قرب وجوده وانتظر، والمعنى أنه: لم يدخل الإيمان الكامل في قلوبكم، وسوف يدخل قريبا. المرجح الثاني: أنه أثبت لهم الطاعة لله ورسوله وهم على حالهم، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14]. المرجح الثالث: أن الله تعالى خاطب هؤلاء بقوله: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحجرات:14]، ولو لم يكونوا في هذا الحال مثابين لكان خلاف مدلول الخطاب. المرجح الرابع: أنه وصف المؤمنين الذين حققوا إيمانهم بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]. والفاسق الملي أو المؤمن الذي ارتكب بعض الكبائر أو قصر في بعض الواجبات يعطى مطلق الإيمان، أي: أصل الإيمان، وينفى عنه الإيمان المطلق، أي: الإيمان الكامل. وهذا القسم يسميه بعض الناس الفاسق الملي، أي: أنه فاسق ولكنه داخل في ملة الإسلام، والناس تنازعوا في اسمه لا في حكمه، والذين يدخلون في مسمى الإسلام أقسام: القسم الأول: المنافقون. القسم الثاني: الصادقون في إيمانهم. القسم الثالث: الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب. القسم الربع: الفاسق الملي، الذي له طاعات وحسنات، وله معاص وسيئات. القسم الخامس: الكافر ظاهراً وباطناً من اليهود والنصارى والوثنيين. والخلاف في الفاسق الملي، أول خلاف ظهر في الإسلام في مسائل أصول الدين، فبعد قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، ظهرت الخوارج وخالفوا في الفاسق الملي، وقالوا: إنه كافر، وخالفوا أهل السنة والجماعة، وأهل السنة والجماعة على أنه مؤمن عاصٍ ضعيف الإيمان. والخوارج قالوا: إنه كافر في الدنيا أو مخلد في النار في الآخرة، والمعتزلة قالوا: إنه خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر، وهو مخلد في النار كقول الخوارج.

بيان أصل الخوارج

بيان أصل الخوارج وأول من تكلم في هذا وهو أصل الخوارج -كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الرجل الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اتق الله واعدل، ولما سأل خالد رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم قتله قال: (إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم عند صلاتهم، وصيامكم عند صيامهم)، أي: من كثرة عبادتهم. فإذاً أول خلاف حصل في مسائل أصول الدين في الفاسق الملي، وقد حصل الخلاف بعد قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وعندما بويع لأمير المؤمنين علي رضي عنه بايعه أكثر أهل الحل والعقد، وامتنع معاوية وأهل الشام من مبايعته، لا لأنه ليس أهلاً للخلافة بل لأنهم مطالبون بدم عثمان، وعلي رضي الله عنه لم يمانع من أخذ قتلة عثمان، ولكنه رضي الله عنه يطلب من معاوية وأهل الشام أن يبايعوه، وإذا هدأت الأمور وثبت على جماعة أنهم قتلوا أمير المؤمنين يقتص منهم. ولكن أهل الشام امتنعوا اجتهاداً منهم فحصل الخلاف، وكل من الصحابة مجتهد، كما جاء في الحديث: (من اجتهد فأصاب فله أجران) كـ علي وأهل العراق، (ومن اجتهد وأخطأ فله أجر) كـ معاوية وأهل الشام. فالمؤلف رحمه يبين أن هذا أول خلاف وقع في الإسلام في أصول الدين، وهو خلاف الخوارج، وكان بعد قتل أمير المؤمنين عثمان، وأصله اعتراض ذي الخويصرة التميمي الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا محمد! اتق الله واعدل، وفي اللفظ الآخر أنه قال: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. وبعد وقعة النهروان خرجت الخوارج، ومرقت مارقة على حين فرقة من المسلمين فقتلهم علي رضي الله عنه وجيشه، قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (تقتلهم أدنى الطائفتين)، أي: أقرب الطائفتين إلى الحق. فالمؤلف يبين هذا، ويبين أن الخوارج صحت فيهم الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإمام أحمد: صح حديث الخوارج من عشرة أوجه، بخلاف الأحاديث في القدرية وذمهم فإن رفعها ضعيف، والصحيح أنها موقوفة على الصحابة بخلاف الأحاديث في الخوارج فإنها أحاديث صحيحة ثابتة في الصحيحين وغيرهما. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، وهذه العشرة أخرجها مسلم في صحيحه موافقة لـ أحمد، وروى البخاري منها عدة أوجه، وروى أحاديثهم أهل السنن والمسانيد من وجوه أخر]. الأحاديث صحت في الخوارج من عشرة أوجه، وخروج الخوارج كان في الوقت الذي حصل فيه الخلاف بين أهل الشام وأهل العراق يوم الجمل، ثم يوم صفين خرجت الخوارج على الطائفتين جميعاً: على طائفة علي وأهل العراق، وطائفة معاوية وأهل الشام.

صفات الخوارج

صفات الخوارج قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن أصح حديثهم حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنه ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إذا حدثتكم عن رسول الله حديثاً فوالله لئن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أكذب عليه، وإن حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة]. هذا فيه بيان عناية الصحابة رضوان الله عليهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فـ علي رضي الله عنه يقول: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا لا أحدث إلا عن يقين، فوالله لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أكذب عليه، أما إذا حدثت فيما بيني وبينكم بعيداً عن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الحرب خَدْعَة، يقال: خَدْعة، ويقال: خَدَعة، ويقال: خِدعْة، ويقال: خُدعة، بالضم لكن فيه ضعف. قال المصنف رحمه الله تعالى: [واني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة)]. هذا الحديث رواه البخاري رحمه الله، ومسلم، والنسائي، وأحمد، والبغوي، وابن حبان، وابن أبي عاصم، ومعنى: (أحداث الأسنان) أي: صغار الأسنان، وشباب صغار، وسفهاء الأحلام أي: ضعفاء العقول. أسنانهم صغار وأحلامهم ضعاف تأولوا الأحاديث على غير تأويلها، وما فهموها، وأخذوا الأحاديث التي فيها الوعيد، والأحاديث التي جاءت في الكفار فجعلوها في المسلمين فحكموا على المسلمين بأحكام الكفار. فإذا زنا المسلم كفروه، وإذا سرق كفروه، وإذا عق والديه كفروه، وإذا قطع رحمه كفروه، وإذا اغتاب كفروه، كل من فعل كبيرة فهو كافر عندهم ويخلدونه في النار؛ لضعف عقولهم وصغر أسنانهم، كما جاء في الحديث: (يقولن من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم)، وفي لفظ: (أنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم). وفي اللفظ الآخر: (يمرقون من الدين، ثم لا يعودون إليه)، وفي اللفظ الآخر: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد)، شبههم بعاد وهم قوم كفار، وفي لفظ: (لأقتلنهم قتل ثمود). واحتج بهذا بعض العلماء على كفر الخوارج، وهو رواية عن الإمام أحمد أن الخوارج كفار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمرقون من الدين)، وأمر بقتلهم، وقال: (في قتلهم أجر لمن قتلهم عند الله)، وقال: (يمرقون من الإسلام، ثم لا يعودون إليه). قال: هذا دليل كفرهم، وشبههم بعاد وبثمود وهم قوم كفار، فقال: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد). ولهذا ذهب بعض العلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله إلى أنهم كفار، ويختار هذا القول سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله أن الخوارج كفار. والقول الثاني: قول جمهور العلماء: أنهم ليسوا كفاراً ولكنهم مبتدعة؛ لأنهم متأولون، والصحابة رضي الله عنهم عاملوهم معاملة الفساق والمبتدعة، ولم يعاملوهم معاملة الكفار؛ لأنهم متأولون، وهناك فرق بين المتأول وبين الجاهل، فهم تأولوا وغلطوا، وقد استدلوا بقول علي رضي الله عنه لما سئل عن الخوارج: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، وعلى قول الجمهور يكونون مبتدعة وليسوا كفاراً.

بداية خروجهم

بداية خروجهم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أدم مقروض لم تحصل من ترابها)]. الأدم: الجلد، ومقروض، أي: مدبوغ بالقرض، والقرض: شجر يدبغ بورقه وثمره. فـ علي رضي الله عنه لما كان أميراً على اليمن بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في جلد مدبوغ بالقرض. وقوله: لم تحصل من ترابها أي: أنها لم تخلص من تراب معدنها؛ لأن الذهب إذا استخرج من الأرض يكون قطعة من الذهب، ثم بعد ذلك يجعل جنيهات، ويجعل حلياً، وغير ذلك، فهذه قطعة من الذهب أخذت من التراب على حالها ولم تصغ، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة أشخاص من رؤساء القبائل في نجد وغيرها؛ لأنهم أسلموا حديثاً حتى يقوى إسلامهم. فلما رأى رجل ذلك، قال: اعدل يا محمد! فطلب خالد رضي الله عنه قتله، فالنبي صلى الله عليه وسلم منعه من قتله، وقال: (إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم -وهم الخوارج- تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم) وهذا هو أصل الخوارج. قال المصنف رحمه الله تعالى: [(قال: فقسمها بين أربعة نفر، فقال رجل من أصحابه: كنا أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء، قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله! اتق الله، فقال: ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله)]. هذا الرجل وصفه: أنه غائر العينين من الغور، أي: عيناه داخلتان في محاجرهما لاصقتان بمقر الحدقة، وهو ضد الجحوض، ومشرف الوجنتين أي: بارز العظمين المشرفين على الخدين، وناشز الجبهة أي: مرتفعة جبهته، كث اللحية، محلوق الرأس، وهذه سيما الخوارج، كما في الحديث: (سيماهم التحليق) فعلامة الخوارج حلق الرأس، يشددون ويتعبدون بحلق الرأس حتى يكون أبيض من شدة الحلق بالموسى. فقال هذا الرجل: اتق الله، يا رسول الله! كيف تعطي الذهب بين أربعة ولا تعطينا؟ وفي اللفظ الآخر قال: اعدل. فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله)، وفي اللفظ الآخر أنه قال: (ويلك فمن لم يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله). فهذا الرجل الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم هو أصل الخوارج.

جريان الأحكام على الظاهر

جريان الأحكام على الظاهر قال المصنف رحمه الله تعالى (قال: ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا، لعله أن يكون يصلي، قال خالد رضي الله عنه: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم)]. فيه أن الأحكام تجرى على الظاهر فمن كان يصلي فلا يقتل، ولهذا لما استأذن خالد رضي الله عنه أن يضرب عنقه، قال: (لعله أن يكون يصلي، قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم)، أي: فالأحكام على الظاهر، أما الخفي وما داخل النفس فالله أعلم به وهو يحاسبه، ولهذا فإن المنافقين تجرى عليهم أحكام الإسلام وهم منافقون في الباطن، إلا من أظهر نفاقه وكفره قتل من قبل ولاة الأمور، ومن لم يظهر نفاقه تجر عليه أحكام الإسلام: من الإرث، والتغسيل، والنكاح، وجميع الأحكام. وجاء في اللفظ الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه منعهم من ذلك لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه. قال المؤلف: (قال: ثم نظر إليه وهو مقف). قوله: (مقف)، أي: قد ولاه قفاه، وهذا الرجل اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم وقفى، فلما ذهب وأعطاهم قفاه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم عند صلاتهم). قال المصنف رحمه الله تعالى: [(فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، قال: أظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، اللفظ لـ مسلم. قوله: (من ضئضئ هذا) من نسله وعقبه، قال: (لأقتلنهم قتل عاد) ذكر في الحاشية أن لفظ: (عاد) من رواية مسلم، وعند مسلم: (لأقتلنهم قتل ثمود)]. واحتج بهذا الإمام أحمد في رواية على كفر الخوارج؛ لأنه شبههم بثمود وعاد وهم قوم كفار، وقال: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) في اللفظ الآخر: (ثم لا يعودون إليه)، قالوا: وهذا دليل على كفرهم. والقول الثاني لأهل العلم وهم الجمهور: أنهم مبتدعة وعصاة وليسوا كفاراً؛ لأنهم متأولون، وهو الذي عليه عمل الصحابة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولـ مسلم في بعض الطرق عن أبي سعيد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحليق)]. الفُرقة بالضم: الخلاف، أما الفرقة بالكسر: الجماعة، وقوله: (يخرجون في فرقة من الناس) يعني: الخلاف الذي حصل بين علي وأهل العراق، ومعاوية وأهل الشام، وقد خرجوا في وقت الخلاف، وهذا فيه علم من أعلام النبوة، وأنه رسول الله حقاً، حيث أخبر أنهم يخرجون في وقت الفرقة والخلاف فخرجوا بعدما حصل قتال بين علي وأهل الشام. وقوله: (سيماهم التحليق) أي: علامتهم حلق الرأس، فيشددون في حلق الرأس ولا يتركونه يطول، ويحلقونه حلقاً كاملاً ويشددون في هذا، فهذه علامتهم وسيماهم.

الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما

الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما

بيان أقرب الطائفتين إلى الحق

بيان أقرب الطائفتين إلى الحق قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي سعيد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر قوماً يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحليق، ثم قال: شر الخلق أو من شر الخلق، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق)]. قوله: أدنى أي: أقرب الطائفتين إلى الحق، فقتلهم جيش علي رضي الله عنه، فدل على أن علياً رضي الله عنه أقرب إلى الحق من معاوية وأهل الشام. وفي اللفظ الآخر: (عمار تقتله الفئة الباغية)، وقد قتله جيش معاوية وأهل الشام، فدل على أن معاوية وأهل الشام بغاة، لكن لا يعرفون أنهم بغاة، وهم مجتهدون لهم أجر الاجتهاد وفاتهم أجر الصواب، وعلي رضي الله عنه وأصحابه مجتهدون مصيبون لهم أجر اجتهاد وأجر الصواب. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو سعيد رضي الله عنه: أنتم قتلتموهم يا أهل العراق، وفى لفظ له: (تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق)، وهذا الحديث مع ما ثبت في الصحيح عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي رضي الله عنهما: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين)]. وقوله: (ابني هذا سيد) وهو ابن ابنته فاطمة فدل على أن ابن الابن وابن البنت يسمى ابناً، قوله: سيد، وفي اللفظ الآخر: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، وقوله: (وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين)، فيه دليل على أن معاوية وأهل الشام وعلياً وأهل العراق كلهم مؤمنون؛ لأنه وصفهم بالإيمان، وفيه الرد على من كفرهم من الخوارج وغيرهم. ولما قتل علي رضي الله عنه وبايع الناس ابنه الحسن بالخلافة، فبقي في الخلافة ستة أشهر، ثم تنازل عن الخلافة لـ معاوية رضي الله عنه بشرط حقن دماء المسلمين، فأصلح الله به بين فئتين عظيمتين، ووضعت الحرب أوزارها، وبويع لـ معاوية بالخلافة في عام أربعين من الهجرة، وسمي ذلك العام عام الجماعة، واجتمع الناس كلهم على معاوية رضي الله عنه. فيكون معاوية أول ملوك المسلمين وبه انتهت الخلافة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة)، وآخر الثلاثين السنة الستة أشهر التي تنازل فيها الحسن بن علي رضي الله عنه لـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. والمصنف رحمه الله ذكر في موضع آخر أن الرجل الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم كان قتله جائزاً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن قتله لم يحل؛ لأن سفك الدماء بغير الحق من أكبر الكبائر، إلى إن قال: ولما قال ذو الخويصرة: اعدل فإنك لم تعدل، وإنما لم يقتلهم لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، ذكر هذا رحمه الله في الصارم المسلول. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فبين أن كلا الطائفتين كانت مؤمنة وأن اصطلاح الطائفتين كما فعله الحسن رضي الله عنه كان أحب إلى الله ورسوله من اقتتالهما، وأن اقتتالهما وإن لم يكن مأموراً به، فـ على بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية رضي الله عنه وأصحابه، وأن قتل الخوارج مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم]. الأقرب: بدل كلمة (قتل): قتال؛ لأن إمام المسلمين قد قاتلهم، وأن قتال الخوارج أحسن، وليس للإنسان أن يأخذ واحداً من الخوارج ويقتله، فتصير المسألة فوضى، لكن هذا إمامه يكشف شبهته إذا كان له شبهه، فإن أبوا قاتلهم الإمام.

أصل الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما

أصل الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولذلك اتفق على قتالهم الصحابة والأئمة]. قوله: (على قتالهم) هذا يبين المراد، وهذه أربع فوائد استنبطها المؤلف رحمه الله من هذا الحديث: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين). الفائدة الأولى: أن كلاً من الطائفتين مؤمنة وليسوا كفاراً، فـ علي وأهل العراق ومعاوية وأهل الشام كلهم مؤمنون، وفيه الرد على من كفرهم. الفائدة الثانية: أن اصطلاح الطائفتين أحب إلى الله من القتال، وقد اصطلحوا على يد الحسن. الفائدة الثالثة: أن قتال الطائفتين مع كونه غير مأمور به، لكن علياً وأهل العراق أقرب إلى الحق من معاوية وأهل الشام؛ لأن علياً رضي الله عنه هو الخليفة الذي بايعه أكثر أهل الحل والعقد فثبتت له الخلافة، فيجب على معاوية وأهل الشام أن يبايعوه، لكن اجتهد معاوية وأهل الشام، وهم لا يمانعون في أنه يستحق البيعة، لكن قالوا: أولاً نطالب بدم عثمان ونحن أولياؤه، ومعاوية يرى أنه من أوليائه، وعلي رضي الله عنه لا يمانع، لكن يقول: لا نستطيع أن نأخذ قتلة عثمان في هذا الوقت، فهو وقت التباس واشتباه ووقت فتنة، ولا يعرف أحداً بعينه من الذين قتلوه فقد اندسوا ودخلوا في قبائلهم. فإذا هدأت الأمور استطعنا أن نأخذهم بعد ثبوتهم، لكن معاوية وأهل الشام قالوا: نريد أن نأخذهم الآن، فحصل الخلاف، ورأى علي رضي الله عنه أنه يجب عليه أن يقاتلهم ويجب أن يخضعوا؛ لأنه يجب عليهم أن يبايعوه وألا يشقوا عصا المسلمين، ومعاوية وأهل الشام مجتهدون قالوا: نحن نطالب بدم عثمان ولا نريد الخلافة، فحصل الخلاف، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر. وأكثر أهل العلم وأكثر الصحابة انضموا إلى علي رضي الله عنه ورأوا أن الحق معه، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9]. قالوا: طائفة معاوية وأهل الشام بغت فيجب قتالهم بنص الآية: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]، وبعض الصحابة مثل معاوية وأهل الشام أشكل عليهم الأمر وما فهموا هذا المثال، بل فهموا أنهم يطالبون بدم عثمان. وبعض الصحابة اشتبه عليهم الأمر، فتوقفوا واعتزلوا الفريقين، منهم سلمة بن الأكوع الذي ذهب إلى البادية وتزوج، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في البدو، ومنهم: أسامة بن زيد وابن عمر وجماعة اشتبه عليهم الأمر فاعتزلوا الفريقين. وأكثر الصحابة اتضح لهم الأمر وعلموا أن علياً رضي الله عنه مصيب، وأنه يجب أن ينصر، وهو الخليفة الراشد الذي تمت له البيعة فمن لم يبايع يجب قتاله، وهذا هو الصواب أن علي هو الذي معه الحق وهو الخليفة بنص حديث معاوية (عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية)، وقد قتله أهل الشام. وحديث الخوارج: (تقتلهم أدنى الطائفتين)، أي: تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق، فقتلهم علي رضي الله عنه، فدل على أنهم أقرب إلى الحق. ولكن معاوية وأهل الشام مجتهدون، فلا يجوز للإنسان أن يطعن في الصحابة ولا يتكلم فيهم، والصحابة رضوان الله عليهم كلهم مجتهدون، من أصاب فله أجران أجر الإصابة وأجر الاجتهاد، ومن أخطأ فله أجر الاجتهاد وفاته أجر الصواب، ولهم من الحسنات من جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبقهم إلى الإيمان ونشرهم للإسلام ما يغطي ما صدر عنهم من الهفوات، ونقول كما قال تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10].

موقف أهل السنة من الخلاف بين الصحابة

موقف أهل السنة من الخلاف بين الصحابة وكما قال بعض السلف: هذه الحروب والقتال الذي حصلت نزه الله منها أيدينا فنسأل الله أن ينزه ألسنتنا منها، لكن أهل البدع تجدهم يطعنون في الصحابة، يطعنون في علي، ويطعنون في معاوية، وهذا خطأ، وهو خلاف معتقد أهل السنة والجماعة. فالواجب الترضي على الجميع، وأن نعتقد أنهم مجتهدون ما بين مجتهد مصيب له أجران، وما بين مجتهد مخطئ له أجر، وما ينقل عن الصحابة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في الواسطية: منه ما هو كذب لا أساس له من الصحة، ومنه ما له أصل ولكن زيد فيه ونقص، ومنه ما هو صحيح، والصحيح هم فيه بين مصيب مجتهد له أجران، والمجتهد المخطئ له أجر، ولهم من الحسنات ما يغطي ما صدر عنهم من الهفوات، هذا هو الواجب على المسلمين، أما الكلام في الصحابة والطعن فيهم، وذكر مساوئهم، فهذا من طريقة أهل البدع. أما أهل السنة والجماعة فإنهم يترضون عن الجميع، ويترحمون على الجميع، ويعتقدون أن قتالهم ليس للهوى ولا للعصبية وإنما هو عن اجتهاد، ويعتقدون أن لهم من الحسنات من السبق إلى الإيمان والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم ونشر الإسلام والدعوة إلى الله، ما يغطي ما صدر عنهم ما الهفوات. ونقول في الجميع كما قال تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. فإياك أن تلوث لسانك في الطعن في الصحابة فإن هذا شعار أهل البدع من الخوارج والمعتزلة، والروافض هم الذين يطعنون في الصحابة ويسبونهم، نسأل الله السلامة والعافية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء الخوارج لهم أسماء يقال لهم: الحرورية؛ لأنهم خرجوا بمكان يقال له: حروراء، ويقال لهم: أهل النهروان؛ لأن علياً رضي الله عنه قاتلهم هناك]. الخوارج لهم أسماء فيسمون: الحرورية؛ لأنهم خرجوا في مكان في العراق يسمى حروراء، فنسبوا إليه فيقال لهم: الحرورية، ومن ذلك أن عائشة رضي الله عنها سألتها امرأة، فقالت: يا أم المؤمنين، ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، ففهمت عائشة أنها معترضة، وأن السؤال سؤال اعتراض، فقالت: أحرورية أنت؟ أي: هل أنت من الخوارج من بلدة حروراء فتعترضين؟ لأن الخوارج يعتقدون أن الحائض تقضي الصلاة مثل الصوم، فهذه المرأة ليست من الخوارج، لكنها لم تحسن السؤال، فكأنها تقول: ما الحكمة في كون الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، لكن قالت: ما بالها؟ ففهمت منها أنها معترضة وأنها من الخوارج فقالت: أحرورية أنت؟ أأنت من الخوارج؟ قالت: لا، لست بحرورية ولكن لأفهم، فقالت عائشة رضي الله عنها: (هكذا كان يصيبنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة). فهذه الفرقة تسمى الحرورية نسبة إلى حروراء، ويسمون أهل النهروان؛ لأن علياً قاتلهم بمكان يقال له: النهروان، ويسمون الخوارج؛ لأنهم خرجوا على الطائفتين، على علي رضي الله عنه وعلى معاوية، وكفروا الجميع، وقالوا: علي كافر، ومعاوية كافر وعثمان كافر، قالوا: لأنهم تقاتلوا؛ ولأنهم حكموا الرجال في كتاب الله فكفروا، فهذا هو مذهبهم يكفرون المسلمين بالمعاصي. ومذهبهم باطل خبيث فهم يخلدون المؤمنين في النار، ويكفرونهم بالمعاصي. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن أصنافهم الإباضية أتباع عبد الله بن أباض، والأزارقة أتباع نافع بن الأزرق، والنجدات أتباع نجدة الحروري]. الخوارج أصناف كثيرة ذكر الذين كتبوا في الفرق أنهم يبلغون ما يقرب من أربع وعشرين فرقة، منهم الإباضية نسبة إلى عبد الله بن أباض، ومنهم الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق، ومنهم النجدات، ومنهم الصفرية، فلهم فرق كثيرة متعددة، ولو راجعت كتب الفرق مثل الفرق بين الفرق للبغدادي، والملل والمحل للشهرستاني وغيرها، ففي الفصل والملل لـ ابن حزم يذكر أن الخوارج أربع وعشرون فرقه أو اثنتان وعشرون فرقة، والشيعة أربع وعشرون فرقة.

من اعتقادات الخوارج

من اعتقادات الخوارج

تكفير الخوارج لأهل القبلة بالذنوب واستحلال دمائهم بذلك

تكفير الخوارج لأهل القبلة بالذنوب واستحلال دمائهم بذلك قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهم أول من كفر أهل القبلة بالذنوب بما يرونه هم من الذنوب]. هذا معتقدهم، وأول من كفر أهل القبلة بالذنوب الخوارج، والمراد بأهل القبلة المسلمون الذين يتجهون إلى الكعبة في الصلاة، وفي الذبح، وفي الدعاء، والمسلمون يسمون أهل القبلة؛ لأنهم يستقبلون القبلة في الصلاة، وفي الذبح، وفي الذكر، وفي الدعاء. وبعد قتل عثمان رضي الله عنه خرجت الخوارج فكفروا أهل القبلة بالذنوب، والمعاصي لا يكفر بها الإنسان، إنما يكفر إذا أتى بمكفر، أما المعصية فلا يكفر بها، فهو بالزنا لا يكفر إلا إذا استحله، وبها يكون مؤمناً ضعيف الإيمان. وكذلك شرب الخمر لا يكفر به فيقال فيها: هو ضعيف الإيمان، إلا إذا اعتقد أنه حلال، وإذا تعامل بالربا يكون ضعيف الإيمان وإذا عق والديه ضعيف الإيمان وإذا شهد الزور ضعيف الإيمان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [واستحلوا دماء أهل القبلة بذلك]. إذا زنا أو سرق كفروه وقتلوه فيستحلون دمه وماله، ويعاملونه معاملة الكافر: دمه حلال وماله حلال كالكافر سواء بسواء، بل يسمونه كافراً، ويخلدونه في النار، ويحلون الدم والمال نعوذ بالله. ومن العجيب أنهم يقاتلون المسلمين ولا يقاتلون عباد الأوثان، كما جاء في الحديث: (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان)، فأهل الإسلام يقتلونهم، وأهل الأوثان الذين يعبدون الأوثان والأصنام يتركونهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فكانوا بذلك كانوا كما نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)، وكفروا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعثمان بن عفان رضي الله عنه ومن والاهما].

اتصاف الخوارج بقتل المسلمين وترك الكفار

اتصاف الخوارج بقتل المسلمين وترك الكفار وكذلك معاوية، فكفروا الجميع؛ كفروا عثمان وعلياً ومعاوية، ولهذا تواطؤ الخوارج في ليلة واحدة على قتل ثلاثة، يقولون: إنهم زعماء الكفر، وانتدبوا لكل واحد واحداً من الخوارج، لقتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص، أما علي فإنه لما خرج إلى الصلاة وكان قد اختبأ له عبد الرحمن بن ملجم فقتله. وأما معاوية فإنه جرحه وسلم، وأما عمرو بن العاص فإنه تخلف تلك الليلة فسلم، وهذا الذي قتل علياً رضي الله عنه يسمى عبد الرحمن بن ملجم وكان يرى أنه متقرب إلى الله، ويرى أنه فاز في قتله، وأنه رفع بها درجات، وهناك أبيات في مدحه يمدحه بها واحد من الخوارج ويقول: فاز بها عبد الرحمن درجات بقتله علي رضي الله عنه، وهذه عقيدة خبيثة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه مستحلين لقتله، قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي منهم، وكان هو وغيره من الخوارج مجتهدين في العبادة، لكن كانوا جهالاً فارقوا السنة والجماعة]. هناك أبيات يقول فيها: يا ضربة من تقي ما أرد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا. إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزاناً وقد رد عليه رجل من أهل السنة والجماعة رحمه الله فقال: يا ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليبلغ عند ذي العرش سخطانا أني لأذكره يوماً فألعنه ديناً وألعن عمران بن حطانا قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال هؤلاء: ما الناس إلا مؤمن وكافر]. هذا مذهب الخوارج وهو أن الناس قسمان: مؤمن أو كافر فقط، والعاصي أدخلوه مع الكافر. وأهل السنة قسموا الناس ثلاثة أقسام أو أربعة أقسام: مؤمن محقق الإيمان، ومؤمن ضعيف الإيمان، وكافر، والمنافق الذي دخل في الإسلام ظاهراً، وعندهم أن المؤمن هو فاعل جميع الطاعات وتارك جميع المنكرات، والكافر هو الذي فعل الكفر أو فعل المعصية، فإذا قصر في بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات فهو كافر، وهذا مذهب الخوارج. قال المصنف رحمه الله تعالى: [والمؤمن من فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات، فمن لم يكن كذلك فهو كافر مخلد في النار، ثم جعلوا كل من خالف قولهم كذلك، فقالوا: إن عثمان رضي الله عنه وعلياً رضي الله عنه ونحوهما حكموا بغير ما أنزل الله وظلموا فصاروا كفاراً]. انتهى بيان مذهب الخوارج الذين يقولون: الناس قسمان: مؤمن وكافر، والمؤمن عند الخوارج من فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات، فالإيمان عندهم: تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، مثل أهل السنة. لكن يأتي بعد ذلك الفرق، فأهل السنة يقولون: إذا أخل ببعض الواجبات، أو فعل بعض المحرمات صار ضعيف الإيمان ولا يخرج بذلك عن الإسلام، وهم يقولون: إذا أخل ببعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات فهو كافر مخلد في النار، ثم جعلوا كل من خالف قولهم كافراً، فكفروا عثمان وعلياً ومعاوية. قالوا: لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله؛ ولأنهم ظلموا فصاروا كفاراً، فالظالم كافر، ومن حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، فكفروا الجميع نسأل السلامة والعافية.

[12]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [12] ذهب الخوارج إلى تكفير مرتكبي الكبائر، وقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية بنصوص الكتاب والسنة التي تبين أنهم باقون على الإسلام.

الأدلة على بطلان مذهب الخوارج في تكفير الفاسق

الأدلة على بطلان مذهب الخوارج في تكفير الفاسق

بطلان مذهب الخوارج بالأمر بقطع يد السارق دون قتله

بطلان مذهب الخوارج بالأمر بقطع يد السارق دون قتله قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومذهب هؤلاء باطل بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة، فإن الله سبحانه أمر بقطع يد السارق دون قتله، ولو كان كافرا مرتداً لوجب قتله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه)]. هذا هو الدليل الأول على بطلان مذهب الخوارج، وهو أن الله أمر بقطع يد السارق ولم يأمر بقتله، ولو كان السارق كافراً كما يقول الخوارج لوجب قتله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، فدل هذا على أن الخوارج مذهبهم باطل، وعلى أن العاصي والسارق ليس بكافر، ولكنه مؤمن ناقص الإيمان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، أو قتل نفس يقتل بها)]. هذا الحديث روي عن عثمان وهو محصور في الفتنة رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد والحاكم، وهو صحيح، وفيه أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا إذا فعل واحد من الثلاث: إذا ارتد، أو زنا وهو محصن، أو قتل نفساً بغير نفس، والعاصي كالسارق لا يقتل، وإذا زنا وهو محصن يرجم بالحجارة حتى يموت حداً، وإذا قتل عمداً عدواناً يقتل قصاصاً، وإذا ارتد يقتل، وما عدا هذه الثلاثة فلا يحل دمه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأمر سبحانه أن يجلد الزاني والزانية مائة جلدة، ولو كانا كافرين لأمر بقتلهما]. هذا هو الدليل الثاني على بطلان مذهب الخوارج، وهو أن الزاني والزانية يجلدان ولا يقتلان، ولو كان العاصي كافراً كما تقول الخوارج لوجب قتل الزاني والزانية، والله تعالى يقول: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأمر سبحانه أن يجلد قاذف المحصنة ثمانين جلدة، ولو كان كافراً لأمر بقتله]. هذا هو الدليل الثالث على بطلان مذهب الخوارج، وهو أن الله تعالى أمر بجلد القاذف، والقاذف فاسق وعاصي، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، ولم يقل فاقتلوهم، ولو كان القاذف كافراً لوجب قتله كما تقول الخوارج.

بطلان مذهبهم بالأمر بجلد شارب الخمر دون قتله

بطلان مذهبهم بالأمر بجلد شارب الخمر دون قتله قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلد شارب الخمر ولم يقتله]. هذا هو الدليل الرابع على بطلان مذهب الخوارج: أن شارب الخمر يجلد ولا يقتل ولو كان كافراً لوجب قتله. قال المصنف رحمه الله تعالى: [بل قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره: (أن رجلاً كان يشرب الخمر وكان اسمه عبد الله حماراً وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان كلما أتي به إليه جلده، فأتي به إليه مرة فلعنه رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) فنهى عن لعنه بعينه، وشهد له بحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع أنه قد لعن شارب الخمر عموماً]. في لفظ آخر: كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وهذا الرجل كان كثيراً ما يؤتى به ويجلد في الخمر، فأتي به مرة من المرات وجلد، فقال رجل: لعنه الله، وفي لفظ آخر: (أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)؛ ولأن الحد طهارة يطهره من الذنب، فإذا أقيم عليه الحد طهر، والتوبة طهارة. والمرأة الغامدية وماعز جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائبين، وأقيم عليهما الحد، فاجتمع لكل منهما طهارتان: طهارة التوبة، وطهارة الحد. وهذا الحد يطهره؛ ولهذا لما لعنه الرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)؛ لأن عنده أصل الإيمان، وكل مؤمن عنده أصل المحبة لله ورسوله، فمن لم يحب الله ورسوله فهو كافر، ولا تنتهي محبة الله ورسوله إلا إذا جاء الشرك، والعاصي عنده أصل المحبة، ولذلك اتقى الشرك بسبب حبه لله ورسوله، فإذا جاء الشرك انتهت محبة الله ورسوله نعوذ بالله. فهذا الرجل وإن كان قد جلد في الخمر فعنده أصل المحبة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه يحب الله ورسوله)، فنهى عن لعنه بعينه، وشهد له بحب الله ورسوله مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن شارب الخمر عموماً فقال: (لعن الله شارب الخمر وعاصرها ومعتصرها وساقيها)، وهذا على العموم، وفرق بين اللعن للعموم ولعن الخصوص، ففي العموم لا يوجد مانع فلك أن تقول: لعن الله اليهود والنصارى، ولعن الله السارق، كما في الحديث: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده)، ولعن الله شارب الخمر. لكن فلان بن فلان السارق، وفلان بن فلان شارب الخمر لا يلعن بعينه على الصحيح؛ لأن الشخص المعين قد يتوب، وقد يكون لم يعلم الحكم، وقد يعفو الله عنه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا من أجود ما يحتج به على أن الأمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة منسوخ؛ لأن هذا أتي به ثلاث مرات، وقد أعيا الأئمة الكبار جواب هذا الحديث، ولكن نسخ الوجوب لا يمنع الجواز]. المؤلف رحمه الله استطرد لما ذكر قصة هذا الرجل الذي كان يؤتي به كثيراً ويجلد في الخمر، والجواب عن الحديث الذي ورد: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب الرابعة فاقتلوه) الصواب: أن قتله في الرابعة منسوخ، ودليل ذلك أن هذا الرجل كثيراً ما يؤتي به فيجلد في الخمر ولم يقتله، أي: أنه أتي به مرات كثيرة فيجلد، فلو كان القتل باقياً لقتله، فلما لم يقتله دل على أن الأمر بقتله منسوخ.

حكم قتل الشارب في الرابعة

حكم قتل الشارب في الرابعة وقد أعيا الأئمة الكبار الجمع بين الحديثين، ولكن نسخ الوجوب لا يمنع الجواز، فيجوز أن يقال: يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة. أي: أن الأمر بقتله منسوخ لكن إذا رأى الإمام المصلحة في قتله من باب التعزير، وأنه لا يندفع الشر إلا بذلك، كما إذا كثر الناس وتجرءوا على شرب الخمر وأكثروا من شربه، فلا بأس أن يقتلهم الإمام في الرابعة تعزيراً لا وجوباً. كما أن عمر رضي الله عنه لما تتابع الناس في الطلاق في الثلاث ألزمهم بطلاق الثلاث تعزيراً فصار يوقع الثلاث، وكان الطلاق الثلاث بكلمة واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وصدر من خلافة عمر طلقة واحدة، فلما تتابع الناس في الطلاق وأكثروا منه في زمن عمر رضي الله عنه قال: إن الناس استعجلوا شيئاً لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم ردعاً لهم حتى لا يتجرءوا، فصار من طلق بالثلاث يوقع عليه الثلاث. فكذلك شارب الخمر يجلد ثم يجلد ثم يجلد، لكن إذا تتابع الناس ولم يرتدعوا فلا بأس أن يقتل الإمام في الرابعة تعزيراً وردعاً للناس. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيجوز أن يقال: يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك، فإن ما بين الأربعين إلى الثمانين ليس حداً مقدراً في أصح قولي العلماء كما هو مذهب الشافعي وأحمد في إحدي الروايتين، بل الزيادة على الأربعين إلى الثمانين يرجع إلى اجتهاد الإمام فيفعلها عند المصلحة كغيرها في أنواع التعزير]. شارب الخمر جاء في الحديث أنه يجلد أربعين، فكان شارب الخمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر يجلد أربعين جلدة، فلما تتابع الناس استشار عمر الصحابة، فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانين، فجلده عمر ثمانين. فالزيادة من أربعين إلى الثمانين اجتهاد، فكذلك للإمام أن يجتهد إذا تتابع الناس وأكثروا من شرب الخمر فيقتل شارب الخمر ردعاً وتعزيراً، كما أنه يزيد من الأربعين إلى الثمانين تعزيراً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك صفة الضرب فانه يجوز جلد الشارب بالجريد والنعال وأطراف الثياب]. وصفة الضرب كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب الشارب بالجريد والنعال وأطراف الثياب، جاء في الحديث: (أتي برجل شرب الخمر، قال: فمنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، حتى عد أربعين). فكما أنه للإمام أن يجتهد فيجلد من الأربعين إلى الثمانين، كذلك يجتهد في صفة الضرب فبدل أن يكون بالثياب والنعال يضرب بالجريد كما فعل الصحابة، وكذلك أيضاً للإمام قتله تعزيراً واجتهاداً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [بخلاف الزاني والقاذف]. الزاني يجلد مائة ولا اجتهاد فيه، والقاذف يجلد ثمانين بنص القرآن كما قال تعالى في الزاني: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وفي القاذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]. أما شارب الخمر فالزيادة على الأربعين اجتهاد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيجوز أن يقال: قتله في الرابعة من هذا الباب]. يجوز أن يقال إن قتل شارب الخمر في الرابعة من باب التعزير اجتهاداً، بخلاف الزاني والقاذف، فهذه جملة معترضة.

الرد على الخوارج بأن الله سمى المقتتلين مؤمنين

الرد على الخوارج بأن الله سمى المقتتلين مؤمنين قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فإن الله تعالى قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:9 - 10]، الآية. فقد وصفهم بالإيمان والأخوة وأمرنا بالإصلاح بينهم]. ما زلنا في ذكر المرجحات والأدلة التي تدل على أن من وصفوا بالإسلام دون الإيمان في النصوص هم ضعفاء الإيمان، وأنهم لم يخرجوا من دائرة الإسلام، خلافاً لمن قال إنهم منافقون. وقد سبق ذكر مرجحات منها: أن الحرف (لما) في قوله تعالى: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، ينفي به ما قرب وجوده وانتظر وجوده. ومنها أنه قال: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14]. فأثبت لهم طاعة لله ورسوله فدل على أنهم مؤمنون وليسوا منافقين، ومنها أن الله وجه الخطاب إليهم، ولو كانوا منافقين لكان هذا خلاف مدلول الخطاب. ومن المرجحات المذكورة هنا قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9].

الأسئلة

الأسئلة

حكم لعن المعين

حكم لعن المعين Q هل يجوز لعن الكافر المعين؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم مثل الفاسق، وفيها قولان لأهل العلم: من العلماء من قال: يجوز لعن الفاسق بعينه، ويجوز لعن الكافر بعينه. والقول الثاني: أنه لا يلعن الفاسق ولا الكافر بعينه وإن كان ميتاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا)، أي: ولو كان ميتاً فلا تسبوه بعينه فإنه أفضى إلى ما قدم، وإذا كان حياً فكذلك؛ لأنه قد يجوز أن يتوب الله عليه، إلا إذا اشتد أذى الكافر للمسلمين في الحياة فيجوز لعنه، وكذلك إذا كان الميت الكافر أو الفاسق صاحب بدعة، فتحذر الناس من هذه البدعة ولو كان فيه سب له؛ لأن هذا فيه مصلحه للأحياء. أما إن لم يكن صاحب بدعة فلا يلعن على الصحيح لا الكافر بعينه ولا العاصي بعينه، وإنما يلعن بالعموم، فتقول: لعن الله السارق أي: جنس السارق، لعن الله شارب الخمر أي: جنسه، لعن الله القاذف، أي: جنسه، لعن الله الكافر أي: جنس الكافر، أما فلان بن فلان الكافر فلا يلعن؛ لأنه أفضى إلى ما قدم إن كان ميتاً، وإن كان حياً فلعل الله أن يهديه فيدعى له بالهداية، ولما عصت دوس، فقيل: يا رسول الله! إن دوساً أبت وعصت فادع الله عليهم، فقال أحد الصحابة: هلكت دوس، فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم)، فهداهم الله وجاءوا مسلمين. فالمقصود: أن لعن المعين سواء كان كافر أو فاسقاً فيه قولان لأهل العلم: قيل: يجوز، وقيل: لا يجوز. والصواب من القولين: أنه لا يجوز لعن المعين الفاسق ولا الكافر، إلا إذا كان الميت كافراً أو فاسقاً أو صاحب بدعة فيحذر الناس من بدعته؛ لأن فيه مصلحة للأحياء، وإلا إذا اشتد أذى الحي منهم على المسلمين الأحياء فلا بأس بلعنهم والدعاء عليهم والقنوت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قنت ودعا على رعل وذكوان، ودعا على شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة في الصلاة وقال: اللهم اللعن فلاناً وفلاناً؛ لأنه اشتد أذاهم للمسلمين.

وقت القيام للصلاة

وقت القيام للصلاة Q بعض الناس يقومون عند سماع المقيم للصلاة عند قوله: قد قامت الصلاة، فهل هذا عليه دليل؟ A لا أعلم له دليلاً وإنما تقوم في أي وقت، قال بعض السلف: يقوم إذا رأى الإمام، لأنه قد يكون بينه وبين الإمام علامة فيقيم والإمام في البيت إذا كان بيته قريباً ثم يأتي، فيشق على الإنسان، فإذا رأى الإمام قام، وهذا هو الأولى، وإن قمت فلا حرج لكن هذا فيه مشقه عليك، ولا يوجد تحديد للقيام.

علة كفر من نكح امرأة أبيه

علة كفر من نكح امرأة أبيه Q ما علة كفر من نكح امرأة أبيه عند أهل السنة كما في حديث البراء رضي الله عنه: أنه لقي عمه ومعه الراية فسأله: إلى أين أنت ذاهب، فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلان لأقتله وآخذ ماله، فإنه نكح امرأة أبيه؟ A هذا الرجل الذي نكح زوجة أبيه استحلها فكفر بالاستحلال؛ ولذلك عقد النبي صلى الله عليه وسلم لواءً للبراء وأمره بأن يذهب إليه ويقتله ويأخذ ماله لكفره؛ لأنه رأى أن زوجة أبيه حلال واستحلها ونكحها. مثل من استحل الخمر، فقال: الخمر حلال، أو الربا حلال، أو الزنا حلال فهو كافر، أو قال: نكاح زوجة الأب حلال فيكفر، فهذا الرجل استحل نكاح زوجة أبيه ونكحها مستحلاً لذلك، فلهذا كفر، وعقد النبي صلى الله عليه وسلم لواءً للبراء وأمره أن يقتله ويأخذ ماله لكفره وضلاله، فمن استحل الكبيرة المعلومة من الدين بالضرورة كفر، وإذا لم يستحلها كان عاصياً، لكن هذا استحلها.

الخلاف في كفر الخوارج

الخلاف في كفر الخوارج Q هل صح أن شيخ الإسلام ابن تيمية نقل إجماع الصحابة على عدم كفر الخوارج في منهاج السنة؟ A شيخ الإسلام قال: إن الصحابة عاملوا الخوارج معاملة أهل البدع والعصاة لا معاملة الكفرة؛ لأنهم متأولون، وهذا هو مذهب جمهور العلماء. والقول الثاني لأهل العلم: أنهم كفار وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، واستدلوا بظواهر الأحاديث كما قال: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، وفي لفظ: (ثم لا يعودون إليه)، وفي لفظ: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد - أو قتل ثمود -)، شبههم بعاد وثمود وهم قوم كفار، فدل على كفرهم، والجمهور والصحابة عاملوهم معاملة المبتدعة. ولا يقال: إن معاملة الصحابة رضي الله عنهم للخوارج كفساق قبل أن يقيم ابن عباس رضي الله عنهما عليهم الحجة، وبعد إقامة الحجة من لم يرجع عن مذهبه فهو كافر؛ لأنهم متأولون وبعضهم بقي على شبهته.

حكم من يصف الآمر بالمعروف والمجاهد بأنه خارجي

حكم من يصف الآمر بالمعروف والمجاهد بأنه خارجي Q ظهر في هذا العصر من يقول: إن المجاهد خارجي ومن أنكر المنكرات فهو خارجي، فما رأيكم؟ A نسأل الله السلامة والعافية، فهذا تعدى مذهب الخوارج، كيف يقال: المجاهد في سبيل الله خارجي؟ ومن أنكر المنكر خارجي؟ والله تعالى يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71]، فالذي يعتقد أن من ينكر المنكر يكون خارجياً فهو مصادم للنصوص، نسأل الله السلامة والعافية، والله تعالى أثنى على المجاهدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف:10 - 12]. وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]، أفبعد هذه النصوص الآن في الثناء على المجاهدين يقال للمجاهد خارجي؟! وكذلك الذي ينكر المنكرات أيكون خارجياً! قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فالخيرية حصلت في هذه الأمة بالإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف يقال للذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: خارجي، ما يقول هذا إلا فاسد العقيدة، أو جاهل جهلاً مركباً.

حكم حلق الرأس

حكم حلق الرأس Q ما حكم حلق الرأس بالموسى؟ A لا بأس به فهو جائز مباح، لكن تركه أولى، كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحلق إلا في حج أو عمرة، قال الإمام أحمد رحمه الله: هو سنة، أي: ترك الرأس وإبقاء الشعر، لو نقوى عليه لا تخذناه، لكن له كلفة ومشقة، جاء في الحديث: (ومن كان له شعر فليكرمه). فالسنة تربيته اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام، لكن يحتاج إلى تعب ومشقة من غسل ودهن وشد، فهذا لا نقوى عليه، وحلقه مباح. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لصبي رآه حلق بعض رأسه وترك بعضه: (احلقه كله أو اتركه كله) فهو مباح؛ لكن الأفضل تركه إذا كان يريد أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم. أما إذا أراد أن يقلد الفسقه أو يقلد -كما يقال- طائفةً من الخنافس، وقد كان قبل سنوات طائفة تسمى الخنافس يربون شعورهم في بريطانيا وفي غيرها، فإذا كان قصده أن يقلد الكفرة فهذا شيء آخر، أما إذا أراد أن يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم فشيء طيب. وقد تجد بعض الناس يحلق لحيته ويربي شعره، فإذا قلت له: لماذا تربي شعرك؟ قال: أقتدي بالرسول، فيقال له: تقتدي بالرسول في إبقاء شعر الرأس وأنت تحلق لحيتك، فإذا كان الإنسان يريد أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو أفضل، وهو كما قال الإمام أحمد سنة، فيكون متبعاً للسنة، وحلقه جائز لا بأس به. وإذا كان شعره كشعر الفسقة أو كان الإنسان شاباً يخشى عليه من الفتنة فحلقه أفضل في هذه الحالة، حتى يبتعد عن شعار الفسقة وحتى يسلم من الشر؛ لأنه قد يكون الشاب إذا فرد شعره وهو أمرد وليس له لحية قد يخشى عليه من بعض الفسقة.

حكم دفع الزكاة لمن عليه دين ليسدد دينه

حكم دفع الزكاة لمن عليه دين ليسدد دينه Q هل يجوز دفع الزكاة لمن كان عليه دين وليس له دخل ويريد سداد الدين الذي عليه؟ A نعم، صاحب الدين من الغارمين، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ} [التوبة:60]. من عليه دين هو الغارم، والغارمون صنفان: الصنف الأول: غارم لمصلحة نفسه، وهو الذي عليه ديون من أجل النفقة على نفسه، والكسوة لنفسه وأهله وأولاده وأجرة السكن، فهذا يعطى ما يكفيه لمدة سنة من نفقة وكسوة وأجرة مسكن. والثاني: غارم لإصلاح ذات البين، كالذي يصلح بين الناس ويتحمل في ذمته ديوناً، فيصلح بين القبائل أو بين الأشخاص ولا يصطلحون إلا إذا تحمل، فيأتي إلى القبيلتين بينهما شر فيقول: أنا أتحمل، ويعطي هؤلاء مائة ألف وهؤلاء مائة ألف حتى يصطلحون، ويتحملها في ذمته، فهذا يعطى من الزكاة ما يسدد هذه الديون ولو كان غنياً؛ تشجيعاً له على هذا العمل النبيل، وقد كان هذا في الجاهلية وأقره الإسلام، قال الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114].

نوع كفر إبليس وأنواع الكفر

نوع كفر إبليس وأنواع الكفر Q مما استدل به الأزارقة على مذهبهم كفر إبليس، وقالوا: ما ارتكب إلا كبيرة حيث أمر بالسجود لآدم فامتنع فطرد من الجنة؟ A هذا المستدل جهله مركب، فإبليس ليس كفره بالمعصية بل كفره بالإباء والاستكبار، والإباء والاستكبار نوع من أنواع الكفر، فالكفر أنواع: منها: التكذيب، فمن كذب الله ورسوله كفر، ومنها: الإباء والاستكبار، وهو: أن يتلقى أمر الله وأمر رسوله بالإباء والاستكبار، بالرفض لا بالتكذيب. وإبليس ما كذب الله، فالله تعالى قال: اسجدوا لآدم، وهو وامتنع واعترض على الله، وقال: لا يمكن أن أسجد لآدم؛ لأن عنصري أحسن من عنصر آدم، فعنصر آدم الطين، وأنا عنصري النار، والنار خير من الطين، ولا يمكن أن يخضع الفاضل للمفضول كما قال تعالى: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]. فإذاً: كفر إبليس بالرفض والإباء والاستكبار، وليس بمعصية. واليهود يعلمون أن محمداً هو رسول الله حقاً، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]، فكفرهم بالإباء والاستكبار. وكفر أبي طالب عم الرسول عليه الصلاة والسلام الذي يقول: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا كان بالإباء والاستكبار، فكان مستكبراً عن عبادة الله، وحملته الحمية أن يكون على دين قومه، فكان مستكبراً عن عبادة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فكفره بالإباء والاستكبار. فإبليس كفره بالإباء والاستكبار وهو نوع من أنواع الكفر، والكفر أنواع منها: كفر التكذيب، وكفر الإباء والاستكبار، وكفر الإعراض، وكفر الشك، وكفر الرفض، وقد يكون بالاعتقاد، بأن يعتقد أن لله صاحبة أو ولداً، أو يكذب الله ورسوله، كما يكون بالقول كأن يسب الله أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يستهزئ بالله وبرسوله، وكفر يكون بالعمل كالسجود للصنم، وكفر بالرفض والامتناع كأن يعرض فلا يتعلم دين الله ولا يعبد الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]، فإبليس كفره بالإباء والاستكبار.

موقف المسلم تجاه ما حصل بين الصحابة

موقف المسلم تجاه ما حصل بين الصحابة Q ما هو موقف المسلم تجاه ما حصل بين الصحابة رضي الله عنهم، وما حكم من يطعن في الصحابة رضي الله عنهم؟ A أن الواجب على المسلم أن يترضى على الصحابة، وأن يكف اللسان عن ما صدر منهم، وأن يعتقد أن ما حصل بينهم كما قال الشيخ ابن تيمية رحمه الله: الأخبار التي تروى عن الصحابة منها ما هو كذب لا أساس له من الصحة، ومنها ما له أصل لكن زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، ومنها ما هو صحيح، والصحيح هم فيه ما بين مصيب له أجران، ومخطئ له أجر. ويجب على الجميع أن يعتقد أن الصحابة أفضل الناس وخير الناس لا كان ولا يكون مثلهم، وهم قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، فهم أفضل الناس وخير الناس، سبقونا إلى الإيمان والجهاد، وحملوا الشريعة، وبلغوا دين الله، فلهم من الحسنات والسبق إلى الإيمان وتبليغ دين الله ونشر الإسلام ما يغطي ما صدر منهم من الهفوات. ولما أراد بعض العلماء أن يقارن بين عمر بن عبد العزيز وورعه ومعاوية بن أبي سفيان، قال: عمر بن عبد العزيز له إيمانه وتقاه وورعه، لكن ليس له مزية الصحبة فلا يلحق الصحابة، والصحابة لهم مزية الصحبة ولا يلحقهم من بعدهم إلى يوم القيامة، ولهم مزية الجهاد في سبيل الله مع الرسول عليه الصلاة والسلام والسبق إلى الإسلام، وهي مزية لا يمكن أن يلحقهم فيها من بعدهم، ولهذا لما جاء في الحديث أن: (الصابر على دينه له أجر خمسين من الصحابة)، قال العلماء: له أجر خمسين في ناحية الصبر، لكن ليس معناه أنه أفضل من الصحابة، فالصحابة فاقوا عليه بالجهاد، وفاقوا عليه بالصحبة، وفاقوا عليه بنشر دين الله، لكن في هذه الخصوصية فقط. ولهذا قال بعض العلماء: الغبار الذي دخل في أنف معاوية في جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم يعدل ورع عمر بن عبد العزيز، فالصحابة لا كان ولا يكون مثلهم، فهم خير الناس وأفضل الناس بعد الأنبياء. ثم أيضاً باب التوبة مفتوح، ولهم من الحسنات والمصائب التي يشاركون الأمة فيها، فكيف بعد هذا يكون مسلم يؤمن بالله ورسوله يسب الصحابة أو يكفرهم أو يضللهم.

[13]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [13] ظهرت المعتزلة في عهد الحسن البصري وقالوا بأن الفاسق يخرج من الإيمان، لكن لا يدخل في الكفر، واعتزلوا حلقة الحسن البصري رحمه الله، ولهم أقوال رديئة فاسدة.

حكم الفاسق عند المعتزلة

حكم الفاسق عند المعتزلة

ظهور المعتزلة وإنكارهم الشفاعة للعصاة

ظهور المعتزلة وإنكارهم الشفاعة للعصاة قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلما شاع في الأمة أمر الخوارج تكلمت الصحابة رضي الله عنهم فيهم، ورووا عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأحاديث فيهم، وبينوا ما في القرآن من الرد عليهم، وظهرت بدعتهم في العامة. فجاء بعدهم المعتزلة الذين اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري رحمه الله، وهم: عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الغزال وأتباعهما]. لما شاع في الأمة أمر الخوارج تكلمت الصحابة فيهم وبينوا بدعتهم وحذروا الناس منهم، ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث فيهم، وسبق أن الأحاديث في الخوارج كلها صحيحة، وفيهم عشرة أحاديث في الصحيحين وفي غيرهما، بخلاف الأحاديث التي في القدرية فرفعها ضعيف ووقفها أصح. فبدعة الخوارج أول البدع ظهوراً، ظهرت في أواخر عهد الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ثم بعد ذلك ظهرت بدعة المعتزلة في أوائل عهد التابعين في أوائل المائة الثانية، وسببها: أن الحسن البصري -وهو تابعي جليل- كان له حلقة يدرس فجاء رجل فسأل الحسن البصري عن العاصي وعن الفاسق فأجابه، وكان في حلقته عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء فاعترضا على شيخهما فقال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنه مؤمن ولا أقول إنه كافر، ثم جلس في حلقة مستقلة واعتزل حلقة شيخه الحسن البصري، ومن ذلك الوقت سموا معتزلة؛ لأنهم اعتزلوا حلقة شيخهم الحسن البصري. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقالوا: أهل الكبائر يخلدون في النار كما قالت الخوارج، ولا نسميهم لا مؤمنين ولا كفاراً بل فساق ننزلهم منزلة بين منزلتين]. هذا مذهب المعتزلة وقد قالوا: أن أهل الكبائر مخلدون في النار كما قالت الخوارج، فهم يوافقون الخوارج في تخليد العاصي في النار في الآخرة، أما في الدنيا فيخالفونهم، فالخوارج يقولون: إذا فعل الكبيرة خرج من الإيمان ودخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، وصار في منزلة بين المنزلتين لا مؤمناً ولا كافراً، ويقولون: نسميه فاسقاً، والحقيقة أنه ليس هناك منزلة بين الإيمان الكفر، والناس إما مؤمن أو كافر، وهم اختلقوا من عند أنفسهم منزلة بين المنزلتين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وأن يخرج أحد من النار بعد أن دخلها]. إنكار الشفاعة مشترك بين المعتزلة والخوارج، فكلهم أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وقالوا: إن العاصي مخلد في النار لا شفاعة له، واستدلوا بالآيات التي جاءت في الكفار كقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254]، وقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18]. فهذه الآيات في الكفار حملوها على المؤمنين فقالوا: ليس لهم نصيب في الشفاعة، ولا يمكن أن يخرج أحد من النار بعد دخولها أبداً، فالزاني والسارق وشارب الخمر والكافر كلهم مخلدون في النار، ولا يمكن أن يشفع في أحد، ولا يمكن أن يخرج أحد من النار بعد دخولها مع أن الأحاديث في إخراج العصاة الموحدين بلغت حد التواتر ومع ذلك أنكرها الخوارج والمعتزلة، فأنكر عليهم أهل السنة وصاحوا بهم وبدعوهم وضللوهم وفسقوهم، وقالوا: كيف تنكرون النصوص وهي متواترة ولا حصر لها، والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات، والأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والشهداء يشفعون، والأفراط يشفعون، فكيف تنكرون الشفاعة ونصوصها متواترة؟ قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقالوا: ما الناس إلا رجلان سعيد لا يعذب أو شقي لا ينعم، والشقي نوعان: كافر وفاسق، ولم يوافقوا الخوارج على تسميتهم كفارا]. المعتزلة قالوا: الناس رجلان سعيد لا يعذب أو شقي لا ينعم، والسعيد الذي لا يعذب هو الموحد الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، والشقي نوعان: كافر أتى بالكفر ومات على الكفر، والثاني: فاسق -وهو المؤمن العاصي- وهذا قالوا فيه: إنه شقي كالكافر سواء ليس هناك فرق بينه وبين الكافر. والخوارج قالوا: الشقي نوع واحد وهو الكافر، والكافر عندهم الذي أتى بالكفر والذي أتى بالمعصية سواء بسواء ولا فرق. والمؤسس للاعتزال هو واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وقد كان عمرو بن عبيد زاهداً في الدنيا لكنه ابتلي بالكلام، ونفى صفات الله عز وجل، وكذلك واصل بن عطاء، وقد كانوا في حلقة الحسن البصري يدرسون، ولكن ابتلوا بهذه الآراء السيئة، وكان واصل بن عطاء الغزال فصيحاً جداً، وعنده قوة في الخطابة والأسلوب وتصريف الكلام، حتى أنه يخطب الخطبة الطويلة -ساعتين أو ثلاثاً- لا يتلعثم إلا أنه في لسانه لثغة في الراء، فمن فصاحته صار يتجنب الراء في الخطبة الطويلة، فيأتي بخطبة طويلة ليس فيها راء حتى لا تبين لثغته، ومن فصاحته أنه قيل له مرة: قل أمر الأمير بحفر البئر في قارعة الطريق، فقال: أوعز القائد بقلب القليب في الجادة، فأدى المعنى بدون راء، ولكنه ابتلي بهذا الاعتقاد الفاسد، وهو المؤسس لمذهب المعتزلة هو وعمرو بن عبيد وهو القول بأن المؤمن العاصي يخرج من دائرة الإيمان في الدنيا ويخلد في النار في الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.

الرد على المعتزلة في تقسيم الناس بين الإيمان والكفر

الرد على المعتزلة في تقسيم الناس بين الإيمان والكفر قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء يرد عليهم بمثل ما رد به على الخوارج، فيقال لهم: كما أنهم قسموا الناس إلى مؤمن لا ذنب له وكافر وفاسق لا حسنة له]. الضمير يعود إلى الخوارج، (فكما أنهم) أي: الخوارج (قسموا الناس إلى مؤمن لا ذنب له وكافر لا حسنة له)، والمؤمن الذي لا ذنب له هو المؤمن المطيع، والكافر الذي لا حسنة له هو الكافر والعاصي. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قسمتم الناس إلى مؤمن لا ذنب له وإلى كافر وفاسق لا حسنة له]. قوله: (قسموا): الضمير يعود إلى المعتزلة، والمعنى: قسمتم أيها المعتزلة الناس إلى مؤمن لا ذنب له وهو المطيع، وإلى كافر وفاسق لا حسنة له، فالكافر معروف، والفاسق هو المؤمن العاصي، فجعلوهم قسمين، لكن الفاسق لا حسنة له كما أن الكافر لا حسنة له، فجعلوا الفاسق مثل الكافر، والفاسق مؤمن له حسنات عند أهل الحق، لكن عند المعتزلة ليس له حسنة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلو كانت حسنات هذا كلها محبطة، وهو مخلد في النار لاستحق المعاداة المحضة بالقتل والاسترقاق، كما يستحقها المرتد]. هذا هو الرد الأول، أن نقول للمعتزلة: لو كانت حسنة العاصي مرتكب الكبيرة حابطة وهو مخلد في النار لاستحق المعاداة المحضة بالقتل والاسترقاق كما يستحقها المرتد، ولو كان الزاني والسارق وشارب الخمر أو المرابي تحبط أعماله كالكافر وليس له حسنات لاستحق المعاداة المحضة فيقتل ويسترق كما أن الكافر يقتل ويسترق، فالمؤمنون إذا قاتلوا الكفار يقتلونهم ويسترقونهم، وإذا وقعوا أسرى بأيديهم فالإمام مخير بين القتل والاسترقاق والمفاداة، فهذا المؤمن العاصي الذي تقول المعتزلة إنه لا حسنة له وإن أعماله حابطة لو كانت أعماله حابطة لكان يستحق أن يعادى معاداة تامة كالكافر ويقتل ويسترق، لكن النصوص دلت على أنه يعامل معاملة المؤمنين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن هذا قد أظهر دينه بخلاف المنافق]. العاصي مرتكب الكبيرة قد أظهر دين الإسلام وهو مؤمن، وإذا سألت العاصي فقلت له: أأنت مؤمن؟ قال: نعم أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ونحن نصلي ونصوم، فهو يظهر دينه وينتسب إلى الإسلام بخلاف الكافر.

بيان الرد على الوعيدية بآية (إن الله لا يغفر أن يشرك به)

بيان الرد على الوعيدية بآية (إن الله لا يغفر أن يشرك به) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد قال الله في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. فجعل ما دون ذلك الشرك معلقاً بمشيئته]. هذه الآية فيها رد على المعتزلة، ووجه الرد من الآية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. فخص الله الشرك بأنه لا يغفر، وعلق ما دونه بالمشيئة، فدل على أن العاصي تحت المشيئة؛ لأن معصيته دون الشرك، فهو تحت مشيئة الله إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه، وإذا عذبه فإنه يخرج من النار بشفاعة الشافعين، أو برحمة أرحم الراحمين كما دلت على ذلك النصوص. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجوز أن يحمل هذا على التائب، فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره]. قوله: (لا يجوز أن يحمل هذا) الإشارة تعود إلى الحكم الذي دلت عليه الآية السابقة، وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. أي: فلا يقول قائل في التائب؛ لأن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره، والتوبة تجب ما قبلها سواء كان شركاً أو غير شرك، فمن تاب من الشرك قبل الله توبته إذا كانت توبة نصوحاً، ومن تاب من الزنا أو السرقة أو الربا قبل الله توبته، والآية فرقت بين الشرك وغيره: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. فدل على أن هذا في غير التائبين؛ لأن الله تعالى فرق بين الشرك وغيره، فخص الشرك بأنه لا يغفر وعلق ما دونه تحت المشيئة، أما التوبة فإنها تجب ما قبلها أياً كانت، كالتوبة من الشرك أو الكفر أو النفاق أو الزنا أو السرقة، فإذا كانت التوبة نصوحاً وجاء التائب بشروطها: أن تكون التوبة لله، وأقلع عن المعصية، وندم على ما مضى، وعزم على عدم العودة إليها، ورد المظلمة إلى أهلها، وكانت التوبة قبل الموت وقبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، فهذه مقبولة من كل شخص، حتى من المثلثة النصارى الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، فقد عرض الله عليهم التوبة بقوله: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74]. فهذه الآية في غير التائبين، بخلاف آية الزمر فإنها في التائبين كما سيذكر المؤلف رحمه الله وهي قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]. فهذه أجمع العلماء على أنها في التائبين؛ لأن الله عمم وأطلق، فقال: {إِِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، أي ذنب: سواء كان كفراً، أو شركاً، أو نفاقاً، فعمم وأطلق ولم يخصص ولم يقيد، فدل على أنها في التائبين، فآية الزمر في التائبين، وآية النساء في غيرهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى في الآية الأخرى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق]. قوله: (هناك): الإشارة تعود إلى آية النساء، و (هنا) الإشارة تعود إلى آية الزمر. والتخصيص هو تخصيص الشرك بأنه لا يغفر، وعلق ما دون الشرك على المشيئة فقال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وفي آية الزمر عمم وأطلق.

أصناف المؤمنين في القرآن

أصناف المؤمنين في القرآن قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:32 - 35]. فقد قسم الله سبحانه الأمة التي أورثها الكتاب واصطفاها إلى ثلاثة أصناف: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، وهؤلاء الثلاثة ينطبقون على الطبقات الثلاث المذكورة في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام: الإسلام، والإيمان، والإحسان، كما سنذكره إن شاء الله تعالى]. هذه الآية هي آية فاطر: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، وفيها أقسام المؤمنين، وهؤلاء الثلاثة كلهم مؤمنون، لأن الله أورثهم الكتاب واصطفاهم، فكلهم مصطفون، وكلهم أورثهم الله القرآن: فالصنف الأول: هو الظالم لنفسه، وهو المؤمن العاصي الذي أخل ببعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات. والصنف الثاني: هو المقتصد، وهو المؤمن المطيع الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، لكن ليس عنده نشاط في فعل المستحبات والنوافل، وليس عنده نشاط في ترك المكروهات كراهة تنزيه وفضول المباحات، بل قد يتوسع في المباحات وقد يفعل المكروهات، فهؤلاء يقال لهم: مقتصدون، ويقال لهم أصحاب اليمين. والصنف الثالث: السابق بالخيرات، وهم الذين أدوا الواجبات، ومع ذلك عندهم نشاط ففعلوا المستحبات والنوافل، وتركوا المحرمات، وتركوا المكروهات كراهة تنزيه، وتركوا فضول المباحات خشية الوقوع في المحرمات، وهؤلاء كلهم مؤمنون، فإن قيل: كيف يكون العاصي من المصطفين؟ قلنا: لما سلم من الشرك ووحد الله وأخلص له العبادة صار من المصطفين دون الكفار. والقسم الرابع: الكفار. وفي سورة الواقعة قسمهم الله ثلاثة أصناف فقال: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:7]، وقال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10]، وقال: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27]، وقال: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة:41]. وفي آخر الواقعة قسمهم كذلك. وهؤلاء الثلاثة: الظالم والمقتصد والسابق ينطبقون على الطبقات الثلاث في حديث جبريل: الإسلام والإيمان والإحسان، فالظالم لنفسه يسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً؛ لأنه ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات، والمقتصد يسمى مؤمناً، والسابق للخيرات يسمى محسناً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومعلوم أن الظالم لنفسه إن أريد به من اجتنب الكبائر أو التائب من جميع الذنوب فذلك مقتصد أو سابق، فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب، لكن من تاب كان مقتصداً أو سابقاً]. الأقرب والله أعلم أن الظالم لنفسه لا يراد به من اجتنب الكبائر، وقوله: (إن أريد به من اجتنب الكبائر) أي: ما أريد به من اجتنب الكبائر فإن هنا نافية بمعنى (ما)؛ لأن الظالم لنفسه هو الذي يفعل بعض الكبائر، والتائب من جميع الذنوب، إما مقتصد إذا كان يفعل بعض النوافل والمستحبات، وإما سابق بالخيرات إن كان يفعل مع ذلك المستحبات. فإذاً الظالم لنفسه غير التائب، لأن الظالم لنفسه هو الذي يفعل بعض المحرمات ويترك بعض الواجبات ولم يتب، أما من تاب من فعله لبعض الكبائر فيكون من المقتصدين أو من السابقين، فالظالم لنفسه يراد به من يفعل بعض الكبائر ولا يراد به من اجتنب الكبائر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، فلا بد أن يكون هناك ظالم لنفسه موعود بالجنة، ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا]. التائب إما مقتصد أو سابق، ويقولون: ليس أحد من بني آدم يخرج من الذنب، فالإنسان محل الذنب، لكن من تاب كان مقتصداً أو سابقاً، إن تاب من الذنب وفعل المستحبات فهو سابق، وإن تاب من الذنب ولم يفعل النوافل فهو مقتصد، ومن اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات، كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]. إذاً: لابد أن يكون هناك ظالم لنفسه موعود بالجنة ولو بعد عذاب يطهر به من الخطايا وهذا هو المؤمن العاصي، وهو موعود بالجنة إن عاجلاً أو آجلاً؛ إن عفا الله عنه دخل الجنة من أول وهلة، وإن لم يعف الله عنه عذب بالنار ثم أخرج منها إلى الجنة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن ما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب مما يجزى به ويكفر به من خطاياه، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذىً حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)]. وهذا الحديث صحيح رواه الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما. والوصب المرض. والنصب: التعب. والهم والحزن والغم من أمراض الداخلية والباطن، والأذى عام، وقيل الهم ينشأ عن الفكر في ما يتوقع حصوله مما يتأذى به. والغم كرب يحدث للقلب بسبب ما حصل. والحزن يحصل لفقد ما يشق على المرء فقده. وهذه كلها يكفر بها من خطاياه، فإذا أصاب الإنسان مرض أو تعب أو هم أو حزن أو غم أو أذى حتى الشوكة إذا أصابت جسمه يكفر الله بها من خطاياه، ولما نزل قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] بين النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر أن الحزن والهم يجزى به الإنسان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي المسند وغيره أنه لما نزلت هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]. قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: (يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فذلك مما تجزون به)]. اللأواء: الشدة وضيق العيش. أبو بكر رضي الله عنه بفقهه وعلمه وورعه يفهم معنى الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]، إذ معناه: أن كل سوء يعمله الإنسان لا بد أن يجازى به، فقال: يا رسول الله! جاءت قاصمة الظهر، ومن يستطيع ألا يعمل شيئاً ولا يقع في سيئة ولا هفوة، وكل شيء نعمله لابد أن نجازى به، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الجزاء ليس خاصاً في الآخرة، بل عام في الدنيا فقال: (يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء والشدة والهم والغم قال: بلى، قال: ذلك مما تجزون به). فإذا تعب الإنسان أو أصابه نصب أو هم أو غم أو شوكة أو أذى أو ضيق أو مصيبة كفر بها من خطاياه، والحمد لله على ذلك، والمؤمن أمره كله له خير؛ ولهذا جاء في الحديث: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، وإن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)، فالمؤمن ينصب ويحزن ويتعب، وتصيبه اللأواء والشدة وضيق العيش والمرض، وهذا كله مما يبتلى به الإنسان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأيضاً فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يخرج أقوام من النار بعدما دخلوها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار]. هذا هو المرجح السادس من المرجحات: أن وصف العصاة بالإيمان والإسلام لضعف إيمانهم لا لنفاقهم، وأن المؤمن العاصي إذا دخل النار فإنه يعذب بها ثم يخرج، وقد يشفع فيه فلا يدخل النار، وقد يعفو الله عنه، فدل هذا على أن الفاسق أو العاصي والذي وصف بالإيمان دون الإسلام لا يخرج من الإيمان ولو ضعف إيمانه. وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يخرج أقوام من النار بعدما دخلوها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار، بل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في العصاة أربع مرات، وكل مرة يحد الله له حداً، جاء في بعض الأحاديث: أن الله يقول: (أخرج من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان) وفي بعضها: (مثقال نصف دينار) وفي بعضها: (أخرج من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان) وفي بعضها: (أخرج من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان) وفي بعضها: (أخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان) فيخرجهم بالعلامة وقد جعل الله له علامة، وهذا فيه رد على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بتخليد العصاة في النار وأنهم لا يخرجون منها، فهذا دليل ومن المرجحات على أن العاصي وضعيف الإيمان لا يخرج من الإيمان ولا يسمى منافقاً، بل عنده أصل الإيمان، فيقال: إنه مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.

الاحتجاج على طائفتي الوعيدية والمرجئة بنصوص الوعد والوعيد

الاحتجاج على طائفتي الوعيدية والمرجئة بنصوص الوعد والوعيد قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين الوعيدية الذين يقولون: من دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها، وعلى المرجئة الواقفة الذين يقولون: لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد أولاً]. هذا الحديث حجة على الطائفتين: الوعيدية: وهم الخوارج والمعتزلة، ويسمون الوعيدية؟ لأنهم يعملون بنصوص الوعيد، ويغمضون أعينهم عن نصوص الوعد، فيعملون ببعض النصوص ويتركون بعض النصوص، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10]. فهذا من نصوص الوعيد، إذاً آكل مال اليتيم مخلد في النار. وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، إذاً القاتل مخلد في النار، وهكذا عملوا بالنصوص التي فيها الوعيد للعصاة كالحديث: (من اقتطع مال امرئ بيمينه أوجب الله له النار). أما نصوص الوعد كالحديث: (من قال: لا إلا الله دخل الجنة) و (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً) فهذه يغمضون أعينهم عنها، ولا يعملون إلا بنصوص الوعيد، وهذه علامة أهل الزيغ، أنهم يأخذون ببعض النصوص ويتركون البعض الآخر. فالخوارج والمعتزلة أخذوا نصوص الوعيد فخلدوا العصاة في النار وأخرجوهم من الإيمان في الدنيا، وأغمضوا أعينهم عن نصوص الوعد، وقابلتهم المرجئة فأخذوا بنصوص الوعد، فقالوا في مثل: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة)، إن المعاصي لا تضر، وإن زنى وإن سرق، أما الأثر: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) فقالوا فيه: الموحد لا يضره أي كبيرة يعملها. أما نصوص الوعيد فقد أغمضوا أعينهم عنها؛ لأنهم من أهل الزيغ. فجاء أهل السنة وأخذوا نصوص الوعيد وصفعوا بها وجوه المرجئة وأبطلوا بها مذهبهم، وقالوا: مذهبكم باطل بنصوص الوعيد، وأخذوا نصوص الوعد وصفعوا بها وجوه الخوارج والمعتزلة وأبطلوا بها مذهبهم وقالوا: مذهبكم باطل، فأبطلوا مذهب الخوارج والمعتزلة بأدلة المرجئة، وأبطلوا مذهب المرجئة بأدلة الخوارج والمعتزلة، وتعارضا فتساقطا، وبقي مذهب أهل السنة والجماعة. قال أهل السنة: أنتم أدلتكم أيها الخوارج نأخذها ونستدل بها على أن المعاصي تضعف الإيمان وتنقص الإيمان، لكن لا يخرج بها من الإيمان بدليل نصوص الوعد، ونأخذ أدلتكم أيها المرجئة من نصوص الوعد ونستدل بها على أن العاصي معه أصل الإيمان، ولا يخرج من الإيمان، ولكن المعاصي تضره وتنقصه بدليل نصوص الوعيد، فأخذوا أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء، وعملوا بالأدلة من الجانبين، وأبطلوا مذهب المعتزلة بأدلة المرجئة، وأبطلوا مذهب المرجئة بأدلة الخوارج والمعتزلة، وبقي مذهب أهل السنة في الميدان هو الصحيح. وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين: الوعيدية الذين يقولون من دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها، وهذا وصف مشترك بين الخوارج والمعتزلة، وحجة على المرجئة الواقفة الذين يقولون: لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد أم لا؟ فهؤلاء متوقفون عندهم شك، ويسمون الواقفة، فإذا قيل لهم: هل أهل التوحيد يدخلون النار؟ قالوا: لا ندري، فهذه النصوص حجة عليهم، فالنصوص فيها أنهم يدخلون ويخرجون. قال المصنف رحمه الله تعالى: [كما يقول ذلك طوائف من الشيعة والأشعرية، كالقاضي أبي بكر وغيره]. القاضي أبو بكر الباقلاني من أمكن الأشاعرة، وقد وافق المرجئة الواقفة طوائف من الشيعة والأشعرية وتوقفوا في دخول العصاة أهل التوحيد النار. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما ما يذكر عن غلاة المرجئة أنهم قالوا: لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد فلا نعرف قائلاً مشهوراً من المنسوبين إلى العلم يذكر عنه هذا القول]. يقولون: لن يدخل النار من أهل التوحيد أحد ولو فعل جميع الكبائر وجميع المعاصي، وهذا يقوله غلاة المرجئة كالجهمية، ولا يوجد أحد من العلماء المنتسبين للعلم يقول بهذا القول، إنما يقوله غلاة المرجئة وغلاة المرجئة هم الجهمية الذين يقولون لا يضر مع الإيمان طاعة كما لا ينفع مع الكفر معصية، فيقولون: إن المؤمن إذا عرف ربه بقلبه يكفيه، ولو فعل المنكرات وجميع الكبائر، حتى لو فعل المكفرات فلا يضره ما دام أنه يعرف ربه بقلبه، وهذا من أبطل الباطل.

إثبات الإيمان للعصاة

إثبات الإيمان للعصاة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لشارب الخمر المجلود مرات بأنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنه، ومعلوم أن من أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحبه الله ورسوله بقدر ذلك]. هذا هو المرجح السابع من مرجحات مذهب جمهور السلف والخلف القائلين بأن الذين وصفوا بالإسلام دون الإيمان ليسوا منافقين، وإنما معهم أصل الإيمان، خلافاً لطائفة من أهل السنة على رأسهم الإمام البخاري وجماعة حينما قالوا: إن هؤلاء منافقون. فالمرجح السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لشارب الخمر بأنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنته، فالرجل الذي كان يؤتى به كثيراً ويجلد في الخمر لما لعنه رجل قال: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله، ومعلوم أن من أحب الله ورسوله أحبه الله ورسوله بقدر ذلك، والذي يحبه الله ورسوله لا يمكن أن يكون كافراً أو منافقاً؛ لأن المنافق لا يحبه الله ورسوله، فدل على أنه مؤمن. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأيضاً فإن الذين قذفوا عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، كان فيهم مسطح بن أثاثة. وكان من أهل بدر، وقد أنزل الله فيه لما حلف أبو بكر رضي الله عنه ألا يصله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]]. قصة قذف عائشة معروف أنه أشاعه أهل الإثم وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين، كان يشيع الإفك، والإفك أسوأ الكذب، وهو قذف عائشة رضي الله عنها بالفاحشة، وذلك لما تخلفت عن الجيش وأركب هودجها الذين وكلوا بالهودج وظنوا أنها فيه لخفتها وهي كانت خرجت لحاجتها، فسار الجيش وتركها، فجاء صفوان بن المعطل السلمي وكان قد تأخر فلما رآها عرفها فخمرت وجهها بجلبابها ثم أناخ لها البعير فركبت وجعل يقودها إلى المدينة، فأشاع أهل الإفك من المنافقين وغيرهم ذلك، وعبد الله بن أبي يستوشيه ويجمعه ولكن لا يثبت عليه شيء؛ ولهذا ما جلده النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما ثبت عليه شيء، فهو يستوشيه وينشره من بعيد، ولكن لا يتكلم به أمام أحد حتى لا يثبت عليه شيء، وهو الذي تولى كبره قال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11]. وشارك في هذا وتكلم فيه بعض الصحابة، منهم حسان بن ثابت الشاعر، ومنهم مسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر رضي الله عنه، وكان أبو بكر ينفق عليه لقرابته وفقره، فجلد النبي صلى الله عليه وسلم مسطح وأقام عليهم الحد ثمانين جلدة، ومعلوم أن الحد طهارة، فطهرهم الله بالحد والتوبة طهارة، فلما شارك مسطح بن أثاثة في الإفك حلف أبو بكر أن يقطع النفقة عنه، أنزل الله هذه الآية تنهى أبي بكر عن الحلف، قال الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ} [النور:22]، أي: لا يحلف {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22]. والفضل: السعة والغنى: {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} [النور:22]، وهو مسطح: {وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [النور:22]. فـ مسطح من القرابة وهو مسكين ومهاجر، اجتمعت فيه الأوصاف، قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]. قال أبو بكر لما نزلت هذه الآية: بلى والله أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى النفقة التي ينفقها على مسطح. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن قيل إن مسطحاً رضي الله عنه وأمثاله تابوا؛ لكن الله تعالى لم يشترط في الأمر بالعفو عنهم والصفح والإحسان إليهم التوبة]. إن هذه الآية أنزلها الله في أمر أبي بكر بالعفو والصفح، فإذا قيل إن مسطحاً وأصحابه تابوا إلى الله والحد طهارة وقد أقيم عليهم الحد، فيقال: الآية ليس فيها شرط التوبة وما قال الله: وليعفوا وليصفحوا إذا تابوا، فدل على أنه مأمور بالصفح والتوبة حتى ولو لم يتوبوا؛ لأنه مؤمن ولو كان عاصياً، فدل على أنه بقي على ِإيمانه وأنه ليس من المنافقين. ووجه الدلالة: أن الله أمر أبا بكر بالعفو والصفح والنفقة ولم يشترط التوبة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أراد عمر رضي الله عنه قتله قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم،)]. هذا هو المرجح التاسع من المرجحات أن من وصف بالإسلام دون الإيمان فإنه يبقى على إيمانه، وأن من فعل المعصية فهو باق على أصل إيمانه، وفي ذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لما كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم وتأول فقال: إنه يريد أن يضع يداً عندهم ليحموا بها أهله وعشيرته، فهذا عذره وهو صادق في ذلك، وما أنكر الله عليه وأنزل فيه صدر سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]، وفي آخرها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الممتحنة:13]. فجعل الله فعل حاطب من التولي ومع ذلك فهو مسلم من الصحابة وممن شهد بدراً. فهذا كله من المرجحات لجمهور السلف والخلف على أن من فعل معصية فإن يبقى على إيمانه، وأن من وصف بالإسلام دون الإيمان فإنه لا يخرج بذلك عند دائرة الإيمان ولا يكون من المنافقين، ولما أراد عمر قتله وقال: دعني أضرب عنقه، وفي اللفظ الآخر: (أن عمر قال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق فقد خان الله ورسوله و - عمر معذور؛ لأنه متأول حيث رأى حاله- فلما دعا النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً وسأله قال: يا رسول الله! لا تعجل علي، فوالله ما فعلت ذلك رضا بالكفر بعد الإيمان وإنما أردت أن أتخذ يداً عندهم يحمون بها أهلي وعشيرتي، وإن من عندك من قريش لهم قرابات يحمون أهليهم فأردت إن فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فإنه قد خان الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما أنه قد صدقكم، وقال: أما إنه قد شهد بدراً وما يدرك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). فقصة حاطب بن أبي بلتعة دليل لجمهور السلف والخلف على بقاء الإيمان مع المعصية، وأن من وصف بالإسلام دون الإيمان فإنه لا يكون من المنافقين.

الأسئلة

الأسئلة

بيان أن الرافضة لا يعتمد عليهم في الأذكار ولا غيرها

بيان أن الرافضة لا يعتمد عليهم في الأذكار ولا غيرها Q لا يشك عاقل أن الرافضة -قبحهم الله- لهم خطط ماكرة للصد عن سبيل الله وقد ضايقوا المسلمين بأعظم مقدساتهم في الحرمين مكة والمدينة، ولهم خطط لجعلها -قبحهم الله- وكراً لنشر مذاهبهم الضالة، وفي الآونة الأخيرة ازداد شرهم حتى نشروا بعض الأوراق مما ظاهره حسن من الأدعية التي رواها الأئمة كـ البيهقي وغيره رحمهم الله، فما رأيكم في ذلك، وهل من توجيه لنا تجاه هذا؟ A هذا الأذكار التي يوزعها الشيعة لا ينبغي لمسلم أن يعتمد عليها، ولا أن يقبلها؛ لأنهم ليسوا أهلاً للتوزيع وليسوا أهلا لأن يؤخذ منهم، والأذكار الشرعية موجودة في الأحاديث الصحيحة، وقد ألف العلماء كتباً في الأذكار فألف ابن القيم كتاب الوابل الصيب في الكلم الطيب، وألف النووي كتاب الأذكار، فتؤخذ منها أذكار الصباح والمساء، وابن السني ألف في عمل اليوم والليلة، وشيخ الإسلام ابن تيمية له أيضاً الكلم الطيب، وسماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله له رسالة في الأذكار، وكذلك حصن المسلم لأخينا الشيخ سعيد بن وهف القحطاني، وكذلك الشيخ عبد الله الجار الله له أيضاً نشرة في الأذكار، وهو حديث يكفى به عن هذه التي يوزعها الشيعة، فالشيعة ليسوا أهلاً لأن يؤخذ ويعتمد على توزيعهم.

حكم أهل الفترة

حكم أهل الفترة Q ما مذهب أهل السنة والجماعة في أهل الفترة الذين ماتوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ A أهل الفترة الله أعلم بهم وهو الذي يحاسبهم، ولكن جاءت النصوص في أن بعض أهل الفترة بلغتهم الدعوة، فمن بلغتهم الدعوة فإنهم يؤاخذون، ومن ذلك ما جاء أن عبد الله بن جدعان قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن له جفنة كبيرة يطعم منها الحجاج، فهل ينفعه ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) أي: أنه أنكر البعث. وجاء في قصة الرجل الذي سأله: أين أبي؟ قال: (في النار فلما ولى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار) فدل على أنه قد قامت عليه الحجة، وكذلك والد النبي صلى الله عليه وسلم. وأما والدة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في صحيح مسلم وفي مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استأذنت ربي في أن أزور قبر أمي فأذن لي واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي)، فزار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ولم يأذن الله له بالاستغفار لأمه، وأمه عليه الصلاة والسلام ماتت في الفترة، فيحتمل أنها بلغتها الدعوة ويحتمل أنها لم تبلغها الدعوة. وجاءت أحاديث في أهل الفترة بعضها صحيح وأكثرها ضعيفة لكن يشد بعضها بعضاً، وقد أخذ بها شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم في أنهم يمتحنون يوم القيامة، وجاء في بعض الأحاديث أنه يؤتي بالشيخ الكبير والهرم والأصم من أهل الفترة، وأنه يخرج لهم عنق من النار، فيقال: رِدُوها. فمن وردها صارت عليه برداً وسلاماً، ومن امتنع فإنه يكون عاصياً، فهذه الأحاديث فيها دليل على أن من لم تبلغه الدعوة يمتحن يوم القيامة، فمن أطاع دخل الجنة ومن عصى دخل النار، والله تعالى له الحكمة البالغة، وهو الحكم العدل سبحانه وتعالى.

حكم من قال للنبي صلى الله عليه وسلم اعدل

حكم من قال للنبي صلى الله عليه وسلم اعدل Q الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه هل كان فيهم أحد ممن لاقى النبي صلى الله عليه وسلم، وهل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (اعدل يا محمد) يعد من الصحابة ويترضى عنه؟ A ظاهره أنه منافق، ولهذا استأذن خالد في قتله وقال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: (لا. أليس يصلي) جاء في اللفظ الآخر: (لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابة). ولهذا قال: (إنه يخرج من ضئضي هذا)، أي: من نسله وعقيدته (قوم تحقرون صلاتكم عند صلاتهم)، فالأقرب والله أعلم أنه منافق؛ لأنه اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اعدل، أو: اتق الله، فاتهم النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء في الحديث الآخر في قصة الأنصاري الذي اختصم هو والزبير في شراج الحرة، وهو مسيل الماء، وكان جاراً للزبير، وكان الماء يسقي من الأعلى ثم الأدنى، وكان الزبير هو الأعلى فقال الأنصاري للزبير: سرح الماء إلى أرضي، والزبير انتظر حتى يبلغ الماء الزرع ثم يرسله، فقال: لا، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسق يا زبير ثم سرح الماء إلى جارك) ولم يحدد له حداً، فغضب الأنصاري وقال للرسول عليه الصلاة والسلام: أن كان ابن عمتك -قلت له هذا- فتلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر) أي: مقدار ما يغطي الرجل ثم أرسل الماء إلى جارك، وفي الأول ما أعطى الزبير حقاً، فلما أغضب الأنصاري النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الزبير حقه كاملاً في الشرع، ولهذا أخذ العلماء من قوله صلى الله عليه وسلم: (احبس الماء حتى يصل إلى الجدر) أنه بمقدار ما يمشي الماء في المزرعة فإذا غطى الماء الكعبين يجب أن تسرحه إلى جارك، وفي قول هذا الرجل: (أن كان ابن عمتك)، قيل: إنه منافق اتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه ليس منافقاً ولكن من شدة الغضب قال هذا، والأقرب والله أعلم أن هذا الذي اتهم النبي صلى الله عليه وسلم منافق.

حكم الجاسوس

حكم الجاسوس Q من فعل فعل حاطب رضي الله عنه في هذا الزمان، فما حكمه هل يحكم عليه بما حكم به على حاطب رضي الله عنه؟ A العلماء لهم كلام طويل في هذا، وهذا يسمى جاسوساً يتجسس على المسلمين، والعلماء حكموا بأن الجاسوس يقتل، وهل يكفر أو لا يكفر؟ فيه كلام، وأما حاطب فإنه منع من قتله أمران: الأمر الأول: أنه صادق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنه قد صدق). والثاني: أنه شهد بدراً، وهذان الأمران لا يجتمعان في غير حاطب إلى يوم القيامة، فلا يمكن لأحد أن يكون شهد بدراً، فلهذا قالوا: الجاسوس إذا تجسس على المسلمين قتل. وهو الذي ينقل أخبار المسلمين إلى المشركين وقتله من قبل ولاة الأمور وليس من قبل الأشخاص، فإذا ثبت عند ولاة الأمور أنه جاسوس يقتل أما الأشخاص فلا؛ لأنه تصبح المسالة فوضى كلما أبغض شخص آخر قتله وقال: هذا جاسوس.

حكم فسخ عقد الإجارة قبل انتهاء مدته

حكم فسخ عقد الإجارة قبل انتهاء مدته Q أجرت محلاً لي بعقد لمدة سنة ثم أخل المستأجر بشروط العقد، وماطل في الدفع، فهل يجوز أن أفسخ العقد ولو بقي له بعض المال من الأقساط الأولى التي دفعها كمقدم للعقد؟ A الإجارة عقد لازم يلزم الوفاء به، وهذا لابد أن يؤدي، فيشتكى به ويحبس ويلزم بأداء الأجرة كاملة. لكن إذا اتفق معه على شيء أو اصطلح معه على ترك الأجرة أو على إنهاء الأجرة فلا بأس، إما إذا تمسك المؤجر بالأجرة فإنه يلزم المستأجر إتمام الإجارة.

أقسام الرياء

أقسام الرياء Q إذا كان الرياء يبطل الأعمال، فهل إذا توضأ الرجل رياء ثم صلى هل تبطل صلاته كما يبطل وضوءه؟ A الرياء فيه تفصيل، فالرياء الذي يحبط العمل هو الذي يداخل العمل من أصله ويستمر معه إلى نهاية العمل، إما إذا طرأ الرياء على الإنسان ثم دفعه واستغفر الله فلا يضره، لكن إذا استرسل معه واستمر فقيل إنه يجازى بنيته الأولى ولا يبطل، وقيل: إنه إذا استمر معه فإنه يبطل العمل، ومن يتوضأ رياء كيف يتوضأ رياء؟! فالغالب أن الرياء يكون في الصلاة في تحسين الصلاة أو تزيينها ولا يكون في الوضوء.

حكم من فسق الصحابة أو كفرهم

حكم من فسق الصحابة أو كفرهم Q ما الحكم على من فسق الصحابة أو كفرهم؟ A من كفر الصحابة وفسقهم فقد كذب الله، ومن كذب الله كفر؛ لأن الله زكاهم وعدلهم ووعدهم بالحسنى بالجنة، فهو مكذب لله.

كيفية مناظرة النصراني

كيفية مناظرة النصراني Q يوجد لدينا في العمل شخص نصراني، ويقول: كيف تثبت لي أن دينكم هو الدين الصحيح الذي إذا دخل الإنسان فيه فإنه سوف يدخل الجنة؟ A هذا يحتاج إلى إنسان يناظره بالأدلة العقيلة التي يقتنع بها، ويستطيع السائل أن ينظر ما الذي يناسب هذا الشخص بالأدلة العقلية، أو يستعين بكتب المناظرة فيناظر النصراني الذي لا يؤمن، ومن المناظرات أن يقال له: أنت تؤمن بأن عيسى رسول الله أو لا تؤمن؟ فإن آمن بأنه رسول الله فقل: إن عيسى أخبر بأن محمداً رسول الله، والنبي لا يكذب، المقصود أن هذا يناظر بما يناسبه، وبالشيء الذي يصدق به.

العلاقة بين العقل والشريعة

العلاقة بين العقل والشريعة Q ما حكم قول أحدهم: كل ما جاء عن الشرع وقبله العقل وجب علينا قبوله؟ وهل يعتبر هذا من أفكار المعتزلة؟ A هذا ليس صحيحاً، فكل ما جاء به الشرع وثبت في الوحيين، في كتاب الله وسنة رسوله يجب على الإنسان أن يقبله سواء وافقه العقل أم خالفه، ولا يتقيد بالعقل، ولكن من المعلوم أن العقل الصريح يوافق النقل الصحيح، ولا يمكن أن يكون العقل صريحاً ويخالف النص الصحيح أبداً، فإذا وجدت ما ظاهره أن العقل يخالف النقل، فهو أحد أمرين: إما أن النقل غير صحيح ولم يثبت. وإما أن العقل غير صريح قد يكون فيه شبهة أو شهوة، أما من عقله صريح ونقله صحيح فلا يتعارضان أبداً، فالعقل الصريح يوافق النقل الصحيح. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله له كتاب سماه: موافقة المعقول لصحيح المنقول، التزم شيخ الإسلام في هذا الكتاب وقال: أنا مستعد وملتزم بأن كل شبهة وكل دليل يورده المبطل أقلبه حجة عليه، وإذا وجدت ما يخالفه فاعلم أن النقل غير صحيح أو العقل غير صريح، والعلماء يقولون: الشريعة جاءت بمحارات العقول لا بمحالاتها، والمعنى: أن الشريعة لا تأتي بشيء تنكره العقول وتنفيه، ولكن تأتي بشيء تتحير فيه العقول ولا تدركه على استقلالها، والمراد بالعقول: العقول السليمة، أما العقول المريضة فليس لها اعتبار، وعقل الإنسان الذي عنده شبهات أو شهوات لا عبرة به.

مراتب الأفضلية بعد الأنبياء والمرسلين

مراتب الأفضلية بعد الأنبياء والمرسلين Q أيهما أفضل بعد الأنبياء والمرسلين هل هم الصالحون المذكورون في القرآن كلقمان ومريم بنت عمران، وذو القرنين أم هم الصحابة رضي الله عنهم؟ A أفضل الناس الرسل، وأفضل الرسل أولو العزم الخمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام. وأفضل أولو العزم الخمسة الخليلان: إبراهيم ومحمد عليهما السلام. وأفضل الخليلين نبينا وإمامنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو أفضل الخلق على الإطلاق، وأشجعهم وأكرمهم وأعبدهم وأزهدهم وأتقاهم، قال عليه السلام: (إني لأتقاكم لله وأخشاكم له) ثم يليه جده إبراهيم، ثم موسى الكليم، ثم بقية أولي العزم الخمسة، ثم بقية الرسل، ثم الأنبياء. ثم يليهم الصديقون، والصديق على وزن (فعِّيل) صيغة مبالغة، وسمي الصديق لقوة تصديقه، وإيمانه يحرق الشبهات والشهوات، فلا يبقى شبهة ولا شهوة، ولا يصر على معصية، وفي مقدمتهم الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه. ثم يليهم الشهداء الذين بذلوا أموالهم وأرواحهم لله، فأغلى ما يملكه الإنسان نفسه التي بين جنبيه، والشهيد بذل روحه لله، وقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ثم الصالحون، فهذه أربع طبقات: الأنبياء وفي مقدمتهم الرسل، ثم الصديقون، ثم الشهداء ثم الصالحون، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69]. وهم الذين أمرنا في كل ركعة من ركعات الصلاة أن ندعو الله أن يهدينا صراطه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، والصالحون طبقات الطبقة الأولى: السابقون بالخيرات، وهم: الذين يفعلون الواجبات والمستحبات والنوافل، ويتركون المحرمات والمكروهات وفضول المباحات. الطبقة الثانية: المقتصدون، وهم: الذين أدوا الواجبات لكن ليس عندهم نشاط لفعل المستحبات، وتركوا المحرمات وليس عندهم نشاط لترك المكروهات وفضول المباحات. والطبقة الثالثة: الظالمون لأنفسهم، وهم الذين ارتكبوا بعض المحرمات أو تركوا بعض الواجبات.

حكم السفر لأجل الترخص

حكم السفر لأجل الترخص Q كنت مع مجموعة من الشباب في السابق إذا جاء رمضان نذهب خارج مدينة الرياض مسافة ثمانين كيلو متراً لأجل الترخص برخص السفر والإفطار، وليس لدينا غير هذا، وكان هذا الأمر قبل ما يقارب الخمس سنوات، فما الحكم الآن؟ A لا يجوز إفطاركم في هذه الحالة، لأنكم تعاملون بنقيض قصدكم، فمن خرج بقصد الإفطار لا يجوز له الإفطار، فحرام عليكم الإفطار وعليكم قضاء تلك الأيام مع التوبة والندم والعزم على عدم العود مرة أخرى. فلو خرج الإنسان لقصد أن يترخص وليس له غرض فهذا حرام عليه ولا يجوز له، أما إذا خرج للزيارة أو لغرض أو لحاجة أو للنزهة على الصحيح أيضاً -وإلا المسألة فيها خلاف- فإنه يترخص، لكن من خرج بقصد الإفطار حتى يتخلص من الصوم فهذا حرام عليه أن يفطر، ويجب أن يصوم، ولو سافر في هذه الحالة معاملة له بنقيض قصده. ومثله من طلق زوجته في مرض الموت يريد أن يحرمها من الميراث فترث ولو خرجت من العدة ما لم تتزوج أو ترتد معاملة له بنقيض قصده، والقاتل الذي قتل مورثه حتى يرث يعامل بنقيض قصده فيحرم من الميراث، فهذه قاعدة في الشرع أن الإنسان يعامل بنقيض قصده، فالذي خرج في رمضان لأجل أن يفطر يعامل بنقيض قصده، ويقال: الفطر عليك حرام، ولا يجوز لك أن تفطر ولو كنت في السفر. وعليهم أن يتوبوا إلى الله عز وجل مما مضى ويكثروا من الأعمال الصالحة مع قضاء الأيام. وإذا كان مضى رمضان آخر فعليهم مع صوم كل يوم كفارة وهي إطعام مسكين.

حكم الصلاة خلف إمام يأخذ من لحيته

حكم الصلاة خلف إمام يأخذ من لحيته Q إمام مسجد يأخذ من لحيته ويقول: إن إعفاء اللحية ليس بواجب، ويحتج بأن بعض أهل العلم إنما يأخذون بالحكم الأحوط وليس بالواجب، فما حكم قوله؟ وما حكم الصلاة خلفه؟ A قوله باطل، وهذا مخالف للنصوص، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قصوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المشركين، خالفوا المجوس) فوردت أوامر بألفاظ: جزوا، أرخوا، وفروا، وهذه أوامر، والأمر للوجوب عند أهل العلم، وقد قال الإمام أبو محمد ابن حزم: وأجمع العلماء على أن إعفاء اللحية فرض وأن حلقها حرام، فهذا الإمام حجته داحضة وفي قلبه مرض؛ لأنه أراد أن يترخص حتى إنه يفتي لنفسه، وأما الصلاة خلفه فصحيحة؛ لأنه مسلم، ولو أمكن آخر أحسن منه فهو أولى، وإذا كان مصراً على هذا فينبغي أن يكون الإمام غيره، ويكون إماماً ملتزماً بالسنة، ويعمل بالنصوص.

[14]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [14] مما يرد على الوعيدية من الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بخلود العصاة في جهنم أن الله تعالى قد أخبر بالمغفرة لأهل بيعة الرضوان وهم معرضون لارتكاب الكبائر وكذلك ذكر الله أسباباً كثيرة لإسقاط الذنب مما يدل على عدم الخلود.

الرد على الوعيدية بحديث المغفرة لأهل بيعة الرضوان

الرد على الوعيدية بحديث المغفرة لأهل بيعة الرضوان قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)، وهذه النصوص تقتضي أن السيئات مغفورة بتلك الحسنات، ولم يشترط مع ذلك توبة، وإلا فلا اختصاص لأولئك بهذا، والحديث يقتضي المغفرة بذلك العمل. وإذا قيل: إن هذا لأن أحداً من أولئك لم يكن له إلا صغائر لم يكن ذلك من خصائصه أيضاً، وعلى هذا يستلزم تجويز الكبيرة من هؤلاء المغفور لهم]. هو المرجح العاشر من المرجحات التي تؤيد أن العاصي الذي نفي عنه الإيمان وأثبت له الإسلام عنده أصل الإيمان، وليس منافقاً، وهو ما يسمى بالفاسق الملي، وسبق أن المسألة فيها قولان لأهل العلم أحدهما: أن الذين وصفوا بالإسلام دون الإيمان منافقون، وإسلامهم إسلام في الظاهر، وهذا مذهب البخاري وجماعة، وقول طائفة من أهل السنة ومن أهل الكلام. القول الثاني: قول جمهور السلف والخلف: أن هؤلاء الذين أثبت لهم الإسلام ونفي عنهم الإيمان ليسوا منافقين، وإنما هم ضعفاء الإيمان معهم أصل الإيمان، ونفي عنهم الإيمان لكونهم قصروا في بعض الواجبات، أو فعلوا بعض المحرمات، وقد ذكر المؤلف مرجحات كثيرة، وهذا المرجح العاشر يدل على أن العاصي إذا نفي عنه الإيمان يبقى معه أصل الإيمان. فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه ورواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان وغيرهم. والمراد بالشجرة: الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم فيها الصحابة بيعة الرضوان على قتال المشركين، وهذا في صلح الحديبية، وذلك سنة ست من الهجرة لما أحرم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالعمرة، فلما قربوا من مكة منعتهم قريش من الدخول إلى مكة فنزلوا في الحديبية، والحديبية قرب حدود الحرم، وهي مكان على طريق جدة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان يفاوضهم ويخبرهم أنه ما جاء لقتال وإنما جاء للعمرة، فاحتبست قريش عثمان رضي الله عنه، وشاع في الصحابة أن عثمان قد قتل، فبايع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على الموت، وكانوا ألفاً وما بين الأربعمائة إلى الخمسمائة، فلما سمعت قريش بأن النبي بايع الصحابة على الموت وقتالهم خافوا وأطلقوا عثمان، فسميت هذه البيعة بيعة الرضوان، وأنزل فيها قوله عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]. وقال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث الصحيح: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) هؤلاء الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة لهم مزية على غيرهم، كما أن من شهد بدراً له مزية، فأهل بدر قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ولهذا يقول العلماء: أفضل الصحابة الخلفاء الراشدون ثم بقية العشرة المشهود لهم بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان. فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) استدل به المؤلف رحمه الله على أن من وقع في معصية أو في كبيرة يبقى معه أصل الإيمان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: وهذه النصوص تقتضي أن السيئات مغفورة بتلك الحسنات، والحسنة هي البيعة تحت الشجرة، فتغفر بها السيئات، وكذلك أيضاً شهود بدر. ففي حق حاطب بن أبي بلتعة في المرجح التاسع السابق قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك إن الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فشهود بدر حسنة عظيمة تغفر بها السيئات؛ ولهذا غفرت هذه السيئة التي حصلت من حاطب وهي مكاتبة المشركين، وإخبارهم بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وقد أنزل فيها الله تعالى صدر سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]. وقال: في آخر آية من السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13]. فهذه السيئة التي صدرت من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه غفرت بهذه الحسنة العظيمة وهي شهود بدر، كما أن الذين بايعوا تحت الشجرة وكانوا ألفاً وأربعمائة حصلت لهم هذه الحسنة العظيمة، وهي البيعة تحت الشجرة، وهذه حسنة عظيمة تغفر بها السيئات، فدل هذا على أنه لو وقع من هؤلاء سيئة أنه يبقى معهم أصل الإيمان، وهي تدل على أن العاصي في الجملة يثبت له الإسلام، وينفى عنه الإيمان، وأنه يبقى معه أصل الإيمان. فتكون النصوص التي جاءت بإثبات الإسلام لأقوام ونفي الإيمان عنهم دليل على أن معهم أصل الإيمان وليسوا المنافقين كما ذهب إليه الجمهور، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: هذه النصوص تقضي أن السيئات مغفورة بتلك الحسنات. وقوله: (ولم يشترط مع ذلك توبة) فإنه ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة إلا إذا تاب بعد أن وقع في المعصية؛ لأن التوبة طهارة تغفر بها السيئات عامة لكل مؤمن إلى يوم القيامة، فدل على أن هؤلاء الذين بايعوا تحت الشجرة، وهؤلاء الذين شهدوا بدراً تغفر لهم السيئات بهذه الحسنة العظيمة ولم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم مع ذلك توبة، ولهذا قال المؤلف: وإلا فلا اختصاص لأولئك بهذا، أي: لا اختصاص لهم بالتوبة بل التوبة عامة، ولو كان المراد: لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة إذا تاب، وقوله في أهل بدر: اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم إذا تبتم، فلو كان المراد أنه لا بد من التوبة لزالت الخصيصة التي لأهل بدر والتي لأهل بيعة الرضوان، ولو قلنا إنه لا بد من التوبة صاروا مشاركين لغيرهم. فالتوبة طهارة لكل أحد، وليست خاصة بأهل بدر ولا بأهل بيعة الرضوان، فدل هذا على أن الخصيصة التي لأهل بدر والخصيصة التي لأهل بيعة الرضوان هي هذه الحسنة بخصوصها -ولو لم يحدث توبة إذا صدرت معصية- فإنها تغفر بهذه الحسنة العظيمة وهي شهود بدر وبيعة الرضوان. وقوله رحمه الله: (والحديث يقتضي المغفرة بذلك العمل) المقصود بذلك العمل: شهود بدر وبيعة الرضوان. قوله: (وإذا قيل إن هذا لأن أحداً من أولئك لم يكن لهم إلا الصغائر لم يكن ذلك من الخصائص أيضاً) فليس المراد الآن ذكر خصيصة هؤلاء إنما المراد الوصف، والنبي صلى الله عليه وسلم أتى بوصف وقال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)، وهذا وصف ليس المراد به شخصاً بعينه، وقوله: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) كل من شهد بدراً وصف بهذا الوصف، ويشفع له الحديث، فلا يقال لأن أولئك لم يعملوا الكبائر وإنما صدرت منهم الصغائر؛ لأن المراد الوصف لا الشخص. وهذا يستلزم تجويز الكبيرة من هؤلاء المغفور لهم فليسوا معصومين، وإنما المعصوم الرسل عن الشرك وعن الكبائر، ومعصومون عن الخطأ فيما يبلغونه عن الله، أما غير الرسل فليسوا معصومين من الكبائر حتى يقال: إن أهل بيعة الرضوان وكذلك أهل بدر لا تصدر منهم إلا الصغائر، فصدور الكبيرة منهم جائزة وليست مستحيلة، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا الوصف لا شخصاً بعينه، وبهذا يتبين أن من المرجحات شهود بدر، وأنها حسنة تغفر بها السيئات كالسيئة التي حصلت من حاطب لما كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حسنة بيعة الرضوان تغفر بها السيئات التي تصدر منهم.

الرد على الوعيدية بأسباب سقوط العقوبة عن العاصي

الرد على الوعيدية بأسباب سقوط العقوبة عن العاصي قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأيضاً قد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب].

زوال عقوبة الذنب بأسباب مختلفة

زوال عقوبة الذنب بأسباب مختلفة هذا هو المرجح الحادي عشر، وهو يدل على أن المؤمن إذا صدرت منه معصية أو كبيرة يبقى معه أصل الإيمان، وأن النصوص التي فيها وصف بعض الناس بالإسلام دون الإيمان، تدل على أنه نفي عنهم كمال الإيمان وليسوا منافقين. وذلك أنه قد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن عقوبة الذنب تزول عن العبد بعشرة أسباب، وإذا حصل واحد من هذه العشرة محي الذنب، وسلم العبد من عقوبته، وهذا يدل على أن المؤمن إذا وقع في الكبيرة لا يخرج من الإيمان بل يبقى معه أصل الإيمان، وهذه العشرة ذكرها المؤلف وهي: أحدها التوبة: الثاني: الاستغفار. الثالث: الحسنات الماحية. الرابع: دعاء المؤمنين للمؤمن. الخامس: ما يعمل للميت من أعمال البر. السادس شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. السابع: المصائب التي يكفر الله بها الخطايا. الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغط والروعة. التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها. العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد. فهذه عشرة أسباب إذا حصل واحد منها محي الذنب عن صاحبه وسقطت العقوبة عنه، وليس المراد أن تجتمع العشرة كلها، بل إذا حصل واحد منها سقطت عقوبة الذنب عن العبد. فهذه الأسباب التي تسقط بها عقوبة الذنوب عن العبد تدل على أن المؤمن يقع في المعاصي ويقع في الكبائر، ويسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً إذا ارتكب الكبيرة، وينفى عنه الإيمان المطلق وإن كان معه أصل الإيمان الذي يصحح إسلامه، وأصل الإيمان لابد منه، والمسلم لابد له من إيمان يصحح إسلامه، فيؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، لكن الإيمان الكامل لا يطلق إلا على من أدى الواجبات وترك المحرمات، وهذا فعل كبيرة فلا نسميه مؤمناً بإطلاق، بل لابد أن يكون مؤمناً ناقص الإيمان، أو ضعيف الإيمان فهو مؤمن فاسق، ويقال هو مسلم ولا يقال مؤمن، والإيمان الذي نفي عن العاصي غير الإيمان الذي دخل به في الإسلام، فالإيمان دخل به في الإسلام لابد منه، وهو أصل الإيمان، والإيمان الذي ينفى عن العاصي هو الإيمان الكامل الذي يستحق به دخول الجنة والنجاة من النار. هذه الأسباب العشرة التي إذا حصل واحد منها سقطت عقوبة الذنب تدل على أن المؤمن يقع في الكبيرة ولا يخرج من الإسلام بل يسمى مسلماً، وليس إسلامه كإسلام المنافقين كما ذهب إليه البخاري وجماعة، فـ البخاري رحمه الله قال: إن الإيمان هو الإسلام والإسلام هو الإيمان، فهما مترادفان لا فرق بينهما، ومن نفي عنه الإيمان فقد نفي عنه الإسلام، سواء بسواء، والآية: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] نزلت هذه في المنافقين. والصواب: أن الإسلام غير الإيمان وليسا مترادفين إذا اجتمعا، والذين نفي عنهم الإيمان لا لكونهم منافقين بل لكونهم نقص إيمانهم فلا يطلق عليهم الإيمان الكامل، لكن نقص إيمانهم وضعف بفعل الكبيرة فيسمون مسلمين؛ لأن معهم أصل الإيمان الذي يصح به إسلامهم، ولا يسمون مؤمنين بإطلاق لتقصيرهم في بعض الواجبات أو فعلهم لبعض المحرمات. فهذا المرجح الحادي عشر: أن عقوبة الذنب تسقط عن العبد إذا حصل واحد من عشرة أسباب، ودل على أن معه أصل الإيمان وليس منافقاً.

ذكر أسباب سقوط عقوبة الذنوب

ذكر أسباب سقوط عقوبة الذنوب

الشروط الموجبة لإسقاط التوبة لعقوبة الذنب

الشروط الموجبة لإسقاط التوبة لعقوبة الذنب قال المؤلف رحمه الله: [أحدها: التوبة، وهذا متفق عليه بين المسلمين، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:104]. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25] وأمثال ذلك]. هذا هو السبب الأول: التوبة، فالتوبة تسقط بها عقوبة الذنب، وهذا بإجماع المسلمين وليس فيه خلاف، والتوبة عامة في كل ذنب صغير أو كبير، حتى من الكفر ومن النصرانية واليهودية والمجوسية، فإذا تاب من الزنا والسرقة وشرب الخمر وعقوق الوالدين والتعامل بالربا تاب الله عليه، وسقطت عنه عقوبة الذنب في الدنيا والآخرة، وسلم من شره في الدنيا والآخرة، لكن بشرط أن تكون التوبة نصوحاً، ليس كل من ادعى التوبة يكون تائباً، فالتوبة تنقسم إلى قسمين: توبة الكذابين وتوبة الصادقين. فتوبة الكذابين: هو الذي يتوب بلسانه وقلبه معقود على المعصية مصر عليها، والتوبة لابد لها من شروط، فإذا وجدت الشروط صحت. الشرط الأول: أن تكون التوبة لله، فبعض الناس يتوب لكن ليس لله، بل لأجل الدنيا، ولأجل بعض المقاصد: صلى المصلي لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما التوبة عبادة لابد أن تكون لله، والعبادة لا تصح إلا بشرطين: أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة للشرع. ثانياً: الإقلاع عن المعصية، ومعنى الإقلاع: ترك المعصية، فإذا كان يتعامل بالربا ترك الربا، أما أن يقول شخص: تبت من الربا، وهو يتعامل بالربا فهو كذاب، وكذلك من يعق والديه فيزعم أنه يتوب وهو مستمر على عقوق الوالدين، فهذه ليست توبة، فيجب الإقلاع عن المعصية، والذي يأكل الرشوة ويقول: أنا تائب ولكنه مستمر على أكل الرشوة هذه ليست توبة، فالإقلاع يعني: ترك المعصية. ثالثاً: الندم على ما مضى، أن يندم ويتحسر ويتأسف. الشرط الرابع: العزم الصادق الجازم على عدم العودة إليها مرة أخرى، وبعض الناس يريد أن يتوب في رمضان خاصة، ولكنه ينوي أنه إذا خرج رمضان عاد إلى المعاصي، فهذه ليست توبة؛ لأنه ما صمم ولا عزم على عدم العودة إلى المعصية، بل هو يريد أن يرجع إلى المعصية، وهذه توبة مؤقتة. الشرط الخامس: رد المظلمة إلى أهلها إن كانت بينه وبين الناس، فإذا كانت المظلمة بينه وبين الناس كأن قتل شخصاً بغير حق فعليه أن يسلم نفسه لأولياء القتيل: إما أن يقتلوه قصاصاً، أو يأخذوا الدية، أو يعفوا عنه، أو إذا كان مالاً يرد المال حتى يتوب، أو شخص سرق من مال شخص أو اختلسه فإن أراد أن يتوب لابد يرد المال إليه، وإذا كانت غيبة أو نميمة يستحلهم منها، فلابد من رد المظلمة إلى أهلها إذا كانت بينك وبين الناس. الشرط السادس: أن تكون التوبة في وقت تقبل فيه، وهو قبل بلوغ الروح إلى الحلقوم بالنسبة للشخص الواحد، ففي الحديث: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) أي: ما لم تصل الروح إلى الغرغرة، وبالنسبة لعموم الناس: ما لم تطلع الشمس من مغربها في آخر الزمان كما في الحديث: (لا تنقطع التوبة حتى تنقطع الهجرة، ولا تنقطع الهجرة حتى تطلع الشمس من مغربها). فإذا طلعت الشمس من مغربها انتهى الأمر وكل يبقى على ما كان، المؤمن على إيمانه والكافر على كفره، قال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، جاء في تفسير الآية: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158]: أنها طلوع الشمس من مغربها. فالشروط السابقة هي: الأول: أن تكون لله. الثاني: الإقلاع عن المعصية. الثالث: الندم على ما مضى. الرابع: العزم على عدم العودة إليه. الخامس: رد المظلمة إلى أهلها. السادس: أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها. والسابع: أن تكون قبل بلوغ الروح إلى الحلقوم. الثامن: أن تكون قبل نزول العذاب، فإذا نزل العذاب لم تقبل، قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر:84]، قال الله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:85]. ففرعون آمن لكن بعد نزول العذاب فما نفعه، قال الله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، وفرعون هو الذي يقول للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، لكن في وقت لا ينفع فيه الإيمان، قال الله: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:91 - 92]؛ لأنه لابد أن يكون قبل نزول العذاب. إلا طائفة من الناس استثناهم الله لما نزل العذاب تابوا ونفعتهم التوبة، وهم قوم يونس، قال الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} [يونس:98]، لما أخبرهم نبيهم بأن العذاب نازل بهم ورأوا أسبابه تابوا فتاب الله عليهم، وجاءهم نبيهم فآمنوا، قال الله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} [الصافات:147 - 148]. هذه أسباب ثمانية للتوبة إذا وجدت فهي توبة الصادقين، وإلا فهي توبة الكذابين. إذاً: التوبة تمحو الذنب لكن بشروطها الثمانية كما ذكرنا. والدليل قول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، هذه الآية أجمع العلماء على أنها في التائبين؛ لأن الله أطلق وعمم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، ويشمل ذنب الكفر والشرك والزنا والسرقة والربا، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] أي: لمن تاب، قال سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:104]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25]، وقال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، نعم.

الاستغفار وإسقاطه لعقوبة الذنب

الاستغفار وإسقاطه لعقوبة الذنب قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثاني: الاستغفار، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أذنب عبد ذنباً فقال: أي رب أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال ربه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنباً آخر فقال: أي رب أذنبت ذنباً فاغفره لي فقال ربه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، فليفعل ما شاء، قال ذلك في الثالثة أو الرابعة). وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم)]. هذا هو السبب الثاني من الأسباب التي تسقط بها عقوبة الذنب عن العبد: الاستغفار، وقد استدل المؤلف بحديثين: الحديث الأول في الصحيحين وغيرهما وهو حديث صحيح. وقوله: (فليفعل ما شاء)، ليس المراد به الإذن بالمعصية، وإنما المراد: أنه كلما أذنب وتاب فإن الله يغفر له، وهذا حصل منه الذنب ثم تاب بالشروط الثمانية، ثم ابتلي بالذنب مرة ثانية ثم تاب بالشروط الثمانية، ثم ابتلي ثم تاب وهكذا. وقوله في الحديث الثاني: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرونه فيغفر لهم)، دليل على أن الاستغفار يمحو الله به الخطايا والذنوب.

الخلاف في وقوع الاستغفار بدون توبة

الخلاف في وقوع الاستغفار بدون توبة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد يقال على هذا الوجه: الاستغفار هو مع التوبة، كما جاء في حديث: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم مائة مرة). وقد يقال: بل الاستغفار بدون التوبة ممكن واقع، وبسط هذا له موضع آخر، فإن هذا الاستغفار إذا كان مع التوبة مما يحكم به عام في كل تائب، وإن لم يكن مع التوبة فيكون في حق بعض المستغفرين الذين قد يحصل لهم عند الاستغفار من الخشية والإنابة ما يمحو الذنب، كما في حديث البطاقة بأن قول لا إله إلا الله ثقلت بتلك السيئات لما قالها بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات، وكما غفر للبغي بسقي الكلب لما حصل في قلبها إذ ذاك من الإيمان، وأمثال ذلك كثير]. وهذا اعتراض وجواب عنه، الاعتراض: أنه قد يقال: الاستغفار هو مع التوبة، أي: الاستغفار والتوبة شيء واحد فلابد أن يكون مع التوبة، ولا ينفع بدونها، وعلى هذا يكون السببان سبب واحد، التوبة والاستغفار شيء واحد، واستدل المعترض بحديث: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم مائة مرة)، أخرجه أبو داود والترمذي وابن السني والبغوي. وقال الترمذي بعد أن ساقه: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث أبي نصيرة وليس إسناده بالقوي. ومع ذلك فقد حسنه الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، في المجلد الأول، وعلى كل حال لعل الحافظ حسنه بشواهده، فالحديث له شواهد، وكذلك أيضاً شيخ الإسلام رحمه الله لعله ساقه هنا لأنه يرى أنه ثابت وأنه حسن بشواهده. فالمقصود: أن الاعتراض على هذا الوجه أن يقال: الاستغفار مع التوبة شيء واحد، وقد أجاب المؤلف رحمه الله فقال: الاستغفار إذا كان مع التوبة فليس فيه إشكال، ويغفر الذنب، لكن قد يوجد الاستغفار بدون التوبة وينفع؛ ولهذا قال المؤلف: قد يقال: (الاستغفار بدون التوبة ممكن واقع وبسط هذا له موضع آخر، فإن هذا الاستغفار إذا كان مع التوبة مما يحكم به عامة فكل شخص يصدر منه التوبة مع الاستغفار فهو مغفور له، لكن قد يكون الاستغفار بدون التوبة وينفع في حق بعض الناس دون البعض الآخر)، فالمؤلف رحمه الله يجيب عن الاعتراض ويقول: إذا اعترض بعض الناس وقال: الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار، نقول: نعم، إذا كان الاستغفار مع التوبة فهذا عام في كل شخص، وعام في كل معصية، لكن قد يوجد استغفار بدون توبة وينفع، ولكن هذا في حق بعض الناس دون البعض، وبعض الناس يستغفر ولم يتب، لكن يحصل له عند الاستغفار من الخشية والإنابة ما يمحو الله به خطيئته بسبب ما قارن الاستغفار من الانكسار والخشية والإنابة إلى الله كما في حديث البطاقة، وحديث البطاقة حديث مشهور، وهو أرجى حديث لأهل السنة والجماعة، وهو أرجى حديث للعصاة، وخلاصته: (أنه يؤتى يوم القيامة برجل فينشر له تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر سيئات، فيقول الله: أتنكر من هذا شيئاً؟ قال: لا والله يا رب، فيقول الله: هل لك حسنة يقول: لا والله ما أذكر شيئاً يا رب، فيقول الله: بلى فإنك لا تظلم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتوضع البطاقة التي فيها الشهادتان في كفة وتوضع السجلات في كفة، فثقلت البطاقة وطاشت السجلات فغفر الله له)، فرجحت البطاقة التي فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله وخفت بطاقة السيئات، فغفر الله له. ومعلوم أن كل مسلم له مثل هذه البطاقة، وكل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومع ذلك يعذب بعضهم بالنار، وهذا لم يعذب فبعض الناس قال: لأن هذه البطاقة التي فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله قالها عن توبة وإخلاص، ولهذا نقول: إذا تاب فالتوبة تكفيه، وصاحب البطاقة ثقلت بطاقته بتلك السيئات؛ لأنه قالها بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات، وقارن الشهادتين نوع من الإخلاص والصدق، وكثير من الناس يقولونها وليس عندهم صدق وإخلاص فلهذا يعذبون بسيئاتهم، أما هذا فغفر له بسبب أنه قال هذه البطاقة بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات، فكذلك المستغفر، أي: إذا استغفر عن خشية وإنابة يمحو الله بهذا الاستغفار الذنب ولو لم يتب. قوله: (وكما غفر للبغي بسقي الكلب) والبغي الزانية من بني إسرائيل والحديث فيه: (أن امرأة بغياً من بني إسرائيل مرت بركية بئر فوجدت كلباً يلهث يكاد يأكل الثرى من العطش، فنزلت في البئر وملأت خفها ماء وأخرجته وسقت الكلب، فغفر الله لها ذنبها) غفر لها ذنبها العظيم وهو الزنا بسقيها الكلب، ومعلوم أنه قد يسقي بعض العصاة كلباً أو غيره ولا يغفر له، وهذه المرأة غفر لها بسبب أنه حصل في قلبها إذ ذاك الإيمان والصدق والإخلاص؛ فلهذا غفر الله لها. فكذلك بعض المستغفرين يستغفر عن توبة وخشية وإنابة فيغفر له، وبعض المستغفرين يستغفر ولكن لا يكون عنده خشية ولا إنابة فلا يغفر له إلا إذا تاب، وبهذا يكون المؤلف أجاب عن هذا الاعتراض.

إسقاط الحسنات الماحية لعقوبة الذنب

إسقاط الحسنات الماحية لعقوبة الذنب قال المصنف رحمه الله تعالى: [السبب الثالث: الحسنات الماحية، كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، وقال صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر). وقال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). وقال صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). وقال صلى الله عليه وسلم: (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه). وقال صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وقال صلى الله عليه وسلم: (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى فرجه بفرجه). وهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح. وقال صلى الله عليه وسلم: (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)]. هذا هو السبب الثالث من الأسباب التي تسقط بها عقوبة الذنب ويمحو الله بها الذنب: وهو الحسنات الماحية، فيفعل حسنة عظيمة فيمحو الله بها الخطايا ولو لم يتب، وقد استدل المؤلف بأدلة: الدليل الأول: قول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، جاء في سبب نزول هذه الآية: (أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشهدت معنا الصلاة؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد غفر الله لك). جاء في سبب نزولها أنه فعل صغيرة، وقد يقال: إنه تاب، وظاهره أنه تاب، والقبلة صغيرة، فهو فعل صغيرة من الصغائر ثم تاب، لكن المؤلف استدل بعموم الآية: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، وقال: الحسنة تمحو السيئة من دون توبة. الدليل الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه المشهور: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم وغيره. وهذا الحديث استدل به المؤلف على أن من الحسنات التي يكفر بها السيئات: الصلوات الخمس، والجمعة، ورمضان لكن الحديث فيه: (إذا اجتنبت الكبائر)، وسيأتي الكلام عليه. الدليل الثالث: ما ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وجه الدلالة: أن صوم رمضان حسنة يمحو الله بها الخطايا، وسيأتي أن بعض العلماء قال: إذا اجتنبت الكبائر. الدليل الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وهو حديث صحيح، فقيام ليلة القدر حسنة غفر بها الذنوب. الدليل الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وفيه: أن الحج حسنة عظيمة يمحو الله بها الخطايا. الدليل السادس: قوله صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده يكفرها: الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهذا الحديث رواه الشيخان وغيرهما. ومعنى: (فتنة الرجل في أهله وماله) ما يحصل من الكلام والأخذ والرد بينه وبين الزوجة وبينه وبين ولده وبينه وبين جاره، والمقصود ما يحصل من نزاع أو كلام وأخذ ورد، فهذه الفتنة التي تكون بين الإنسان وأهله وبينه وبين ولده وبينه وبين جاره يكفرها الصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الحسنات يكفر الله بها الخطايا، ومعلوم أنها صغائر ليست كبائر. الدليل السابع: قوله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى فرجه بفرجه) وهذا الحديث أيضاً رواه الشيخان وغيرهما. وفيه: أن العتق حسنة يكفر الله به الخطايا، ويعتق الله به رقبة المعتق من النار، إذا أعتق العبد أعتقه الله من النار، ومعناه: كفر سيئاته بهذه الحسنة، وهذه الحسنة وهي العتق محت السيئات، حتى إنه غفر له، فإذا أعتق عبداً أعتق الله عنه اليد باليد والرجل بالرجل، ويده بيده، حتى فرجه بفرجه. وهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح كلها صحيحة، وقال: (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب). قوله: (الصدقة تطفئ الخطيئة) أي: المعصية، والصدقة حسنة من الحسنات، ومع ذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تطفئ الخطيئة. وقوله: (والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)، الحديث فيه كلام لأهل العلم، رواه ابن ماجة، وفيه تقديم الجملة الأولى على الثانية، وقال بعضهم: له شواهد يتقوى بها، ومنهم من تكلم فيه، ومنهم من تكلم في الجملة الأخيرة. وهذه الأحاديث كلها تدل على أن الحسنات يمحو الله بها السيئات، ويمحو بها عقوبة الذنوب من غير التوبة.

اعتراض على أن الحسنات تمحو الكبائر والجواب عنه

اعتراض على أن الحسنات تمحو الكبائر والجواب عنه قال المصنف رحمه الله تعالى: [وسؤالهم على هذا الوجه أن يقولوا: الحسنات إنما تكفر الصغائر فقط، فأما الكبائر فلا تغفر إلا بالتوبة، كما قد جاء في بعض الأحاديث: ما اجتنبت الكبائر. فيجاب عن هذا بوجوه]. هذا اعتراض على هذه الأحاديث التي استدل بها المؤلف على أن الحسنات يمحو الله بها الخطايا، قالوا: الحسنات إنما تكفر الصغائر ولا تكفر الكبائر، فأما الكبائر فلا تغفر إلا بالتوبة؛ ولهذا جاء في بعض الأحاديث: (ما اجتنبت الكبائر)، كما في حديث أبي هريرة في مسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر). فأجاب المؤلف رحمه الله عنها بخمسة أجوبة، وبعض الأجوبة عليها اعتراضات. قال المصنف رحمه الله تعالى: [أحدها: أن هذا الشرط جاء في الفرائض كالصلوات الخمس والجمعة وصيام شهر رمضان، وذلك أن الله تعالى يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، فأداء الفرائض مع ترك الكبائر مقتض لتكفير السيئات، وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلا بد أن يكون لها ثواب آخر، فإن الله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]]. الجواب الأول على هذا الاعتراض هو: أن الحسنات إنما تمحو الكبائر، قال المؤلف رحمه الله: هذا الشرط إنما جاء في الفرائض خاصة دون التطوعات، والفرائض إنما يكفر الله بها الخطايا إذا اجتنبت الكبائر كالصلوات الخمس والجمعة وصيام رمضان، ودليلها الحديث السابق حديث أبي هريرة عند مسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، وذلك أن الله تعالى يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] أي: الصغائر، فاشترط لتكفير الصغائر ترك الكبائر، يقول المؤلف: فالفرائض مع ترك الكبائر مقتضٍ لتكفير السيئات، أما غير الفرائض مثل الحسنات الماحية مثل المرأة البغي التي سقت الكلب، فهذه حسنة يمحو الله بها الخطايا، وهكذا الأعمال الزائدة عن الفرائض من التطوعات، يقول المؤلف: فلابد أن يكون لها ثواب آخر؛ لقول الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. نعم.

دلالة التصريح أن المغفرة قد تكون مع الكبائر

دلالة التصريح أن المغفرة قد تكون مع الكبائر قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثاني: أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (غفر له وإن كان قد فر من الزحف). وفي السنن: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب، فقال: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار). وفي الصحيحين في حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن زنا وإن سرق)]. هذا هو الجواب الثاني، وهو أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون بالحسنة مع الكبيرة، منها هذا الحديث: (غفر له وإن كان قد فر من الزحف)، الجهاد في سبيل الله مستحب إلا في ثلاث مواضع يكون واجباً فقط: الموضع الأول: إذا داهم العدو بلداً من بلاد المسلمين وجب على أهل البلد أن يقاتلوا كلهم رجالهم ونساؤهم، وهو عليهم فرض عين. الثاني: إذا استنفر الإمام واحداً من الناس وأمره بأن يجاهد يجب عليه، وصار فرضاً في حقه. الثالث: إذا وقف في الصف ولو كان متطوعاً، ففي هذه الحالة صار فرضاً عليه، ولا يجوز له أن يفر أو يهرب؛ لأنه يخذل إخوانه المؤمنين، فإذا فر من الزحف صار مرتكباً لكبيرة من كبائر الذنوب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:15 - 16]، توعده الله بالنار وهو مرتكب للكبيرة. والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يقول: (من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف)، أي: وإن كان قد ارتكب كبيرة، إذاً: هنا فيه أنه غفر له مع الكبيرة. كذلك الحديث الثاني في السنن قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار)، أوجب: ارتكب كبيرة توجب له النار ومع ذلك غفرت له هذه الكبيرة بهذه الحسنة وهي العتق. والدليل الثالث: ما في الصحيحين من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، فكررها ثلاثاً فقال في الثالثة: وإن زنى وإن سرق وإن رغم أنف أبي ذر). وهذا دليل على أنه يغفر له الزنا بالتوحيد الخالص، ولكن هذا سيأتي فيه الكلام لأهل العلم، وظاهره أن الأصل أن مرتكب الكبيرة تحت مشيئة الله إلا إذا تاب توبة نصوحاً، واستدل المؤلف رحمه الله بهذه الأدلة على أن الحسنة قد يمحو الله بها الخطايا ولو مع الكبائر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثالث: أن قوله صلى الله عليه وسلم لأهل بدر ونحوهم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) إن حمل على الصغائر أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم، فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة، لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر]. هذا هو الجواب الثالث، وقد استدل المؤلف بالحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وهذا حديث قدسي قاله الله تعالى في قصة حاطب: (وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). وهذا الحديث فيه دليل على أن من شهد بدراً يغفر له ولو فعل الكبيرة. فإذا قال قائل: إن المراد أن تغفر له الصغائر إذا تاب، فيقال: إذاً لا فرق بين أهل بدر وغيرهم، فكل واحد تغفر له الصغائر باجتناب الكبائر، وكل واحد يغفر له بالتوبة، ولا خصيصة بهذا لأهل بدر، فدل على أن المراد الكبيرة. يقول المؤلف: فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لا يجوز حمله على مجرد الصغائر، فلا يقول قائل إن قوله: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) أي: غفرت لكم الكفر، فلا أحد يقول هذا؛ لأن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة، فكذلك لا يقول قائل: إن المراد (اعملوا ما شئتم) الصغائر؛ لأن الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر، فدل هذا على أن المراد الكبيرة. وهذا يدل على أن هذه الحسنة وهي حضور بدر يمحو الله بها الكبائر؛ ولهذا قال المؤلف: فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة في اجتناب الكبائر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [الرابع: أنه قد جاء في غير حديث أنه: (أول ما يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة الصلاة، فإن أكملها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع؟ فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة، ثم يصنع بسائر عمله كذلك)، ومعلوم أن ذلك النقص المكمل لا يكون لترك مستحب، فإن ترك المستحب لا يحتاج إلى جبران؛ ولأنه حينئذ لا فرق بين ذلك المستحب المتروك والمفعول فعلم أنه يكمل نقص الفرائض من التطوعات، وهذا لا ينافي ما ورد من أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، مع أن هذا لو كان معارضاً للأول لوجب تقديم الأول؛ لأنه أثبت وأشهر، وهذا غريب رفعه، وإنما المعروف أنه في وصية أبي بكر رضي الله عنه لـ عمر رضي الله عنه، وقد ذكره أحمد في رسالته في الصلاة. وذلك لأن قبول النافلة يراد به الثواب، ومعلوم أنه لا يثاب على النافلة حتى تؤدى الفريضة، فإنه إذا فعل النافلة مع نقص الفريضة كانت جبراً له وإكمالاً لها فلم يكن فيها ثواب نافلة؛ ولهذا قال بعض السلف: النافلة لا تكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره يحتاج إلى المغفرة، وتأول على هذا قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79]، وليس إذا فعل نافلة وضيع فريضة تقوم النافلة مقام الفريضة مطلقاً، بل قد تكون عقوبته على ترك الفريضة أعظم من ثواب النافلة]. هذا هو الجواب الرابع وفيه يقول المؤلف أنه ورد في الحديث: (إن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة الصلاة، فإن أكملها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع -أي: نوافل- فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة ثم يصنع بسائر عمله كذلك). معنى الحديث: أن الإنسان أول ما يحاسب عليه من الأعمال التي بينه وبين الله الصلاة، وهذا لا ينافي الحديث الآخر: (إن أول ما يقضى بين الناس في الدماء)، ومعناه: أول ما يقضى بين الناس في الدماء فيما يتعلق بحقوق الناس، وأول ما يحاسب عنها العبد صلاته فيما يتعلق بالعبادات، فإن أكملها وصارت تامة وليس فيها نقص شيء من الواجبات ولا خلل فالحمد لله، وإلا قيل كما جاء في الحديث: (وإلا قال الرب: انظروا هل له من تطوع)، (فإن كان له تطوع) مثل: السنن الرواتب وصلاة الضحى وصلاة الليل أكملت بها الفريضة، (ثم يفعل بسائر عمله كذلك)، كزكاة الفريضة إن كانت كاملة فالحمد لله، وإن لم تكن كاملة وفيها نقص فإذا كان له صدقات يكمل بها الفريضة، وكذلك صيام رمضان إذا كان فيه نقص يكمل من صيام التطوع كصيام الإثنين والخميس، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام ست من شوال، وصيام يوم التاسع والعاشر من شهر محرم، وهكذا سائر العمل. المؤلف رحمه الله يعلق على هذا الحديث فيقول: (ومعلوم أن ذلك النقص المكمل لا يكون لترك مستحب) أي: هذا النقص الحاصل في الصلاة أو في الزكاة والصوم، فلو كان ترك مستحباً كترك زيادة الدعاء بعد التشهد الأول، فلا نقول: إنه يكمل من النوافل؛ لأن المستحب لا يحتاج إلى جبران، إنما الذي يحتاج إلى جبران هو الواجب. فإذاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا فإن أكملها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع)، المراد منه إذا أخل بشيء من الواجبات في الصلاة أو في الزكاة تكمل من النوافل، وإذا أخل بشيء من المستحبات فلا يكمل، ولا يعتبر نقصاً في الصلاة ولا في غيرها. فتبين بهذا أن المراد بالحديث: (انظروا إن أكملها وإلا فانظروا هل له من تطوع)، أنه يجبر نقص الواجب فقط. يقول المؤلف: و (لأنه حينئذ إذا ترك مستحباً أو فعل مستحباً لا فرق بين المتروك والمفعول؛ لأنه ليس بواجب، سواء فعله أو تركه، فلا يقال: إنه إذا ترك مستحباً يجبر به مستحب آخر، فعلم أنه يكمل نقص الفرائض من التطوعات). إذاً: إذا نقص شيئ من الواجبات في الفرائض كمل من التطوعات، فإذا ترك واجباً من الصلاة كمل من التطوع، وإذا ترك واجباً من الزكاة كمل من الصدقات، وإذا ترك واجباً من صيام رمضان كمل من صيام النفل، وإذا ترك واجباً من الحج كمل من حج النفل، وهكذا. وهذا لا ينافي حديث: (إن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة) على فرض صحته. يقول المؤلف رحمه الله: لو قيل: إن هذا الحديث يعارض هذا الحديث فإنه يجب تقديم الحديث الأول؛ لأنه أثبت وأشهر، والقاعدة عند أهل العلم: إذا تعارض حديثان فإن أمكن الجمع بينهما فلا يعدل عنه؛ لأنه عمل بالحديث من الجانبين، فإن لم يمكن ننظر التاريخ فإن عرفنا المتقدم أو المتأخر يكون المتأخر ناسخاً للمتقدم، فإن لم يعرف التاريخ ننظر إلى الترجيح، فإذا كان أحدهما أصح فهو مقدم على غيره، فإن لم يمكن الترجيح نتوقف. يقول المؤلف: إن حديث (لا يقبل الله نافلة حتى تؤدى الفريضة) غريب رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمعروف أنه في وصية أبي بكر لـ عمر قال له: واعلم أنه لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وقد كتبها أبو بكر لـ عمر. يقول المؤلف رحمه ا

[15]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [15] رد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى على المعتزلة والخوارج الذين يخرجون العاصي من دائرة الإسلام ويخلدونه في النار بردود مقنعة للمنصف.

تابع أجوبة شيخ الإسلام عن الاعتراضات الواردة على دلالة محو الحسنات للسيئات على إسلام العاصي

تابع أجوبة شيخ الإسلام عن الاعتراضات الواردة على دلالة محو الحسنات للسيئات على إسلام العاصي قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: العبد إذا نام عن صلاة أو نسيها كان عليه أن يصليها إذا ذكرها بالنص والإجماع، فلو كان لها بدل من التطوعات لم يجب القضاء، قيل: هذا خطأ. فإن قيل: هذا يقال في جميع مسقطات العقاب، فيقال: إذا كان العبد يمكنه رفع العقوبة بالتوبة لم ينه عن الفعل، ومعلوم أن العبد عليه أن يفعل المأمور ويترك المحظور؛ لأن الإخلال بذلك سبب للذم والعقاب، وإن جاز مع إخلاله أن يرتفع العقاب بهذه الأسباب، كما عليه أن يحتمي من السموم القاتلة، وإن كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية، والله عليم حكيم رحيم، أمرهم بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم، ثم إذا وقعوا في أسباب الهلاك لم يؤيسهم من رحمته، بل جعل لهم أسباباً يتوصلون بها إلى رفع الضرر عنهم، ولهذا قيل: إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجرئهم على معاصي الله؛ ولهذا يؤمر العبد بالتوبة كلما أذنب. قال بعضهم لشيخه: إني أذنبت، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: إلى متى؟ قال: إلى أن تحزن الشيطان. وفي المسند عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب العبد المفتن التواب)].

الرد على القول بأن سقوط عقوبة الذنب بالحسنة مقيد باجتناب الكبائر

الرد على القول بأن سقوط عقوبة الذنب بالحسنة مقيد باجتناب الكبائر المؤلف رحمه الله ذكر المرجحات التي تدل على أن المؤمن العاصي لا يخرج عن دائرة الإسلام لا بالمعصية ولا بالكبيرة، وأن النصوص التي وصفت بعض الناس بالإسلام ونفت عنهم الإيمان لا تدل على أنهم من المنافقين بل مضافة إلى الإيمان، واستدل على ذلك: بأن العقوبة على الذنب تسقط بعشرة أسباب، وذكر من هذه الأسباب ثلاثة: التوبة، والاستغفار، والحسنات الماحية. ثم ذكر اعتراضاً على القول: بأن الحسنات تمحو السيئات، لما استدل بالنصوص: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]، و: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، و: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، و: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، و: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه). وهذه كلها حسنات ماحية تسقط بها عقوبة الذنب، وذكر الاعتراض من بعض الناس وقولهم: إن هذا إنما يكون إذا اجتنبت الكبائر؛ لأن الحديث مقيد: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر). فالحسنات الماحية إنما تخص الصغائر، أما الكبائر فلا بد لها من توبة؛ بدليل أنها قيدت باجتناب الكبائر: (إذا اجتنبت الكبائر)، في حديث: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، وفي حديث الوضوء لما ذكر في الحديث أن الوضوء يكفر السيئات قال: (ما لم تصب المقتلة)، والمقتلة هي الكبيرة. أجاب المؤلف رحمه الله عن هذا الاعتراض بأجوبة: الجواب الأول: أن شرط اجتناب الكبائر إنما جاء في الفرائض خاصة: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان)، وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلابد أن يكون لها ثواب آخر. الجواب الثاني: أنه قد جاء التصريح في بعض النصوص بأن المغفرة تكون مع الكبيرة، كحديث: (غفر له وإن فر من الزحف)، وحديث الرجل الذي أوجب، أي: فعل ذنباً أوجب له النار قال: (اعتقوا عنه يعتق الله عنه بكل عضو منه عضواً من النار)، وحديث أبي ذر: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن سرق)، فهذه كبائر. الثالث: حديث حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين فقال عمر: (دعني أضرب عنقه، قال: وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فهذه كبيرة، وسماها الله تولياً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]. الجواب الرابع: أنه جاء في الحديث: (أن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن أكملها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع، فإن كان له تطوع أكملت به الفرائض)، وهذه التطوعات التي تكمل النقص في الفرائض تكمل الواجب ولا تكمل المستحب، فالمستحب إذا ترك لا يحتاج إلى جبران، وهذا يدل على أنه ترك واجباً من واجبات الصلاة فتجبره النوافل، فدل على أن النوافل لها شأن، وأن الحسنات من التطوعات والأعمال الخيرية يجبر الله بها الواجبات في الصلاة، وكذلك الزكاة والصوم والحج. ثم ذكر المؤلف اعتراضاً على هذا، وهو: إن الصلاة إذا نقص شيء من واجباتها كمل هذا الواجب من النوافل، واعترض على ذلك؛ لأن العبد إذا نام عن الصلاة أو نسيها فإنه جاء في الحديث: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)، فلو كان لها بدل من التطوعات ما وجب عليه القضاء، ولو كانت التطوعات تكفي عن الواجبات لكان من نام عن الصلاة أو نسيها نقول له: صل بدلها تطوعات، ولهذا قال المؤلف: قيل هذا خطأ، كونه يترك الفريضة كاملة اكتفاء ببدلها من التطوعات، وإنما هذه تطوعات يكمل بها النقص الذي يحصل في الصلاة، لا أن التطوعات تكفي عن الصلاة.

وجوب الابتعاد عن المعاصي والتحذير من الوقوع فيها بنية التوبة

وجوب الابتعاد عن المعاصي والتحذير من الوقوع فيها بنية التوبة ثم ذكر اعتراضاً آخر فقال: فإن قيل: هذا يقال في جميع مسقطات العقاب، فيقال: إذا كان العبد يمكنه رفع العقوبة بالتوبة لم ينه عن الفعل، وإذا كان الإنسان يمكن أن ترفع عنه عقوبة الذنب بشيء من المسقطات نقول له: لا تفعل هذا الواجب ويكفيك التوبة مثلاً، أو يكفيك الاستغفار، أو تكفيك الحسنات الماحية ما دام أن الحسنات تسقط بها عقوبة ترك الوجبات. فيقال: إذا كان العبد يمكنه رفع العقوبة بالتوبة فليس معنى ذلك أنه ينهى عن الفعل ويقال له: لا تفعل الواجبات اكتفاء بالتوبة أو بالاستغفار والحسنات؛ لأن المسلم مأمور بأن يفعل المأمور ويترك المحظور؛ ولأن ترك الواجب وفعل المحرم سبب للعقوبة، فكون الإنسان يترك الواجب أو يفعل المحرم يتسبب في عقوبته ويتسبب في ذمه، وإن كان يجوز أن تسقط عنه هذه العقوبة بمسقط من المسقطات وهي التوبة، أو الاستغفار، أو الحسنات الماحية، أو دعاء المؤمنين والصدقات، أو غير ذلك، فليس معنى ذلك: أن الإنسان يترك الواجب اكتفاء بالمسقط؛ لأن الإنسان المسلم مكلف بفعل الأوامر وترك النواهي، وإذا ترك الأوامر أو فعل النواهي فقد عرض نفسه للعقوبة؛ ولأنه قد لا يوفق لمسقط من مسقطات العقوبة، وإن كان يجوز أن تسقط عنه العقوبة لسبب من الأسباب، ومثله من يحتمي من السموم القاتلة، وإن كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية. فنقول للإنسان: اتق السموم القاتلة، ولا تأكل السم؛ لأن السم يقتلك فلا تتناوله، وإن كان يجوز إذا تناول سماً قاتلاً أن يأتي بأدوية ترفع هذا السم فلا يموت. وهذا مثل من يقول: أنا أترك الواجب أو أفعل المحرم اكتفاء بأني أفعل ما يسقط هذه العقوبة عني، فنقول: يمكن أن تجد أدوية ترفع هذه السموم ويمكن ألا تجد، ثم كون الإنسان يكون سليماً من السم ليس كمن أكل السم أو تناول السم ثم أتى بشيء يرفعه فارتفع، فالأول أكمل حالاً وأحسن، وقد لا يوفق الإنسان لأدوية ترفع السم، كما أن الإنسان مأمور بفعل الأوامر وترك النواهي، فإذا ترك الأوامر أو فعل النواهي تسبب في العقوبة، وقد تسقط العقوبة بسبب من الأسباب لكن قد لا يوفق لمسقط للعقوبة؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (لأن الإخلال بفعل الواجبات وترك المحرمات سبب للذنب والعقاب وإن جاز مع إخلاله أن يرتفع العقاب بهذه الأسباب، كما عليه أن يحتمي من السموم القاتلة وإن كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية، والله عليم حكيم رحيم، أمرهم -أي: أمر العباد- بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم)، فالأوامر فيها صلاح للناس، والنواهي فيها سبب لفسادهم وسلب أحوالهم في الدنيا والآخرة، ثم إذا وقعوا في أسباب الهلاك لم يؤيسهم من رحمته سبحانه وتعالى، فمن زلت به القدم بفعل الكبيرة أو المعصية أو ترك الواجب لم يؤيسه الله من رحمته، بل جعل لهم أسباباً يتوصلون بها إلى رفع الضرر عنهم، فأمر العباد بما فيه صلاحهم وهو فعل الواجبات، ونهاهم عما فيه ضررهم وهو المحرمات، فيجب على المسلم أن يجاهد نفسه حتى يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، فإذا زلت به القدم وترك الواجب أو فعل المحرم فالله تعالى لا يؤيسه من رحمته، بل جعل أسباباً إذا فعلها سقطت هذه العقوبة، وكمل الواجب الذي أخل به، ورفعت العقوبة عن المحرم الذي فعله؛ ولهذا قيل: إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجرئهم على معاصيه، فلا يقول: إن من فعل المعصية أو الكبيرة هالك ولا حيلة له، كما تقول الخوارج إن من فعل الكبيرة كفر وخلد في النار، بل يقول: إن الله جعل أسباباً ترفع العقوبة، فتب إلى الله من هذه المعصية، واستغفر، وافعل الحسنات، وهو كذلك لا يجرئهم على معاصي الله، فلا يقول: الأمر سهل وبسيط، ترك الواجب سهل، فعل المحرم سهل، التوبة تكفي والاستغفار يكفي، فلا نجرئ الناس على معاصي الله ولا نؤيسهم من رحمة الله.

الأمر بتجديد التوبة مع كل ذنب

الأمر بتجديد التوبة مع كل ذنب يقول المؤلف رحمه الله: (ولهذا يؤمر العبد بالتوبة كلما أذنب)، والتوبة تكون صحيحة من الذنب إذا وجدت الشروط الثمانية التي سبقت، فإذا وجدت الشروط فالتوبة صحيحة مقبولة يمحو الله بها الذنب، فإذا بلي بالذنب مرة أخرى يؤمر بالتوبة، فتكون التوبة محت الذنب السابق والذنب الجديد يحتاج إلى توبة، فإذا تاب توبة نصوحاً بشروطها الثمانية محت هذه التوبة الذنب، فإذا بلي بالذنب مرة ثالثة عليه أن يتوب وهكذا، ولهذا قال بعضهم لشيخه: إني أذنب، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: إلى متى؟ قال: إلى أن تحزن الشيطان، أي: استمر. وهذا كما جاء في الحديث الذي مر بنا لما وقع العبد في الذنب قال: (إني أذنبت ذنباً فتب علي يا رب، فقال الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ، قد غفرت لك، ثم أذنب فقال: رب أذنبت، فقال: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به)، وهكذا ثم قال في آخر الحديث: (فليفعل ما شاء) أي: أنه كلما أذنب تاب، والمعنى: أن التوبة مقبولة إذا تاب توبة نصوحاً، وليس معنى ذلك: أنه أذن له بالمعاصي. قول المؤلف: (وفي المسند عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب العبد المفتن التواب) في بعض الألفاظ بدل المفتن: المفتقر، هذا الحديث فيه كلام لأهل العلم، قيل بضعفه، وقيل: إن إسناده ضعيف، وقيل: إن في إسناده راوياً لم يسم، وهو ضعيف جداً؛ لكن المؤلف رحمه الله ذكره لشواهده، ومن شواهده قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]. وهو في المسند وهو من زيادات عبد الله، وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: إسناده ضعيف جداً، ورواه أبو يعلى في مسنده، والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه عبد الله وأبو يعلى وفيه من لم أعرفه، ولفظه: (إن الله يحب العبد المؤمن المفتن التواب)، والمفتن بفتح التاء المشددة: هو الذي يفتن ويمتحن بالذنوب، ورواه في الحلية بلفظ: المفتقر بدل المفتن. وعلى كل حال: الحديث وإن كان ضعيفاً لكن له شواهد من القرآن ومن السنة، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]. نعم.

جواب آخر على القول بأن الحسنات الماحية تكفر الذنوب بشرط اجتناب الكبائر

جواب آخر على القول بأن الحسنات الماحية تكفر الذنوب بشرط اجتناب الكبائر قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأيضاً: من نام عن صلاة أو نسيها فصلاته إذا استيقظ أو ذكرها كفارة لها تبرأ بها الذمة من المطالبة، ويرتفع عنه الذم والعقاب ويستوجب بذلك المدح والثواب، وأما ما يفعله من التطوعات فلا نعلم القدر الذي يقوم ثوابه مقام ذلك، ولو علم فقد لا يمكن فعله مع سائر الواجبات، ثم إذا قدر أنه أمر بما يقوم مقام ذلك صار واجباً فلا يكون تطوعاً، والتطوعات شرعت لمزيد التقرب إلى الله تعالى، كما قال تعالى في الحديث الصحيح: (ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) الحديث. فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر لم يحصل له مقصود النوافل ولا يظلمه الله، فإنه تعالى لا يظلم مثقال ذرة بل يقيمها مقام نظيرها من الفرائض، كمن عليه ديون لأناس يريدون أن يتطوع لهم بأشياء، فإن وفاهم وتطوع لهم كان عادلاً محسناً، وإن وفاهم ولم يتطوع كان عادلاً، وإن أعطاهم ما يقوم مقام دينهم وجعل ذلك تطوعاً كان غالطاً في جعله تطوعاً، بل يكون من الواجب الذي يستحقونه]. هذا أيضاً جواب آخر عن الاعتراض، الجواب الأول: أنه وإن كانت له استطاعة على الذنب فإن الإنسان مأمور بأداء الواجبات وترك المحرمات، ولا يكلف بترك الواجب أو بفعل المحرم لاعتماده على أن له ما يمحوه. وجاء الجواب الثاني عن هذا الاعتراض: وهو أنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة الإنسان عندما يستيقظ من النوم بدون اختياره ومن النوم الذي يكون معذوراً فيه كمن يجعل أسباباً توقظه كمنبه الساعة أو بعض أهله، فهذا معذور، ومتى استيقظ صلى، فهذا عمل بأسباب يريد أن يصلي الفرض في وقته فإذا نام مبكراً، وجعل أسباباً توقظه، لكن فاته الفرض دون اختياره، أما إنسان لا ينام إلا متأخراً أو يؤقت الساعة على موعد العمل ويستيقظ مرة واحدة لصلاته وفطوره، فهذا ليس بمعذور، فهو تعمد ترك الصلاة؛ ولهذا لما نام النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره قال: (من يكلؤ لنا الصبح؟ قال بلال: أنا)، فالتزم بذلك، فنام النبي صلى الله عليه وسلم، فلابد أن تجعل لك أسباباً توقظك، وصاحب النوم قد يكون معذوراً وقد لا يكون معذوراً، فالمعذور الذي يجعل له أسباباً توقظه: كأن يكلم بعض إخوانه أو أهله يوقظونه أو جيرانه، أو يوقت الساعة أو الجوال حتى ينتبه، وشخص لا يريد أن يصلي، فيوقت الساعة على العمل، ويستقيظ مرة واحدة لصلاته وفطوره، فهذا متعمد للتأخير، وهذا يكون مرتداً إذا كانت هذه عادته، نعوذ بالله. ومن أخر الصلاة عن وقتها بعذر فكفارتها أن يصليها وقت ما يذكر، وكذلك الناسي؛ لأن الإنسان يعذر بالنوم والنسيان، فحديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) بين النبي صلى الله عليه وسلم أن كفارة الصلاة التي أخرت عن وقتها بالنوم أو بالنسيان أن يصليها حال استيقاظه وحال تذكره، وتبرأ بها الذمة فلا يطالب بها يوم القيامة، فلا يقال: صليت في غير وقتها، ويرتفع عنه الذم والعقاب، لا يذم شرعاً ولا عقلاً، وليس عليه عقوبة، ويستوجب بذلك المدح والثواب؛ لأنه أدى الفريضة بقدر استطاعته. لكن الشخص الذي يترك الفريضة ويقول: أنا أفعل تطوعاً وحسنات تمحوها، نقول له: أولاً: إنك لا تعلم القدر الذي يقوم مقام ثواب الفريضة، ولو قدر لك أن تعلم قد لا يمكنك أن تفعله مع الواجبات، ثم لو قدر أنه أمر بتطوع يقوم مقام الفريضة نقول: صار هذا التطوع واجباً، وانتقل من كونه تطوعاً إلى كونه واجباً، أما التطوع فإنه شرع لزيادة القربة إلى الله، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي الصحيح: (وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه). إذاً: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض من أسباب محبة الله. قول المؤلف رحمه الله: (فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر لم يحصل له مقصود النوافل)؛ لأن الإنسان يطالب أولاً بالفرائض، ثم بعد ذلك يأتي بالنوافل فيكون من أحباب الله، لكن إذا لم يكن أدى الفريضة كيف يقال: أنه يأتي بالنوافل؟! والذي أخل بالواجبات لا يقال: إنه يأتي بالنوافل، ولكن عليه أولاً أن يكمل الواجب، ثم يأتي بالنوافل، وذمته مشغولة بالواجب، فإذا فعل تطوعاً نقول: هذا التطوع يسمى فرضاً وليس تطوعاً، ولا يكون له تطوع إلا إذا كمل الفرض. فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر لم يحصل له مقصود النوافل ولا يظلمه الله، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، بل يقيمها مقام نظيرها من الفرائض. أي: إذا أخل الإنسان أخل مثلاً بواجب من واجبات الصلاة ثم صلى النوافل، لا يكتب له النوافل، ونقول له: ذمتك مشغولة بترك الواجب، والله لا يظلمك مثقال ذرة، فالله تعالى يثمن النقص الذي حصل في فريضتك من هذه النوافل، فإذا كملت الفريضة وتمت ثم تطوعت كتب لك ثوابها. ومثال ذلك: شخص ذمته مشغولة لشخص بألف ريال، فإذا أعطاه ألف ريال فهو عادل وإن أعطاه زيادة بدون شرط صار عادلاً محسناً، فإذا قال له: لك عندي ألف ريال لكن سأعطيك ألف ريال صدقة؛ لأنه فقير، وأوفيك الدين بعد ذلك، يقال له: كيف تتصدق عليه وذمتك مشغولة بالواجب؟! فعليك أن تجعل هذه الصدقة هي الدين الواجب، فأد الواجب ثم بعد ذلك تطوع. كذلك الإنسان الذي يريد أن يتنفل وذمته مشغولة بالواجب نقول له: أولاً كمل الواجب، فإذا نقص الواجب يكمل من النوافل؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (فإن الله لا يظلم مثقال ذرة بل يقيمها) أي: يقيم النوافل مقام نظيرها من الفرائض، كمن عليه ديون لأناس يريد أن يتطوع لهم بأشياء فإن وفاهم وتطوع وأعطاهم الزيادة كان عادلاً محسناً، وإن وفاهم ولم يتطوع ولم يعطهم زيادة كان عادلاً، وإن أعطاهم ما يقوم مقام دينهم وجعل ذلك تطوعاً كان غالطاً في جعله تطوعاً، بل يكون من الواجب الذي يستحقه صاحبه، فإن قال المدين: شخص له عندي ألف ريال وأنا أريد أن أتصدق عليه بألف ريال، نقول: هذا غلط منك، فاجعل هذه الصدقة هي قضاء الدين. وبهذا يتبين أن الإنسان إذا أخل ببعض الواجبات ثم تطوع فالتطوع يكمل به الواجب، ولا يعطى ثواب النوافل، وإنما يكمل الواجب الذي عليه.

بطلان مذهب المعتزلة في التوحيد والعدل

بطلان مذهب المعتزلة في التوحيد والعدل قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن العجب أن المعتزلة يفتخرون بأنهم أهل التوحيد والعدل وهم في توحيدهم نفوا الصفات نفياً يستلزم التعطيل والإشراك، وأما العدل الذي وصف الله به فهو ألا يظلم مثقال ذرة، وأنه من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وهم يجعلون جميع حسنات العبد وإيمانه حابطاً بذنب من الكبائر، وهذا من الظلم الذي نزه الله تعالى نفسه عنه، فكان وصف الرب تعالى بالعدل الذي وصف به نفسه أولى من جعل العدل هو التكذيب بقدر الله تعالى]. من العجب أن المعتزلة يفتخرون بأنهم أهل التوحيد والعدل، والمعتزلة عندهم في أصول الدين خلط، وكل أصل ستروا تحته معنى باطلاً، وعند أهل السنة أصول الإيمان: الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره. وبدلاً من أصول الدين عند أهل السنة ألغى المعتزلة هذه الأصول وأحدثوا أصولاً لهم، فأصول الدين عند المعتزلة: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكل أصل من هذه الأصول ستروا تحته معنى باطلاً، فالتوحيد ستروا تحته: نفي الصفات، والقول بخلق القرآن، وأن الله تعالى لا يرى في الآخرة، فمعنى التوحيد عندهم نفي الصفات، ومن أثبت الصفات كان مشركاً؛ لأنه شبه الله بخلقه، ومن أثبت أن القرآن كلام الله وأن الله يرى في الآخرة فهو مشرك عند المعتزلة. والعدل ستروا تحته: التكذيب بالقدر، والقول بأن الله لا يخلق المعاصي ولا يعذب عليها إلا أن يكون ظالماً. وفي المنزلة بل المنزلتين قالوا: مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين الإيمان والكفر. وإنفاذ الوعيد قالوا: مرتكب الكبيرة لابد أن ينفذ الله فيه الوعيد ويخلده في النار. والأمر بالمعروف ستروا تحته إلزام الناس بآرائهم واجتهاداتهم الباطلة، والنهي عن المنكر ستروا تحته: الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي والظلم، فهذه أصول المعتزلة. ومن العجب أنهم يقولون: نحن أهل التوحيد والعدل، ويفتخرون بذلك، وهم ينفون الصفات، ويكذبون بالقدر. المؤلف رحمه الله يقول: ومن العجب أن المعتزلة يفتخرون بأنهم أهل التوحيد والعدل، وهم في توحيدهم نفوا الصفات نفياً يستلزم التعطيل، قالوا: إن الله ليس له سمع ولا بصر ولا علم ولا قدرة ولا رحمة ولا صوت ولا هو فوق ولا تحت، فعطلوا الرب، بل إن الشيء الذي ليس له اسم ولا صفة لا يوجد إلا في الذهن، وبذلك شبهوا الله بالمعدوم فأشركوا، فصار توحيدهم يستلزم التعطيل والإشراك. وأما العدل فإنهم يقولون: العدل معناه القول بأن أفعال العباد هم الذين خلقوها، والله تعالى لا يقدر على خلقها، فالعباد خلقوا الطاعات والمعاصي، ولهذا يستحقون الثواب على الله كما يستحق الأجير أجرته، ويجب على الله أن ينفذ الوعيد في العاصي ولا يغفر له ولا يرحمه. وأما وجوب إنفاذ الوعيد: فهم يرون وجوب تخليد العصاة في النار، يقولون: العدل منه أنه لا يخلف وعيده، ويجب على الله أن يجازي المطيع؛ لأنه هو الذي خلق فعله، والعبد إذا فعل الكبيرة حبط إيمانه وخرج من الإيمان، وهذا ليس بعدل بل هو ظلم. وذكر المؤلف أن العدل الذي وصف الله به نفسه هو أنه لا يظلم مثقال ذرة وأن من {يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، فلا يمنع أحداً من ثواب حسناته، ولا يحمل أحداً أوزار غيره، فلا يظلم مثقال ذرة، بل من عمل أي عمل ولو مثقال ذرة من الخير يجده أو من الشر يجده، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. وهم -أي: المعتزلة- يجعلون جميع حسنات العبد وإيمانه حابطاً بذنب واحد من الكبائر، ويقولون: إذا زنى أو سرق أو شرب الخمر أو تعامل بالربا حبط العمل كله، وخرج من دائرة الإيمان، وخلد في النار، وهذا ظلم نزه الله نفسه عنه؛ فكان وصف الرب سبحانه بالعدل الذي وصف به نفسه أولى من جعل العدل هو التكذيب بقدر الله. وذلك أن الله تعالى نزه نفسه عن الظلم، والظلم الذي نزه الله نفسه عنه هو وضع الشيء في غير موضعه؛ بأن يمنع أحداً من ثوابه لحسناته أو يحمله أوزار غيره، وهم جعلوا العدل التكذيب بالقدر، والقول بأن الله لا يخلق أفعال العباد، وأن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم من طاعات أو معاص، ويوجبون على الله أن يثيب المطيع، وأن يعذب العاصي، فالله أولى بوصف العدل الذي وصف به نفسه وهو أن لا يحرم أحداً من ثوابه أو يحمله وزر غيره.

جواب آخر على القول بأن الحسنات الماحية لا تسقط عقوبة الذنب بشرط اجتناب الكبائر

جواب آخر على القول بأن الحسنات الماحية لا تسقط عقوبة الذنب بشرط اجتناب الكبائر قال المصنف رحمه الله تعالى: [الخامس: إن الله لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة، والمعتزلة مع الخوارج يجعلون الكبائر محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان، قال الله تعالى {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217] فعلق الحبوط بالموت على الكفر، وقد ثبت أن هذا ليس بكافر، والمعلق بشرط يعدم عند عدمه، وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5]، وقال تعالى لما ذكر الأنبياء: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:87 - 88]، وقال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، مطابق لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، فإن الإشراك إذا لم يغفر وأنه موجب للخلود في النار لزم من ذلك حبوط حسنات صاحبه. ولما ذكر سائر الذنوب غير الكفر لم يعلق بها حبوط جميع الأعمال. وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28]؛ لأن ذلك كفر، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]؛ لأن ذلك قد يتضمن الكفر فيقتضي الحبوط وصاحبه لا يدري، والمعنى: كراهية أن يحبط أو خشية أن يحبط، فنهاهم عن ذلك لأنه يفضي إلى الكفر المقتضي للحبوط، ولا ريب أن المعصية قد تكون سبباً للكفر، كما قال بعض السلف رحمهم الله: المعاصي بريد الكفر، فينهى عنها خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط، كما قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] وهي الكفر، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، وإبليس خالف أمر الله فصار كافراً وغيره أصابه عذاب أليم]. هذا هو الجواب الخامس من الأجوبة على الاعتراض على مسقط من مسقطات العقوبة، وهي الحسنة الماحية، والاعتراض هو: أن هذه الحسنات الماحية إنما تكون ماحية للصغائر دون الكبائر. فالجواب الخامس: أن الله لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة، وإذا فعل الكفر بطلت جميع الأعمال، وإذا مات على الكفر والعياذ بالله خلد في النار، لكن إذا فعل المعصية: كما إذا عق والديه، أو قطع رحمه، أو تعامل بالربا وهو يعلم أنه حرام، لا نقول له: بطلت صلاتك وصومك وحجك، لكن إذا دعا غير الله وذبح لغير الله ومات على ذلك بطلت جميع الأعمال. فالله تعالى لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة، حتى الكفر، فإذا تاب توبة نصوحاً من الشرك أو الكفر أو الزنا أو السرقة أو عقوق الوالدين أو التعامل بالربا بشروطها الثمانية فالتوبة تجب ما قبلها، وتزيل جميع المعاصي، كما أن الكفر يزيل جميع الحسنات. والمعتزلة مع الخوارج يخالفون النصوص، ويجعلون الكبيرة محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان، ويقولون: إذا زنا أو سرق أو شرب الخمر أو عق والديه أو تعامل بالربا بطلت جميع الأعمال حتى الإيمان، فخرج من الإيمان وخرج من الإسلام وبطلت جميع أعماله، وصار مخلداً في النار. وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الله تعالى بين في كتابه أن الذي يحبط الأعمال الكفر والشرك لا المعاصي، وبشرط: أن يموت على الكفر، فإذا منّ الله عليه بالإسلام لا تحبط أعماله بل تبقى له يخرجها الإيمان، فإن مات على الكفر بطلت جميع الأعمال، والدليل قول الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]، ووجه الدلالة قوله: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة:217]، فعلق الحبوط بالموت على الكفر. وقد ثبت أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر، والمعلق بشرط يعدم عند عدمه، وحبوط العمل معلق بشرط وهو الموت على الكفر، فإذا لم يمت على الكفر بعد عن حبوط العمل. ومن الأدلة على أن الكفر يحبط الأعمال قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5]، ومنها: قوله تعالى لما ذكر الأنبياء: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} [الأنعام:87] إلى قوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]. ومن الأدلة على أن الشرك يحبط الأعمال قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]. إذاً: الشرك يحبط الأعمال إذا مات على الكفر، وهو مطابق لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، فالشرك لا يغفر أبداً إذا مات صاحبه عليه، فإن الشرك إذا لم يغفر موجب للخلود في النار ويلزم من ذلك حبوط الحسنات وصاحبها، ولما ذكر الله سائر الذنوب غير الكفر لم يعلق بها حبوط جميع الأعمال. أما قول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28]، فلأن ذلك كفر، ومن كره شيئاً مما جاء عن الله وعن رسوله حبط عمله، وهو ردة وكفر، فمن كره التشريع الذي أنزله الله في كتابه أو أنزله على رسوله حبط عمله بردته نعوذ بالله. وأما قول الله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، هذا قد يتضمن الكفر الذي يقتضي الحبوط وصاحبه لا يدري، والذي يرفع صوته فوق صوت النبي قد يحبط عمله وقد لا يحبط. فإذاً: نهي عن رفع الصوت خشية أن يؤدي إلى حبوط العمل، فنهاهم الله عن رفع الصوت؛ لئلا يفضي إلى الكفر الذي يقتضي الحبوط، ولا ريب أن المعصية قد تكون سبباً للكفر، كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، فينهى عن المعصية خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط، كما قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، فهذا تخويف، للذي يخالف أمر الله وعليه أن يحذر، وقوله: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] هو الشرك، ولهذا قال بعضهم: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، ولعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الفتنة فيهلك، وإبليس خالف أمر الله فصار كافراً، وغيره خالف أمر الله فأصابه عذاب أليم. إذاً: الذي يخالف أمر الله قد يكون كافراً كإبليس، وقد يكون عاصياً يعرض نفسه للعذاب الأليم كالعاصي.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين التوبة والاستغفار

الفرق بين التوبة والاستغفار Q ما الفرق بين التوبة والاستغفار؟ A التوبة عرفنا أن معناها: الرجوع إلى الله من الذنب الذي حصل منه بشروطه الثمانية، والاستغفار طلب المغفرة.

الذكر بعد الأذان

الذكر بعد الأذان Q ما هو الذكر الذي يقال بعد الأذان؟ A الذكر الذي يقال بعد الأذان أولاً: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقال: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، كما جاء في الحديث أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن المؤذنين يغبنوننا -أي: يحصلون على الأجر- فقال: من سمع المؤذن ثم قال مثل قوله، ثم صلى عليَّ، وقال: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، حصل له مثل ما يحصل للمؤذن)، وكذلك أيضاً في الحديث: (إلا حلت له شفاعتي يوم القيامة).

حكم توبة المريض مرض الموت

حكم توبة المريض مرض الموت Q هل المصاب بمرض خطير ومصيره في الغالب إلى الموت إذا تاب تاب الله عليه، أم يكون حكمه حكم من بلغت روحه الحلقوم؟ A المريض ولو في مرض الموت تصح منه التوبة ما لم تصل الروح إلى الحلقوم؛ ولهذا ذكر العلماء أن المريض إذا حضره الموت يذكر بالتوبة ويذكر بالشهادة، فإنها تنفعه، ولا يقال له: قل: لا إله إلا الله، حتى لا يضجر ويرفض، بل يقال عنده: لا إله إلا الله، أمامه حتى يتذكر فيقولها. فإذا قالها سكت، فإن تكلم بشيء من كلام الدنيا أعاد وقال: لا إله إلا الله. كذلك ذكر العلماء أن من قرب موته يذكر بالتوبة فإنها تنفعه، مثل شخص سيقام عليه الحد قصاصاً فيذكر بالتوبة وبالاستغفار، ولو كان يعلم أنه سيقام عليه الحد عن قريب، فيذكر بالتوبة والاستغفار فإنها تنفعه ما لم تصل الروح إلى الحلقوم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، فإذا سيقت الروح من الجسد ووصلت إلى الحلقوم انتهى الأمر، وكشف للإنسان عن المستقبل وصار الغيب شهادة، وعاين الملائكة؛ فلا توبة حينئذ.

حكم توبة من نوى قبل فعل الذنب التوبة بعد فعله

حكم توبة من نوى قبل فعل الذنب التوبة بعد فعله Q هل تقبل توبة من فعل ذنباً ونوى قبل فعله للذنب أن يتوب بعد فعله؟ A إذا وجدت الشروط الثمانية بعد الذنب فهي صحيحة، وإذا اختل شرط منها فلا.

وقت أذكار الصباح والمساء

وقت أذكار الصباح والمساء Q متى تقال أذكار الصباح والمساء على الصحيح من أقوال العلماء؟ A أذكار الصباح بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، وأذكار المساء بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، قال الله تعالى: {َسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130] {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:40]، ذكر هذا أهل العلم، وذكر هذا العلامة ابن القيم في الوابل الصيب، ولكن سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه يرى أن الأمر واسع، وأنه إذا فاته بعد العصر فله أن يأتي بالذكر بعد المغرب والعشاء، وكذلك في أذكار الصباح إذا فاتته له أن يأتي بالأذكار إلى الظهر.

الطريقة الصحيحة في رد المحكم إلى المتشابه

الطريقة الصحيحة في رد المحكم إلى المتشابه Q هل الأحاديث فيها من المحكم والمتشابه كما في القرآن الكريم؟ وإذا كان كذلك فلماذا تؤول؟ A النصوص من السنة والقرآن فيها محكم وفيها متشابه، وكذلك أقوال أهل العلم، والقاعدة عند أهل العلم: أن المتشابه يرد إلى المحكم، ويوضح فيتضح، وأما أهل الزيغ فإنهم يأخذون بالمتشابه ويتركون المحكم. مثال ذلك: النصوص التي أثبت الله فيها علوه على خلقه كثيرة لا حصر لها، قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس:3] في سبعة مواضع، وقال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]، وكل نص فيه إثبات العلو، وكل نص فيه الرفع قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، وكل نص فيه الصعود: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، والتنزيل: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1]، وأفراد هذه الأدلة تزيد ثلاثة آلاف، وجاء في النصوص الأخرى ما يدل على المعية كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] وقوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فأهل الزيغ من أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والمعطلة تعلقوا بالمتشابه، وعارضوا النصوص وضربوا بعضها ببعض، وقالوا: إن نصوص المعية تبطل نصوص العلو والفوقية، وقالوا: إن الله مشترك بين مخلوقاته، وإنه مع الخلق في كل مكان. تعالى الله عما يقولون! أما أهل الحق فإنهم ردوا المتشابه إلى المحكم، وعملوا بالنصوص من الجانبين، وقالوا: إنه لا معارضة بين النصوص، وليس معنى المعية الاختلاط والاهتزاز، فإن المعية في لغة العرب لمطلق المصاحبة، والمصاحبة لا تقتضي الاختلاط، والعرب تقول: ما زلنا نسير والقمر معنا، وما زلنا نسير والنجم معنا، ويقال: فلان المتاع معه، وإن كان فوق رأسه، ويقال: فلان زوجته معه وإن كانت في المشرق وهو في المغرب، فالمعية لا تقتضي المصاحبة، ولها معان على حسب متعلقها. فالمقصود: أن النصوص المحكمة والمتشابهة في الكتاب أو في السنة أو في أقوال أهل العلم ترد إلى نصوص المحكم وتفسر بها. أما أهل الزيغ فإنهم يتعلقون بالمتشابه ويتركون المحكم، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7].

المراد بأهل القبلة ودخول المنافقين فيهم

المراد بأهل القبلة ودخول المنافقين فيهم Q ما المراد بأهل القبلة؟ وهل الرافضة يعدون منهم؟ A المراد بأهل القبلة كل من اتجه إلى القبلة في الصلاة وفي الذكر وفي الذبح، وأهل القبلة لا يكفرون عند أهل السنة والجماعة إلا إذا ثبت عليهم مكفر، وإلا فالأصل أن أهل القبلة يحكم عليهم بالإسلام، ومن أهل القبلة المنافقون الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر فإنهم يعاملون معاملة المسلمين في النكاح وغيره، إلا من أظهر منهم النفاق فإنه يقتل؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل عبد الله بن أبي رئيس المنافقين وغيره من المنافقين معاملة المسلمين في جميع الأحداث. ولهذا لما مات عبد الله بن أبي رئيس المنافقين ووضع في حفرته: (جاءه النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في صحيح البخاري - واستخرجه من حفرته، ونفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه). ولما أراد أن يصلي عليه أخذ عمر بن الخطاب ثوبه وجره وقال: يا رسول الله أتصلي على منافق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخر عني يا عمر، فإني خيرت فقيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة:80]، قال: ولو أعلم أني لو زدت على السبعين أن يغفر له لزدت على السبعين)، وإنما فعل هذا عليه الصلاة والسلام رجاء أن يغفر الله له؛ لأنه لم ينه عن ذلك، ومراعاة لرهطه الأوس، ومراعاة لابنه عبد الله؛ لأنه كان من أصلح عباد الله، ولما قال ابن أبي القولة المشهورة: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]، وقف ابنه عبد الله وقال: والله لا تدخل المدينة حتى تكون الأذل ورسول الله هو الأعز. فالنبي صلى الله عليه وسلم مراعاة لابنه عبد الله وللأوس، ورجاء أن يغفر الله له صلى عليه؛ ولأنه لم ينه عن ذلك، ثم بعد ذلك أنزل الله هذه الآية: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]، فلم يصل على منافق مات بعد ذلك، وبين الله العلة فقال: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:84]، وهذا رواه البخاري في الصحيح.

عدد النفخات في الصور

عدد النفخات في الصور Q ما هو الصحيح من أقوال العلماء في عدد النفخات هل هي اثنتان أو ثلاث؟ A الصواب أنهما نفختان، كما قال الله تعالى في سورة الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، النفخة الأولى نفخة الصعق والموت، والنفخة الثانية نفخة البعث. وبعض العلماء ذهب إلى أنها ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق (الموت)، ونفخة البعث، وجاء في حديث الصور، وهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده رجلاً ضعيفاً، جاء فيه أنها ثلاث نفخات، والصواب: أنهما نفختان: النفخة الأولى هي نفخة طويلة أولها فزع وآخرها صعقة الموت، كما قال الله في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:87]، وفي سورة الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ} [الزمر:68]، فهي نفخة واحدة أولها فزع وآخرها صعقة الموت، وهي نفخة يطولها إسرافيل ولا يزال الصوت يقوى شيئاً بعد شيء حتى يموت الناس، جاء في الحديث: (أنه لا يسمعها أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً)، أرأيتم صفارات الإنذار؟ رأيتم في حرب الخليج ماذا يحصل للناس من الرعب إذا جاء الصوت، وهو صوت عادي، وإذا زاد مثل هذا الصوت مائة مرة ماذا يحصل للناس، فهكذا صوت إسرافيل أوله ليس بالقوي ثم لا يزال الصوت يقوى ويقوى حتى يموت الناس، وهذه نفخة الصعق. والثانية: نفخة البعث، يمكث الناس بعدها أربعين، كما جاء في الحديث: (قيل لـ أبي هريرة: أربعين سنة؟ قال: أبيت، قيل: أربعين شهراً؟ قال: أبيت، قيل: أربعين يوماً؟ قال: أبيت) أي: ليس عندي علم في هذا، ثم ينزل الله مطراً تنبت منه أجساد الناس، وينشئون تنشئة غير هذه التنشئة في الدنيا، الذوات هي هي، لكن تبدل الصفات، فإذا تم نباتهم أذن الله لإسرافيل فنفخ في الصور نفخة البعث فتتطاير الأرواح، وتدخل كل روح في جسدها، فيقوم الناس ينفضون التراب عن رءوسهم ويقفون بين يدي الله للحساب، والأرواح باقية لا تموت بل تبقى إما في عذاب أو في نعيم، فروح المؤمن تنقل في الجنة، ولها اتصال بالجسد. والروح تعذب مفردة ومتصلة بالجسد، فروح الكافر تنقل إلى النار، ولها صلة بالجسد، فإذا نفخ إسرافيل في الصور دخلت الأرواح في أجسادها، فالصواب أنهما نفختان.

[16]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [16] مما استدل به الخوارج والمعتزلة على تخليد صاحب الكبيرة في النار أن الله لا يتقبل إلا من المتقين، وصاحب الكبيرة ليس منهم فلا يقبل الله منه عملاً صالحاً فيكون في النار، وقد رد عليهم أهل السنة في ذلك وبينوا غلطهم.

استدلال الخوارج والمعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بآية (إنما يتقبل الله من المتقين) والرد عليهم

استدلال الخوارج والمعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بآية (إنما يتقبل الله من المتقين) والرد عليهم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد احتجت الخوارج والمعتزلة بقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، قالوا: فصاحب الكبيرة ليس من المتقين فلا يتقبل الله منه عملاً، فلا تكون له حسنة، وأعظم الحسنات الإيمان فلا يكون معه إيمان، فيستحق الخلود في النار. وقد أجابتهم المرجئة: بأن المراد بالمتقين من يتقي الكفر، فقالوا: اسم المتقين في القرآن يتناول المستحقين للثواب، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]، وأيضاً فابنا آدم حين قربا قرباناً لم يكن المقرب المردود قربانه حينئذ كافراً، وإنما كفر بعد ذلك إذ لو كان كافراً لم يتقرب. وأيضاً: فما زال السلف يخافون من هذه الآية، ولو أريد بها من يتقي الكفر لم يخافوا. وأيضاً: فإطلاق لفظ المتقين والمراد به من ليس بكافر، لا أصل له في خطاب الشارع فلا يجوز حمله عليه. والجواب الصحيح: أن المراد من اتقى الله في ذلك العمل، كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7] قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة، فمن عمل لغير الله كأهل الرياء لم يقبل منه ذلك، كما في الحديث الصحيح، يقول الله عز وجل: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فأنا بريء منه، وهو كله للذي أشركه). وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث الصحيح: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول). وقال: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار). وقال في الحديث الصحيح: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: فهو مردود غير مقبول، فمن اتقى الكفر وعمل عملاً ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه، وإذا صلى بغير وضوء لم يقبل منه؛ لأنه ليس متقياً في ذلك العمل، وإن كان متقياً للشرك. وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، وفي حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (يا رسول الله! أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعذب؟ فقال: لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصلى ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه). وخوف من خاف من السلف أن لا يتقبل منه لخوفه أن لا يكون أتى بالعمل على وجهه المأمور، وهذا أظهر الوجوه في استثناء من استثنى منهم في الإيمان وفي أعمال الإيمان، كقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، وصليت إن شاء الله، لخوف ألا يكون أتى بالواجب على الوجه المأمور به لا على جهة الشك فيما لقلبه من التصديق. ولا يجوز أن يراد بالآية: أن الله لا يقبل العمل إلا ممن اتقى الذنوب كلها؛ لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقياً، فإن كان قبول العمل مشروطاً بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له امتنع قبول التوبة، بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة، وهو حين شروعه في التوبة منتقل من الشر إلى الخير لم يخلص من الذنب، بل هو متق في حال تخلصه منه].

اتحاد استدلال الخوارج والمعتزلة بقوله تعالى: (إنما يتقبل من المتقين)

اتحاد استدلال الخوارج والمعتزلة بقوله تعالى: (إنما يتقبل من المتقين) ذكر المؤلف رحمه الله هنا حجج الخوارج وحجج المرجئة، وبين الجواب الصحيح. فالخوارج مذهبهم: أن مرتكب الكبيرة يحبط إيمانه كله ويخرج من دائرة الإيمان، ويستدلون على هذا المذهب الباطل بأدلة من القرآن من غير تأويل. والمرجئة يقولون: الإيمان لا يضر معه أي معصية وأي كبيرة. واحتجوا على ذلك من القرآن، فالمؤلف رحمه الله يبين بطلان وجه احتجاجهم من النصوص، ويبين الجواب الصحيح. فالخوارج احتجوا بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، وقالوا: صاحب الكبيرة ليس من المتقين فلا يتقبل الله منه عملاً، فلا يكون له حسنة، وأعظم الحسنات الإيمان، فلا يكون معه إيمان، فيستحق الخلود في النار. أجابتهم المرجئة وقالوا: المراد بالمتقين من يتقي الكفر، وقالوا: اسم المتقين في القرآن يتناول المستحقين للثواب، فالذي يتقي الكفر يقبل منه أي عمل، والذي يفعل الكبيرة واتقى الكفر ما وصل إلى الكفر فلا يحبط عمله، ولا يضره فعل الكبيرة. واحتجت المرجئة على أن اسم المتقين في القرآن يتناول المستحقين للثواب، بمثل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]. وقالوا: ابنا آدم قابيل وهابيل حينما قتل أحدهما أخاه؛ لأنهما قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، فقتل أحدهما الآخر. وهما حين قربا قرباناً لم يكن المقرب المردود قربانه حينئذ كافراً، وإنما كفر بعد القتل، وقبل ذلك ما كان كافراً إذ لو كان كافراً لم يتقرب. وأيضاً قالوا لهم: ما زال السلف يخافون من هذه الآية: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، ولو أريد بها من يتقى الكفر لم يخافوا؛ لأنهم اتقوا الكفر، فدل على أنهم خافوا ما دون الكفر. وأيضاً: فإطلاق لفظ المتقين والمراد به من ليس بكافر لا أصل له في خطاب الشارع، فلا يجوز الحمل عليه.

الرد على استدلال الخوارج والمعتزلة

الرد على استدلال الخوارج والمعتزلة المؤلف رحمه الله يقول: والجواب الصحيح عن هذه الآية رداً على الخوارج والمعتزلة والمرجئة: أن المراد بقوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، من اتقى الله في ذلك العمل الذي يعمله، فإذا كان متقياً في ذلك العمل تقبل الله منه، وإن كان غير متق لله لا يتقبله منه، ويتقبل الله العمل إذا كان خالصاً لله وصواباً على شرع الله، فإذا كان العمل خالصاً لله وصواباً لله صار من المتقين في ذلك الأمر، وإن لم يكن خالصاً ولا صواباً لم يكن من المتقين، فإذا كان خالصاً وصواباً قبل الله منه؛ لأنه متق، وإذا كان ليس خالص ولا صواباً فلا يقبل منه. إذاً: الجواب الصحيح هو: أن المراد بذلك من اتقى الله في ذلك العمل كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]، قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكون صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة، فمن عمل لغير الله كأهل الرياء لم يقبل منه ذلك، المرائي لا يقبل الله منه عمل، كما في الحديث الصحيح يقول الله عز وجل في: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي فيه غيري فأنا بريء منه، وهو كله للذي أشركه به)، رواه ابن ماجة والبغوي. وفي رواية مسلم: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، وفي الحديث الصحيح: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)، وقال: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار)، كل هذا فيه نفي القبول، فكذلك العمل الذي فيه رياء لا يقبله الله، والعمل الذي ليس موافقاً أو فيه شرك لا يقبله الله، والعمل الذي ليس موافقاً للشرع مردود. وقال في الحديث الصحيح: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم في صحيحه، وفي الصحيحين: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)؛ لأنه مخالف للشرع، أي: فهو مردود غير مقبول، فمن اتقى الكفر وعمل عملاً ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه، وإذا اتقى الكفر كما تقول الخوارج ثم عمل عملاً بدعة لا يقبل، أو عمل عملاً ليس بدعة موافق للشرع لكنه ليس خالصاً لله فلا يقبل، فإذا صلى اتقى الكفر؛ لكنه إن صلى بغير وضوء لم يقبل منه؛ لأنه ليس متقياً في ذلك العمل وإن كان متقياً للشرك، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، وفي حديث عائشة أنها قالت: (يا رسول الله! أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعذب؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصلى ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه)، فهو قد اتقى الشرك، ومع ذلك يخاف ألا يقبل منه. قول المؤلف: (وخوف من خاف من السلف ألا يتقبل منه لخوفه ألا يكون أتى بالعمل على وجهه المعروف)، فالسلف كانوا يخافون ألا يقبل منهم، ويخشون أن يكونوا قصروا في هذا العمل فلم يأتوا به موافقاً للشرع. قول المؤلف: (وهذا أظهر الوجوه في استثناء من استثنى منهم في الإيمان وفي أعمال البر، كقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، وصليت إن شاء الله)، فهم يستثنون لأن أعمال الإيمان متعددة، وأحدهم يخشى ألا يكون قد أدى الواجبات، فهو يستثني ويقول: أنا مؤمن إن شاء الله لا على جهة الشك فيما بقلبه من تصديق. (ولا يجوز أن يراد بالآية: إن الله لا يقبل العمل إلا لمن يتقي الذنوب كلها؛ لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقياً، ومع ذلك إذا تاب قبل الله توبته، فإن كان قبول العمل مشروطاً بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له امتنع معه قبول التوبة)، أي: لو قيل إن العمل لا يقبل حتى يكون الإنسان ليس له ذنب لكان معنى ذلك أنه لا تقبل التوبة؛ لأن الشخص حينما يريد أن يتوب يكون متلبساً بالمعاصي. فقول الخوارج والمعتزلة في قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] إنه الذي ليس له ذنب ولا معصية، باطل، بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل، فإذا أتى بالتقوى في العمل فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة، أي: إذا اتقى في العمل تكون التوبة لله موافقة للشرع، وهو حين شروعه في توبة منتقل من الشر إلى الخير ولم يخلص من الذنب، بل هو متق في حال تخلصه منه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فلو أتى الإنسان بأعمال البر وهو مصر على كبيرة ثم تاب لوجب أن تسقط سيئاته بالتوبة وتقبل منه تلك الحسنات، وهو حين أتى بها كان فاسقاً]. أي: لو أتى الإنسان بأعمال البر كأن أتى بالحسنات من حج وصام وبر والديه لكنه مصر على التعامل بالربا ثم تاب فعلى معتقد الخوارج لا تقبل؛ لأنه مصر على المعاصي. والصواب: أنه إذا تاب فإن الله يقبل توبته، وتسقط السيئات بالتوبة وتقبل منه تلك الحسنات، ولو كان حين أتى بها فاسقاً كأن كان مصراً على كبيرة ثم تاب يقبل الله توبته وتقبل منه حسناته خلافاً للخوارج والمعتزلة.

الرد على المعتزلة والخوارج بقبول إسلام الكافر والذمي الذي عليه مظالم للناس

الرد على المعتزلة والخوارج بقبول إسلام الكافر والذمي الذي عليه مظالم للناس قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فالكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم من قتل وغصب وقذف، وكذلك الذمي إذا أسلم قبل إسلامه مع بقاء مظالم العباد عليه، فلو كان العمل لا يقبل إلا ممن لا كبيرة عليه لم يصح إسلام الذمي حتى يتوب من الفواحش والمظالم، بل يكون مع إسلامه مخلداً، وقد كان الناس يسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم ذنوب معروفة وعليهم تبعات فيقبل إسلامهم، ويبرئون إلى الله من التبعات، كما ثبت في الصحيح: (أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لما أسلم وكان قد رافق قوماً في الجاهلية فغدر بهم وأخذ أموالهم، وجاء فأسلم، فلما جاء عروة بن مسعود عام الحديبية والمغيرة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف، دفعه المغيرة بالسيف، فقال: من هذا؟ فقالوا: ابن أختك المغيرة، فقال: يا غدر! ألست أسعى في غدرتك، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبله، وأما المال فلست منه في شيء). وقد قال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52]. وقال لنوح عليه الصلاة والسلام: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء:111 - 113]. ولا يعرف من المسلمين من جاءه ذمي يسلم فقال له: لا يصح إسلامك حتى لا يكون عليك ذنب، وكذلك سائر أعمال البر: من الصلاة والزكاة والصيام]. مما يرد به على الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالمعصية وبالكبيرة، أن يقال لهم: الكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم من قتل وغصب وقذف، وكذلك الذمي إذا أسلم هل يقبل إسلامه أو لا يقبل؟ يلزم على الخوارج أن يقولوا: لا يقبل حتى يتوب من المظالم، ويتوب من القتل، ويتوب من الغصب! وهذا باطل، فالذمي إذا أسلم صح إسلامه، والكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم أو إذا تاب المشرك من الشرك، وكان يشرب الخمر، ويعق والديه، ويقطع رحمه، ويتعامل بالربا، صح إسلامه، وبقي عليه التوبة من الخمر والربا وغيره، فالتوبة تكون عامة، والكافر إذا أسلم قد يحسن إسلامه، ويتوب من جميع الذنوب مع الشرك، وهناك كافر يسلم ولكن لا يحسن إسلامه، وهو أنه يتوب من الشرك فقط، فإذا تاب من الشرك صحت توبته من الشرك وبقيت عليه الذنوب فيحتاج إلى توبة منها. فعلى قول الخوارج الكافر إذا أسلم من الشرك ولم يتب من المعاصي والزنا والسرقة فتوبته هذه لا تقبل، وهذا باطل، والصواب أنها تصح وإن كانت عليه للناس مظالم، فلو كان العمل لا يقبل إلا ممن لا كبيرة عليه لم يصح إسلام الذمي حتى يتوب من الفواحش والمظالم، وهذا باطل. وهم يقولون: هو مع إسلامه يخلد في النار، وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الناس كانوا يسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولهم ذنوب معروفة، وعليهم تبعات، فيقبل إسلامهم، ولا يقول: لا يصح إسلامكم حتى تتوبوا من المعاصي. ودليل ذلك ما ثبت في الصحيح: أن المغيرة بن شعبة لما أسلم وقد رافق قوماً في الجاهلية فغدر بهم وأخذ أموالهم قبل أن يسلم، وجاء فأسلم، فلما جاء عروة بن مسعود عام الحديبية يفاوض النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح، كان المغيرة بن شعبة قائماً على رأس النبي يحرسه بالسيف، فلما مد يده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم دفعه بقائم السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله، فقال: من هذا الذي ضرب بالسيف؟ قالوا: ابن أختك المغيرة، فقال: يا غدر ألست أسعى في غدرتك؟ أي: الذي فعلت في الجاهلية من غدر بأصحابك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبله، وأما المال فلست منه بشيء). واستدل المؤلف بقوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52]، وقال لنوح: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء:111 - 113] أي: أن الإنسان يقبل بما هو عليه ويعامل بالظاهر، أما ما بينه وبين الله من المعاصي فالله هو الذي يحاسبه. يقول المؤلف: ولا نعرف أحداً من المسلمين جاءه ذمي يسلم، فقال له: لا يصح إسلامك حتى لا يكون عليك ذنب، ما قال هذا إلا الخوارج، كذلك سائر أعمال البر: من الصلاة والزكاة والصوم، لم يقل: لا تصح صلاتك ولا صومك ولا زكاتك حتى تتوب حتى لا يكون عليك ذنب، هذا من أبطل الباطل، وبهذا يبطل مذهب الخوارج والمعتزلة ومذهب المرجئة، ويبقى مذهب أهل السنة والجماعة الذي فيه العمل بالنصوص من الجانبين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم النية للعمل الصالح مع عدم التمكن من فعله

حكم النية للعمل الصالح مع عدم التمكن من فعله Q لي أربعة أصدقاء حصل لهم حادث شنيع وهم يريدون حضور هذه الدورة، ولم يتمكنوا إلى هذا اليوم من حضورها، فهل لهم نية حضور هذا المجلس الصالح؟ A يرجى لهم إن شاء الله؛ لأن المسلم إذا نوى أن يفعل الخير ثم منعه مانع فإن الله يكتب له ما نواه، فإذا مرض العبد وكان يصلي مع الجماعة ولم يستطع، أو كان يصوم ولم يستطع بسبب المرض، أو يصلي في الليل ولكن منعه المرض؛ فإن الله يكتب له ما كان يعمله في حالة الصحة، وكذلك إذا سافر ولم يتمكن من أجل السفر أن يصوم عادته الإثنين والخميس أو يصلي في الليل، فإن الله يكتب له أجر ما كان يعمله. ثبت في الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً)، وكذلك الإنسان إذا نوى وفعل الأسباب كأن نوى الحضور إلى حلقة درس علمي ثم منعه مانع فإن الله يكتب له ما نوى، فضلاً منه وإحساناً.

حكم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم

حكم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم Q هل صحيح ما نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من إجازته التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته؟ A ليس بصحيح هذا، وشيخ الإسلام من أبعد الناس عن هذا، ومن أشد الناس نهياً عن هذا، ولا يجوز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، إنما يكون التوسل بأسماء الله وصفاته، وبالعمل الصالح، وبالتوحيد والإيمان، وبدعاء الحي الحاضر، أما التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو جاه غيره، أو بجاه فلان أو حرمة فلان فإن هذا من البدع.

الجواب عن استشكال تكفير الكبائر بالنوافل مع كونه لا يحصل بالفرائض

الجواب عن استشكال تكفير الكبائر بالنوافل مع كونه لا يحصل بالفرائض Q أرجو التكرم بتوضيح قول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]، حيث ذكرتم أن النوافل تكفر الكبائر بعكس الفرائض فإنها تكفر الصغائر، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (الجمعة إلى الجمعة) الحديث، وهذا أحدث عندي إشكالاً: إذ كيف يحصل العبد تكفير الكبائر بالنوافل، وهذا ما لا يحصل له بالفرائض؟ الشيخ: هذا جاء في جواب شيخ الإسلام عن الوعيدية، وذلك إن هذا جاء في الفرائض؛ لأن الله تعالى قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، يعني: الصغائر، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، فإذا فعل الإنسان الفرائض وترك الكبائر كفر الله سبحانه وتعالى الصغائر فضلاً منه وإحساناً. وفي الحديث: (فتنة الرجل في أهله وماله تكفرها الصلاة والصيام والصدقة)، لكن هذه غير الفرائض، فمثلاً الحسنات الماحية قد يكفر الله بها الكبيرة، مثل قصة المرأة البغي الزانية التي غفر الله لها بسقيها الكلب، لما حصل لها عندما سقت الكلب شيء من الإيمان والإخلاص والصدق، فهذه كفر الله لها فعلها بهذه الحسنة العظيمة. كذلك حديث البطاقة التي فيها: (لا إله إلا الله)، ورجحت بتسعة وتسعين سجلاً من السيئات؛ لأنه قالها مع الإخلاص والصدق، فلا إشكال في هذا، فإذا أتى الإنسان بالفرائض وترك الكبائر كفر الله الصغائر، وتكون هناك حسنات أخرى عظيمة قد يغفر الله بها الكبائر مع الفرائض، فالفرائض وترك الكبائر يكفر الله بها الصغائر، والحسنات الأخرى التي ورد بها النصوص يكفر الله بها بعض الكبائر.

رأي الخوارج والمعتزلة في التوبة

رأي الخوارج والمعتزلة في التوبة Q هل الخوارج والمعتزلة يرون التوبة، أو أنه لا توبة للرجل إذا أذنب؟ A يرون التوبة، فعندهم من تاب صحت توبته، لكن يرون أن من لم يتب فهذا حكمه، أما من تاب فهو محل اتفاق بين الجميع، أي: من تاب تاب الله عليه، لكن الخوارج يرون أنه لابد أن تكون التوبة من جميع الكبائر، وليس من بعض الكبائر دون بعض، فإذا تاب من جميع الكبائر فإن هذه التوبة يمحو الله بها جميع الذنوب، لكن إذا تاب من بعض الذنوب ولم يتب من البعض الآخر فلا تصح، فإذا كان إنسان يتعامل بالربا ويأكل الرشوة، ثم تاب من التعامل بالربا ولم يتب من أكل الرشوة صحت عند أهل السنة والجماعة توبته من أكل الربا وبقي عليه كبيرة أكل الرشوة، أما الخوارج فيقولون: لا يزال كافراً، حتى يترك التعامل بالربا، ويترك التعامل بالرشوة، فلابد أن يترك جميع الكبائر.

حكم إهداء ثواب قراءة القرآن للميت

حكم إهداء ثواب قراءة القرآن للميت Q ما حكم إهداء ثواب القرآن الكريم للميت؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من أجاز إهداء ثواب قراءة القرآن، ومنهم من منعه؛ لأن النصوص إنما وردت في إهداء ثواب أربعة أشياء: الدعاء، والصدقة، والحج، والعمرة، ويدخل في ذلك الأضحية؛ لأنها صدقة من الصدقات، وهذه وردت فيها النصوص. وقد ذهب الشافعية والمالكية إلى الاقتصار على هذه الأربع، وذهب الأحناف والحنابلة إلى القياس، فقاسوا عليها الصيام، فإذا صام ونوى ثوابه للميت وصله، وإذا صلى ركعتين للميت وصله الثواب، وإذا قرأ القرآن وأهداه له وصله، وإذا سبح ونوى ثوابه وصله. والمالكية والشافعية قالوا: لا نقيس؛ لأن العبادات ليس فيها قياس، فأصل العبادة التوقيف. وغيرهم قاسوا على الأربعة غيرها، كما قاسوا أيضاً على براءة الذمة من الدين إذا قضي عنه، وقاسوا على إسلام الصغير تبعاً لأبوية، وهناك قياسات أخرى. والأرجح أنه يقتصر على هذه الأربع: الدعاء، والصدقة، والحج، والعمرة، والأضحية وهي داخلة تحت الصدقة، وأما أن يصلي ركعتين وينوي ثوابها للميت فهذا لم يرد، ولكن صل لنفسك وادع للميت. وأن تصوم يوماً وتنوي ثوابه للميت ما ورد، ولم يرد إلا الصوم الواجب فيما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، فإذا مات الإنسان وعليه صوم من رمضان أو صوم نذر أو كفارة يصام عنه، أما أن يصوم تطوعاً ويهدي ثوابه فلم يرد.

الترتيب الصحيح لأحداث الآخرة

الترتيب الصحيح لأحداث الآخرة Q ما الترتيب الصحيح لأمور الآخرة: الحوض والصراط والميزان؟ A فيه خلاف بين أهل العلم: من العلماء من قال: إن الحوض يكون الورود عليه قبل الميزان. ومنهم من قال: توزن الأعمال قبل ذلك. فهذان قولان لأهل العلم. والصواب: أن الحوض قبل الميزان؛ لأن الناس يخرجون من قبورهم عطشى فيحتاجون إلى الشرب، ولأنه لو كان الميزان قبل الحوض لكان من خفت موازينه علم أنه يطرد عن الحوض؛ وقد ثبت أن أناساً يطردون عن الحوض، فدل على أنهم يردون قبل ذلك، كما جاء في الصحيح: (ليردن علي أناس من أمتي أعرفهم ويعرفوني فيطردون، يذادون عن الحوض كما تذاد الإبل العطاش، فأقول: أصحابي أصحابي -وفي لفظ: أصيحابي أصيحابي-، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم). فالأرجح أولاً: الوقوف بين يدي الله عز وجل، ثم الحشر، ثم تتطاير الصحف، والحوض، ثم الميزان، ثم الصراط، ثم الجنة أو النار.

كيفية إثبات الصفات

كيفية إثبات الصفات Q هل الالتفات صفة من صفات الله جل وعلا؟ A الأسماء والصفات توقيفية، ولا يثبت لنا الصفة إلا بدليل، ولكن الصفات أحياناً تأتي على لفظ الفعل فتبقى على لفظ الفعل: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، فأين الدليل على أن الالتفاف من صفات الله؟

بيان ما يعمله من موطنه وبلاده يكثر فيها الفتن

بيان ما يعمله من موطنه وبلاده يكثر فيها الفتن Q أنا من أهل البلاد التي يكثر فيها الفتن، فما الكتب التي تنصحني بها، والتي تعنى بزيادة الإيمان لدى المسلم؟ A أوصيك بالعناية بكتاب الله عز وجل، وأن تقرأ كتاب الله وتتدبره وتتأمل فيه، فكتاب الله فيه الهدى والنور، اقرأ بتدبر وتمعن واستعن على فهم كتاب الله بالتفاسير المعتبرة عند أهل السنة والجماعة مثل تفسير: الحافظ ابن كثير، وتفسير ابن جرير، وتفسير البغوي، وتفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي وغيرها، وعليك بعد ذلك بقراءة الصحيحين: البخاري ومسلم والعناية بهما، واقرأ كتاب الفتن، وكذلك السنن الأربع وغيرها، تدبر أحاديث أمهات الكتب وفيها كتب الفتن، اقرأ أحاديث كتاب الفتن: في البخاري، ومسلم، وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجة، وتأملها وتدبرها، واقرأ كلام الشراح واسأل عما أشكل عليك. وابتعد عن أسباب الفتن، نسأل الله أن يسلمنا ويعيذنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

الجمع بين حديث (ذهاب حسنات قوم كجبال تهامة) وبين (الحسنات لا يحبطها إلا الموت على الكفر)

الجمع بين حديث (ذهاب حسنات قوم كجبال تهامة) وبين (الحسنات لا يحبطها إلا الموت على الكفر) Q كيف نجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أن أقواماً يأتون يوم القيامة بأعمال كجبال تهامة بيضاً فيجعلها الله هباء منثوراً)، وأخبر أنهم: (الذين إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)، وبين ما قرره شيخ الإسلام رحمه الله: أن الحسنات لا يحبطها إلا الموت على الكفر أو الشرك؟ A لا يوجد شيء يحبط جميع الأعمال غير الموت على الكفر والشرك، فهذا الذي يحبط جميع الأعمال، أما العمل نفسه فإنه لا يصح إلا بشرطين: أن يكون خالصاً لله، وأن يكون موافقاً للشرع، وقد يحبط العمل ويكون باطلاً؛ لأنه لم يكن خالصاً لله، أو يكون خالصاً لله لكنه غير موافق للشرع، فإذا كان خالصاً ويوافق الشرع فهو صحيح، ثم بعد ذلك قد يأخذ ثواب هذا العمل الغرماء، مثل ما جاء في الحديث: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال عليه الصلاة والسلام: المفلس من أمتي من يأتي بصيام وصلاة وصدقة -وفي لفظ: وأعمال كالجبال- ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)، فقد تكون أعماله لغيره. أما هذا الحديث فلا أعرفه ويحتاج إلى مراجعة.

حكم الصلاة في مسجد بني بمال حرام

حكم الصلاة في مسجد بني بمال حرام Q مسجد بني بمال حرام، فما حكم الصلاة فيه؟ A الصلاة صحيحة، والمال الحرام الإثم على صاحبه، والإنسان إذا كان عنده أموال يريد أن يتخلص منها فإنه يصرفها في المصارف العامة، كأن يبني بها مسجداً وتبرأ ذمته، والمسجد لا غبار عليه ولا على من يصلي فيه.

التوكل حكمه وأقسامه

التوكل حكمه وأقسامه Q ما حكم قول: توكلت على الله ثم توكلت عليك؟ A لا يجوز التوكل إلا على الله، والتوكل على غير الله إما شرك أكبر وإما شرك أصغر، فإن توكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهذا شرك أكبر، وإن توكل على غير الله في الأمور التي يقدر عليها الناس كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله عليه من رزق أو شفاعة أو دفع أذى كان شركاً أصغر، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]. فالتوكل لا يكون إلا على الله، لكن لك أن توكل غيرك، والمعنى: أن تنيب غيرك ليقوم مقامك في فعل شيء، أما التوكل فلا تتوكل إلا على الله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، وهنا حصر أي: توكلوا عليه لا على غيره.

حكم تخليص الأسير المسلم

حكم تخليص الأسير المسلم Q هل إذا أسر العدو مسلماً وجب الجهاد لفك أسره؟ A إذا أسر المسلم فيجب على المسلمين أن يسعوا في تخليصه: إما بمفاداته بدفع مال، أو مفاداته بأسرى، أو نحو ذلك.

حكم الشركيات التي تقع عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم

حكم الشركيات التي تقع عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم Q ما يحصل من شركيات قرب قبر النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الصوت في ذلك، هل يدخل في النهي عن رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم؟ A لا يجوز رفع الصوت عند قبره حياً ولا ميتاً، والشرك أعظم، فيجب النهي عن الشرك، وبعض الزوار والحجاج قد يتكلم بها، وهناك حول القبر النبوي من ينبه الناس، ولكن كثرة الزوار وكثرة الحجاج الذين اعتادوا في بلادهم الكلمات الشركية يجعلهم لا يبالون في أثناء الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بالتلفظ بالألفاظ الشركية.

حكم عمل المرتد إذا عاد إلى الإسلام

حكم عمل المرتد إذا عاد إلى الإسلام Q إذا ارتد شخص بعد إسلامه ثم أسلم، فهل يرجع له عمله؟ وما القاعدة في ذلك؟ A إذا ارتد إنسان ثم من الله عليه بالإسلام ومات على الإسلام، أحرز عمله السابق، ولم يحبط؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]، فاشترط لحبوط العمل الموت على الكفر، فإذا من الله عليه بالإسلام أحرز عمله.

[17]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [17] جاءت الأدلة الشرعية تدل على أن الذنب قد تسقط عقوبته عن العاصي بواحد من عشرة أمور، منها دعاء المؤمنين له والتصدق عنه ونحو ذلك، وكذلك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما يصيبه من مصائب في الدنيا والآخرة، وسقوط العقوبة بذلك يرد على الوعيدية الذي يحكمون بخلوده في النار.

من أسباب سقوط العقوبة عن العاصي دعاء المؤمنين له

من أسباب سقوط العقوبة عن العاصي دعاء المؤمنين له قال المصنف رحمه الله تعالى: [السبب الرابع الدافع للعقاب: دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته. فعن عائشة وأنس بن مالك رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شفعوا فيه). وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) رواهما مسلم. وهذا دعاء له بعد الموت، فلا يجوز أن تحمل المغفرة على المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر وحده، فإن ذلك مغفور له عند المنازعين، فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت]. هذا هو السبب الرابع من الأسباب التي تسقط بها العقوبة عن المسلم ويسلم بها من شر الذنب، وقد سبق ثلاثة أسباب: السبب الأول: التوبة، السبب الثاني: الاستغفار، والسبب الثالث: الحسنة الماحية. وهذا هو السبب الرابع الدافع للعقاب، وهو دعاء المؤمنين للمؤمن واستغفارهم له، وهذا مما يدفع الله به العذاب عن المؤمن حياً كان أو ميتاً، وبهذا يتبين أن من ارتكب الكبيرة فإنه لا يكون كافراً كما يقول الخوارج، ولا يكون في منزلة بين المنزلتين كما يقول المعتزلة، وإنما يكون مؤمناً معه أصل الإيمان وإن كان إيمانه ناقصاً. استدل المؤلف رحمه الله بحديثين في صحيح مسلم رحمه الله، الحديث الأول حديث عائشة وأنس: (ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شفعوا فيه). والثاني حديث ابن عباس: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه). وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه، فالدعاء ينفع الله به الحي والميت جميعاً، فالحي الذي يصلي على الجنازة له قيراط من الأجر لو صلى عليها، والميت ينفعه الله بهذا الدعاء الذي يدعو به الأحياء، ويشفعهم الله فيه. وهذه المغفرة التي تقع للميت بدعاء المصلين عليه يقول المؤلف: لا يجوز أن تحمل على المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر، فإن المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر مغفور له حتى عند المنازعين من الخوارج والمعتزلة، إذا أدى الفرائض واجتنب الكبائر غفرت له الصغائر، يقول المؤلف: (فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت) حتى من عليه الكبيرة ينفعه الله بذلك.

سقوط عقوبة الذنب بأعمال البر التي تعمل عن الميت وانتفاعه بها

سقوط عقوبة الذنب بأعمال البر التي تعمل عن الميت وانتفاعه بها قال المصنف رحمه الله تعالى: [السبب الخامس: ما يعمل عنه من أعمال كالصدقة ونحوها، فإن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة واتفاق الأئمة رحمهم الله، وكذلك العتق والحج، بل قد ثبت في الصحيحين أنه قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، وثبت مثل ذلك في الصحيح في صوم النذر من وجوه أخرى، ولا يجوز أن يعارض هذا بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، لوجهين: أحدهما: أنه قد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه، كدعاء الملائكة واستغفارهم له، كما في قول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9]. ودعاء النبيين والمؤمنين واستغفارهم، كما في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، وقوله سبحانه: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة:99]، وقوله عز وجل: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، وكدعاء المصلين للميت ولمن زاروا قبره من المؤمنين. الثاني: أن الآية ليست في ظاهرها إلا أنه ليس له إلا سعيه، وهذا حق فإنه لا يملك ولا يستحق إلا سعي نفسه، وأما سعي غيره فلا يملكه ولا يستحقه، لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله تعالى ويرحمه به، كما أنه دائماً يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم، وهو سبحانه بحكمته ورحمته يرحم العباد بأسباب تفعلها العباد ليثيب أولئك على تلك الأسباب، فيرحم الجميع كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بدعوة إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل). وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان أصغرهما مثل أحد)، فهو قد يرحم المصلي على الميت بدعائه له، ويرحم الميت أيضاً بدعاء هذا الحي له].

أقوال العلماء في وصول الثواب إلى الميت

أقوال العلماء في وصول الثواب إلى الميت هذا هو السبب الخامس من الأسباب التي يدفع الله بها العقوبة والعذاب عن الشخص، وهو ما يهدى للميت من ثواب أعمال البر، والذي يهدى للميت من ثواب أعمال البر بالاتفاق عند أهل السنة والجماعة أربعة أشياء: الدعاء، والصدقة، والحج، والعمرة، والأضحية داخلة في ذلك لأنها نوع من الصدقة، فهذه أربعة أشياء متفق عليها، وكذلك الصوم الواجب؛ فإذا كان عليه صوم واجب كصيام رمضان أو النذر أو الكفارة قضي عنه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، فهذه من الأعمال التي ينتفع بها الميت بالاتفاق. أما إهداء ثواب الصلاة كأن يصلي ركعتين وينوي ثوابها للميت، أو يصوم أياماً ويهدي ثوابها للميت، أو يقرأ القرآن ويهدي ثوابه للميت، أو يسبح ويهدي ثوابه للميت، أو يطوف بالبيت سبعة أشواط ويهدي ثوابها للميت، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم: فمن العلماء من ذهب إلى أنها تنفع الميت، وذهب إلى هذا الحنابلة والأحناف قياساً على الأربعة. ومن العلماء من قال: نقف عند ما وردت به النصوص؛ لأن العبادات توقيفية، ولا قياس في العبادات، وإلى هذا ذهب المالكية والشافعية، وقالوا: نقتصر على الدعاء والصدقة والعمرة والحج والأضحية وصوم الواجب. وهذا هو الأرجح؛ أن نقتصر على هذه الأربع؛ لأن العبادات توقيفية، ولم يرد سوى هذه الأربعة، فلم يرد أن الميت يصلى عنه ركعتين، أو يصام عنه يوم ويهدى له ثوابه، أو يقرأ القرآن ويهدى ثوابه للميت، ولكن من أجازه من العلماء قاسوا على هذه الأربع، ومن منع قال: لا قياس في العبادات، فالعبادات توقيفية، ووصفوا العبادات بالمنع والحظر، وهذا هو الأصوب، فما أهدي للميت من ثواب أعمال البر ينفعه الله به، ويدفع عنه العقاب بذلك، وينتفع بالصدقة وكذلك العتق، فالعتق داخل تحت الصدقة. يقول المؤلف رحمه الله: (إن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة كالصدقة ونحو ذلك بل قد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، قوله: (وعليه) أي: الصوم الواجب، أما صوم النفل والتطوع فهو محل خلاف. وكذلك الخلاف أيضاً في صوم النذر، جاء في اللفظ الآخر: (من مات وعليه صوم نذر)، فبعض العلماء حمله على صوم النذر خاصة، أما الصوم الذي وجد بأصل الشرع كصوم رمضان فلا يقضى عنه، والصواب: أنه يقضى على الميت الواجب سواء كان صوم رمضان أو صوم نذر أو صوم كفارة، فهذا ينفع الله به الميت، ويكفر عنه، ويدفع الله به العقوبة عنه إذا أهدي له، وكذلك الدعاء أو صدقة أو عمرة أو حج.

الرد على من يمنع انتفاع الميت بعمل الحي

الرد على من يمنع انتفاع الميت بعمل الحي قول المؤلف رحمه الله: (ولا يجوز أن يعارض هذا بقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39])، فهذه احتج بها أهل البدع كالمعتزلة وغيرهم على أن الميت لا ينتفع إلا بسعي نفسه فقط، وقالوا: لا ينتفع الميت لا بالدعاء ولا بالصدقة ولا بالحج ولا بالعمرة، ولا ينتفع إلا بما تسبب فيه في الحياة كالعلم الذي ينتفع به، أو ولد صالح، كما جاء في الحديث، وكذلك الصدقة الجارية، واحتجوا بهذه الآية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] وقالوا: إن المعنى: لا ينتفع الإنسان إلا بسعيه، وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: إن الإنسان ينتفع بسعيه وبسعي غيره إذا وهبه له، وأجابوا عن هذه الآية بجوابين ذكرهما المؤلف رحمه الله هما: الجواب الأول: أنه ثبت أن هذه الآية ليس فيها دليل على منع الإنسان من الانتفاع بسعي غيره، وقد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه: كدعاء الملائكة، والاستغفار له، كما في الآية الكريمة: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]، وينتفع بدعاء النبيين، ودعاء المؤمنين واستغفارهم، كما في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، وقوله سبحانه: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة:99] فتنفعهم صلوات الرسول، وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، وينفعه دعاء ولده أيضاً، وكذلك دعاء المصلين عليه، ودعاء زائر القبور. الجواب الثاني: أن قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] لم ينف الانتفاع وإنما نفى الملك، وفرق بين نفي الملك ونفي الانتفاع، والمعتزلة قالوا: الآية فيها حصر فقوله تعالى: {لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، يدل على أنه لا ينتفع الإنسان إلا بسعيه. وفي الجواب الثاني نقول: الآية ليس فيها نفي الانتفاع وإنما فيها نفي الملك، فاللام للملك، والمعنى: لا يملك الإنسان إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو لغيره، إن أبقاه لنفسه فهو لنفسه، وإن وهبه لغيره انتفع به، فأنت لا تملك إلا سعيك وأما سعي غيرك فهو ملك لذلك الغير، إن أبقاه لنفسه فهو له وإن وهبه لغيره انتفع به، ولهذا قال المؤلف: (لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله ويرحمه به، كما أنه دائماً يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم)، فهو سبحانه بحكمته ورحمته يرحم العباد بأسباب يفعلها العباد ليثيب أولئك على تلك الأسباب فيرحم الجميع، مثل: الإنسان إذا دعا لأخيه فله أجره حينما دعا لأخيه والميت ينتفع بهذا الدعاء، وإذا تصدق عن أخيه له أجر؛ لأنه أحسن لأخيه وصار الثواب للمتصدق عنه، كما في الحديث الصحيح أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بدعوة إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل)، فإذا دعوت لأخيك فلك مثلها، والحديث صحيح رواه مسلم وغيره. فإذا دعوت لأخيك المسلم أجابك ملك وقال: آمين ولك بالمثل، أي: اللهم استجب ولك أيها الداعي مثل ذلك من الأجر، فتكون دعوت لأخيك واستفاد أخوك من دعائك وأنت تستفيد وتعطى مثل ذلك. وكما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان أصغرهما مثل أحد)، فالذي يصلي على الجنازة له قيراط من الأجر فاستفاد هو، والميت استفاد بأن يشفعه الله فيه، فانتفع الحي والميت؛ ولهذا قال: (فهو قد يرحم المصلي على الميت بدعائه له ويرحم الميت أيضاً بدعاء هذا الحي له).

سقوط عقوبة الذنب بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

سقوط عقوبة الذنب بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله: [السبب السادس: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة، كما قد تواترت عنه أحاديث الشفاعة مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي). وقوله صلى الله عليه وسلم: (خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وأكثر، أترونها للمتقين؟ لا ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين)]. هذا هو السبب السادس من الأسباب التي تسقط بها العقوبة عن المسلم، وهو: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة. وأحاديث الشفاعة بلغت حد التواتر فتفيد العلم بيقين، ومع كونها متواترة أنكرها الخوارج والمعتزلة وقالوا: لا شفاعة للعاصي ولو كان موحداً، فأنكروها مع أنها متواترة، والمتواتر لا يجوز إنكاره، ومن أنكر المتواتر قد يحكم بكفره في بعض الأحيان، لكن هؤلاء متأولون؛ ولهذا أنكر عليهم أهل السنة وبدعوهم وصاحوا بهم وضللوهم: كيف تنكرون النصوص وهي متواترة؟! وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشفع أربع شفاعات، في كل مرة يحد الله له حداً، والأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والأفراط يشفعون، والشهداء يشفعون، فكيف تنكرونها وهي أحاديث صحيحة؟! فمنها: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) أي: لأهل الكبائر الموحدين. ومنها: حديث أبي هريرة: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) والحديث في الصحيح، فمن قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه استحق الشفاعة ولو مات عاصياً. وكذلك الحديث الذي ذكره المؤلف: (خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وأكثر أترونها للمتقين؟ لا ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين) أي: من الموحدين، فالمؤمن الموحد الذي مات على التوحيد استحق الشفاعة ما دام قد مات على التوحيد. أما المشرك فلا نصيب له في الشفاعة؛ لأنه مات على الشرك الأكبر أو الكفر الأكبر أو النفاق الأكبر، وهذا لا خلاف فيه، كما قال الله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وقال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] وقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18]، وهذه كلها في الكفار.

سقوط عقوبة الذنب بالمصائب، وأهوال القبر والقيامة

سقوط عقوبة الذنب بالمصائب، وأهوال القبر والقيامة قال المصنف رحمه الله تعالى: [السبب السابع: المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا هم ولا حزن، ولا غم ولا أذي، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)]. السبب السابع من الأسباب التي يدفع بها العقوبة عن العاصي: المصائب التي يكفر الله بها من خطاياه، كالأمراض والهموم والغموم والأحزان وفقد الأحبة والمصائب في النفس أو في المال أو في الولد، فكل هذه يكفر الله بها الخطايا، كما في الصحيحين: (ما يصيب المؤمن من وصب -مرض-، ولا نصب -تعب-، ولا هم ولا حزن ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [السبب الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة، فإن هذا مما تكفر به الخطايا]. السبب الثامن: مما يدفع الله به العقوبة عن العاصي هو: الفتنة، والمقصود سؤال منكر ونكير حين يسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وكل هذا امتحان يحصل له به تعب، فإذا حصل له التعب كفر الله من خطاياه، مثل الإنسان الذي يمتحن في الدنيا ويحصل له تعب من الامتحان، فكذلك هنا هذا التعب يكفر الله به من الخطايا. ومن ذلك ضغطة القبر كما في الحديث: (ما من ميت يموت إلا ضمه القبر ضمة)، وفي الحديث أنه: (لو نجا منها أحد لنجا سعد بن معاذ) وهو الذي اهتز له عرش الرحمن، أصابته ضغطة القبر والروعة، وهذا مما تكفر به الخطايا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [السبب التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها]. هذا هو السبب التاسع، وهو أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها، فهي مما يكفر الله به الخطايا، فقد يكون الإنسان مذنباً ثم تصيبه أهوال وشدائد وكرب في موقف القيامة من دنو الشمس فوق رأسه، وكونه يلجمه العرق، وغير ذلك من الأهوال والشدائد، فهذه يكفر الله بها الخطايا. فقد يحصل لبعض الناس الشدائد والكرب وأهوال وبعضهم لا يحصل له، فالذي يحصل له كرب وشدائد يكفر الله به الخطايا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [السبب العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد]. هذا هو السبب العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب؛ لأن المؤمن العاصي تحت مشيئة الله إن شاء الله غفر له ورحمه بتوحيده وإيمانه وإسلامه من دون سبب وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء سبحانه عذبه بقدر جرائمه ثم يخرجه من النار، وليس كل العصاة يدخلون النار، فبعضهم يدخل وبعضهم لا يدخل، وبعضهم يغفر له وبعضهم لا يغفر له، فهم تحت مشيئة الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، فإذا عفا الله عن العبد وغفر له سقطت عنه العقوبة، وإن كان مستحقاً لها، هذا هو السبب العاشر: (رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد). قال المصنف رحمه الله: [فإذا ثبت أن الذم والعقاب قد يدفع عن أهل الذنوب بهذه الأسباب العشرة، كان دعواهم أن عقوبات أهل الكبائر لا تندفع إلا بالتوبة مخالف لذلك]. يعني: هذه الأسباب العشرة يدفع الله بها عن العصاة الموحدين العقوبة، وعلى هذا ترتفع العقوبات عن أهل الكبائر بواحد من هذه الأسباب العشرة، فقول المعتزلة والخوارج: إن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لابد أن يخلد في النار، باطل؛ لأن العقوبة تدفع عن مرتكب الكبيرة بواحد من هذه الأسباب العشرة. فعند الخوارج صاحب الكبيرة -إذا زنى أو سرق- يخلد في النار إلا إذا تاب، والمرابي مخلد في النار إلا إذا تاب، والعاق لوالديه مخلد في النار إلا إذا تاب. ونحن نقول: هذا ليس بصحيح، فقد تدفع عنه العقوبة ولو لم يتب بواحد من الأسباب العشرة المذكورة.

[18]

شرح كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية [18] أهل البدع فرق كثيرة وطوائف متعددة، وأقوالهم في الإيمان وأصول الدين كثيرة وبعضها أضعف من بعض، بل بعضها كفر صريح ينطوي على تكذيب الرسل وإنكار المعاد والعقاب، وإسقاط التكليف، وقد بين شيخ الإسلام ضعفها والرد عليها.

ذكر عقائد المبتدعة في صاحب الكبيرة وأصول الدين

ذكر عقائد المبتدعة في صاحب الكبيرة وأصول الدين

عقيدة الخوارج والمعتزلة في صاحب الكبيرة ونتيجة الخلاف بينهما

عقيدة الخوارج والمعتزلة في صاحب الكبيرة ونتيجة الخلاف بينهما قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل. فهذان القولان: قول الخوارج الذين يكفرون بمطلق الذنوب ويخلدون في النار، وقول من يخلدهم في النار ويجزم بأن الله لا يغفر لهم إلا بالتوبة، ويقول: ليس معهم من الإيمان شيء، لم يذهب إليهما أحد من أئمة الدين أهل الفقه والحديث، بل هما من الأقوال المشهورة عن أهل البدع]. هذان القولان: القول الأول: قول الخوارج، والقول الثاني: قول المعتزلة، لم يذهب إليهما أحد من أئمة الدين، بل هما قولان مبتدعان: القول الأول: قول الخوارج الذين يكفرون بمطلق الذنوب ويخلدون في النار، فهذا قول باطل ما قاله أحد من أهل السنة والجماعة، إنما هو لأهل البدع، يقولون: يكفر المسلم بمطلق الذنب، بعضهم يقول: بأي ذنب، وبعضهم يقول: بالذنب الكبير فقط، ويخلد في النار، فالشخص إذا فعل الكبيرة كفر وخلد في النار عندهم، وهذا قول باطل أنكره أهل السنة والجماعة، وضللوا الخوارج بهذا وبدعوهم. القول الثاني: قول المعتزلة، وأشار إليه المؤلف بقوله: (وقول من يخلدهم في النار، ويجزم بأن الله لا يغفر لهم إلا بالتوبة، ويقول: ليس معهم من الإيمان شيء)، فهذا هو قول المعتزلة، وهم يوافقون الخوارج بالتخليد في النار، ويجزمون بأن الله لا يغفر لهم إلا بالتوبة، ويقولون: إنه ينتهي إيمان المؤمن بالكبيرة، لكن لا يصل إلى حد الكفر، فالخلاف بين الخوارج والمعتزلة في الحكم على صاحب الكبيرة في الدنيا، أما في الآخرة فقد اتفقوا على أن صاحب الكبيرة يخلد في النار. إذاً: اختلفوا في الدنيا، فقالت الخوارج: صاحب الكبيرة يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، وقالت المعتزلة: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، بل يبقى في منزلة بين المنزلتين -بين الإيمان والكفر- وإنما يسمى فاسقاً ليس بمؤمن ولا كافر. فإن قيل: هل لهذا الخلاف بين الطائفتين ثمرة؟ ف A في الآخرة لا توجد ثمرة، أما في الدنيا فله ثمرة، فالخوارج يقولون: خرج من الإيمان ودخل في الكفر، فيستحلون دمه وماله، ويعاملونه معاملة الكفار، أما المعتزلة فيقولون: خرج من الإيمان لكن ليس بكافر، فلا يقتلونه ولا يستحلون دمه وماله؛ لأنه خرج من الإيمان، لكن ما دخل في الكفر الذي يوجب قتله وأخذ ماله. فهذان القولان يقول عنهما المؤلف: (لم يذهب إليهما أحد من أئمة الدين أهل الفقه والحديث، بل هما من الأقوال المشهورة عن أهل البدع).

عقيدة غلاة المرجئة والملاحدة في صاحب الكبيرة وفي الوعد والوعيد

عقيدة غلاة المرجئة والملاحدة في صاحب الكبيرة وفي الوعد والوعيد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قول من وقف في أهل الكبائر من غلاة المرجئة، وقال: لا أعلم أن أحداً منهم يدخل النار، هو أيضاً من الأقوال المبتدعة، بل السلف والأئمة رحمهم الله متفقون على ما تواترت به النصوص، من أنه لابد أن يدخل النار قوم من أهل القبلة، ثم يخرجون منها، وأما من جزم بأنه لا يدخل النار أحد من أهل القبلة فهذا لا أعرفه قولاً لأحد. وبعده قول من يقول: ما ثم عذاب أصلاً، وإنما هو تخويف بما لا حقيقة له، وهذا من أقوال الملاحدة الكفار]. يعني: هناك قولان أيضاً للمرجئة: القول الأول: قول غلاة المرجئة، وهو التوقف في العصاة، والتوقف معناه أنهم يقولون: لا ندري هل يدخلون النار أو لا يدخلون النار. فهم يتوقفون في أهل الكبائر، إذا سألت أحدهم: أصحاب الكبائر يدخلون النار؟ يقول: أنا متوقف، لا أقول: يدخلون النار ولا أقول: لا يدخلون النار، ولهذا قال المؤلف: (كذلك قول من وقف في أهل الكبائر من غلاة المرجئة وقال: لا أعلم أن أحداً منهم يدخل النار، وهو أيضاً من الأقوال المبتدعة) يعني: قولهم هذا بدعي، والتوقف لا وجه له، والصواب أن أهل الكبائر قسم منهم وجملة منهم يدخلون النار، وقسم يعفى عنهم، ليس كلهم يدخلون وليس كلهم يعفى عنهم، بل لابد أن يدخل النار جملة من أهل الكبائر؛ لأنه قد تواترت الأخبار والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لابد أن يدخل النار جملة من أهل الكبائر وهم مؤمنون مصلون، ولا تأكل النار وجوههم، فهذا يدخل النار لأنه زنى ولم يتب، وهذا يدخل النار لأنه عاق لوالديه، وهذا يدخل النار لأنه تعامل بالربا، وهذا يدخل النار لأنه اغتاب الناس أو نم عليهم أو أكل أموال الناس بالباطل، ومنهم من يعفى عنه، ولكن جملة منهم لابد أن يدخلوا النار. إذاً: نقول: لا وجه لهذا القول، لابد أن تجزم بأنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر، وهناك من يعفى عنهم، ولهذا قال المؤلف: (بل السلف والأئمة متفقون على ما تواترت به النصوص من أنه لا بد أن يدخل النار قوم من أهل القبلة) , يعني: من المؤمنين الذين يتجهون إلى القبلة بالصلاة والذكر والذبح وغيره، ثم يخرجون من النار. وهناك قول آخر في المسألة: وهو الجزم بأنه لا يدخل النار أحد من أهل القبلة، قال المؤلف: (وهذا القول لا نعرفه قولاً لأحد)، وهو ضد قول الخوارج والمعتزلة, فالخوارج والمعتزلة يجزمون بأن العصاة مخلدون في النار، أما هؤلاء فيجزمون بأنه لا يدخل النار أحد من أهل القبلة. إذاً: بعض غلاة المرجئة يتوقفون في صاحب الكبيرة، وهناك بعض غلاة المرجئة كالجهمية يجزمون بأنه لا يدخل النار أحد من أهل القبلة، مادام أنه مؤمن يعرف ربه بقلبه، يقولون: لا تضره جميع الكبائر ولا يدخل النار، ويدخل الجنة من أول وهلة. وبعده هناك قول آخر: وهو قول من يقول: ما ثمَّ عذاب أصلاً، وإنما هو تخويف بما لا حقيقة له. يعني: أنه ليس هناك عذاب ولا نار، فإذا قيل له: النصوص دلت على أنه يوجد عذاب، قال: هذا مجرد تخويف، وهذا هو قول الملاحدة الذين لا يؤمنون بالجنة ولا يؤمنون بالنار. والملاحدة أشد من الكفار، فكفرهم أعظم من كفر اليهود والنصارى، فهؤلاء الملاحدة من القرامطة وغيرهم يقولون: ليس هناك عذاب ولا جنة ولا نار، فإذا قيل لهم: كيف؟ قالوا: هذه أمثال مضروبة من النبي وهي من السياسة، فهو قالها حتى يسوس الناس حتى يتعايشوا بسلام، وحتى لا يبغي بعضهم على بعضهم إذا علموا أن هناك جنة وهناك ناراً، وسيذكر المؤلف لهم شبهة، ويبين خطأهم وباطلهم.

شبهة الملاحدة من القرامطة والإسماعيلية والنصيرية وغيرهم في دين الرسل والرد عليهم

شبهة الملاحدة من القرامطة والإسماعيلية والنصيرية وغيرهم في دين الرسل والرد عليهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وربما احتج بعضهم بقوله تعالى: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر:16]. فيقال لهذا: التخويف إنما يكون تخويفاً إذا كان هناك مُخوف يمكن وقوعه بالمخوَّف، فإن لم يكن هناك ما يمكن وقوعه امتنع التخويف، لكن يكون حاصله إيهام الخائفين بما لا حقيقة له كما يوهم الصبي الصغير، ومعلوم أن مثل هذا لا يحصل به تخويف للعقلاء المميزين؛ لأنهم إذا علموا أنه ليس هناك شيء مَخوْف زال الخوف. وهذا شبيهٌ بما تقول الملاحدة المتفلسفة والقرامطة ونحوهم: من أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم خاطبوا الناس بإظهار أمور من الوعد والوعيد لا حقيقة لها في الباطن، وإنما هي أمثال مضروبة لتفهم حال النفس بعد المفارقة، وما أظهروه لهم من الوعد والوعيد وإن كان لا حقيقة له فإنما يعلق لمصلحتهم في الدنيا، إذ كان لا يمكن تقويمهم إلا بهذه الطريق]. يعني: هؤلاء الملاحدة الذين ينكرون العذاب ويقولون: ليس هناك عذاب ولا نار، بعضهم يحتج بقوله تعالى: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر:16]، قالوا: النصوص التي فيها العذاب هي للتخويف فقط، وإلا ليس هناك نار ولا عذاب، فالمؤلف رحمه الله أجاب عليهم وقال: إن قوله: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر:16] يعني: الله يخوف عباده بشيء له حقيقة؛ لأنه لا يسمى تخويفاً إلا إذا كان له حقيقة، ولهذا يقول: (فيقال لهذا: التخويف إنما يكون تخويفاً إذا كان هناك مخوف) وهو النار يخوف بها (يمكن وقوعه بالمخوف، فإذا لم يكن هناك ما يمكن وقوعه امتنع التخويف)؛ لأنه إذا لم يكن هناك نار فليس هناك تخويف، وإنما هو إيهام الخائفين بما لا حقيقة له كما يوهم الصبي الصغير، ويقال له: إذا فعلت كذا حصل لك كذا وكذا، وهو إيهام، ومعلوم أن مثل هذا لا يحصل به تخويف للعقلاء المميزين، إنما يحصل التخويف للصبيان الصغار الأطفال، أما العقلاء المميزون فلا يخوفون بالأشياء التي لا حقيقة لها؛ لأنهم إذا علموا أنه ليس هناك شيء مخوف زال الخوف. يقول المؤلف: (وهذا شبيه بما تقول الملاحدة المتفلسفة والقرامطة) الملاحدة أقسام: ملاحدة المتفلسفة، وملاحدة القرامطة، وملاحدة الصوفية، وهؤلاء الذين يقولون: إن العذاب تخويف لا حقيقة له يشبه قول الملاحدة المتفلسفة والقرامطة الذين يقولون: الرسل يسوسون الناس، ويقولون: النبي رجل عبقري عنده ذكاء وعنده كذا ويسوس الناس، ويخبرهم أن هناك جنة وناراً وملائكة، وهذا لا حقيقة له، وإنما هي أمثال مضروبة تناسب العوام، وإلا فليس هناك جنة ولا نار، وليس هناك أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام عند هؤلاء الملاحدة والعياذ بالله. ويقول بعضهم: إن هذه من سياسة النبي، وهو رجل عبقري، يسوس الناس ويخوفهم بأن هناك عذاباً وناراً وجنة؛ حتى يتعايش الناس بسلام، وحتى لا يعتدي أحد على أحد، ولهذا قال بعض الملاحدة: إن النبي فيلسوف العامة، وأما الفيلسوف فهو نبي الخاصة، ولهذا قال بعضهم: أنا لا أريد النبوة، أي فهو يريد شيئاً أعلى من النبوة وهي الفلسفة، ويقول: الفلسفة نبوة الخاصة، وأما النبي فهو يسوس العامة، وفرق بين سياسة الخاص وسياسة العام، فالفلاسفة جعلوا أنفسهم أعلى من الأنبياء نعوذ بالله، وكفر هؤلاء فوق كفر الذين قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124]. فهؤلاء الملاحدة يقولون: الرسل خاطبوا الناس بإظهار أمور من الوعد والوعيد لا حقيقة لها في الباطن، وإنما هي أمثال مضروبة لتفهم حال النفس بعد المفارقة، وما أظهروه لهم من الوعد والوعيد وإن كان لا حقيقة له، لكن من أجل مصلحتهم في الدنيا؛ لأنه لا يمكن تقويمهم ولا إصلاحهم إلا بالكذب، ويقولون: الأنبياء كذبوا على الناس لمصلحتهم، ويقولون: هناك فرق بين من يكذب لك ومن يكذب عليك، فالأنبياء كذبوا للناس لا على الناس، كذبوا لمصلحة الناس، ولم يكذبوا عليهم؛ لأنه لو لم يكذبوا لهم لصار بينهم نزاع وقتل واختلت أمورهم، وقد يبغي بعضهم على بعض، فإذا كذبوا لهم قالوا: هناك جنة وهناك نار وهناك قصاص صلحت أحوالهم واستقاموا، هكذا يقولون! نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا القول مع أنه معلوم الفساد بالضرورة من دين الرسل؛ فلو كان الأمر كذلك لكان خواص الرسل الأذكياء يعلمون ذلك، وإذا علمو زالت محافظتهم على الأمر والنهي، كما يصيب خواص ملاحدة المتفلسفة والقرامطة من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم، فإن البارع منهم في العلم والمعرفة يزول عنه عندهم الأمر والنهي، وتباح له المحظورات، وتسقط عنه الواجبات، فتظهر أضغانهم، وتنكشف أسرارهم، ويعرف عموم الناس حقيقة دينهم الباطن؛ حتى سموهم باطنية؛ لإبطانهم خلاف ما يظهرون، فلو كان والعياذ بالله دين الرسل كذلك لكان خواصه قد عرفوه، وأظهروا باطنه، وكان عند أهل المعرفة والتحقيق من جنس دين الباطنية. ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا أعلم الناس بباطن الرسول صلى الله عليه وسلم وظاهره، وأخبر الناس بمقاصده ومراداته، كانوا أعظم الأمة لزوماً لطاعة أمره سراً وعلانية، ومحافظة على ذلك إلى الموت، وكل من كان منهم إليه أقرب، وبه أخص، وبباطنه أعلم، كـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كانا أعظمهم لزوماً لطاعته سراً وعلانية، ومحافظة على أداء الواجب، واجتناب المحرم باطناً وظاهراً]. يعني: أن قول هؤلاء الملاحدة: إنه ليس هناك جنة ولا نار وإنما هو تخويف، وكذلك قول ملاحدة الفلاسفة والقرامطة: إن الرسل جاءوا بالإخبار عن الجنة والنار من باب استصلاح الناس، وإلا فليس هناك جنة ولا نار، هذا القول مع أنه معلوم الفساد بالضرورة في دين الرسل، لو كان الأمر كما يزعمون لكان خواص الرسل الأذكياء يعلمون ذلك، و (لو) حرف امتناع لامتناع، وهذا هو الشرط التقديري، والشرط التقديري لا يمكن حصوله، ولا يمكن القول به، مثل قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الشرك، فهذا من باب التقدير. والمعنى: لو كان الأمر كما يزعم هؤلاء أن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما لبس على الناس لأجل مصلحتهم وليس هناك جنة ولا نار، لكان خواص الرسل الأذكياء يعلمون الحقيقة، وخواص الرسل هم الملازمون للرسل، فلو كان الأمر كما يقولون وأن الرسل إنما كذبوا على الناس، لكان خواصهم الملازمون لهم مثل خواص النبي صلى الله عليه وسلم كـ أبي بكر وعمر وغيرهما يعلمون الحقيقة، ويعلمون الباطن، وإذا علموا بذلك ما تعبدوا ولا عملوا أعمالاً صالحة، ولفعلوا المنكرات؛ لأنهم يعلمون حقيقة من لازموه، وهذا من أبطل الباطل، فإن خواص الأنبياء هم أعظم الناس محافظة على أوامر الله وأوامر رسله وأنبيائه. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (لو كان الأمر كذلك لكان خواص الرسل يعلمون ذلك، وإذا علموه زالت محافظتهم على الأمر والنهي) يعني: لما امتثلوا الأمر ولا اجتنبوا النهي؛ لأنهم يعلمون الحقيقة، (كما يصيب خواص ملاحدة المتفلسفة والقرامطة)، فحالهم حال سيئ؛ لأنهم يعتقدون في الباطن الإلحاد والزندقة، ولذلك لا يلتزمون بالشرائع، ومن هؤلاء الإسماعيلية والنصيرية، فهم يدعون أن الله حل في علي. يقول: (فإن البارع منهم في العلم والمعرفة يزول عنه عندهم الأمر والنهي) أي: البارع من هؤلاء الملاحدة الإسماعيلية والنصيرية لا يمتثل الأوامر ولا النواهي، وتباح له جميع المحرمات، وتسقط عنه الواجبات، وتظهر أضغانهم، وتنكشف أسرارهم، ويعرف عموم الناس حقيقة دينهم الباطن حتى سموهم باطنية؛ لأن الباطنية يقولون: ليس هناك صلاة ولا صيام ولا زكاة، ويقولون: الصلاة لها ظاهر ولها باطن؛ ظاهرها الصلوات الخمس التي يصليها المسلمون، وهؤلاء يسمونهم عامة، والباطن عندهم خمسة أسماء: علي وفاطمة وحسن وحسين ومحسن خمسه أسماء تعدها. والصيام عندهم له باطن وله ظاهر، ظاهره صوم المسلمين شهر رمضان ويسمونهم عامة، والباطن كتمان أسرار المشايخ. والحج عندهم له ظاهر وله باطن، الحج الظاهر هو الحج إلى بيت الله الحرام، والباطن زيارة قبور مشايخهم. هؤلاء هم الملاحدة يقول: (فلو كان والعياذ بالله دين الرسل كذلك لكان خواصه قد عرفوه وأظهروا باطنه، وكان عند أهل المعرفة والتحقيق من جنس دين الباطنية، ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة الذين لازموا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أعلم بباطن الرسول صلى الله عليه وسلم وظاهره، وأخبر الناس بمقاصده ومراداته، وكانوا أعظم لزوماً في طاعة أمره سراً وعلانية، ومحافظة على ذلك إلى الموت، وكل من كان منهم إليه أقرب وبه أخص وبباطنه أعلم كـ أبي بكر وعمر كانوا أعظم الناس لزوماً للطاعة سراً وعلانية، ومحافظة على أداء الواجب واجتناب المحرم باطناً وظاهراً، فدل هذا على كذب ما يقوله هؤلاء وأنهم ملاحدة).

شبهة ملاحدة الصوفية في حقيقة الدين والرد عليهم

شبهة ملاحدة الصوفية في حقيقة الدين والرد عليهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أشبه هؤلاء في بعض الأمور ملاحدة المتصوفة، الذين يجعلون فعل المأمور وترك المحظور واجباً على السالك، حتى يصير عارفاً محققاً في زعمهم، وحينئذ يسقط عنه التكليف، ويتأولون على ذلك قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] زاعمين أن اليقين هو ما يدعونه من المعرفة، واليقين هنا الموت وما بعده، كما قال تعالى عن أهل النار: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:45 - 48]. قال الحسن البصري: إن الله لم يجعل لعباده المؤمنين أجلاً دون الموت، وتلا هذه الآية. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي عثمان بن مظعون: (أما عثمان بن مظعون فقد أتاه اليقين من ربه)]. يعني: أن ملاحدة الفلاسفة وملاحدة القرامطة الذين يقولون: إن الشريعة لها ظاهر وباطن، ولا يعملون بالشريعة؛ لأنهم يعتقدون في الباطن الكفر والإلحاد، فملاحدة الصوفية يشبهون ملاحدة الفلاسفة والقرامطة الذين قالوا: الشريعة لها ظاهر ولها باطن كما سبق، فالظاهر للمسلمين والباطن لهم، وملاحدة الصوفية يشبهونهم من جهة أنهم يقولون: الأوامر والنواهي والشريعة إنما تلزم العوام ولا تلزم الخواص، فالصوفي عندهم يسمونه السالك ويسمونه الفقير وله أسماء أخرى عندهم، فالسالك عندهم تلزمه التكاليف من الأوامر والنواهي والصلاة حتى يصل إلى درجة المعرفة عندهم واليقين، فإذا وصل إلى المعرفة سقطت عنه التكاليف، ويصل إلى درجة المعرفة عندهم إذا شاهد الحقيقة الكونية، وإذا شاهد القدر وعلم أن ما قدر سيكون، وألغى صفاته وجعلها صفات الله، فهذا قد وصل إلى الحقيقة، ويستدلون بمثل قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ويفسرون اليقين بالمعرفة، فمن وصل إلى المعرفة سقطت عنه التكاليف. وهذا لا شك أنه كفر وضلال، بل المعلوم من دين الإسلام بالضرورة كما قرر أهل العلم كـ شيخ الإسلام وغيره أن من قال: إن أحداً يسقط عنه التكليف وعقله معه فإنه كافر بإجماع المسلمين، ويستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه لا يوجد أحد رفع عنه التكليف، إلا إذا رفع العقل كالشيخ المخرف الكبير والمجنون والصغير. فهؤلاء الملاحدة يقولون: يسقط التكليف عن الخواص، ويقسمون الناس إلى عوام وخواص، فالعامة عليهم تكليف من أوامر ونواه، وطاعات ومعاص، أما الخاصة فيسقط عنهم التكليف. بل إن الصوفية يقسمون الناس إلى ثلاثة أقسام: عامة، وخاصة، وخاصة الخاصة. فالعامة الذين كلفوا بالأوامر والنواهي. والخاصة الذي تسقط عنهم الأوامر والنواهي، ليس عليهم تكليف، وكل أعمالهم طاعات ليس فيها معاص، وأي شيء يفعلونه طاعة؛ لأنه يوافق القدر، فالزنا منهم طاعة والسرقة طاعة والكفر طاعة. يقول أحدهم: أنا إن عصيت أمر الله الشرعي فقد وافقت أمر الله الكوني، ووافقت الإرادة الكونية. أما خاصة الخاصة فليس هناك طاعات ولا معاص، وهم الذين يقولون بوحدة الوجود، يقولون: إن الوجود واحد، وليس هناك رب ولا عبد، فأنت الرب وأنت العبد، ولذا قال ابن عربي رئيس وحدة الوجود: الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف يعني: لا أدري من المكلف. إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت رب أنى يكلف يعني: التبس عليه الأمر، فقال: الرب هو العبد والعبد رب، ويقول أيضاً: رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك. ويقول: ليس في الوجود واحد، فالخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق. نقول: هذا ضلال وكفر وزيغ ووهم وحيرة وشك. ويقول: سر حيث شئت فإن الله ثم وقل ما شئت فيه فإن الواسع الله يعني: كل ما تراه هو الله -نعوذ بالله- فهذا من أعظم الكفر والإلحاد، نسأل الله السلامة والعافية، والسبب في ذلك أنهم يشاهدون الحقيقة الكونية فتسقط عنهم التكاليف.

طبقات الناس عند ملاحدة الصوفية وحكم كل طبقة

طبقات الناس عند ملاحدة الصوفية وحكم كل طبقة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء قد يشهدون القدر أولاً وهي الحقيقة الكونية، ويظنون أن غاية العارف أن يشهد القدر ويفنى عن هذا الشهود، وذلك المشهد لا تمييز فيه بين المأمور والمحظور، ومحبوبات الله ومكروهاته، وأوليائه وأعدائه. وقد يقول أحدهم: العارف شهد أولاً الطاعة والمعصية، ثم شهد طاعة بلا معصية، يريد بذلك طاعة القدر، كقول بعض شيوخهم: أنا كافر برب يعصى، وقيل له عن بعض الظالمين: هذا ماله حرام، فقال: إن كان عصى الأمر فقد أطاع الإرادة. ثم ينتقلون إلى المشهد الثالث: لا طاعة ولا معصية، وهو مشهد أهل الوحدة القائلين بوحدة الوجود، وهذا غاية إلحاد المبتدعة جهمية الصوفية، كما أن القرمطة آخر إلحاد الشيعة، وكلا الإلحادين يتقاربان، وفيهما من الكفر ما ليس في دين اليهود والنصارى ومشركي العرب. والله أعلم]. ملاحدة الصوفية يجعلون الناس طبقات: الطبقة الأولى: العامة، والطبقة الثانية: الخاصة، والطبقة الثالثة: خاصة الخاصة، وكل طبقة لها أحكام. فالعامة عليهم الأوامر والنواهي، من الصلاة والصيام والزكاة والحج وطاعات ومعاص، ويجعلون من العامة جميع الأنبياء والمرسلين، فهنيئاً للعامة فتوحيدهم توحيد الأنبياء والمرسلين. أما الخاصة عندهم فيرتفعون عن هذه الطبقة، إذا وصل أحدهم إلى العلم والمعرفة، فالعلم المراد به شهود الحقيقة الكونية، يعني: أن يشهد القدر، وهو أن يشهد أن الله قدَّر كل شيء، قدر الكفر والمعاصي والطاعات، وأن الإنسان لابد أن ينفذ فيه قدر الله، ويرون أن الإنسان مجبور على هذا الشيء، فحينئذٍ تسقط عنه التكاليف، وفي هذه الحالة يصل إلى درجة المعرفة ويلغي صفاته وأفعاله ويجعلها صفات لله، فالله هو المصلي والصائم، والعباد وعاء للأفعال، والله هو الفاعل، كالكوز الذي يصب فيه الماء، فالأفعال أفعال الله، وفي هذه الحالة يسقط عنه التكليف، ولا تصير عنده معاص، وكل ما يفعله طاعة، حتى الكفر والزنا والسرقة! فإذا قيل له: أنت عصيت أمر الله الشرعي، قال: لكن وافقت أمر الله الكوني، فإنه قدر علي هذا، وعلى هذا فيعذرون الكفرة من قوم نوح وقوم هود. الطبقة الثالثة: طبقة خاصة الخاصة، يترقي الواحد منهم من هذه الطبقة إلى القول بوحدة الوجود، وحينئذ لا تكون عنده طاعات ولا معاص، والخاصة عندهم طاعات وليس عندهم معاص، فهؤلاء ملاحدة وصلوا إلى القول بوحدة الوجود والعياذ بالله، ولهذا بين المؤلف رحمه الله ذلك وقال: (إن هؤلاء الملاحدة يجعلون فعل المأمور وترك المحذور واجباً على السالك) يعني: السائر في الطريق إلى الله عندهم، حتى يصير عارفاً محققاً في زعمهم، وحينئذٍ يسقط عنه التكليف، ويتأولون على ذلك قول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] زاعمين أن اليقين هو ما يدعونه من المعرفة، الصواب أن اليقين هو الموت، كما قال الله تعالى عن أهل النار: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:47] يعني: الموت. وقال الحسن: إن الله لم يجعل لعباده أجلاً دون الموت، وتلا هذه الآية: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]. وفي الحديث الصحيح لما توفي عثمان بن مظعون قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما عثمان بن مظعون فقد أتاه اليقين من ربه)، وهذا الحديث رواه البخاري في الصحيح. وهؤلاء الصوفية يشهدون القدر أولاً، وشهود القدر يعني: أن يشهد أن الله قدر الأشياء، وأن كل مخلوق سائر بالقدر شاء أم أبى، وأنه تنفذ فيه قدرة الله، ويلغي النظر إلى الشرع والأوامر والنواهي، ولا ينظر إلا إلى القدر، وحينئذٍ يجعل الصفات صفات الله والأفعال أفعال الله، وحينئذ يسقط عنه التكليف، ويظنون أن غاية العارف أن يشهد القدر، فإذا شهد القدر وفني بهذا الشهود ففي هذا المشهد لا تمييز بين المأمور والمحظور، ومحبوبات الله ومكروهاته، وأوليائه وأعدائه، وليس هناك تمييز بين المحرم والجائز، ولا فرق بين الزنا والنكاح، ولا فرق بين الخمر والماء، ولا فرق بين الربا والبيع، ولا فرق بين المؤمن والكافر. يقول المؤلف: (وقد يقول أحدهم: العارف شهد أولاً الطاعة والمعصية) يعني: شهد ذلك لما كان في طبقة العامة، ثم يقول: (ثم شهد طاعة بلا معصية) يعني: لما ارتفع إلى الطبقة الثانية وهي طبقة الخاصة (يريد بذلك طاعة القدر) يعني: إذا زنى قال: هذه طاعة، وإذا سرق قال: هذه طاعة، فإذا قيل له: هذه طاعة الشرع؟ قال: لا، هذه طاعة القدر، (كقول بعض الشيوخ الصوفية: أنا كافر برب يعصى) والعياذ بالله، لماذا قال هذا القول: أنا كافر برب يعصى؟ يريد أن يقول: المعصية طاعة لله؛ لأنه قدرها عليه، فليس هناك معصية، فإذا قلتم: إن هناك معصية، يقول هو: أنا كافر برب يعصى، والعياذ بالله. إذاً: لا توجد معصية حتى لا يعصى الرب، وكل ما يقع فهو طاعة. وقيل له عن بعض الظالمين: هذا ماله حرام، قال: لا يوجد حرام وحلال، كل شيء حلال، إن كان عصى أمر الله الشرعي فقد أطاع الإرادة الكونية القدرية. ثم ينتقلون إلى المشهد الثالث ويقولون: لا طاعة ولا معصية، وهذا مشهد خاصة الخاصة، وهم أهل وحدة الوجود، ولذلك يقول: (وهو مشهد أهل الوحدة القائلين بوحدة الوجود، وهذا غاية إلحاد المبتدعة كجهمية الصوفية، كما أن القرمطة آخر إلحاد الشيعة، وكلا الإلحادين يتقاربان، وفيهما من الكفر ما ليس في دين اليهود والنصارى ومشركي العرب). يعني: كفرهم تجاوز كفر اليهود والنصارى، وتجاوز كفر الوثنية والعياذ بالله، حتى إنهم الآن يقولون: إن فرعون مصيب حينما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، نعوذ بالله! وقالوا: إن الرب هو العبد والعبد هو الرب، ولا فرق، فالوجود واحد، والرب عندهم يتمثل في صورة معبود كما في صورة فرعون، بل يتمثل في صورة هاد كما في صورة الأنبياء وهو واحد، والأحداث يلبسها ويخلعها. وابن عربي صاحب وحدة الوجود له كتاب سماه كتاب (الهو) يقول: العامة لهم ذكر: لا إله إلا الله، سبحان الله، والحمد لله، والخاصة ذكرهم لفظ الجلالة: الله الله الله الله الله الله، كما يحصل هذا، يقول شخص ذهب إلى أفريقيا: وجدناهم يكررون: الله الله من بعد العصر إلى المغرب، وأما خاصة الخاصة فذكرهم: (هو هو هو هو هو) يوهوهون كالكلاب. وملاحدة الصوفية يعتذرون عن إبليس وعن فرعون، ويقولون: فرعون مصيب لما قال: أنا ربكم الأعلى، وإذا قلنا: لماذا أغرق؟ يقولون: كل من عبد شيئاً دون الله فهو مصيب، فالذي يعبد الأصنام مصيب، والذي يعبد النار مصيب، والذي يعبد البشر مصيب، والذي يمنع الناس من عبادة شيء فهو كافر، وفرعون أغرق ليزول عنه التوهم أنه هو الرب، فأغرق حتى يزول عنه الوهم والحسبان تطهيراً له، فهو لما أغرق تطهر وزال عنه التوهم والحسبان؛ لأنه خص نفسه وقال: أنا الرب، ومنع الناس من أن يكونوا أرباباً، فلذلك أغرق، هكذا في كتاب ابن عربي أعوذ بالله. وقال: إن عباد العجل من بني إسرائيل على حق، ومعلوم أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاء ووجد بني إسرائيل يعبدون العجل، وعندهم أخوه هارون وكان نبياً مثله جره برأسه ولحيته، وغضب عليه الصلاة والسلام، وألقى الألواح فتكسرت، فعندما جره قال: كيف تركتهم يعبدون الأصنام؟ كما أخبر الله بذلك. فهؤلاء الملاحدة يؤولون الآيات ويحرفونها ويقولون: إن موسى حينما جر هارون بلحيته ينكر عليه، قال له هارون: لماذا تنكر عليهم عبادة العجل؟ اتركهم يعبدون العجل فهم مصيبون، هكذا -والعياذ بالله- وصل الإلحاد والكفر والضلال بهم إلى هذا الحد، فهذا كفر لم يصل إليه إلا هؤلاء الملاحدة، فهم أعظم الناس كفراً، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله سبحانه أن يهدينا وأن يثبت قلوبنا، ونسأله سبحانه وتعالى ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يثبت قلوبنا على طاعته. يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، نسأل الله الثبات على دينه، والاستقامة عليه حتى الممات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم زكاة الحلي المستعمل

حكم زكاة الحلي المستعمل Q ما حكم زكاة الحلي المستعمل؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فجمهور العلماء على أن الحلي الذي تستعمله المرأة لا زكاة فيه، وقالوا: إنه من جنس الثياب ومن جنس الفرش ومن جنس ما يستعمل. والقول الثاني لأهل العلم: أن فيه زكاة، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، واستدلوا بعموم النصوص التي فيها أن الذهب والفضة تجب فيها الزكاة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له يوم القيامة صفائح من نار)، وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34]. وهناك أيضاً نصوص خاصة منها: (أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم بابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، قال: أتؤدين زكاتهما؟ قالت: لا، قال: أتحبين أن يسورك الله بهما سوارين من نار؟ قالت: هما لله ورسوله)، قال الحافظ ابن حجر: إسناده قوي. فالأحوط للمسلم أن يخرج الزكاة، احتياطاً لدينه، وخروجاً من خلاف العلماء، ولأن هذه المسألة الراجح فيها إخراج الزكاة، وهو اختيار سماحة الشيخ ابن باز رحمة الله عليه، واختيار فضيلة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله أخيراً. والمسألة فيها خمسة أقوال لأهل العلم، والجمهور على أنه ليس فيها زكاة، والقول بإخراج الزكاة هو الأحوط.

حقيقة رضا المخلوقين في قوله تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه)

حقيقة رضا المخلوقين في قوله تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) Q أهل السنة يثبتون الرضا لله جل وعلا، لكن ما هو رضا المخلوقين كما في قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]؟ A الرضا صفة من صفات الله، وصفات الله لا تشابه صفات المخلوقين، فرضاه سبحانه وغضبه وسمعه وبصره وعلمه، كما قال الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] والله تعالى له صفات لا يماثل المخلوقين في صفاتهم ولا في أفعالهم، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]. والمخلوقون لهم صفات تخصهم، فالمخلوق له رضاً يخصه، والخالق له رضاً يخصه، وهكذا السمع والبصر والعلو وسائر الصفات.

مدى صحة قصة المرأة التي ذهبت إلى بابل وتعلمت السحر

مدى صحة قصة المرأة التي ذهبت إلى بابل وتعلمت السحر Q ما صحة القصة التي ذكرها ابن قدامة المقدسي رحمه الله في كتابه (كتاب التوابين) في المرأة التي تعلمت السحر، فخرج منها رجل راكب فرساً ومعه السيف والدرع وصعد إلى السماء، فلما سألت عنه قيل لها: إن هذا إيمانك خرج منك ولن يعود؟ A هذه القصة أيضاً ذكرها الحافظ ابن كثير في تفسير سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:102] والله أعلم بصحتها، فلا نستطيع أن نثبتها إلا إذا ورد بذلك نص وسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، والسند يحتاج إلى تأمل، وما أظنها تصح والله أعلم.

الفرق بين ابن عربي وابن العربي

الفرق بين ابن عربي وابن العربي Q من هو ابن العربي ومن هو ابن عربي؟ A ابن عربي هو محيي الدين بن عربي رئيس وحدة الوجود، وكان في القرن السادس، وأما أبو بكر بن العربي المفسر المعروف فهذا عنده بعض التأويلات يشارك الأشاعرة فيها، لكنه يختلف عن ابن عربي رئيس وحدة الوجود.

ورود النص بتسمية منكر ونكير

ورود النص بتسمية منكر ونكير Q هل وردت أحاديث بأسماء منكر ونكير؛ لأني قد سمعت بعض أهل العلم يقول: إنه لم يرد تحديد لأسمائهما، فما صحة ذلك؟ A جاء في بعض الأحاديث: (إذا قبر الإنسان جاءه ملكان أزرقان أسودان، يقال لأحدهما: المنكر، ويقال للآخر: النكير).

نصيحة موجهة للنساء بلزوم الحجاب الشرعي وعدم الخلوة بالأجنبي

نصيحة موجهة للنساء بلزوم الحجاب الشرعي وعدم الخلوة بالأجنبي Q نرجو التكرم بإبداء النصح والتوجيه لبعض الأخوات الكريمات من ناحية الحجاب الشرعي والالتزام به، ولأن بعضهن تأتي إلى هذه الدورة العلمية مع السائق لوحدها، فما حكم ذلك حفظكم الله؟ A ننصح أخواتنا المسلمات بلزوم الحجاب؛ لأنه يجب على المرأة أن تحتجب احتجاباً كاملاً، وأن تلبس ثياباً واسعة فضفاضة، ليست ضيقة تبين مقاطع جسدها، وليست لماعة تلفت أنظار الرجال إليها، وأن تكون العباءة غير مزركشة، ولا تلبسها على كتفيها فقط، بل تكون عباءة تسترها، وألا تتشبه بالرجال، ولا تلبس العباءات التي هي في الحقيقة دعوة للفسق وللفساق، والتي فيها إظهار لزينتها ومفاتنها، ويجب عليها أن تتحجب حجاباً كاملاً عن الرجال، ولاسيما من تأتي للاستفادة وطلب العلم؛ لأنها قدوة لغيرها. والله تعالى يقول في كتابه العظيم: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59]، فبين سبحانه وتعالى أن المرأة إذا تحجبت كان أقرب ألا تؤذى، بخلاف السافرة فإنها قد تؤذى من الفساق. وفي الحديث الصحيح في قصة الإفك لما تخلفت عائشة عن الركب، وجاء صفوان بن المعطل ووجدها وكان قد تخلف عن الجيش، فجعل يسترجع ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، قالت عائشة: فاستيقظت -كانت نائمة- لاسترجاع صفوان، فخمرت وجهي بجلبابي، وكان يعرفني قبل الحجاب، فهذا الحديث رواه البخاري في الصحيح، وهو يدل على أن النساء قبل الحجاب كن يكشفن الوجوه، وبعد الحجاب كن يسترن الوجوه، قالت: (فاستيقظت لاسترجاع صفوان، فخمرت وجهي بجلبابي، وكان يعرفني قبل الحجاب). وفي سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذونا أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه)، إذا كانت المحرمة تغطي وجهها بجلبابها فغير المحرمة من باب أولى. وكذلك أيضاً ننصح الأخوات بعدم الخلوة بالأجنبي، فلا يجوز للمرأة أن تخلو بالأجنبي، وركوبها مع السائق الأجنبي وحدها في السيارة خلوة، أو في المصعد، أو في الغرفة، وهذا حرام؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما). لكن إذا كان معها من تزول به الخلوة من رجل آخر أو امرأة وليس هناك ريبة فلا بأس إذا كان في البلد أو في سفر، أما إذا كان هناك ريبة فلا ينفع ولو كانوا مائة. لكن إذا لم يكن هناك ريبة ولا شك وكانوا اثنين فصاعداً في البلد فلا بأس، لكن في السفر لا يجوز لها أن تسافر ولو كان مع هذا السائق راكب آخر، فلا يجوز أن تسافر إلا مع محرم، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم)، ولما خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس في حجة الوداع قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم، قال رجل: يا رسول الله! إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي خرجت حاجّة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فحج مع امرأتك)، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يترك الغزو ويحج مع امرأته، وهذا قد يكون في غير حجة الوداع. المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر هذا الرجل أن يترك الغزو وأن يصحب امرأته في سفرها للحج.

وجه تكفير الذنوب بالمصائب دون استشعار واحتساب

وجه تكفير الذنوب بالمصائب دون استشعار واحتساب Q إذا أصيب الإنسان ببعض المصائب، لكنه لم يحتسب ولم يستشعر أنها تكفر الذنوب غفلة منه ونسياناً، فهل يكفر الله تعالى به الذنوب؟ A المصائب كفارات، لكن إذا احتسب كان له أجر آخر، ولابد أن يصبر ولا يجزع، فإذا صبر كفر الله بالمصيبة خطاياه، والصبر معناه: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عما يغضب الله، أي: حبس الجوارح عن لطم الخد، أو شق الثوب، أو نتف الشعر، واللسان لا يتشكى ويقول: لماذا حصل علي كذا؟ أما الرضا والتسليم بالمصيبة فهو مستحب.

حكم سترة المصلي وصفتها

حكم سترة المصلي وصفتها Q أراد شخص أن يمر بين يدي المصلي فوضع كتاباً كان في يده أمام ذلك المصلي، ثم مر ثم رفع الكتاب، فهل فعله صحيح؟ A السترة أن تكون شيئاً قائماً يقارب ثلثي ذراع؛ مثل مؤخرة الرحل، يعني: العمود الذي خلف الراكب في البعير، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يقطع صلاة المرء إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل: المرأة والحمار والكلب) رواه مسلم في صحيحه. فالسترة لابد أن تكون شيئاً قائماً، ولا يكفي أن يضع كتاباً مبطوحاً على الأرض، إلا إذا نصب الكتاب وكان يقارب ثلثي الذراع فهذا سترة، أما أن يبسط كتاباً على الأرض أو طرف السجادة فلا يكون لك سترة، وإن كان قد جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً هلالياً) فهذا الحديث رواه الإمام أحمد، لكن هذا الحديث فيه كلام لأهل العلم، فمن العلماء من ضعفه وقال: إنه مضطرب، ومنهم من حسنه. ومعناه: يخط خطاً هلالياً إذا لم يجد شيئاً، أما طرف السجادة أو كتاب مبطوح على الأرض فهذا لا يعتبر سترة؛ لأنه لابد أن تكون السترة شيئاً قائماً، مثل العصا أو سارية.

حكم جعل العتق من العبادات التي يهدى ثوابها للميت

حكم جعل العتق من العبادات التي يهدى ثوابها للميت Q ألا يعني كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بإدخاله للعتق في العبادات التي يهدى ثوابها للميت، أنه ممن يقول بأن العبادات الأخرى تقاس على الأربع التي نص عليها؟ A قال هذا ابن القيم، والمسألة أشيعت بين أهل العلم، قال الجمهور: العتق من جملة الصدقة.

حكم أداء أكثر من عمرة في سفر واحد

حكم أداء أكثر من عمرة في سفر واحد Q بعض الناس يقوم في سفر واحد بأداء أكثر من عمرة، ويجعل الأولى له والثانية لأبيه مثلاً، فما حكم ذلك؟ A الأولى أن يكتفي الإنسان بعمرة واحدة إذا كان في مكة، وأن يستغل بقاءه في مكة بالتعبد في المسجد الحرام بالطواف، وبالصلاة، وبالقراءة، هذا هو الأولى؛ لأن الأصل أن العمرة إنما هي للداخل مكة، لا لمن كان في جوف مكة يخرج ويأتي بعمرة، قال بهذا الشيخ البسام وابن القيم وجماعة من المحققين، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم حج وحج معه عدد كبير، ولم يعتمر أحد منهم بعد الحج إلا عائشة؛ لأنها حاضت وقد دخلت في العمرة ثم أدخلت الحج على العمرة، ولم تطب نفسها، قالت: تذهب صويحباتي بحج وعمرة وأرجع بحج، وهي رجعت بحج وعمرة لكنها عمرة دخلت في حج، وهي تريد عمرة مستقلة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحرم من التنعيم وتعتمر. وقال جمهور العلماء: لا حرج على الإنسان إذا جلس في مكة مدة وأراد أن يخرج إلى التنعيم ويأتي بعمرة؛ لكن ما يفعله بعض الناس من أنه كل يوم يأتي بعمرة، ويجعل عمرة لأبيه وعمرة لأمه وعمرة لزوجته، نقول: هذا ليس من السنة، وليس بمشروع.

معنى دعاء الملك بقوله: (ولك بمثله)

معنى دعاء الملك بقوله: (ولك بمثله) Q هل ما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ولك بمثله) خاص بالدعاء، أم أنه يدخل فيه العمرة والحج والصدقة؟ A الذي نص عليه الدعاء، قال: (إذا دعا لأخيه في ظهر الغيب وكل الله به ملكاً فقال: آمين ولك بمثله) والصدقة والحج والعمرة له فيها أجر الإحسان، فإذا أحسن المرء إلى أخيه الميت وحج عنه أو اعتمر عنه أجر على ذلك، كما جاء في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لقي ركباً بالروحاء، فسألوه، وقالوا: من أنت؟ قال: رسول الله، فجاءت امرأة بصبي في المهد وقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر) رواه مسلم في صحيحه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الحج يكون للطفل، وهي لها أجر، فإذا تصدق عن الميت أو حج عنه، فالحج للميت والصدقة للميت، والحي له أجر الإحسان.

فضل الجهاد والمجاهدين

فضل الجهاد والمجاهدين Q لا يخفى عليكم عظم الجهاد وفضل المجاهدين وما يعانون من ضعف وقلة الناصر من القريب قبل البعيد، والطعن في نواياهم، فما توجيهكم في هذا الأمر، كما نرجو منكم التفضل بالدعاء لهم؟ A إن النصوص من كتاب الله وسنة رسوله دلت على فضل الجهاد والمجاهدين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:10 - 11]. وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]. فإذا كان الإنسان مجاهداً في سبيل الله لإعلاء كلمة الله فله هذا الفضل العظيم، والناس على نياتهم، ولهذا جاء في الحديث: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل رياءً، ويقاتل ليرى مكانه، فقال عليه الصلاة والسلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). نسال الله أن ينصر إخواننا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، ونسأله سبحانه أن ينصرهم وأن يؤيدهم، وأن يثبتهم ويربط على قلوبهم، ونسأله عز وجل أن يوحد صفوفهم، ويجمع كلمتهم ويرحم ضعفهم، ويجبر كسرهم. كما نسأل الله عز وجل بعظمته وجبروته أن يخذل أعداءهم الكفرة، وأن يخالف بين قلوبهم وكلمتهم، وأن يشتت شملهم ويمزقهم كل ممزق، وأن يجعلهم غنيمة للمسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ذكر أسماء كتب في العقيدة وغيرها للمبتدئين مع بيان ضرورة استغلال الوقت بالعلم

ذكر أسماء كتب في العقيدة وغيرها للمبتدئين مع بيان ضرورة استغلال الوقت بالعلم Q ما الكتب التي تنصحون بها للمبتدئين في علم العقيدة، وما نصيحتكم لنا بعد نهاية هذه الدورة المباركة؟ A كتب العقيدة للمبتدئين معروفة، يبدأ المبتدئ بالرسائل الصغيرة، مثل: رسائل الإمام المجدد محمد عبد الوهاب رحمة الله عليه مثل: القواعد الأربع، والأصول الثلاثة، وكشف الشبهات، ورسائل أبنائه وأحفاده وتلاميذه، ثم كتاب التوحيد، ثم العقيدة الواسطية، ثم الحموية، والطحاوية، والتدمرية. وكتب السنة المتعددة التي شرحت ككتاب السنة للإمام أحمد، وكتاب السنة لابنه عبد الله، وغيرها من الكتب. وكتب السنة كثيرة، ومنها ما شرح في دورات متعددة، فطالب العلم يتلقى شيئاً بعد شيء، ويسأل أهل العلم ويستفيد، نسأل الله للجميع الثبات على دينه والاستقامة عليه. وأنصح الإخوة بعد هذه الدورة بحفظ الوقت والاستفادة منه، والاستمرار في طلب العلم، وحفظ المتون، وحفظ القرآن أولاً وقبل كل شيء، والاستفادة من الأشرطة المفيدة المسجلة، ومن كتب أهل العلم. فينبغي لطالب العلم ألا يضيع الوقت، فيذهب سدى، بل يستفيد منه في حفظ القرآن في بقية أوقاته، والعناية بكتب العقيدة وكتب الفقه وكتب الحديث، مثل: الصحيحين وغيرهما والكتب الستة وغيرها من كتب السنة. ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح. ونسأل الله أن يثبتنا وإياكم على طاعته، ونسأل الله لنا ولكم الثبات على العلم النافع والعمل الصالح، ونسأل الله أن يثبتنا على دينه حتى الممات إنه ولي ذلك والقادر عليه.

§1/1